:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، أكتوبر 13، 2018

كورتيز: ذاكرة لباريس

في بدايات القرن العشرين، كانت باريس مدينة مزدهرة تضجّ بالأفكار والابتكارات التي كانت تجتذب إليها الفنّانين والمبدعين من كلّ مكان. كانت هذه المدينة وقتها القلب النابض للحداثة الأوربّية ولعالم الفنّ والأدب والموضة.
ورغم أن العديد من الفنّانين رسموا باريس في تلك الفترة، إلا أن الرسّام الفرنسيّ من أصل اسبانيّ إدوار كورتيز يُعتبَر بحقّ المؤرّخ الشاعريّ لهذه المدينة. وقد نجح من خلال لوحاته في التقاط خصائصها وضوئها ومناخها وأسواقها وشوارعها المزدحمة ودورة الفصول فيها.
والدهُ انطونيو كورتيز كان رسّاما ناجحا في البلاط الاسبانيّ. وفي عام 1855، سافر الأب إلى باريس للمشاركة في معرض فنّي. لكنه وقع في حبّ الفرنسيين وقرّر أن يقيم في بلدهم إقامة دائمة. واختار لسكناه بقعة هادئة في الريف لطالما اجتذبت بأضوائها وطبيعتها الجميلة رسّامين مثل هنري لاباسك وكميل بيسارو وغيرهما ممّن رسموا معالم تلك البلدة كثيرا في أعمالهم.
ولد إدوار كورتيز في فرنسا عام 1882. وأظهر شغفا بالرسم منذ سنواته المبكّرة، ثم أصبح مشهورا على وجه الخصوص بلوحاته التي رسم فيها معالم المدينة بألوان ساطعة وفرشاة انطباعية.
في البداية، كان إدوار منجذبا إلى رسم الطبيعة الريفية لشمال فرنسا. لكن بدءا من عام 1900، بدأ في رسم أوّل مناظره لساحات وشوارع باريس. وظلّ يرسم تفاصيل المدينة بقيّة حياته وبنفس أسلوبه الذي لم يتغيّر إلا بالكاد.
وفي الواقع كان كورتيز يرسم ملامح زمن كان يتلاشى بسرعة. وقد استمرّ يرسم العربات التي تجرّها الخيول وموضة اللباس الطويلة حتى بعد أن اختفت مثل تلك المناظر من شوارع باريس. وقد سُئل ذات مرّة عن السبب فقال: تمنّيت لو أن الزمن توقّف عند عام 1939 وأننا لم نشهد الحرب العالمية الثانية التي غيّرت وجه باريس إلى الأبد".
التحق إدوار كورتيز بالجيش الفرنسيّ في سنّ الثانية والثلاثين وأُرسل إلى خطوط الجبهة لمساعدة الجرحى والمصابين. وبعد الحرب أصبح يتبنّى أفكارا وقناعات مسالمة تكره الصراعات وتمقت الحروب.
وكانت لوحاته لباريس مطلوبة في جميع أنحاء العالم. وقد حقّق نجاحا معتبرا، خاصّة في أمريكا وكندا اللتين عرض فيهما بعض أعماله عام 1945.


وقد قال ذات مرّة: من حسن حظّي أنني ورثت موهبة الرسم عن والدي. وإذا كانت لوحاتي تروق للناس وتمنحهم إحساسا بالمكان وتثير في نفوسهم الفضول، فمعنى هذا أنني حقّقت بعض النجاح، وهذا مبعث رضا بالنسبة إليّ".
كانت مناظره لباريس قد جلبت له نجاحا كبيرا في حياته، وما تزال تأسر محبّي الفنّ حتى اليوم. وهي تمسك بسحر المدينة أثناء انتقالها من الحقبة الرومانسية لتصبح عاصمة الفنّ في القرن العشرين.
وطوال سبعين عاما، ظلّ يرسم الشانزيليزيه وقوس النصر والشوارع الرئيسية الأخرى التي تقوم على جوانبها المباني الفخمة. كما رسم الأسواق وبعض الشوارع الأقلّ أهميةً حيث يمكنك أن ترى فيها أكشاك الكتب ومحلات بيع الزهور وما إلى ذلك.
والرسّام يغطّي المدينة في جميع الفصول، فأنت ترى كاثدرائية نوتردام تلمع تحت وهج شمس الصيف أو تحت مطر الربيع أو ثلج الشتاء أو رياح الخريف.
ولوحات كورتيز يمكن التعرّف عليها بسهولة بسبب أسلوبه المتفرّد الذي يمزج بين عناصر الانطباعية وما بعد الانطباعية والنقطية بحرفية متناهية وتوظيف رائع للضوء.
وهو كان يحبّ منظر الغروب كثيرا، وهذا واضح في العديد من صوره التي تظهر فيها الأضواء البرتقاليّة الناعمة منعكسةً على المقاهي والمسارح المزدحمة وعربات الترام.
كان كورتيز إنسانا بسيطا ومتواضعا، وكان دائما يفضّل الابتعاد عن الأضواء ويتهرّب من المقابلات. بل انه حتى لم يهتمّ بتوثيق فنّه، ففي عام 1955 رفض أن يُصوَّر له فيلم وثائقيّ مدّته ساعة كان مفترضا أن يتحدّث فيه عن حياته وأعماله. وكان من رأيه أن لوحاته هي وحدها التي تتحدّث عنه وفضّل دائما أن يظلّ مجهولا.
توفّي إدوار كورتيز عام 1969 ورُتّبت له جنازة متواضعة. ورغم انه لم يكن حريصا على أن يُحتفى به، إلا أن اسمه أُطلق على احد شوارع بلدته تكريما له وإحياءً لذكراه.
ولوحاته موجودة الآن في أفضل متاحف فرنسا وغيرها من البلدان مثل انجلترا وبلجيكا والسويد وكندا. وكورتيز يُعتبر اليوم من أكثر الرسّامين الذين تُستنسخ لوحاتهم وتُزوّر نظرا لجمالها وكثرة الطلب عليها.

الثلاثاء، سبتمبر 18، 2018

موسيقى شائعة


ايميل فالدتيوفيل موسيقيّ فرنسيّ، اسمه الأخير يبدو ألمانيّاً وهو يعني حرفيّا "شيطان الغابة". والسبب أن أسرته ذات الجذور اليهودية كانت تنتمي إلى مقاطعة الألزاس المعروفة بتقاليدها الألمانية الراسخة قبل أن تصبح جزءا من فرنسا اعتبارا من عام 1793.
والد فالدتيوفيل وأحد أشقّائه كانا موسيقيَّين أيضا. وقد درس ايميل البيانو في باريس على يدي جول ماسينيه المؤلّف الأوبرالي الفرنسيّ المعروف.
وفي ما بعد، عمل فالدتيوفيل عازفا للبيانو في بلاط الإمبراطورة الفرنسية اوجيني، ثم ذهب إلى لندن وأصبح جزءا من المشهد الموسيقيّ فيها. وهناك حقّق شهرة عالمية وألّف أفضل أعماله التي ما تزال تُسمع حتى اليوم في كلّ مكان.
والكثيرون يشبّهونه بالموسيقيّ الألمانيّ يوهان شتراوس. فمثل شتراوس، تخصّص فالدتيوفيل في تأليف موسيقى الفالس والبولكا الراقصة.
ومن أشهر أعماله "فالس اسبانيا" الذي ألّفه عام 1886. وقد اقتبس بعض أجزاء هذا الفالس من زميله الفرنسيّ ايمانويل شابرييه. وطوال أكثر من مائة عام، اكتسب هذا الفالس شهرة واسعة، وتحوّل على يد موسيقيّين أمريكيّين إلى أغنية شعبية أصبحت هي الأخرى مشهورة. فالدتيوفيل ألّف أيضا قطعا أخرى لا تقلّ شهرة منها واحدة تُسمّى فالس المتزلّجين.


كتب يوهان سيباستيان باخ متوالية التشيللو عام 1720 عندما كان يعمل في بلاط الأمير الألماني ليوبولد في لايبزغ. وقد كتبها بنكهة عصر الباروك وأودعها أنغاما تثير مجموعة متنوّعة من الأمزجة والانفعالات.
كان باخ يفهم المتوالية على أنها مجموعة من الحركات الراقصة، لكنه أضاف إليها الكثير من أفكاره المبتكَرة. وهو لم يكن يجيد العزف على التشيللو، ومع ذلك أصبحت هذه الموسيقى أشهر عمل مكتوب لهذه الآلة على مرّ العصور. وفيها تبدو معرفته بالتشيللو عميقة ولافتة.
وثمّة احتمال بأن باخ كتبها لأحد عازفي التشيللو في الاوركسترا الصغيرة التي كان يحتفظ بها الأمير في بلاطه والتي كان يقودها باخ نفسه.
والذين عزفوا المتوالية في ما بعد واجهتهم مشكلة، إذ كانت مخطوطتها الأصلية قد ضاعت. لكن كانت هناك نسخة وحيدة منها بحوزة زوجة باخ الثانية آنّا ماغدالينا. وحتى هذه النسخة كانت هناك مشاكل كثيرة في ترجمتها وتصنيفها.
والذين عزفوا المتوالية في ما بعد وجدوها صعبة جدّا وتتطلّب الكثير من المران والبراعة والإتقان. وحتى اليوم، تبدو هذه المتوالية مختلفة عند تقديمها من قبل عازفين مختلفين، لذا كان لزاما على كلّ عازف أن يبعث فيها حياة جديدة ويطبعها بأسلوبه الخاصّ.
وحتى بداية القرن العشرين، لم تكن متوالية التشيللو معروفة إلى أن أعاد اكتشافها وسجّلها موسيقيّ يُدعى بابلو كاسالز. وقد شاع في بعض الأوقات أن زوجة باخ هي التي ألّفتها، لكن هذه التكهّنات ثبت في ما بعد عدم صحّتها.
متوالية التشيللو تُعتبر اليوم من أكثر الأعمال الموسيقية عمقا وجاذبية في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية كلّه. ومقدّمة الجزء الأول من المتوالية هي التي أصبحت أشهر قطعة مكتوبة لهذه الآلة على الإطلاق. وهي تتّسم بنوعيّتها النغمية العالية، كما أنها تثير شعورا بالإيجابية والحركة إلى الأمام.


كان ايلمر برنستاين احد ألمع مؤلّفي موسيقى الأفلام في الولايات المتحدة. وقد كتب الموسيقى التصويرية لفيلم الويسترن المشهور "السبعة الرائعون" الذي أُنتج عام 1960 واُعتُبر واحدا من أهمّ الأفلام في تاريخ السينما الأمريكية من الناحية الثقافية والجمالية.
والفيلم في الأساس هو إعادة صياغة لفيلم "الساموراي السبعة" للمخرج اليابانيّ الكبير اكيرا كيروساوا. ويقال أن الأخير أُعجب كثيرا بالفيلم الأمريكيّ لدرجة انه أهدى مخرجه جون ستورغيس سيفاً.
والمعروف أن برنستاين اقتبس بعض مقاطع موسيقاه للفيلم من أعمال سيمفونية معروفة مثل الحركة الثانية لكونشيرتو الكمان لبارتوك.
كانت موسيقى برنستاين لهذا الفيلم ناجحة جدّا، بل وأصبحت جزءا من الثقافة الشعبية في أمريكا. ثم استُخدمت في الإعلانات التجارية، ووظّفتها إحدى شركات التبغ الكبيرة في إعلانها الترويجيّ لسجائرها عددا من السنوات. كما ظهرت في بعض الأفلام الوثائقية وبعض أفلام ديزني واختيرت في وقتها كأفضل موسيقى لفيلم.


كان جوليوس فوتشيك مؤلّفا موسيقيّا تشيكيّا. كان شقيقه مغنّي أوبرا، وعمّه صحافيّا معروفا اغتاله النازيّون. درس فوتشيك على يد مواطنه الموسيقيّ انتونين دفورتشاك وخدم في الجيش الهنغاريّ كموسيقيّ عسكريّ.
وبعد تقاعده من الخدمة العسكرية، ذهب إلى برلين وتزوّج فيها وأسّس هناك اوركسترا سيمفونية. لكن نشوب الحرب العالمية الأولى، ثم إصابته بالسرطان، عطّلا نشاطه. وتوفّي في برلين عام 1916 عن أربعة وأربعين عاما.
كتب فوتشيك أثناء حياته أكثر من أربعمائة عمل موسيقيّ ما بين مارش وبولكا وفالس. وما تزال موسيقاه العسكرية تُعزف إلى اليوم في بلده التشيك باعتبارها موسيقى وطنية.
لكن سمعته في العالم تستند في الأساس إلى تأليفه "مارش المصارعين" عام 1897 والذي أصبح يحظى بشهرة أسطورية في كلّ مكان من العالم.
وقد أطلق عليه فوتشيك هذا الاسم بسبب اهتمامه بقراءة التاريخ الرومانيّ. وفي ما بعد، أي عام 1910، أتى موسيقيّ كنديّ يُدعى لوراندو وأعاد تكييف هذا المارش لتعزفه فرقة صغيرة وأعطاه عنوانا فرعيّا هو "رعد ونار".
والغريب أن هذه الموسيقى العسكرية المشهورة والتي تستثير الرهبة والحماس أصبحت اليوم تُعزف في حفلات السيرك وعروض المهرّجين.

Credits
classicfm.com

الاثنين، سبتمبر 10، 2018

عناصر سرد ونهايات مفتوحة

أنتجت أرض التشيك، على امتداد تاريخها، العديد من الأشخاص الموهوبين في شتّى مجالات المعرفة والإبداع.
ومن بين هؤلاء الموسيقيّ انتونين دفورتشاك، والروائيّان فرانز كافكا وميلان كونديرا، والكاتب المسرحيّ فاكلاف هافل الذي أصبح في ما بعد أوّل رئيس منتخب للجمهورية، والمخرج السينمائيّ العالميّ ميلوش فورمان الذي اخرج فيلم اماديوس.
وفي الرسم برزت أسماء مثل فرانتيشيك كوبكا وألفونس موكا، بالإضافة إلى رسّام آخر غير معروف كثيرا وإن كان لا يقلّ أهمّية، هو ياكوب شيكاندر "اسكندر".
ولد شيكاندر عام 1855 لعائلة تشيكية بسيطة الحال. وقد بدأ دراسة الرسم في براغ عام 1871، ثم انتقل إلى ميونيخ لإكمال دراسته. وفي عام 1876 عرض أولى لوحاته في براغ. وبعد سنتين زار باريس وقضى فيها ثلاث سنوات للدراسة. ثم عاد إلى براغ وكُلّف، مع رسّامين آخرين، بترميم وتزيين مسرح براغ الوطنيّ.
في عام 1885، عُيّن شيكاندر أستاذا في مدرسة الفنون الديكورية في براغ، وفي نفس الوقت استمرّ يرسم صورا لفقراء الأرياف. في لوحة له بعنوان الطريق الحزين ، نرى امرأة تركب في مؤخّرة عربة يجرّها حصان وتحمل كفناً.
ويبدو أن المرأة ترمّلت قبل الأوان، وهي تحدّق في الطريق الموحل أمامها بخواء، بينما يمشي إلى جانبها رجل، وكلاهما يرتديان أحذية خشبية. وفي خلفية الصورة، يظهر نهر في حالة فيضان. القصّة تحدث في نهايات الخريف، أي مع تساقط آخر أوراق الشجر.
إذا كانت الصور انعكاسا لذهنية صاحبها، فما من شكّ أن عالم هذا الرسّام قاحل وكئيب. في إحدى لوحاته تظهر امرأة تثني جسدها لتلتقط بعض النباتات من أحد الحقول. والمنظر يذكّر بصور جون ميلليه وبريتون التي عكسا فيها الواقع الاجتماعيّ لكلّ منهما. لكن هناك المزيد من السرد هنا، إذ يظهر رجل يقف إلى جانب عربة يقودها ثور ويبدو كما لو انه ينادي على المرأة من مسافة.
في لوحة بعنوان رفقة على الشرفة من عام 1887، نلاحظ تغيّرا كاملا في مزاج الرسّام. الوقت مساءً في إحدى المدن، وهناك مجموعة من الرجال والنساء الأثرياء كما هو واضح من هيئاتهم يجلسون على شرفة بجوار نهر. ويظهر بينهم شابّ يغنّي ويعزف على العود، بينما الآخرون يستمعون له باهتمام ويتابعون كلمات أغنيته.
من وقت لآخر يعود شيكاندر لتناول فكرة الفقد، وفي إحدى اللوحات يرسم امرأة مسنّة تقف لوحدها ممسكة بعصا ووراءها جدار منخفض. الوقت يبدو خريفا، إذ أن هناك أوراق شجر جافّة مبعثرة على الأرض. المرأة تنظر إلى أسفل في وجوم. ربّما كانت تفكّر في زوجها أو ابنها الميّت. وإلى يمينها قنديل أحمر معلّق عليه طوق أزهار وخلفه ضريح حجريّ.

لوحة شيكاندر بعنوان جريمة في البيت يعتبرها الكثيرون أشهر لوحاته، وكانت شعبية جدّا عندما عُرضت لأوّل مرّة في برلين ثم في براغ. تدور أحداث القصّة في جانب من الحيّ اليهودي في براغ، في فناء أنواره باهتة. والمكان غير بعيد عن الشقّة التي عاش فيها الرسّام بين عام 1872 وحتّى زواجه عام 1884.
في الفناء الذي يتوسّط عددا من البيوت المتواضعة، هناك جثّة امرأة شابّة ممدّدة على الأرضية. الدم الظاهر على رأسها يوحي بأنها طُعنت في رقبتها. وهناك بقع دم أخرى عند مدخل احد البيوت في الخلف.
وعلى الطرف الآخر، إلى اليسار، يقف عشرة أشخاص من فئات اجتماعية مختلفة، بينما أحدهم، وهو شابّ، يتحدّث أمامهم كما لو انه يحاول تفسير ما حدث، فيما الآخرون يحدّقون في جثّة المرأة الملقاة على الأرض.
وخلفهم يظهر شبّاك كبير يضيئه قنديل زيت يعكس نورا احمر ساطعا. والرسّام يعطي لكلّ فرد شخصيّته الخاصّة ويترك السرد مفتوحا بما يتيح للناظر أن يتكهّن بطبيعة ما يحدث أمامه.
وفي لوحة امرأة غارقة من عام 1893، نرى امرأة شابّة أخرى ترتدي فستانا ابيض وهي تستلقي ميّتة على رمال الشاطئ. ومع أن المنظر حزين ومقبض،إلا أنه يأخذ ملمحا شبه أثيريّ. فالبحر هادئ والشمس مشرقة وليس هناك حطام، وبالتالي لا تفسير واضحا يشرح كيف غرقت المرأة.
وهناك لوحة تأمّلية له بعنوان راهب على الشاطئ، يظهر فيها رجل دين مغطّى الرأس يجلس على الشاطئ بمواجهة الماء. من الواضح أن الرجل غارق في التأمّل في هذا المكان البعيد والمنعزل. واللون الأحمر الذي تصطبغ به السماء إلى اليمين يوحي بأن الشمس تشارف على الغروب وأن الشفق يقترب.
وفي منظر رمزيّ آخر، يرسم الفنّان شبحا لموسيقيّ يعزف على آلة كمان على طرف طريق يقود إلى بيت بابه مفتوح. وأمام باب البيت تقف امرأة وهي تحدّق في العازف.
في الفترة التي تولّى فيها ياكوب شيكاندر وظيفة أستاذ في مدرسة الفنون في براغ، سافر كثيرا في أرجاء أوربّا وزار باريس عددا من المرّات وكذلك ايطاليا. ثم زار انجلترا واسكتلندا بصحبة احد زملائه. وأثناء ذلك ظلّ يمارس الرسم بلا انقطاع.
صور شيكاندر تتضمّن دائما عنصر سرد ودراما وتأمّلات وحالات غموض ونهايات مفتوحة، وكأنه يستحثّ الناظر على أن يمعن النظر أكثر في ما يراه ويتخيّل المقدّمات والمآلات المرتبطة بالأحداث والشخصيات والمواقف التي ينقلها في لوحاته.

Credits
linesandcolors.com

الاثنين، سبتمبر 03، 2018

في مجلس سلطان المغول

في عام 1556، وفي سنّ الثالثة عشرة، أصبح "اكبر" ثالث سلاطين المغول، وحَكَم الهند لخمسين عاما. ثمّ خلفه ابنه المسمّى "جهانغير" أو فاتح العالم. وفي الجيل التالي من هذه السلالة، تولّى ابن جهانغير "أي شاه جهان" أو ملك العالم، الحكم في عام 1627.
كانت طموحات هذه العائلة كبيرة وبلا حدود. وامتدّ حكمها من عام 1526 إلى عام 1857، وسيطرت على أراضٍ في الهند وباكستان وبنغلادش وأفغانستان، وكان لها نفوذ كبير في سائر أنحاء العالم الإسلاميّ.
وقد مزج هؤلاء الحكّام قوّتهم بحبّهم للفنون، فأصبحوا رعاة كباراً للأدب والفنّ، ووظّفوا ذلك لشرعنة حكم عائلتهم، خاصّة أثناء عهد اكبر وجهانغير وشاه جهان.
كان المغول معروفين أيضا بجمعهم للأعمال الفنّيةّ، وكانت منزلة الحاكم عندهم تقاس باتّساع مكتبته. ويقال انه عند وفاة اكبر عام 1605، كان في مكتبته أكثر من خمسة وعشرين ألف كتاب، كما رعى تأليف عدد من النصوص المصوّرة وملأ القصور بالفنّانين الذين تلقّوا تدريبهم في بلاد فارس وغيرها، بمن فيهم الرسّام المشهور مير سيّد علي.
بعد سنوات من تولّي أكبر الحكم، وبالتحديد عندما بلغ الثامنة والعشرين، أصبح يقلقه أنه لم يكن قد وُلد له ولد كي يخلفه على العرش. لذا استشار في الأمر شيخا صوفيّا يقال له سليم، فأكّد له الشيخ انه سيُرزق عمّا قريب بمولود ذكر.
ولم يمرّ طويل وقت حتى رُزق بولد اسماه سليم تيمّنا باسم الشيخ. وعندما اعتلى سليم العرش عام 1605، قرّر أن يمنح نفسه اسماً شرفيّا هو "نور الدين" ولقباً هو "جهانغير" أي فاتح العالم.
وأثناء عهد جهانغير، رسم له بختيار رسّام القصر هذه اللوحة/المنمنمة مع بعض ضيوفه. وفيها يجلس السلطان الذي يعتمر غطاء رأس مذهّب أمام خلفية هي عبارة عن قرص ذهبيّ ضخم بداخله شمس، بينما يلامس حوافّ القرص قمر أو هلال صغير، في ما يبدو وكأنه رمز لسلطة الحاكم المطلقة وللحقيقة المقدّسة.
هنا يجلس جهانغير على مقعد مرتفع مرصّع بالجواهر يحاكي شكله الدائريّ شكل القرص في الأعلى. والسلطان هو أضخم الأشخاص الخمسة المرسومين. وهو يواجه أربعة رجال ملتحين يقفون على سجّادة زرقاء تزيّنها نقوش أزهار وأرابيسك.
وعلى نفس مستوى السلطان، يقف شيخ صوفيّ يتسلّم منه كتابا هديّة وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة خفيفة. وبحديثه المتبسّط مع الشيخ فإن جهانغير يؤكّد على توجّهاته الروحية. والكلام المنقوش على اللوحة يشير إلى أن السلطان يفضّل زيارة رجل دين على مجالسة الملوك.
إلى جانب الشيخ مباشرةً يقف سلطان عثمانيّ لا تُعرف هويّته، يرتدي ملابس خضراء مطرّزة بالذهب وعمامة تميّزه كأجنبيّ. وهو ينظر باتجاه العرش ويداه مترابطتان في لفتة احترام.

أما الشخص الثالث الذي ينتظر استقبال جهانغير له فيُفترض انه جيمس الأوّل ملك انجلترا. وهو مميّز بملابسه الأوربّية ووشاحه وبوضعية ظهوره من الأمام ونظرته المباشرة، بالإضافة إلى المجوهرات والقبّعة التي يعتمرها فوق رأسه.
أما الشخص الأخير في الأسفل فهو بختيار، رسّام هذه المنمنمة، وهو يرتدي ثوبا اصفر في إشارة إلى انه هندوسيّ ويعمل في خدمة البلاط المغوليّ، وهذا تذكير بأن الفنّانين الذين أبدعوا الفنّ الإسلاميّ لم يكونوا دائما مسلمين.
أثناء حكم المغول، كان الفنّانون يعامَلون حسب مواهبهم الخاصّة، بعضهم لإتقانه رسم اللوحات النباتية، والبعض الآخر لبراعة تناوله للطبيعة، بينما كان آخرون يقيَّمون لمهارتهم في كتابة الخطّ. وبختيار كان بارعا في رسم البورتريه واشتُهر خاصّة بتصويره الرائع للأيدي.
يدا الشيخ العاريتان في اللوحة ويدا جهانغير اللتان تزيّنهما المجوهرات توضّح الفرق بين الغنيّ والفقير والتوفيق بين الماديّ والروحيّ.
لاحظ كيف أن الشيخ حريص على أن يتسلّم هديّة السلطان، ليس بيديه مباشرة، بل ملفوفةً في قطعة قماش، وبذا يتجنّب الاتصال الجسديّ المباشر مع الذات الملكية، الأمر الذي كان يُعتبَر وقتها "تابو" ثقافيّا.
وهناك مبدأ مشابه يظهر في تصرّف السلطان العثمانيّ الذي يضغط يديه معا على طريقة الهنود في إيماءة احترام. ومن خلال موافقته على تبنّي عادة التحيّة في بلد غريب يزوره كضيف، فإن العثمانيّ يقدّم آيات الإجلال والخضوع لمضيّفه.
وبالنسبة للملك الانجليزيّ، يمكن رؤية إحدى يديه فقط وهي موضوعة بالقرب من سيفه، لكنها لا تلامسه.
الرسّام أيضا صوّر نفسه ممسكا بمنمنمة ذات إطار احمر من صنعه وكما لو أنها كنز ثمين. وفي هذه الصورة الصغيرة داخل اللوحة، يعيد رسم ردائه الأصفر كي يؤكّد على هويّته الدينية، ويضع نفسه جنبا إلى جنب مع حصانين وفيل قد تكون هدايا من السلطان إليه. وهو يرسم نفسه في الصورة منحنيا أمام السلطان كعلامة عرفان وتواضع.
وتحت مقعد جهانغير، هناك ملاكان صغيران اقتبسهما الرسّام على ما يبدو من الرسومات الأوربّية وتتوسّطهما عبارة بالفارسية تقول: أيّها السلطان، ليطل الله في عمرك ألف عام". أما الساعة الرملية الضخمة فهي تذكير واضح بمرور الزمن الذي يتسرّب سريعا من حياة الإنسان.
والحقيقة أن لا احد يدري إن كان جهانغير قابل ذلك الشيخ فعلا أو زاره سلطان عثمانيّ. لكن المؤكّد أن أيّا من ملوك انجلترا لم يزر البلاط المغوليّ أبدا. غير أن الرسّام حقّق رغبة مليكه وراعيه في أن يبدو حاكما قويّا وفي مكانة تعلو فوق مكانة غيره من الملوك الآخرين، مع مضمون روحيّ.
لقد وضع الرسّام كلّ هذه العناصر نصب عينيه في اللوحة، لكنّه أيضا وظّفها بذكاء كي يخلّد نفسه أيضا.

Credits
khanacademy.org

الجمعة، أغسطس 24، 2018

حكاية عن اليابان


من المسلسلات التاريخية المتميّزة من فترة الثمانينات مسلسل "شوغن" الذي تجري أحداثه في اليابان في بداية القرن السابع عشر. والشوغن لقب كان اليابانيون يطلقونه على الحكّام العسكريين الذين حكموا البلاد في تلك الفترة بقبضة من حديد.
والمسلسل يعتمد على رواية للكاتب جيمس كلافيل من عام 1975 عن قصّة حقيقية لبحّار انجليزيّ غرقت سفينته على شواطئ اليابان المحكومة آنذاك بتقاليد الساموراي والكونفوشية.
وقد حقّق المسلسل عند عرضه نجاحا كبيرا في العديد من البلدان. واللافت أن هوليوود وظّفت في ما بعد شخصية الشوغن في أفلامها للزعم بأن اليابانيين ورثوا تقاليد العنف من تاريخهم وأنهم، لهذا السبب، لا يمكن أن يتقبّلوا نمط الدولة المسالمة والمنفتحة على الآخرين.
بطل المسلسل، أي القبطان، اسمه جون بلاكثورن، ويلعب دوره الممثّل ريتشارد تشامبرلين. وبلاكثورن يبحر مع طاقمه بحثا عن الثروة على متن سفينة مملوكة لشركة الهند الشرقية تُدعى ايراسموس. وبعد تطواف في أعالي البحار لمدّة عامين وسط عواصف وأنواء قويّة، يصلون إلى اليابان عبر مضيق ماجيلان وترسو سفينتهم المشرفة على الغرق في مرفأ صيد يابانيّ اسمه انجيرو.
ومنذ اللحظة التي يصل فيها بلاكثورن وبحّارته إلى ارض اليابان يتعرّضون للعديد من الأخطار ويفقد بعضهم حياته نتيجة لذلك. وأحداث الرواية تبدأ عام 1600، أي بعد عام واحد من موت تايكو؛ الجنرال الفلاح الذي أمر ببناء قلعة اوساكا بأربعمائة ألف رجل ثم حكم البلاد ببراعة لاعب شطرنج.
في ذلك الوقت، كانت اليابان تحت حكم احد أباطرة سلالة الايدو. لكن لأن وليّ العهد كان ما يزال صغير السنّ، فقد عيّن والده الإمبراطور مجلسا يتألّف من خمسة من كبار الإقطاعيين لإدارة شئون البلاد ريثما يصبح وليّ العهد مستعدّا لتولّي المهمّة.
كانت البرتغال، بقوّتها البحرية الكبيرة وكنيستها الكاثوليكية المتنفّذة وبذراعها القويّ من المبشّرين اليسوعيين المتحمّسين، قد أصبح لها موضع قدم في اليابان، وكانت ما تزال تطمح في توسيع نفوذها أكثر.
لكن اليابانيين بطبيعتهم كانوا ميّالين للعزلة ولكراهية الأجانب. وكانوا ينظرون باحتقار إلى الأسلحة الأوربّية الحديثة ويرون فيها تهديدا لثقافتهم المؤسَّسة على تقاليد الساموراي القديمة.
وربّما لم يكن من قبيل الصدفة أن بلاكثورن كان أوّل بحّار انجليزيّ يصل إلى اليابان، إذ كانت كلّ من انجلترا وهولندا تسعيان إلى تخريب علاقة البرتغال الكاثوليكية مع اليابان ومن ثم إلى تأسيس علاقات مصلحة معها من خلال التجارة والتحالفات العسكرية.
ولهذا السبب لم يشعر البرتغاليون بارتياح لوصول هذا الانجليزيّ إلى اليابان، بل عبّروا منذ البداية عن كراهيتهم الصريحة له وعن نيّتهم لإرساله إلى الجحيم.
أهمّ وأقوى شخصين في مجلس الأوصياء على العرش هما توراناغا وإيشيدو. وهذان الاثنان أيضا لا ينظران إلى بلاكثورن ورفاقه نظرة رضا، بل يعتبران انه يشكّل خطرا على مطامحهما الشخصيّة وعلى تاريخ اليابان نفسه.

وتوراناغا، الملقّب بالسماء القرمزية، يثبت مع سير الأحداث انه أقوى بأسا من إيشيدو وأنه في طريقه لأن يصبح الشوغن الذي لا ينازعه احد.
والصراع بين هذين الرجلين يصبغ المسلسل/الرواية بالكثير من العنف والدم. فكلمة يقولها شخص ما قد تؤدّي بسهولة إلى قطع رأسه، وهناك جثث تُقطّع إلى أوصال، ومحاربون يؤمرون بأن يقتلوا أطفالهم ويفعلون ذلك مرغمين، وآخرون يُلقَون في ماء مغليّ وهم أحياء أو يُتركون في العراء لتنهش لحمهم الكلاب.
لكن المسلسل لا يعرض لك هذا العنف عيانا، بل يكتفي بإخبارك أن هذه الأمور الرهيبة تحدث فعلا نتيجة للصراع بين كلّ من توراناغا وإيشيدو على السلطة.
في هذه الأثناء، تتعزّز العلاقة بين بلاكثورن وتوراناغا بعد لقاء عاصف بينهما. وفي الحقيقة فإن البداية الفعلية للمسلسل هي عندما يلتقي بلاكثورن بتوراناغا لأوّل مرّة.
ومع الوقت يكتشف توراناغا بأن الانجليزيّ أهل لثقته ويستحقّ أن يصبح ذراعه الأيمن. ومع تطوّر الأحداث ينجح بلاكثورن في إنقاذ حياة توراناغا أكثر من مرّة، فيقوم الأخير بترقيته إلى رتبة ساموراي ومدافع أوّل عن الإمبراطورية.
وأثناء ذلك يقع الانجليزيّ في حبّ ماريكو؛ الفتاة ذات النسب الرفيع التي عيّنها توراناغا كي تقوم على خدمة بلاكثورن. وهي لا تدّخر جهدا في تعليمه اللغة اليابانية والسلام الداخليّ والكارما. وبين يديها، ينمو شيئا فشيئا كرجل شرقيّ يعرف كيف يتحكّم في مشاعره وتصرّفاته.
وفي ما بعد يرى بلاكثورن ماريكو وهي تستعدّ لقتل نفسها في عملية انتحار طقوسيّ. والكاتب لا يحلّل ولا يفلسف هذه الأحداث كثيرا، بل يرويها كما يراها هو من منظور السلطة والسيطرة والقوّة.
في نهاية الرواية، يزور بلاكثورن زملاءه من البحّارة الذين نجوا معه من السفينة، ويندهش من حقيقة انه قطع شوطا كبيرا في ابتعاده عن أسلوب الحياة الأوربّي، وهو الآن ينظر إليهم كمثال للجهل والقذارة والبدائية.
رواية "شوغن" تزخر بالقتلة والمعارك وقصص الحبّ وعمليات التعذيب، وحتى قصائد الهايكو. كما تتضمّن عددا كبيرا من النبلاء والمحاربين والنساء والجواسيس والكهّان والبحّارة البرتغاليين. وهؤلاء هم الذين يوجّهون الأحداث، لكن لا احد منهم يلعب دورا مركزيّا، لأن البطل ليس شخصا، بل مكان هو اليابان وزمان محدّد هو عندما كان هذا البلد يعدّ نفسه كي يصبح قوّة بحرية يُحسب لها حساب.
يمكن القول أن رواية "شوغن" هي عبارة عن تاريخ ممزوج بالفانتازيا، كما أنها تتحدّث عن امتزاج الثقافات. ومن ناحية أخرى فإن هذه الرواية ترقى لأن تكون ملحمة حقيقية.
وقد قضى جيمس كلافيل في كتابتها أربع سنوات، وتبوّأت عند صدورها قائمة أفضل الكتب، وبيع منها أكثر من خمسة عشر مليون نسخة.
وقد واتته فكرة كتابة الرواية عندما قرأ ذات يوم في كتاب مدرسيّ يخصّ ابنته معلومة تذكر انه في عام 1600 ذهب شخص انجليزيّ إلى اليابان وأصبح محارب ساموراي. وكان لهذه الرواية اثر كبير في توسيع معرفة واهتمام الغربيين بتاريخ وثقافة اليابان.

الجزء الثاني
الجزء الثالث

Credits
factbehindfiction.com

الجمعة، أغسطس 10، 2018

رسّام ألف ليلة وليلة


صَوّر العديد من فنّاني القرن العشرين المشاهد الخيالية لحكايات "ألف ليلة وليلة". ومن أشهر هؤلاء ايريك فريزر وكي نيلسن وجوليوس ديتمولد.
لكن أشهر رسّام صَوّر "الليالي العربية" بشكل مختلف كان الرسّام الانجليزيّ من أصل فرنسيّ إدمون دولاك.
في رسوماته، تمكّن دولاك من الإمساك ببراعة بالعناصر الفانتازية للحكايات، من خلال مزجه الشخصيات الملوّنة بالخلفيات الانطباعية والأجواء والمناظر الغامضة التي تتشكّل من توظيف الألوان الغامقة: رجال يجرون في أزقة ضيّقة ومظلمة، جنّي يبرز مثل غيمة كبيرة من زجاجة، أميرة في رواق تحرسه أسود، امرأة محجّبة تقف عند مدخل حانوت، شابّ يطير على بساط سحريّ ويطوف حول قصر مقبّب.
قبل دولاك، كان الجان يُرسمون على هيئة بشر لهم أعين واسعة، وأحيانا كوحوش خرافية تطير في بيئة غرائبية. لكنه رسم الشرق بشكل مختلف: كمكان أثيريّ وساحر وشفّاف.
والذين رسموا "الليالي" قبله لم تكن لديهم فكرة كافية عن أصل هذه القصص، لذا أضافوا إلى صورهم مسحة خيالية. ولم يكونوا يشعرون بأن من واجبهم أن يصوّروا العالم العربيّ في القرون الوسطى بشكل صحيح إثنيّا وتاريخيّا.
لذا استعانوا في ذلك بالأيقونات الآسيوية، مثل طريقة الصينيين في رسم واجهات القصور وفي تشكيل الغيوم والهالات البوذية وألسنة اللهب والجنّ الزُّرق وما إلى ذلك. لكن تلك الرسومات لم تكن دقيقة ولم تكن تعبّر عن البيئة العربية تعبيرا دقيقا.
غير أن الأمور تغيّرت في عام 1839، عندما نشر إدوارد لين ترجمته لليالي العربية في ثلاثة مجلّدات. ولأنه كان قد قضى سنوات من حياته في مصر تعلّم خلالها اللغة العربية، فقد ترجم الحكايات من لغتها الأصلية مباشرة إلى الانجليزية ولم يعتمد مثل غيره على الترجمة الفرنسية للكتاب التي وضعها انطوان غالان.
وكان من بين من رسموا هذه الحكايات حتى ذلك الوقت كلّ من جون تاينال وجون ميلليه وجورج بينويل وآرثر هاوتون. ورغم أن لصور الأخير سمات شرقية، إلا أن الشرق الذي رسمه كان اقرب ما يكون إلى الهند منه إلى العالم العربيّ. والسبب هو أن هاوتون كان قد قضى شطرا من طفولته وصباه في الهند وتأثّر بما رآه هناك ثم نقله إلى رسوماته.
في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كان من الشائع أن تصدُر روايات كبار الكتّاب والروائيين، مثل تشارلز ديكنز وغيره، متضمّنةً رسومات توضيحية. لكن في نهاية القرن التاسع عشر، ولأسباب مجهولة، اختفى ذلك التقليد ولم تعد روايات الكتّاب الكبار تُزيّن برسومات، بعد أن وجد رسّامو الكتب أنفسهم مرتبطين أكثر برسم كتب الأطفال.


في عام 1905، كَلّفت إحدى دور النشر في انجلترا المترجم لورنس هاوسمان بوضع ترجمة جديدة إلى الانجليزية لكتاب "الليالي العربية". ولمّا كان هاوسمان قد رأى بعضا من رسومات إدمون دولاك منشورة في بعض الكتب، فقد اقترح على الناشر أن يستعين بالرسّام لإنجاز خمسين لوحة كي تصاحب الترجمة الجديدة.
كان دولاك، المولود في تولوز بفرنسا، قد هاجر قبل ذلك بسنوات إلى انجلترا واستقرّ فيها بعد أن اكتسب الجنسية البريطانية. وكان قد وضع للتوّ الرسومات التوضيحية لعدد من روايات الأخوات برونتي. كان عمره وقتها لا يتجاوز التاسعة والعشرين.
وبعد أن أكمل تلك المهمّة التي كلّفه بها هاوسمان، أصبح دولاك يلقّب بـ "رجل الليالي العربية" بسبب الشعبية الكاسحة التي أصبح يتمتّع بها بعد إنجازه للرسومات.
كان دولاك ذا مواهب متعدّدة، كما كان شغوفا بالأدب ومعجبا كثيرا بتقاليد الانجليز في رسم الكتب. وقد حوّل نفسه من خلال الاطلاع والمِران إلى خبير في تقنيات وموتيفات رسم المنمنمات الفارسية والمغولية.
الترجمة التي وضعها هاوسمان لكتاب "ألف ليلة وليلة" لاقت هي الأخرى نجاحا هائلا. ورغم أن دولاك نقل إلى رسوماته تقنية ألوان المجوهرات التي تتّسم بها المنمنمات الفارسية، إلا أن رسوماته أظهرت أيضا تأثّره بتقاليد النقوش اليابانية والرسم الصينيّ.
كان لصوره تلك سحر غريب. كما أن تأثيرها ما يزال مستمرّا إلى اليوم، لدرجة انه يقال أنها شكّلت جزءا من تصوّرات الغربيين عن المنطقة العربية.
ويمكن أن يقال نفس الشيء عن الصور التي وضعها دولاك في ما بعد لديوان الرباعيّات لعمر الخيّام، إذ سرعان ما راجت وانتشرت على نطاق واسع. وقد سمحت له تجربته مع الرباعيّات باكتشاف مواضيع واهتمامات الأدب الفارسيّ لأوّل مرّة.
كان إدمون دولاك أغلى وأشهر رسّام كُتُب في زمانه. وكان يكفي أن يظهر اسمه على غلاف أيّ كتاب حتى يشتهر ويتصدّر قائمة الكتب الأكثر مبيعا. وكانت رسوماته لليالي العربية وأشعار الخيّام، على وجه الخصوص، متميّزة جدّا، لأنه استخدم فيها ألوانا ثريّة ورائعة. كان يفضّل الأزرق الغامق غالبا، ولطالما استخدمه بوفرة في تصويره للسماء الليلية ومناظر الشفق والطبيعة الثلجية التي تكسوها زُرقة.
ذات مرّة، أقيم لصور إدمون دولاك معرض في أمريكا، وقد تضمّنت مقدّمة الكرّاس الذي يعرّف بالفنّان هذه الكلمات: هذا الرسّام اختار مدينة حالمة في الشرق كمكان لولادته، وأميرة فارسية كأمّ له، وفنّانا من سلالة المينغ الصينية كأب له".

Credits
artpassions.net

السبت، أغسطس 04، 2018

رجل الجبال


عندما ظهر المسلسل التلفزيونيّ الأمريكيّ "حياة وزمن غريزلي آدامز" في منتصف السبعينات، حقّق نسبة مشاهدة عالية وامتدحه النقّاد بسبب جودته الفنّية العالية وإسهامه الايجابيّ في نوعية الحياة ومضمونه النظيف والخالي من العنف، بالإضافة إلى دعمه لقضايا البيئة.
وقصّة المسلسل الذي بُثّ على مدى أربع سنوات تستند إلى رواية تاريخية قصيرة ألّفها كاتب يُدعى تشارلز سيلر عام 1972. وبطلها رجل من كاليفورنيا اسمه جيمس غريزلي آدامز، عاش في بداية القرن التاسع عشر في منطقة الغابات الحدودية. وقد هرب إلى هناك بعد أن اُتّهم خطأ بجريمة قتل لم يرتكبها.
وآدامز، الذي يقوم بدوره في المسلسل الممثّل دان هاغيرتي، هو في الأساس صيّاد يتعاطف مع الحياة البرّية ويصرّ على ألا يؤذي أيّ حيوان كلّما كان ذلك ممكنا.
وعندما يصل إلى الجبال، يحاول أن يؤمّن لنفسه عيشا مناسبا وسكنا آمنا، وفي تلك الأثناء ينجح في إنقاذ دبّ يتيم ويطلق عليه اسم "بن". ومع مرور الأيّام يصبح الدبّ صديقه المقرّب ويصطحبه معه في أسفاره المتعدّدة في مناطق الغرب.
في الغابات يثبت آدامز مقدرته الكبيرة على كسب ثقة معظم الحيوانات البرّية، كما يساعد في إنقاذ وترويض العديد منها.
ثم لا يلبث أن يقابل شخصين سيعيشان معه هناك بشكل دائم، الأوّل رجل عجوز يلقَّب بجاك المجنون ويلعب دوره الممثّل دنفر بايل. وجاك غالبا ما يظهر في المسلسل مصحوبا ببغله البرّي الذي يسمّيه "رقم سبعة".
كان جاك يأتي إلى كوخ آدامز كي يبيعه بعض المؤن البسيطة التي يحتاجها لمعيشته. وفي البداية، لم يكن معجبا كثيرا بآدامز، وكان الاثنان كثيري الشجار معظم الوقت. لكن مع مرور الوقت تنشأ بينهما علاقة طيّبة ويصبحان صديقين حميمين.
أما الشخص الثاني فشابّ من قبيلة هندية يُدعى ناكوما ويلعب دوره ممثّل يُدعى دون شانكس. وإحدى حلقات المسلسل تروي كيف قابل آدامز ناكوما، إذ كان الأخير قد تعرّض لهجوم من نمر، وفي محاولته الهرب قفز من أعلى جرف، ما تسبّب في إصابته بجروح.
وقد اعتنى به آدامز وواظب على تمريضه إلى أن شُفي وأصبحا في النهاية صديقين. وأثناء ذلك علّم ناكوما آدامز الكثير من أسرار الحياة في الجبال والغابات وطرق التعامل المثلى مع الحيوانات.
أصبح الثلاثة، أي آدامز وناكوما وجاك، يساعدون العديد من الأشخاص الذين يمرّون عبر الجبال ويضلّون طريقهم فيها، وفي نفس الوقت كانوا يوفّرون الحماية للحياة الفطرية. ومع ذلك كان آدامز يحاول إبعاد نفسه عن الغرباء بقدر الإمكان، إذ أنه لا ينسى أن هناك مبلغا من المال موضوعا على رأسه.


في هذا المسلسل ليس هناك خطّ سرد متدرّج، وإنّما كلّ حلقة لها قصّة مختلفة.
في إحدى الحلقات يقابل آدامز وجاك شخصا يكتشفان انه يجري دراسة في الجبال عن أفضل الطرق لاصطياد الحيوانات من اجل الطعام. ويُصدَم الاثنان من الفكرة ويعلّمان الرجل كيف أن بإمكانه العيش دون أن يؤذي غيره من الكائنات الحيّة.
وفي حلقة أخرى ينتشل آدامز رجلا غريبا كان مُشرِفا على الموت غرقا في مياه احد الأنهار، ثم يكتشف أن الرجل متورّط في عملية سرقة لأحد البنوك وأنه يبحث له عن ملاذ آمن في الغابات.
وتتناول حلقة أخرى قصّة فتاة تنفصل عن والديها وتضيع في الجبال، ثم تجد نفسها في مواجهة مع أسد ولا ينقذها منه سوى الدبّ "بن" الذي يأخذها إلى آدامز، فيعيدها بدوره إلى والديها المنشغلين بالبحث عنها.
وتحكي حلقة أخرى قصّة رجل تحرٍّ يتجوّل في الجبال مقتفيا أثر آدامز نفسه كي يقبض عليه. لكن الرجل يراقب آدامز وهو يخاطر بحياته من اجل إنقاذ حيوانات حاصرها بركان ثائر. وعندما يلمس شهامته وشجاعته يغيّر رأيه ويتراجع عن المهمّة التي أُرسل من أجلها.
وفي حلقة أخرى تتّهم قبيلة ناكوما الدبّ "بن" بسرقة بعض السمك من زعيمهم. ويأخذ جاك المجنون على عاتقه مهمّة الدفاع عن الدبّ أمام مجلس القبيلة كي لا يتعرّض الحيوان للطرد من المنطقة.
وتقريبا في كلّ حلقة من المسلسل هناك أشخاص غرباء يصطدمون بمشاكل أثناء مرورهم بالمنطقة. وهناك حلقة طريفة عن منافسة محمومة بين ناكوما وجاك من اجل كسب ودّ امرأة جميلة كانت تمرّ في الغابات.
الممثل دان هاغيرتي عُرف بشعره الأشقر الطويل وبملامحه الوسيمة التي تختفي وراء لحيته الكثّة. ويبدو أن دوره في هذا المسلسل سيظلّ راسخا في ذاكرة الكثيرين، إذ يظهر فيه كشخص نزيه ومتحرّر من قيود الحياة الطبيعية، مع رغبة قويّة في البقاء وعدم ثقة في مؤسّسات السلطة.
كما أن اختياره لهذا الدور كان موفّقا، فقد كان رحيما بالحيوانات في حياته الواقعية، كما كان يحتفظ في مزرعته بنمر وفهد من بين حيوانات أخرى كانت تعيش جنبا إلى جنب مع زوجته وبناته الخمس.
وشخصيّته في المسلسل تذكّر إلى حدّ ما بقصّة الناسك المسيحيّ فرانسيس الذي كان يعيش منفردا في البرّية بصحبة عدد من الحيوانات.
بعد المسلسل بسنوات، تعرّض دان هاغيرتي لحادث سير تركه في حالة غيبوبة. واستغرق الأمر خمس سنوات كي يتماثل للشفاء. وقد توفّي بالسرطان في عام 2016 عن أربعة وسبعين عاما. أما زميله في المسلسل دنفر بايل "أو جاك المجنون" فقد توفّي عام 1997 عن سبعة وسبعين عاما.

Credits
grizzlyadams.com

الاثنين، يوليو 30، 2018

المشكّكون والعصور القديمة

هناك فئة من المؤرّخين الذين يُسمَّون "المشكّكين في الأزمنة القديمة". وهؤلاء يتبنّون نظريات تُلقي بظلال من الشكّ على بعض الشخصيات التي عاشت في العصور القديمة وتَفترض أنها لم توجد في الواقع وإنّما كانت مجرّد شخصيات خيالية.
  • الفيلسوف الصينيّ كونفوشيوس ما يزال لكتاباته تأثير كبير في الصين وخارجها. والصينيون ينطقون اسمه "كونغفوتسو". وكانوا يعتقدون انه إله. وأهميّة أفكاره بالنسبة لهم تعادل مكانة الإنجيل عند المسيحيين. وفلسفته كلّها تعتمد على القاعدة الذهبية التي تقول: ما لا تريد أن يُفعل بك، لا تفعله بالآخرين".
    حسب المصادر الصينية، وُلد كونفوشيوس وعاش في القرن السادس قبل الميلاد، أي انه كان معاصرا لكلّ من بوذا وسقراط ولمواطنه الآخر الفيلسوف لاو تزو.
    والملاحظ أن أفكار كونفوشيوس لم تُجمع إلا بعد وفاته. وحتى الغرب لم يعرفه إلا في القرن السابع عشر عندما بدأ اسمه وأفكاره في الظهور في بعض المصادر اللاتينية.
    لكن هناك من المؤرّخين من يشكّكون في وجود كونفوشيوس. فهو من وجهة نظرهم يظهر في الوثائق الصينية كشخص مثاليّ جدّا وأحيانا كبطل خارق للعادة. كما أن الكتابات المنسوبة إليه تثير أسئلة أكثر ممّا تقدّمه من إجابات، لأنها تنطوي على الكثير من عدم الاتّساق بحيث يُظنّ أن من كتبها هم مجموعة من الأشخاص وليس شخصا واحدا.
    ومع ذلك يظلّ كونفوشيوس أحد أهم المفكّرين في العالم، وسيظلّ الناس يردّدون حِكمه وأقواله التي أصبحت مشهورة على نطاق واسع مثل "المعرفة الحقيقية هي أن تعرف انك لا تعرف شيئا". و"إذا كنت أذكى شخص في الغرفة، فأنت في الغرفة الخطأ". و"لا تقلق من أن أحدا لا يعرفك، بل حاول أن تكون جديرا بأن تُعرف". و"لا تنشد صداقة أشخاص ليسوا بأفضل منك".
  • معظمنا سمع عن الملك الانجليزيّ آرثر وعن أساطيره التي يرِد ذكرها كثيرا في الكتب والروايات والأفلام.
    اسم آرثر يرتبط بأساطير كثيرة ومشهورة مثل سيّدة البحيرة وكأس المسيح، وأيضا الحروب التي يقال أن الملك خاضها ضدّ جيوش الساكسون. ولأن هذه القصص تشبه الفانتازيا التي يصعب تصديقها ولا يوجد ما يسندها أو يؤكّدها، فإن بعض المؤرّخين يشكّكون فيها ويرجّحون أن مصدرها الحكايات الشعبية التي كانت رائجة في انجلترا في القرن التاسع الميلاديّ.
    بل إن الشكوك تمتدّ إلى شخصية آرثر نفسه. والمشكّكون في وجوده يستحضرون اسم القائد الرومانيّ لوشيوس كاستوس على أساس انه الشخصية الأصلية. وبعض الأفلام السينمائية تقدّم آرثر بالفعل كجنديّ رومانيّ.
    وهناك من يقول أن آرثر ليس سوى ريوثاموس الملك الانجليزيّ في القرن الخامس الميلاديّ. ويرى هؤلاء أن من الصعب العثور على أدلّة تقود إلى آرثر التاريخيّ وأن ما نقرؤه عنه اليوم ليس سوى ضرب من الأساطير التي ابتدعتها مخيّلة الناس عبر القرون.
    لكن ممّا لا شكّ فيه أن شخصية آرثر والأساطير التي ارتبطت به أسهمت كثيرا في إثراء الأدب والفنّ وأصبحت جزءا من الوعي الجمعيّ للناس.
  • في القرن الرابع عشر، عاش في سويسرا رجل يقال له وليم تِل. وفي ذلك الوقت، كانت أسرة هابسبيرغ النمساوية تتولّى حكم ذلك البلد. وتذكر إحدى القصص أن قائدا نمساويا أقام عامودا في إحدى المدن السويسرية، ثم اصدر أمرا يفرض على كلّ سويسريّ، صغيرا كان أم كبيرا، أن يزيل قبّعته من على رأسه عندما يمرّ من أمام ذلك العامود.
    وفي احد الأيّام، مرّ بتلك الناحية فلاح يُدعى وليم تِل بصحبة ابنه الصغير. وقد رفض الفلاح بإصرار أن يزيل قبّعته، على اعتبار أن مثل ذلك التصرّف يمسّ بكرامته. فأخذ الجنود النمساويون ابنه ووضعوا على رأسه تفّاحة ثم أمروا الأب بأن يصوّب عليها، وإلا فإنه سيواجه عقوبة الإعدام.
    ولمّا كان وليم تل بارعا جدّا في الرماية، فقد نجح في إصابة التفّاحة دون أن يُلحِق بابنه أيّ أذى. ومن فوره قام بتشكيل فرقة صغيرة من المتطوّعين قاد بهم تمرّدا ضدّ الاحتلال النمساويّ.
    وقد شاع اسم وليم تِل كثيرا في أوربّا باعتباره محرّرا وطنيّا، ونُسجت عنه أساطير عديدة تزعم انه حارب أيضا مخلوقات خرافية. لكن بعض المؤرّخين اليوم يشكّكون في وجود هذا الرجل الذي يعتبره السويسريون بطلهم القوميّ.
    ويذهب هؤلاء إلى القول أن قصّته مستوحاة على الأرجح من أساطير بلدان شمال أوربّا، وأن الوطنيين السويسريين ربّما استوردوا هذه الشخصية أو ابتكروها كصرخة احتجاج ضدّ محتلّيهم النمساويين.
    لكن سواءً كان وليم تِل شخصا حقيقيّا أم خياليّا، فإن ممّا لا شكّ فيه انه دخل كتب التاريخ كبطل قوميّ لبلد طالما عُرف بميله للسلام وبُعده عن الثورات. وقد ألهمت شخصيّته العديد من الأعمال الفنّية والأدبية، فألّف الشاعر الألمانيّ شيللر مسرحية تتحدّث عن بطولاته. كما كتب الموسيقيّ الايطاليّ روسيني أوبرا استوحاها من قصّة حياته، وأصبحت مقدّمة تلك الأوبرا مشهورة جدّا في الموسيقى الكلاسيكية.
  • لو سألت أيّ شخص اليوم عن أشهر كتاب عن كيفية خوض الحروب والانتصار فيها لأجابك انه كتاب "فنّ الحرب" للكاتب الصينيّ صن تزو. يقال أن تزو كان قائدا عسكريّا ومحاربا قديما عاش في الصين. ومن القصص التي تُروى عنه انه قام بقطع رأس شخص كان ذا حظوة عند الإمبراطور لكي يُثبت لبقيّة الحاشية أن لا احد بمنأى عن العقاب عند الضرورة.
    غير أن أحدا لا يعرف اليوم الظروف التي ظهر فيها هذا الكتاب فجأة مكتوباً على مجموعة من ألواح البامبو، ولا مَن أمر بتأليفه. كما لا يوجد أيّ سجلّ عن كاتب باسم صن تزو. وأكثر من ذلك فإن قصّة قطعه رأس رجل الحاشية المسكين مشكوك فيها ويمكن أن تكون مجرّد أسطورة.
    والمشكّكون يفترضون أن صن تزو اسم مستعار وأن مضمون الكتاب المنسوب إليه قد يكون تجميعا لعدد من الدراسات والتجارب والنظريات العسكرية التي وضعها أشخاص متعدّدون في الصين القديمة.
    ومع ذلك، فإنه بعد مرور آلاف السنين على ظهور "فنّ الحرب"، ما يزال الناس في الشرق والغرب يقرؤون هذا الكتاب بسبب النصائح الجيّدة التي يتضمّنها. وعلى الأرجح فإن مادّة الكتاب ليست نتاج عقل رجل عسكريّ صارم أو مستبدّ، لأنه يمزج بين الحرب والاستراتيجيا والأخلاق والفلسفة بأسلوب سلس وينمّ عن ثقافة وتجربة وفكر.

  • Credits
    chicagotribune.com

    الجمعة، يوليو 20، 2018

    المشي مع التيّار


    تُعرّف عقلية القطيع على أنها ميل الأغلبية لأن يَتْبعوا، دون تفكير أو تساؤل أو مقاومة، رأي مجموعة صغيرة من الناس. والدراسات العلمية التي تناولت هذه الظاهرة تشير إلى أن الانقياد للحشد أو الجماعة هو سمة إنسانية غريزية.
    وطوال تاريخ الإنسان، كانت هناك مؤسّسات وأعراف راسخة تغذّي هذه العقلية وتكرّسها. تأمّل، مثلا، كيف أن شعوبا بأكملها انقادت لزعماء غامضين لسبب ما، جيّدا كان أم سيّئا. هتلر، مثلا، لم يكن محبوبا من جميع الألمان ولم يكن الألمان كلّهم أعضاءً في حزبه النازيّ. لكنه استطاع التأثير في أغلبيّتهم الذين تبعوه عندما حاول إخضاع أوربّا وخاض من اجل ذلك حروبا كارثية تسبّبت في موت عشرات الملايين من البشر ودمّرت أوطانا بأكملها.
    في الجيوش يُعلَّم الجند أن يكونوا منصاعين ومتماثلين، يلبسون نفس اللباس ويتّخذون نفس المظهر وحتى نفس طريقة المشي. كما أن على كلّ جنديّ أن يفعل ما يُطلب منه بشكل أعمى وألا يشكّك في رأي قادته. ولهذا السبب يوصف الجنود بالأبطال ويُعطََون البنادق والرصاص ويُشجَّعون على أن يقتلوا الآخرين.
    في الحرب العالمية الثانية، سُئل بعض الجنود عن أسباب إيغالهم في القتل، فقالوا إنهم تصرّفوا على ذلك النحو وهم لا يتصوّرون أبدا أنهم يمكن أن يمارسوا ذلك المستوى من التوحّش والساديّة في الظروف العاديّة.
    والحقيقة انه لا توجد نظريات علمية مؤكّدة تشرح لماذا يتصرّف البشر بأساليب تتناقض مع أخلاقياتهم ومعتقداتهم الأساسية. لكن هناك رأيا رائجا يقول إن الأفراد عندما يكونون جزءا من جماعة، فإنهم يمكن أن يتجرّدوا من سِماتهم الفردية ويفقدوا وعيهم بذواتهم الخاصّة، فيسيطر عليهم الحماس الانفعاليّ ويتورّطون في سلوكيات لا يمكن أن يفعلوها لو كانوا بمفردهم.
    هل هذا يعني أن البشر محكومون بأن يتصرّفوا كالسفّاحين أو كالحيوانات المتوحّشة والعنيفة؟
    ألا يستطيع الإنسان أن يفكّر لنفسه ولا يتبع الحشد أو الجماعة أو القطيع؟ الجواب: نعم يستطيع. وإدراك هذا الأمر كافٍ لوحده بأن يُحدِث التغيير المطلوب. لكن المشكلة أنك عندما ترفض الانصياع أو التماثل فإن دماغك سينبّهك إلى أن هذا خطأ، بل ويستحثّك على أن تُعدّل هذا سريعا.
    كيف؟
    بعض العلماء الذين تناولوا هذه الجزئية بالدراسة يعزونها إلى ما يُسمّى بدماغ الزواحف، أي ذلك الجزء من دماغ الإنسان الذي يختزن غرائزنا البرّيّة والذي ورثناه عن أسلافنا البدائيين وتطوّر منذ ملايين السنين، أي منذ كان انسجام الإنسان مع قبيلته مسألة حياة أو موت. وهذا الجزء مسئول عن أنماط السلوك الغريزيّ الذي يضمن للفرد البقاء وحفظ النفس ودوافع الإعجاب والحبّ والاهتمام والتصرّفات الاجتماعية المرغوبة ومواجهة التهديدات والأوضاع الخطيرة.
    عقلية القطيع تتخلّل العديد من مناحي الحياة المعاصرة. خذ مثلا الموضة. عندما نتذكّر الآن ماذا كان الناس يلبسون وكيف كانوا يبدون قبل ثلاثين عاما مثلا، فإننا نسخر من ذلك. لكن الموضة هذه الأيّام ليست بأفضل حالا، ولا يمكن لأحد أن يقرّر ما هو جذّاب اليوم من عدمه. هل أشكال اللباس وقصّات الشعر التي نراها هذه الأيّام جذّابة حقّا؟ ومع ذلك هناك اليوم الملايين من الناس الذين يرتدون ملابس وهيئات غريبة ويوصفون بأنهم عصريّون، فقط لأنهم يتبعون رغبات الآخرين.
    ذات زمن في الصين، كانت النساء ينتعلن أحذية ضيّقة من اجل تصغير أقدامهنّ، ويعانين كثيرا جرّاء ذلك. وبعضهنّ كنّ يُصَبنَ بالشّلل بقيّة حياتهنّ، لا لسبب وإنّما لأن مثل تلك الممارسات كانت تُعتبَر من ضروريات الجمال. لكن هل أفكارنا اليوم عن الجمال اقلّ غرابةً؟
    النساء اللاتي يظهرن في الإعلام هذه الأيّام وهنّ على وشك الموت جوعا لأنهنّ يحلمن بالنحافة، والأثداء الضخمة المحشوّة بالسالاين، والشفاه المكتنزة بالكولاجين، هل هي أكثر جمالا من أقدام الصينيات المشوّهة؟!
    هذه السلوكيات القاسية من تشويه وتجويع للأجساد بحثا عن معايير الجمال الغريبة، وأحيانا الشاذّة، دافعها هو عقلية القطيع ورغبة الناس وحاجتهم لأن يكونوا مقبولين اجتماعيّا.
    ويشبه هذا موقف بعض الناس الذين يسارعون لشراء أسهم شركة ما لمجرّد أن شخصا ما قال لهم إنهم سيكسبون، أو لأن بعضا ممّن حولهم فعلوا ذلك، متجاهلين مشاعرهم وتقييمهم الخاصّ للأمور.
    ذات مرّة، ظهر على التلفزيون قطيع كبير من الخراف وهي تتقافز واحدا تلو الآخر من أعلى جرف شاهق لتستقرّ في البحر تحتها. ولم ينجُ منها سوى اثنين، ليس لأنهما كانا ذكيّين، وإنما لأن الراعي انتبه متأخّرا للكارثة وأمسك بهما وهما مندفعان بسرعة باتّجاه حافّة الهاوية.
    إن الإنسان الحكيم لا يطمح لأن يكون خروفا، فالخراف ليست ذكيّة، وهي تفعل فقط ما يفعله أقرانها في القطيع.
    صحيح أن الإنسان كائن اجتماعيّ ويحبّ أن يُقدَّر وأن يقبله المجتمع، لكن لا يجب أن يكون ثمن توافقنا مع الآخرين التضحية بحاجاتنا ورغباتنا وآرائنا الشخصية والمشي مع التيّار في كلّ حين. وليس دليل صحّة، كما يقول كريشنامورتي، أن ترى نفسك متكيّفا مع جماعة معتلّة أو غير سويّة.
    في المرّة القادمة، عندما تتفرّج على مباراة لا تعتبرها جديرة أو مشوّقة، بينما الناس من حولك يتقافزون ويصفّقون بحماس، فاركد والزم مكانك واحتفظ بهدوئك حتى وإن حدّق فيك بعضهم بعيون متسائلة ومستنكرة. وتذكّر دائما أن القطيع يحتاج دائما إلى راعٍ. وإذا كان ولا بدّ، فحاول أن تكون أنت الراعي لا الخروف.

    Credits
    meaningfullife.com

    الخميس، يوليو 12، 2018

    إعرف نفسك

    "إعرف نفسك" عبارة مشهورة وفي نفس الوقت مثيرة للجدل لأكثر من سبب. أوّلا لأنه جرى تفسيرها بطرق مختلفة. وثانيا لأنه لا يُعرف على وجه اليقين من قالها، وإن كانت تُنسب غالبا لسقراط. وثالثا لأنه ما يزال يُستشهَد بها منذ أكثر من عشرين قرنا. ورابعا لأنها أصبحت، وبمعنى ما، تختصر العقل الغربيّ كلّه.
    لكن برأي الكثيرين، فإن هذه العبارة حُمّلت في تاريخ الفلسفة بأكثر مما تحتمل.
    في البداية، هناك اتفاق على أن عبارة "إعرف نفسك" كانت جزءا من عبارة أطول كانت منقوشة على مدخل معبد ابوللو في ديلفي في اليونان القديمة قبل أكثر من ألفين وثلاثمائة عام. لكن المعبد أصبح اليوم أطلالا. كما أن الحجر الذي كانت العبارة منقوشة عليه اختفى هو أيضا منذ زمن بعيد.
    ولأن ذلك المعبد كان محجّاً للناس في ذلك الوقت، فإن بعض المؤرّخين يرجّحون أن العبارة كُتبت لتنبيه المؤمنين إلى أن الله هو الذي يقرّر أقدارهم ومصائرهم، وبالتالي يتعيّن عليهم أن يعرفوا مكانهم الطبيعيّ والمتواضع في نظام الأشياء وخطّة الخلق.
    وهناك أيضا من ذهب إلى أن العبارة وردت على لسان الإله ابوللو مخاطبا الإنسان، ومِن ثَمّ يُحتمل أنها وردت في سياق كهذا: أنا الإله المتحكّم في كلّ شيء، أما أنت أيّها الإنسان فمخلوق فانٍ يدخل معبد الربّ خاشعا متذلّلا، لذا كن متواضعا واعرف نفسك". أي إلزم حدودك واعرف قدرك وتذكّر من أنت جيّدا.
    والعبارة بهذا المعنى ليست دعوة للإنسان للبحث عن المعرفة، ومنها معرفة نفسه، كما هو المعنى الشائع اليوم، وإنّما تذكير له بهشاشته وضعفه وقلّة حيلته في هذا الوجود.
    لكن سقراط وآخرين مثل فيثاغوراس وأفلاطون واسخيليوس تبنّوا معنى مغايرا للعبارة عندما اعتبروها دعوة للإنسان كي يعرف نفسه، أي يعرف أيّ نوع من الناس هو وما هي مواطن ضعفه وقوّته وماذا يريد وماذا يحبّ أن يكون .. إلى آخره.
    كان سقراط ورفاقه يستخدمون هذه العبارة كثيرا في حواراتهم ومجادلاتهم. وقد قال ذات مرّة أن من المضحك أن يحاول الناس معرفة أشياء غامضة قبل أن يحاولوا معرفة أنفسهم جيّدا.
    لكن بين هذين التفسيرين المتضادّين للعبارة، راجت في بعض الأوقات تفسيرات أخرى، منها واحد يقول أن المُراد من عبارة "إعرف نفسك" هو أن تعرف انك نفحة من روح الله، وبالتالي فأنت - كإنسان – ذو طبيعة مقدّسة.
    وهناك تفسير آخر لا يبتعد كثيرا عن السابق يقول: إن أردت أن تعرف شيئا من أسرار الله والكون، فاعرف نفسك. أي انظر عميقا في نفسك كي تعرف الله الذي يحيا فيك كما في سائر الكون.
    لكن برغم كلّ هذا التباين والاختلاف في تفسير العبارة، إلا أن هناك قاسما مشتركا بين جميع هذه التفسيرات. فهي كلّها تتّفق على أن معرفة النفس هي ما نحتاجه كي نصبح بشرا أفضل، بصرف النظر عمّا نعنيه بكلمة "أفضل".
    لكن لسوء الحظ فإن معرفة النفس هي من بين أصعب المهامّ وأعقدها. وهي أحيانا متعذّرة، لأن معظم معارفنا نكتسبها من أقاربنا وأصدقائنا ومن البيت والمدرسة والعمل والتلفزيون والانترنت وغيرها من المصادر. والكثير من هذه المعرفة هي مجرّد معلومات ومعطيات وتجارب، لكنها ليست "نحن" في النهاية.
    ذات مرّة قال احد الحكماء: إن مأساة الإنسان هي انه يظنّ انه يعرف". وقال آخر: كلما ازدادت معرفتنا، كلّما انكشف جهلنا". وقال ثالث: الحكمة الحقيقية الوحيدة في هذا العالم هي أن تعرف انك لا تعرف شيئا".
    وكما لو أن المسألة ليست صعبة وغامضة بما يكفي، فقد أضاف إليها الفيلسوف الصينيّ لاو تسو صعوبة أخرى عندما قال: الذين يعرفون لا يتكلّمون، والذين يتكلّمون لا يعرفون".

    Credits
    the-philosophy.com

    السبت، يوليو 07، 2018

    عن بوكاتشيو والقلوب المأكولة

    رواية "ديكاميرون" للكاتب الايطاليّ جيوفاني بوكاتشيو هي عبارة عن مجموعة من القصص التي تجري أحداثها في القرون الوسطى وتتناول أفكارا شتّى كالحبّ والغيرة والخيانة والوفاء والبطولة والخداع والانتقام وما إلى ذلك.
    في اليوم الرابع من وقائع هذه الرواية، يأتي الدور على فياميتا، إحدى الشخصيات الرئيسية، كي تحكي قصّتها. والمرأة تعتذر سلفا لرفاقها التسعة، لأنها ستقصّ عليهم حكاية حزينة ولا تبعث على السرور كما كانوا يتوقّعون.
    ثم تروي لهم قصّة امرأة تُدعى غيزموندا وشابّ اسمه جوسكاردو. كانت غيزموندا الابنة الأثيرة إلى قلب أبيها الكونت الايطاليّ تانكريدي أمير ساليرنو. كان يحبّها كثيرا ويأنس بقربها منه.
    ولفرط محبّته لها، لم يكن يرغب في أن يزوّجها لأحد. لكنه في النهاية يوافق على مضض على تزويجها من احد النبلاء. وبعد مرور وقت قصير، يموت ذلك الزوج، فتعود غيزموندا إلى قصر أبيها. ثم يأتي العديد من الخُطّاب لطلب يدها. لكن والدها لا يبدو في عجلة من أمره لتزويجها ثانيةً.
    ومع مرور الزمن، تبدأ الفتاة تعاني من آثار الوحدة. ثم تنشأ علاقة بينها وبين خادم في القصر يُدعى جوسكاردو. ويقرّر الاثنان أن يتزوّجا سرّاً. وعندما يعلم أبوها بالأمر يتملّكه الغضب لأن ابنته اختارت أن تقترن بخادم من أصول متواضعة ودون حتى أن تستشيره.
    وعندما يسألها عن العقاب الذي تختاره لجوسكاردو على فعلته، تبادر الفتاة إلى تذكير أبيها بأنه كان دائما يُثني على أخلاق الخادم، وأنها عندما اختارته زوجا فإنّما كانت ترى فيه ما كان يراه والدها.
    لكن الأب كان قد اضمر في نفسه أمرا. فأصدر تعليماته إلى رجاله بأن يقتلوا جوسكاردو وينتزعوا قلبه من جسده ثم يقدّموه إلى ابنته في كأس من ذهب.
    وينفّذ رجاله ما طلب منهم. وعندما يصل الكأس إلى غيزموندا وفيه قلب زوجها، تُصدم بقوّة وينخلع قلبها إذ تعرف بأن والدها قتل جوسكاردو. وبعد أن تستجمع قواها، تأخذ الكأس وبداخله قلب زوجها وتضيف إليه قطرات من السمّ ثم تشربه.
    وعندما يخبر الخدم والدها بما جرى، يهرع إليها ليتبيّن الأمر بنفسه. وفي لحظات احتضارها تقول غيزموندا لأبيها: لقد حصلتَ على ما كنت ترغبه بقتل زوجي، وكلّ ما أرغبه الآن هو أن اُدفن معه". ثم تموت وهي تضمّ الكأس إلى صدرها.
    بطبيعة الحال، كان حُزن والد غيزموندا كبيرا على ما حلّ بابنته. وقد أحسّ بكثير من الندم وبتأنيب الضمير، لكن بعد فوات الأوان. وفي النهاية، أمر بدفن الاثنين، غيزموندا وجوسكاردو، في قبر واحد.
    في هذه الحكاية المأساوية، هناك قلب عاشق يُستلّ من صدره بالمعنى الحرفيّ والوحشيّ للكلمة. وغيزموندا تغسل القلب بدموعها - بحسب بوكاتشيو - في فعل طقوسيّ يسبق انتحارها بتناول السمّ.
    صورة القلب المأكول تظهر في الأدب الايطاليّ حتى قبل رواية ديكاميرون. فهناك قصّة النبيل دي روسليوني الذي تبلغ وحشيّته منتهاها عندما يأمر بأن يُنتزع قلب عشيق زوجته من صدره بعد قتله ويُقدَّم كطعام للزوجة في وجبة أخيرة ومرعبة.

    وقد ساد اعتقاد بأن سياق هذه الصور المخيفة له جذور ثقافية وأنثروبولوجية عميقة. ومن حيث التسلسل الزمنيّ والجغرافيّ، يمكن أن يُعزى أصل هذا النوع من الممارسات الانتقامية المقزّزة إلى حكاية هندية.
    إذ يقال أن احد ملوك البنجاب القدامى، واسمه راسالو، تزوّج من امرأة تُدعى كوكلان. وكانت هذه المرأة مضرب المثل في الجمال. لكن حدث أن مهراجا شابّا يُدعى هوجي كان يسكن بجوارهم. وقد أُعجب الأخير بالمرأة ولم تلبث هي أن بادلته حبّا بحبّ.
    وعندما يعلم زوجها الملك بما حدث، يرسل إلى هوجي من ينصب له كمينا ويقتله. وتنفيذا لأمره، يقوم القاتل بحمل قلب المغدور إلى قصره. وعندما يصل، يأمر بأن يُطبخ ويُقدَّم إلى زوجته. وعندما تكتشف المرأة حقيقة ما أكلته للتوّ، تلقي بنفسها من أعلى القصر لترتطم بالصخور أسفله وتموت.
    أوجه الشبه بين قصّة بوكاتشيو والحكاية الهندية كثيرة. فعندما تُصدم كوكلان بحقيقة أنها أكلت قلب حبيبها، يردّ عليها راسالو قائلا: لقد أكلتِ لحم من كان مصدر سعادتك في الحياة". ويضيف: إن من منحَك المتعة عندما كان حيّا لجدير به أن يمتّعك أيضا عندما يموت".
    وأغلب الظنّ أن قصّة راسالو سافرت من الهند في وقت ما إلى جنوب فرنسا أوّلا، حيث تمّ تكييفها مع الثقافة المحليّة هناك. فالمهراجا هوجي يتحوّل إلى شاعر متجوّل باسم دي كابستانغ. وشخصية الملك راسالو تصبح اللورد ريمون دي روسيلوف. بل انه، وحسب بعض المؤرّخين، فإن اسم بلدة روسيلون الواقعة في بروفانس بفرنسا مشتقّة من اسم راسالو الهنديّ.
    قصّة غيزموندا وجوسكاردو جُسّدت كثيرا في الرسم. فنّان القرن السابع عشر الايطاليّ برناردينو ماي، والذي كان معاصرا للنحّات المشهور جيان لورنزو برنيني، رسم غيزموندا وهي ممسكة بقلب جوسكاردو الدامي وقد تجمدّت الدموع في عينيها، بينما تنطق ملامح وجهها بمشاعر الصدمة والفجيعة.
    والرسّام الانجليزيّ وليم هوغارث اهتمّ، هو أيضا، بالقصّة منذ أن ظهرت في انجلترا بصيغ مختلفة في القرن الثامن عشر. وازدادت شعبيّتها بعد أن تُرجمت في كتاب عن الأساطير قديما وحديثا.
    ولوحة هوغارث عن الحادثة تصوّر غيزموندا وبيدها الكأس الذي يحتوي على قلب زوجها. لكن لوحته انتُقدت بشدّة لأنها تخلو من أيّ إشارة إلى حزن المرأة أو دموعها أو ألمها المكبوت. كما أنها لا تتضمّن أيّ تأمّل عن المصير الذي تنتظره ولا الدفء العاطفيّ الذي حوّله يأسها إلى حزن مقدّس.
    في العالم المعاصر، ما تزال صور القلوب والأكباد المأكولة تظهر من حين لآخر، ليس في الروايات، وإنّما في مواقع الانترنت وأحيانا على شاشات بعض القنوات التي تتيح للناس رؤية هذه المناظر في بيوتهم.
    وهذا النوع من الوحشية المتجاوزة لا علاقة له بجرائم العاطفة، بل بشرور الحرب التي تجرّد، هي أيضا، البشر من إنسانيّتهم، وتوقظ الوحوش الكامنة في أعماقهم لتستثير شهوتهم في الانتقام وتُخرج أقبح ما في دواخلهم من غرائز بدائية ومشاعر مظلمة.

    Credits
    archive.org

    الخميس، يونيو 28، 2018

    روائيّون كولومبيّون غير ماركيز

    عُرف الأدب الكولومبيّ بتنوّعه وتغيّر مضامينه وأغراضه بحسب التحوّلات والتغييرات التي رافقت تاريخ البلاد. أثناء الاستعمار الاسبانيّ، كان الموضوع الأساسيّ هو الدين. وفي العصر الحديث، أصبح هذا الأدب أكثر تنوّعا من حيث الأفكار والقضايا التي يتناولها.
    غابرييل غارسيا ماركيز هو الوجه العالميّ الأبرز للأدب الكولومبيّ خلال العقود الأخيرة. وقد كتب أهمّ وأشهر روايتين كولومبيتين في العالم، هما "الحبّ في زمن الكوليرا" و"مائة عام من العزلة".
    لكن الشهرة الطاغية لماركيز حجبت إبداع كتّاب آخرين من كولومبيا أنتجوا، هم أيضا، أدبا مهمّا ويستحقّ الإشادة. وبعض هؤلاء بقوا في كولومبيا وتحمّلوا العنف، بينما هاجر آخرون قبل أن تتشكّل ذكرياتهم عن هذا البلد. بعضهم من بوغوتا البعيدة، والبعض الآخر من المناطق الساحلية أو من كالي أو ميديين.
    وفي الحقيقة فإن الأدب الكولومبيّ يتجاوز نطاق "الواقعية السحرية"، فبعض القصص فيه تجري أحداثها عند أطراف عالمنا، بينما تروي قصص أخرى التفاصيل الحقيقيّة للعنف الذي شهدته البلاد في العقود الأخيرة. والمواضيع تتراوح بين الحنين إلى الماضي وإبداء التذمّر والاستياء من أحوال الحاضر.
    وهناك عدد من الكتّاب الكولومبيين المعاصرين، غير ماركيز، ممّن أسهموا وما يزالون في إثراء المشهد الأدبيّ في ذلك البلد الذي قاتل من اجله ذات زمن الكولونيل اوريليانو بونديا الذي خلّده غارسيا ماركيز في تحفته "مائة عام من العزلة".
    ومن أهمّ هؤلاء الكاتب هيكتور فاشيولنسا المولود في مدينة ميديين. وكان هذا الروائيّ قد كتب مقالا في وقت سابق من هذا العام يشرح فيه لماذا دعَم عملية السلام. وحظي مقاله بانتشار واسع، بل وبموافقة من الروائيّ والسياسيّ البيروفي ماريو فارغاس يوسا الذي أكّد بأن عملية السلام في كولومبيا تستحقّ المحاولة.
    وقد خَبِر فاشيولنسا العنف في كولومبيا بشكل شخصيّ ومباشر. فقد قتل جنود غير نظاميين والده عام 1987 لاعتراضه الصريح على جرائم الحرب التي كانت تُرتكب في مناطق الأرياف. وأشار الكاتب إلى تلك الحادثة في قصّته المشهورة "النسيان" التي اقتبس عنوانها من قصيدة لبورخيس كان والده يخبّؤها في جيبه عندما أُطلقت عليه النار.
    ويتحدّث فاشيولنسا في كتاب آخر له عن مجتمع ميديين من خلال علاقة إحدى العائلات بمنزلهم الريفيّ. وفي رواية أخرى له بعنوان "انغوستا" كتبها عام 2005 وفازت بأكثر من جائزة، يسرد الكاتب قصّة قرية خيالية بهذا الاسم تقع في وسط جبال الانديز وتشبه قرية ماركيز المتخيّلة "ماكوندو". وأنغوستا هي من عدّة أوجه صورة مصغّرة لكولومبيا نفسها. وقد فازت النسخة الصينية من هذه الرواية بجائزة أفضل رواية مترجمة في الصين عام 2005.
    وهناك كاتب آخر هو سانتياغو غامبوا الذي يُعتبر احد أشهر الأسماء في الأدب الكولومبيّ المعاصر. وهو أيضا صحفيّ. وقد تلقّى تعليمه في مدريد وباريس. وتجاربه التي مرّ بها في أوربّا قادته لأن يكتب "متلازمة أعراض اوليس"، وهي رواية تُذكّر بباريس كما رسمها خوليو كورتاثار قبل سنوات عندما وصفها بأنها كئيبة وممطرة وباردة وغير مضيافة.
    رواية غامبوا تتناول قصصا عديدة عن المهاجرين وتحكي علاقتهم بأوطانهم الأصلية وبالبلدان المضيفة، وكيف أن كون المرء أجنبيا يستلزم إعادة تحديد شخصيّته وقناعاته.
    أما روايته الأخرى "صلوات الليل" فهي عبارة عن سرد للعلاقة بين شقيقين من عائلة واحدة، وأحداثها تجري بين كولومبيا وتايلاند واليابان والهند.
    هناك أيضا الكاتب الفارو موتيز "الصورة"، وهو شاعر وروائيّ وكاتب مقالة، وسبق أن نال عدّة جوائز. وقد وصفه غابرييل غارسيا ماركيز ذات مرّة بأنه "احد أعظم الكتّاب في عصرنا". موتيز توفّي عام 2013، وإحدى أشهر رواياته عنوانها "تنوّع إبداعيّ". وقد فَتَن احد أبطالها، وهو ماكرول فييرو، مخيّلة محبّي الأدب في أمريكا اللاتينية. وماكرول يسافر إلى الأمازون ويتوقّف في بنما ويعبر جبال الانديز ويبحر في الكاريبي ثم يواصل رحلته إلى أن يصل إلى البحر المتوسّط.
    والأشخاص الذين يسافر معهم متنوّعون، منهم قبطان هولنديّ يعاني من الاكتئاب، وامرأة من سكّان تريستا الأصليين، بالإضافة إلى رفيقه اللبنانيّ الذي يحلم بامتلاك سفينة. والتنوّع في الأماكن والشخصيات تتخلّله قصص عن تجارة السلاح ومغامرات البحث عن الكنوز والذهب.
    وهناك أيضا الكاتبة لورا ريستريبو التي اشتُهرت بروايتها "الهذيان" التي تسرد فيها قصّة زوجة تصاب بالجنون ويحاول زوجها معرفة ماذا حدث لها. ثم يدرك أن ما أصابها له ارتباط بالتاريخ العنيف لكولومبيا وبالأفكار المتوارثة من زمن الاستعمار كالطبقية والذكورة. وقد نالت الكاتبة عن هذه الرواية جائزة أدبية عام 2004.
    وهناك أيضا الكاتب انطونيو كاباليرو المعروف في كولومبيا بأعمدته الصحفية المعمّقة وبأعماله الروائية. روايته بعنوان "بلا علاج" تتناول انطباعاته عن لحظة من تاريخ كولومبيا. وبطل الرواية كاتب من بوغوتا يبحث عن إلهام خارجيّ، لكنه في النهاية يتأثّر بالظروف السائدة في مدينته.
    وفي العادة فإن معظم الأدب في كولومبيا يميل إلى تفسير أحداث البلاد من منظور الريف، لكن هذا الكتاب يتناول تلك الأحداث برؤية مختلفة ويستحضر مدينة بوغوتا التي تُعتبر أحيانا جزيرة داخل بلد.
    وأخيرا هناك الكاتب خوان فاسكيز الذي تتّسم كتاباته بنكهة خاصّة. روايته "صوت الأشياء المتساقطة" تحكي معظم تاريخ كولومبيا من خلال قصّة حياة بطلها وهو أستاذ جامعيّ يُدعى يامارا. والتاريخ المشترك في الرواية يتمحور حول تجارة المخدّرات وما تبعها من أحداث العنف الذي زرع بذوره بارون المخدّرات المشهور بابلو اسكوبار.

    Credits
    theculturetrip.com

    الأربعاء، يونيو 20، 2018

    رسالة الزعيم


    كان "سياتل" احد أشهر زعماء الهنود الحُمر في أمريكا في القرن التاسع عشر. وكانت له مكانته الرفيعة بين أفراد قبيلته المسمّاة "سوكواميش". كان معاصروه يلقّبونه بـ "الرجل الكبير" لشجاعته وحكمته. وقد أُسميت مدينة سياتل في ولاية واشنطن على اسمه.
    وكثيرا ما يقترن اسم هذا الزعيم برسالة مشهورة بعثها عام 1854 إلى الرئيس الأمريكيّ وقتها فرانكلين بيرس بعد أن طلب منه الأخير أن يبيع بعض أراضي قومه إلى المستعمرين الأوربّيين الجدد.
    وقد ردّ الزعيم سياتل على ذلك الطلب بهذه الرسالة التي أصبحت مشهورة جدّا، وفيها يدعو بيرس إلى احترام حقوق شعبه من السكّان الأصليين وإلى الحفاظ على البيئة الطبيعية والحياة الفطرية في مناطقهم.

    "استلمنا خطابكم الذي تُبدون فيه رغبتكم بشراء بعض أراضينا. لكن كيف يمكنك أن تبيع أو تشتري السماء أو الأرض؟!
    إن فكرتكم تبدو لنا غريبة. فإذا لم تكن تملك الهواء أو الماء، فكيف بإمكانك أن تشتريهما؟ إن كلّ ذرّة من هذه الأرض مقدّسة بالنسبة لشعبي. كلّ شجرة صنوبر، وكلّ شاطئ رمليّ، وكلّ قطرة ندى في غابة، وكلّ مرج، وكلّ طائر وحشرة لها قدسيّتها في حياة وذاكرة شعبي.
    إننا نعرف نسَغ الحياة الذي يسري في أديم كلّ شجرة في أرضنا كما نعرف الدم الذي يجري في عروقنا. ونحن جزء من هذه الأرض وهي جزء منّا. إن الأزهار والدببة والغزلان والنسور العظيمة، هذه كلّها بمثابة إخوة لنا. وقمم الجبال والندى في المروج والجياد البرّية والإنسان، كلّها تنتمي إلى نفس العائلة.
    إن الماء الذي يجري في الجداول والأنهار ليس ماءً فقط، بل هو دماء أسلافنا الأوّلين. فإذا تعيّن علينا أن نبيعكم بعض أرضنا فيجب أن تتذكّروا أنها مقدّسة، وأن خرير مياه أنهارنا هو صدى لأصوات أسلافنا الأقدمين، وأن كلّ قطرة ماء صافية في بحيرة أو نهر أو جدول تتضمّن حدثا أو ذكرى في حياة شعبي.
    إن الأنهار جزء لا يتجزّأ منّا وهي لنا بمثابة الأمّ الرءوم، فهي تروي عطشنا وتحمل قواربنا وتُطعم أطفالنا. لذا يجب أن تمنحوها الحبّ الذي تمنحونه لأيّ أخ أو قريب.
    وإذا توجّب علينا أن نبيعكم بعض أرضنا فتذكّروا أيضا أن الهواء ثمين جدّا بالنسبة لنا، وأن روحه كامنة في جميع أشكال الحياة التي يدعمها.
    إن الرياح هي التي منحت جدّنا الأكبر نفخة الحياة الأولى، وهي أيضا التي استقبلت أنفاسه الأخيرة، وهي التي تمنح أطفالنا روح الحياة. لذا إذا بعناكم بعض أرضنا، فيجب أن تحافظوا على قدسيّتها كمكان يمكن للإنسان أن يذهب إليه كي يتنفّس عبير الرياح المعطّرة بأزهار المروج.
    هل ستعلّمون أطفالكم ما علّمناه نحن لأطفالنا؟ أن الأرض أمّنا وأن ما يحلّ بها يحلّ بكافّة أبنائها؟
    إننا نعرف أن الأرض لا تنتمي إلى الإنسان، بل الإنسان هو الذي ينتمي إلى الأرض، وأن جميع الأشياء مرتبطة ببعضها كالدم الذي يوحّدنا جميعا، وأن الإنسان لم ينسج بنفسه خيوط شبكة الحياة، بل هو فقط خيط منها. وأيّا كان ما يفعله بهذه الشبكة، فإنه يفعله بنفسه.
    إننا نعلم أن إلهنا هو نفس إلهكم وأن الأرض ثمينة وعزيزة عليه، وإلحاق أيّ أذى بها هو احتقار لخالقها.
    إن قدَركم غامض بالنسبة لنا. فما الذي سيحدث عندما تُذبح جميع الجواميس وتُروَّض أو تُصطاد جميع الجياد البرّية؟
    وما الذي سيحدث عندما تختلط الأطراف الخفيّة في الغابات بروائح بشر كثيرين، وعندما تحاط التلال اليانعة بالأسلاك الشائكة؟ ما الذي سيحلّ بالأدغال وأين ستذهب النسور؟ ستختفي! وستكون تلك نهاية الحياة والأحياء.
    عندما يختفي آخر هنديّ احمر من على هذه الأرض وتصبح ذكراه الوحيدة هي ظلّ غيمة تتهادى فوق البراري، هل ستبقى هذه الشطآن والغابات هنا؟ وأيّ اثر سيبقى من أرواح شعبي؟
    إننا نحبّ هذه الأرض كما يحبّ الطفل الرضيع ثدي أمّه. لذا إن اضطُررنا لأن نبيعكم بعض أرضنا فنرجو أن تحبّوها كما أحببناها، وأن تهتمّوا بها كما اهتممنا بها، وأن تحفظوا في عقولكم ذكرى هذه الأرض وتحافظوا عليها كما استلمتموها.
    حافظوا عليها من اجل جميع الأطفال وأحبّوها كما يحبّنا الله".

    Credits
    patheos.com

    الثلاثاء، يونيو 12، 2018

    الحديقة اليابانية

    في عام 1883، انتقل الرسّام كلود مونيه إلى بلدة جيفرني في الريفييرا الفرنسية، واشترى هناك بيتا. ثم ألحق بالبيت أرضا قريبة وحوّل إليها ساقية ماء متفرّعة عن نهر في الجوار.
    وشيئا فشيئا، تحوّلت الحديقة إلى مصدر إلهام له، فرسم سلسلة من اثنتي عشرة لوحة تضمّنت جميعها مناظر للجسر والبركة اليابانيتين وأزهار سوسن الماء وغيرها.
    وسجّل مونيه في تلك اللوحات تأثيرات الضوء والظلّ واللون، على عادة الانطباعيين. وكتب بعض النقّاد وقتها أن مونيه نقل في لوحاته تلك انطباعا عن منطقة تأمّلية وحالمة تذكّر بأشعار ستيفان مالارميه وغيره من شعراء الأدب الرمزيّ.
    كان مونيه دائما مفتونا بانعكاسات الغيوم التي تظهر على الماء كالمرايا السائلة. والجوّ الشرقيّ للحديقة واضح من نوعية النباتات التي اختارها، كالبامبو والسنديان وغيرهما.
    كان فخورا بالحديقة، يستقبل فيها الزوّار ويقضي فيها ساعات للتأمّل. واليوم أصبحت مقصدا للزوّار من محبّي الفنّ والنباتات.
    وفي الحقيقة كان مونيه يمتلك حديقتين متلاصقتين، وكلاهما تضمّان عناصر يابانية. ولكن إحداهما، أي الحديقة المائية التي تتضمّن جسرا يابانيّا وبركة ماء وأزهار سوسن، هي المشهورة وهي التي تظهر في لوحاته.
    وقد قام اليابانيّون باستنساخ نسخة مكبّرة من حديقة مونيه واختاروا لها مكانا في قرية كيتاغاوا المليئة بالطبيعة والواقعة في إقليم كوشي، وأسموها حديقة مونيه. وهي المكان الوحيد الذي سُمح له باستخدام اسم الرسّام. وقد ضمّنوا الحديقة نسخا صغيرة من لوحات الرسّام، وأشهرها سلسلة سوسن الماء.
    كان مونيه شغوفا بالحدائق والرسوم اليابانية. ولطالما عبّر عن إعجابه بطريقة بناء اليابانيين للجسور فوق برك الماء، ثم طبّق هذا الأسلوب في حديقته.
    لكن لماذا أصبحت الحدائق اليابانية مشهورة ومفضّلة في العديد من أنحاء العالم؟
    أوّلا لا بدّ من الإشارة إلى أن اليابانيين جلبوا فنّ تصميم الحدائق من الصين بعد أن أصبحت تقاليد الصينيين في تخطيط الحدائق مشهورة على نطاق واسع. وأوّل حديقة أُنشئت في اليابان كانت في جزيرة هونشو في وسط البلاد. وكانت تحمل سمات ومعالم تلك الجزيرة، كالأنهار الجبلية والوديان الضيّقة والشلالات والبحيرات والحجارة الصغيرة، بالإضافة إلى الكثير من أنواع الأزهار والأشجار.
    وكما هو متوقّع، تأثّرت الحدائق اليابانية بالفلسفات الصينية المنشأ كالطاوية والبوذية اللتين وصلتا إلى اليابان قبل حوالي ثلاثة آلاف عام.
    وفنّ تصميم الحدائق على الطريقة اليابانية له جماليّاته الخاصّة وأفكاره الفلسفية، ومن أهمّها التأكيد على جمال الطبيعة وتجنّب الإفراط في الزينة.
    كان من عادة اليابانيين منذ القدم أن يضعوا في حدائقهم أشجارا قديمة ونباتات مهترئة أحيانا، للإيحاء بالطبيعة القديمة والنائية وللتعبير عن هشاشة الوجود ومرور الزمن وتعذّر إيقافه.


    وأهميّة الحدائق بالنسبة لليابانيين تأتي من معتقدات دينية وكذلك من احترامهم العميق للطبيعة. وهذا الاحترام يعكسه تصميم الحديقة التي يُفترض أن تبدو نسخة عن العالم خارجها، وإن على نطاق ضيّق. أي أن الحديقة يجب أن تكون صورة مصغّرة للطبيعة التي وراءها. ويمكن القول أن أيّ شيء موجود في الطبيعة يمكن استنساخه في الحديقة مع قدر من التغيير والتعديل.
    ولا يمكن إغفال الجانب الرمزيّ في تخطيط الحديقة، فمثلا الحجارة الضخمة ترمز للجبال، والبرك ترمز للبحيرات .. وهكذا.
    وتصميم الحديقة اليابانية أصبح أشبه ما يكون بالأيقونة. وهناك قواعد خاصّة يجب على المصمّم مراعاتها، وبدونها ستبدو الطبيعة فيها خالية من الأهمية ولا توحي بالهدوء والرهبة.
    وكلّ عنصر في الحديقة له غرض ومعنى. الماء، مثلا، عنصر مهمّ جدّا في الحديقة اليابانية، فهو تعبير عن الطبيعة ورمز للتجدّد والنماء والهدوء. والبرك والشلالات الصغيرة تُعطى أولوية في التصميم، لأنها تحافظ على نقاء الهواء خاصّة في فصل الصيف. وهناك أسطورة يابانية قديمة تشبّه التلّ بالإمبراطور والماء برجال الحاشية والحجارة بالعسكر الذين يمنعون الحاشية، أي الماء، من التدخّل أكثر ممّا ينبغي في حياة الإمبراطور.
    هناك أيضا الحجارة، وهذه لها أهميّتها في الفلسفات الشرقية عموما. فهي رمز للحضور المتعدّد لقوى الطبيعة. فهي تثبّت الحديقة في الأرض وتمنحها شخصيّتها الخاصّة. وعادة ما توضع الحجارة في الحديقة وفق نظام صارم وطبقا لأشكالها ومقاساتها. وهي توضع حسب توافقها في الشكل أو تباينها. والحجارة تخلق إحساسا بالارتياح، كما أنها تحدّد شكل التلال والشلالات والجداول والبرك في الحديقة.
    ونوعية الحجر المستخدم هي احد العناصر المهمّة في تصميم الحدائق اليابانية. وبعض اليابانيين يستخدمون حجارة نادرة، والبعض الآخر يكتفون بالحجارة العاديّة.
    وهناك أيضا المصابيح. فمع ظهور تقاليد الشاي في الثقافة اليابانية، أصبحت المصابيح عنصرا مهمّا في تخطيط الحديقة اليابانية. والغرض الأساسيّ منها هو إنارة طريق الزوّار أثناء المناسبات الليلية. كما أن المصباح في التقاليد اليابانية رمز لنور المعرفة الذي يبدّد غيوم الجهل. ووضع مصباح بالقرب من الماء يوفّر عنصر تباين معماريّا مع العناصر الطبيعية الأخرى للحديقة.
    وهناك أيضا عنصر آخر مهمّ يتمثّل في الجسور. فالجسر يمكن أن يجلس عليه الأشخاص ليتأمّلوا جمال الطبيعة المحيطة ويستمتعوا بعذوبة النسيم. والجسر قد يكون مصنوعا من الخشب أو البامبو أو الحجارة. وأيّا كان شكله، فإنه يضفي على طبيعة الحديقة نوعا من التناغم والانسجام.
    وهناك أيضا النباتات. واليابانيون معروفون من قديم بقدرتهم الطبيعية على ترجمة سحر الأزهار والنباتات بحيث تعبّر عن أفراحهم وأحزانهم. واهتمامهم بعالم النبات يكاد يكون نوعا من الشغف الحقيقيّ.
    والنباتات تقليديا ترتبط بالأفكار المتغيّرة والأشكال العامّة للحياة. ومن النباتات التي يهوى اليابانيون رؤيتها في حدائقهم ثمرة الغبيراء، وهي كتلة من الأزهار البيضاء التي ترمز في تلك البلاد إلى الشباب.
    وهناك أيضا الصنوبر الذي يضفي حميمية إلى الحديقة ويوفّر للزوّار جوّا هادئا يصرفهم عن صخب الخارج. وهناك أيضا اللوتس، وهو أزهار مقدّسة ويسمّيها اليابانيون زهرة بوذا. وهذه الزهرة عندما ترتاح فوق سطح الماء فإنها توفّر طقسا مثاليّا للتأمّل، وهي معروفة بظلالها البيضاء والوردية.
    الحديث عن الحدائق اليابانية لا يمكن أن يغطّيه موضوع واحد. وربّما يكون لنا عودة أخرى للحديث عنها بشكل أكثر استفاضة. لكن يمكن القول في الختام أن تصميم الحدائق اليابانية ينطوي على الكثير من الفنّ والفلسفة. وتصميم حديقة يابانية ليس أمرا ثابتا كما انه لا ينتهي أبدا. والسبب ببساطة هو أن الحدائق تتغيّر باستمرار مثلما تتغيّر الطبيعة نفسها.

    Credits
    edenproject.com

    الجمعة، يونيو 01، 2018

    رسّام أضواء الشمال


    عاش الرسّام النرويجيّ بيدر بالكا في القرن التاسع عشر وجسّد في لوحاته البعد الرمزيّ للحركة الرومانسية، مع مسحة تعبيرية لم ينافسه فيها أيّ من معاصريه من الرسّامين.
    وقد صوّر بأسلوبه الخاصّ الجمال الفطريّ لبلده النرويج في لوحات دراماتيكية ترفض الفنّ الفيكتوريّ لصالح تبسيط الشكل واللون.
    كان بالكا قد نُسي تماما بعد وفاته. لكن في السنوات الأخيرة أعيد اكتشافه من قبل خبراء الفنّ وجامعي الأعمال الفنّية.
    كان هذا الرسّام شخصا مغامرا وأحد الفنّانين القلائل الذين غامروا بالذهاب إلى الدائرة القطبية. وقد رأى وهو شابّ الجدار الصخريّ الضخم المسمّى بالقطب الشماليّ ورسم طوال حياته المشاهد المتجمّدة في الأطراف القصيّة من النرويج.
    خيال بالكا مليء بالثلج ومتجمّد في تأمّل شيء ما عند أطراف التجربة الإنسانية. والبشر نادرا ما يظهرون في صوره. فقط السفن المحطّمة والبلدات الثلجية التي ترمز لحياة الإنسان.
    كان يرى في شمس منتصف الليل حاجزا صامتا وحَدّاً أخيرا للمعرفة والاستكشاف، وخلف ذلك الحدّ لا يوجد شيء. وعندما كان يقف محدّقا في الثلج، كان يشعر وكأنه واقف أمام نهاية العالم. السماء فوق الصخور خاوية بشكل مخيف، والبحر يمتدّ في فراغ لا إنسانيّ.
    والرسّام يترجم أحاسيسه إلى صور موحشة تتضمّن بضعة عناصر متكرّرة: الجبال والشواطئ والسماء والبحر.
    في ما بعد، عندما أصبحت ذكرى تلك المشاهد بعيدة عن ذهنه، أصبح من السهل عليه استدعاؤها وعكسها في صوره بطريقة أكثر تجريدا. فهو يرسم الجبال الثلجية الشاهقة والمنحدرة وكأنها معلقة فوق الشطآن التي تحتها، ويرسم الشمس ككرة من نار في سماء صفراء.
    ومثل هذه الرؤى المزعجة تشبه تلك التي رسمها سلفه الألمانيّ كاسبار فريدريش، الرومانسيّ الذي رسم هو أيضا الطبيعة باردةً ومخيفة. وبالنسبة لهذين الرسّامين، فإن الطبيعة هي رمز سيكولوجيّ. وتماهي بالكا مع المناظر المتطرّفة يوصل شعورا بعزلة لا نهاية لها. ولهذا السبب، ربّما، لم تبع لوحاته المقفرة جيّدا عندما كان حيّا.


    وعندما مات بالكا في نهاية القرن قبل الماضي، كان الشابّ إدفارد مونك قد بدأ يرسم لوحاته التعبيرية عن سماوات وبحار النرويج غير الحقيقية. وفي الحقيقة كان مونك يكمل الرحلة التي كان قد بدأها بالكا إلى القطب الشماليّ والتي تشبه رحلة داخلية إلى نهايات الليل.
    عاش بالكا في زمن كانت الثورات فيه تلوح في الأفق والمشاعر القومية في ازدياد وعصر الاستكشاف في ذروته. وقد أنتجت تلك البيئة المضطربة ما عُرف بفنّ التسامي، أي الخوف من قوى الطبيعة الذي يقود الإنسان إلى نسيان نفسه كليّا أمام سطوة الطبيعة وجبروتها.
    كان بالكا تلميذا ليوهان دال. ومثل الفنّانين الآخرين، تبع التلميذ خطى معلّمه وأصبحت لوحاته صدى للوحات أستاذه، حيث مناظر الأشجار الداكنة والسفن المحطّمة في طبيعة ثلجية كئيبة ومتمنّعة.
    كانت المناطق القطبية الخطيرة تحتلّ جزءا كبيرا من الرسم الرومانسيّ، وكانت أشبه ما تكون بالمتاهات المظلمة. وأكثرها لم يكن قد اكتُشف بعد، كما كان ارتيادها في القرن التاسع عشر يشبه ارتياد الفضاء في القرن العشرين. وقد جلب ذلك كثيرا من الإثارة والمخاوف.
    في ما بعد، أصبحت رسومات بالكا مختلفة، صارت تشبه الألوان المائية الصينية بظلالها الضبابية وجبالها الطافية التي تحلّق كممالكَ في السماء. وحتى بحاره أصبحت مظلمة ومليئة بالدراما والعنف.
    ويبدو أن الرسّام لم يجد صوته الخاصّ أبدا. لكن انجازاته تتمثّل في حقيقة انه لم يتوقّف مطلقا عن النظر إلى الأشياء من حوله. لكن المؤسف أن سمعته كفنّان تلاشت بعد موته دون أن يترك أثرا في بلده أو في العالم. واستمرّ هذا الحال حتى السنوات الأولى من القرن العشرين عندما عاود فنّه الظهور على الساحة العالمية.
    في هذه الأيّام، يبدو العالم منشغلا كثيرا بمستقبل القطب الشماليّ. وهناك قلق كبير بسبب ذوبان الثلوج في تلك الأماكن. وفي زمن الرسّام لم يكن الناس قد سمعوا بعد بالتسخين الحراريّ، ولم يكن لديهم معلومات دقيقة عن المحيط القطبيّ.
    كان بيدر بالكا إنسانا محبّا للطبيعة. ولوحاته كانت جديرة بالثناء، وحياته كانت تستحقّ الإعجاب. وعندما تقرأ مذكّراته التي كتبها قبل رحيله، لن يساورك شكّ أبدا في أنه كان إنسانا عظيما وأن معظم الناس يودّون لو عرفوه لتواضعه وشجاعته وخياله الواسع.

    Credits
    independent.co.uk

    الخميس، مايو 24، 2018

    جيروم والنمر


    القصص التي تتحدّث عن الارتباط الوجدانيّ بين الإنسان والذئب كثيرة. وربّما يعود سبب هذا الارتباط إلى حقيقة أن الذئاب جزء من آثار العالم القديم والمندثر عندما كان الإنسان واقعا بالكامل تحت رحمة الطبيعة وعاجزا عن السيطرة على قواها القاهرة.
    وغالبا ما تقترن الذئاب بالحياة في الصحاري والجبال التي تذكّر الإنسان بأسلافه الأقدمين وبخلود العالم. ولهذا السبب أصبح هذا الحيوان رمزا لاستمرارية الوجود الإنسانيّ وديمومة الحياة على الأرض.
    وفي مقابل وفرة القصص التي تحكي عن العلاقة بين الإنسان والذئب المعروف بقابليّته للاستئناس، لا تتوفّر قصص مشابهة عن حيوان كالنمر، مثلا، لسبب واضح. فالنمر حيوان متوحّش جدّا، وهو الحيوان الوحيد الذي لا يمكن للإنسان أبدا أن يروّضه أو يأمن شرّه.
    وحكايات الرحّالة الأوائل الذين لم يروا النمر تُصوّره على انه مخلوق خياليّ لا يختلف كثيرا عن التنّين. وبالنسبة للأوربّيين، ، كان النمر، وحتى القرن الثامن عشر، ما يزال أشبه ما يكون بالأسطورة، إذ لم يكن احد قد رآه عيانا. والصورة الوحيدة المتوفّرة عنه مصدرها كتاب مصوّر عن هيئات الحيوانات يعود تاريخه إلى القرون الوسطى.
    والفنّانون الذين رسموا النمر تخيّلوه في هيئة حيوان عنيف وشرس جدّا؛ أكثر شراسةً حتى من الأسد. أما الهنود والكوريون والصينيون فقد عرفوه منذ أقدم الأزمنة. والكوريون يعتبرون النمر حيوانا مقدّسا، وظهوره في مكان ما يُعدّ بشارة خير وعلامة فأل.
    الرسّام الاستشراقي الفرنسيّ جان ليون جيروم رسم في عام 1882 لوحة بعنوان أحزان الباشا، استوحاها من قصيدة كان قد قرأها لمواطنه الروائيّ فيكتور هيغو بنفس العنوان.
    والقصيدة تتحدّث عن باشا تركيّ كان قد استأنس نمرا واحتفظ به في قصره إلى أن مات "أي النمر". ويصف الكاتب الباشا وهو جالس أمام الحيوان الميّت وقد علت وجهه أمارات الألم والحزن.
    كان جيروم نفسه قد طاف ببلاد الشرق وسجّل في العديد من لوحاته بعض المناظر التي رآها في رحلاته الكثيرة إلى مصر وتركيا وغيرهما. وبعض تلك اللوحات تصوّر مشاهد صراع دامٍ حتى الموت بين بشر وحيوانات مفترسة.


    في "أحزان الباشا"، نرى الرجل التركيّ جالسا يتأمّل في صمت نمره الميّت المتمدّد على السجّادة التي تناثرت فوقها الورود الحمراء. اللوحة صغيرة نسبيّا، لكنها تعكس حالة غريبة ونادرة من التعاطف بين الإنسان وحيوان يصعب تصوّر أن يتمّ ترويضه أو أن تنشأ بينه وبين البشر علاقة ودّ وألفة.
    علماء الحيوان يقولون إن من عادة النمر أن يستبدّ به الغضب عندما يرى أيّ كائن حيّ يتحرّك بالقرب منه. وحتى لو عومل معاملة حسنة فإنه لا يتردّد في تمزيق اليد التي أطعمته. وكلّ مؤرّخي الطبيعة تقريبا مجمعون على هذه السمة العدوانية في سلوك هذا الحيوان.
    كما أن النمر معروف بطبيعته الأنانية، فعندما يقتل فريسة فإنه لا يأكلها في نفس المكان، بل يسحبها بسرعة إلى داخل الغابة حيث يمكنه أن يلتهمها هناك بمفرده ودون أن يُشرك معه حيوانا آخر.
    لكن النمر في لوحة جيروم مختلف، فهو مصوّر بطريقة رائعة وكأنه خارج لتوّه من حكاية شرقية قديمة. وبعض مؤرّخي الرسم رأوا في اللوحة ما يشبه النبوءة بقرب أفول شمس الإمبراطورية العثمانية.
    وأيّا تكن الرسالة، فإن جان ليون جيروم نجح في نيل استحسان النقّاد في زمانه، الذين أشادوا بمقدرته الفائقة في إخفاء أيّ اثر للفرشاة وفي إبراز أدقّ التفاصيل، كنوعية النسيج والفراء الناعم والأزهار وغيرها.
    كان من عادة هذا الفنّان أن يختار لصوره أحداثا بعيدة في الزمان والمكان. وكان يفضّل غالبا رسم الأساطير الكلاسيكية والتاريخ القديم وثقافات بلدان الشرق الأوسط والحيوانات الغريبة.
    وقبل جيروم بخمسين عاما، رسم الفنّان والشاعر الرومانسيّ الانجليزيّ وليام بليك صورة يظهر فيها نمر جميل وشرس مع بضعة أبيات شعرية متأمّلة تتغنّى "بعينيه ويديه الخالدتين" وبتناسق أعضائه ورعبه القاتل.
    ثم يتساءل بليك: هل كان الربّ يبتسم عندما خلق النمر، وهل من خَلَقه هو نفس الربّ الذي خلق الحمل"؟! وبالنسبة لبليك فإن ما يجعل من النمر أعجوبة من أعاجيب الطبيعة ليس جماله، وإنّما شراسته وقوّته.
    وأنت تتأمّل هذه اللوحة بألوانها الذهبية والأرجوانية البديعة، سيُخيّل إليك انك أمام مخلوق وديع وحالم. وهذا بالطبع تصوير مبالغ فيه ولا يمتّ إلى الواقع بصلة.
    لكن في هذه الأيّام فإن للوحتي جيروم وبليك أهمّيّة ومغزى، خاصّة في ضوء تحذير العلماء من أن النمور يمكن أن تختفي من العالم نهائيا خلال العشر سنوات القادمة بسبب الصيد الجائر والظروف البيئية غير المواتية.

    Credits
    joslyn.org

    الخميس، مايو 17، 2018

    فانتازيا للمتعة


    حدثت هذه القصّة منذ زمن طويل، طويل جدّا عندما كان العالم ما يزال في بداياته، صعبا وغير مضياف. كانت المخلوقات تجلس وتنتظر، تعرف أنها ينبغي أن تقتل لكي تعيش. والإنسان، المتفوّق على غيره من المخلوقات بذكائه، كان لا يغامر بالذهاب بعيدا عن مكانه، بل ولا يعرف حتى عن وجود قبائل أخرى بالجوار. كان يهاب التجوال خوفا من المجهول. وكان القانون الذي يحكم الحياة بسيطا: القويّ بظفر بكلّ شيء.
    بهذه الكلمات يبدأ فيلم "مليون عام قبل الميلاد"، من إنتاج عام 1966. وبحسب هذا الفيلم، فإن البشر والديناصورات كانت تتعايش مع بعضها البعض على الأرض في عصور ما قبل التاريخ.
    في ذلك الوقت، كان البشر واقعين بالكامل تحت سطوة الطبيعة، تتهدّدهم الديناصورات والحيوانات المفترسة التي تجوب الأرض، والبرد والظلام. ولم يكن الإنسان وقتها قد طوّر لغة. وكانت القبائل البشرية آنذاك قليلة ومتناثرة، والوسيلة الممكنة للتواصل والتفاهم كانت من خلال الضحك أو الصراخ أو بعض الإشارات والكلمات البسيطة والقليلة.
    والفيلم يحكي عن رجل يقال له توماك من قبيلة بدائية تُدعى "قبيلة الحجارة"، في إشارة إلى أن أفرادها يسكنون الكهوف. وتوماك يعاقَب من قبل قبيلته البدائية بالنفي جزاءً له على قتل والده الذي كان يتمتّع باحترام القبيلة.
    ثم يخرج توماك هائما على وجهه ويتعرّض لتهديدات السباع والضواري، فيصطاد بعضها ويأكلها لكي يعيش بينما يصارع السحالي العملاقة والعناكب السامّة اتقاءً لخطرها.
    وفي نهاية الأمر يصل إلى جزيرة بركانية تقطنها قبيلة أخرى تُدعى "قبيلة الأصداف"، في إشارة إلى أن أفرادها يعيشون قريبا من البحر. وهذه القبيلة تبدو أكثر تحضرّا من قبيلته، مع أن الوحوش فيها أكثر من البشر. وطبيعة الجزيرة بكر لم يخرّبها الإنسان بعد، واللغة بسيطة عبارة عن غمغمات وهمهمات وحركات باليد والجسد.
    وهناك يقابل توماك امرأة شقراء تُدعى لونا وتأخذه إلى قبيلتها. وفي الطريق يلوذ الاثنان بأعلى شجرة للاحتماء بها من خطر مجموعة من آكلي البشر. وتوماك ولونا يخيفهما كثيرا منظر آكلي البشر ويعرفان أنهما قطعا شوطا طويلا كي يصبحا بشرا وأن عليهما فعل المزيد إذا ما أرادا أن يُكتَب لهما البقاء.
    ثم تتوالى في الفيلم قصص أخرى مشوّقة يتخلّلها من وقت لآخر لقطات لبركان ينفث دخانه ببطء في السماء، في ما يبدو وكأنه علامة على وقوع كارثة وشيكة.
    ثم يعرف توماك أن شقيقه المسمّى ساكانا قد استولى على زعامة قبيلته بالقوّة. وهنا تحشد قبيلة الأصداف مقاتليها استعدادا للحرب مع قبيلة الحجارة بهدف خلع ساكانا ومعاقبته.
    وأثناء احتدام القتال بين الطرفين، يقع زلزال ويثور البركان فجأة. وغضبُ الطبيعة يصيب القبيلتين معا ولا يوفّر أحدا. والناجون من الحرب يجدون أنفسهم في النهاية في طبيعة شبه مدمّرة، فيقرّرون أن يتسالموا ويتعاونوا مع بعضهم للبحث عن ارض جديدة تصلح للسكنى.
    وينتهي الفيلم من حيث بدأت قصّة الصراع الإنسانيّ في تلك العصور الموغلة في القدم والذي ما يزال مستمرّا حتى اليوم.
    الفيلم تمّ تصويره في جزر الكناري، حيث الطبيعة ما تزال تحتفظ ببعض سماتها البدائية. وموضوع الفيلم هو المجتمع وكيف أن البشر يقود بعضهم بعضا كي يصبحوا اشخاصاً أفضل. كما انه يتناول عواقب خروج الإنسان بمفردة إلى بيئة معادية.
    لكن أحد المآخذ على الفيلم انه يتضمّن بعض الأنماط العنصرية. فقبيلة الأصداف متطوّرة وأفرادها شقر الشعور بيض البشرة، مقابل أفراد قبيلة الحجارة ذوي الوجوه السمراء والشعور السوداء المشعثّة. كما أن لدى قبيلة الأصداف رسوما على الكهوف وموسيقى وحليّا مصنوعة من الصَّدَف ولغة أكثر تطوّرا نسبيّا.
    من جهة أخرى، يفترض العلم الحديث أن آخر الديناصورات الطائرة انقرضت من الأرض قبل أكثر من ستّة وستّين مليون عام، وأن البشر الحاليين - وهم امتداد للهوموسابيان أو الإنسان العاقل - لم يكن لهم وجود على الأرض إلا منذ مائتين أو ثلاثمائة ألف عام على أكثر تقدير.
    لكن حجّة من يصنعون مثل هذه الأفلام لا تخلو من منطق. فهم يقولون أنهم لا يصنعون أفلامهم للعلماء ولا لأساتذة الجامعات، فهؤلاء أصلا لا يذهبون لرؤية مثل هذا النوعية من الأفلام. ويضيفون أن الغرض الأساس من مثل هذه القصص الفانتازية هو تسلية الناس وإمتاعهم في المقام الأوّل وليس حشو رؤوسهم بمعلومات مختلف حول صحّتها وليست مؤكّدة.
    يمكن مشاهدة الفيلم على هذا الرابط .

    Credits
    variety.com

    الخميس، مايو 10، 2018

    سورويا والموضة


    كان يواكين سورويا احد أكثر الرسّامين الإسبان رواجا وانتشارا في زمانه. وقد عُرف بقدرته على رسم أكثر المشاهد تلقائيةً في الحياة اليومية وبطريقة فيها الكثير من الحميمية والأناقة.
    كانت عائلة سورويا عماد حياته. والصور التي رسمها لزوجته وابنتيه ما تزال من بين أكثر أعماله جاذبيةً وجمالا. منزل الرسّام في مدريد كان عصريّا هو الآخر. وقد بناه بحيث يوفّر لأسرته أعلى مستوى من الراحة والرفاهية.
    والديكور الذي استخدمه في البيت كان يعكس الذوق السائد في ذلك الوقت، أي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وكان يتضمّن قطع أثاث من طرز تاريخية متنوّعة بالإضافة إلى تصميمات حديثة.
    كان سورويا يستمتع برؤية نفسه محاطا بعائلة حديثة. وكان هو وزوجته كلوتيلدا وابنتاه ماريا وايلينا يولون أهمية فائقة لأسلوب لباسهم، كما يظهر واضحا في صور الرسّام ورسائله. كما كانوا جميعا يتمتّعون بميل طبيعيّ للأناقة وللأسلوب العصريّ في اللباس والعيش.
    وعندما كان يذهب في رحلات إلى خارج اسبانيا، لم يكن ينسى أن يعود محمّلا بالكثير من الهدايا لهم من ملابس واكسسوارات وغيرها من الأشياء التي رآها وأعجبته.
    رسائل سورويا إلى زوجته عندما كان في رحلات إلى باريس تشي باهتمامه الكبير بالموضة، إذ يشرح لها الاتجاهات الجديدة في الموضة والملابس. كان يحبّ الملابس الصيفية ذات الألوان البيضاء الغارقة في ضوء الشمس والتي تهيمن على أعماله.
    لكن زوجته وابنتيه كنّ متمسّكات بالأسلوب الاسبانيّ القديم في اللباس، أي شال فوق فستان اسود في مناسبات الزفاف أو الأعياد الدينية. وقد رسم زوجته كثيرا مرتدية ذلك الزيّ، لكنه أيضا رسمها في العديد من اللوحات وهي تمشي في الحديقة بفستان ابيض مع معطف اسود وقبّعة من ريش الطيور.


    ولد يواكين سورويا في بلنسية عام 1893 وتعلّم الرسم على يد أكثر من فنّان. وفي سنّ الثامنة عشرة، سافر إلى مدريد وزار متحف برادو ودرس اللوحات التي كان يضمّها. ثم ابتُعث إلى روما ومنها إلى باريس التي تعرّف فيها على الرسم الحديث. وعند عودته إلى بلنسية، تزوّج من كلوتيلدا ديل كاستيللو التي تنتمي إلى عائلة ثريّة من الطبقة الوسطى.
    وقد برع الفنّان في رسم البورتريه والمناظر الطبيعية، لذا عُرف برسّام الضوء لأنه كان يرسم غالبا في الهواء الطلق وتحت نور الشمس.
    في ذلك الوقت كانت الطبقة الوسطى في اسبانيا تمرّ بفترة ازدهار، الأمر الذي أدّى إلى رواج رسم البورتريه واكتسابه شعبية إضافية.
    كان سورويا معروفا باهتمامه بتفاصيل لباس شخوصه، وبالتدريج أصبح مؤرّخا عارفا بأحوال واتجاهات الموضة في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات العشرين. ولوحاته توفّر سجلا دقيقا للتغييرات التي طرأت على ميول وتفضيلات الناس أثناء تلك الفترة في ما يتعلّق بالأزياء والمجوهرات.
    ولم يكن يكلَّف فقط برسم العائلات البورجوازية، وإنما أيضا برسم العائلة الملكية الاسبانية. وهو في لوحاته التي رسمها لهؤلاء يكشف عن روح النخبة وأساليب وطرز اللباس التي كانوا يفضّلونها. وفي تلك البورتريهات، تقف النساء أمامه في أجمل وأحدث الملابس، لأن ذلك جزء مهمّ من أناقتهنّ. لكن سورويا لم يكن يركّز في صوره على جمال المظهر الخارجيّ، وإنّما أيضا على حركة الشخصية ومشاعرها الداخلية.
    وقد اكتشف الرسّام الخصائص العلاجية لشواطئ اسبانيا ورسم الملابس العصرية التي يكثر مرآها في تلك النواحي مثل المظلات والقبّعات. وسورويا كان شاهدا على ذلك العصر، كما أن أفراد أسرته يستأثرون بغالبية صوره التي رسمها في البحر.
    في زياراته لباريس، رسم سورويا مقاهي وشوارع المدينة، بالإضافة إلى دور السينما والأوبرا وغيرها من الأماكن التي جذبت اهتمامه. ولم يكن ينسى أن يزور الأماكن التي تعرض الأقمشة والابتكارات الحديثة في اللباس. وكان يشتري بعض ما يراه ويضمّنه في صوره.

    Credits
    museothyssen.org

    الأربعاء، مايو 02، 2018

    فولتير وعصره

    لا يوجد من الكتّاب من ينافس فولتير في كثرة العبارات والاقتباسات التي يتداولها الناس نقلا عن كتاباته وخُطَبه.
  • قد لا أتّفق معك في الرأي، لكنّي سأقاتل حتى الموت دفاعا عن حقّك في أن تقول ما تؤمن به.
  • اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسّيس.
  • الذين يجعلونك تؤمن بما هو مخالف للعقل قادرون على جعلك ترتكب أبشع الجرائم.
  • النزاع الطويل بين طرفين يعني أن كليهما على خطأ.
  • من الخطير أن تكون على حقّ عندما تكون الحكومة على خطأ.
  • المكان الوحيد الذي استطيع أن اسند عليه رأسي وأنام مرتاحا مطمئنّا هو حِجر أمّي.
  • من الصعب تحرير العبيد من الأغلال التي ألفوها وأحبّوها.
  • لدينا ما يكفي من الدِّين كي نكره ونظلم، لكن ليس لدينا منه سوى القليل كي نحبّ ونتعاطف.
  • اسعد حياة يمكن أن تعيشها هي أن تعيش مشغولا في عزلتك.
    كان فولتير احد أعمدة عصر التنوير وواحدا من أشهر مفكّري القرن الثامن عشر. ملاحظاته الجريئة والمستفزّة والمثيرة للجدل عن الدين والحرّية والسياسة والأخلاق خلقت له الكثير من الأعداء والأصدقاء.
    ولد باسم فرانسوا ماري آرويه، لكنّه عُرف في العالم باسمه المستعار. واسم فولتير غير معروف مصدره ولا معناه. لكن قيل إنه كان على علاقة خصومة مع والده الذي كان يرفض قيمه وأفكاره. لذا أسقط اسم عائلته وتبنّى اسم فولتير. وهو لم يفسّر أبدا سبب أو سرّ اختياره لهذا الاسم.
    عُرف فولتير بذكائه الشديد وبحسّه الأخلاقيّ العالي. كان يقضي ثمان عشرة ساعة يوميّا في الكتابة. وكان متعدّد الاهتمامات، فكتب في السياسة والتاريخ والمسرح والفلسفة والعلوم. وهو لم يتزوّج أبدا، وبالتالي لم ينجب أطفالا.
    كان فولتير صريحا في دفاعه عن الحرّيات المدنية، وكان يجد نفسه في حالة صدام مستمرّ مع السلطة. وقد كرهه الأقوياء بمثل ما أحبّه الفقراء والمهمّشون.
    ذات مرّة، كتب قصيدة أغضبت الملك، فحُكم عليه بالسجن في الباستيل لمدّة عام. ثم مُنعت بعض أشهر كتبه وأمرت السلطات بإحراق بعضها الآخر. روايته المشهورة "كانديد" كتبها باسم مستعار هو "د. رالف". وقد تبرّأ من تلك الرواية لسنوات كي يتجنّب غضب المؤسّستين السياسية والدينية.
    ولأنه كان عنيدا جدّا، وخوفا من أن يتعرّض للسجن ثانية، فضّل الذهاب إلى المنفى الطوعيّ في انجلترا. ومعظم سنواته الأخيرة قضاها منفيّاً في سويسرا.
    لكن في عام 1778، أي بعد حوالي خمسين عاما قضاها في الخارج، سمح له المناخ السياسيّ في فرنسا بالعودة. وقد لقي الكثير من مظاهر الحفاوة والتكريم عندما عاد. لكن اكبر مفارقة حدثت في يوم عودته، إذ مات في نفس ذلك اليوم.
    وفي اللحظات الأخيرة التي سبقت وفاته، زاره مندوبون عن الكنيسة على أمل أن يقنعوه بالعدول عن بعض أرائه والإدلاء باعترافاته وهو على سرير الموت. لكنه لم يفعل ولم يزد على أن قال للكهنة: أرجوكم دعوني أمت بسلام". وعندما طلبوا منه أن يتبرّأ من الشيطان وأن يلعنه قال: ليس هذا هو الوقت المناسب لصنع أعداء جدد"!
    وكان موقف فولتير الرافض ذاك يعني حرمانه رسميّا من الدفن حسب الأعراف المسيحية. لكن عائلته وأصدقاءه المقرّبين نظّموا له جنازة سرّية على الرغم من قرار المنع.
    وبعد وفاته، ولأنه كان قد صار مقبولا أخيرا من القصر والنخبة الحاكمة، فقد مُنح تكريما خاصّا وذلك بتحنيط دماغه وقلبه كي يُحفظا للأجيال القادمة.
    قد يبدو هذا الأمر غريبا، لكن هذا ما حدث فعلا.
    كان ذلك التقليد شائعا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر عندما وجد الناس أن إعادة قلوب الجنود الذين يُقتلون في المعارك إلى أهلهم كان حلا أكثر يسرا وجدوى من إعادة جثامينهم كاملة.
    لكن المثير في قصّة فولتير هو ما حدث تالياً. فقد انتهى قلب الفيلسوف في يد ماركيز يُدعى "دي فيليه" الذي وضع القلب في صندوق معدنيّ في غرفة بقصره وكتب عليه عبارة: روحه في كلّ مكان وقلبه هنا".
    لكن بسبب الظروف السياسية، نُقل القلب من عهدة الماركيز إلى عهدة الحكومة الوطنية. ثم نُقل بعد ذلك ووُضع في قاعدة تمثال للفيلسوف في متحف شخصيات فرنسا حيث ما يزال بالإمكان رؤيته إلى اليوم.
    ولم يكن قلب فولتير فقط هو الذي حُفظ، بل لقد أُزيل دماغه أيضا وتمّ تحنيطه. وفي وقت ما من القرن التاسع عشر، نشأ خلاف بين ورثته والحكومة الفرنسية نتج عنه بيع الدماغ في مزاد للأثاث بعد أن اُسقط من عهدة الحكومة.
    لكن لا أحد يعرف حتى اليوم مكان وجوده.

  • Credits
    voltaire.ox.ac.uk

    الجمعة، أبريل 27، 2018

    حكاياتٌ شابّة عمرها ألفا عام


    ليس من الواضح ما إذا كان "فيشنو شارما" شخصا حقيقيا أم انه مجرّد اسم أدبيّ مستعار. ومع ذلك، هناك احتمال أن غالبية القرّاء العرب سبق أن قرءوا، أو على الأقلّ سمعوا عن كتابه المشهور في مرحلة ما من حياتهم.
    و"فيشنو شارما" هو مؤلّف كتاب "كليلة ودمنة" الذي تجري أحداثه على ألسنة الحيوانات. والاسم الأصليّ للكتاب هو "البانشاتاترا"، وله اسمان آخران هما "أساطير بيدبا"، و"فيدياباتي" بالسنسكريتية.
    ويُعتبر هذا الكتاب من أقدم الآثار المكتوبة في الهند. ويتناول فلسفة الأخلاق والحكم، ومكتوب بلغة هي مزيج من الشعر والنثر.
    والحكايات التي يتضمّنها البانشاتاترا قديمة جدّا. ومع مرور الوقت، أصبحت من بين أشهر القصص وأكثرها انتشارا في العالم. ويقال أن مؤلّفه كتبه في كشمير أو في مكان آخر في جنوب الهند.
    وهناك من يصنّف الكتاب على انه دراسة في علم السياسة والسلوك الأخلاقيّ، مع شيء من السخرية الاجتماعية. وهو يتحدّث إلى قرّاء كثيرين وعلى مستويات مختلفة.
    والبنية الأساسية أو الإطار السرديّ للبانشاتاترا هو عبارة عن سلسلة من الأسئلة والأجوبة بين ملك هنديّ قديم يُدعى دبشليم وفيلسوف يُدعى بيدبا "أو بردوبين". وكلّ قصّة أو حكاية تحيل إلى قصص أخرى ذات مغزى. والراوي، أي بيدبا، يذكر أن الكتاب أُلّف كي يقرأه ثلاثة أمراء حديثي عهد بالسياسة لغرض تبصيرهم بقواعد السلوك الإنسانيّ والحكم الرشيد.
    وأوّل ترجمة للبانشاتاترا إلى لغة غير الهندية "أو السنسكريتية" كانت إلى الفارسية "البهلوية" على يد كاتب يُدعى برزويه أثناء حكم الملك الساسانيّ انوشروان.
    وطبقا للفردوسيّ مؤلّف الشاهنامة، فإن برزويه الذي كان يعمل طبيبا للملك استأذن منه كي يذهب إلى الهند للبحث عن عشبة جبلية كان قد قرأ أو سمع عن خصائصها السحرية وأن كلّ من يتعاطاها يُكتب له الخلود والحياة الأبدية.
    وعندما وصل الطبيب إلى الهند، قابل هناك معلّما حكيما ووجد عنده نسخة من كتاب. ثم أشار عليه الحكيم بأن ينسى أمر تلك العشبة التي جاء باحثا عنها، وأن يكتفي بقراءة ذلك الكتاب إن كان يطمح في اكتساب قدر من الحكمة والاستنارة.
    وبعد أن قرأ برزويه الكتاب، أُعجب كثيرا بالحكايات التي يتضمّنها، وقرّر أن يترجمه على الفور إلى الفارسية بمعاونة بعض البراهمة الهنود. وعندما أكمل ترجمته أرسله إلى بلاط انوشروان مع كتب أخرى.
    في مقدّمة ترجمته للكتاب، يتحدّث برزويه عن بعض تفاصيل رحلته إلى الهند ويذكر نبذة عن حياته وعن مهنته كطبيب في بلاط الملك. وهو يشير إلى بيدبا على انه مؤلّف الكتاب.


    ليس واضحا ما إذا كان برزويه هو نفسه الكاتب الفارسيّ المشهور برزجمهر. وهناك رأي يذهب إلى أنهما كاتبان مختلفان، بينما يشير رأي آخر إلى أن اسم برزويه قد يكون اختزالا لاسم الأوّل. برزويه نفسه يقال أنه كان شخصا باحثا عن الحقيقة ومتشكّكا في الأديان، لكنه في أخريات حياته صار إنسانا تقيّا ومتقشّفا.
    وبحسب بعض النقّاد الغربيين، فإن ترجمة عبدالله بن المقفّع للكتاب إلى العربية في القرن الثامن هي الترجمة الأشهر، بل والأساس الذي تُرجم عليه الكتاب إلى لغات أخرى.
    وبفضل هذه الترجمة بالذات، أصبح "كليلة ودمنة" واحدا من أكثر الكتب مبيعا ورواجا طوال ألف عام، إذ تُرجم إلى أكثر من خمسين لغة وما يزال يُقرأ باستمتاع في الكثير من أرجاء العالم.
    وقد حمل العرب الكتاب معهم إلى اسبانيا في القرن الثالث عشر. كما كان من بين أوائل الكتب التي ظهرت في ايطاليا بعد اختراع الطباعة.
    أبطال "كليلة ودمنة" هم مجموعة من الحيوانات، لكن معظم الحكايات فيه ترد على لسان اثنين من أبناء آوى، هما كليلة ودمنة، أو "كاريراك وداماناك" بحسب الترجمة الفارسية.
    وكلّ حيوان في الكتاب يقدّم شخصية يمكن أن يتماهى معها الإنسان. والمؤلّف يوظّف الحيوانات والطيور لتشير إلى سمات البشر. فالغزال، مثلا، يقدَّم كرمز للشخصية البريئة والمسالمة، وهو هدف للذين يبحثون عن فريسة يسهل استغلالها. بينما يقدَّم التمساح كرمز للأشخاص الذين يُخفون نوايا شرّيرة.
    بعد ترجمته إلى العربية، أصبح "كليلة ودمنة" إحدى التحف الكبيرة في النثر العربيّ. ويقال أن ابن المقفّع، الذي كان مستعربا فارسيّا وعالما ضليعا في العربية وآدابها، كان يحاول من خلال الكتاب، وعبر توظيف الرمز والاستعارة، التعبير عن وجهات نظر سياسية معارضة للحكم العباسيّ. ومن الأمور ذات الدلالة أن نعرف أن الرجل قُتل بعد بضع سنوات فقط من ترجمته لهذا الكتاب.
    لكنّ لبعض النقّاد مؤاخذاتهم على الكتاب. فهم يرون أن مؤلّفه شخص ميكيافيليّ، لأن بعض قصصه تمجّد الدهاء والخداع والمراوغة، سواءً في الحياة العامّة أو في شئون الحكم والسياسة. غير أن هناك من لا يرى هذا الرأي بالضرورة. وهذا النوع من الجدل يؤكّد ولا شكّ غموض وثراء هذا النصّ.
    في بعض قصص كليلة ودمنة، ينتصر الشرّ على الخير. وتحسبّا من أن يُغضِب هذا القرّاء المتديّنين، عمد ابن المقفّع إلى إدخال دمنة السجن وتركه يموت هناك في محاولة لاسترضاء هذه الشريحة من القرّاء.
    شيئا فشيئا أصبحت حكايات "كليلة ودمنة" رائجة في الثقافات الشعبية للعالم. ومن عباءة هذا الكتاب خرجت كتب أخرى مماثلة، مثل ألف ليلة وليلة وحكايات كانتربري وأساطير ايسوب وقصص لافونتين عن الحيوانات.
    ويبدو أن السرّ في نجاح الكتاب وانتشاره الواسع يعود إلى حقيقة أن حكاياته قديمة ومعاصرة في آن. وطوال أكثر من ألفي عام، ظلّ هذا النصّ يوائم نفسه باستمرار مع سياقات الأماكن والأزمنة المتغيّرة.

    Credits
    scroll.in

    السبت، أبريل 21، 2018

    مصيف تيبيريوس


    معظمنا قرأ أو سمع بالعبارة المشهورة المذكورة في الإنجيل: أعطِ ما لقيصر لقيصر".
    الإمبراطور الرومانيّ تيبيريوس كان هو القيصر المقصود. كان إمبراطورا على روما طوال فترة حياة السيّد المسيح. وكان ما يزال يعتلي العرش عندما وقعت حادثة الصلب. وهو مذكور في الإنجيل مرّتين. كما أن صورته كانت محفورة على العملات الفضّية التي استلمها يهوذا المتآمر كرشوة.
    كان تيبيريوس ثاني أباطرة الدولة الرومانية بعد اوغستوس. وقد تولّى الحكم على غير رغبة منه. وأمّه كانت زوجة لنيرون، لكنها طلّقته وتزوّجت من اوكتافيان.
    والمعروف أن مدينة طبريا الواقعة على الشاطئ الغربيّ لبحر الجليل في فلسطين سُمّيت على اسم تيبيريوس بقرار من حاكم فلسطين الرومانيّ آنذاك هيرود انتيباس.
    أثناء فترة حكمه، كان تيبيريوس يقضي فصل الصيف من كلّ عام في كهف جبليّ يطلّ على مياه المتوسّط. واليوم بإمكان أيّ شخص أن يزور هذا المكان دون أن يحتاج لتصريح إمبراطوريّ.
    المكان المسمّى سبيرلونغا "أو الكهف باللاتينية" يقع في قرية صغيرة يعيش فيها اليوم حوالي ثلاثة آلاف شخص وتقع على الساحل الغربيّ لايطاليا في منتصف المسافة تقريبا بين نابولي وروما.
    البيوت البيضاء المحفورة في الصخر تبدو كما لو أنها يونانية الطراز. لكن لن تجد مكانا أكثر "ايطاليةً" من هذا المكان، خاصّة منذ أن اعتاد تيبيريوس قضاء إجازاته هنا قبل ألفي عام. غير أن الفيللا/الكهف تبدو اليوم أطلالا، مع أن جدرانها ما تزال قائمة وما يزال يتخلّل المكان جوّ من الاسترخاء والهدوء.
    المروج الخضراء تمتدّ إلى الخارج، مع إطلالة على البحر. وهناك طريق متعرّج يأخذ الزائر من البرَك الأثرية إلى الكهف. هنا كان الإمبراطور يسلّي ضيوفه وسط نسائم البحر المنعشة التي تهبّ على المكان الذي كان في العصور الخوالي يضمّ تماثيل تصوّر أسطورة اوديسيوس. لكن هذه الآثار الفنّية لحق بها الدمار بعد انهيار الكهف.
    في ذلك اليوم، كان تيبيريوس يتناول طعامه عندما انهار سقف الكهف فجأة، واندفع نحوه رجال حاشيته لإنقاذه. وقد اعتَبر تلك الحادثة علامة شؤم وأمر بأن يُنقل مصيفه من ذلك المكان إلى كابري.

    وفي القرن الخامس، قام كهنة متعصّبون بتدمير التماثيل الحجرية ثم طمروا الكهف تحت الأرض. وبعد انهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية في القرن السادس الميلاديّ، أصبحت أطلال سبيرلونغا ملجئا للسكّان المحليّين. لكنهم في ما بعد تركوها هربا من هجمات السراسنة ثم العثمانيين الذين غزا أسطولهم المنطقة بقيادة بارباروسا في منتصف القرن السادس.
    وقد ظلّ الكهف مطمورا حتى عام 1957، عندما اكتشفه بالصدفة عمّال كانوا يشقّون طريقا في الجوار. لكن المنطقة استعادت أهميّتها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بعد أن اجتذبت بعض العائلات الغنيّة، فازدهرت الزراعة وتمتّع الناس بقدر من الأمان.
    ومنذ أعيد اكتشافه أصبح الكهف مقصدا للمشاهير وبعض رموز الثقافة في القرن العشرين، مثل البير كامو وآرثر ميللر وآندي وارهول ومارلين ديتريش وغيرهم.
    لم تكن نخبة الرومان راضية تماما عن تيبيريوس. والمؤرّخ تاكيتوس لم يكن معجبا به كثيرا. كما أن الإمبراطور اكتسب سمعة سيّئة كطاغية تلفّه الأسرار ويعاني من البارانويا السياسية. لكن ربّما كان من الأنسب أن نتعامل مع هذه المعلومات بشيء من الشكّ.
    إذ أن مؤرّخين آخرين يشيرون إلى انه طوال عشرين عاما من حكم تيبيريوس لم يُتّهم بالخيانة العظمى سوى خمسين شخصا. وقد نجا نصفهم من الإدانة، ولم يُدَن منهم سوى أربعة أشخاص كانوا على الأرجح ضحايا لحماس مجلس الشيوخ وليس لطغيان الإمبراطور.
    المؤرّخ بيليني الأب يصف تيبيريوس بأنه كان "أكثر الرجال حزنا"، وبأنه كان شخصا مسالما يكره الحروب ويفضّل استخدام الدبلوماسية في حلّ الخلافات مع خصوم الإمبراطورية.
    وعندما مات كانت خزينة الدولة مليئة بالأموال. وما يجعل تيبيريوس مختلفا عن سواه من أباطرة روما هو انه رفض أن يقدّسه الناس أو يعاملوه كنصف إله. ولم يسمح سوى ببناء معبد واحد تكريما له.
    أي أن تيبيريوس لم يكن شخصا سيّئا في النهاية، لكن مع كلّ ذلك العدد من المعارضين والخصوم نفهم لماذا اختار مكانا هادئا ومنعزلا مثل هذا لإجازاته.

    Credits
    quatr.us

    الجمعة، أبريل 13، 2018

    عودة إلى العوالم المفقودة

    حتى إن لم تكن من هواة العاب الفيديو، فإنك على الأرجح سمعت من قبل عن "عقيدة القاتل".
    إنها سلسلة من الألعاب ذات المواضيع التاريخية التي تجري أحداثها في أماكن مختلفة، مثل باريس ما قبل الثورة الفرنسية، والقدس في القرون الوسطى، ولندن في ستّينات القرن قبل الماضي.
    وممارسة هذه السلسلة من الألعاب تتضمّن تسلّق مبان قديمة والاختلاط بالسكّان القدامى لهذه المدن ومقابلة، وأحيانا، اختطاف شخصيات تاريخية.
    مضى على طرح هذه اللعبة في الأسواق حوالي احد عشر عاما وحصدت الشركة الكندية المنتجة واسمها "يوبيسوف" ملايين الدولارات من مبيعاتها.
    وقد خصّصت الشركة منذ عام 2007 أكثر من ثلاثة آلاف استديو لصنع هذه السلسلة من الألعاب. وكان الهدف هو بعث الحياة من جديد في عدد من الحضارات التي سادت ثم بادت منذ زمن طويل.
    الشركة استعانت بفريق يتألّف من مئات الفنّانين والمؤرّخين والكتّاب ومصمّمي الأصوات والموسيقيين وغيرهم لخلق مثل هذه الأماكن الافتراضية. وقضاء ساعة أو نحوها بصحبة إحدى هذه الألعاب سيعرّفك على مدى الجهد الكبير المبذول في إعدادها وتصميمها.
    آخر أجزاء سلسلة "عقيدة القاتل"، وعنوانه "الأصول"، تجري أحداثه في مصر القديمة، أي في مكان وزمان حافلَين بالاستكشاف والغموض.
    لكن في الشهر الماضي، طرحت الشركة المنتجة نسخة معدّلة من هذا الجزء تحوّلت معها اللعبة إلى ما يشبه المتحف التفاعليّ. فقد استُبعد القتال والمهامّ من هذا الجزء وأُضيف أكثر من سبعين رحلة تفاعلية صُمّمت بمساعدة علماء مصريات من جميع أنحاء أوربّا.
    وهذه الرحلات تعلّمك الكثير عن التحنيط وعن مدينة الإسكندرية وأشياء أخرى. لكن الاختلاف بين هذه اللعبة وأيّ متحف يتمثّل في حقيقة انك تمشي في شوارع مصر القديمة وتتجوّل في قراها كطفل مصريّ وتمتطي ظهر حصان في ظلّ الأهرامات.
    واللعبة تتضمّن إمكانية أن تكون أداة تعليمية غير عاديّة، فقد استعان مطوّروها بخبراء التعليم والبحّاثة في المتاحف والجامعات والمدارس لكي يدلوا بآرائهم حول التصاميم الأوّلية.
    يقول احد مطوّري اللعبة: بالنسبة للكثيرين، تظلّ مصر القديمة شيئا عصيّا على الفهم. ونحن نساعد في الوصول إلى عالم مفقود لا أحد يعرف بالضبط كيف كان يبدو. لكننا نحاول جهدنا أن نبحث وأن نفسّر".


    فكّر فريق اللعبة لأوّل مرّة في صنع نسخة تعليمية خالية من القتال في عام 2009، عندما كانت السلسلة تتناول ايطاليا وعصر النهضة. لكن ضيق الوقت وعدم توفّر المال الكافي جعل من المتعذّر تحقيق ذلك. ثم انتهى الأمر بالمؤرّخين والبحّاثة إلى أن حوّلوا اللعبة إلى دائرة معارف، وكانت تلك محاولة لإقناع الناس بأن ينظروا إلى العاب الفيديو بطريقة مختلفة.
    ويقول مطوّر آخر: في البداية لم نعرف من أين نبدأ ولا أيّ الأحداث نختار ولا أيّ الأماكن يمكنك أن تذهب إليها. ثم بحثنا في موسوعات المعارف والكتب وشاهدنا العديد من الأفلام لنرى كيف تناولت صناعة الترفيه هذا الموضوع.
    وبطبيعة الحال، وفي ما يتعلّق بمصر بالذات، كنّا نعرف أننا نريد كليوباترا ويوليوس قيصر، لأن عهدهما اتسم بالاضطرابات السياسية الكبيرة وبالتغييرات الكثيرة، بالإضافة إلى أن ذلك العهد ترك أثرا لا يُمحى على الفنّ التشكيليّ والأدب والمسرح والسينما حتى اليوم".
    ويضيف: أمضينا سنوات ونحن نبحث واستعنّا بعلماء مصريات ومؤرّخين ذوي معرفة ممتازة بذلك العصر، وطلبنا منهم المساعدة والانضمام إلينا ومدّنا بالمعلومات اللازمة. ثم عقدنا اتفاقيات مع عدد من الجامعات لنحصل على اكبر قدر من المعلومات".
    وكان هناك أيضا علماء آثار مثل الفرنسيّ جان كلود غولفن عالم المصريات المشهور والرسّام الذي اعدّ حوالي عشرين لوحة للعبة. وقد درس الفريق ديمغرافية مصر في ذلك العصر واستخلص معلومات عن الأعمار والجنس، واكتشف أن عدد النساء كان اكبر من عدد الرجال بسبب الحرب التي كانت تجري وقتها.
    ويقول مطوّر آخر: في اللعبة الأصلية، قمنا بخلق تلك العوالم والبيئات، من نباتات وحيوانات ومعمار وثقافة، وتلاعبنا بالتاريخ وبالشخصيات. وكنّا نفكّر كيف يمكن أن نأخذ خطورة ابعد لضمان أن تصل اللعبة إلى عدد اكبر من الناس".
    ويضيف: ما فعلناه هو أننا حافظنا على نفس المواقع والبيئات. لكننا وفّرنا للمستخدم حرّية الذهاب إلى أيّ مكان من دون قتال وبعيدا عن قيود السرد. لقد أعدنا تصميم اللعبة كي نجعل الوصول إلى مصر أكثر سهولة. ونحن لا نحلّ مكان التعليم أو المكتبات، بل نساعد الناس على أن يعودوا إلى المتاحف والوسائط التقليدية بفاعلية اكبر".
    لعبة "عقيدة القاتل: الأصول" تمثل تطوّرا جذريا في مفهوم ألعاب الكمبيوتر، وهي تثبت أن ألعاب الفيديو يمكن أن تقرّبنا أكثر من الماضي البعيد زمنيّا وبأكثر ممّا نتخيّله.

    Credits
    telegraph.co.uk