:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات كورساكوف. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات كورساكوف. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، يوليو 09، 2025

خواطر في الأدب والفن


  • يركّز الرسم الصيني من منظور الكونفوشية على تمجيد فضائل الإحسان والصلاح واللياقة، والتي تجسّد القيم الأخلاقية والمثل الاجتماعية. والطاوية، بدعوتها إلى التوحّد مع الطبيعة والسعي إلى التوازن، تنبع بعمق من المناظر والعناصر الطبيعية داخل بيئة الرسم الصيني. فالجبال والأنهار وأشجار الخيزران، التي يُنظر إليها كرموز للنزاهة والمرونة والتواضع، لا تصوَّر فقط لجاذبيّتها الجمالية، بل باعتبارها تجسيدا للتعايش المتناغم بين الين واليانغ ورمزا للبحث الطاويّ عن التوازن والهدوء.
    والبوذية، بتأمّلاتها في المعاناة وعدم الثبات والتنوير، تنعكس في الرسم لتوضّح عوالم الوجود البشري والمسارات المؤدّية إلى اليقظة الروحية. وتشكّل زهرة اللوتس، التي تخرج نقيّة من الوحل، زخارف متكرّرة ترمز إلى النقاء والتنوير في خضمّ معاناة العالم.
    إن التيّارات الفلسفية المتعدّدة والكامنة في الرسم الصيني تنتج سردا يتجاوز مجرّد المتعة الجمالية، ليتحوّل الرسم إلى تساؤلات وجودية وأخلاقية وكونية. لذا فإن النظر إلى لوحة صينية يعني الدخول في حوار مع حكماء العصور القديمة والتأمّل في التشابك بين الطبيعة والروح والإبحار عبر المسارات الهادئة والحيوية للفكر الفلسفي الصيني.
    ومع كلّ ضربة فرشاة تلامس القماش، لا يُلتقط فحسب جوهر الجبال والمياه والنباتات والحيوانات فحسب، بل يتمّ الاحتفال بها والتأمّل فيها وتجسيد الاعتبارات الميتافيزيقية والجمالية العميقة. وعندما نتأمّل الجبال الضبابية والمياه المتدفّقة والزهور المتفتّحة والأشجار الوارفة في الرسم الصيني، فإننا في الأساس ننظر الى مشهد يتشابك فيه المادّي مع الميتافيزيقي، والواقع الملموس مع التأمّل الفلسفي.
    وكثيرا ما يرمز الجبل، وهو موضوع متكرّر ومهيمن في الرسم الصيني، إلى الجسر الذي يربط بين الأرض والسماء ويجسّد السعي البشري نحو السموّ الروحي والارتقاء الأخلاقي.
    أما الماء، سواء كان متدفّقا على جرف صخري أو متعرّجا عبر وادٍ هادئ، فإنه يمثّل التدفّق الأبدي للحياة والزمن ويعكس التأمّلات الفلسفية حول الوجود والتغيير وعدم الثبات. كما أنه يعكس أيديولوجية الطاوية القائمة على التسليم والمرونة، حيث يمتلك الماء، على الرغم من ليونته وقدرته على التكيّف، القوّة اللازمة لتشكيل حتى أصعب الصخور.
    وفي بتلات الأزهار المتفتّحة والأنهار المتموّجة والقمم الشاهقة في الرسم الصيني، لا يكتشف المرء وليمة بصرية فحسب، بل رحلة روحانية عبر طرق الفلسفات الصينية، وتكريما لعوالم الطبيعة الساحرة التي أشعلت بلا انقطاع خيال وروحانية الفنّانين عبر آلاف السنين.
    والخيزران أيضا له حضوره الدائم في الرسم الصيني. ولأنه ينمو بسرعة غير عاديّة ويظلّ أخضر في ثلوج الشتاء ويعيش لفترات طويلة جدّا من الزمن، فقد أصبح رمزا للحيوية والخصوبة والقدرة على التحمّل. والطريقة التي ينحني بها الخيزران تحت ضغط الرياح، من غير أن ينكسر، جعلته أيضا رمزا كونفوشيا للمسؤولين الذين يتمتّعون بالفضيلة والمرونة في أداء واجباتهم رغم ضغوط الأشخاص المتنفّذين والجماهير، ومع ذلك لا يبتعدون عن مبادئهم الأساسية المتعلّقة بالصواب والخطأ.
    وفي الرسم الصيني لا تعتبر التنانين مجرّد مخلوقات خيالية، وإنما رموز للقوّة الهائلة والخير والبركة. وعلى النقيض من التصوير الغربي لها باعتبارها كائنات مدمّرة وشرّيرة، يجسّد التنّين الصيني عادةً السلطة الإمبراطورية والحماية السماوية. لذا يخلّد الفنّانون هذه المخلوقات الأسطورية أثناء سيرها عبر الجبال والأنهار والكواكب، حاملةً سرديات القوّة والحظّ والشرعية الإمبراطورية.
    وكثيرا ما يظهر طائر الفينيق الأسطوري في لوحات الرسم الصيني كرمز للفضيلة والنعمة والرخاء. كما أن شكله الأنيق الذي يُرسم غالبا بضربات فرشاة دقيقة وألوان نابضة بالحياة، يرمز إلى جوهر الحاكم الخيري. وغالبا ما يوضع الفينيق جنبا إلى جنب مع التنّين ليشكّلا رمزية ثنائية متناغمة عن الحكم المتوازن والمزدهر.
    وفي كلّ تعبير داخل الرسم الصيني، تتداخل الأساطير والفلسفة بحيث يصبح المشهد استكشافا للكون اللامحدود وللرموز والتأمّلات الثقافية في التراث الصيني. ومن خلال الرسم أيضا، يرى المرء التقاء نابضا بالحياة بين الماضي والحاضر والمستقبل، حيث تتشابك الحكمة القديمة مع التأمّلات المعاصرة والتطلّعات المستقبلية.
    من العناصر المفضّلة الأخرى في الرسم الطاوي "خوخ الخلود" الذي يُفترض أنه مزروع من قبل إلهة قويّة في بستان غامض مخفيّ في الجبال إلى الغرب من الصين التاريخية، كرمز للخلود. وتقول القصّة أن تناول ثمرة واحدة منه يحوّل الشخص إلى حكيم طاوي يتمتّع بحياة أبدية، أو على الأقل يعيش عدّة قرون مثل أحد "الثمانية الخالدين" المشهورين في الأساطير.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • استوحى ريمسكي كورساكوف سيمفونيّته المسمّاة عنترة من حكاية عربية لسينكوفسكي. وتقول القصّة ان عنترة، عدوّ البشر المنعزل في الصحراء، أنقذ يوما غزالة من براثن طائر ضخم. وبسبب تعبه من قتال الطائر، نام منهكا. وأثناء نومه حلم أنه في قصر ملكة تدمر. ثم تبيّن له أن الملكة هي نفسها الغزالة التي أنقذها من الطائر. وكمكافأة، سمحت لعنترة أن ينال ثلاثا من أعظم قدرات الحياة: الانتقام والقوّة والحب. وقبلَ هذه الهدايا بامتنان، ثم طلب من الملكة شيئا لنفسه وسألها أن تخلّصه من حياته متى أصبحت هذه القدرات مملّة. ثم لم يلبث أن وقع في حبّ الملكة نفسها. لكنه بعد فترة شعر بالملل من حبّه لها. وهنا تحتضنه الملكة بين ذراعيها وتقبّله الى أن تتلاشى حياته تماما.
    كورساكوف دمج هذه الأسطورة في الحركة الافتتاحية، بينما خصّص الحركات الثلاث الأخرى للتعبير عن كلّ من القوى الثلاث. ويقال إن الرسّام الروسي إيليا ريبين استلهم فكرة لوحته المشهورة "إيفان الرهيب يقتل ابنه" من الإيقاعات المتغيّرة والأمزجة المفاجئة في هذه الموسيقى. هذا التسجيل للسيمفونية تعزفه أوركسترا غوتنبيرغ السيمفونية بقيادة نيمي جارفي الذي يُعتبر أحد قادة الأوركسترا المعاصرين القلائل الذين يفهمون عالم ريمسكي كورساكوف الصوتي. وجارفي يضفي حيويةً وبهجةً على جميع تسجيلاته لكورساكوف، وخاصّةً أعماله الأقلّ شهرةً.
  • ❉ ❉ ❉

  • اقتباسات..
    ◦ كان بابلو نيرودا عاشقا للحياة ومولعا بكلّ شيء: بالرسم والفنّ عموما والكتب والطبعات النادرة والطعام والشراب. وكان الأكل والشرب بالنسبة له تجربة روحية وباطنية تقريبا. كان رجلا محبوبا ومفعما بالحيوية، هذا إن أغفلنا قصائده في مدح ستالين بالطبع. عاش نيرودا في عالم شبه إقطاعي، حيث كان كلّ شيء يؤدّي إلى ابتهاجه وحماسه المفرط بالحياة. وقد حالفني الحظّ مرّة بقضاء عطلة نهاية أسبوع في عزبته. كان حوله حشود من الناس يطبخون ويعملون، ودائما كان هناك عدد كبير من الضيوف.
    ذات مرّة أريته مقالا لأحدهم أزعجني وأثار حفيظتي لأنه أهانني وكذب عليّ. فقال لي: أنت ستصبح مشهورا. أريدك أن تعرف أنه كلّما ازدادت شهرتك، ازداد الهجوم عليك. مقابل كلّ مديح، سيكون هناك إهانتان أو ثلاث. أنا شخصيا عانيت من شتّى الإهانات والصفات السيّئة والعار الذي لا يمكن أن يتحمّله إنسان. لم أنجُ من واحدة من الصفات السيّئة". وكان نيرودا على حقّ، فقد تحقّقت توقّعاته تماما كما قال. ليس لديّ صندوق فحسب، بل حقائب عدّة مليئة بمقالات تحتوي على كلّ إهانة يمكن أن يتخيّلها إنسان. فارغاس يوسا

    ◦ بدأتُ أحلم بالإسبانية، وهو أمر لم يحدث من قبل. أستيقظ وأشعر كأن شيئا ما في داخلي يتغيّر؛ شيئا كيميائيّا لا رجعة عنه. هناك سحر يسري في عروقي. وهناك أيضا شيء ما في النباتات أستجيب له غريزيّا: زهور الجهنّمية الخلّابة والنباتات المزخرفة والجاكاراندا وأزهار الأوركيد التي تنمو على جذوع أشجار السيبا الغامضة.
    وأنا أحبّ هافانا بصخبها وتحلّلها وجمالها الأخّاذ. يمكنني الجلوس بسعادة على إحدى تلك الشرفات المزركشة لأيّام أو أن أؤانس جدّتي في شرفتها المطلّة على البحر. أخشى أن أفقد كلّ هذا وأن أفقد جدّتي مرّة أخرى. لكن عاجلا أم آجلا، سأضطرّ للعودة إلى نيويورك. أعرف الآن أنها المكان الذي أنتمي إليه، ليس بديلا عن هنا، بل أكثر من هنا. كيف لي أن أخبر جدّتي بهذا؟! كريستينا غارسيا

    ◦ إقلق قليلا كلّ يوم، وستخسر من حياتك بضع سنوات. إذا كان هناك خطب ما، فأصلحه إن استطعت. لكن درّب نفسك على عدم القلق، لأن القلق لا يُصلح شيئا أبدا. إذا لم تخصّص وقتا للعمل على خلق الحياة التي تريدها، فلسوف تضطر في النهاية إلى قضاء الكثير من الوقت في التعامل مع حياة لا تريدها. إرنست همنغواي

  • Credits
    chinese-temple.com
    theosophy.wiki/en

    الاثنين، يونيو 13، 2016

    الربيع في الموسيقى الكلاسيكية


    في الموسيقى الكلاسيكية مؤلّفات كثيرة تحتفل بالفصول الأربعة وبالتغيّرات التي تطرأ على الطبيعة مع مقدم كلّ فصل. وأوّل عمل موسيقيّ يخطر بالبال عند الحديث عن الفصول هو كونشيرتو الفصول الأربعة للمؤلّف الموسيقيّ الايطاليّ انطونيو فيفالدي. أيضا لا يمكن نسيان سيمفونية الرعاة التي ألّفها بيتهوفن وصوّر فيها مشاهد وأصوات الطبيعة في فصل الربيع.
    الربيع، بشكل خاصّ، له مكانة خاصّة في الموسيقى الكلاسيكية. وليس هناك من احتفل بالربيع وأجوائه وطقوسه كالمؤلّفين الموسيقيين الروس، وهي ظاهرة نجدها أيضا في الأدب والشعر الروسيّ.
  • تشايكوفسكي، مثلا، كتب كونشيرتو اسماه الفصول . هذا الكونشيرتو يتألّف من اثنتي عشرة حركة، كلّ منها مخصّص لشهر من أشهر السنة. والمؤلّف في كلّ قطعة يصوّر مشاعره وانفعالاته وتجاربه، وكذلك مشاهد الحياة المرتبطة بكلّ فصل.
    الحركة المخصّصة لشهر مارس، مثلا، وعنوانها أغنية القبّرة ، تستثير مزاجا يذكّر ببدايات الربيع. وعندما تبدأ الأرض بالظهور وسط الثلج الذي يكون قد ذاب شيئا فشيئا مع بزوغ أوّل خيوط ضوء الشمس التي تلامس وجه الطبيعة الناعسة، يبدأ غناء القبّرات معلنةً للعالم عن مقدم الربيع.
    الأغاني العذبة لتلك الطيور الصغيرة توقظ العالم من غفوته بعد شتاء طويل. ثم تظهر أولى قطرات الثلج مع بداية الحركة الثانية المخصّصة لأبريل والتي اختار لها تشايكوفسكي عنوان قطرة ثلج .
    والأزهار إذ تنمو تصوّر لنا الجمال الأوّلي للربيع، رغم أن الطبيعة ما تزال مغمورة ببعض الثلج. وقطرة الثلج هي صدى لموسيقى القبّرات، وهي تذكير صُوري بديع بأن الربيع على وشك أن يحلّ.
    هذا الكونشيرتو يتضمّن أيضا حركة بعنوان ليال بيضاء خصّصها المؤلّف لشهر مايو، وهو يأخذنا من خلالها إلى الليالي المثلجة لسانت بطرسبورغ. كان تشايكوفسكي مغرما كثيرا بهذه المدينة الشمالية التي قضى فيها شبابه وكتب فيها أشهر أعماله.
    وفي تصويره هذا للطبيعة، استطاع المؤلّف أن يمزج بين ظاهرة الليل والضوء ليصوّر من خلال هذا المزيج اللحنيّ المركّب طيفا متنوّعا من الانفعالات والمشاعر الإنسانية.
  • ريمسكي كورساكوف كتب، هو الآخر، أوبرا فلسفية موسيقية عنوانها عذراء الثلج ، هي عبارة عن احتفال بالفصول. وقصّة هذه الأوبرا تتجلّى خلال فصل الربيع عندما تمنح الطبيعة الإنسان أجمل وأبهى عطاياها.
    هذا الجمال يتجسّد في شخصية سنيغوروتشكا، عذراء الثلج ابنة الغابة والربيع. عندما تولد سنيغوروتشكا في الغابة، يتعذّر عليها فهم معنى الحبّ. والربيع، أمّ عذراء الثلج، عندما ترى ابنتها في حيرة، توافق أخيرا على أن تعطي سنيغوروتشكا الشعور بالحبّ "حتى وإن كان مؤلما" كما تقول الحكاية.
    وعندما يبدأ قلب سنيغوروتشكا في إدراك مشاعر العاطفة، فإن جمالها البارد كالثلج يبدأ في الذوبان. وكلّ مشاهد هذه الأوبرا، من احتفالات ورقصات دائرية وأغان للرعاة، مزيّنة بالموتيفات الشاعرية للطبيعة عندما تتوشّح بالأزاهير في فصل الربيع.

  • ديمتري شوستاكوفتش ألّف، هو أيضا، مجموعة رقصات "أو فالسات" يتغنّى فيها بالربيع. والموسيقى هنا تأخذ السامع بعيدا إلى عالم حديقة مزهرة في فصل الربيع.
    هذا التوليف كتبه شوستاكوفتش لفيلم بعنوان "ميشورين" يستند إلى قصّة حياة شخص يُدعى ايفان ميشورين، وهو عالم بيولوجيا روسيّ مشهور كرّس حياته كلّها للنباتات.
    وبفضل خبرة ميشورين، اُبتُكرت أنواع عديدة من أشجار الفاكهة. وهو لم يكن يحبّ في حياته شيئا أكثر من رؤية حياة جديدة وهي تنمو من بذرة وحيدة. وفالس الربيع ، وهو ثاني هذه الرقصات، ينقلنا إلى أجواء حديقة ميشورين المزهرة، حيث مئات الأشجار الجديدة تستحمّ في ضوء الشمس الذي انتظرته طويلا.
  • المؤلّف الموسيقيّ الكسندر غلازونوف كتب، هو أيضا، باليه اسماه باليه الفصول . في هذا العمل الفانتازيّ يصوّر لنا المؤلّف الربيع خفيفا ملوّنا. تسمع هذه الموسيقى فتتخيّل الطيور المغرّدة والأزهار اليانعة والنسائم العذبة وهي تحيط بك من كلّ جانب.
    بعد المشهد الأول بعنوان "طبيعة شتوية"، يظهر شخصان قصيرا القامة وبشعر بنّي وهما يغادران الغابة ويشعلان نارا من الحجر لكي يطردا الشتاء وخدمه المخلصين، أي الثلج والبرد والبرَد. وبعدها تكتسي الطبيعة بالأزهار الملوّنة وتبدأ الطيور في الظهور معلنةً عن بشائر الربيع. والفكرة الرئيسية في هذا الباليه هي الصحوة الخالدة للطبيعة وللحياة بعد انقضاء موسم الشتاء.
  • ومن أشهر المؤلّفات الروسية الأخرى التي تصوّر الربيع الكانتاتا التي ألفها سيرغي رحمانينوف بعنوان الربيع. وهذه القطعة تصوّر لنا أحداثا مثيرة ترافق بدايات الربيع، وهي عبارة عن قصص يمتزج فيها الحبّ بالخيانة والجريمة. في هذه القطعة، لا يتمّ توظيف الطبيعة كخلفية للأحداث فحسب، وإنما تُصوّر كمشارك فعليّ في كلّ ما يجري.
    الشخصية القاسية للشتاء تدفع البطل، الذي أمسك بزوجته وهي تخونه، للاقتناع بضرورة قتلها. لكن ومع حلول فصل الربيع الذي ينشر الحبّ والسلام والصبر، تتمكّن الزوجة من أن ترقّق قلب زوجها وتهدّئ من ثائرته فيصفح عنها.
    في هذه الموسيقى، لن تستمع إلى النغمات الرقيقة والدافئة للطبيعة وهي تعلن عن قدوم الربيع، لأن كانتاتا رحمانينوف تصوّر لنا الربيع قويّا ومكثّفا. لكن بإمكانك أن تسمع حفيف أوراق الشجر الذي أراد المؤلّف أن يكون تحيّته الخاصّة إلى جمال فصل الربيع.
  • ايغور سترافنسكي كتب، هو الآخر، باليه اسماه طقوس الربيع . وهذا العمل يأخذنا إلى عالم روسيا الوثنية قبل أكثر من ألفي عام. كان من عادة الروس القدماء أن يوقظوا الأرض من سباتها الشتويّ وذلك بتقديم قربان إلى الربيع، هو عبارة عن صبيّة شابّة. ويتعيّن على الفتاة المختارة أن تؤدّي رقصة طقوسية إلى أن تموت.
    رقصات ومراسم تقديس الأرض، والطقوس الفلكلورية ورقصة الموت التي تؤدّيها الفتاة، تصاحبها موسيقى تصوّر الطبيعة الربيعية في ذروة بهائها وتألّقها. والمؤلّف هنا يقدّم رؤيته للطبيعة من خلال إيقاعات قويّة وتلقائية وذات طاقة تعبيرية هائلة.
    الألحان المركّبة والإيقاعات الوافرة وغير المنتظمة تمثّل عمق مشاعر الروس الأوائل تجاه أصوات ومناظر الربيع وتأثيرها الكبير. والكثيرون يعتبرون هذا الباليه من بين أكثر المؤلّفات تعقيدا في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية.

  • Credits
    classicalarchives.com

    الخميس، يونيو 02، 2016

    عصر تولستوي وتشايكوفسكي


    يزخر الرسم الروسي بالعديد من بورتريهات الكتّاب والموسيقيين والممثّلين ورعاة الفنّ في روسيا. وبعض تلك البورتريهات يعود تاريخها إلى زمن آخر القياصرة، ثمّ الثورة والعهود التي تلتها.
    أحد الكتّاب تأمّلَ في صور هذه الشخصيات الروسية واكتشف انه يندر أن ترى واحدا منها وهو يبتسم. ربّما كان هناك اعتقاد شائع بأن البورتريه مثل الحديث المتوتّر بين الرسّام وجليسه، يمكن أن يقرّبنا من الموضوع أكثر ممّا تفعله الصور الفوتوغرافية الحديثة. وهذا أحيانا صحيح.
    في البورتريه الذي رسمه فاسيلي بيروف لدستويفسكي نقف وجها لوجه مع الروائيّ الكبير. وهو في الصورة يبدو في حالة انحناء ويرتدي جاكيتا بنّيّ اللون، نظراته منسحبة وبعيدة، بينما أصابعه متشابكة. الضوء يلمع على جبينه الفتيّ. وعلى شعره ولحيته ونظراته المتحفّظة ثمّة إحساس بالإنهاك وتركيز داخليّ مثير للاهتمام.
    كان دستويفسكي في ذلك الوقت ما يزال يعيش ذكريات اعتقاله المريرة قبل ثلاثين عاما عندما كان في الثامنة والعشرين من عمره على خلفية انتسابه لجماعة بتراشيفسكي الراديكالية. وقد سيق إلى معسكرات العمل الشاقّ في سيبيريا واُجبر على الخدمة في الجيش، وهو ما أدّى إلى انهيار صحّته وجرح روحه.
    لكنه مع ذلك استمرّ يكتب ولم تنكسر إرادته أبدا. في هذه الصورة لا يمكنك أن ترى شيئا من آثار المعاناة على وجه وعيني دستويفسكي لأن بيروف منحه خصوصية كاملة. لكن بإمكانك أن ترى وتلمس إحساسه بالأسى وبالمرارة الداخلية. في ذلك الوقت، لم يكن دستويفسكي قد كتب "الجريمة والعقاب". لكن البورتريه ينبئ عن ذلك المستقبل.
    ومن أشهر الصور الروسية الأخرى ذلك البورتريه الذي رسمه نيكولاي جي لتولستوي عام 1884، ويبدو فيه الروائيّ المشهور منحنيا على طاولته ومنكبّا على الكتابة وكأنه لا يشعر بالرسّام الذي يجلس بالقرب منه.
    وهناك أيضا لوحة ايليا ريبين التي رسمها لتورغينيف الذي يبدو في الصورة عجوزا بأنف متورّمة وشعر أشيب. كانت علاقة تورغينيف بريبين مفعمة بالثقة. نظراته القاسية تفاجئنا كما لو أننا مذنبون بنفس درجة ذنب الرسّام المتطفّل. وهذا يثبت كيف أننا يمكن أن نحكم على الصور مدفوعين بأفكارنا المسبقة عن أصحابها. كما أن هذا يطرح سؤالا عن مدى كون هذه الصورة حقيقية.
    وهناك أيضا البورتريه الذي رسمه يوسف براس لأنطوان تشيكوف. وقد رسمه الفنّان عام 1898، أي عندما كان تشيكوف في ذروة عطائه ككاتب مسرحيّ. وفي السنة التالية مُثّلت مسرحيّته "العمّ فانيا" على المسرح لأوّل مرّة.
    تشيكوف يرتدي هنا ملابس مرتّبة، مع ياقة بيضاء وبذلة رمادية. وهو يجلس كما لو انه يريد أن يحكم علينا محاولا استنطاق ما بدواخلنا، بينما يصرّ على أن لا يكشف لنا عن شيء من دخيلته.
    تشيكوف هنا لا يبدو كاتبا بقدر ما يبدو طبيبا "وهي مهنته الأصلية" يصغي باهتمام إلى مرضاه ويشخّص عللهم ويصف لهم الدواء المناسب. كان وقتها في الثامنة والثلاثين، وأمامه فقط ستّ سنوات ليعيشها.


    والحقيقة أن معظم هذه الشخصيات توفّيت في سنّ مبكّرة. ومعظمها ملامحها أوربّية أكثر منها آسيوية.
    ومن أشهر البورتريهات الروسية الأخرى لوحة فالنتين سيروف للمؤلّف الموسيقيّ رمسكي كورساكوف. والموسيقيّ يبدو هنا جالسا وسط فوضى من عشرات الكتب.
    وهناك أيضا واحدة من أقوى الصور، وهي لوحة ريبين التي رسمها للموسيقيّ المعروف موديست موسورسكي عام 1881، وقبل وقت قصير من وفاة الأخير. موسورسكي يبدو في الصورة بأنف حمراء وعينين صافيتين.
    الرسّام ايليا ريبين، بمقاربته الحسّاسة والفائقة لكلّ جلسائه الذين رسمهم، هو بطل البورتريه الروسيّ بلا منازع. كان ريبين ابنا لجنديّ من اوكرانيا. وخلفيّته ليست ممّا يثير الاهتمام.
    لكنه صنع لنفسه سمعة طيّبة في سانت بطرسبورغ التي رسم فيها أعمالا مشهورة مثل تلك اللوحة التي يظهر فيها أشخاص يجرّون قاربا. ورغم أن من كلّفه برسم اللوحة كان رجلا من عائلة الإمبراطور، إلا أنها فُسّرت على أنها هجوم على سوء معاملة العمّال وعلى الظلم الاجتماعيّ ككلّ.
    وبعد ابتعاثه إلى فرنسا التي رسم فيها تورغينيف، عاد ريبين إلى روسيا واستمرّ يرسم بنفس الأسلوب الروسيّ المتميّز.
    في لوحات ايليا ريبين مرح وتعاطف وتفهّم. كما أنها تحتوي على الكثير من الدفء، مثل لوحته التي رسم فيها عازفة البيانو الجميلة صوفي مينتر، تلميذة فرانز ليست اللامعة.
    وبراعته أيضا تتجلّى في رسمه للبارونة فارفارا فون هيلدنباندت بخمارها وقبّعتها الغريبة. وقد رسمها باستمتاع يمكن أن تشعر به من طريقته في تصوير السلسلة المتدلّية حول ذراعها وفي طيّات بلوزتها القرمزية.
    كلّ هذه البورتريهات وغيرها من صور العباقرة الروس ليست سوى جزء من المجموعة الفنّية التي راكمها تاجر الأقمشة بافيل تريتيكوف والتي أصبحت من مقتنيات المتحف الذي يحمل اليوم اسمه.
    وهناك عنصر مهمّ يمكن إضافته إلى هذه القصّة، ويتمثّل في الصداقة التي ربطت تريتيكوف والرسّام ريبين الذي لم يكن يرسم له فحسب، وإنما كان ينصحه بالاستعانة بفنّانين آخرين.
    وقد رسمه ريبين أمام مجموعته كي يتذكّره الناس بعد وفاته. وفي تلك الصورة يظهر تريتيكوف كشخص مختلف ومتحفّظ ومعروف بعاطفته العائلية ومحبّته للأدب والموسيقى والمسرح والرسم.
    كان تريتيكوف حريصا على أن تضمّ الصور في متحفه كافّة نجوم روسيا. وقد بدا إصراره واضحا من خلال قصّته مع بورتريه الموسيقيّ موسورسكي.
    كان هذا الأخير قد وصل إلى ذروة شهرته في العام 1874 عندما انتهى من تأليف أوبرا بوريس غودونوف ومتتابعة البيانو بعنوان صور في معرض . لكن بعد فراغه من كتابة هذين العملين، أدمن موسورسكي على الشراب لأيّام.
    وفي عام 1881 اُدخل المشفى لعلاجه من الإدمان. وعندما سمع تريتيكوف بأن حالته خطيرة، أرسل إليه ريبين كي يرسمه. وكان على حقّ، فما أن انتهى الرسّام من آخر جلسة رسم حتى كان موسورسكي قد مات وهو في سنّ الثانية والأربعين.
    كان ريبين يصف موسورسكي بأنه موهوب بالفطرة ومحارب قروسطيّ، مع مظهر بحّار من البحر الأسود . وهو، أي ريبين، لم يتقاضَ أجرا على تلك اللوحة، بل فضّل أن يتبرّع بأجره لإقامة نصب تذكاريّ للمؤلّف الموسيقيّ.
    هناك أيضا بورتريهان آخران مهمّان في مجموعة تريتيكوف، الأوّل للشاعر نيكولاي غوميليف المقتول عام 1921 بسبب أنشطته الثورية، والثاني لزوجته الشاعرة المعروفة آنا أخماتوفا. وقد رسمت البورتريهين الفنّانة اولغا كاردوفسكايا بأسلوب رمزيّ يذكّر بأسلوب إدفارد مونك.
    وبورتريه الشاعرة يبدو أفضل لأننا نعرف من هي. وتبدو جالسة بكبرياء، بينما تظهر خلفها سماء لامعة. وقد رُسمت أخماتوفا عام 1914 بعد حياة حافلة تعرّضت خلالها للمراقبة والمطاردة. لكن هذا لم يقتل شعرها ولم يُخرس معارضتها الشجاعة للفظاعات التي رأتها.

    Credits
    theguardian.com
    ilyarepin.org

    السبت، أغسطس 15، 2015

    موزارت: القدّاس الجنائزي


    من أكثر أعمال الموسيقى الكلاسيكية شهرة وإثارة وغرابة القدّاس الجنائزي لموزارت. وأحد أهمّ الأسباب في كون هذا العمل مثيرا ومشهورا هو طبيعة القصص التي نُسجت حوله والتي يشبه بعضها الأساطير.
    وأنت تسمع قدّاس موزارت، يُخيّل إليك انك تمشي باتّجاه حفرة كبيرة. والحفرة تقع على الجانب الآخر من هاوية لا يمكن أن تراها إلا عندما تصل إلى حافّتها.
    موتك ينتظرك في هذا الجُبّ. وأنت لا تعرف هيئته ولا صوته ولا رائحته. أيضا أنت لا تعرف ما إذا كان جيّدا أو سيّئا. فقط تمشي باتجاهه.
    إرادتك عبارة عن آلة كلارينيت وخطى قدميك مجموعة من آلات الكمان. وكلّما اقتربت من الحفرة، كلّما ساورك إحساس بأن أمرا ما مرعبا ينتظرك هناك.
    ومع ذلك فأنت تمرّ بهذا الرعب كنوع من النعمة أو المنحة. مشيك الطويل ما كان ليكون له معنى لولا وجود هذه الحفرة في نهايته.
    وأنت تحدّق في الهاوية، تسمع فجأة ضوضاء أثيرية تتهشّم فوقك. في الحفرة ثمّة جوقة كبيرة. هذه الجوقة هي المُضيف السماويّ، وفي الوقت نفسه جيش الشيطان. وهي أيضا كلّ شخص أحدث فيك تغييرا أثناء حياتك على هذه الأرض: الأفراد الكثيرون الذين أحبّوك، عائلتك، أعداؤك، والنساء البلا اسم أو ملامح اللاتي نمن في فراشك، والمرأة التي كنت تعتقد انك ستتزوّجها، والمرأة التي تزوّجتها فعلا.
    وظيفة هذه الجوقة هي إصدار الحكم. الرجال يغنّون أوّلا، وحكمهم شديد للغاية. وعندما تنضمّ إليهم النساء، لا تكون هناك فترة راحة، فقط يتنامى النقاش بصوت أعلى وأكثر صرامة. إذن هو نقاش، تدرك ذلك الآن. الحكم لم يتقرّر حتى الآن. ومن المدهش كيف يتحوّل هذا الجَيَشان إلى صراع مثير على روحك التافهة.
    هكذا تصف زادي سميث قدّاس موزارت. لكن ما هي قصّة هذا العمل وكيف ظهر إلى الوجود؟
    في الواقع، قصّة القداس أشبه ما تكون برواية بوليسية تمتلئ فصولها بكلّ عناصر الغموض والتشويق والإثارة. ولنبدأ القصّة من أوّلها..
    في احد أيّام شهر يوليو من عام 1791، وهي السنة التي توفّي موزارت في نهايتها، حدث شيء غريب. فقد زاره في بيته وهو على فراش المرض شخص مجهول قدّم نفسه على انه مبعوث من الكونت فون والسيغ. ولم يكن لموزارت سابق معرفة لا بالكونت ولا بالشخص الذي أرسله.
    وأبلغ المبعوث موزارت بأن سيّده يريد تكليفه بتأليف قدّاس جنائزي يحيي به ذكرى زوجته المتوفّاة. ثمّ دفع الرجل نصف المبلغ مقدّما، وأصرّ على أن يظلّ اسمه واسم سيّده مجهولا.
    كان الكونت فون والسيغ شخصا غريب الأطوار. وقد دخل التاريخ كمحتال ولصّ. كان عازف حجرة هاويا، وكان من عادته أن يكلّف المؤلّفين سرّا بتأليف أعمال موسيقية ثمّ يستلمها وينسبها لنفسه.
    وقد دأب الرجل على إقامة حفلات موسيقية لأصدقائه في منزله كان يعزف خلالها تلك الأعمال المسروقة زاعما انه هو من ألّفها. وفي حالة موزارت أيضا، من الواضح أن الكونت كان يبحث عن شهرة ومجد موسيقيّ لا يستحقّهما عن طريق الادعاء بأن القدّاس من تأليفه.
    موزارت، من ناحيته، قبل التكليف. لكن زيارة ذلك الغريب أنهكت عقله وهدّت جسده الذي كان منهكا أصلا بسبب كثرة العمل والكحول، وأيضا بسبب المرض الغامض الذي سيقتله بعد أشهر.


    بدأ موزارت العمل على القدّاس. وفي الأثناء كانت تساوره الظنون بأن الزائر الغريب لم يكن سوى رسول أتى إليه من وراء القبر وأن الله هو من بعثه وأن الموسيقى ستكون من أجل موته.
    ولهذا كرّس كلّ طاقته لإنجاز العمل. ومن فترة لأخرى، كان ينصرف عنه ليعود للعمل على مؤلّفاته الأخرى. وعندما عاد إلى القدّاس ثانية كان قد أصبح مريضا جدّا. وحينما حضرته الوفاة في فيينا في الخامس من ديسمبر من نفس تلك السنة عن 35 عاما، لم يكن قد انتهى تماما من تأليف القدّاس.
    لكن بعد أيّام من وفاته، كانت أرملته كونستانزا حريصة على أن تحصل على بقيّة الأجر. ولذا قرّرت أن تعهد بالعمل سرّاً إلى عازف آخر كي ينجزه، على أن تسلّمه إلى الكونت كما لو أن موزارت نفسه هو الذي ألّفه بالكامل.
    ومن أوائل من فاتحتهم بالأمر المؤلّف الموسيقيّ جوزيف ايبلر الذي كتب أجزاءً منه قبل أن يعيده إلى كونستانزا. ثمّ سلّمته إلى فرانز سوسماير تلميذ موزارت وصديقه المقرّب الذي أضاف إليه وعدّل فيه بما يناسب طبيعته كـ قدّاس.
    سوسماير كتب الحركات الأربع الأخيرة من القدّاس بما فيها القطعة المسمّاة لاكريموزا، أي الحِداد (الأولى فوق). لكن طريقته في إعادة بناء العمل كثيرا ما تعرّضت للانتقاد، وقيل انه لم يجوّد عمله ولم يكن "موزارتيّاً" بما فيه الكفاية.
    في القدّاس أجزاء مظلمة وتضجّ بالحزن، وأحيانا بالثورة. لكن فيه أيضا أجزاءً مليئة بالسموّ والجمال. خذ مثلا المقطع المسمّى ريكوردير ، أو "تذكّر". الموسيقى هنا حميمة، رقيقة وذات جمال فتّاك. ثمّ إن هذا المقطع يمثّل الرؤية الوحيدة في القدّاس عن عالم لم يفسده الألم والحزن؛ لحظات عابرة من الصفاء لا تدوم طويلا. والحقيقة أن هناك غموضا فاتنا في هذا الموسيقى التي تحرّك الوجدان وتهزّ المشاعر بعمق.
    بموازاة قصّة موزارت مع الكونت، راجت أسطورة أخرى لا تقلّ إثارة. وقد بدأت هذه الأسطورة بعد وفاة موزارت بأربعين عاما، أي عام 1830، عندما كتب الشاعر الروسيّ الكسندر بوشكين دراما قصيرة بعنوان "موزارت وسالييري"، زعم فيها أن الأخير قام بتسميم موزارت عند إتمامه القدّاس. ثم تعزّزت القصّة أكثر عندما ألّف الموسيقيّ الروسيّ ريمسكي كورساكوف قطعة تتحدّث عن تلك المؤامرة المزعومة.
    في فيلم "اماديوس" للمخرج ميلوش فورمان، يظهر سالييري وهو يأخذ القدّاس من موزارت وينسبه لنفسه. وسالييري يُصوّر في الفيلم كشخص نذل وحاقد وحسود يسعى لإبعاد موزارت عن الرعاة والجمهور قبل أن يقوم بقتله بالسمّ.
    أما موزارت فيظهر في الفيلم كشخص غير ناضج ومجنون ومهووس بالجنس والشراب. وهذه الأوصاف في الحقيقة ليست بلا أساس. فموزارت كان، من عدّة وجوه، يشبه الطفل في تصرّفاته، تماما كما هو الحال مع معظم العباقرة.
    طبعا اليوم ليس هناك سوى عدد قليل ممّن يؤمنون بنظرية المؤامرة والسم. صحيح أن ثمّة من يقول إن سالييري اعترف بالجريمة، لكن هذا حدث بعد أن أصبح شيخا هرِما وبعد أن أصابه الخرف بعد محاولة انتحار. غير أن المقرّبين منه ظلّوا ينكرون تماما انه صدر منه مثل ذلك الاعتراف.
    وعلى الأرجح فإن موزارت مات متأثّرا بإصابته بمرض مُعدٍ بعد أن أنهك جسده لأشهر بسبب إسرافه في الكحول ومعاناته من مرض السيفلس.

    Credits
    classicalnotes.net
    baroque.org

    الثلاثاء، أبريل 03، 2012

    موزارت و سالييري

    في صباح الخامس من ديسمبر عام 1791م، توفّي وولفغانغ اماديوس موزارت عن خمسة وثلاثين عاما. وبعد وفاته بأيّام، نشرت إحدى صحف برلين تحقيقا يشير إلى أن جسد الموسيقيّ كان متورّما بعد موته، الأمر الذي يوحي باحتمال انه مات مسموما.
    لكنْ من كان يتمنّى موت موزارت؟
    أرملته، كونستانزا، لم تتحدّث كثيرا عن قصّة السمّ، ومن ثمّ لم تشر بإصبع الاتهام إلى احد. وقد نسي الناس الحكاية لبعض الوقت. غير أنها بُعثت من جديد بعد ذلك بثلاثين عاما. ولم يكن المشتبه به في موت موزارت سوى زميله الموسيقيّ الإيطالي انطونيو سالييري.
    كان سالييري يكبر موزارت بخمس سنوات فقط. وقد اختاره الإمبراطور جوزيف الثاني موسيقيّا للبلاط عام 1774م. كان عمره وقتها أربعة وعشرين عاما. وعندما وصل موزارت إلى فيينا بعد ذلك بسبع سنوات، كان سالييري يحظى بالكثير من الاحترام، خاصّة لدى أفراد الطبقة الارستقراطية. ولم يمض وقت طويل حتى أصبح سالييري ينظر إلى موزارت باعتباره منافسا وموسيقيّا عبقريّا لا يمكن أن يجاريه احد. والكثيرون في أوساط الموسيقى في فيينا لم يكونوا يشكّون في حقيقة أن سالييري كان يضمر الحسد لـ موزارت. ولم يكن موزارت نفسه حريصا على أن يكتم ازدراءه لموسيقيّ البلاط.
    بعد موت موزارت، أرسلت زوجته ابنهما كارل لتلقّي دروس في الموسيقى على يد سالييري. وعندما سُئل الابن إن كان سالييري قام بتسميم والده قال: سالييري لم يقتل موزارت. لكنه نجح في تسميم حياته بالمؤامرات والدسائس".
    ترى هل قتل سالييري موزارت حقّا؟ أين الحقيقة وأين الخيال في هذه القصّة؟
    حكاية قتل سالييري لـ موزارت تكرّست في أذهان الناس بعد ظهور فيلم أماديوس عام 1984م. في الفيلم يستغلّ سالييري، بذكاء، ولع موزارت بالشراب وأزمته المالية وهاجسه بإرضاء والده المتوفّى، ويخدعه بأن يجعله يجهد نفسه في العمل حتى الموت.
    وقد فعل ذلك من خلال تكليفه موزارت بتأليف لحن جنائزي، ثم حدّد له موعدا مستحيلا لإنجازه. والنتيجة أن موزارت التعيس انهار تحت وطأة الإجهاد والضغوط الكثيرة. سالييري يأخذ بعد ذلك مخطوط اللحن وينسبه لنفسه، في نفس الوقت الذي يُلقى فيه بجثّة موزارت داخل قبر مجهول.
    فيلم اماديوس فاز بثمان جوائز أوسكار، بالإضافة إلى عدّة جوائز عالمية أخرى. ولو سألت شخصا عاديّا في الشارع عن الطريقة التي مات بها موزارت، فإنه على الأرجح سيسرد عليك القصّة كما يوردها ذلك الفيلم.
    مضمون الفيلم يستند إلى مسرحية بنفس العنوان ألّفها الكاتب بيتر شافير عام 1979م. ومثل الفيلم، فإن المسرحية تروي الأحداث بطريقة الفلاش باك، وتبدأ بمشهد لـ سالييري وهو يدلي باعترافاته إلى كاهن، بعد أن فشل في محاولة انتحار بسبب شعوره بالذنب.
    بينما كانت موسيقى سالييري تتلاشى ويخفّ تأثيرها وموسيقى موزارت تنمو لتصبح أكثر رواجا وشعبية حتى بعد وفاته، كان سالييري يبذل محاولة أخيرة لأن يصبح شخصا مهمّا في أعين الناس. لذا فإنه يدلي باعتراف كاذب بأنه سمّم موزارت بالزرنيخ. لكن أحدا لا يصدّق اعترافه، ما يجعله عرضة لتهميش وتجاهل اكبر.
    بيتر شافير استلهم مسرحيّته من الشاعر الروسي الكبير الكسندر بوشكين الذي ألّف مسرحية قصيرة بعنوان "موزارت وسالييري" في عام 1830، أي بعد خمس سنوات فقط من وفاة سالييري.

    وفي عام 1898، استُخدمت مسرحية بوشكين، حرفيا تقريبا، في نصّ أوبرا من فصل واحد بنفس العنوان من تأليف نيكولاي ريمسكي كورساكوف. في هذه الحكاية الأبسط والأكثر قتامة، يقوم سالييري، الغيور من مهارة موزارت كمؤلّف والمستاء من تواضع شخصيّته هو، بدعوة موزارت لتناول العشاء. ثم يمارس الاثنان لعبة شبيهة بلعبة القط والفأر، إلى أن تواتي سالييري الفرصة أخيرا لأن يدسّ السمّ في شراب موزارت. بعدها يؤدّي سالييري أغنية احتفالية تلمّح كلماتها إلى انه انزلق إلى حافّة الجنون.
    لسوء الحظ، لم يستطع احد حتى اليوم أن يكشف عن هويّة مرتكب الجريمة الحقيقي. وسبب وفاة موزارت في العام 1791 ما يزال مثار نقاش اليوم، تماما كما كان وقت وفاته. وإذا كان السمّ هو أداة القتل فإنه لا يوجد إجماع حتى الآن في ما يتعلّق بهويّة القاتل.
    التاريخ لا يخفي حقيقة أن موزارت وسالييري كانا متنافسين في مهنتهما. وخلال السنوات التي قضياها معا في فيينا، كان سالييري يحظى باحترام كبير مهنيّا. كان الامبراطور جوزيف الثاني يحبّه كثيرا. وكان يشغل عدّة وظائف منها وظيفة موسيقيّ البلاط ومدير الأوبرا الإيطالية.
    والعديد من أصدقائهما المشتركين كانوا يتحدّثون علناً في الكثير من الأحيان عن جهود سالييري في التأثير على المسارح والمؤدّين كي يفضّلوا أعماله على حساب أعمال موزارت.
    كان سالييري يملك أوبرا ايطالية في فيينا. وكانت تجارب موزارت في هذا النوع من الموسيقى تُفسّر على أنها تجاوز مقصود منه على اختصاص سالييري. لكن لم يكن سالييري بحاجة لأن يقتل موزارت كي يزيحه من طريقه. فقد كانت مكانته في البلاط تمنحه كلّ القوّة التي كان يحتاجها.
    في عام 1823، أي بعد وفاة موزارت بحولي اثنين وثلاثين عاما، حاول سالييري الانتحار بقطع شرايين رقبته. وقد انتشرت شائعة تقول انه فعل ذلك تحت وطأة إحساسه بالذنب بعد أن اعترف بقتله موزارت. شائعة اعتراف سالييري بقتل موزارت انتشرت على نطاق واسع، لدرجة أن منشورا وّزع في فيينا، أثناء أداء السيمفونية التاسعة لـ بيتهوفن، يصوّر سالييري وهو يقف فوق موزارت حاملا كأسا من السمّ.
    موسيقى موزارت كانت محبوبة كثيرا في ذلك الوقت. ومع بقاء قاتله المزعوم على قيد الحياة، فإن غضب العامّة بشأن الجريمة كان كاسحا. غير أن كراهية سالييري لم تكن مسألة مُجمعا عليها. وقد ظهر آنذاك معسكران: الأوّل أولئك الذين كانوا يعرفون سالييري ويدافعون عنه ضدّ هذه الشائعات. والثاني، وهو اكبر بكثير من الأوّل، ويتألّف من الناس الذين لم يكونوا يعرفون أيّا من الرجلين ولم تكن عندهم معرفة مباشرة بشأن ما حدث فعلا.
    والحقيقة انه لا يوجد دليل موثوق يشير إلى أن سالييري أدلى بمثل ذلك الاعتراف. بعض الكتّاب تحدّثوا عن أنهم رأوا الاعتراف مكتوبا بعهدة الكاهن الذي ذهب إليه سالييري. لكن لا يوجد حتى اليوم ما يشير إلى اسم الكاهن أو ما يؤكّد وجود الاعتراف نفسه.
    هناك أيضا حكاية تزعم أن سالييري ذهب في احد الأيّام بصحبة المؤلّف الموسيقي الشابّ روسيني للقاء بيتهوفن في منزله في فيينا. وعندما وصلا إلى هناك قام بيتهوفن بطرد روسيني بعد أن صرخ في وجهه قائلا: كيف تجرؤ على المجيء إلى بيتي بصحبة قاتل موزارت"؟
    وعلى الرغم من أن هذه القصّة تكرّرت أكثر من مرّة، إلا أنها لا تتفق مع ما هو معروف عن بيتهوفن وسالييري. فقد سبق لـ سالييري أن درّس بيتهوفن، وكان الاثنان على الدوام صديقين. كان بيتهوفن يحترم معلّمه كثيرا لدرجة انه، حتى بعد وفاة موزارت، أهدى مجموعة سوناتاته للكمان رقم 12 إلى سالييري وكتب سلسلة من التغييرات على أوبرا الأخير بعنوان فالستاف. وبناءً عليه فإنه، حتّى هذه الحكاية، تبدو غير جديرة بالثقة.

    الدفاع عن سالييري ضدّ شائعات القتل أتى من أوائل من سجّلوا سيرة حياة موزارت ومن بعض تلاميذ سالييري الآخرين. ومن بين هؤلاء شخص كان يُعتبر اقرب المقرّبين من موزارت، أي تلميذه الخاصّ فرانز سوسماير الذي أكمل قدّاس موزارت الجنائزي بعد وفاته.
    كان سوسماير ملازما لـ موزارت، يوميا تقريبا، طوال الأشهر الأخيرة التي سبقت وفاته. وكان على علم بأسباب مرض معلّمه. ومثل الكثيرين، لم يتردّد، هو أيضا، في مواصلة دراسته الموسيقية عند سالييري.
    الجدير بالذكر أن سالييري لم يكن أبدا مثار شبهة. كما أن سجلّه الجنائي كان خاليا من أيّ سوابق. وقد استمرّت مسيرته المهنية في الازدهار على الرغم من هذه الشائعات. كما واصل عدد كبير من الملحّنين دراستهم عنده، بما في ذلك المؤلّفان الموسيقيّان الشابّان فرانز ليست وفرانز شوبرت.
    وعلى الرغم من أن سالييري هو من ناله معظم اللوم عن جريمة قتل موزارت المزعومة، إلا انه لم يكن المشتبه به الوحيد. وعلى النقيض من الأسطورة الشعبية الرائجة، لم يكن سالييري هو الذي كلّف موزارت بكتابة القدّاس الذي اضطرّ للعمل المضني عليه حتى يوم وفاته، بل الكونت فرانز فون والسيك الذي أراد أن يكون اللحن الجنائزي تكريما لذكرى زوجته الراحلة.
    بعض الكتّاب طرحوا فرضيّة تقول بأن موزارت، الذي كان ماسونيّاً، قُتل نتيجة مؤامرة ماسونية. لكن لماذا يقتل الماسونيون واحدا منهم؟ السبب الذي يُستشهد به في معظم الأحيان هو أن أوبرا موزارت، الناي السحري، انتهكت بعض القوانين الماسونية. وأحد المزاعم هو أن ذلك العمل يخفي قصّة رمزية عن مؤامرة ماسونية مزعومة، أو انه يتضمّن استخداما سيّئا لرموز ماسونية. الكاتب جورج فريدريك دومير كان الداعم الأكثر صخبا لهذه النظرية. ومع ذلك، ينبغي النظر لاعتقاده بأن الماسونيين هم من سمّموا موزارت في سياق مزاعمه الأخرى. فقد كان يعتقد أن مؤامرات الماسونية كانت وراء مقتل العديد من رؤساء الدول ورجال الدين والفلسفة.
    ولكن حتى فكرة أن يكون احد مسئولا عن وفاة موزارت لا تحظى بالقبول لدى المؤرّخين المعاصرين. الروايات الأكثر شمولا عن الأشهر الأربعة من مرض موزارت تأتي جميعها من زوجته ومن بعض أصدقائه والمقرّبين منه الذين كثيرا ما كانوا يزورونه، بمن فيهم صوفي، شقيقة زوجته. والحقيقة هي أن لا احد من هؤلاء كان يظنّ انه مات مسموما.
    بعد وفاة موزارت، كتب فرانز نيمتشيك أوّل سيرة عن حياته. واعتمد في كتابه على مقابلات أجراها مع كونستانزا وشقيقتها وعلى العديد من الوثائق التي كانت بحوزتهما. زوج كونستانزا الثاني ألّف، هو أيضا، كتابا آخر عن حياة موزارت ولم يشر فيه إلى أيّ سبب آخر للوفاة غير المرض.
    النظرية السائدة هي أن موزارت كان مصابا بمرض مزمن وخطير في الكلى. وعندما كان طفلا، كان مريضا بما يُعتقد اليوم انه الحمّى القرمزية والحمّى الروماتيزمية، وكلاهما يمكن أن يسبّبا تلفاً في الكلى. هذا التشخيص يتوافق مع تقارير عن حالة موزارت الصحّية في ذلك الوقت. وهناك احتمال بأن يكون الفشل الكلوي قد تسبّب في عدوى أو تورّم، ومن ثمّ تسمّم يمكن أن يكون هو الذي أودى بحياته.
    وهناك نظرية تشير إلى احتمال أن يكون موزارت قد تناول الزئبق كعلاج لمرض الزهري، وهي وصفة كان بعض الأطبّاء يروّجون لها في تلك الأيّام.
    إن من غير المحتمل أن يُعرف السبب الحقيقي لوفاة موزارت. فلم يكن من الممكن نبش جثّته لفحصها، لأنه، وكما يورد الفيلم، دُفن في قبر بلا علامات تميّزه.
    كان موزارت يعبّر عن نفوره من الجنازات التي تتّسم بمظاهر الرسمية والأبّهة. لذا اختارت كونستانزا أن يُدفن في جنازة بسيطة وبحضور عدد محدود من أفراد العائلة والأصدقاء المقرّبين فقط.
    وقد جرت مراسم الدفن في صباح يوم بارد. وتوقّف معظم المشيّعين عند مدخل المقبرة بعد أن القوا على الميّت تحيّة الوداع. ثم اُخذ موزارت إلى مثواه الأخير بصحبة مجموعة صغيرة من الأشخاص الذين كانوا يرتدون ملابس الحداد السوداء. كان هؤلاء هم من بقوا مع الجثمان حتى النهاية. وكان أنطونيو سالييري أحدهم.

    Credits
    theguardian.com
    skeptoid.com

    الخميس، ديسمبر 22، 2011

    أصداء الليالي العربية


    عندما تُرجم كتاب ألف ليلة وليلة إلى الانجليزية والفرنسية في بدايات عصر التنوير الأوربّي، أصبح أفضل الكتب مبيعاً بين المثقّفين الغربيين، في حين كان ما يزال يُنظر إليه في العالم العربي باعتباره مجرّد مجموعة من الحكايات الشعبية الرخيصة.
    وعلى امتداد تاريخها الطويل، فتنت الليالي العربية الكثير من الكتّاب والفنّانين، من غوستاف فلوبير وأوسكار وايلد وغارسيا ماركيز، إلى نجيب محفوظ وإلياس خوري وريمسكي كورساكوف ودوغلاس فيربانكس وآخرين.
    الباحثة والروائية مارينا وورنر تحاول من خلال هذه الدراسة استكشاف قوّة كتاب ألف ليلة وليلة وأثره الكبير والواسع في الثقافة الغربية المعاصرة.

    في بعض الليالي المؤرّقة، وعلى الرغم من المفروشات الوثيرة في غرفة نومه الملكية أو الأنغام المهدّئة التي يعزفها له موسيقيّوه أو حتى الاهتمام الرائع الذي تبديه واحدة أو أكثر من محظيّاته الثلاثمائة، لم يكن الخليفة العبّاسي العظيم هارون الرشيد يستطيع النوم بسهولة.
    كان من عادة الخليفة أن يتمشّى بصحبة مرافقه المفضّل مسرور في حدائق القصر أو في أسواق بغداد متنكّرا. وكان أحيانا يستدعي العلماء ليتبادلوا معه أطراف الحديث كعلاج يعينه على أرق الليل. وعندما تفشل كلّ هذه الأساليب، كان يأمر مرافقه بأن يجلب له من دمشق علي بن منصور الذي اشتهر بظرفه كي يخفّف عنه تأثير ساعات الليل الطويلة بحكاياته المسلّية والمؤنسة. وفي النهاية كان ذلك النوع من القصص هو ما يجلب الهدوء إلى قلب الخليفة ويعينه على النوم.
    هارون الرشيد المسهّد يظهر كشخصية رئيسية في حكايات ما قبل النوم المعروفة بالليالي العربية أو قصص ألف ليلة وليلة. والباحثة مارينا وورنر تشير في كتابها الجديد والبديع عن ذلك العمل إلى أن ألف ليلة وليلة هو في الأساس كتاب عن القصص التي تُروى في السرير. وهي محقّة تماما في هذا الوصف. فالقصص الليلية تتوسّع في الخيال وتصبح معقولة وواضحة عندما يتوارى الظلام خلف المصابيح. هذه القصص عادة لا تسحرنا في ضوء النهار. لكن عندما تسمع صوت الراوي في الظلمة، يُخيّل إليك أنه آتٍ من أقدم ذكريات الإنسان وأن لديه مقدرة شبحية على تمثيل جميع الأصوات التي تأتي من الماضي السحيق.
    حكايات الليالي العربية تتمتّع بخاصية مُعْدية، وهي سهولة انتقالها وترديدها على الألسن. وعندما نسمع حكاية فإننا لا يمكن إلا أن ننقلها لآخرين. هذا الجانب الذي لا يقاوم من السرد القصصي صُوّر بشكل فاتن في الليلة التاسعة والأربعين بعد المائة، حيث يقوم ثعلب بخداع ذئب ويستدرجه للوقوع معه في حفرة. وهناك يتبادل الاثنان الحكايات والحكم والأمثال جيئة وذهابا. أي أنه، حتى في أصعب الحالات والمواقف، هناك حاجة إلى رواية الأساطير والحكايات وتداولها.
    ونفس هذا الحافز هو ما يدفع شهرزاد إلى المحافظة على إدهاش السلطان الضَجِر شهريار وتشويقه ليلة بعد ليلة كي تتمكّن من النجاة من المصير المشئوم الذي حلّ بسابقاتها، أي قطع الرأس عند بزوغ الفجر. وتحت تأثير سحر السرد الذي تتمتّع به شهرزاد، ننسى تقريبا حقيقة أنها تغزل حكاياتها تحت التهديد المستمرّ بالموت.
    الجانب المتغيّر في الليالي، والمتمثّل في السفر عبر الزمن والتمازج بين ثقافات وحضارات مختلفة، فارسية وعربية وهندية وتركية ويونانية ومصرية وإسلامية ومسيحية، هو من العناصر التي تفتن المؤلّفة وورنر على ما يبدو. وهي ترى فيه مفتاحا فريدا للعمليات التخيّلية التي تحكم رمزية الصور وغرابة وغموض القوّة في الثقافة الحديثة.
    وتخصّص المؤلّفة جزءا من كتابها للحديث عن الجنّ "أو الجان" الذين يتصرّفون مثل الآلهة اليونانية، أي بلا منطق وأحيانا تحت تأثير الهوى والنزوات العابرة. كما تتحدّث عن شخصيّة الملك سليمان، سيّد الجنّ في نسختهم الإسلامية، وتورد عنه قصصا لا تختلف كثيرا عن قصص غلغامش وميرلين وبروسبيرو وغاندالف.
    وفي هذا الكتاب أيضا، تناقش الكاتبة كيف أن حكايات الليالي العربية تختبر الحدود بين الأشخاص والأشياء. مثلا، تتحدّث عن الرؤوس المقطوعة التي تتكلّم وعن الكتب التي تقتل أصحابها وعن البساط الذي يطير، محاولةً ربط هذه الظواهر السحرية بأشياء في عالمنا الحديث، كالسينما وسلع الحياة اليومية وماركات المصمّمين وغير ذلك من الأدوات والأشياء التي تحدّد سماتنا وشخصيّاتنا.
    وورنر فيها، هي أيضا، شيء من شهرزاد، على الرغم من أنها تنسج حكاياتها في ظروف اقلّ خطرا. شهرزاد تسرد الحكايات التي كانت قد قرأتها وحفظتها. وصوتها هو حلقة في سلسلة من الحكايات التي تعود إلى العصور القديمة. ودور الكاتبة هنا هو ترسّم خطى نموذجها.
    العديد من القصص التي يتضمّنها كتاب ألف ليلة وليلة تجري في بغداد الأسطورية أو تستمدّ أصولها من مصادر فارسية أقدم. وبعض القصص نجد لها صدى في الحكايات المصرية القديمة من القرن السابع قبل الميلاد. و وورنر متنبّهة إلى هذه الأصداء المبكّرة، لكنها أكثر اهتماما بالتأثير الثقافي والأدبي لـ الليالي العربية على الموسيقيين والفنّانين والكتّاب.
    المعروف أن كتاب ألف ليلة وليلة تمّ جمعه لأول مرّة في مصر المملوكية كي يستعين بحكاياته رواة القصص والكتّاب المتجوّلون أو من يُعرفون بـ "الحكواتيين" الذين شكّلوا نقابة خاصة بهم ووجدوا لهم جمهورا بين روّاد المقاهي المصرية والسورية.
    ورغم أن الكتاب كان في البداية مثار احتقار الأدباء العرب الذين اعتبروه "زبالة شعبية"، إلا أنه أصبح يتمتّع بشعبية عالمية بعد أن ترجمه إلى الفرنسية الباحث انطوان غالان ونشره في اثني عشر مجلّدا خلال السنوات من 1704 إلى 1717م. وقد طهّر غالان الليالي من الشبق والشذوذ الجنسي، وأضاف إليها حكايات أملاها عليه صديق لبناني، وربمّا اخترع هذا الأخير حكايتين أصبحتا من أشهر حكايات الليالي، هما "علاء الدين والمصباح السحري" و"علي بابا والأربعون حرامي".
    ترجمة غالان لـ ألف ليلة وليلة كان تأثيرها ساحقا. فمن فولتير وغوته، إلى هانز كريستيان اندرسن ووليم بيكفورد، وصولا إلى خورخي لويس بورخيس وايتالو كالفينو، أصبح كتاب الليالي العربية ملء السمع والبصر. ولم يكن تأثير الكتاب مقتصرا على الكتّاب والأدباء، وإنما امتدّ ليشمل الملحّنين الموسيقيين "مثل موزارت" والرسّامين والمصمّمين ومخرجي الأفلام السينمائية الذين وقعوا هم أيضا تحت تأثير سحر هذا الكتاب العجيب.
    ترجمة غالان لليالي تشكّل أساس التاريخ النصّي لكتاب مارينا وورنر، مثلما كانت تلك الترجمة أصلا للترجمات الأوربّية اللاحقة من الكتاب. وقد ساعدت تلك الترجمة في تشكيل نظرة الأوربّيين إلى الشرق باعتباره مكانا قديما وغير واقعي بعض الشيء، يسكنه الملوك القتلة والفاسقون والنساء الناعمات والمحظيّات الماكرات.
    يتألّف كتاب وورنر عن ألف ليلة وليلة من خمسة أقسام وعشرين فصلا. ويتضمّن إعادة سرد لخمس عشرة حكاية من بينها "الصيّاد والجنّي"، و"مدينة النحاس" التي يمكن اعتبارها أعظم قصّة منفردة في الليالي العربية، بالإضافة إلى "علاء الدين" التي توصف بالحكاية اليتيمة لأنه لم يُكتشف نصّها العربي الأصلي إلى اليوم. وبعد كلّ حكاية، تنهمك المؤلّفة في استكشاف سياقاتها ودلالاتها وتشعّباتها الأوسع نطاقا.
    والكاتبة بارعة في وصف ما تسمّيه بـ "الشيئية" في القصص، أي الدور المشئوم الذي تلعبه الأدوات والأشياء المنزلية في مصائر البشر.
    كما يشتمل الكتاب على فصل مخصّص للحديث عن مخرجة الأفلام الألمانية لوت راينيغر التي صنعت هي وزوجها في عشرينات القرن الماضي فيلم ظلّ صامت عن مغامرات الأمير احمد، وهي إحدى الحكايات التي يرد ذكرها في ألف ليلة وليلة.
    وورنر ترى في السحر بكافّة أشكاله مفتاحا لفهم العالم المحتشد في ألف ليلة وليلة. السحر ليس مجرّد فنّ غامض، بل طريقة كاملة للتفكير وللحلم بالمستحيل. وهنا بالذات تكمن قوّته الهائلة في فتح العقل على عوالم جديدة من الإنجاز، بحكم أن الخيال يسبق الواقع دائما. السحر كان دائما مرتبطا بالحكمة، وبفهم قوى الطبيعة، وبالبراعة التي تسمح للإنسان بفعل أشياء ما كان ليحلم بها من قبل. والنموذج الأسمى لهذا التفكير السحري هو كتاب الليالي، ببُسُطِه الطائرة وكنوزه الدفينة وكشوفاته المفاجئة.
    غير أن سحر ألف ليلة وليلة ليس مجرّد سحر خيالي، فهو يعتمد على افتراضين غير معلنَين. فطبقا للمعتقدات الإسلامية، فإن عامل السببية أو ربط الأسباب بالنتائج هو من قبيل الأوهام. وما نعتبره سببا، ليس في واقع الأمر سوى من تقدير الله. فهو يعيد خلق العالم في كلّ لحظة. وكلّ ما يحدث هو نتيجة مباشرة لإرادته. والأحداث المحيّرة والرائعة التي تموج بها الليالي العربية هي تصوير دراماتيكي لهذه الفكرة الراديكالية. والعديد من المفكّرين المسلمين يتحدّثون عن ما يسمّونه بالعربية "الألفة"، أي تلك العلاقة الحميمة التي تجمع الأشياء المتباينة بعضها ببعض. هذا النوع من التفكير، الذي يربط اصغر الحشرات على الأرض بأبعد نجمة في السماء، يمكن أن يفسّر العديد من الانتكاسات والتحوّلات المفاجئة في الليالي. وطبقا لهذا التفكير، فإن الأشياء ليس لها جوهر أو ماهيّة ثابتة. وما نراه في الظاهر قد لا يعكس بالضرورة أصل الشيء وحقيقته.
    حتى التمييز بين الأرواح والجمادات، بين الأشياء الواعية واللاواعية، يذوب في التفكير السحري لرواة الحكايات، ما يضفي على السرد سيولة وحيوية.
    بالنسبة للمفكّرين الغربيين، فإن غرابة الليالي العربية فتحت رؤى جديدة للتحوّل: أحلام الطيران، الكائنات التي تتحدّث، القيمة الافتراضية للنقود، وقوّة الكلمة وقدرتها على إحداث التغيير. حكايات ألف ليلة تخلق صورة شعرية عن المستحيل وعن المعرفة والقوى السرّية. وفوق هذا كلّه، أصبح الغربيون مفتونين بالاعتقاد أن المعرفة الحقيقية تكمن في مكان ما آخر؛ في عالم غامض من الصور والأعاجيب.
    كتاب مارينا وورنر عن سحر الليالي العربية هو عمل فريد من نوعه، يمكن أن تقرأه وأنت جالس إلى جوار المدفأة. لكنه بنفس الوقت كتاب موسوعي، ومن السهل أن تفكّر في أن تضيف إليه مواضيع أخرى مثل العمالقة، على سبيل المثال، أو الدراويش أو الواقعية السحرية. "مترجم".


    الخميس، يناير 21، 2010

    قصص ما قبل النوم

    بعض الأعمال الموسيقية العظيمة لا تحتاج سوى إلى ومضات سريعة من الإلهام والخيال حتى تتجسّد وتكتمل. وشهرزاد هي مثال على هذا. فقد كتبها نيكولاي ريمسكي كورساكوف في فترة لا تربو على الثلاثة أشهر. ومع ذلك انتشرت بسرعة واشتهرت على نطاق واسع وأصبحت اليوم من بين أفضل الأعمال الكلاسيكية التي تُعزف بانتظام.
    وقد اعتمد كورساكوف في تأليفها على حكايات ألف ليلة وليلة. وكلّ مقطع في شهرزاد يعبّر عن صورة ما أو عن مزاج معيّن في تلك الحكايات. وقد اختار الموسيقيّ أن يطلق على كلّ حركة من الحركات الأربع عنوانا وصفيا خاّصا به. فالحركة الأولى اسمها البحر وسفينة السندباد. والحركة الثانية تصوّر حكاية الأمير كالندار الذي يتخفّى في الحكاية بقناع ساحر أو مهرّج. والحركة الثالثة تصوّر قصّة الحبّ بين الأميرة بدور والأمير قمر الزمان. والحركة الرابعة تصوّر سلسلة مشاهد تبدأ بالمهرجان في بغداد ثمّ مشهد البحر فتحطّم السفينة.
    على أن أهمّ سمة في هذا العمل الموسيقي الجميل هي صوت الكمان المنفرد الذي يُسمع في كافّة أجزائه. أنغام الكمان السائلة في شهرزاد تولّد إحساسا رومانسيا عميقا تتخلّله بين وقت وآخر لحظات تأمّل وحزن وشجن.

    قدّم كورساكوف شهرزاد لأوّل مرّة في سانت بيترسبيرغ عام 1888م. وفي النسخة الثانية من العمل عمد إلى إزالة العناوين الوصفية منه، في محاولة لجعل الصور والأجواء تذوب وتتمازج في جميع الحركات الأربع.
    الموسيقى الافتتاحية هي من العلامات المميّزة لهذا العمل وهي تتكرّر عدّة مرّات في الحركة الأولى نفسها. وأنت تسمع موسيقى البداية لا بدّ وأن تتخيّل البحر الذي لا يمكن التنبّؤ به وصوت شهريار الغاضب. ومن بين حركة البحر المضطرب والأمواج العاصفة ينبثق صوت الكمان الذي يتهادى سلسا رقيقا وغامضا. ومعه تتخيّل شهرزاد وهي تستعدّ لتروي للسلطان الأشعار والأغاني والقصص التي يُفترض أنها ستؤجّل موتها.
    في شهرزاد فخامة ونعومة وغموض. تسمعها فتستثير في عقلك أجواء الشرق القديم بحكاياته المعطرّة ولياليه الساحرة.
    التناغم والتوليف الرائع في هذا العمل ينمّ عن براعة الموسيقيّ وعبقريّته في توليد وابتكار الثيمات الموسيقية ومزجها بأجواء وصور الليالي العربية. وقد ضمّن العمل بعض الأنغام الفولكلورية الشائعة في بلاد القوقاز.
    شهرزاد قُدّمت عددا لا يُحصى من المرّات وتنافس العازفون في ترجمتها بأساليب وطرق شتّى.
    وما تزال إلى اليوم تحظى بنفس شعبيّتها القديمة وربّما أكثر، على الرغم من مرور أكثر من مائة وعشرين عاما على ظهورها.

    الأربعاء، أكتوبر 14، 2009

    فنّ البورتريه: صورة المبدع


    الهدف المشترك للكاتب والرسّام والموسيقي هو التقاط المَشاهد أو الحالات الانفعالية والمزاجية وتصويرها ومحاولة إبراز الرؤى المنفردة على الورق أو رقعة الرسم أو من خلال النغم.
    الكتّاب يكتبون غالبا عن الفنّانين والموسيقيين في الروايات والمقالات والسير الذاتية. بينما الرسّامون يصوّرون الكتّاب والموسيقيين الذين عرفوهم وأولئك الذين يجدون في حياتهم ما يدفعهم الفضول لرسمه.
    وكثيرا ما يرسم الرسّامون بوتريهات للكتّاب أو الموسيقيين لكي تراهم الأجيال القادمة. لكن أفضل اللوحات هي التي تأتي من تصوّر واضح أو علاقة خاصّة بالموضوع.
    ومثلما أن للموسيقى والرسم علاقة مشتركة باللون والنغم والشكل والإيقاع، فإن تصوير الملحّنين والموسيقيين يتطلب مهارة محدّدة لإيصال الموسيقى داخل روح الموضوع.

    غوته أديب وعالم وفيلسوف ألماني من زعماء حركة العاصفة والاندفاع الأدبية. تطوّر فنّه وزادت خبرته بعد زيارته لايطاليا وتأثّره بالثورة الفرنسية.
    في العام 1786 سافر غوته إلى ايطاليا. ومن هناك كتب إلى أصدقائه في ألمانيا يخبرهم بانطباعاته ومشاهداته عمّا أصبح يُعرف في ما بعد بالرحلة الايطالية.
    كان غوته مدفوعا بدراسة السمات الطبيعية لبيئة البحر المتوسّط وجيولوجيا مناطق جنوب أوربّا. وكان مهتمّا على وجه الخصوص ببقايا الآثار الكلاسيكية وبالفنّ المعاصر. وأثناء زيارته الايطالية زار المعابد القديمة واطلع على بعض جداريات الرسّام المشهور غيوتو، كما أبدى إعجابه بأسلوب حياة الايطاليين. وعندما وصل غوته إلى روما قادما من فينيسيا قابل عددا من الرسّامين الألمان الذين كانوا يقيمون في ايطاليا آنذاك. وكان من بين هؤلاء يوهان هاينريش تيشبين الذي اصطحب غوته إلى نابولي ورسم له احد أشهر بورتريهاته. واليوم لا يتذكّر احد هذا الرسّام إلا بسبب هذا البورتريه بالذات. وفيه يجلس غوته في منطقة أثرية في وسط ايطاليا محاطا بقلاع وأعمدة وبقايا من مبان قديمة. وعلى مقربة منه يقوم جدار اثري نُحتت عليه صور لرجال ونساء.
    كتب غوته في الفلسفة والشعر كما تناول المفاهيم الكلاسيكية للجمال وملامح العمارة الجيّدة. والعديد من قصائده وجدت في ما بعد طريقها إلى موسيقى كبار المؤلفين الموسيقيين مثل فرانز شوبيرت وغيره. ومن مؤلفاته "مأساة فاوست" و"نظرية الألوان".


    كان جيوسيبي فيردي احد أشهر من ألّفوا الموسيقى الاوبرالية. وقد كان فيردي صديقا لمواطنه الرسّام الايطالي جيوفاني بولديني. وتوطدت علاقتهما أكثر أثناء إقامة الاثنين في باريس. في ذلك الوقت، رسم بولديني لـ فيردي بورتريها كتذكار صداقة وإعجاب. وقد ذيّله بعبارة قال فيها: إلى المايسترو من صديقه المعجب بولديني". غير أن البورتريه لم يرق كثيرا لـ فيردي، الأمر الذي اضطرّ الفنان لرسم بورتريه آخر للموسيقي في العام 1886م.
    هذا البورتريه هو الذي أصبح مشهورا في ما بعد. وفيه يظهر فيردي مرتديا سترة سوداء ووشاحا ابيض وواضعا على رأسه قبّعة سوداء اسطوانية الشكل. وقد ذهب فيردي إلى محترف بولديني على مضض وجلس أمام الفنان ساعتين لكي يرسمه.
    فيردي كان سعيدا بالنتيجة هذه المرّة. وقد احتفظ بولديني بالبورتريه لسنوات وكان يطوف به على المعارض الفنية لكي يراه الناس. وقد رفض أن يبيعه حتى عندما عرض عليه أمير ويلز مبلغا مغريا نظير اقتنائه. في ما بعد أهدى بولديني البورتريه إلى متحف الفنّ الحديث في روما حيث ظلّ فيه إلى اليوم.
    من أشهر أعمال فيردي التي يتذكّرها الناس أوبرا عايدة. لكنه اشتهر أكثر بلحن لا دونا موبيليه La Donna Mobile الذي وضعه لأوبرا ريغوليتو والذي أصبح رمزا لايطاليا وللثقافة الايطالية.


    "سرّ الإنسان ليس في أن يحيا فقط، بل أن يكون هناك ما يحيا لأجله".
    عُرف فيودور دستويفسكي برواياته السيكولوجية التي تناول فيها ما يطرأ على نفس الإنسان من حالات وانفعالات متناقضة وطرح فيها الكثير من الأسئلة الأخلاقية والفلسفية.
    كما عالج في أعماله مسائل الخير والشرّ والإلحاد والحرّية والسعادة والشقاء والحبّ والكراهية.
    وقد سبق برواياته أفكار الكثيرين ممّن جاءوا بعده مثل نيتشه وفرويد.
    كان دستويفسكي يعوّل على التحوّلات الروحية للفرد كوسيلة لإحداث التغيير بأكثر مما يمكن أن تجلبه الثورات الاجتماعية. كان معاصرا لـ تولستوي ومعارضا لـ تورغينيف وكتاباته ذات الطابع التغريبي.
    رسم فاسيلي بيروف هذا البورتريه لـ دستويفسكي بعد أن فرغ الأخير من كتابة روايته المشهورة "الجريمة والعقاب". وقد رسمه بتكليف من بافيل تريتيكوف الذي كان حريصا على أن يتضمّن متحفه صورا لأهم الشخصيّات الروسية.
    في البورتريه يبدو دستويفسكي في حالة تأمّل عميق تعزّزه نظراته المفكّرة ولباسه ذو الألوان الداكنة وكذلك الخلفية السوداء. المعروف أن دستويفسكي كان يعاني طوال حياته من نوبات الصرع كما كان واقعا تحت هاجس ما أشيع من انه تسبّب في مقتل والده. من جهتهم، كان الروس يعتبرونه نبيّا ومصلحا فيما كان البعض الآخر يرون فيه ضمير الطبقات الفقيرة والمسحوقة.
    من أشهر رواياته "الأبله" و"بيت الموتى" و"الإخوة كارامازوف".


    من العبارات المشهورة المنسوبة إلى مارسيل بروست: السعادة مفيدة للجسد، لكن الحزن هو الذي يقوّي العقل".
    بروست كان احد أعظم الروائيين الفرنسيين الذين ظهروا في أواخر القرن التاسع عشر. وقد رسم له جاك بلانش هذا البورتريه القوي والمعبّر عندما كان الروائي في الحادية والعشرين من عمره.
    بلانش كان احد رسّامي البورتريه الفرنسيين المعروفين في نهاية القرن التاسع عشر.
    لكنه لم يكن رسّاما فحسب، بل كان بنفس الوقت كاتبا وناقدا أدبيا وموسيقيا. غير أن موهبته في الرسم طغت على ما سواها. وقد رسم بروست بعد أن قرأ كتبه وغاص في حياته الخاصّة وقرأ مذكّراته وأفكاره.
    بروست، الشابّ الوسيم، يظهر هنا بوجهه البيضاوي وعينيه الواسعتين وملابسه الأنيقة.
    وقد ظلّ هذا البورتريه الأكثر دقّة في تمثيل وجه وملامح صاحب الرواية المشهورة "البحث عن الزمن الضائع" التي كتبها على امتداد خمس عشرة سنة وأصبحت في ما بعد إحدى أضخم الروايات التي ظهرت في القرن العشرين.
    بروست احتفظ بالبورتريه حتى وفاته في أوائل عشرينات القرن الماضي.


    "كلّ شيء يمضي. كلّ شيء عابر".
    يعتبر الكسندر بوشكين أشهر شاعر روسي. ويُعزى إليه الفضل في تطوير الشعر الروسي واللغة الروسية. وممّا يميّز شعره مفرداته الثريّة وأسلوبه المعبّر وصوره المبتكرة. وكان يمزج في شعره الدراما بالرومانسية والسخرية.
    هذا البورتريه يعتبر أشهر صورة لـ بوشكين وقد ظهر مرارا على غلاف مجموعته الشعرية الكاملة.
    رسم اوريست كيبرينسكي البورتريه عام 1827م. وهو يعتبر احد اكبر رسّامي البورتريهات الروس في بداية القرن التاسع عشر.
    كانت رسومات كيبرينسكي تعبّر عن فكرة فردانية الإنسان التي روّجت لها المدرسة الرومانسية.
    عندما رأى بوشكين البورتريه لأوّل مرّة قال مازحا: اشكّ الآن في أن المرآة كانت تجاملني".
    وفيه يبدو الشاعر مرتديا سترة سوداء وفوقها وشاح منسدل تعلوه مربّعات حمراء وخضراء.
    في البورتريه يستوقف الناظر شكل اللحية وشعر الرأس الكثيف نوعا ما وملامح الوجه ونظرات العينين التي لا تخلو من تفكير وحزن.
    وفي خلفية اللوحة إلى اليمين هناك طاولة عليها منحوتة على شكل امرأة تعزف آلة وترية.
    في اللوحة أيضا مسحة بطولية تنسجم مع نظرة الوطنيين الروس لشاعرهم الأعظم الذي كانوا يلقبونه بـ شمس الشعر الروسي.
    في العام 1837 جرت مبارزة بالأسلحة النارية بين بوشكين وأحد خصومه أدّت إلى إصابته بجرح نافذ في صدره توفي بعده بيومين. هذا الموت الملحمي أضاف بعدا أسطوريا لشخصية بوشكين الذي أصبح في ما بعد معبّرا عن الضمير الوطني لروسيا.
    من أشهر قصائده "روسلان ولودميلا" و"سجين القوقاز" و"بوريس غودونوف".


    ولد المؤلف الموسيقي الفرنسي اريك ساتي في عام 1866م. كانت مؤلفاته الموسيقية متفرّدة بإيقاعاتها وأسمائها الغريبة مثل "ثلاث قطع على شكل كمّثرى" و"السمكة الحالمة".
    لكن أشهر مؤلفاته هي تلك المقطوعات المعروفة بـ جيمنوبيدي وهي عبارة عن مجموعة من المعزوفات ذات الإيقاع الحزين والبطيء والتي تستمدّ صورها من الشعر.
    كان ساتي على علاقة عاطفية مع الرسّامة وعارضة الأزياء سوزان فالادون التي التقاها عام 1893 في حيّ مونمارتر الباريسي.
    كان المؤلف الموسيقي مفتونا كثيرا بروح سوزان الحرّة وأفكارها المتمرّدة.
    لكن لسوء الحظ، كانت تلك العلاقة تعني لـ ساتي أكثر مما كانت تعني لـ فالادون.
    كان يعتبر أن سوزان حبّه الحقيقي حتى بعد أن دخلت في علاقات عاطفية مع رجال آخرين.
    ومع ذلك، رسمت فالادون بورتريها مثيرا لـ اريك ساتي ظلّ هو يعتزّ به كثيرا واحتفظ به في محترفه الخاصّ إلى أن توفي.
    الفنان بول سينياك رسم ساتي هو أيضا.
    لكن بورتريه فالادون ذو لمسة شخصية خاصّة تعكس روح العلاقة الحميمة التي كانت تربطها بالموسيقي.


    "لا تخافوا الله، بل أحبّوه"!
    ولد جلال الدين الرومي في إحدى قرى شمال شرق فارس قبل أكثر من 800 عام.
    وعندما كان عمره 12 سنة قابل المتصوّف والشاعر الفارسي المشهور "العطّار" الذي قال لوالده: إن الكلمات الحارّة والمحمومة التي تخرج من فم ابنك ستشعل أرواح وقلوب العشّاق في هذا العالم".
    كان الرومي فقيها ومعلّما وشاعرا وعارفا. وقد درج الكثيرون في فارس وأفغانستان والهند ووسط آسيا على مناداته بـ مولانا.
    كان لقاؤه بـ شمس التبريزي يمثل ولادته الثانية.
    "ليست كل عين ترى وليس كلّ بحر يحتوي لآليء". شعر الرومي غيبي يفتن بجماله وبكشوفاته الروحية العميقة.
    هذا البورتريه رسمه له فنان ظلّ اسمه مجهولا. وهو موجود، ضمن أشياء أخرى، في ضريحه في مدينة قونيه التركية التي عاش فيها معظم حياته.
    في البورتريه يبدو الرومي شيخا بلحية وعمامة بيضاء وقبّعة طويلة صفراء. انه ينظر إلى الأرض في تأمّل عميق وعلى وجهه علامات الوقار والسكينة.
    وبإمكان الإنسان أن يتخيّل أن البورتريه رُسم للرومي بينما كان يتلو إحدى قصائده.
    يقال انه كان يميل برأسه يمينا وشمالا عندما كان يقرأ أشعاره. ومن هنا ولدت فكرة الطريقة المولوية التي اشتهرت برقصها الدائري الذي يقال بأنه يوفّر للراقص الصوفي منفذا للعبور من عالم الأرض إلى عالم السماء.
    شعر الرومي واحة للروح إذ يمنح العزاء والراحة لأصحاب العقول القلقة والقلوب المتعبة.
    والدخول إلى عالمه يقتضي من الشخص أن يتخلّى عن الكثير من أفكاره وقناعاته المسبقة.
    في عالم الخفاء، يقول الرومي في إحدى قصائده، ثمّة خشب عود يحترق. وهذا الحبّ هو دخان ذلك العطر".
    وهذا البورتريه يقدّم صورة لإنسان كان دائم التجوال بحثا عن الله.


    كان اللورد بايرون ابرز الشعراء الانجليز الرومانسيين. كما كان أوّل شخصية مشهورة يركب موجة تقديس الجماهير التي حوّلته إلى إلهة شعرية.
    كانت رسائل بايرون إلى زوجته وخليلاته وأصدقائه مثار اهتمام النقاد والمؤرّخين. وعلى عكس الاعتقاد الشائع، لم يكن بايرون ذلك الشخص المنعزل والذي لم يكن يأبه كثيرا بآراء الناس. إذ كان يحتفظ بالكثير من الرسائل التي كانت ترده من المعجبين، وخاصّة من النساء، برغم جرأتها ولغتها الفاضحة أحيانا. وكانت تلك الرسائل تظهر كم كان بايرون يستمتع بهالة التقديس التي كان الناس يحيطونه بها.
    وبسبب صورة الشاعر كبطل رومانسي، كانت النساء مفتونات بمشاهدة صوره. ومن أشهرها هذا البورتريه الذي رسمه له توماس فيليبس عام 1835م والذي يظهر فيه بايرون مرتديا ملابس تقليدية البانية مطرّزة، تتكوّن من عمامة وعباءة وسترة بينما يمسك بخنجر مذهّب طويل.
    ويُرجّح أن البورتريه رُسم له في أثينا حيث كان بايرون يحارب في صفوف الجيش اليوناني ضد الأتراك.
    بايرون، برأي بعض المؤرّخين، كان أهمّ شخصية أوربية في النصف الأول من القرن التاسع عشر من حيث تأثيره على الفنون والأدب والموسيقى. وربّما لا يتفوّق عليه من هذه الناحية سوى نابليون.
    وقد توفي بالحمّى عام 1824 أثناء مشاركته في حرب استقلال اليونان ولم يكن وقتها قد أكمل عامه السادس والثلاثين. وكان لموته المفاجئ تأثير الصدمة في أنحاء كثيرة من أوربا، كما تحوّل إلى رمز للشاعر الثائر والمقاتل في سبيل الحرّية.
    من أشهر مؤلفاته "رحلة تشايلد هارولد" و"دون جوان".


    ولد فريدريك شوبان في وارسو عام 1810م. كان نصف فرنسي ونصف بولندي. وقد اظهر موهبة ملحوظة في العزف على البيانو وهو صبيّ. وفي النهاية انتقل إلى باريس بعد الاضطرابات السياسية التي شهدتها بولندا آنذاك.
    وبالإضافة إلى مقدرته الموسيقية العظيمة ومؤلفاته الرائعة على البيانو، كان لـ شوبان نصيبه من الرومانسية. كما كانت له متاعبه مع مرض السلّ الذي حصد حياة شقيقته وأبيه والذي سيقتل شوبان في ما بعد، أي في العام 1849م.
    الرسّام اوجين ديلاكروا كان صديقا لـ شوبان ورسم له بورتريها عام 1838م. أسلوب ديلاكروا الرومانسي كان متناسبا تماما مع وجنتي شوبان الغائرتين ومظهره الأثيري. البورتريه أصبح تصويرا مشهورا للملحّن في قمّة نجاحه وشهرته. في البداية، رسم ديلاكروا بورتريها ثنائيا يجمع بين شوبان والروائية الفرنسية جورج صاند. كانت صاند امرأة متحرّرة ومغرمة بلبس بناطيل الرجال. كما كانت تدخّن علنا، وهي عادة كانت مستهجنة في ذلك الوقت.
    ورغم أن علاقة الحبّ بين صاند وشوبان بدأت علاقة جسدية، فإن صاند ومع تدهور صحّة شوبان وجدت نفسها تقوم بدور الممرّضة أكثر من العشيقة.
    البورتريه المشترك لـ صاند وشوبان يصوّرهما وهما جالسان جنبا إلى جنب. لكن اللوحة في النهاية قُسمت إلى نصفين. والقسم الذي يصوّر شوبان موجود اليوم في متحف اللوفر.
    كان شوبان يعزو الفضل في صوغ أسلوبه الموسيقي إلى كلّ من موزارت وباخ. ومن أشهر مؤلفاته الموسيقية سلسلة البولونيز بالإضافة إلى معزوفتيه المسمّيتين فانتازي ونوكتيرن .


    ليو تولستوي، مؤلف الروايات الملحمية الكبيرة مثل "الحرب والسلام" و"آنا كارينينا" و"موت ايفان ايليش"، كان موضوعا لعدد من الرسومات.
    إيليا ريبين الرسّام الروسي المولود في اوكرانيا رسم للروائي الكبير عدّة بورتريهات.
    كان ريبين رسّاما موهوبا ودقيق الملاحظة.
    وبورتريهاته المشهورة تصوّر الشخصيات الروسية الكبيرة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
    وقد رسم ريبين بورتريها رسميا لـ تولستوي.
    غير انه أيضا رسم صورا أكثر حميمية للكاتب المشهور وهو يكتب فوق مكتبه، أو يستلقي على العشب وهو يقرأ، أو وهو يقف في الغابة.
    لوحة ريبين التي رسمها في العام 1890 لـ تولستوي وهو حافي القدمين تلفت النظر بشكل خاص لأنها تمزج مكانة تولستوي الأدبية بارتباطه الفطري بالإنسانية وبالأرض.


    الكاتبة الفرنسية كوليت اشتهرت بحياتها المتلوّنة وبمغامراتها العاطفية التي كانت تجري بموازاة أعمالها التي اتسمت بواقعيتها وحسّيتها. كانت كتاباتها تؤشّر على براعتها في تحليل مشاعر المرأة كما أبدعت في وصف الريف الذي نشأت فيه وأحبّته. ومن أشهر رواياتها "قمح وعشب" و"كلودين".
    كوليت كانت أوّل امرأة أديبة تنال جائزة غونكور في زمانها. وقد رسمها الفنان جاك اومبيرت عام 1896 م. في البورتريه تبدو الأديبة في ذروة شبابها وحيويّتها. وقد رسمها الفنان وهي في سنّ الثالثة والعشرين. وتظهر في الصورة وهي تجلس بوضع جانبي بينما تزيّن شعرها بوردة حمراء. في تلك السنّ كانت كوليت متزوّجة من زوجها الأوّل هنري فيلار. كان اكبر منها سنّا وكان يحتفظ بعلاقات أدبية كثيرة. ويقال انه حبس كوليت في غرفة وأرغمها على تذييل رواياتها باسمه.
    في ما بعد تمكّنت من تطليقه واستعادت حرّيتها وأصبحت اسما أدبيا معروفا وشخصية اجتماعية لامعة.


    كان نيكولاي ريمسكي كورساكوف أحد أشهر الشخصيات الروسية التي رسمها الفنان ايليا ريبين قبل ثورة 1917م.
    كورساكوف كان ينتمي إلى مجموعة من المؤلفين الموسيقيين الذين أثروا في المواهب الموسيقية التي ظهرت في ما بعد مثل ايغور سترافنسكي وسيرغي بروكوفييف.
    أسلوب كورساكوف اللحني كان يمزج بين الفولكلور الروسي والتأثيرات الموسيقية الغربية. ومن أشهر أعماله وأكثرها رواجا موسيقى شهرزاد .
    الفنان فالانتين سيروف رسم بورتريها لـ كورساكوف يظهر فيه بنظارات طبية ولحية طويلة وهو جالس إلى مكتبه بينما ينهمك في كتابة نوتة موسيقية لعمل جديد.
    وعلى النقيض من هذا البورتريه الجادّ، يقدّم ايليا ريبين كورساكوف في بيئة أكثر استرخاءً.
    في الصورة الأخيرة يجلس المؤلف الموسيقي على أريكة ويسند مرفقه على وسادة خضراء. ويبدو غارقا في التأمّل كأنّما يفكّر في تفاصيل معزوفة أو لحن موسيقي جديد بينما يحدّق في البعيد.


    "أنا أفكر إذن أنا موجود". لا تُذكر هذه الجملة إلا ويُستدعى اسم ديكارت. اشتهر ديكارت بآرائه عن المعرفة واليقين والشكّ والعلاقة بين الجسد والعقل. وهناك إجماع على أنه مؤسّس الفلسفة الحديثة التي قادت إلى التنوير. كان عقلانيا يؤمن بأن العقل، لا التجريب، هو المصدر الأساسي للمعرفة. ومن أقواله أن الأحاسيس غامضة دائما وانه لا يمكن الوثوق بها.
    في هولندا ألّف ديكارت كتابه "العالم". في تلك الأثناء كانت الكنيسة تحاكم غاليليو لتعليمه أفكار كوبرنيكوس.
    رسم فرانز هولس هذا البورتريه لـ ديكارت، على الأرجح أثناء زيارة الأخير لهولندا عام 1618. وفيه يظهر الفيلسوف بشعره الطويل وقد ارتدى ملابس سوداء وياقة كبيرة بيضاء على خلفية داكنة. شارباه خفيفان وعيناه الكبيرتان تشعّان بالذكاء.
    "عواطف الروح" كان آخر كتاب ألفه ديكارت وتناول فيه مسألة العلاقة بين الروح والجسد. وكان يردّ في الكتاب على تساؤلات اليزابيث أميرة بوهيميا التي كانت تحاوره في مسائل فلسفية وفكرية. والكتاب هو مزيج من علم النفس والأخلاق.
    ذهب ديكارت بعد ذلك إلى السويد بناءً على دعوة من الملكة كريستينا. كان مطلوبا منه أن يصحو في الصباح الباكر لإعطاء الملكة دروسا في الفلسفة. وبسبب أجواء السويد الباردة أصيب بالالتهاب الرئوي ولم يلبث أن توفي هناك في الحادي عشر من فبراير عام 1650م.


    كانت كلارا شومان طفلة عبقرية سحرت أوربّا بموهبتها الموسيقية في بداية القرن التاسع عشر. وقد امتدحها غوته وشوبان بينما أسَرَت عقل الملحّن وعازف البيانو روبرت شومان الذي تزوّجها عام 1840م.ورغم وجود الكثير من القواسم المشتركة بينهما، خاصّة شغفهما بالموسيقى، فإن روبرت كان يعاني من بعض المشاكل النفسية. فقد كانت تأتيه نوبات اكتئاب وحاول الانتحار مرارا إلى أن أودع في النهاية بإحدى دور الرعاية الطبية.
    عدم استقرار حالته دفع كلارا إلى تحمّل مسئولية رعاية أطفالهما السبعة. لكنها استمرّت في تأليف الموسيقى والعزف على البيانو.
    الرسّام يوهان شرام رسم كلارا شومان وهي شابّة في السنة التي تزوّجت فيها شومان.
    وجهها وقور وهادئ وملامحها واثقة. البورتريه ينطوي على مفارقة من حيث أن الزواج غيّر طريقها الإبداعي وجعلها تقدّم احتياجات زوجها على احتياجاتها هي.
    المعروف أن كلارا كانت تربطها علاقة عاطفية مع الموسيقي الألماني برامز. وبعد زواجها من شومان تحوّلت تلك العلاقة إلى حبّ أفلاطوني وأصبحت تقتصر على تبادل الرسائل.


    جان كوكتو شاعر وروائي وفنان وكاتب مسرحي فرنسي.
    كان صديقا للأديبة كوليت بالإضافة إلى شهرته كشخصية بوهيمية.
    كوكتو النحيل وذو الملامح الهادئة واليدين الجميلتين والأصابع الطويلة كان موضوعا جذّابا للرسّامين في زمانه.
    الرسّام اميديو موديلياني كان صديقا لـ كوكتو وقد رسم له في العام 1916 بورتريها أصبح مشهورا في ما بعد لأنه قدّم من خلاله رؤية فريدة لـ كوكتو، الكاتب المتعدّد المواهب والاهتمامات.
    كان كوكتو على الدوام مثقفا ثوريا ومشاكسا.
    وقد عُرف بعلاقته الحميمة بالمغنية الفرنسية المشهورة اديث بياف كما كان معاصرا لكلّ من مارسيل بروست واندريه جيد.
    كان كوكتو متعلقا كثيرا بصديقته بياف.
    وعندما توفيت نزل عليه الخبر نزول الصاعقة وغلبه الحزن والفجيعة وقال لمن حوله: هذا هو يومي الأخير على هذه الأرض".
    والغريب انه توفي بعد ساعات فقط من موتها، أي في الحادي عشر من أكتوبر عام 1963م عن 74 عاما.
    وكان قد أمر بأن يُكتب على شاهد قبره عبارة: سأظلّ بينكم".
    ومن أشهر كتب كوكتو "دم الشاعر" و"رقصة سوفوكليس" و"صوت الإنسان".


    ظهر هذا الرسم لـ شكسبير لأول مرّة على غلاف كتاب يتضمّن مجموعة من أعماله ونشر في العام 1623م. وهذه الصورة له هي الأقرب إلى الصحّة والأصالة.
    الطريقة التي رُسم بها البورتريه دفعت بعض المؤرّخين للاعتقاد أن شكسبير كان ينتمي إلى جماعة فلسفية غامضة تمزج التعاليم المسيحية بالسحر والأفكار الافلاطونية. وتحليل بعض أعماله يوحي بأنه لم يكن جزءا من تلك الجماعة فحسب بل شخصية محورية فيها.
    وقد رسم البورتريه مارتن دروشاوت، على الأرجح بعد وفاة شكسبير عام 1616 . وهناك العديد من الصور التي يعتقد أنها لـ شكسبير، لكن لا توجد أدلّة كافية تؤكّد نسبتها إليه.
    وقد عُثر مؤخّرا على بورتريه قيل انه لـ شكسبير ويظهر فيه رجل يبدو ذا مكانة اجتماعية رفيعة ويرتدي ملابس ايطالية أنيقة وباهظة الثمن تعود للقرن السابع عشر.
    وفي مارس من هذه السنة توصّل بعض الباحثين إلى أن اللوحة تخصّ شكسبير فعلا، ويُرجّح أنها رُسمت له أثناء حياته.


    يعتبر أبو عليّ ابن سينا احد أشهر أطبّاء وفلاسفة الإسلام. عُرف بالشيخ الرئيس وقد ولد قرب بخارى في ما يُعرف اليوم بأوزبكستان وتوفي في همذان بإيران. تعمّق ابن سينا في دراسة فلسفة أرسطو وقال بفيض العالم عن الله. له ميول صوفية عميقة برزت في كتابه "الحكمة المشرقية"، وهو عبارة عن فلسفته الشخصية. من مؤلّفاته المطبوعة "القانون في الطبّ" و"كتاب الشفاء". وله قصيدة مشهورة يقول فيها: هبطتْ إليك من المحلّ الأرفع ورقاء ذات تعزّز وتمنّع". كتب ابن سينا سيرة ذاتية لنفسه غير انه فضّل أن يتجنّب الحديث فيها عن نفسه ليركّز على أفكاره عن الوصول إلى الحقيقة المطلقة.
    هذا البورتريه رسمه لابن سينا فنان يُدعى علي قاري. وباستثناء اسمه، لا يُعرف عنه أو عن حياته شيء. في البورتريه يبدو ابن سينا بملابس فارسية تقليدية تعود للقرن الحادي عشر الميلادي. ملامحه جادّة على شيء من التفكير والتأمّل الذي يعمّقه الوضع الجانبي الذي رُسمت به الشخصية. ملامح الوجه تشي بقدر من الوسامة والوقار. هذا الملمح الهادئ في الصورة يتناقض مع طبيعة العصر الذي عاش فيه ابن سينا والذي اتسم بكثرة الصراعات السياسية بين الفرس السامانيين والأتراك على مناطق النفوذ في آسيا الوسطى.


    كان نيتشه وما يزال احد أكثر الفلاسفة غموضا وإثارة للجدل.
    قيل انه كان عدميا. وقد راعه أن يرى عالما لا يرمز إلى شيء وليس فيه معايير أو قواعد أخلاقية ثابتة.
    وقد سبّبت أفكاره صدمة للكثيرين بينما استقبلها آخرون بالكثير من الثناء والاستحسان.
    هذا البورتريه رسمه له هانز اولد الذي كان مديرا لمتحف الفنون في أكاديمية فيمر الألمانية.
    كان اولد احد أصدقاء نيتشه المقرّبين. وقد نشر الرسم في إحدى المجلات الألمانية آنذاك.
    البورتريه كاريكاتيري إلى حدّ ما. وفيه يبدو نيتشه بعينين غائرتين وحاجبين عريضين وشاربين كثيفين. نظراته الحادّة وملامحه المتمرّدة تذكّرنا بموت الإله وبإرادة القوّة وبالعداء للمسيح وبغيرها من أجزاء المنظومة الفكرية التي قامت عليها فلسفة نيتشه.
    وربّما تشي ملامح نيتشه في هذا البورتريه الغريب بقرب إصابته بالخرف الدماغي الذي عانى منه وأسلمه للعزلة في نهايات حياته.


    كانت هيباتيا أحد رموز الفكر والفلسفة من النساء في العالم القديم. والدها كان فيلسوفا وأديبا وعالم رياضيات. وهي عاشت زمن ازدهار مكتبة الاسكندرية التي كانت آخر من تولّى إدارتها. وقد تفوّقت على كثير من العلماء والفلاسفة في عصرها. كان أتباعها يأتون من أماكن بعيدة لسماع دروسها ومحاضراتها. وكان لـ هيباتيا حضور كبير في أوساط المفكّرين من الرجال الذين كانوا يحترمونها لسماحة أخلاقها ورصانة عقلها.
    كانت تتنقّل ما بين الإسكندرية وأثينا وتعلّم فلسفة أرسطو وأفلاطون. وقد عُرف عنها أنها كانت ذات جمال باهر يزيّنه التواضع والحكمة. غير أنها كانت عصيّة دائما على خاطبي ودّها والطامعين بقلبها.
    وتُروى قصص متضاربة عن الكيفية التي انتهت بها حياتها. تقول إحدى الروايات إن حشدا من المتعصّبين المسيحيين انتزعوها من عربتها ذات يوم وجرّدوها من ملابسها ثم مزّقوها إربا وجرجروها إلى الكنيسة قبل أن يضرموا في جثتها النار. كانت التهمة الترويج للوثنية على حساب المسيحية.
    ومن بين من تطرّقوا لقصّة مقتلها بتلك الطريقة الهمجية والمأساوية كلّ من العالم كارل ساغان وفولتير وسواهما.
    رُسم لـ هيباتيا العديد من البورتريهات المتخيّلة والتي تظهر في بعضها عارية.
    لكن هذا البورتريه لها يجذب العين بأناقة خطوطه ورقّة تفاصيله. وقد ظهر لأوّل مرّة في بدايات القرن الماضي ونُشر في كتاب يضمّ رسوما إيضاحية باللونين الأبيض والأسود وضعها فنّان مجهول.
    لا انفعالات محدّدة هنا عدا أن المرأة تبدو ساهمة وصامتة.
    وإجمالا، فإن الملامح في البورتريه لا تبتعد كثيرا عن ملامح المرأة كما تبدو في الصور التي رُسمت لها في العصور المتقدّمة.


    Credits
    crystalinks.com
    smithsonianmag.com

    الأحد، فبراير 08، 2009

    أجواء روسيّة

    أوّل مرّة سمعت فيها موسيقى موديست موسوريسكي "ليلة على الجبل الأجرد" كانت منذ سنوات في احد برامج الدراما أو لعله كان برنامجا وثائقيا.
    والحقيقة أن هذه القطعة بالذات ليست من تلك النوعية من الموسيقى التي يتمنّى الإنسان أن يسمعها في كلّ حين. فهي موسيقى متوتّرة، مظلمة بل وعنيفة إلى حدّ ما. لكنها مشهورة جدّا، وقد عرفها الناس أكثر بعد أن وظفت في الفيلم المشهور اوديسّا الفضاء.
    والمقطوعة تذكّرنا أجواؤها إلى حدّ كبير بالموسيقى المسماة طيران الفالكيري لـ ريتشارد فاغنر، وبموسيقى ريتشارد شتراوس هكذا تحدّث زرادشت Thus Spoke Zarathustra المستوحاة من عنوان رواية لـ فريدريك نيتشه.
    موسوريسكي استلهم هو الآخر معزوفته من قصّة قصيرة للكاتب الروسي غوغول يمزج فيها بين حكايات الجان والقوى الغريبة بأسلوب فلسفي وتأمّلي. وتزدحم القصّة بمشاهد الغربان والساحرات والأرواح والأشباح والليل والظلام وأجراس الكنائس. إلى آخره.
    والانطباع الذي تثيره هذه الموسيقى في النفس هو مزيج من الخوف والترقّب. وما يكثف هذا الإحساس في نفس السامع بدايتها الدراماتيكية الصاخبة التي تصوّر لحظة وصول الآلهة السوداء إلى الجبل الأجرد. ثم تتنامى وتيرة الموسيقى شيئا فشيئا مثيرة في السامع إحساسا بأن كلّ شيء يسير إلى نهايته الحتمية، أي إلى حيث التضحية والخلاص وانتصار الخير على الشر.
    وليس من المستغرب أن يجد مخرجو الأفلام السينمائية بغيتهم في هذه المقطوعة. فقد تم توظيفها مرارا في العديد من الأفلام مثل سلسلة هالووين وفيلم ديزني المشهور "فانتازيا".
    وما تزال "ليلة على الجبل الأجرد" إلى اليوم من المقطوعات الكلاسيكية المفضّلة والتي تعزف بانتظام. وهي مصنّفة ضمن ما اصطلح على تسميته بالأدب الاوركسترالي، أي الموسيقى الكلاسيكية المستوحاة من أعمال أدبية ومسرحية.
    أما موسوريسكي نفسه فيعتبر واحدا من أفضل المؤلفين الكلاسيكيين في روسيا. وكثيرا ما يُقرن اسمه بأسماء مثل بروكوفييف وشوستاكوفيتش وآرام خاتشاتوريان ورحمانينوف وسترافينسكي وغيرهم من الموسيقيّين الروس المجدّدين.
    وهناك من يشبّه إيقاعات موسيقاه وغناها اللوني والنغمي بالشخصية الروسية نفسها.
    ومن أشهر أعماله الأخرى "صُوَر في معرض"، وهي عبارة عن سلسلة من المعزوفات الموسيقية التي تصف لوحات فنّية بأسلوب يتداخل فيه اللون والنغم بطريقة جميلة ومبتكرة. وقد استوحى موسوريسكي فكرة الموسيقى بعد أن شاهد مجموعة رسوم واسكتشات لصديقه الرسّام والمهندس فيكتور هارتمان.
    موسيقى الصور سهلة، بسيطة وقريبة من النفس، إذ تترك للسامع حرّية أن يكوّن الانطباع الذي يريد عن أجواء ومزاج كلّ صورة.
    بينما "الجبل الأجرد" موسيقى معقّدة وصعبة. قد تسمعها دون أن تحبّها أو ترتاح لها كثيرا. لكن لا جدال في أنها تتسم بحيويّتها الكبيرة وبشحنة الدراما المكثفة فيها.
    الموسيقى الروسية الكلاسيكية، بشكل عام، معروفة بثرائها وعمقها وتنوّعها الكبير من حيث الشكل والمضمون. والذي يريد أن يكتشف روسيا أو يعرف شيئا عن شعوبها وثقافاتها المختلفة لا بدّ له أن يستمع إلى تشايكوفسكي وريمسكي كورساكوف. فموسيقاهما يمكن اعتبارها تمثيلا حيّا وحقيقيا للروح الروسية بما تتضمّنه، أي الموسيقى، من خصائص ومن تنوّع في الثيمات والأفكار، من قومية وملحمية ودينية وعاطفية وتأمّلية وفانتازية.. وخلافه.
    ولو جاز لي أن أضيف اسمين آخرين لاخترت ميخائيل غلينكا مؤلّف روسلان ولودميلا، وهي القصّة الروسية المناظرة لـ روميو وجولييت، وألكسندر بورودين صاحب الأوبرا المشهورة "الأمير ايغور".
    وبورودين لا يبتعد كثيرا في موسيقاه عن نكهة وطبيعة موسيقى تشايكوفسكي وكورساكوف.
    والذي يستمع إلى الأمير إيغور سيدرك أننا إزاء عمل ملحمي، لكنه لا يخلو من عناصر خفيفة، من قبيل القصص الإنسانية والمواقف العاطفية. وقد ألف بورودين الأوبرا في وقت كانت المشاعر الوطنية للروس في أوج اشتعالها وتأجّجها. وعُزفت لأوّل مرّة في ذكرى اعتلاء ألكسندر الثاني عرش روسيا.
    في أوبرا الأمير ايغور يقدّم بورودين صورة غير نمطية عن المغول. إذ لطالما عُرف عن ذلك الشعب ميله للحروب ولحياة الغزو. والانطباع السائد عن تلك القبائل التي استوطنت أواسط آسيا منذ أقدم الأزمنة هو أنهم كانوا من المحاربين القساة والمتعطّشين للدماء الذين ما أن يحلّوا بأرض حتى يروّعوا أهلها وينشروا فيها الدمار والخراب.
    لكن أوبرا الأمير ايغور تقدّم المغول بهيئة شعب محبّ للحياة ومولع بالرقص والغناء ومعاقرة الخمر والنساء.
    والأوبرا تتمحور حول حادثة غزو القبائل المغولية لجنوب روسيا مع ما رافقها من نجاح قائد المغول في اسر الأمير الروسي إيغور وابنه. وفي ثنايا القصّة مشهد يصوّر الخان المغولي وهو يقدّم لأسراه ضروبا باذخة من التسلية والترفيه على هيئة أغان ورقص وفتيات مغريات من العبيد.
    وأشهر أجزاء هذه الأوبرا هو تلك المعزوفة المسمّاة رقصات تتارية والتي تصوّر رقص نساء المغول في قالب إيقاعي يبدأ بطيئا ثم يتصاعد تدريجيا ويغلب عليه استخدام الآلات الوترية والنفخية. وأجمل ما في هذا اللحن هو أصوات الكورال التي تؤدّي غناءً تذكّريا شجيّا يلامس القلب ويثير شعورا بالجمال والتسامي وينقل السامع إلى آفاق وذرى بعيدة.
    هذا الجزء أيضا ينطوي على غنائية رائعة، بألوانه الباذخة وابتكاراته الهارمونية الأخّاذة.
    ولهذا السبب حققت هذه القطعة نجاحا هائلا بدليل كثيرة تسجيلاتها وتنوّع توزيعاتها وحرص اكبر الفرق الاوركسترالية في العالم على إدراجها وعزفها ضمن برامجها الموسيقية.
    وقد أكسبت هذه المعزوفة ألكسندر بورودين شهرة واسعة ووضعته في طليعة أفضل موسيقيّي روسيا في القرن التاسع عشر.
    هذا على الرغم من أنه كان يعتبر التأليف الموسيقي مجرّد هواية لإزجاء الفراغ وللتعبير عن النفس والمشاعر. وكان يكرّس جلّ وقته لمهنته الأصلية ككيميائي وأستاذ في كلية الطب.
    ومن بين أعماله الموسيقية الأخرى التي يجدر التنويه بها الرباعية الوترية ومعزوفته الأخرى بعنوان "في سهوب آسيا الوسطى" التي أرادها أن تكون تذكيرا بماضي روسيا البعيد عندما كانت حدودها الشاسعة محصّنة ومنيعة بما يكفي لصدّ هجمات الغزاة والمغامرين.

    هامش:
    موديست موسوريسكي: ليلة على الجبل الأجرد
    ريتشارد فاغنر: طيران الفالكيري
    ريتشارد شتراوس: هكذا تحدّث زرادشت
    موديست موسوريسكي: صور في معرض
    ميخائيل غلينكا: روسلان ولودميلا
    الكسندر بورودين: رقصات تتارية، في سهوب آسيا الوسطى، الرباعية الوترية

    الاثنين، أغسطس 04، 2008

    الفصول الأربعة

    لو كان انتونيو فيفالدي ما يزال حيّا لكان عمره اليوم 330 عاما. ورغم أن هذا مجرّد افتراض بعيد الوقوع، فإن الأمر المؤكد هو أن فيفالدي ما يزال حيّا بالفعل من خلال موسيقى كونشيرتو الفصول الأربعة الذي ما يزال يعزف إلى اليوم ويستمتع به الناس ويتحدّثون عنه بعد كلّ هذه السنوات الطويلة.
    وهناك شبه إجماع في أوساط المهتمّين بالموسيقى بأن هذا الكونشيرتو الذي كتبه فيفالدي وعمره لا يتجاوز الخامسة والعشرين هو أشهر عمل موسيقي كلاسيكي، بل وأكثر الأعمال الموسيقية رواجا وشعبية على مرّ العصور.
    انه حتى أكثر شعبية وانتشارا من السيمفونية الخامسة لـ بيتهوفن أو السيمفونية الأربعين لـ موزارت أو موسيقى الماء لـ هاندل ومن وترية بــاخ ومن كارمن لـ جورج بيزيه ومن كونشيرتو البيانو لـ تشايكوفسكي ومن مارش كلارك ومن تأمّل شومان الصامت ومن شهرزاد كورساكوف ..
    لكن كيف تحقق ذلك؟ كيف أمكن لبضع نوتات موسيقية كتبت على ورقة صغيرة قبل ثلاثة قرون أن تعيش طوال هذه السنوات بل وأن تصبح برأي بعض النقاد احد أشهر معالم الألفية الماضية دون أن يخفت بريقها أو يخبو سحرها أو يتوقف الناس عن سماعها.
    قد يكون احد الأسباب – بالإضافة طبعا إلى جودة الموسيقى وقيمتها الإبداعية - هو أن العالم يتغيّر باستمرار لكنّ ما بداخلنا لا يتغيّر. والإنسان عادة يحتاج للراحة والتأمّل اللذين توفرهما الموسيقى وهو لا يهتم كثيرا مثلا بمن كتب الموسيقى ولا في أي عصر ظهرت.
    وفي حالة الفصول الأربعة على وجه الخصوص فإن الارتباط الحميم بين الإنسان والطبيعة، يعدّ عنصرا إضافيا مهمّا في رواج هذا العمل الموسيقي وانتشاره.
    في العام 1703 كان فيفالدي يعمل مدرّسا للموسيقى في ملجأ للأيتام بمدينة فينيسيا. وكانت مهمّته تعليم الفتيات العزف على الكمان. وقد خامرته فكرة انجاز هذا العمل في تلك الفترة بالذات.
    وزمن فيفالدي كانت الفصول حاضرة بقوّة في حياة الناس. كان بعضها رمزا للخير والوفرة والنماء، وكان بعضها الآخر يحمل معه نذر الشؤم والخراب على هيئة ثلوج وعواصف وفيضانات تتلف الزرع وتدمّر المحاصيل وتتسبّب في نشر الجوع والفقر والمعاناة.
    وقد وظفت موسيقى الفصول الأربعة في عدد من الأفلام السينمائية والبرامج الوثائقية والإعلانات وخلافها. وعندما ظهر الكونشيرتو لأوّل مرة في العام 1725 ، راق كثيرا للملك الفرنسي لويس السادس عشر لدرجة انه كان يأمر بعزف موسيقى الربيع في المناسبات التي كان يقيمها لضيوفه.
    ويعتبر الكونشيرتو من أفضل الأعمال الموسيقية التي الفت في عصر الباروك. وقد حرص فيفالدي على أن يكتب سوناتا وصفية لترافق كلّ حركة من حركات الفصول.
    الحركة الأولى من "الربيع" تعكس إحساسا بالسعادة والفرح. تبدأ الموسيقى خفيفة مبهجة وهي تعلن مقدم الربيع. وأصوات الكمان تتداخل مع بعضها وكأنها عصافير ترفع أصواتها بالإنشاد والتغريد فرحا بقدوم فصلها الأثير.
    الحركة الثانية صامتة كما يعبّر عنها صوت الكمان الهادئ. المروج مزهرة والقطيع نائم والأنهار والغدران ممتلئة بالماء والرعاة في حالة خلوة وتأمّل.
    في الحركة الثالثة تعود الطيور مجدّدا للغناء. المياه صافية ورقراقة والأزهار متفتّحة والأغصان نضرة والحداة يرفعون أصواتهم بالغناء. لكن هناك في الجو ما ينبئ باقتراب موعد العاصفة.
    الحركة الأولى من "الصيف" بطيئة وكسولة. انه أحد أيام الصيف القائظة. الشمس حارقة والرياح تهبّ بخفّة. لكن سرعان ما يعلو الإيقاع وتتسارع وتيرته مع قرب هبوب العاصفة. هنا يدخل التشيللو بحشرجته وصوته المفرغ معلنا وصول رياح الشمال.
    الحركة الثانية ساكنة، وقورة. كل شيء هادئ عدا أن هذا الوقت هو الوقت الذي تتجمّع فيه الغيوم في السماء.
    الحركة الثالثة مجلجلة وعاصفة. والتشيلو والآلات الوترية تعطي انطباعا عن قوّة الريح وتأثيرها المدمّر.
    في الحركة الأولى من "الخريف" صورة لطيور مهاجرة تعبر الأفق مؤذنة بمقدم الخريف. ثم هدوء. هنا يمكن استحضار صور لسيول وبرق ورعد، وروابي وتلال مغسولة بالمطر.
    في الحركة الثانية تدخل الآلات الوترية والاكورديون لتشيع جوّا من الدعة والاسترخاء. فالنسيم عليل والرياض مبتسمة والورود متألقة. بوسع السامع أيضا أن يتخيّل الفلاحين وهم يستمتعون بالحصاد بينما يسلم البعض الآخر منهم نفسه للنوم الهادئ.
    الحركة الثالثة متوثبة وسريعة. هذا هو موسم الصيد. والصيّادون يتأهّبون ببنادقهم وكلابهم لجني صيد وافر. ووسط الغبار والمعمعة تجاهد الحيوانات الجريحة للفرار بيأس.
    الحركة الأولى من "الشتاء" متوتّرة وجامحة. واهتزاز أوتار الكمان يعزّز الإحساس بالبرد القارس والرياح الباردة. الثلج يغطي الطبيعة وبرودة الجو تلفح الوجوه.
    في الحركة الثانية نتخيّل الأرض وقد اكتست بحلة من الثلج الأبيض الناصع. والمشي فوق الثلج يتطلب الحذر خوف الانزلاق والسقوط. هذه الحركة لا يمكن وصف رقتها وشاعريتها وأناقتها. الموسيقى هنا منسابة في رفق، حزينة .. تخالطها نشوة راقصة. مدّتها بالكاد دقيقتان لكنها ممتعة، مرهفة، عذبة وتعلق في الذهن بسهولة. تسمعها فتحسّ أن الوقت توقف أو كأنك تقف على مشارف حلم..
    الحركة الثالثة تعطي انطباعا عن الجلوس إلى جانب النار. وقرب نهايتها يتسارع صوت الكمان كما لو أننا نسمع وقع جياد تعدو. انه الإعلان عن نهاية الشتاء وعودة دورة الفصول من جديد.


    ولد فيفالدي في فينيسيا يوم 4 مارس 1678 وعمّد راهبا في سنّ الخامسة والعشرين ليلقب في ما بعد بالراهب الأحمر بسبب لون شعره المائل للحمرة. لكنه سرعان ما ترك الكنيسة نتيجة معاناته من الربو وآلام المفاصل. وربّما كان قد ادّعى المرض لكي يعود إلى عشقه الأول، أي الموسيقى.
    كانت الموسيقى في روما آنذاك تشهد ذروة نشاطها وتوهّجها. وكان موسيقيون لامعون مثل سكارلاتي وكوريللي وهاندل جزءا لا يتجزّأ من المناخ الثقافي السائد في ذلك الوقت.
    ومن خلال الفصول الأربعة استطاع فيفالدي إضفاء طابع وصفي على الموسيقى تلعب فيه الوتريات الدور الرئيسي. وبفضله أصبح للموسيقى الايطالية نكهة خاصة ومتفرّدة لا تخطئها الأذن.
    ومن الغريب أن هذا الكونشيرتو، من بين 5000 عمل موسيقي آخر ألفها فيفالدي، هو الوحيد الذي ذاع واشتهر. وقد جنت شهرة الفصول الأربعة على أعمال موسيقية أخرى لـ فيفالدي لا تقلّ جمالا.
    الشعبية الكاسحة التي تمتعت بها الفصول الأربعة عزّزت جاذبيتها لدى العازفين والموزّعين الموسيقيين وجمهور الناس على السواء.
    وقد ظهرت الفصول الأربعة في مئات التسجيلات. وكلّ منها يحاول تقديم العمل وترجمته من منظور مختلف. لكن يمكن التوقف عند أربعة تسجيلات: الأول لعازف الكمان البريطاني نايجل كينيدي. هذا التسجيل ظهر عام 1989 ليكسر كل الأرقام القياسية السابقة في تسجيلات الموسيقى الكلاسيكية وليصبح بالتالي أكثر تسجيلات الفصول الأربعة مبيعا في جميع الأوقات.
    وهناك أيضا تسجيل جميل آخر لعازفة الكمان الروسية فيكتوريا مولوفا تحت قيادة المايسترو كلاوديو ابادو.
    ثم هناك تسجيل عازف الكمان الأمريكي غيل شاهام تحت قيادة اوركسترا اورفيوس. والتسجيل الرابع لعازفة الكمان الأمريكية من أصل كوري ساره تشانغ.
    لكن هناك توزيعين للفصول يعتبران من بين التوزيعات الأكثر خصوصية وتفردّا؛ الأول للألمانية آنا زوفي موتار التي عزفت الفصول الأربعة مع المايسترو العبقري هيربرت فون كارايان والثاني للهولندية جانين يانسن. موتار مبهرة ويانسن متميّزة وترجمتهما للفصول الأربعة تنطوي على ابتكار وتجديد من نوع خاص.

    عندما يأتي الحديث على كونشيرتو فيفالدي، سرعان ما نتذكّر سيمفونية بيتهوفن السادسة المعروفة أكثر بسيمفونية الرُعاة The Pastoral Symphony . الحركة الثانية من هذه السيمفونية، وهي بالمناسبة من ارقّ وأجمل أعمال بيتهوفن ومن أكثرها استدعاءً للتأمّل، تبدأ بتصوير حركة انسياب الماء في الغابة. وقبل نهايتها نسمع غناء وشدو الطيور. وكلّ ذلك من خلال تطويع أصوات آلات الفلوت والاوبو والكلارينيت لتحاكي الأصوات الإيقاعية في عالم الطبيعة.

    إن الفصول الأربعة حافلة بالمعاني الدرامية والتلاوين التصويرية. وفيفالدي قد يكون موسيقيا في الأساس، لكنه هنا يمسك بريشة رسّام يجلب معه ألوانه وعدّة الرسم الأخرى ليرسم لوحات ذات ألوان متنوّعة، قشيبة وزاهية تجذب الأنظار وتخلب الألباب.
    وهذا يشي بالعلاقة النفسية والروحية التي تربط الموسيقي بالطبيعة. فقد كان فيفالدي مندمجا كلية بالطبيعة، مصغيا على الدوام لأصواتها وأنغامها وأسرارها ومكنوناتها. وقد ساعده إحساسه القويّ بالحياة ونقاء روحه وقوّة ملكته التعبيرية على إبداع هذه الموسيقى الخالدة والعظيمة.
    توفي فيفالدي في فيينا يوم 28 يوليو 1741 بعد أن داهمته أزمة ربو حادّة. وهو المرض الذي لازمه طيلة حياته. ومثل موزارت، الذي توفي بعد ذلك بخمسين عاما، مات فيفالدي شبه منسي ولم يحظ بجنازة تليق به.
    وبعد وفاته ذهب هذا الموسيقي المبدع في غياهب النسيان ولم يعد احد يتذكّره سوى بالكاد. لكن شعبيّته سرعان ما بعثت من جديد في مستهلّ القرن الماضي مع إعادة اكتشاف الفصول الأربعة التي أصبحت منذ ذلك الحين إحدى العلامات الفارقة والمهمّة في تاريخ الموسيقى العالمية.


    Credits
    studycorgi.com