:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات ماهلر. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ماهلر. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، يوليو 25، 2012

كوكوشكا: صورة الفنّان

صورة الرسّام في أذهان الناس لا تخلو من رومانسية. فهو عبقريّ ومبدع وعاطفي وغريب الأطوار وغير مستقرّ نفسيّا ولا أحد يقدّره إلا بعد أن يموت.
النموذج العصري، والسائد هذه الأيّام، للفنّان هو ذلك التاجر الذكيّ الذي يدعم موهبته الفنّية بالعلاقات الشخصيّة وبالدعاية والبهرجة. ولا يحتاج الإنسان لأن يسمّي أشخاصا من هذه الفئة لأنهم كثيرون. لكنّ المثالين الأقرب إلى الذهن هما آندي وارهول وتوماس كينكيد.
النموذج الأوّل عن الفنّان يمكن أن نسمّيه متلازمة فان غوخ. وأفضل من يمثّل هذا النموذج الرسّام اوسكار كوكوشكا المولود في النمسا عام 1886م. كان كوكوشكا ذا شخصية مزاجية وعنيفة. وقد انجذب إلى مجموعة من فنّاني بدايات القرن العشرين الذين أصبحوا يُعرفون باسم التعبيريين النمساويين. وكان من بين هؤلاء ماكس بيكمان وأوتو ديكس، بالإضافة إلى النرويجي ادفارد مونك والروسي فاسيلي كاندينسكي. طبعا لم يكن كلّ هؤلاء من النوع الذهاني والمتقلّب. لكن في كلّ واحد منهم، كان هناك قدر من عدم الاستقرار العاطفيّ الذي طبع حياتهم وامتدّ ليشمل أعمالهم.
كان اوسكار كوكوشكا متأثّرا كثيرا بزميله ومواطنه غوستاف كليمت. وبورتريهاته ومناظره الطبيعية تُظهر حرّية في استخدام الألوان وحيوية في الأسلوب لم يكن يجرؤ عليهما سوى القليلين في زمانه.
شغل كوكوشكا وظيفة ثابتة لبعض الوقت عندما عمل مدرّسا في أكاديمية الفنون المشهورة في دريسدن بعد الحرب العالمية الأولى. وكانت تلك إحدى الفترات المستقرّة القليلة في حياته بعد أن شُفي من علاقة حبّ غريبة ربطته مع آلما شيندلر أرملة المؤلّف الموسيقيّ الألمانيّ غوستاف ماهلر.
ولوحته بعنوان عروس الريح هي شهادة رومانسية من الدوّامات والعواصف على مدى انغماس الرسّام في حبّ تلك المرأة. غير أن شيندلر المشهورة بجمالها الفتّاك هجرته بعد أن عاشت معه ثلاث سنوات وفضّلت عليه رجلا آخر. وكان ردّ فعله أن كلّف صانع دمى في ميونيخ بتفصيل دمية لها بالحجم الطبيعي. كانت الدمية تشبه المرأة تماما، وكانت تتضمّن أدقّ تفاصيلها الحميمة. وأصبح كوكوشكا يحمل الدمية معه أينما ذهب كدليل على المعاناة التي كان يتحمّلها نتيجة حبّه لها وإعراضها عنه.
تقول آلما ماهلر في يوميّاتها واصفة علاقتها الغريبة بـ كوكوشكا: المشاعر التي كانت تنتاب اوسكار كانت من النوع الذي لا يمكن التنبّؤ به. كان يحبّ بشغف وبلا شروط، مثل وثنيّ يصلّي لنجمة بعيدة. كانت علاقتنا معركة حبّ. ولم أذق أبدا قبل ذلك كلّ هذا القدر من الجنّة ومن الجحيم". وقد عانت المرأة كثيرا من غيرته المفرطة، ولم يكن يتحمّل أصدقاءها ومعارفها. بل كان يغار حتى من زوجها الميّت. "موسيقاه تهدّ كياني وتمزّق جسدي وروحي"!
عندما علمت آلما بأنها أصبحت حاملا من كوكوشكا، قرّرت على الفور إسقاط الجنين. وفي المستشفى، قام بأخذ قطعة من ملابسها المبلّلة بالدم وعاد بها معه إلى البيت. كان يقول: هذا هو طفلي الوحيد، وسيظلّ كذلك". وكان من عادته أن يحمل معه تلك القطعة من لباسها أينما ذهب. ولم يتغلّب أبدا على ألمه من فقدان طفلهما المشترك، بل وجعله موضوعا للعديد من لوحاته.
وفي ما بعد، فعل كلّ ما في وسعه لإقناعها بالزواج منه. لكنها كانت تبتعد عنه أكثر فأكثر. وفي عيد ميلادها السبعين، بعث إليها برسالة يصفها فيها بالمخلوق المتوحّش. ثمّ بلغها الخبر بأن إصابة خطيرة لحقت به أثناء قتاله على الجبهة الروسية. فذهبت إلى بيته وأخذت الرسائل التي كانت قد كتبتها إليه وكذلك بعض رسوماته لها. وطلب منها احد أصدقائهما المشتركين أن تزوره على فراش المرض. غير أنها كانت قد وضعته وراء ظهرها ونسيته تماما.
لكن قُدّر لـ اوسكار كوكوشكا أن يُشفى من إصابته. وقد هاجر بعد ذلك إلى باريس ثم لندن فـ نيويورك، وأخيرا استقرّ في سويسرا بعد الحرب العالمية الثانية. أما الدمية التي كان قد صنعها لـ آلما فقد ظلّ يحتفظ بها سنوات طويلة إلى أن قام بإتلافها أثناء نوبة غضب ليلية.
قضى اوسكار كوكوشكا آخر سنواته في سويسرا. كان يشعر بالكثير من الحزن والمرارة لأنه وجد نفسه غريبا ومنسيّا مثل هامش صغير في كتاب تاريخ الفنّ. وقد أسهمت فردانيّته في أن أصبح معزولا عن حركات الحداثة في القرن العشرين. والغريب أن سيرة حياته خلت من احد العناصر المألوفة في متلازمة فان غوخ. فقد عاش حياة طويلة نسبيّا. وتوفّي في مونترو في فبراير من عام 1980 عن 94 عاما.

السبت، يوليو 16، 2011

مثالية وليام بوغرو


تنظر إلى لوحات هذا الرسّام فيدهشك أن لا ترى فيها غير صورٍ لحوريّات وعذراوات يتنزّهن في مناظر بهيّة ومشذّبة، وأمّهات يداعبن أطفالهنّ بحنوّ ومحبّة، وأطفال يشبهون الملائكة يحتضن بعضهم بعضها ببراءة وألفة.
تلك هي نظرة وليام بوغرو السامية للجنس البشري. وهي نظرة مشحونة بالجمال والطلاوة والمثالية والخيال، إلى الحدّ الذي يجعلنا نتوق إلى رؤية الواقع وملامسة الأرض مرّة أخرى. كان بوغرو ينظر إلى الفنّ على انه ضرب من الجمال المثالي. وكان يبدي انزعاجه من كلّ محاولات التجريب والخروج عن المألوف. وبذا حبس الرسّام نفسه في قفص ذهبي عندما اعتقد أن الرسم يجب أن يكون عن الجمال والفرح في مقابل الواقع.
وبحلول نهاية الحرب العالمية الأولى، كانت لوحاته، مع لوحات معاصريه الأكاديميين مثل جان ليون جيروم ولورانس الما تاديما والكسندر كابانيل، قد انصرفت عنها أذواق الناس واهتمام النقّاد واستقرّ بها المقام أخيرا في أقبية المتاحف.
لكن الجنود القدامى لا يموتون إلى الأبد. فمؤخّرا، ومع تجدّد الاهتمام بالأعمال الفنّية الكلاسيكية، انتعشت واقعية بوغرو ورفاقه الاكاديميين من جديد.



من الصعب تصوّر الشعبية الكبيرة التي كان يتمتّع بها بوغرو في فرنسا القرن التاسع عشر وفي الولايات المتحدة. كانت لوحاته التاريخية والأسطورية والدينية تحصد ارفع الجوائز والأوسمة وتُباع بأعلى الأسعار أثناء حياته.
ومع ذلك، كانت أعمال بوغرو موضع تندّر وسخرية من قبل الرسّامين الطليعيين في ذلك الوقت مثل ديغا وأصدقائه. فقد كان هؤلاء يشيرون إلى اسمه محرّفا في محاولة للحطّ من قيمة اللوحات ذات الأسطح الناعمة والمصقولة بشكل مفرط. وفان جوخ كان يصفه بأنه "صانع جيّد يتقاضى أجرا عاليا مقابل أشياء جميلة وناعمة".
ولم يكن مستغربا أن بوغرو كان يستخفّ بقدرة الرسّام الشاب هنري ماتيس. كان الأخير احد تلاميذه. وقد طرده في النهاية من مرسمه.
ولأنه كان محكّما في الصالون السنوي الذي كانت ترعاه الأكاديمية القويّة، فقد لعب بوغرو دورا مهمّا في رفض أعمال الانطباعيين المبتكرة.
''على المرء أن يسعى وراء الجمال والحقيقة". هكذا قال بوغرو في مقابلة معه عام 1895م. وأضاف: 'لا يوجد سوى نوع واحد من الرسم. انه الرسم الذي يقدّم الكمال للعين. وهذا ما كان يفعله فيرونيزي وتيشيان".
كان آخر عمل "جادّ" لـ بوغرو في سلسلة أعماله الكلاسيكية المستوحاة من العصور القديمة هو لوحته الميناديات يطاردن اوريستيس. واللوحة تصوّر اوريستيس وهو يخفي عورته بقطعة قماش بينما تطارده ثلاث ميناديات يحملن معهنّ جثمان أمّه القتيلة. كان بوغرو يحاول من خلال هذه اللوحة استكشاف الألوان بعمق اكبر. لكن اللوحة لم ترق لزبائنه الرئيسيين. فطلبوا منه العودة إلى رسم المواضيع التي تثير السرور والبهجة، ما يجعلها أكثر قابلية للبيع.
في ما بعد رسم لوحته الضخمة إغراء. وهي منظر في الهواء الطلق تظهر فيه امرأة تجلس على الأعشاب تحت ظلّ شجرة وتمسك بتفّاحة، بينما تنظر بحبّ إلى ملاك بريء يجلس إلى جوارها. هذه اللوحة بألوانها المتناغمة وبساطة موضوعها يمكن اعتبارها تعبيرا حقيقيا عن الحبّ والمشاعر الصادقة والعفوية.
وبنفس هذا الأسلوب الفخم، رسم بوغرو عددا من اللوحات الدينية لصالح الكنيسة. بعض تلك الأعمال ربّما كانت تصوّر ردّ فعله على المحن الشخصية التي واجهها، ومن بينها وفاة زوجته واثنين من أبنائه في العام 1877. هذه المأساة المزدوجة ألهمته أيضا لوحة أخرى اسمها روح تُحمل إلى السماء رسمها عام 1878م. وفيها نرى جثمان فتاة صغيرة يحمله ملاكان عبر غيوم كثيفة ونحو مكان مرتفع. بالنسبة للعقل الحديث، قد يبدو الأمر مثيرا للسخرية وأنت ترى جسد إنسان مجنّح وهو يطير بتثاقل في الجوّ. لكن مثل هذه الرحلات كانت مقبولة وممكنة في زمن بوغرو.
استمرّ الفنّان في رسم المواضيع الأسطورية ولكنْ في سياق مختلف تماما عن جهوده الطموحة في أيّامه المبكّرة. في مشهد آخر بعنوان اختطاف سايكي، يضيف الرسّام تلميحا دقيقا عن الرغبات الجسدية. فهو يصوّر ايروس في مظهر من النبل والجمال وعيناه مغلقتان بنشوة، بينما ينقل سايكي النصف عارية عبر الهواء إلى طبيعة جبلية.
منذ سنوات سُئل احد النقّاد عن السبب في أن بوغرو أصبح اليوم رسّاما بلا طعم ولا نكهة من منظور الفنّ الحديث. فأشار إلى دور الفنّان السلبي في إعاقة أعمال الحركات والأساليب الجديدة في الصالون. لكنّه يعزو سمعة بوغرو الفاترة اليوم إلى سببين رئيسيين، الأوّل له علاقة بالجمهور والآخر يعود إلى الرسّام نفسه.
كان بوغرو حِرَفيا بمعنى الكلمة. وهذه الحِرَفية هي التي أعمت بعض الجمهور عن تفكيك الجمال المطلق في مناظره لاستكشاف قوّة العاطفة. فتلك الأيدي الطاهرة والأقدام النظيفة في لوحاته، ولون البشرة الرقيقة، بالإضافة إلى التفاصيل الدقيقة الأخرى تجعل العين غير راغبة في التحديق أكثر والتحقّق ممّا تراه.
كان لدى بوغرو الكثير مما يقدّمه لمتعة العين: الأوردة البارزة من الأيدي والأذرع، والألوان الزهرية الدافئة على ملامح الوجوه، والوضوح التامّ لتفاصيل الجسد من خلال إتقان نسب الضوء والظلال.
الناظر إلى بعض لوحاته، لا بدّ وأن يحسّ بالسُكر فورا وهو يلمس كلّ هذا القدر من الكفاءة والفاعلية. لكنه لن يكلّف نفسه عناء النظر إلى ما هو ابعد.
بدأت شهرة بوغرو في التلاشي قبيل وفاته بوقت قصير، أي عندما كان إدوارد مونك يرسم لوحته "رقصة الحياة"، وعندما انتهى غوستاف ماهلر للتوّ من تأليف سيمفونيّته السادسة بطريقة مأساوية.
في ذلك الوقت بالتحديد، أصبحت الأفكار المثالية ضربا من السذاجة. وكانت الأكاديمية الفرنسية تُعتبر "مؤسّسة قديمة" بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية. وفي فترة ما بعد الحرب، صارت درجة إتقان تنفيذ العمل الفنّي اقلّ أهمية من المفاهيم التي يعكسها.



شاعرية بوغرو وتناغم مناظره يشبهان ظاهريا ذلك الإحساس الذي ينتابك وأنت تستمع إلى موسيقى موزارت: فوران مفاجئ وشعور غامر بالسعادة والاسترخاء، ثم ينتهي كلّ شيء.
غير أن أكثر الذين يستمتعون بـ موزارت نادرا ما يدرسونه. النسيج المصقول يبدو فهمه سهلا. لكن الأمر يتطلّب الكثير من الطاقة والوقت لاستيعاب المعاني العميقة الكامنة تحت طبقات الإيقاعات والأنغام.
تضاؤل شعبية الموسيقى الكلاسيكية مع صعود موسيقى البوب والروك أدّى إلى عزلة ونفور غالبية الجمهور، بنفس الطريقة التي فعلتها الدعاية للفنّ الحديث على حساب مدارس وأساليب الروّاد الأوائل.
كان بوغرو يركّز على إبراز مظاهر الجمال والسعادة والنقاء في لوحاته. لكن هذا أدّى في النهاية إلى أن أصبح أسلوبه وموضوعاته رتيبة ومكرّرة ومملّة.
كان دائما يقول أن لا شيء أكثر صعوبة من رسم الأطفال. وهم يظهرون في لوحاته وهم يتعانقون ويقبّلون بعضهم وينامون في براءة غير ملوّثة وفي مرح لانهائي.
ولأكثر من خمسة عقود، لم يتطوّر أسلوبه الفنّي، ولم تتغيّر موضوعاته التي بدا أنها أصبحت بالنسبة له متعة وضرورة.
صحيح أن أساليب العصور القديمة أو الكلاسيكية لم تسقط من تاريخ الفنّ تماما. لكن حساسيّتها ودقّتها وصلتها بروح العصر قد تكون اضمحلّت فعلا. كان بوغرو يقول إن على المرء أن يسعى وراء الجمال والحقيقة. ولكن عندما تتعارض الحقيقة مع الجمال في فنّه، فإنه كان يفضّل دائما اختيار الأخير.
في خمسينات وستّينات القرن قبل الماضي، حاول الرسّام استكشاف الظلام والعنف في المواضيع الأسطورية والدينية عندما رسم لوحته دانتي وفرجيل في الجحيم. لكنّه سرعان ما تخلّى عن هذه الجهود وعاد إلى لوحاته ذات المواضيع الأنيقة والألوان الشاحبة.
شخوص بوغرو دائما رائعون ومهذّبون ومتأنّقون وخالون من النقائص والعيوب، كما هو الحال في أركاديا. وأضواؤه الساطعة والليّنة تذوب في البشرة الناعمة، ما يؤدّي إلى فقدان أيّ توتّر محتمل.
خلال حياته الطويلة، رسم بوغرو أكثر من سبعمائة لوحة. وكان هو الرسّام المفضّل لدى جامعي الأعمال الفنّية الذين كانوا يجدون في مناظره ملاذا ومهربا من ضغوط ومشاكل الحياة اليومية.
في عام 1895، اشترى هنري فريك لوحة بوغرو المسمّاة فتاة شقيّة مقابل خمسة آلاف دولار. كان وجه الفتاة في اللوحة يذكّر الرجل بملامح ابنته المتوفّاة. وقد احتفظ باللوحة طوال حياته. ولا بدّ وأنه كان يرى فيها شيئا أعمق بكثير من الوجه الملائكي الذي تصوّره. كان الأمر اكبر من مجرّد عاطفة جيّاشة يكنّها أب حنون لذكرى ابنته الراحلة. وبعض الناس يحرّك مشاعرهم رؤية مثل هذه اللوحات لأطفال، بصرف النظر عن الأحلام والخيال أو الواقع.
أفول نجم بوغرو وغيره من أتباع الفنّ الكلاسيكي والأكاديمي ظاهرة لافتة. وهي كانت وما تزال مبعث حيرة بالنسبة للكثيرين. وقد راج في بعض الأوساط حديث عن "مؤامرة ما" قيل إنها حيكت على امتداد المائة عام الماضية واستهدفت تشويه وتحطيم رموز الفنّ الأكاديمي والكلاسيكي الذي كان سائدا حتى نهايات القرن التاسع عشر. وحسب هذه المؤامرة المتخيّلة، فقد أسهمت في هذا الجهد الصحافة والقوى المتحكّمة بالفنّ والثقافة التي أصبحت تفرض قبضتها الحديدية على المؤسّسة الفنّية العالمية. وكان هناك تنسيق محكم وناجح لإزاحة كل ما له صلة بالطرق والأساليب اللازمة لتدريب فنّانين مهرة وبارعين. ونتيجة لذلك، ألقي بتراث خمسة قرون من المعلومات الفنّية والنقدية في سلّة المهملات. كما يستغرب القائلون بنظرية المؤامرة كيف أن مدرسة الحداثة التي تدعمها شبكات مصالح واسعة ومعقّدة أصبحت تسيطر اليوم بشكل كامل ومطلق على آلاف المتاحف والجامعات والمؤسّسات الفنّية حول العالم وعلى حركة النقد في الصحافة ووسائل الإعلام المختلفة.
بنظر منتقديه، كان وليام بوغرو مجرّد رسّام فيكتوري كان يرسم الفتيات الصغيرات اللاتي تزيّن شعورهنّ الأزهار وتكتسي ملامحهنّ بالطيبة والبراءة. لكن هذا لا ينفي حقيقة انه كان رسّاما خاصّا ومتميّزا. أسلوبه الفنّي كان انعكاسا لأذواق الناس في زمانه. وهو كان يرسم بتلك الطريقة لأنه كان يريد أن يعيش ويكسب رزقه.
صحيح أن أعماله، وبقدر ما، لم تعد تجاري الذوق السائد الآن. لكن بعض اشدّ منتقديه يشهدون له بأنه كان أفضل من أيّ فنّان جاء قبله من حيث معرفته بأسرار الألوان وطرق مزجها وتوظيفها في الرسم.

Credits
bouguereau.org
artrenewal.org

السبت، ديسمبر 05، 2009

ربّات الإلهام

لمئات السنين، كان وجود الملهمات ضروريا لخلق الفنّ والإبداع.
وجه هيلين أميرة طروادة أطلق ألف سفينة حربية وأشعل حربا دامت عشر سنوات.
ساسكيا فان اويلينبيرغ ألهمت رمبراندت رسم الكثير من تحفه الخالدة.
هوميروس استدعى ملهمة وهو يخطّ أولى كلمات الإلياذة.
اليوم تغيّر الحال كثيرا. توقّف الشعراء والرسّامون والموسيقيون عن استدعاء الملهمات وأصبحوا يكتفون بالخمر والكافيين والابسنث.
الموضوع التالي يتناول تاريخ ودور الملهمات والتغيّرات التي طرأت على هذه الظاهرة عبر العصور المختلفة..

في الأزمنة القديمة كانت الملهمات آلهة. كنّ بنات كبير الإلهة زيوس وزوجته منيموزين.
في البداية، كانت هناك ثلاث ملهمات فقط. الشاعر اليوناني هيسيود زاد عددهنّ إلى تسع.
كان الرومان البيروقراطيون هم الذين حدّدوا وظيفة وتخصّصا معيّنا لكلّ منهن. واحدة للرقص وأخرى للشعر وثالثة للكوميديا .. وهكذا.
في اليونان القديمة كانت الملهمات يقصدن كلّ شاعر واعد ويمنحنه ثلاث هدايا: غصن غار وصولجانا وصوتا جميلا يغنّي به قصائده.
غير أنهنّ كنّ قاسيات مع من يتحدّاهن. في إحدى المرّات طلب شاعر منافستهنّ فأصبنه بالعمى والبكم. وتقول أسطورة أخرى إن السيرانات، وهي مخلوقات خرافية تأخذ الواحدة منها شكل رأس امرأة وجسم طائر، حاولن أن يتنافسن مع الملهمات فهزمنهن. ونتيجة لذلك فقدن أجنحتهنّ وسقطن في البحر.
ملهمة بيكاسو، ماري تيريز والتر، كانت وراء فكرة لوحته الحلم وغيرها من اللوحات.
اوفيد في بداية كتاب "التحوّلات" استدعى جميع الملهمات التسع ثم هتف بأعلى صوته: ألهميني أيتها الآلهة"!
آريادني كانت ملهمة ودليلة في نفس الوقت عندما أعطت ثيسيوس الخيط الذهبي الذي يقود إلى داخل المتاهة حيث يفترض أن يقتل الوحش الأسطوري ثم يتبع اثر الخيط في رحلة عودته إلى النور.

دانتي في "الكوميديا الإلهية" تفوّق على الجميع ولم يكتف بالملهمات التسع بل استعان أيضا بـ مينيرفا إلهة الشعر والموسيقى ورئيسة الملهمات جميعا. لكن، في نهاية كتابه الضخم ضعُف حضور الملهمات بفعل أصوات موسيقى المجالات السماوية. الملهمات الوثنيات استُبدلن بالثالوث المقدّس. وهذا بدوره حرّر الإلهام الفنّي وسهّل البحث عن مصادر أكثر ارتباطا بالأرض.
مصدر الإلهام عند دانتي كان شخصا حقيقيا؛ فتاة اسمها بياتريس (أو بياتريتشا بالإيطالية) بورتيناري زعم الشاعر انه رآها لأوّل مرّة في شارع بـ فلورنسا عندما كان عمر الاثنين تسع سنوات. وقد وقع في حبّها، لكنها توفّيت في بداية العشرينات من عمرها. وألّف بعدها أشعارا تمجّد ذكراها. ثم أصبحت المرأة شخصية رئيسية في الكوميديا الإلهية. بياتريس كانت ترمز للحبّ الأرضي وللحقيقة السماوية. أي أن شهوة الشاعر تسامت وتحوّلت إلى شوق روحي.
معاصر دانتي وخليفته المباشر "بترارك" كتب 300 قصيدة إلى امرأة تسمّى لورا. لكنه تجاوز دانتي في مثاليّته عندما جعل ملهمته بعيدة المنال لسببين: الأوّل أنها كانت متزوّجة عندما قابلها. والثاني أنها توفّيت بعد ذلك بأحد عشر عاما. وبذا حرّر الشاعر نفسه من أعباء رغباته الجسدية.
الموت، مثل الأسطورة، يحمي الفنّان من المشاكل ومن هوسه بملهمته.

لكنّ هذا بدأ يتغيّر في عصر النهضة عندما ابتكر الرسّامون عادة تقديس الملهمة. وبينما كانت ملهمات القرن الرابع عشر يأخذن الطبيعة المقدّسة للمادونات اللاتي لا يمكن لمسهن، فإن ملهمات الرسّامين الايطاليين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر كنّ مخلوقات أرضية في الغالب، أي نساءً حقيقيات كنّ يجلسن أمام الرسّامين الذين كانوا بدورهم يصوّرونهنّ كنموذج للأنثى البعيدة المنال.
الموديل التي استخدمها رافائيل في رسم اثنتين من أشهر لوحاته كانت ابنة خبّاز تدعى مارغاريتا وكانت على الأرجح عشيقة للرسّام.
والرسّام فرا ليبي دخل في علاقة اشدّ خطورة مع ملهمة. فقد أغوى راهبة شابّة اسمها لوكريتسيا وذهب ليعيش معها واستخدمها كموديل في العديد من بورتريهاته الدينية.
ثم أتى اندريا ديل سارتو الذي عايش أوّل تجربة سيّئة مع ملهمة في تاريخ الفنّ الغربي. كانت ملهمة سارتو، وزوجته في نفس الوقت، تجسّد الصورة المثالية في عقله. لذا رسم كلّ بورتريهاته الأنثوية على هيئتها. ومع ذلك فقد ضاق ذرعا بمطالبها الكثيرة وغيرتها القاتلة ومغامراتها العاطفية مع تلاميذه. لكنّ كمالها الجسدي هو الذي جعله يسامحها ويغفر لها كلّ شيء.

إحدى الملهمات التسع في الميثولوجيا اليونانية كان تخصّصها الشعر الملحمي. وقد ألهمت هوميروس كتابة ملحمتيه الاوديسا والإلياذة.
ايلينا ايفانوفنا كانت ملهمة الشاعر الفرنسي بول ايلوار. وهي نفسها "غالا" التي أصبحت في ما بعد ملهمة سلفادور دالي وزوجته. كان دالي مجنونا بحبّ تلك المرأة التي عذّبته بغزواتها العاطفية الفاضحة بعد ما قيل عن ميوله الماسوشية ونفوره من الجنس.
البعض يرى أن الملهمة ما هي إلا امتداد أنثوي للفنّان الذكر. وهناك من يقول إنها ليست سوى استمرار لوظيفة محظيّة البلاط وأحيانا عشيقة الملك، وما يرتبط بذلك من مظاهر اللهو والإغراء والإثارة والغموض وكلّ تلك الأشياء اللذيذة والممنوعة.
وفي كلّ هذه الحالات، لا يمكن وصف الملهمة بالعاهرة. كما أنها لم تكن زوجة بالمعنى التقليدي للكلمة.

آلما شيندلر كانت ملهمة الموسيقي الألماني غوستاف ماهلر وزوجته في ما بعد. كانت آلما مؤلّفة موسيقية هي الأخرى. وقد طلب منها ماهلر في بداية زواجهما أن تنحّي طموحاتها الموسيقية جانبا لأن بيت الزوجية لا يتّسع لأكثر من مبدع واحد. لكن المرأة لم تلبث أن دخلت في علاقات عاطفية مع عدد من الرسّامين، أشهرهم غوستاف كليمت. وكان ماهلر قد أهداها قبل ذلك إحدى سيمفونياته. وعندما هجرته صنع لها دمية على هيئتها ومقاسها وكان يأخذ دميتها معه أينما ذهب.
قصّة حياة آلما شيندلر وعلاقتها الغريبة بـ ماهلر كانت موضوعا للعديد من الأفلام السينمائية والكتب، أشهرها كتاب "عروس الريح" للكاتبة سوزان كيغان.
ملهمات عصر النهضة كنّ خاضعات لرسّاميهنّ وملتزمات بتلبية احتياجاتهم الجمالية والجنسية، بينما كان الفنانون أحرارا في تسلية أنفسهم في كلّ مكان ومع أيّ كان.
أكثر ملهمات العصر الحديث هنّ نساء قويّات، وغالبا مبدعات. جورجيا اوكيف، مثلا، لم تكن فقط مصدر الهام للمصوّر الفريد ستيغليتز، وإنما أثّرت أيضا في اتجاهه الفنّي بعد أن تعلّق بها وتزوّجها.
سوزان فاريل، الراقصة المشهورة وملهمة الفنّان جورج بالانشاين، سمحت له بأن يقع في حبّها بينما رفضت إغراءاته المتكرّرة بأن تمنحه نفسها. لكنها تزوّجت شخصا آخر في نفس اليوم الذي حصل فيه على ورقة الطلاق من زوجته.

بيكاسو قابل ماري تيريز والتر عام 1927 في احد شوارع باريس عندما كان عمرها سبعة عشر عاما. وفي الحال اتّخذ منها عشيقة. وأحيانا كان يأمر سائقه بالانتظار خارج مدرستها الخاصّة ليأخذها إلى محترفه حيث كان يستعين بها كموديل للعديد من لوحاته. وعندما حملت منه بطفلة رفض أن يتزوّجها.
غير أن ثيودورا ماركوفيتش "أو دورا مار" كانت حبّ بيكاسو العظيم. كانت صديقته وملهمته الخالدة التي أوحت له برسم أجمل وأشهر لوحاته.
والواقع أن الإنسان لا بدّ وأن يتساءل كيف وجد بيكاسو وقتا كافيا للرسم في ظلّ وجود هذا العدد الضخم من الملهمات والعشيقات من حوله.
ماري والتر لم تكن تفهم في الرسم كثيرا كما لم يكن بينها وبين بيكاسو نقاط اتفاق كثيرة. لكنها كانت مستعدّة لتلبية جميع طلباته. كانت تعرف شغفه الكبير بالجنس. وهو كان يعتبر نفسه رجلا فحلا وهي الأنثى الراغبة. لكن في اللحظة التي حملت فيها بطفلته الأولى فقدت جاذبيتها عنده كأداة جنسية.
إحدى ملهماته الأخريات كانت الرسّامة فرانسواز جيلو. تزوّجها بعد قصّة حبّ وأنجبت له ابنه كلود وابنته بالوما. لكنها تخلّت عنه بعد سوء معاملته لها. وبفضل علاقاته المهنية الكثيرة، تمكّن من حرمانها من عرض لوحاتها في جميع معارض باريس. بيكاسو كان مدمّرا كبيرا، ليس فقط لمفاهيم وأسس الرسم التقليدي، وإنما لزوجاته وملهماته أيضا. ومن بين نسائه الكثيرات، شنقت ماري تيريز والتر نفسها بعد موته. وعانت دورا مار من انهيار عصبي كامل وتجربة رهيبة مع العلاج. بينما قتلت جاكلين روك نفسها برصاصة في الرأس.

اليزابيث سيدال كانت ملهمة وعشيقة للرسّام الانجليزي دانتي غابرييل روزيتي وظهرت في الكثير من لوحاته. كما استخدمها جون ميليه كموديل في لوحته المشهورة اوفيليا. وقد ماتت سيدال قبل الأوان. ويقال إن جزءا من مأساتها يتمثّل في أنها، هي أيضا، كانت تتوق لأن تصبح فنّانة.
بعد وفاة اليزابيث سيدال اتخذ روزيتي لنفسه ملهمة ورفيقة جديدة هي أليكسا ويلدينغ التي ستظهر في ما بعد في العديد من بورتريهاته ذات المزاج المتأمّل والمسحة الشاعرية.

لكن إذا كانت الملهمة تستطيع أن تنفخ نفحة من الهواء الإلهي في خيال الفنان، فإنها يمكن أيضا أن توقد في نفسه وروحه شعلة الاهتمام والعمل الجادّ.
الشاعر الانجليزي وليام بتلر ييتس ربطته بالثائرة الايرلندية مود غون علاقة الهام خالطها قدر كبير من التعاسة والخراب. كانت غون امرأة ذات جمال أخّاذ يميّزه شعر أحمر وملامح وجه دقيقة. وقد قابل ييتس المرأة عندما كان في الرابعة والعشرين من عمره. وعندما تعرّف عليها بدأت المشاكل تعرف طريقها إلى حياته.
رفضت غون جميع عروض الشاعر بالزواج منها على أساس انه لم يكن ثوريا حقيقيا ولا كاثوليكيا مخلصا. وبعد عشرين عاما، انتهى دورها كملهمة في اللحظة التي نامت في سريره لأوّل مرّة. وقد كتب ييتس بمرارة عن تلك العلاقة ووصف تأثيرها الفوضوي والمدمّر على حياته بعد أن مرّ وقت ليس بالقصير على لقاء الحبّ اليتيم بينهما.
الكاتبة الايرلندية الليدي كارولين بلاكوود تزوّجت على التوالي من رسّام وملحّن موسيقي وشاعر قبل أن تموت في سنّ السبعين. كانت بلاكوود نموذجا للأنثى القاتلة بجمالها النادر وعينيها الخضراوين الكبيرتين. لحظات صمتها الغامض كانت تثير الرجال وتدفعهم إلى ملء الفراغات التي كان يتركها هدوؤها الأنيق والمحيّر. اندرو هارفي الشاعر الذي تزوّجها في ما بعد وصفها بقوله: كانت تخلق أشياءها الخاصّة. كانت ملهمة ومحرّضة على الإبداع وكان قدرها أن تلعب ذلك الدور ببراعة".
سيرة حياة كارولين بلاكوود كانت موضوعا لكتاب الّفته نانسي شوبيرغر بعنوان "الملهمة الخطيرة".
يقول كارل يونغ العالم النفسي المشهور: الملهمة تمثّل توق الإنسان الذكر للخلود. وهي تتخفّى تحت الأسماء الكثيرة التي نعطيها للأفكار والدوافع الإبداعية.
فرجيل، من جهته، يرى أن الملهمات هنّ رمز للحقيقة واليقين. وهذا يوفّر للفنّان فرصة لأن يعرف نفسه أكثر ويوسّع وعيه وإدراكه.

الشاعر الفارسي عمر الخيّام كان معروفا بميله لحياة التأمّل والعزلة. ولم يكن يشغله سوى شيئين: ديوان شعره المسمّى بالرباعيّات وحبّه لـ جَهَان ملهمته وزوجته. في آخر الرباعيّات يخصّص الشاعر أبياتا حزينة يرثي فيها جَهَان التي تذكر بعض الروايات أنها ماتت مقتولة. ويقال إنها كانت هي الأخرى شاعرة.
الخيّام كان شاعرا عظيما، ولا بدّ وأن من ألهمته كتابة تلك القصائد الجميلة والخالدة كانت، هي أيضا، امرأة عظيمة.
لويز فون سالومي كانت امرأة روسية مثقّفة وكانت لها اهتماماتها بالأدب والفلسفة والتاريخ وعلم النفس. وقد اشتهرت بعلاقتها الحميمة مع الشاعر الألماني رينر فون ريلكا.
كانت صديقته وملهمته على الرغم من أنها كانت تكبره بخمس عشرة سنة. وقد علّمته اللغة الروسية كي يقرأ بها تولستوي ثم اصطحبته في ما بعد لزيارة روسيا.
وبحكم اهتماماتها الفكرية المتعدّدة، كانت ترتبط بعلاقات صداقة مع كلّ من نيتشه وفرويد والموسيقي ريتشارد فاغنر.

عالم الملهمات تقلّص اليوم كثيرا. ربّما لا يزال للعديد من الفنّانين ملهمات. لكن ذلك النوع من العلاقة الأسطورية لم يعد موجودا. قد يكون السبب شيوع الثقافة الفردية التي لا يقبل فيها احد بأن يكون زاداً أو صدى لمخيّلة إنسان آخر. وقد يكون لذلك علاقة برفض الحركات النسوية لأن تكون المرأة مجرّد سلعة أو متاع. ويمكن أن يكون هذا هو السبب في أن الملهمات العصريات اليوم يوجدن فقط كحضور عام.
دور الملهمة ربّما تلعبه اليوم، مع الفارق، المغنّيات والممثّلات وحتى عارضات الأزياء والمذيعات المشهورات اللاتي يظهرن على جماهير الناس ويستقطبن اهتمامهم وإعجابهم أحيانا. خذ، مثلا، انجيلينا جولي، نيكول كيدمان، بيونسي، اوبرا وينفري، جينيفر انيستون، باريس هيلتون، ايشواريا راي، بريتني سبيرز، جينيفر لوبيز .. إلى آخر القائمة.
ربّما يناسب هذا مزاج عصرنا الجديد الذي تتواضع فيه الأحلام وتتضاءل الطموحات.


Credits
theguardian.com
wsj.com

الأربعاء، سبتمبر 24، 2008

باخ: موسيقى للإنسان 2 من 2

عندما سافر مكوك فويجر إلى الفضاء في العام 1977 وضع العلماء على متنه صندوقا يحتوي على مجموعة من الأصوات والصور المختارة التي تمثل ما يمكن اعتباره سجلا عن أفضل ما أبدعته حضارة سكّان الأرض.
وكان في ذهن أولئك العلماء احتمال أن تعثر على الصندوق كائنات من الكواكب البعيدة فتتعرّف على حضارة كوكبنا وتطلع على أفضل ما توصّل إليه أهل الأرض من معارف وإبداعات وابتكارات.
وكانت أوّل قطعة صوتية تم اختيارها هي الحركة الثانية من براندنبيرغ كونشيرتوز، أحد أشهر مؤلفات باخ والتي استخدمت في ما بعد في العديد من الأعمال السينمائية والتلفزيونية أشهرها سلسلة X-Files أو الملفات السرّية.
وفي عام 1950 أنجز عازف البيانو غلين غولد تسجيله المشهور لـ تنويعات غولدبيرغ Goldberg Variations فتضاعف نجاحه واشتهر أكثر. ولم يكن الناس وقتها مندهشين من براعة العازف الكندي الشابّ بل من موسيقى باخ التي لم يكن الكثيرون قد سمعوا بها من قبل.
وقد تحدّث المهتمّون بالموسيقى مطوّلا عن الأنماط الرياضية المتضمّنة في تنويعات غولدبيرغ وعن المتعة الفكرية فيها وتأثيرها الانفعالي الكبير وكأنها تتحدّث إلى أرواحنا.
ويقال إن التنويعات تعكس معرفة باخ الواسعة والاستثنائية بالأساليب المتعدّدة والإيقاعات الهارمونية المختلفة لموسيقى عصر الباروك بالإضافة إلى براعته في العزف والتأليف.

كان باخ مؤلفا غزير الإنتاج، لذا جاءت موسيقاه غنيّة باختلافها وتنوّعها وبعمقها الفكري وقوّتها الانفعالية وجمالها الفنّي. وهناك من دارسي الموسيقى من بحثوا كثيرا في المعاني الخفيّة التي كان باخ يضمّنها أعماله وفي الأسس الرياضية لبعض تلك الأعمال.
هناك، مثلا، معزوفته المشهورة موسيقى وترية أو Air on the G String . عندما تستمع إلى هذه المعزوفة لا بدّ وأن تتساءل ما إذا كانت مجرّد لحن جميل أم أنها أيضا تخفي وراءها طبقات وظلالا من المعاني والصور التي تقرّبنا أكثر إلى سرّ الجاذبية الكونية لموسيقى باخ. بمعنى أنه لا يوجد في هذه المقطوعة ما يمكن أن يربطها في أذهاننا بالعالم الأرضي. إنها منفصلة جدا عن بيئتها الاجتماعية والجغرافية ومن الصعب ربطها بزمن أو مكان معيّن. أي أنها من ذلك النوع من الموسيقى التي تستحقّ أن توصف بأنها أزلية وخالدة.
وهناك أيضا معزوفته الأخرى توكاتا اند فيوك التي تعتبر أشهر مقطوعة موسيقية كتبت لآلة الأرغن. ومن الغريب أن هذه المعزوفة ظلت الأكثر تفضيلا لدى مخرجي أفلام الرعب بالإضافة إلى توظيفها في الكثير من أفلام والت ديزني.
إن التماثل الظاهري لموسيقى باخ يخفي تنوّعا تعبيريا كبيرا يساوي قرونا من التأليف الموسيقي المتراكم. وباخ يتعامل مع الموسيقى كالحرفي البارع الذي لا يتوقّف عن البحث عن حلول للمشاكل. لذا تلمس في موسيقاه ذلك الإحساس بأن كلّ نوتة هي في مكانها الذي ينبغي أن توضع فيه وكلّ آلة مخصّصة لمقطع بعينه. فلا يمكن للهاربسيكورد، مثلا، أن يقوم مقام البيانو ولا الفيولا يمكن أن تحلّ محلّ البوق وهكذا..
لقد كان باخ يتمتع بمهارة موسيقية استثنائية تتضاءل أمامها كلمة عبقري. وقد وصفه غوستاف ماهلر ذات مرّة بقوله: إن موسيقى باخ تتّحد مع الخلايا الحيوية للموسيقى وتتآلف مثل ما يتحدّ العالم مع الله".
وعندما تستمع إلى أنغام باخ المرحة وتتأمّل بُناه الموسيقية والفلسفية والروحية الفخمة وعناصر التوق والحزن والأمل والفرح التي أودعها في السويتات الاوركسترالية وفي كونشيرتوهات براندنبيرغ وفي مئات الألحان المكتوبة لآلتي التشيللو والكمان، سرعان ما تكتشف استقلالية موسيقاه عن التاريخ والسياسة والمجتمع. إن باخ يفصل الموسيقى عن كلّ هذه العناصر ويصهر كلّ شيء معا في قالب واحد.
ولهذا السبب مقدّر لـ باخ أن يدوم ويستمرّ طويلا.
المعروف أن موسيقى باخ ارتبطت بعصر الباروك الذي كان امتدادا لعصر النهضة وأحد المعالم الرئيسية في مسيرة الحضارة الإنسانية. وكان الأدباء والموسيقيون والرسّامون آنذاك يصوّرون في أعمالهم معاني النقاء والتضحية والفكر والحضارة. وهناك علاقة وثيقة جدّا بين فنّي الموسيقى والعمارة اللذين كانا سائدين خلال ذلك العصر. وربّما كان هذا يفسّر غلبة العناصر الزخرفية والديكورية على الكثير من موسيقى باخ.
ومنذ القرون الوسطى، ظلّ الفلاسفة ورجال الدين يحاولون فهم العلاقة بين الموسيقى والكون. وفي بعض الأوقات توصّل فريق منهم إلى بعض المواصفات والعناصر التي يمكن أن تعين الموسيقيين على تأليف ألحان تتناغم وتتآلف مع بعضها مكوّنة شكلا من أشكال الموسيقى السماوية كما يتخيّلونها.
ومن هذه الناحية، كان باخ قادرا على أن يؤلف موسيقى ذات قوّة روحية وانفعالية عالية بفضل موهبته الفذّة في مزج الموسيقى بالفكر والعاطفة ورغبته في أن يكون دائما فنانا متجدّدا ومتطوّرا.
يقول بعض النقاد إن الاستماع إلى موسيقى باخ يشبه مراقبة الطاقة وهي تنتقل من ترس لآخر في ماكينة ركّبت أجزاؤها بإتقان وإحكام. وفي موسيقاه إحساس عظيم بالجمال لأن الكثير منها ذو أساس تجريدي. بمعنى أنه يمكنك أخذ مقطوعة من مجموعة ما وعزفها خارج سياقها دون أن تفقد شيئا من رونقها وبهائها.
وفي السنوات الأخيرة أدى اتساع دائرة الوعي بأهميّة باخ إلى تحفيز الكثير من الموسيقيين الجدد على إعادة تقديم أعماله برؤية جديدة، ومن هؤلاء عازفة الغيتار الكرواتية آنا فيدوفيتش وعازفة الكمان الهولندية جانين جانسن والسوبرانو التشيكية ماغدالينا كوزينا والبيانيست الأمريكية سيمونا دينرستين بالإضافة إلى جاك لوسيير الذي أعاد توزيع الكثير من أعمال باخ مضيفا إليها نكهة موسيقى الجاز الحديثة.


وفي هذه الأيام بالذات فإن باخ مثل ميداس في الأساطير، لا يلمس شيئا إلا ويحيله إلى ذهب. ومن الواضح انه قادر على أن يقدّم لكل شخص شيئا ما. وموسيقاه تصلح لكلّ مناسبة ويمكن تطويعها وتحويرها لتتواءم مع أيّ أسلوب موسيقي أو درامي متطوّر وعصري.
في فيلم كازينو، مثلا، اختار المخرج أن يبدأ الفيلم وينتهي بالكورال الختامي لما يوصف أحيانا بأنه أكثر الأعمال درامية وعمقا في تاريخ الموسيقى الغربية، أي أحزان سينت ماثيو St Matthew Passion، التي أرادها باخ أن تكون تأمّلا عميقا في مصير الإنسان ومعاناته.
وباختصار، فإنه لا نهاية للأماكن التي يمكن أن يأخذنا باخ إليها.
لنتذكّر فقط انه كتب أكثر من ألف قطعة موسيقية وعاش خمسة وستين عاما. وبعد وفاته لفّه النسيان لمائتي عام ولم يعد أحد يتذكّره بعد أن أصبح الباروك نفسه قصّة من الماضي. لكن في مطلع القرن الماضي بُعث الاهتمام بـ باخ من جديد على يد كل من مندلسون وشومان. وفي عام 2000 احتفل العالم بمرور 250 على وفاته، وهو اليوم يعتبر احد أعظم رموز الموسيقى الغربية والعالمية.
إن أناقة يوهان سيباستيان باخ وعمقه الشعوري والعاطفي يجعل موسيقاه اقرب لأن تكون سلسلة من التمارين الفكرية ومزيجا من الجمال السماوي والتناغم الأزلي والإحساس النبيل والمتسامي.
إنه يجعلنا أقرب إلى إنسانيتنا وإلى أنفسنا. فأنت لا ترى باخ في موسيقاه وإنما ترى نفسك.
باخ لم يكن عالما في الرياضيات ولا باحثا في عالم الروح.
الكلمة الوحيدة المناسبة لوصفه هي أنه "إنسان".

Credits
grin.com

الأحد، أبريل 20، 2008

الحالة الإنسانية والموسيقى

ما هي أكثر المعزوفات الكلاسيكية إثارةً للحزن؟
الحقيقة انه لم يخطر بذهني مثل هذا السؤال إلى أن أثارته الأخت العزيزة الشاعرة أحلام خالد، وهي بالمناسبة من عشّاق الفنّ التشكيلي كما أنها تتمتّع بثقافة عالية وإلمام كبير بكلّ ما له علاقة بالموسيقى، خاصّة الكلاسيكية منها.
وانصرف ذهني إلى نماذج موسيقية معيّنة بعضها لبيتهوفن وبعضها الآخر لموزارت. كما تذكّرت موسيقى Rhapsody In Blue لعازف الجاز الأمريكي المشهور جورج غيرشوين George Gershwin. وكلّ هذه المعزوفات ممّا يمكن أن يندرج في خانة الموسيقى التي تترك في نفس سامعها إحساسا بالحزن، قد يزيد أو ينقص حسب الحالة المزاجية والانفعالية للشخص .
لكنْ وحسب كلام الزميلة العزيزة، فإن المقطوعة الكلاسيكية الأكثر حزنا في العالم ليست لموزارت ولا لبيتهوفن، بل هي للأمريكي سامويل باربر Samuel Barber وعنوانها Adagio For Strings أو "موسيقى بطيئة على الآلات الوترية".
ولأنني لم أكن قد سمعت من قبل باسم باربر ولا بمقطوعته رغم أن معلوماتي في الموسيقى الكلاسيكية لا بأس بها، فقد ذهبت إلى محرّك غوغل رغبة في معرفة المزيد عن الموسيقي وعن أعماله. وقد أحالني غوغل بدوره إلى موسوعة ويكيبيديا. واكتشفت أن كلام الزميلة العزيزة صحيح، فقد اختار مستمعو هيئة الإذاعة البريطانية عام 2004 عن طريق التصويت موسيقى باربر تلك كأكثر المعزوفات حزنا في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية. بينما احتلت إحدى مقطوعات الفرنسي هنري بورسيل المركز الثاني، وحلّت السيمفونية الخامسة للموسيقي الألماني غوستاف ماهلر ثالثاً.
مقطوعة باربر التي عزفتها فيما بعد اوركسترا لندن السيمفوني كانت في احد الأوقات أكثر القطع الموسيقية مبيعا على بعض أشهر مواقع بيع الموسيقى بالانترنت، طبقا لمقال الويكيبيديا .
وحسب الموقع نفسه، فإن هذه الموسيقى ُعزفت في جنازة فرانكلين روزفلت ووظّفت في الكثير من الأفلام السينمائية. كما ُعزفت في حفل تأبين ضحايا الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة.
السؤال عن الموسيقى الأكثر حزنا دفعني في ما بعد للبحث عن الموسيقى الكلاسيكية الأكثر إثارة للفرح. واكتشفت أن الكثيرين مجمعون على أن معزوفة بيتهوفن المسمّاة قصيدة للفرح Ode To Joy والمستوحاة من قصيدة للشاعر فريدريش شيللر هي القطعة الأكثر استحقاقا لهذا اللقب.
لكن هل مقطوعة بيتهوفن مثيرة للفرح فعلا؟ وهل تثير معزوفة باربر الحزن كما قيل؟ رأيي الشخصي انه يغلب على المقطوعتين الطابع الوجداني والتأمّلي العميق مع مسحة خفيفة من الحزن.
طبعا المسألة في النهاية تتعلق كما أسلفت بمزاج الشخص وفهمه ونظرته لطبيعة الحزن أو الفرح.
يمكن سماع معزوفة باربر على هذا الرابط ، ومعزوفة بيتهوفن هنا أو هنا ..