:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، أكتوبر 23، 2025

خواطر في الأدب والفن


  • كان علي باشا، المعروف أيضا باسم أصلان أي "الأسد"، حاكما ألبانيّا مسلما شغل منصب الباشا العثماني للجزء الغربي من روميليا التابعة للإقليم الأوروبّي من الإمبراطورية العثمانية.
    في شبابه، كان باشا لصّا مكلّفا بالتعامل مع لصوص. وكان جنوده ومرتزقته من الألبان هم من استولوا في النهاية على بعض البلدات المستقلّة. ومن تلك الحملة، نشأت أسطورة تقول إن 22 امرأة من إحدى القرى ألقين بأنفسهن وأطفالهن من فوق جرف لكيلا يقعن بأيدي قوّات باشا عام ١٨٠٣.
    في اللوحة التي فوق من عام 1850، يرسم بول إميل جاكوبس علي باشا وزوجته المفضّلة كايرا فاسيليكي في لحظات حميمة قبيل إعدامه.
    كانت فاسيليكي قد ذهبت، وهي في سنّ الخامسة عشرة، الى بلاط علي باشا للتوسّط من أجل الإبقاء على حياة أبيها. وبعد أن استطاعت الحصول على عفو عنه، طلبها باشا للزواج فوافقت وانضمّت إلى حريمه. وبفضل جمالها وذكائها، أصبحت الزوجة الأثيرة عنده وسَمح لها بممارسة طقوس دينها المسيحي ورعاية بعض المبادرات الخيرية. وقد استخدمت نفوذها لإنقاذ حياة العديد من مواطنيها من اليونانيين.
    وبحلول عام ١٨٢٠، أزعجت طموحات علي باشا المتزايدة السلطان محمود الثاني والباب العالي في القسطنطينية. ولم يلبث الرجل أن أتُهم بالخيانة وحاصرت القوّات التركية مقرّه. وبعد عامين، أعدم في كنيسة كان قد لجأ إليها مع زوجته بانتظار عفو من السلطان. وأُرسل رأسه ليعلَّق فوق أبواب القسطنطينية، بينما عفا السلطان عن زوجته وسمح لها بالعودة إلى اليونان التي نالت استقلالها في تلك الأثناء بعد حرب دامت تسع سنوات.
    ذُكرت كايرا فاسيليكي في عدد من روايات القرن التاسع عشر مثل "الكونت دي مونت كريستو" لألكسندر دوما، وكتاب "حياة علي باشا الألباني" لريتشارد دافنبورت. كما رسمها العديد من الفنّانين. أما علي باشا فيظهر في الروايات التاريخية كقائد عصابة من قطّاع الطرق. لكنه أيضا عُرف بمهاراته الدبلوماسية والإدارية واهتمامه بالأفكار الحداثية وتديّنه الشعبي وقدرته على هزم العصابات التي كانت ترعب المنطقة وقسوته في فرض القانون والنظام.
    اعتبر اليونانيون باشا بطلا من أبطال حرب استقلالهم عن تركيا، بينما أُعجب به اللورد بايرون "كزعيم قادر وأمير حرب شديد المراس".
  • ❉ ❉ ❉

  • قرأت قصّة معبّرة عن عصفور صغير كان يعيش في غاية البهجة والسعادة. وذات يوم، وكان الوقت شتاءً والبرد قارساً، حاول العصفور الطيران، ولكن بسبب البرد تجمّدت أجنحته وسقط على الأرض. وكانت بقرة تمرّ من هناك بالصدفة، فأسقطت كومة من روثها وقعت مباشرة فوق الطائر فغطّته تماما. وداخل روث البقرة الكثيف، أحسّ العصفور بالدفء. وبعد قليل، ذاب الجليد عن أجنحته وشعر بالسعادة. ثم أطلق بعض التغريدات الخافتة معبّرا عن استبشاره وفرحه.
    وسمعَتْ غناءه قطّة كانت تمرّ بالقرب منه. وعندما حدّدت مكانه، هجمت عليه وافترسته في لمح البصر. وانتهت القصّة هنا. والعبرة منها هي أنه ليس كلّ من يُلقي عليك الروث هو عدوّك، وليس كلّ من يُخرجك منه هو صديقك بالضرورة. والأهم من ذلك كلّه، عندما تكون عالقا في الروث فالتزم الصمت وفكّر في طريقة للخروج منه بسلام.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • يقول العلماء إن البشر قد يواجهون بعض التغييرات المثيرة للاهتمام إذا استمرّت الاتجاهات الحاليّة في التكنولوجيا. ولطالما ساور القلق الكثيرين بشأن قضاء ساعات في العمل بالمكتب في وضع انحناء فوق لوحة المفاتيح، وتأثير ذلك على البشر على المدى الطويل.
    وتقول دراسة تعتمد على نموذج محاكاة إن ذلك قد يؤدّي إلى انحناء ظهور البشر ورقابهم بحلول عام 3000، بل وحتى المعاناة ممّا يطلق عليه العلماء "رقبة التكنولوجيا tech neck"، والتي تجعل الرقبة تميل قليلا إلى الأمام والأسفل كما لو أنها منحنية.
    كما تتنبّأ الدراسة بأن مستقبل التطّور البشري سيعاني من جماجم أكثر سُمكا وأدمغة أصغر حجما بحلول عام 3000، وهو أثر جانبي آخر للتكنولوجيا التي تجعلنا كُسالى وتؤدّي إلى فقدان بعض قدراتنا العقلية بسبب قلّة الاستخدام.
    وهناك مشكلة محتملة أخرى يسلّط النموذج الضوء عليها، وهي ما يطلق عليه البعض "مخلب النص text claw"، والذي يجعل اليد تبدو وكأنها تحمل هاتفا ذكيّا باستمرار.
    ظهر هذا النموذج لأوّل مرّة عام ٢٠٢٢ لتحذير الناس من الإفراط في استخدام التكنولوجيا. ولكن لنتذكّر أن استخدام الأدوات لآلاف السنين لم يغيّر شكل أيدينا، لذا من المرجّح أن طريقة استخدامنا للهواتف الذكيّة وأجهزة الكمبيوتر لن تغيّر شيئا أيضا. ومن المستحيل التنبّؤ بدقّة بما سيجلبه المستقبل. فالتطوّر عملية معقّدة للغاية، ولا توجد طريقة حقيقية للتحكّم فيه أو إجبار أجسامنا على التطوّر بطرق محدّدة. لكن من المرجّح جدّا أن ينتج عن التطوّر المستقبلي تغيّرات في السمات البشرية الأقدم، مثل لون العينين والشعر والبشرة وما الى ذلك.
  • ❉ ❉ ❉

  • اقتباسات...
    ○ إذا كانت لديّ صورة عنك ولديك صورة عنّي، فمن الطبيعي ألا نرى بعضنا البعض كما نحن في الواقع. ما نراه هو الصور التي كوّناها عن بعضنا البعض والتي تمنعنا من التواصل، وهذا هو سبب فشل علاقاتنا. ج. كريشنامورتي

    ○ يكون اللفظ فصيحا من أجل مزيّة تقع في معناه، لا من أجل جرسه وصداه. عبدالقاهر الجرجاني

    ○ لطالما فضّلت الأساطير على التاريخ. فالتاريخ مكوّن من حقائق تتحوّل في النهاية إلى أكاذيب. أما الأساطير فتتكوّن من أكاذيب تتحوّل في النهاية إلى حقائق. جان كوكتو

    ○ كلّ ما يفعله الهنديّ يتحرّك في دائرة، لأن قوّة العالم تعمل دائما في دوائر، وكلّ شيء يحاول أن يكون دائريا. السماء مستديرة، والأرض مستديرة كالكرة، وكذلك جميع النجوم. الرياح في أوج قوّتها تدور، والطيور تبني أعشاشها في دوائر. والشمس تشرق ثم تغرب مرّة أخرى في دائرة. والقمر يفعل الشيء نفسه، وكلاهما مستدير. الفصول أيضا تشكّل دائرة كبيرة في تغيّرها، وتعود دائما إلى حيث كانت. وحتى خيامنا مستديرة كأعشاش الطيور. الزعيم بلاك إلك

    ○ في عمق الشتاء، أدركت أخيرا أن بداخلي صيفا لا يُقهر. أ. كامو

    ○ سأل الأمير الصغير: وما الطقس؟" أجاب الثعلب: هذا أيضا شيء طواه النسيان منذ زمن. إنه ما يميّز يوما عن غيره وساعة عن غيرها. هناك طقس، مثلا، لدى صيّاديّ. يوم الخميس يرقصون مع فتيات القرية. لذا، يوم الخميس يوم رائع بالنسبة لي! أسافر فيه إلى كروم العنب. لو رقص الصيّادون في أيّ يوم، لتشابهت كلّ الأيّام ولما حظيت بإجازة قط. أ. إكزوبيري

    ○ الأرض مليئة بأطلال الإمبراطوريات التي اعتقدت أنها خالدة. ك. باغليا

    ○ أينما كنت، يتبعني العالم، يُشركني في همومه، لا يصدّق أنني لا أريده. الآن أفهم لماذا ذهب شعراء الصين القدماء إلى أبعد مكان وصعدوا إلى أعالي الجبال ثم تسلّلوا إلى الضباب الشاحب. ميري أوليفر

    ○ يطول الشتاء في المدن الريفية، يستمرّ حتى يصبح رثّا ومتهالكا، قديما وكئيبا. ش. إريكسون

    ○ الراحة النفسية هي أن نتمتّع بالمساحة والحرّية للتجوّل في أروقة ذاكرتنا الشاسعة والتأّمّل في ذواتنا، هي أن نستطيع التأمّل في ماضينا وتخيّل مستقبلنا وإصلاح أنفسنا. أوليفر ساك

    ○ وسط جبال الصيف المرتفعة
    انحنيت باحترام أمام
    أحذية التمثال الطويلة
    طالبا البَركة في رحلتي. ماتسو باشو

  • Credits
    maryoliver.com
    museumalipasha.gr/en

    الثلاثاء، أكتوبر 21، 2025

    فاتح العالم


    لم يكن الفيلان اللذان أحضرهما خادما الإمبراطور للتسرية عن سيّدهما مستعدّين للتعاون في ذلك اليوم. ففي مواجهة حشد من رجال الحاشية المطواعين، استدار أحد الفيلين وحاول الفرار، بينما هجم الآخر بعنف على أبناء الملك الأربعة الذين كانوا يستمتعون بالمشهد على صهوات خيولهم العربية الأصيلة. وبالكاد تمكّن ثلاثة من الأمراء من تحفيز جيادهم والهرب.
    لكن أورانغزيب بقي حيث هو. وبيده الممسكة باللجام، ثبّت حصانه في مكانه، بينما سدّد بالأخرى ضربة قاضية من رمحه الى جبين الفيل. وفي نوبة غضب أخيرة، سَحقَ الفيل حصان الأمير بضربة من نابه، لكن الأمير نجح في تفادي الضربة وأنقذ نفسه بحركة استدارة رشيقة.
    الحشد الذي كان يحبس أنفاسه بانتظار نتيجة المبارزة انفجر مردّدا هتافات النصر، بينما نزل الإمبراطور وسط اضطراب شديد من درجات الشرفة التي تابع منها المشهد. وركض خادمه المخلص "اعتماد خان" للقاء الأمير الذي كان يقترب من والده القلق بخطوات بطيئة ومحسوبة. وصرخ الخادم مذهولا: تمشي ببطء بينما أبوك الإمبراطور في حال يُرثى لها؟! تجمّد ردّ الأمير في فمه قليلا ثم قال: لو كان الفيل لا يزال يطاردني، لمشيت أسرع. الآن لا داعي للعجلة."
    احتضن الإمبراطور شاه جهان ابنه وهتف بقلب مثقل: الحمد لله أن انتهى كلّ شيء على خير! ولو سارت الأمور على نحو مختلف، لكنتَ لطّختَ نفسك بالعار". أجاب أورانغزيب وهو ينحني: لو سارت الأمور بطريقة مختلفة، لما كان ذلك عاراً على الإطلاق. العار يكمن فيما فعله إخوتي".
    هكذا تكلّم محيي الدين محمّد الملقب بـ أورانغزيب أو "زينة العرش". في ذلك الوقت، في 28 مايو 1633، كان عمره أربعة عشر عاما.
    في سبتمبر 1657، عانى والده شاه جهان "سيّد العالم"، إمبراطور الهند وخامس أعظم حكّام سلالة المغول، من مرض خطير. حاول وزراؤه بكلّ السبل منع تسرّب الخبر، لكن دون جدوى. في الظروف العادية، كان هذا يعني نقل السلطة المطلقة إلى وريث العرش، أو إلى وصيّ مؤقّت. لكن في هذه الحالة، كانت الظروف أبعد ما تكون عن الطبيعية.
    كان لشاه جهان أربعة أبناء، دارا شيكو وشاه شجاع وأورنغزيب ومراد بخش. ومع أن هذا لم يكن غريبا على امبراطور مغولي، حيث كان حريمه، حتى في أوقات الشدّة، يفيض بالزوجات والمحظيات، إلا أنها كانت المرّة الأولى في تاريخ السلالة التي يشتعل فيها أربعة أبناء بمثل هذا الطموح. والأهم من ذلك أنه كانت لديهم الوسائل لتحقيقه. كان كلّ منهم غنيّا وقويّا ويقود جيشه الخاص، بالإضافة إلى مخزون لا ينضب من الكراهية لأقاربه.
    كان أطفال المغول منذ نعومة أظفارهم يُهيَّؤون للقتال على العرش، فكان عليهم أن يتقنوا فنون القتال للوصول إلى أعلى سلطة، سلطة الإمبراطور. وكان سفك الدماء والقتل جزءا مهمّا من النظام إن أراد المرء تحقيق أعظم رغباته.
    ومع أن شاه جهان كان قد أوضح مرارا أنه عند وفاته سيرتدي ابنه الأكبر تاج المغول، إلا أن مرضه الذي أجبره على الصمت بين أغطية سريره جعل أمنيته حبرا على ورق. وأمضت الثعابين الأربعة الصغيرة سنوات في ترتيب قطَعها على رقعة الشطرنج، بانتظار هذه اللحظة. والآن، وقد بدا الحكم مستعدّا لإعطاء الإشارة، يمكن أن تبدأ اللعبة.
    اندلعت الحرب على الفور، واستعرت في شمال شبه الجزيرة الهندية لمدّة عامين بدا وكأنهما قرنان من الزمان. ولم يُجدِ خبر تعافي شاه جهان، بعد أسبوع من الألم المبرّح واستعداده لاستعادة زمام الإمبراطورية، نفعاً. ففي نظر أبنائه، لم يكن "سيّد العالم" سوى رجل عجوز مسكين. حاول الإمبراطور عبثا تقديم دعمه لابنه الأكبر، دارا شيكو، الذي كان أحبّ أبنائه الى قلبه، وسعى عبر مناشدات متكرّرة لإعادة الثلاثة الآخرين إلى رشدهم، لكن عبثاً.
    وُلِد دارا وأورنغزيب بفارق ثلاث سنوات بينهما. ومن بين جميع أبناء شاه جهان، حظي دارا بأكبر قدر من الحبّ والامتيازات. وبينما كان إخوته يرسَلون إلى مناطق مختلفة من شبه القارّة الهندية، نادرا ما غادر دارا البلاط الملكي بعد تولّي والده العرش. كان محبّا للسلام، متحرّر الفكر ومسلما غير تقليدي. كما كان راعيا للفنون ومولعا بالفلسفة أكثر من الاهتمامات العسكرية. وكانت هذه الصفات تثير استياء معظم الناس.
    ولطالما صوّر المؤرّخون دارا كشخصية مأساوية. كان بمثابة بصيص أمل في عصر اتسم بالتشدّد الديني. فقد أدرك تنوّع الثقافة الهندية وتقاليدها المتعدّدة، وقادته رحلته الروحية إلى استكشاف القواسم المشتركة بين ديانات شبه القارّة. وكرّس نفسه لأكثر من عشر سنوات لتجميع تعاليمه الروحية والصوفية في سلسلة من الكتب. كان يمكن لدارا أن يغيّر مجرى التاريخ في الهند لو أصبح إمبراطورا للمغول. وقيل إنه لولا الصراع المرير على العرش، لكان أحد أعظم الفلاسفة الذين شهدهم تاريخ شبه القارّة.
    نيكولو مانوتشي، المغامر الفينيسي الذي كان يعمل في البلاط المغولي، شهدَ مجريات حرب الإخوة بأكملها من مؤخّرة جيش دارا، ورأى كيف تسير الأمور في الهند. وقد قدّم وصفا حيّا لموت دارا شيكو عندما كتب: بعد أسر دارا، أمر أورانغزيب رجاله بإحضار رأسه إليه. وقد فحص الرأس بدقّة أوّلا للتأكّد من أنه دارا بالفعل. ثم أعدّ خطّة شرّيرة ومخزية. إذ أمر بوضع الرأس في صندوق وتقديمه إلى والده المريض والمعزول شاه جهان، وبأن يسلَّم الصندوق فقط عندما يجلس والده لتناول العشاء. وفتح شاه جهان الصندوق دون أن يشكّ في شيء. وبعد أن رأى ما بداخله، أصيب بالرعب وفقدَ وعيه".
    لم تكن المعركة مجرّد صراع بين دارا وأخيه المتمرّد، بل تحوّلت إلى حرب دينية، حيث دعم الهندوس دارا المتسامح والمسالم، ودعم العديد من النبلاء المسلمين أورانغزيب. كان دارا على وشك النصر عندما خانه أحد قادته، فانسحب إلى لاهور ثم عبَر نهر السند. وفي النهاية أُحضر إلى دلهي وحوكم وأُعدم بتهمة الردّة! ثم عمد أورانغزيب الى محو اسم دارا من السجلّات الرسمية لكي يُبقي مكان دفنه مجهولا. لكنه مع ذلك حرص على تزويج أبنائه فيما بعد من بنات دارا.
    وفي الخامس من يونيو عام ١٦٥٩، عندما اعتلى أورانغزيب العرش الإمبراطوري أخيرا، كان قد خطا فوق جثث إخوته الثلاثة.
    كان أورانغزيب الابن الثالث للإمبراطور. وفي بلاط إسلامي كبلاط المغول الذي أنشئ قسرا قبل ذلك بمائتي عام في بلد ذي أغلبية هندوسية، أثارت صرامة أورانغزيب قلق والده. فمنذ صغره، اعتنق الابن المذهب السنّي التقليدي الذي لم يُبدِ أيّ تنازلات تُذكر للتعليم الصوفي الذي غرسه الأب في إخوته الأكثر تسامحاً. كان الأمير يكرّس ستّ ساعات يوميّا للصلاة ويقضي بقيّة وقته في دراسة مكثّفة للفنون العسكرية التي أجادها بإتقان في سنّ العشرين. لم يكن يشرب أو يدخّن، وكان يمرّ على الحريم مرور الكرام ويكره الموسيقى. وبصفته "مسلما صالحا"، كان يُبدي استياءه من الفنون التصويرية.

    ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

    حتى مظهره الجسديّ كان يثير امتعاض رجال البلاط. فبينما كان والده وإخوته غارقين في الترف، كان أورانغزيب يتجوّل دائما مرتديا ثوبا أبيض بسيطا يُبرز شحوب وجهه بشكل مخيف. وبدا أن والده قد لاحظ شيئا مقلقا وراء مظهر ابنه ونظراته وشروده. اعتلاء أورانغزيب للعرش جعل حتى أكثر الناس غفلةً يدركون أن الزمن السهل قد انتهى. كان حفل تتويجه، كما دوّن كاتب سيرته الذاتية "هانز بير"، بمثابة "آخر ومضة من روعة البلاط المغولي". فقد اختار الامبراطور الجديد لنفسه اسم "عالَم غِير"، أي "فاتح العالم"، وهو اسم لم ينادِه به أحد قط. ولكنه كان بمثابة تذكير للجميع بما سيكون عليه حكمه.
    أعاد أورانغزيب فرض الجزية التي كانت مقرّرة على غير المسلمين، وكان تحصيلها في الماضي يتمّ بشكل غير منتظم أو مقنع. ومن الواضح أن أورانغزيب لم يكن يرى أيّ مشكلة في حقيقة أن المسلمين في الهند كانوا لا يزالون أقليّة مقارنةً بالأغلبية الهندوسية. وفي اليوم الذي ظهر فيه 700 شخص أمام القصر للاحتجاج على قرار إعادة الجزية، أمر الامبراطور بأن يُسحقوا بالأفيال.
    كان الجانب الإيجابي لفلسفة أورانغزيب هو أن عرش المغول، ولأوّل مرّة، تولّى زمامه شخص يتمتّع بحسّ سياسي حقيقي. فعلى عكس أسلافه، الذين كانوا ينفقون بسخاء من خزينة الإمبراطورية ويعاملونها كمحفظة ضخمة، كان أورانغزيب ينفق على عمليات نقل البلاط باستمرار من جزء إلى آخر من إمبراطوريته الشاسعة، وذلك لضمان حسن سير الأمور فيها. ولكن حتى هنا، كان أورانغزيب يرى أن إدارة الإمبراطورية بفعالية يتطلّب بالضرورة خضوعها الكامل للإسلام.
    وقد أنفق ثروة طائلة على الصدقات والأعمال الخيرية، لكن غير المسلمين استُبعدوا من هذه الهِبات. ولضمان الرفاه الروحي الكامل لرعيّته، أمر أورانغزيب بهدم مئات المعابد الهندوسية وذبح كلّ من حاول معارضة أوامره. لم يُجبِر الكفار قطّ على اعتناق الإسلام، بل بذل كلّ ما في وسعه لضمان أن يفهم هؤلاء أن اعتناق الإسلام هو السبيل الوحيد الممكن لخلاصهم. لكنه ترك قرار التحوّل لضمير كلّ فرد.
    كتب ذات مرّة في رسالة يقول: ما شأني بإيمان الناس؟! ليتّبع يسوع إيمانه وليتّبع موسى إيمانه". ولكن وجود "المعابد الوثنية" بداخل الدولة وتسامحها مع هذا الأمر في الماضي أصبح بالنسبة له الآن انتهاكا لسلطة الدولة ومخالفة للقانون الإلهي، بل ووصمة عار في ضميره!
    ولم تعد سياسة أورانغزيب الخارجية متّزنة وهادئة، بل أصبح يتصرّف من وحي لقبه "فاتح العالم". وبإصرار لا يكلّ، هاجم جميع الممالك الهندية التي تركها أسلافه تعيش بسلام، كي يكسب الولاءات الرسمية وسيلاً من أموال الجزية لإثراء خزائن الدولة. والعديد من المؤرّخين ينتقدونه لقصر نظره وعدم كفاءته الإدارية والمالية.
    لكن شجاعته في المعارك كانت أسطورية. وحتى قبل اعتلائه العرش، وهو لم يتجاوز الثلاثين من عمره، وبينما كان يخوض معركة ضدّ جيوش ملك بخارى، لاحظ حلول وقت الصلاة اليومية. فترجّل بهدوء عن فيله وسط صيحات وشتائم جنوده. وبعد أن فرش سجّادة صلاته باتجاه مكّة، سجد سجودا طويلا وعيناه مغمضتان، متغافلا عما يدور حوله. وصرخ ملك بخارى قائلا: إنْ قاتلنا مثل هذا الرجل فسنكون كمن يتمنّى الموت"! وأمر بوقف المعركة.
    مع مرور الوقت وتقدّمه في السن، بدأ أورانغزيب يتخلّى عن هذه المآثر، لكن هذا لم يكن يعني تخلّيه عن مشاركته الفعّالة في الحرب كخبير استراتيجي، والأهم من ذلك كخبير حقيقي في الخداع. وتحت قيادته، بلغت إمبراطورية المغول أقصى توسّع لها، بضمّها سلطنتي بيجابور وغولكوندا الجنوبيتين، اللتين قاومتا حتى ذلك الحين كلّ محاولات الغزو.
    ومن الأمثلة على انضباطه الصارم حادثة وقعت بعد غزو بيجابور، آخر معقل عارضَ توسّع الإمبراطورية. في تلك الفترة، وجّه رئيس الوزراء عريضة إلى الامبراطور أخبره فيها بأن الجيش مرهَق. وأضاف: لقد فتحتَ مملكتين عظيمتين. ومن الحكمة الآن أن تعود الرايات الإمبراطورية إلى هندوستان، أرض الفردوس، كي يعلم العالم أن الإمبراطور لم يُغفل شيئا". لكن أورانغزيب خالفَ ذلك الرأي، وردّ على العريضة بقوله: إذا كانت رغبتك هي توعية الناس بأنه لم يعد هناك عمل يُنجز، فاعلم أن هذا مخالف للحقيقة. فما دام في صدري نفَس واحد من هذه الحياة الفانية، فلن يكون هناك راحة من الكدح والتعب".
    حكمَ أورانغزيب الهند خمسة عقود. كان ابن شاه جهان الصغير والضعيف الذي لم يكن والده ليراهن عليه ولو بدرهم، وصار آخر المغول العظام. وبعده، ولمائة وخمسين عاما أخرى، استمرّت السلالة في تراجع طويل ومؤلم على يد حكّام بائسين وغير أكفاء. كان أورانغزيب، بميله الفطري للتشاؤم، مدركا تماما لكلّ هذا. وكان أوّل من أيقن، وهو في أواخر عمره، أنه ناضل طوال حياته في محاولة لبناء إمبراطورية محكوم عليها بالزوال. عداوته للهندوس الذين كانوا يحترقون بكراهية متأصّلة تجاهه، وتنامي نفوذ التجّار الإنغليز، حوّلا مخاوفه إلى حقيقة.
    رسائل أورانغزيب التي كانت يوما ما تتألّق بسلطة لا تقبل الشك، اكتسبت مع مرور الوقت نبرة يائسة وكئيبة. وبدأ فيها يطلق على نفسه لقب "هذا المخلوق البائس"، معبّرا عن شعور بالذنب لم يكن في الواقع سوى الوجه الآخر لتعصّبه. وقد كتب إلى ابنه "عزّام" يقول: لا أعرف بأيّ عقاب سيُحكم عليّ، فأنا بالفعل مثل دبّ عجوز تعذّبه لدغات النحل، وحياتي هي بمثابة تذوّق مسبق لنار الجحيم". وفي كثير من الأحيان، سمعه بعض رجال البلاط، وهو في ذروة يأسه، يكرّر رباعية شعرية مريرة تقول: عندما تبلغ التسعين، فإن ألف ضربة ستُزعزع سلام قلبك. وعندما تبلغ المائة، فإن حياتك لن تكون سوى موت مقنّع".
    وقبل وفاته بفترة وجيزة، وبعد أن كتب وصيّته، كان أورانغزيب قد أصبح شيخا يائسا ووحيدا. لم يثق بأبنائه قطّ، وسجنهم مرارا، خوفاً من أن يعاملوه بنفس المعاملة التي عامل بها والده وإخوانه الثلاثة. وقد كتب لوريثه قائلا: لا تثق بأبنائك ولا تعاملهم بألفة أو محبّة أبدا!". كان قد وضع كلّ أمله في الله، مع أنه كان يشعر في أعماق نفسه أنه لم يبذل جهدا كافيا لإرضائه.
    وكبادرة استسلام أخيرة، طلب أورانغزيب أن يُدفن جثمانه بعد وفاته في التراب، ملفوفاً في كفن، دون نقوش ولا شاهد قبر. وكان المال الذي كسبه من خياطته الملابس للفقراء، وهي مهنة كرّس نفسه لها في آخر حياته، هو كلّ ما سيُنفق على جنازته. وعندما فاجأه الموت، في فبراير عام 1707، كان يصلّي. كان عمره يناهز الـ 88 عاما.
    وهكذا مات أورانغزيب، الوليّ والطاغية، أحد أكثر الشخصيات إثارةً للجدل في تاريخ الهند، بعد أن حكم ما يقرب من خمسين عاما. وكان آخر امبراطور عظيم يحكم الهند قبل الاستعمار البريطاني.

    Credits
    archive.org
    darashikoh.in

    الأحد، أكتوبر 19، 2025

    نصوص مترجمة


    ○ في بلاط السيّد العظيم هوريكاوا، يعيش رسّام مشهور يُدعى يوشيهيدي، يولي فنّه أهميّة أكبر من أيّ شيء آخر تقريبا. هذا الرجل العجوز المتذمّر لا يسمح للسيّد أو العادات المتعارف عليها أو حتى للآلهة نفسها بأن تقدَّم على فنّه. ويتّفق كلّ من يراه على أن عمله مبهر، إلا أنه دائما ما يبثّ فيه شعورا بالغرابة والحزن.
    وبينما استطاع رسّامو العصور القديمة العظماء الآخرون أن يجعلوا الناظر الى لوحاتهم يشمّ عبير أزهار البرقوق العطرة في ليلة مقمرة، فإن لوحة يوشيهيدي للمراحل الخمس لتناسخ الأرواح التي تزيّن بوابة معبد رايوغي، تجعل المارّة يسمعون تنهّدات الأرواح ونحيبها، ويشمّون رائحة الجثث. والناس يخشون يوشيهيدي ويكرهونه في آن لقوّة فنّه وغروره المفرط. وبسبب طريقة وقوفه ووجهه الدميم، يطلقون عليه لقب ساروهيدي أو "جلد القرد".
    وليس هناك سوى شيء واحد في العالم يهتمّ به يوشيهيدي إلى جانب الرسم، ألا وهو ابنته يوزوكي ذات الخمسة عشر ربيعا. إنه يحبّها كثيرا ويُغدق عليها المال والهدايا الباذخة. وهي بالطبع جميلة العقل والجسد، بقدر قبحه هو. وكما يقول الراوي، فإن عاطفته تجاه ابنته هي الدليل الحقيقيّ الوحيد على وجود شيء من الإنسانية فيه. ولذلك، أُصيب بالحزن الشديد عندما استُدعيت للخدمة في قصر السيّد العظيم كخادمة.
    ولأنها تتميّز بذكائها وعمق شخصيّتها، سرعان ما أصبحت من مفضّلات سيّدة القصر. ثم لم تلبث أن لفتت انتباه السيّد العظيم نفسه. ومكافأة لها على إخلاصها في عملها، منحها رداءً حريريا قرمزيا. يقول الراوي عن هذه الهديّة: يجب أن نتذكّر أن السيّد قد كرّم الفتاة لأنه أعجب بتقواها الأبوية، وليس لأنه معجب بشخصها كما أُشيع".
    وبعد ذلك بقليل، استدعى السيّد العظيم الرسّام إلى بلاطه وطلب منه رسم صورة لملاك. وأبدع يوشيهيدي في الرسم لدرجة أن السيّد أخبره أنه يستطيع طلب أيّ شيء. وطلب الرسّام إعفاء ابنته من الخدمة في قصره. لكن السيّد قابل طلبه بالرفض التام. ومن ثمّ تزايدت الشائعات بأن الحاكم معجب بالفتاة. أ. ريونوسوكي

    ❉ ❉ ❉

    ○ في جوهر الوجود الممتدّ لما بعد تجربة الموت، يتركّز شعور بالذنب، ذنب الناجي، الذي يصفه نيدرلاند بأنه أسوأ عبء نفسي يُثقل كاهل مرضاه الذين نجوا من القتل. ومن المفارقات المروّعة، كما يقول، أن يتحمّل الناجون، وليس مرتكبو الجرائم النازيّة، عبء هذا الذنب.
    وفي الأدب الألماني بعد الحرب، لم يكن هناك مفكّرون سلبيون متشدّدون مثل باتاي أو سيوران. وما يزال أميري هو الوحيد الذي ندّد بفحش المجتمع المشوّه نفسيّا واجتماعيّا، والغضب الناتج عن افتراض أن التاريخ يمكن أن يستمرّ في طريقه بعد ذلك دون أيّ إزعاج وكأن شيئا لم يكن. وينفريد سيبالد

    ❉ ❉ ❉

    ○ عندما تهاجم مجموعة من الناس، في أيّ بلد في العالم، دينا أو عرقا أو مذهبا معيّنا، لفظيّا أو سلوكيا، على منصّات التواصل الاجتماعي، فإن ذلك يمكن أن يؤدّي إلى توتير العلاقات بين مواطني البلد الواحد وحتى إثارة العنف الطائفي. كما أن تداول الأخبار المزيّفة والصور المعدّلة باستخدام برامج الذكاء الاصطناعي يمكن أن يُسهم في نشر الكراهية والتحريض على العنف. ومثل هذه الأفعال والممارسات قد تُلحق الضرر بالمجتمع وقد تؤدّي إلى آثار سلبية طويلة الأمد.
    احترام أتباع الديانات والمذاهب الأخرى أمر بالغ الأهمية للحفاظ على التعايش والسلم الاجتماعي. وجميع الأديان تدعو إلى الخير وتمقت الشر. والأخيار والأشرار جزء من كلّ دين، وهناك قضايا خلافية في العديد من الأديان. إذن ما الذي يمكن أن يجلبه استخدام العنف المادّي أو المعنوي ضدّ الآخرين باسم الدين؟!
    يجب توخّي اليقظة ومنع نشر الشائعات والكراهية والعمل على تعزيز الوئام الديني والسلم الأهلي في كلّ بلد. ويجب أن تنتصر البشرية على الانقسامات الدينية لكي يتحقّق السلام والتنمية والعدالة للجميع. ففي نهاية المطاف لا شيء يعلو على الهويّة الإنسانية الجامعة. د. ديتمولد

    ❉ ❉ ❉

    ○ إذا كنّا نعتبر الثعالب ماكرة والحمير حمقاء والسلاحف بطيئة، فإن هذا يرجع إلى حدّ كبير إلى حكايات إيسوب الاغريقي. فقد شكّلت تلك الحكايات الممتعة طوال قرون جزءاً من التعليم الأخلاقي للقرّاء، كباراً وصغاراً، في مختلف أنحاء العالم. وأغلب الحكايات تحمل مغزى أخلاقيّاً واضحاً، إما أن تنطق به احدى الشخصيات، أو يقال في جملة ختامية. آدم بايلز

    ❉ ❉ ❉

    ○ عندما كنت طفلا، كنت أستيقظ كثيرا في منتصف الليل. كنت خائفا من أن يكون هناك وحش تحت السرير. في الواقع هذه ذاكرة تاريخية تعود الى مئات الآلاف من السنين، عندما كان البشر يعيشون في براري السافانا، وكانت هناك في الواقع وحوش كالفهد والأسد تأتي لتأكل الأطفال في منتصف الليل. وإذا استيقظتَ مرعوبا واستغثت بأبيك او أمّك فقد تُكتب لك النجاة. ي. هراري

    ❉ ❉ ❉


    ○ "سماعي راست الذيل" هو نوع من المقطوعات الموسيقية المتضمّنة في فنّ المالوف أو الموسيقى الأندلسية. وهذا النوع من الموسيقى غالبا ما يُعزف في الليل ليثير مشاعر شوق وشجن. وما يزال هذا اللون يؤدّى في بعض انحاء المغرب العربي. ويمكن سماعه هنا بتوزيع جميل تؤدّيه فرقة من العازفين التونسيين.

    ❉ ❉ ❉

    ○ عندما تمدّ يدك إلى هاتفك الجوّال أو حاسوبك المحمول عند الاستيقاظ، فإنك تدعو على الفور القلق والفوضى إلى حياتك. خصّص وقتا للمشي يوميّا. ممارسة الرياضة هي طرد للأرواح الشرّيرة، والمشي علاج سحري للأشخاص الذين يريدون التفكير السليم. عندما نلتصق بشاشاتنا، يبدو العالم غير حقيقي وفظيعا. لكن عندما نخرج ونبدأ في المشي نستعيد وعينا.
    إن قائمة الفنّانين والشعراء والعلماء المشهورين الذين كانوا يقومون بنزهات وجولات سيرا على الأقدام والتجوال في المدينة أو الريف لا تنتهي. فريدريك نيتشه، تشارلز ديكنز، بيتهوفن، هنري ديفيد ثورو وغيرهم. غادر بيتك الى الخارج كلّ يوم وامشِ مسافاتٍ طويلة بمفردك أو مع صديق أو أحد أفراد أسرتك. واحتفظ دائما بدفتر ملاحظات أو كاميرا في جيبك عندما تريد التوقّف لالتقاط فكرة أو صورة. د. إدموندز

    ❉ ❉ ❉

    ○ عند زيارة كنز فنّي شهير كمتحف أورسيه في باريس، من الأفضل عدم الاكتفاء برؤية أعمال كبار الفنّانين من أمثال رينوار ومونيه وفان غوخ وسيزان ومانيه، بل لا يجب تفويت زيارة الغرف الجانبية الأصغر والتي لا يتردّد عليها الكثيرون. وستكون محظوظا برؤية فنون راقية ليست من أعمال الفنّانين الكبار، بل من أعمال أشخاص ربّما لم تسمع بهم من قبل، وينتظرون منك أن تكتشف فنّهم.
    مثلا، على الارجح لم تسمع من قبل باسم إدوار فويّار ولا بلوحته" في السرير" (فوق) المرسومة عام ١٨٩١. ومعظم الناس يمرّون بهذه اللوحة في المتحف دون أن يلتفتوا إليها، رغم أن هذه اللوحة الرائعة تعرض نفسها عليك لتتأمّلها وتستمتع بها.
    وجزء من مشكلة هذه اللوحة أنها تبدو بسيطة بشكل خادع. وإذا لم تخفّف من سرعة خطواتك أثناء مرورك بها، فقد تبدو الصورة إن لاحظتها مجرّد مجموعة من الألواح المسطّحة المتداخلة بألوان باستيل باهتة.
    ومن الواضح أن فويّار استمدّ جزءا من إلهامه في إنشاء اللوحة من الطباعة الخشبية اليابانية التقليدية والتي عادةً ما تكون ثنائية الأبعاد، أي بعرض وطول، ولكن بعمق أو منظور أقل. براد آلان

    ❉ ❉ ❉

    ○ إن وصف أمريكا الاستعمارية بـ"البربرية" أمر غير واقعي أو مبرّر. فقد تأسّست جامعة هارفارد عام ١٦٣٦، وكان العديد من المستوطنين الأصليين في نيو إنغلاند ينحدرون من طبقة النبلاء أو طبقة الملّاك، وتلقّى العديد منهم تعليمهم في كيمبريدج. وشهدت المائة وخمسون عاما التالية تأسيس جامعات ييل وبرينستون وكولومبيا وفرجينيا.
    صحيح أنه في أواخر القرن السابع عشر وأوائل الثامن عشر، وُصفت مناطق نائية من الولايات المتحدة بأنها تعيش حالة من الهمجية والوفرة وسُمّيت أحيانا بـ"لوبرلاند" Lubberland، وقد أشارت إليها شخصيات مثل ويليام بيرد الثاني ملك فرجينيا، لكن هذا لم ينطبق على البلاد ككل.
    ما كانت أيّ دولة همجية لتنتخب رجلا بذكاء توماس جيفرسون رئيسا. ورغم غرابة شخصيّته، إلا أنه لم يكن استثناءً. وبعد اندثار جيل جيفرسون، خلَفهم أشخاص مثل إيمرسون وثورو وهوثورن وميلفيل وهنري جيمس. م. هغنز

    ❉ ❉ ❉

    ○ أصدر الضابط الأمر بإطلاق النار، فردّت عليه 14 رشّاشا دفعةً واحدة. وبدا الأمر كلّه أشبه بمهزلة. وعندما أفاق خوسيه سيغوندو، كان مستلقيا على ظهره في الظلام. وأدرك أنه يركب قطارا صامتا لا نهاية له، وأن رأسه مغطّى بالدم الجاف، وأن جميع عظامه تؤلمه. وفي ومضات الضوء التي اخترقت الألواح الخشبية أثناء مرورهم بالمدن النائمة، رأى جثث الرجال والنساء والأطفال الذين سيُلقون في البحر كالموز المرفوض.
    عبر النافذة، كان هناك رذاذ خفيف من الزهور الصفراء الصغيرة المتساقطة التي هطلت على المدينة طوال الليل كعاصفة صامتة، فغطّت الأسطح وسدّت الأبواب وخنقت الحيوانات النائمة في العراء. تساقطت أزهار كثيرة من السماء، حتى أن الشوارع في الصباح كانت مغطّاة بسجّادة كثيفة، واضطرّوا إلى إزالتها بالمجارف ليتمكّن موكب الجنازة من المرور. غابرييل غارسيا ماركيز

    ❉ ❉ ❉

    ○ كلّما كان الجو معتدلاً، كان بول فيتغنشتاين يجلس وحيداً في فناء منزلي الريفي مغمض العينين، يستمع إلى الأسطوانات التي كنت أشغّلها في الطابق الأول، والتي كان صوتها يخترق النوافذ الواسعة. كان يقول: بعض من موزارت، من فضلك". "بعض من شتراوس، لو سمحت". "بعض من بيتهوفن، أرجوك" وهكذا.
    كنت أعرف أيّ أسطوانات أشغّلها لأضعه في الحالة الذهنية المناسبة. كنّا نستمع إلى موزارت وبيتهوفن معاً لساعات دون أن ننطق بكلمة. وكان هذا شيئاً نحبّه. وكان اليوم ينتهي بعشاء خفيف أعدّه، وبعده كنت أوصله إلى منزله. لن أنسى أبداً تلك الأمسيات الموسيقية الهادئة التي قضيتها معه. توماس برنهارد

    ❉ ❉ ❉

    ○ أودّ أن أطلب منك، سيّدي العزيز، أن تتحلّى بالصبر حيال كلّ ما لا يزال عالقا في قلبك. حاول أن تحبّ الأسئلة نفسها، كغرف مغلقة، ككتب مكتوبة بلغة أجنبية تماما. لا تبحث عن الإجابات الآن، فهي لم تُعطَ لك بعد لأنك لا تستطيع أن تعيشها، والمهم هو أن تعيش كلّ شيء. أما الآن، فعِش الأسئلة. إن فعلت، فربّما تدريجيا ودون أن تدرك، ستجد طريقك نحو الإجابة يوما ما." راينر ماريّا ريلكه

    Credits
    musee-orsay.fr/en
    ynharari.com