:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، أغسطس 08، 2025

رحلات باشو

"تسافر الشهور والأيّام عبر الأبدية. وكالرحّالة، تأتي السنوات وتمضي".

كان الشاعر الياباني ماتسو باشو (1694-1644) يشعر أحيانا بالملل من الحياة، فيقوم برحلات طويلة مشياً على الأقدام أو على ظهور الخيل بحثاً عن الإلهام، متأمّلا الطبيعة والمواقع الأثرية المشهورة. كان التجوال بالنسبة له نوعا من التطهير الروحي. ومن المرجّح أنه كان يرغب في خوض تجارب نفسية وروحية أثناء رحلاته في أنحاء البلاد كحاجّ.
وباشو يُعتبر بإجماع كافّة النقّاد ومؤرّخي الأدب تقريبا أهمّ شاعر ياباني في جميع العصور، وإليه تُنسب أشهر قصيدة هايكو على الإطلاق والتي يقول فيها:
"بركة قديمة
ضفدع يقفز
رذاذ الماء".
وقد عُرف عن باشو تأثّره الكبير بالشعراء الصينيين الكلاسيكيين، كشاعرَي سلالة تانغ الشهيرين "لي باي" و "دو فو" اللذين كان معجبا بهما كثيرا. وكان الشعر الصيني الكلاسيكي يحمل مُثلا عُليا يُتوقّع من الشعراء أن يلتزموا بها، كالحاجة إلى فقدان الثقة بالنفس، وعدم تقبّل ما يُنظر إليه كابتذال اجتماعي، واستعداد الشاعر لمغادرة المجتمع كلّما رأى ذلك ضروريا، والتجوال بحثا عن التواصل مع معلّمي الشعر والتأمّل. ومن الواضح أن هذه المُثل كانت الدافع وراء رحلات باشو العديدة سيرا على الأقدام في أنحاء اليابان.
"لا تتبع آثار الأوّلين
إبحث عمّا
بحثوا عنه".
كان باشو بوذيّا، لكنه كان أيضا شنتويّا وكونفوشيّا وطاويّا في نفس الوقت. تعلّقه الشديد بهذا العالم جعله يتجنّب دخول الأديرة، إلا في زيارات قصيرة للتأمّل. وكان يؤمن بالجميع، ويعامل الدين باحترام بالغ. ومع ذلك، كان لديه من الشكوك ما يكفي تجاه الدين، لذا فضّل الاحتفاظ بآرائه الخاصّة. كان في الأساس شاعرا منجذبا إلى مُثل الشعراء الكلاسيكيين، لكنه كان يستمتع أيضا بحياة الرحّالة.
"لا أحد يسافر
على هذا الطريق إلا أنا
هذا المساء الخريفي"
وفي رحلاته المتعدّدة، كان باشو يرتدي زيّ الراهب، لأنه أراد أن يسافر ككاهن متجوّل، ولأن زيّه كان يحميه من اللصوص، إذ كان الكهنة معروفين بعدم حملهم أيّ ممتلكات ثمينة. ومن خلال مذكّراته عن رحلاته، خلق الشاعر عالما مثاليّا من الرهبان المتجوّلين. وكثيرا ما كان يشاد به كنموذج للشاعر المتديّن/المتجوّل. ويمكن اليوم العثور على أحجار كبيرة منقوشة بقصائده على طول الطرق التي سلكها في تجواله.
"مرضت أثناء الرحلة
وما زلت أتجوّل في البرّية
في أحلامي".
كانت رحلات الشاعر طويلة قادته إلى اثنتي عشرة مقاطعة تقع بين إيدو وكيوتو. من إيدو، اتّجه غربا على طريق رئيسي يمتدّ على طول ساحل المحيط الهادئ. مرّ بسفح جبل فوجي وعبَر عدّة أنهار كبيرة وزار أضرحة الشنتو الكبرى، ثم وصل إلى مسقط رأسه، أوينو، والتقى بأقاربه وأصدقائه.
في كثير من الأحيان، كانت صور رياح الخريف وصراخ القردة تُستخدم بوفرة في الشعر الصيني لخلق شعور بالحزن. وبينما يواصل باشو سرد رحلته، يستشهد بالشاعر الصيني "دو مو" من القرن التاسع قائلا: كان القمر يُرى بالكاد، وكان الظلام ما يزال يخيّم على سفح الجبل. ركبوا خيولهم قبل صياح الديوك، والسياط لا تزال معلّقة على ظهورهم. عندما وصلتُ إلى جبل شياويون، تشتّتت أفكاري فجأة. ثم تذكّرتُ قصيدة دو مو "الرحيل المبكّر" التي يقول فيها:
أتركُ السوط معلّقا، وأنا أثق في مشية الحصان. لم يعد ممكنا سماع صوت الديوك على مسافة أميال. مشينا بين الأشجار، وكنت لا أزال أحلم، وفي منتصف الحلم تساقطت عليّ الأوراق فجأة".
ثم يصف باشو بدقّة كيفية سفره وعلاقته بالعالم الديني:
ليس لديّ سيف في حزامي، بل حقيبة متسوّل حول عنقي، وفي يدي مسبحةٌ بها 18 خرزة. رأسي حليق ووجهي أشبه بوجه الراهب، لكني علماني. لست راهبا، لكن من يحلقون رؤوسهم يعامَلون كبوذيين ولا يُسمح لهم بدخول الأضرحة".
كانت رحلاته مجزية. التقى باشو في الطريق بالعديد من الأصدقاء القدامى والجدد. وألّف عددا من قصائد الهايكو والرينكو عن تجاربه خلال رحلاته، بما في ذلك تلك التي جُمعت في ديوان "شمس الشتاء". كما كتب أوّل يوميات سفر له: "سجلّات هيكل عظمي معرّض للعوامل الجوّية" و"الطريق الضيّق إلى أعماق الشمال". وخلال كلّ تلك التجارب، كان باشو يتغيّر تدريجيا. في جزء من اليوميات، يظهر الهايكو التالي الذي كتبه في نهاية العام:
"مضى عام آخر
قبّعة سفر على رأسي
وصنادل من القشّ على قدمي".
في تلك الرحلة، زار باشو مسقط رأسه حيث يعيش أخوه وأخته. وهناك أراه أخوه ضفائر من شعر والدته التي توفّيت قبل ذلك بعام. وكتب باشو يقول: عدنا إلى مسقط رأسنا في سبتمبر. كان العشب مغطّى بالثلج، ولم يعد لقبر أمّي من أثر. كلّ شيء قد تغيّر. لم يستطع أخي، بشعره الأبيض وبالتجاعيد على جبينه، إلا أن يشير إلى أننا ما زلنا على قيد الحياة. ثم فتح حقيبة التذكارات وقال: إكراما لشعر أمّي الأبيض، دعونا نبكي"!
واصل باشو ومرافق له رحلتهما، فوصلا إلى مكان يصطاد فيه الصيّادون سمك السلمون. وركبا قاربا وعبرا النهر إلى كاشيما، حيث كان معلّم باشو يعمل رئيسا لكهنة أحد المعابد. ودُعيا لقضاء الليل هناك. وهطلت الأمطار طوال الليل. لكن في الفجر، صفَت السماء قليلا، فأيقظ باشو الجميع. بالنسبة له، كان ضوء القمر المصحوب بصوت المطر تجربة روحية. لكنه شعر بخيبة أمل لأنه لم يستطع رؤية البدر. ظلّت السحب المتحرّكة تحجب المشهد، وبدا كما لو أن القمر نفسه يتحرّك بسرعة:
"القمر يتحرّك سريعا
بين قمم الأشجار
وأنا أُمسكُ بالمطر"
في عام ١٦٨٧، نشر باشو كتابا بعنوان "ملاحظات على حقيبة سفر". وهذه الفقرة منه تلخّص فلسفته جيّدا ويتحدّث فيها عن نفسه:
بين مئات العظام وفتحات الجسم البشري التسع، هناك "راهب نزِق". إنه رقيق جدّا لدرجة أنه يمكن أن يَتلف بسهولة. لطالما أحبَّ الشعر الجامح، وهو الرذيلةٌ التي أصبحت هاجسه طوال حياته. أحيانا كان يملؤه اليأس ويحاول تجاهل كتبه المقدّسة. وأحيانا كان يشعر بفخر لبلوغه قمما سامية. كان دائما متردّدا ومفرطا في الحماس. وفي مرحلة ما، حاول تهدئة نفسه باحتمال أن يحقّق نجاحا دنيويا، لكن الشعر وضع حدّا لطموحاته".
ويضيف: في النهاية، أدركُ أن المخرج الوحيد هو الاستمرار في الشعر. "من لا يجد في قلبه متّسعا لتفتّح الزهور! يمكن للبشر أن يصبحوا جزءا من الطبيعة. كان ذلك في بداية الشهر حين غاب القمر. كانت السماء غير مستقرّة، وكنت كورقة شجر تتقاذفها الرياح، لا أعرف إلى أين أذهب":
"إنسان بلا مأوى
شخص ما قد يدعوني
أوّل مطر في الشتاء"


عاد ماتسو باشو إلى إيدو في شتاء عام ١٦٩١. رحّب به أصدقاؤه وتلاميذه هناك، وبعضهم لم يروه لأكثر من عامين. وتضافرت جهودهم لبناء كوخ لمعلّمهم الذي تخلّى عن كوخه القديم قبيل رحلته الأخيرة. لكن في هذا الكوخ الأخير، لم يستطع باشو أن ينعم بالحياة الهادئة التي كان يرغب بها. فمن جهة، أصبح عليه الآن أن يعتني ببعض الناس. فقد جاء ابن أخ له مريض ليعيش معه. واعتنى به باشو حتى وفاته بعد ذلك بعامين.
ثم زارته امرأة كان يعرفها في شبابه، وقد تكفّل برعايتها هي أيضا. كانت هي الأخرى في حالة صحّية سيّئة، ولديها العديد من الأطفال الصغار. وبعيدا عن هذه الانشغالات، كان باشو مشغولا للغاية، بسبب شهرته الكبيرة كشاعر. وأراد الكثيرون زيارته، أو دعوته للزيارة. في رسالة يُفترض أنها كُتبت في الشهر الثاني عشر من عام ١٦٩٣، أخبر صديقا أن يؤخّر زيارته له الى وقت آخر. وفي رسالة أخرى كُتبت في نفس الوقت تقريبا، قال بصراحة: أزعجك الآخرون، فلا تهدأ".
وفي ذلك العام، ألّف هذا الهايكو:
"سنة بعد سنة
على وجه القرد
قناع قرد".
وتحمل هذه القصيدة مسحة مرارة غير مألوفة عند باشو. فقد كان غير راضٍ عن التقدّم الذي حقّقه. ومع تزايد مسؤولياته، أصبح تدريجيّا ينزع نحو العدمية. كان قد أصبح شاعرا متجاوزا لانشغالاته الدنيوية، لكنه الآن وجد نفسه منغمسا في شؤون الحياة بسبب شهرته الشعرية. كان الحلّ إما أن يتخلّى عن كونه شاعرا أو أن يتوقّف عن رؤية الناس تماما.
جربّ باشو الخيار الأوّل، لكن دون جدوى. قال: حاولت التخلّي عن الشعر، والصمت. لكن في كلّ مرّة أفعل ذلك، كان شعري يتسلّل إلى قلبي فيومض شيء ما في ذهني. هذا هو سحر الشعر". لقد أصبح شاعرا أكثر من اللازم. لذا اضطرّ إلى الخيار الثاني: أن يتوقّف عن رؤية الناس تماما. وهذا ما فعله في خريف عام ١٦٩٣. "كلّما زارني الناس، ينتابني شعور مزعج بفقدان حياتي الخاصّة. الآن لا أجد ما هو أفضل من الاقتداء بـ "صن تشينغ" و"تو لانغ" اللذين انعزلا وراء أبواب مغلقة. سيصبح انعدام الصداقة صديقي والفقر ثروتي. وكرجل عنيد في الخمسين، أكتبُ لأؤدّب نفسي".
في ذلك الوقت كتب هذه القصيدة:
"زهرة الصباح
في النهار
يثبَّت مسمار
على بوّابة الفناء الأمامي".
من الواضح أن باشو كان يتمنّى أن يعجَب بجمال زهرة الصباح دون الحاجة إلى تثبيت مزلاج على بوّابته. ولا بدّ أن كيفية تحقيق ذلك كانت موضوع ساعات طويلة من التأمّل داخل منزله المغلق. وقد حلّ المشكلة بما يرضيه وأعاد فتح البوّابة بعد حوالي شهر من إغلاقها.
واستند حلّ باشو هذا إلى مبدأ "الخِفّة"، الذي يمكّن الإنسان الذي انفصل عن أشغال الدنيا من العودة إلى العالم. "يعيش الإنسان وسط الوحل كمتفرّج روحي. لا ينجو من مظالم الحياة، يقف وحيدا، ويبتسم لها فحسب". وبدأ باشو الكتابة على هذا المبدأ ونصح طلّابه بتقليده.
بعد فترة، مرض الشاعر وتساءل مجدّدا عن احتمال وفاته بعيدا عن وطنه. لكنه تعافى وواصل رحلته لرؤية جزيرة ماتسوشيما الشهيرة، والتي تُعتبر إحدى عجائب اليابان الثلاث الكبيرة. ثم توجّه إلى هيرايزومي ليشاهد آثارا تعود إلى عصر هييان. وفي موقع ساحة معركة قديمة سقط فيها قتلى، نظم باشو قصيدة قال فيها:
"برّية من عشب الصيف
تُخفي كل ما تبقّى
من أحلام المحاربين".
بعد أن استعاد باشو توازنه النفسي، بدأ يفكّر في رحلة أخرى. ربّما كان حريصا على نقل مبدأه الشعري الجديد، "الخفّة"، إلى الشعراء خارج إيدو أيضا. وهكذا، في صيف عام ١٦٩٤، سافر غربا على طول ساحل المحيط الهادئ. استراح في أوينو لفترة، ثم زار طلابه في كيوتو وفي مدينة قرب الساحل الجنوبي لبحيرة بيوا.
عاد باشو إلى أوينو في أوائل الخريف ليستريح لشهر تقريبا. ثم غادر إلى أوساكا مع بعض الأصدقاء والأقارب، بمن فيهم ابن أخيه الأكبر. لكن صحّته كانت تتدهور بسرعة، على الرغم من أنه استمرّ في كتابة بعض القصائد الرائعة:
"على غصن عارٍ
يستقرّ غراب
في شفق الخريف".
كانت رحلة باشو تقترب من نهايتها، لكنه وصل أوّلا إلى معبد إيهيجي الشهير، حيث أراد التأمّل قبل التوجّه إلى قلعة هيغوتشي وسماع أولى صيحات إوزّ الخريف. كان القمر ساطعا جدّا في تلك الليلة، وعندما وصل إلى نُزل وسأل صاحبه إن كانت الليلة التالية ستكون بنفس السطوع، أجابه بأن ذلك مستحيل، وقدّم له بعضا من مشروب الساكي. وأراد باشو اغتنام هذه الفرصة لزيارة قبر الإمبراطور "حيث يتسلّل ضوء القمر من بين أشجار الصنوبر وتمتدّ الرمال البيضاء كالثلج أمام الحرم".
ومن بين قصائد الهايكو التي كتبها في تلك الفترة:
"سأموت قريبا
وسيختفي المشهد
بينما تستمرّ الحشرات في هسيسها".
تشير القصيدة إلى إحساس باشو بدنوّ أجله. وبعد ذلك بوقت قصير، اضطجع على فراشه بسبب المرض. وسارع العديد من أتباعه إلى أوساكا وتجمّعوا حول سريره. ويبدو أنه حافظ على هدوئه في أيّامه الأخيرة. كان يعلم تماما أن الوقت قد حان للصلاة، لا لكتابة الشعر. ومع ذلك كان يفكّر في الشعر ليل نهار. أصبح الآن هاجسا، "تعلّقا آثما"، كما كان يسمّيه هو نفسه.
توفّي باشو في سنّ مبكّرة نسبيّا، عن عمر ناهز الخمسين. وكان من الممكن أن يعيش أطول لو اعتنى بنفسه بشكل أفضل. وكانت قصيدته الأخيرة:
"أصبت بالمرض أثناء رحلتي
ولا تزال أحلامي تتجوّل
لكن في حقول ذابلة".

Credits
matsuobashohaiku.home.blog

الأربعاء، أغسطس 06، 2025

نصوص مترجمة


○ لأن اليابان تُعتبر واحدة من أكثر جزر العالم تعرّضا للأنشطة الزلزالية، يدرك اليابانيون ليس فقط جمال كلّ فصل، بل أيضا القوّة الهائلة للطبيعة. الانفجارات البركانية والرياح الموسمية والزلازل وأمواج تسونامي تشكّل تهديدا مستمرّا لليابان، إلا أن شعورا بالقبول متأصّل في عقول الناس. فعندما يدرك المرء أن الحياة قد تُسلب منه في أيّ لحظة، فإنه يكتسب تقديرا متزايدا للحاضر. وتعكس الفنون التقليدية اليابانية، مثل الإيكيبانا وشعر الهايكو وحفلات الشاي، هذا الوعي مع التركيز على اللحظة الراهنة.
وغالبا ما يسيء الغربيون فهم صفات مثل البساطة والفراغ والغموض على أساس أنها تفتقر إلى شيء ما. لكن في اليابان، تشير هذه الصفات ذاتها إلى النضج والثراء الروحي، فهناك الكثير مما يمكن اكتشافه في الفراغ. مثلا، في الغرب تُحفظ كتل الزهور المتفتّحة بإحكام في مزهرية مع رشّات من أوراق الشجر لملء الفراغات بينها. لكن في اليابان، يركّزون على إبراز السمات الفردية للزهرة أو الورقة أو الفرع المفرد. كما أن المساحة الفارغة المحيطة مهمّة بقدر أهمية الزهرة نفسها، لأن المساحة تحمل طاقة ومساحة للتنفّس والنموّ. وينظر اليابانيون إلى المساحة الفارغة بشكل عام على أنها مليئة بالإمكانيات.
في القرن التاسع عشر، ومع وصول التجّار الغربيين، انتشر فنّ اليابان الفريد في العالم. وبدأنا نرى جوانب من التصميم الياباني في الأعمال العظيمة لفنّانين عالميين مثل فان غوخ وكلود مونيه وجون ويسلر وإدوار مانيه وغيرهم. وعلى الرغم من تأثّرها بالتجارة الدولية، تمكّنت اليابان الحديثة من الحفاظ على قيمها التقليدية المميّزة. فللوهلة الأولى، تبدو طوكيو ذات التقنية العالية والمليئة باللوحات الإعلانية وحشود الركاب المتعّجلين، فوضوية. لكن تحت السطح الحضري، بين ناطحات السحاب، لا يزال من الممكن العثور على تلك الكنوز الهادئة، حيث الأضرحة والمعابد ومقاهي الشاي بحدائقها الهادئة إلى جانب الحياة العصرية. دان كيتنغ

❉ ❉ ❉

○ لطالما كان المعيار الوحيد لصحّة أيّ فكرة دينية أو تجربة روحية هو أن تؤدّي مباشرة إلى التعاطف العملي. فإذا كان فهمك للأمور الإلهية يجعلك أكثر لطفا وتعاطفا ويدفعك للتعبير عن هذا التعاطف بأفعال ملموسة من اللطف والمحبّة، فهذا تديّن جيّد. أما إذا كان مفهومك عن الله يجعلك قاسيا أو عدوانيا أو متزمّتا، أو إذا دفعك إلى القتل باسم الله، فهذا تديّن سيء. كانت الرحمة هي الاختبار الحاسم للمسيح ومحمّد، ناهيك عن كونفوشيوس ولاو تزو وبوذا، أو حكماء الأوبانيشاد. كارٍن أرمسترونغ

❉ ❉ ❉

○ إنكار الزمن هو أحد المبادئ الأساسية لمدارس فلسفية متعدّدة. ووفقا لهذا المبدأ، لا يوجد المستقبل إلا في صورة مخاوفنا وآمالنا الحالية، والماضي هو مجرّد ذكرى. ومن وجهة نظر أخرى، خُلق العالم وكلّ ما فيه الآن قبل لحظات فقط، مع تاريخه السابق الكامل. وهناك مدرسة فكرية تصف أرضنا بأنها طريق مسدود في مدينة الله العظيمة؛ كهف مظلم يعجّ بصور غامضة، أو هالة ضبابية تحيط بشمس أفضل.
ويؤكّد أنصار فلسفة أخرى أن هذه الحياة ليست سوى انعكاس باهت لحدث آخر لا يُنسى. ونحن لا نعرف عدد التحوّلات المحتملة التي ربّما مرّ بها العالم بالفعل. ولديّ انطباع متزايد بأن الزمن غير موجود، هناك فقط مساحات مختلفة، محصورة داخل بعضها البعض وفقا لقياسات مجسّمة أعلى، وبينها يتنقّل الأحياء والأموات. وكلّما فكّرت في الأمر أكثر، زاد اعتقادي بأننا - نحن الذين ما زلنا على قيد الحياة - في عيون الموتى، كائنات غير حقيقية، مرئية فقط في ظلّ ظروف معيّنة.
وعلى عكس "إلياس"، الذي طالما ربط المرض والموت بالابتلاء والعقوبة العادلة والشعور بالذنب، روى "إيفان" قصصا عن موتى ضربهم القدر قبل أوانهم وأدركوا أنهم حُرموا ممّا يستحقّونه، فحاولوا العودة مجدّدا إلى الحياة. قال "إيفان": لو رأيتهم لحسبتهم للوهلة الأولى أشخاصا عاديين. لكن عند التدقيق، كانت وجوههم تتشوّش أو تومض قليلا عند أطرافها. وكانوا أقصر قليلا ممّا كانوا عليه في الدنيا، لأن تجربة الموت تُضعفنا مثلما تنكمش قطعة الكتّان عند غسلها لأوّل مرّة. وينفريد سيبالد

❉ ❉ ❉


❉ ❉ ❉

○ إسرق من أيّ شيء يلهمك أو يغذّي خيالك: الأفلام القديمة والحديثة والموسيقى والكتب واللوحات والصور الفوتوغرافية والقصائد والأحلام والأحاديث العشوائية والعمارة والجسور ولافتات الشوارع والأشجار والغيوم والمسطّحات المائية والضوء والظلال. فقط إختر ما تسرق منه، ما يلامس روحك مباشرة. إذا فعلت ذلك، فسيكون عملك "وسرقتك" أصيلين. جيم غارموش

❉ ❉ ❉

○ في غابة ذات طابع بدائي، يكون غير المتوقّع هو العادي. وكمواطن حضري مدفوع برؤية مثالية وتأمّلية للطبيعة ومتأثّر بعمق بالقبائل الأصلية وبروّاد العصر الحديث، مثل هنري ديفيد ثورو وإدوارد آبي وفرانسوا تيراسون، فإن هذه "الأماكن المنسية" تداعب أحلامي وروحى ومخيّلتي.
واستكشافها بكاميرا مثبّتة على حامل ثلاثي يُعدّ من أقوى التجارب التأمّلية التي حظيتُ بمتعة عيشها. هناك شعور لا يوصف بالعمق في تجربة الانغماس الجسدي في غابة طبيعية أو بدائية قديمة. والأمر أشبه ما يكون برحلة عبر الزمن، عودة إلى ماض منسي، ورحلة إلى مستقبل خيالي.
لكن للأسف، تتعرّض هذه الأماكن الثمينة لضغوط أكثر من أيّ وقت مضى. وقد صوّرتها لغرض وحيد هو الحفاظ على معالمها الأساسية. ويمكن اعتبار هذه الصور شهادات بصرية قيّمة لأماكن عذراء بحقّ، لم يطَلها أيّ تأثير بشري، في أجمل فوضى جمالية يمكن العثور عليها.
عند دخولي إلى هذه الغابات المنسيّة، يغمرني شعور آسر. إنها جنّةٌ برّيةٌ بحقّ، حيث أتوقّف وأتنفّس هواءً رطبا منعشا وأتأمّل الأشجار البدائية والطحالب والنباتات الهوائية أو المتسلّقات المتدلّية. وهذه المتاحف الحيّة تزخر بأنواع انقرضت في أماكن أخرى، من نباتات وحيوانات فريدة.
تتصاعد نفحات من الضباب بين النباتات، وتتساقط قطرات من قمم الأشجار، ويمكن سماع أو رؤية حياة برّية مراوغة من جهات مختلفة. أتجوّل بصمت ودهشة في هذه الأماكن، باحثا باهتمام دائم عن الزاوية المثالية للصورة. ويتطلّب هذا النوع من التصوير الفوتوغرافي جميع الحواسّ والتجارب. لكن الجهد المبذول في هذه الأماكن الاستثنائية يستحقّ كلّ هذا العناء. فريدريك ديموز

❉ ❉ ❉

○ في الغرب، تستعين العديد من المؤسّسات والشركات والأفراد بخدمات خبراء تحليل الخطوط باستمرار. وهؤلاء الخبراء يقدّمون المشورة ويحكمون ويشاركون في تقييم المرشّحين للمناصب المهمّة. وعادةً ما تطلب الشركات من المرشّحين سيرة ذاتية مكتوبة بخطّ اليد، ثم تحوّلها بعد ذلك إلى خبراء تحليل الخطوط.
وتكون الرسائل والديبلومات والشهادات الأكثر إثارةً للإعجاب عديمة الفائدة إذا كتب خبير تحليل الخطوط في تقريره عن الشخص: "ضعيف في مهارات التعامل مع الآخرين" أو "لديه نقص في القدرة التنظيمية". ومع ذلك، يبقى السؤال: هل يتم التحقّق من كفاءة هؤلاء الخبراء وصحّة تقييماتهم من خلال تحليل خطوطهم؟ فيسلافا شيمبوريسكا

❉ ❉ ❉

○ أطلق اليونانيون القدماء على البحر اسم "دمعة كرونوس"، بسبب ملوحته. وكان كيميائيّ عصر النهضة يوهانس فان هيلمونت يعتقد أن الأملاح المتطايرة تشكّل الروح الحيوية أو أنفاس الحيوانات والنباتات. وظهرَ الملح في تكهّنات الفلاسفة والكيميائيين وكيميائيي العصر الحديث. وقيل إن "كيمياء الملح" محورية لدراسة العلاقة المتبادلة بين الكيمياء والتاريخ الطبيعي وعلم وظائف الأعضاء والعلوم الطبّية في العصر الحديث.
والملح هو الصخر المعدنيّ الوحيد الذي يأكله الإنسان ويقدّر قيمته. كما أنه واحد من أقدم وأكثر التوابل الغذائية انتشارا. والملح له طبيعة مزدوجة، حافظ ومفسد، وهو أيضا مطهّر ومكوّن للقرابين الاحتفالية. كما كان الملح ذات يوم وحدة لتبادل القيمة. وخلال العصر الروماني، كان الملح يُستخدم كعملة، حيث كانت رواتب الجنود تُدفع على شكل قطع من الملح المضغوط، وكلمة راتب باللاتينية أتت من salarium التي تعني نقود الملح، ومن هنا عبارة: أن يكون المرء جديرا بالملح".
علاقة الإنسان بالملح ولّدت معاني شعرية وأسطورية هائلة، لا سيّما عندما روّج لها الطبيب الكيميائي باراسيلسوس، الذي أكّد أن من يفهم الملح ومحلوله يمتلك حكمة القدماء. لذلك "ضع كلّ اعتمادك على الملح، ولا تعتبر أيّ شيء آخر ذا أهمية، لأن الملح في حدّ ذاته هو السرّ الأكثر أهميّة الذي اعتقد جميع الحكماء أن من المناسب إخفاءه. وفي الاستخدام الكنسي والكيميائي، يُعدّ الملح رمزا للحكمة وللشخصية المتميّزة أو المختارة، كما في "أنتم ملح الأرض".

❉ ❉ ❉

○ كان هناك قمر واحد فقط، ذلك القمر المألوف، الأصفر المنعزل. نفس القمر الذي حلّق بصمت فوق حقول أعشاب البامبا، القمر الذي ارتفع كصحن مستدير لامع فوق سطح البحيرات الساكن وأشرق بهدوء على أسطح المنازل الهاجعة. نفس القمر الذي جلب المدّ إلى الشاطئ وأشرق برقّة على فراء الحيوانات وغلّف المسافرين وحماهم في الليل وغمر الأرض بصمت في وحدتها. هاروكي موراكامي

الاثنين، أغسطس 04، 2025

قصّة صعود الكومانتشي وأفولهم


كانت الكومانتشي أقوى قبيلة هندية في التاريخ الأمريكي على الإطلاق. وعُرف عن محاربيها براعتهم في القتال بالخيل، لدرجة أنهم سيطروا على مناطق شاسعة في وجه الزحف الإسباني والمكسيكي والتكساسي، رغم قلّة عددهم وعتادهم. وفي أوج مجدهم، بلغ عدد الكومانتشي عشرات الآلاف وكوّنوا قوّة عسكرية ضاربة. لكن عددهم لم يتزايد قط، لأن نمط حياتهم المتنقّل والعنيف أدّى إلى انخفاض معدّلات المواليد وارتفاع معدّلات الوفيات بينهم بسبب خسائر الحرب.
في كتابه "إمبراطورية قمر الصيف"، يروي الكاتب سام غوين الأبعاد المتعدّدة لثقافة محاربي الكومانتشي وصدامهم مع المستوطنين الأوربيين الساعين للاستيلاء على تكساس. وتبدأ القصّة بوصف لإحدى الغارات المبكّرة التي شنّها الكومانتشي على المستوطنين على الحدود في ثلاثينات القرن التاسع عشر. ثم يتتبّع الكاتب الحرب المستمرّة بين الثقافات الأنغلوساكسونية في تكساس، وصولا إلى جهود الحكومة الفيدرالية الأمريكية لترويض الكومانتشي.
وفي الكتاب أيضا نتعرّف على عدد من الشخصيات الرائعة على جانبي هذا الصراع، ونشعر بالفزع من كمية العنف والوحشية من الطرفين. ثم نرى، على مدى عقود من الزمن، كيف تطوّرت النهاية الحتمية لهذه الحرب إلى الهيمنة النهائية للثقافة الأمريكية البيضاء على عالم الكومانتشي في تكساس وفي أجزاء من أوكلاهوما ونيو مكسيكو وكانساس.
في بداية الكتاب، يشرح غوين كيف برز الكومانتشي بين قبائل الأمريكيين الأصليين في أواخر القرنين السابع عشر والثامن عشر، حيث صارت الخيول الإسبانية الهاربة جزءا من المشهد الأمريكي، وأصبح الكومانتشي في نهاية المطاف أفضل محاربي العالم على ظهور الخيل وأمهر من استخدم الأقواس والسهام في المعارك.
الخيول هي المكوّن الرئيسي لقصّة الكومانتشي، وقد شبّههم بعض المؤرّخين بـ "شعوب الخيول" الأخرى مثل المغول والتتّار والهنغاريين. وقارن بعض علماء الإثنوغرافيا والأنثروبولوجيا هذا الشعب المحارب بثقافة اسبارطا القديمة أو الكِلت والفايكنغ.
ويجادل المؤلّف بأن سرّ نجاح الكومانتشي يكمن في كونهم من بين أمهر الفرسان في تاريخ العالم. لم تكن لديهم فنون أو طقوس القبائل الأمريكية الأصلية الأخرى، بل كانوا يركّزون على تعلّم ركوب الخيل ورمي الأقواس وصيد الجاموس وقتل الأعداء.
ومن خلال مهاراتهم الحربية، طوّر الكومانتشي ثقافة بدوية مبنيّة على الشجاعة في القتال. ولأكثر من قرن، سيطروا على القبائل الأخرى في السهول الجنوبية ودمّروا أكثرها. ولم يكن المحاربون الأوربيون من الإسبان والأمريكيين، المدرّبين على القتال سيراً على الأقدام بمسدّساتهم وبنادقهم، ندّا لهم.
كانت الحياة في قرى الكومانتشي، المخيّمين على ضفاف الجداول أو في الأودية أو قرب الأنهار، مثالية. وعندما كان البيض يهاجمون تلك القرى، كان رجال الكومانتشي يقاتلون بشراسة لصدّ الهجوم أو تحويل مساره للسماح لكبار السنّ والنساء والأطفال بالفرار.
وكان لنشوب الحرب الأهلية الأمريكية تأثير كبير على الحرب التي كانت تُخاض ضدّ الكومانتشي. وعندما انفصلت تكساس عن الاتحاد، أصبحت جزءا من الكونفيدرالية. وكانت الحكومة الكونفيدرالية منشغلة بقتال اليانكيين، فلم تُولِ اهتماما لمحاربة الكومانتشي. وهكذا ظنّ الكومانتشي أنهم سيتنفّسون الصعداء أخيرا، واعتقدوا أن الحرب قد انقلبت لصالحهم، ولو إلى حين.
وفي عام 1869، اكتمل بناء خطّ السكّة الحديد عبر القارّة، الذي يربط الشرق الصناعي بالغرب النامي. ولم يتبقَّ سوى عقبة واحدة هي القبائل الهندية التي تقطن السهول الكبرى.
وبعد بضع سنوات، بدأت عوامل عدّة تتجمّع لتعلن نهاية سيطرة الكومانتشي، كظهور المسدّس السريع الطلقات والبندقية والتزايد المستمر في أعداد المستوطنين الأوربيين الذين انتقلوا إلى تكساس، والذي تزامن تقريبا مع موت الكثير من الكومانتشي بسبب تفشّي أمراض الحصبة والجدري والكوليرا. كما أدّى القتل السريع لقطعان الجاموس على أيدي الصيّادين البيض إلى زيادة صعوبة الصيد والعثور على الغذاء بالنسبة للهنود.
ثم ظهر قادة عسكريون بيض تعلّموا أساليب الكومانتشي واستخدموها ضدّهم وواجهوا تكتيكاتهم بتكتيكات مضادّة وفعّالة. وأخذ الجنرال شيريدان والعقيد ماكنزي وغيرهما من المحاربين ذوي الخبرة والانضباط على عاتقهم بذل كلّ ما في وسعهم لإخضاع الكومانتشي. وبحلول عام ١٨٧٥، كان معظمهم ممّن لم يُقتلوا أو لم يكونوا في محميات عسكرية، قد استسلموا.
النصف الثاني من كتاب سام غوين مخصّص لسرد قصّة زعيم الكومانتشي كوانا باركر ووالدته البيضاء المخطوفة سينثيا آن باركر المتحدّرة من إحدى أبرز العائلات المرموقة في تكساس. وقصّة هاتين الشخصيتين مثيرة وتستحقّ أن تُروى. فقد اختُطفت سينثيا آن في مايو عام 1836 في غارة للكومانتشي على بلدتهم. وتبنّتها القبيلة وهي طفلة وأصبحت في النهاية زوجة لزعيم.
ثم أنجبت المرأة ابنها كوانا باركر الذي برزت صورته أكثر مع نضوجه وتحوّله إلى محارب شجاع يكره الأوربيين لقتلهم والده، وليصبح في النهاية زعيما لأكثر قبائل الكومانتشي بأساً واستقلالية. وقد رفضت والدته مرارا العودة إلى المجتمع الأبيض. وبعد أن استردّتها عائلتها، واصلت محاولات الفرار الى أن عادت أخيرا إلى الشعب الذي أحبّته.
كان كوانا باركر من بين آخر الكومانتشي الأحرار، لكنه اضطرّ أخيرا إلى الاستسلام عام ١٨٧٥. وبعد ذلك، بدأ حياة جديدة كشخصية مشهورة، حيث عاش في منزل ضخم على الطراز الأمريكي مع العديد من زوجاته وأطفاله وأصبح مربّي ماشية وارتدى بدلة وحافظ على شعره طويلا على طريقة الكومانتشي، واستضاف جنودا ورؤساء أمريكيين مثل ثيودور روزيفلت وكسب ثم خسر ثروة صغيرة.


قصّة كوانا باركر هي حلم أيّ روائي، فقد عاش في فترة انتقالية مهمّة وعنيفة. كان قد ولد في السهول مع حرّية شبه مطلقة، وفي النهاية مات في منزل ضخم من طابقين في أوائل القرن العشرين؛ في عصر السيّارات والطائرات. كان مناضلا من أجل الحرّية، لكن عندما رأى أن اللعبة انتهت، تحوّل بمرونة وسايرَ التيّار.
وقد عاش كوانا ووالدته على المناطق الحدودية، متداخلَين بين عرقين وثقافتين ومسارين مختلفين تماما. كانت مصائب سينثيا آن شكسبيرية الطابع، في حين تمكّن ابنها بطريقة ما من لملمة ذاته المتشظيّة، ليعيش كـ كومانتشي وأمريكي وينجح في كلا العالَمين.
قصّة صعود وأفول الكومانتشي، كما يرويها هذا الكتاب، مثيرة ومكتوبة بشكل جيّد. لكن يجب على المرء أن يكون على استعداد لقراءة ومواجهة مظاهر العنف والوحشية المتجاوزة التي فتحت الغرب الأمريكي أمام المستوطنين والقيم الأوروبية.
وربّما يمتعض القارئ من استخدام الكتاب أحيانا لمفردة "متوحّشين" لوصف الكومانتشي، لكن قد يكون المقصود أنهم كانوا يقاتلون بشراسة، أو ربّما استخدمَ هذه الكلمة في سياق نظرة أعدائهم إليهم. ومع ذلك فالطبيعة البشرية عموما متوحّشة وقاسية حتى في أكثر المجتمعات المسمّاة "متحضّرة".
ومن منظور أوسع، يطرح كتاب "إمبراطورية قمر الصيف" حجّة ذات دلالات سياسية. فعند مناقشة الاستعمار الأوربّي للسكّان الأصليين في أيّ مكان في العالم، يمكن أن يثار جدل حادّ حول الحجج الأخلاقية. وإحداها هي أن الأوروبيين اجتاحوا العالم لأنهم أعلى ثقافة وحرّية من الشعوب المستعمَرة، وما إلى ذلك.
وترى حجّة أخرى أن المستعمرين الأوروبّيين لم يكونوا يتميّزون بالتفوّق الثقافي، بل بكونهم غزاة استغلوا السكّان الأصليين وخدعوهم وارتكبوا بحقّهم مجازر وحشية واتبعوا أساليب ملتوية ولا أخلاقية، مثل خرق المعاهدات والحرب البيولوجية "أي نشر فيروسات الأمراض القاتلة".
وغوين يتبنّى وجهة نظر ثالثة، وهي أننا "كلّنا بشر" والشرّ لا يختصّ شعبا أو أمّة دون غيرها. فهو مثلا يعترف بالوحشية والخداع والعنصرية وارتكاب المجازر التي غالبا ما تَعاملَ بهما الأوربيون على الحدود مع الأمريكيين الأصليين. لكنه يجادل بأن الكومانتشي كانوا بنفس وحشية التكساسيين أو الأمريكيين أو الإسبان. ويضيف أن قصص الكومانتشي الذين يذبحون أهل القرى ويغتصبون النساء ويسلخون فروة الرأس لم تكن أساطير بل حقائق.
وفي ذروة الحروب بين الكومانتشي والتكساسيين والأمريكيين، انخرط كلا الجانبين في عنف متطرّف ضدّ المدنيين، ووُظّف كشكل من أشكال الحرب النفسية. ومن خلال بثّ الرعب في نفوس المستوطنين الأمريكيين، شكّل الكومانتشي عامل ردع قويّ للاستقرار على حدود تكساس. ومن خلال تدمير قرى الكومانتشي، تمكّن الجنود الأميركيون في نهاية المطاف من شلّ قدرة هذا الشعب على مواصلة مقاومتهم.
غير أن الكتاب يتضمّن فقرات قد تُشتمّ منها رائحة العنصرية كمثل قول المؤلّف: كان الصدام المصيري بين المستوطنين من ثقافة أرسطو والقدّيس بولس ودافنشي ولوثر ونيوتن وبين فرسان السكّان الأصليين من سهول الجاموس، كما لو أن الأوّلين كانوا ينظرون إلى الوراء آلاف السنين إلى نسخ من أنفسهم في فترة ما قبل المسيحية وما قبل الأخلاق والبربرية المقيتة."
ومثل قوله: كان جعل الناس يصرخون من الألم أمرا مثيرا ومجزيا بالنسبة للكومانتشي، تماما كما كان تعذيب الضفادع أو نزع أرجل الجنادب أمرا مثيرا ومجزيا للفتيان الصغار في أمريكا الحديثة. ويُفترض أن الفتيان يكبرون ويتجاوزون ذلك، أما بالنسبة للهنود فقد كان جزءا مهمّا من ثقافتهم الراشدة، وهو جزء تقبّلوه دون اعتراض."
وشبيه بهذه الملاحظة قول أندرو جاكسون عام ١٨٣٣: لقد تأكّدت قناعاتي على مدى سنوات عديدة بأن هذه القبائل "الهندية" لا تستطيع البقاء محاطةً بمستوطناتنا وعلى اتصال دائم بمواطنينا. فهي لا تمتلك الذكاء ولا الجدّية ولا العادات الأخلاقية ولا الرغبة في تطوير نفسها، وهي أمور أساسية لأيّ تغيير إيجابي في وضعها. ولأنها نشأت وسط عرق آخر متفوّق دون أن تدرك أسباب دونيّتها أو تسعى للتخلّص منها، فإنها ستخضع بالضرورة لسطوة الظروف وسرعان ما تختفي."
بعض النقّاد أشادوا بهذا الكتاب لـ "عدم تردّده في مواجهة العنف المتأصّل في الكومانتشي"، في حين أن بعض المؤرّخين يتجنّبون ذكر الأفعال غير الأخلاقية للقبائل الهندية من أجل الحفاظ على فكرة المتوحّش النبيل. وهناك روايات مفصّلة عن أساليب التعذيب التي اتبعها رجال الكومانتشي. فقد كان قطع أصابع القدمين واليدين والأعضاء التناسلية للإسبان والأمريكيين وغيرهم من رجال الحدود، وحشوها في أفواه أصحابها ممارسة شائعة بينهم. وكان ترك الجمر الساخن يحرق بطون الأسرى أسلوب تعذيب آخر كثيرا ما لجأوا الى تطبيقه.
وكان من الشائع أن يُقتل جميع الرجال البيض وتُسلخ جلودهم، بينما عانى بعض الأسرى الأحياء من موت أبطأ وأكثر إيلاما. وتعرّضت النساء الأسيرات للاغتصاب الجماعي، وعُذّب الكثيرات منهن وقُتلن. وغالبا ما كان الكومانتشي يتبنّون الأطفال قبل سنّ المراهقة أو يقايضون بهم قبائل أخرى.
لكن المؤلّف لا يقول إن هذه الممارسات ظهرت فقط بعد أن جاء الأوروبيون وجلبوا معهم الحرب للاستيلاء على أراضي السكّان الأصليين. والحقيقة أن الحرب بين القبائل الهندية نفسها لم تكن أبدا بلا دماء، ولم تكن نظيفة أو نبيلة، بل كانت دائما تافهة ووحشية.
وعلى الرغم من أن غوين يستخدم مصطلح "الإمبراطورية" بشكل فضفاض، إلا أن الكومانتشي كانوا "إمبراطورية" بالمعنى الحرفي للكلمة. فقد جاءوا من وايومنغ وهاجروا ببطء نحو الجنوب. وظلّوا لفترة طويلة تحت رحمة القبائل الأخرى، الى أن وصل الإسبان وخيولهم إلى المشهد في مفارقة مريرة.
وبتكييفهم الرائع للخيول مع نمط حياتهم، نما الكومانتشي ليصبحوا قوّة عسكرية وسياسية ضاربة. وكادوا يبيدون بعض القبائل الأخرى مثل الأباتشي والتونكاوا، وأبرموا معاهدات مع قبائل أخرى وعزّزوا ممتلكاتهم في أرض محدّدة عُرفت باسم "كومانتشيريا"، شملت أجزاء من تكساس ونيومكسيكو وكولورادو وأوكلاهوما وكانساس الحالية.
ومن الواضح أن نهاية هذا الكتاب لم تكن احتفالا بانتصار الولايات المتحدة، بل على العكس، بدا كأن الكاتب يشعر بالحزن لاندثار ثقافة الكومانتشي وخسارتهم لأرضهم. ويقول: كانوا محاربين شرسين دافعوا عن أرضهم لسنوات طوال في وجه قوّة ساحقة. ولولا الأسلحة الحديثة لما استطاعت الحكومة الاتحادية إلحاق الهزيمة بهم".
ورغم أن الكتاب دقيق تاريخيّا في معظمه وموضوعيّ إلى حدّ ما ومتعاطف بالتأكيد مع تاريخ شعب الكومانتشي في القرن التاسع عشر، إلا أنه لا يجب أن ننسى في النهاية أنه كُتب من منظور أنغلو أمريكي. ورغم بعض الانتقادات، إلا أنه يمكن اعتبار الكتاب نافذة على حقبة تاريخية مهمّة وعلى شعب فريد من نوعه، حيث يواكب صعودهم إلى ذروة قوّتهم المذهلة ثم سقوطهم في براثن الفقر على مدار نصف قرن، قبل أن يُباد أكثرهم وتختفي ثقافتهم.

Credits
bobsbeenreading.com
dhmontgomery.com