:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات رحلات. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات رحلات. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، سبتمبر 17، 2025

الطريق إلى أوكسيانا/1


في عام ١٩٣٧، نشر الرحّالة والمستكشف الانغليزي روبرت بايرون كتابه "الطريق إلى أوكسيانا"، الذي وثّق فيه رحلاته في الشرق الأوسط وأفغانستان وبلاد فارس. واعتُبر الكتاب من أكثر كتب الرحلات تأثيرا.
كان الهدف من رحلة بايرون زيارة الكنوز المعمارية في المنطقة، والتي كان على دراية واسعة بها، كما يتّضح من ملاحظاته على طول الطريق. وقد اختلط بايرون مع السكّان المحليين وتفاوض على وسائل النقل، بما في ذلك السيّارات والخيول والحمير، لنقله أثناء رحلته. كما واجه الحرّ والبرد والجوع والعطش.
كلمة "أوكسيانا" في عنوان الكتاب تشير إلى الاسم القديم للمنطقة الواقعة على طول الحدود الشمالية لأفغانستان. وقد شبّه أحد الكتّاب أهميّة الكتاب في أدب الرحلات بأهمية كتاب "يوليسيس" في الرواية وديوان "الأرض اليباب" في الشعر. بينما وصفه آخر بأنه "تحقيق في أصول الفنّ الإسلامي مقدّم في أحد أكثر كتب الرحلات تسليةً في العصر الحديث".
في الكتاب يأخذ بايرون القرّاء في رحلة شيّقة عبر بلدان الشرق الأوسط وآسيا الوسطى خلال أوائل القرن العشرين، يمزج فيها بين عين المؤرّخ وروح الرحّالة. وما يرويه ليس مجرّد مذكّرات رحلة، بل نسيج غنيّ من التجارب الإنسانية، حيث يجوب قلمه الآثار القديمة والأسواق الصاخبة، مجسّدا السحر الخالد للأراضي البعيدة والسعي الدائم وراء المعرفة والجمال.
وقد قدّمت رحلاته الواسعة منظورا فريدا لمناطق كانت، حتى ذلك الوقت، غير مألوفة إلى حدّ كبير للجمهور الغربي. ومن المؤسف أن مسيرة بايرون الواعدة انتهت مبكّرا بوفاته عن عمر يناهز 35 عاما خلال الحرب العالمية الثانية. لكن إرثه ما يزال ماثلا للعيان من خلال كتاباته المُلهِمة.
لم تكن العمارة، بالنسبة لبايرون، مجرّد مبانٍ، بل كانت تاريخا حيّا وسردا محفورا في الحجر والطوب. ومن خلال تفاعله مع المؤرّخين والحرفيين والسكّان المحليين، سعى إلى كشف خبايا الزمن والاقتراب من جوهر الحضارات التي ازدهرت في تلك المناطق.
وأفغانستان، خاصّة، تشكّل فصلا آسرا في رحلة المؤلّف الطويلة. فبينما كان يجوب المناظر الطبيعية الوعرة في ذلك البلد، وجد نفسه في أرض كانت أصداء التاريخ فيها تتردّد في الهواء وبدت وكأنه لم يمسسها العالم الحديث تقريبا. وتبرز هيرات، إحدى أهمّ مدن أفغانستان التاريخية، كنقطة محورية في رواية بايرون.
فيما يلي بعض فقرات مترجمة من الكتاب مع بعض التصرّف..

  • دمشق، 12 سبتمبر
    هنا الشرق في فوضى عارمة. تطلّ نافذتي على شارع ضيّق مرصوف بالحصى، اختفت منه رائحة التوابل والبهارات مؤقّتا في نسمة هواء باردة. إنه الفجر. الناس يتحرّكون، أيقظهم صوت المؤذّن العالي من مئذنة صغيرة في الجهة المقابلة، وأجابه آخرون من بعيد. سيبدأ بعد قليل صخب الباعة ووقع حوافر الخيل.
    الجامع الأموي، رغم ترميمه بشكل كامل بعد حريق عام ١٨٩٣، يعود تاريخه إلى القرن الثامن. رواقه الكبير متناسق وذو إيقاع مهيب على طريقته الإسلامية المجرّدة. وبينما تُلقي الشمس بجزء منها على الجدار الخارجي للمسجد، يمكن للمرء أن يتخيّل أوّل روعة من الأخضر والذهب، عندما أشرقت الساحة بأكملها بتلك المشاهد السحرية التي ابتكرها الخيال العربي لتعويض جفاف الصحراء الأبدي.

  • دمشق، 13 سبتمبر
    انضمّ إلينا شابّ يهودي. حدث هذا لأن في الفندق نادلا يشبه هتلر، وعندما علّقت على ذلك، انفجر اليهودي والمدير والنادل نفسه في نوبة ضحك. وبينما كنّا نعبر أرضا مغبرّة خرّبها القصف الفرنسي، رأينا عرّافا يخطّ علامات على صينية رمل، بينما كانت امرأة فقيرة وطفلها النحيل ينتظران خبرا عن مصير الطفل. وعلى مقربة منّا كان عرّاف آخر يجلس بلا مبالاة.
    انحنيت. وضع قليلا من الرمل في راحة يدي وطلب منّي أن أنثره على الصينية. ثم رسم ثلاثة أسطر من كتابة غامضة على الرمل، وراجعها مرّة أو مرّتين. وتوقّف وهو يفكّر، ثم نطق بهذه الكلمات: لديك صديق تحبّه ويحبّك. سيبعث إليك بعد أيّام بمبلغ من المال لتغطية نفقات رحلتك. ثم سينضمّ إليك لاحقا. أتمنّى لك رحلة موفّقة".

  • بعلبك، 18 سبتمبر
    بعلبك هي انتصار الحجر. الحجر له لون الخوخ ومعلَّم بالذهب المحمر وذو ملمس مرمري. والفجر هو الوقت المناسب لرؤيته؛ للنظر إلى الأعمدة الستّة، عندما تتألّق الألوان الذهبي والخوخي والأزرق بإشعاع متساوٍ. حتى القواعد الفارغة التي لا تحمل أيّ أعمدة لها هويّة حيّة تباركها الشمس إذ تواجه أعماق السماء البنفسجية.
    أُنظر إلى الأعلى، إلى هذه الأعمدة الضخمة، إلى التيجان المكسورة والكورنيش الكبير، كلّها تطفو في الزرقة. أُنظر فوق الجدران، إلى بساتين الحور الخضراء ذات السيقان البيضاء، ومن فوقها إلى لبنان البعيد، بريق من البنفسجي والأزرق والذهبي والوردي. أُنظر على طول الجبال إلى الفراغ؛ إلى الصحراء، ذلك البحر الصخري الخالي. اِرتشف الهواء العليل، لامس الحجر بيديك، ثم انعطف، أيها السائح، إلى الشرق.

  • بغداد، 27 سبتمبر
    بغداد هي العاصمة التي يتوقّعها المرء من هذه الأرض المفضّلة إلهيّا. إنها كامنة في ضباب طيني. نزلنا في فندق يديره آشوريون، أناس بائسون وذوو طباع حنونة، ما زالوا في حالة من الخوف على حياتهم. وكان هناك شخص واحد فقط، شابّ سريع الغضب يُدعى داود، رفع أسعار جميع السيّارات المتّجهة إلى طهران ووصف قوس المدائن بطريقة رائعة.
    ليس من المريح أن نتذكّر أن بلاد ما بين النهرين كانت ذات يوم غنيّة وخصبة بالفنّ والابتكار، ومضيافة جدّا للسومريين والسلوقيين والساسانيين. لكن في القرن الثالث عشر دمّر هولاكو نظام الريّ. ومنذئذٍ وحتى اليوم، ظلّت هذه البلاد أرضا محرومة من ميزة الطين الوحيدة، وهي تخصيب النباتات.
    المتحف هنا محروس، ليس لحماية كنوز أور، بل خشية أن يتلف الزوّار نُحاس خزائن العرض بالاتكاء عليها. ولأن المعروضات ضئيلة الحجم، كان من المستحيل رؤية كنوز أور. على الجدار الخارجي، نصب الملك فيصل لوحة تذكارية لغيرترود بيل. ظننت أن فيصل أراد أن يقرأ الناس النقش، فتقدّمت لأفعل. وعندها صاح بي أربعة رجال شرطة وجرّوني بعيدا. سألت مدير المتحف عن سبب ذلك. فأجابني بحدّة: إذا كنتَ قصير النظر، يمكنك الحصول على إذن خاص".
    كان المال في انتظاري هنا، كما أنبأني العرّاف في دمشق.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • كرمنشاه، 29 سبتمبر
    على طول الطريق المؤدّي إلى خانقين، هبّت علينا عاصفة غبار حارقة، ولاح في الأفق صفّ من التلال. ثم اجتزنا منحدرا صغيرا وعدنا إلى السهل. كان هذا يحدث كلّ خمسة أميال، حتى أعلنت واحة من الخضرة القاحلة عن دخولنا للمدينة.
    توقّفنا في قصر شيرين ساعة أخرى، بينما منحتنا الشرطة تصريحا لطهران. وامتدّت أمامنا بانوراما شاسعة من سفوح التلال المستديرة حول أطلال الساسانيين، متلألئةً هنا وهناك بأضواء كهرمانية. ومن بعيد، ارتفعت سلسلة جبال شامخة أصبحت في النهاية أسوارا حقيقية.
    انطلقنا صعودا وهبوطا عبر الهواء النقيّ المنعش إلى سفوح الجبال، ثم صعدنا إلى ممرّ بين قمم صنوبرية متعرّجة امتزجت بزخارف النجوم. وعلى الجانب الآخر كانت "كاريند"، حيث تناولنا العشاء على أنغام الجداول والصراصير، مطلّين على حديقة من أشجار الحور المغسولة بالمطر.

  • طهران، 2 أكتوبر
    لم يكن السائق يرغب في المبيت في همدان، بل أراد النوم في قزوين. كان كطفل يفضّل دمية على أخرى. ولإنهاء الجدل الذي بدأ يشارك فيه موظّفو الفندق، ذهبت إلى "تك بستان" صباحا. لا بدّ أن أكثر من نحّات قد عمل في كهوف هذه البلدة. للملائكة فوق القوس وجوه قبطية وستائرهم منخفضة ورقيقة كميدالية برونزية من عصر النهضة. وفي الخلف يقف تمثال ضخم لملك راكب، تُذكّرنا قسوة ملامحه بنصب تذكاريّ للحرب الألمانية. هذا نموذج ساسانيّ بامتياز. ومن الصعب تصديق أن هؤلاء الفنّانين كانوا فُرسا على الإطلاق.

  • طهران، 4 أكتوبر
    كانت رحلة اليوم مليئة بالبهجة. صعدنا وهبطنا الجبال، وتجاوزنا السهول الشاسعة، وتصاعدت دوّامات هائلة من الغبار تتراقص كالشياطين فوق الصحراء، فأوقفت سيّارتنا الشيفروليه، ولمحنا من بعيد جرّة فيروزية اللون تتمايل على حمار. كان صاحبها يسير بجانبها مرتديا أزرق باهتا. ولما رأيته تائها في تلك البقعة الصخرية الشاسعة، فهمت لماذا يفضّل الفرس اللون الأزرق.
    دعانا الوكيل المحلّي لشركة النفط الأنغلوفارسية، لتناول العشاء. استقبلنا في غرفة بيضاء طويلة ذات سقف مطليّ ببراعة. حتى الأبواب والنوافذ كانت مغطّاة بقماش موسلين أبيض. الأثاث يتألّف من سريرين نحاسيين مزوّدين بدعّامات من الساتان وحلقة من الأرائك الصلبة المنجّدة بالأبيض. وأمام كلّ منها طاولة صغيرة عليها أطباق من البطّيخ والعنب والحلويات. كان يقوم على خدمتنا رجل ذو لحية رمادية يرتدي معطفا أصفر فاتحا، وكان مضيفنا يناديه "آغا".

  • تبريز، 11 أكتوبر
    بينما كان مرافقي يلتقط لي صورة وأنا جالس في الخلف، تقدّم شرطي وقال إن التصوير ممنوع. كان السائق آشوريّا من بلدة قريبة من بحيرة أرومية، وبجانبه كانت تجلس معلّمة آشورية عائدة من مؤتمر تبشيري في طهران. وقد أمتعتنا بشرائح من السفرجل. كانا مهتمّين جدّا بمعرفتي بمار شمعون، ونصحاني ألا أتحدّث عن ذلك في تبريز، نظرا للاضطهاد الذي يعاني منه المسيحيون في ذلك الوقت.

  • مراغة، 16 أكتوبر
    سافرنا هذا الصباح لأربع ساعات، وبدت بحيرة أورمية في الأفق كشريط أزرق وفضّي، تمتدّ من خلفه الجبال. أبراج الحمام المربّعة المثقوبة من الأعلى منحت هذه القرى مظهرا محصّنا. بينما أحاطت بها أشجار كروم العنب وبساتين السنجق ذات الأوراق الرمادية الضيّقة وعناقيد الفاكهة الصفراء الصغيرة.
    مراغة نفسها ليست بتلك الجاذبية. شوارعها العريضة المستقيمة شُقّت عبر الأسواق القديمة، ما أفقدها طابعها المميّز. رافقنا طفل يتكلّم الفارسية إلى المسؤولين المعنيين الذين أرونا بدورهم قبرا جميلا متعدّد الأضلاع من القرن الثاني عشر، يُعرف باسم ضريح والدة هولاكو. وهو مبنيّ من طوب أحمر أرجواني مزخرف بنقوش.

  • فيش بوبليك، 19 أكتوبر
    غيوم صغيرة تلمع في زرقة السماء. ارتفعنا فوق منحدرات هادئة ومنها إلى مشهد بانورامي لأرض رملية متدحرجة تؤوي قرى ذات أبراج. ومن بعيد رأينا تلالا مخطّطة باللونين الوردي والليموني ومحاطة بأزهار الليلك وسرب من الفراشات الصفراء. وفي الأسفل، اقترب منا فارس وقال: السلام عليكم".

  • نيشابور، 14 نوفمبر
    طلع الفجر كابتسامة اخترقت سماء الليل العاصف الممطر. أكلت قطعة جبن وجزءا من صدر دجاجة شهرود. وانبثقتْ من الصحراء المظلمة شجرتا صفصاف ومقهى شاي. اجتمعنا حول نار، بينما كان أهل المكان يحاولون بيعنا خرَزا وسغائر ونردا مصنوعا من حجر أخضر ناعم. كانوا يرتدون بلوزات روسية قرمزية وينحدرون من أصول جورجية.
    ومن مسافة رأينا غيوما تحلّق منخفضة. القرى النادرة هنا هجرها الناس. وحول قلاعها المدمّرة تتجمّع تلك الأشكال القديمة: خلايا النحل الذائبة تحت المطر. كانت تذوب هكذا منذ فجر التاريخ، وعندما يأتي الصيف تنهض من جديد. تتدفّق الجداول في فيضان قرمزي عبر الأزقة المسوّرة إلى الحقول، ومنها إلى الصحراء. ويصبح المسار نفسه مجرى مائيّا.

  • غازار جاه، 15 نوفمبر
    رأيت هنا لآخر مرّة زهور القطيفة والبتونيا تزيّن بركة في الفناء الخارجي للفندق، مع ورود بيضاء نمت بكثافة كالثلج. وبدلا من صفير رياح الخريف، ترفرف الحمائم حول أشجار الصنوبر وتقضي العائلات عطلتها في الجناح ذي العشرة أضلاع. ومن الشرفة الخارجية، يبدو السهل الواقع بين الجبال والنهر بحراً من الخضرة المتنوّعة والجداول الفضّية. بينما ترسل الشمس حرارة معتدلة من سماء زرقاء وينتشر ذلك العطر الخافت المراوغ الذي استقبلنا أوّل مرّة.
  • الخميس، يونيو 19، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • في القرن السادس الميلادي، أبحر الراهب الآيرلندي بريندان وثمانية عشر من رفاقه عبر المحيط، في رحلة استغرقت سبع سنوات بحثا عن جنّة أرضية ذُكرت في بعض الكتب القديمة. وتذكر الأساطير الكلتية المبكّرة أن تلك الجزيرة لم تكن تظهر إلا عند غروب الشمس في ضباب المحيط الأطلسي، وقد أُطلق عليها "الجزيرة المباركة الخالية من العواصف، حيث جميع الرجال فيها صالحون وجميع النساء طاهرات".
    وأثناء رحلة بريندان ورفاقه، عثروا على جزيرة جرداء، فقرّروا التخييم فيها ليلا وأشعلوا نارا. ثم بدأت الجزيرة تهتزّ فجأة، ففرّ الرهبان مذعورين إلى قواربهم وتركوا الطعام والنار خلفهم. لكن القديّس حثّهم على عدم الخوف، مؤكّدا أن ما حدث سببه أن "سمكة كبيرة تجاهد ليل نهار لتضع ذيلها في فمها، ولكن لا تستطيع".
    وقد وصل الراهب ورفاقه إلى جزر الكناري التي كانت آنذاك نهاية حدود العالم المعروف. وفيما بعد وصلوا، ليس فقط إلى جزر هيبريدس وجزيرة فارو "أو جزيرة الخراف"، بل وحتى إلى شواطئ أمريكا التي يقال إنهم وصلوها قبل كولومبوس بوقت طويل.
    وليس من الواضح حتى اليوم أين تقع الجزيرة أو الأرض الموعودة التي كانوا يبحثون عنها. وهناك إشارات إلى بِرك طينية دافئة وبلّلورات قد توحي بطبيعة آيسلندا. ويشير السياق اللاحق إلى "جزيرة منوّمة" قد تكون إحدى جزر الأزور. وغير بعيد عنها جزيرة أخرى واسعة جدّا و"مغطّاة بفاكهة بيضاء وأرجوانية ولم تكن فيها أشجار أو أيّ شيء يتحرّك مع الريح". وبعد ستّة أيّام من الإبحار، نزلوا في جزيرة خصبة بها "عنب كبير كالتفّاح وعطر كرائحة بيت مليء بالرمّان".
    ويذكر كتاب "بريندان الملّاح" الذي يحكي وقائع رحلة القدّيس ورفاقه أنه كان من بين المخلوقات الغريبة التي قابلوها في رحلتهم حوت لطيف تظاهر بأنه جزيرة حتى يتمكّنوا من إقامة قدّاس الفصح على ظهره. "لم يكن ذلك الحوت يحمل لنا أيّ ضغينة. وفي زيارتنا الأخيرة، أظهر بعض المشاعر الرقيقة عندما اصطحبنا في رحلة وداع قصيرة!"
    لم يكن الكلت وحدهم من آمنوا بوجود جنّة أرضية في المحيط الغربي، بل تخيّل الإغريق أيضا هذه "الجزيرة المباركة" وراء أعمدة هرقل. وزعمت أساطيرهم أنها "مأهولة بالبشر الذين منحتهم الآلهة الخلود"، وأنها معروفة باعتدال مناخها ووفرة الثمار والخيرات فيها.
    عندما نتأمّل الأساطير الأوربيّة، لا ينبغي أن نشكّك في أن الناس في الماضي كانوا يعتبرون تلك القصص مقبولة، بل إنها مثّلت قضايا حيوية للغاية. وقد تأثّر الفكر الأوروبّي بشدّة بالإيمان بمملكة بريستر جون وجزر التوابل السبعة آلاف التي زعم ماركو بولو أنه عثر عليها في الشرق الأقصى، وبإمكانية وجود نهر نيلٍ ثانٍ في أفريقيا.
    واليوم، بعد أن أصبح العالم قرية صغيرة يسهل بلوغ أبعد نقطة فيها خلال ساعات فقط، ربّما يصعب تصوّر الحماس الشديد الذي كان يبديه العلماء والجغرافيون لإمكانية الإبحار حول العالم دون خطر "الضياع على الحافّة" كما كانوا يتصوّرون. كان التغلّب على الخوف من العالم المجهول هو الدافع الحقيقي للإنجاز في عصر الاكتشافات الطويل في أوربّا.
  • ❉ ❉ ❉

  • من أحبّ الأشياء إلى نفسي قراءة الكتب في الأماكن التي وقعت فيها أحداثها. قرأت رواية "الموت على ضفاف النيل" لأغاثا كريستي أثناء إبحاري في النيل، ورواية جين أوستن في باث، ورواية "أغنية القبّرة" لـ ويلا كاثر أثناء وجودي في منزل متنقّل بين كولورادو ونيويورك، ورواية "قطار الليل إلى ممفيس" لإليزابيث بيتر وأنا على مقربة من هناك "في مصر وليس تينيسي".
    كما قرأت رواية "روميو وجولييت" أثناء نومي في قصر من القرن السادس عشر حُوِّل إلى نُزل للشباب في ڤيرونا. ويوما ما، أودّ أن أقرأ رواية "الموت في كينيا" على سهول وادي ريفت، ورواية "رومانس" لسوزان نابير أثناء تجوالي في نيوزيلندا. وهذا الأسبوع قرأت رواية "هذه كلماتي: مذكّرات سارة براين، أراضي أريزونا" أثناء تخييمنا على حدود ولاية يوتا وأريزونا مع والديّ.
    فكرة قراءة كتاب في الموقع الذي جرت فيه الأحداث جديدة عليّ. في الواقع، بدأتُ بقراءة رواية "منتصف الليل في حديقة الخير والشر" عندما كنّا في سافانا جورجيا. لكن ما إن هبطت الطائرة في يوتا، حتى اكتشفت أنني لم أُكمل قراءة نصف الكتاب.
    أظنّ أنه عندما تتاح للبشر آلات السفر عبر الزمن، سيكون هناك عصور لا تُحصى أرغب في زيارتها بسبب الروايات. إن جمال الكتب يتمثّل في أنها تستطيع أن تنقلنا إلى مكان وزمان مختلفين دون الحاجة إلى مغادرة مقاعدنا المريحة. لورا مونكور
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • بعض الاقتباسات..
    ◦ المدارس لا تهدف إلى مساعدتك في أن تصبح مواطنا مثقّفا، بل إلى مساعدة البلاد على تحسين اقتصادها وقدرتها التنافسية وتعزيز الابتكار وتشجيع التنمية الاقتصادية وتدريب الموظّفين لسوق العمل. ف. ميشيل

    ◦ كلمة الله المقدّسة تتردّد على شفاه الجميع. لكنّنا نرى كلّ شخص يقدّم نسخته الخاصّة من كلمة الله لغاية وحيدة، هي استخدام الدين كذريعة لجعل الآخرين يفكّرون مثله. سبينوزا

    ◦ الكتاب شيء مادّي، وفي عالم الأشياء المادّية، الكتاب ليس سوى مجموعة من الرموز الميّتة. ثم يأتي القارئ المناسب والكلمات، أو بالأحرى الشعر الكامن وراء الكلمات. وبقدر ما أعرف، لم يكن للكتاب أيّ فائدة عند الإغريق. إنها حقيقة بالفعل. ومعظم كبار معلّمي البشرية، من فيثاغوراس الى سقراط والمسيح ومحمّد وبوذا لم يكونوا كتّابا بل متحدّثين. بورخيس

    ◦ إذا استطعت أن تقترب من تعقيدات العالم، سواءً أمجاده أو أهواله، بموقف من الفضول والتواضع، مدركا أنه مهما كان عمق ما رأيته فأنت لم تخدش سوى السطح، عندها ستجد عوالم داخل عوالم وجمالا لم تكن تتخيّله من قبل، وستتقلّص انشغالاتك الدنيوية إلى حجمها الطبيعي، وستكتشف أنها ليست مهمّة على الإطلاق في المخطّط الأكبر للأشياء. دانيال دينيت

    ◦ لطالما كانت البرّية ملاذي وسلواي منذ صغري. وكان الناس دائما يثيرون حيرتي. لذلك، اعتمدت على ما يريحني وقصدت أماكن بعيدة عن المدن والطرق السريعة وفوضى المجتمع البشري التي لا تطاق. لديّ أصدقاء أحبّهم بالطبع، وهم أكثر من مجرّد بشر؛ أقصد الكلاب والقطط وأشجار الحور، بالإضافة إلى أماكن ساعدتني على التعافي من الألم والحزن. وبالنسبة لي ليست تلك مجرّد "أماكن" مثل التي في القصص، بل شخصيات فاعلة. وقد توصّلت إلى أن الإنسان الكامل هو الذي يحبّ بلا تمييز، سواءً البشر المعيبين الذين نشاركهم حياتنا أو عجائب الحياة والجمال الذي يشاركنا نفسه. سوزان مارش

    ◦ عبر فترات التاريخ، كان وجود الغابات ضروريا لإنشاء قوّة بحرية حقيقية. ولو ذهبت إلى إنغلترا اليوم، فلن تجد الكثير من الغابات فيها. وإذا ذهبت إلى تركيا، فستجد هناك غابات، لأنه أعيد زراعتها قبل 40 عاما. كان الرومان قد أزالوا الغابات من كامل المنطقة الممتدّة من الشرق الأوسط إلى أوروبّا كي يبنوا بخشبها أسطولهم البحري الضخم.
    وفي بعض الأماكن، ومع الوقت، عادت بعض تلك الغابات المقطوعة الى طبيعتها، وفي أخرى لم تعد أبدا. نقص الأشجار في أرض العرب حال دون امتلاكهم قوّة بحرية معتبرة. لكنهم تمكّنوا من ذلك أخيرا، عندما أصبح لهم إمبراطورية. وما أن ترسّخت امبراطورتهم حتى ذهبوا الى بعض الأراضي التي كانت مليئة بالأشجار والغابات كلبنان وبلاد الفرس. وقد استفادوا من وجود تلك الغابات التي أمكن قطعها وتحويلها إلى سفن. روي كاساغراندا

    ◦ القمر رفيق وفيّ، لا يفارقنا أبدا. إنه موجود دائما، يراقبنا. كما أنه ثابت، يعرفنا في لحظات نورنا وظلمتنا، ويتغيّر إلى الأبد كما نتغيّر نحن. كلّ يوم، هو نسخة مختلفة من ذاته. أحيانا يكون ضعيفا وشاردا، وأحيانا قويّا ومشرقا. القمر يدرك معنى أن تكون إنسانا: متردّدا ووحيدا ومثقلا بالعيوب. طاهرة مافي

    ◦ الحياة أشبه برحلة بحرية. ماذا أفعل؟ أختارُ القبطان والمركب والتاريخ وأفضل وقت للإبحار. وإذا هبّت عاصفة أفعل الشيء الوحيد الذي أستطيعه: الغرق، ولكن بلا خوف أو صراخ، لأني أعلم أن من يُولد لا بدّ له أن يموت. إبيكتيتوس

    ◦ أعرف خبيرا بارزا في زراعة البساتين، تذوّقَ ثمار أشجار عديدة: مانغو الهند والأفوكادو الأمريكي والدوريان التايلاندي والبرسيمون الصيني وطماطم نيوزيلندا وفاكهة الخبز من هاواي. وأظنّ أنه لو شاء، لاستطاع تحديد هل الفاكهة التي أكلها أسلافنا العُصاة في الجنّة كانت موزة أم سفرجلة أم مشمشة أم رمّانة؟ يبدو أن التفّاحة هي الأقلّ احتمالاً. فيسلافا شيمبوريسكا

  • Credits
    dailystoic.com
    szymborska.org.pl/en

    السبت، مايو 24، 2025

    أساطير الصحراء


    تحمل الصحراء دهشة الواحات الخضراء ووعدا بالأسرار الكامنة وراء حُجُبها، وتخيّم عليها أساطيرُ القوافل التي لم تعُد والجيوش التي ابتلعها صمتها والمدن الشاسعة المدفونة تحت الرمال.
    وبينما لا ترى العين من الصحراء سوى القليل، فإن أكثر الأشياء إثارةً للرعب فيها هي تلك التي سمعتها الأذن: موسيقى تتسلّل من تحت حوافّ الكثبان الرملية، أصوات ساخرة أو فاتنة تنادي مشردّي القوافل، قرع طبول شبحية واشتباكات بالأسلحة تُسمع من بعيد.
    إن أيّ مسح لصحارى التاريخ يكشف عن العجائب. هناك، كلّ رجل يقاتل أخاه، ومع ذلك في كلّ خيمة الجميع آمنون، رجال القبائل الملثّمون يجوبون القفار، جماعات المهرّبين المتخفّين يجتازونها عبر مفازات مهجورة، النسّاك يذبلون ببطء في زنازين الصخر، المتشدّدون يجوبون الهضاب، الحباري والجمال البرّية تظهر في الأفق الغامض، وبقايا شعوب منسيّة تجوب الأرض التي تحته.
    الأساطير أنجزت الكثير بأقلّ جهد. يحدث أحيانا أن يرى المسافرون العطشى فجأة بحيرات ماء تتلألأ في الأفق، تحيط بها أشجار النخيل وتنعكس فيها صور المعابد. الرحّالة الڤينيسي ماركو بولو، مثلا، دوّن الكثير من تقاليد الأماكن المهجورة أثناء مروره بصحراء لوب. وهو يؤكّد، كحقيقة معروفة، أن تلك الصحراء مسكن للأرواح الشرّيرة "التي تغوي المسافرين بالوهم وتقودهم الى هلاكهم".
    في النهار، إذا تخلّف الرجال عن القافلة أو غلبهم النوم في مكانهم، فإنهم يسمعون أصواتا تناديهم بأصوات أشخاص يعرفونهم، ثم تستدرجهم وتحرفهم عن الطريق فيهلكون وحيدين. وفي الليل، قد يسمع الرجال زحف موكب كبير على أحد جانبي الطريق، فيتبعونه معتقدين أنه صوت أجراس جمال قافلتهم. وبعد ساعات يجدون أنفسهم يسلكون دروبا غريبة لوحدهم. وأحيانا تظهر أجساد لأشباح رجال مسلّحين وكأنها تهاجمهم، وأثناء رعبهم وهروبهم يضلّون الطريق.
    ويختم ماركو بولو قصصه المذهلة بقوله: إن أرواح الصحراء هذه تملأ الهواء أحيانا بأصوات جميع أنواع الآلات الموسيقية والطبول ولعلعة السيوف والرماح، ما يجبر المسافرين على توحيد خطّ سيرهم والمضيّ في مجموعات.
    وقيل انه كان في صحراء مصر القديمة قبور موتى، وأن أرواحهم، المحكوم عليها بحياة بائسة في أرض قاحلة، تحوّلت إلى شياطين مفترسة ونذير شؤم لأيّ مسافر يعبر الصحراء.
    أما في آسيا فما تزال القصص المتداولة هناك تحمل نكهة روايات ماركو بولو التي تعود إلى سبعة قرون خلت. يروي "داوتي" قصّة خيالية يتداولها أهالي تيماء في الجزيرة العربية عن واحة شبحية مجاورة يخرج من بين نخيلها بشر يمتطون خيولا ساحرة، لكنّ كلّ شيء سرعان ما يختفي إذا اقترب منها إنسان.
    وفي الصحراء الصغيرة عند سفح مرتفعات كوهستان، تشقّ الرمال التي تحملها الرياح طريقها نحو فتحات الصخور، محدثةً صوتا يشبه موسيقى قيثارة مصحوبة بقرع طبول بعيدة. أنغام الرياح الجامحة في المساحات المفتوحة تلك شكّلت مصدرا للعديد من الحكايات الغريبة. يقال، مثلا، أنها أناشيد حماسية لجيوش مضت نحو مصير مجهول وغرقت في الرمال، لكنّ صدى أنغامها ما يزال يُسمع إلى اليوم.
    وفي مكان ما في افريقيا، يقع بحر الحصى، وهو ظاهرة صحراوية توصف بانها حصى ورمل بدون قطرة ماء، يتدفّق ويعود في أمواج عاتية كغيره من البحار، ولا يهدأ ولا يستقرّ أبدا في أيّ موسم. ولا يمكن لأحد أن يعبر هذا البحر بسفينة أو بأيّ وسيلة بحرية، وبالتالي لا يمكن معرفة أيّ أرض تقع وراءه.
    ورغم أنه لا ماء في ذلك البحر، إلا أن البشر يجدون فيه وعلى شطآنه أسماكا تختلف في طبيعتها وشكلها عن تلك الموجودة في أيّ بحر آخر، وهي لذيذة وشهية كطعام للإنسان. وخلف هذا البحر، تقع جنّة أرضية لا يُوصِل إليها إلا طريق واحد يصعب العثور عليه ويسهل فقدانه إذا ما وُجد. ولم يكتشف هذا الطريق السرّيَّ أحد، باستثناء رحّالة إيطالي قيل إنه سلكه حتى نهايته وعاش عشرين عاما خلف تخوم الصحراء في مكان يشبه الحلم وفيه من الأنعم والخيرات ما لا يُوصف.
    وتحكي أساطير الخراب عن مدن حلّت عليها لعنة مفاجئة فحوّلت سكّانها إلى حجارة. ولم يغطّهم الرمل بشفقة تليق بهم، بل تركهم مكشوفين في العراء، تشرق الشمس على أسواقهم الصامتة ولا يجوب شوارعهم إلا الرياح الحزينة.
    وتشير الخرائط التي رسمها بعض الرحّالة لأسفارهم في تاتاريا إلى مدينة متحجّرة في سهول آسيا الوسطى. ويروي بعض مؤرّخي حضارة الإنكا قصّة مماثلة عن التحجّر، استنادا إلى صور شوهدت في أحد المتاحف، ويظهر فيها مجموعة من الناس والأغنام والجمال وقد تحوّلوا إلى حجارة.


    ولدى العرب قصّة عن معسكر متحجّر في مكان من الجزائر يُدعى "حمّام المسخوطين"، وُجدت فيه خيام حجرية منصوبة وأغنام متحجّرة تنتشر في السهول. وأكثر هذه الأساطير تداولا هي قصّة "رأس سم"، وهي قرية متحجّرة في برقة بليبيا. وساد اعتقاد أنها قد تكون مكان الغورغون أو الميدوسا في القصّة الكلاسيكية، أي المرأة التي كانت نظرتها المخيفة تحوّل كلّ من ينظر إليها إلى حجر.
    وهذه القرية تظهر في كتب الرحلات القديمة التي يعود تاريخ أحدها إلى عام ١٥٩٤. وربّما كان رحّالة يُدعى "ديغبي" قد رآها عندما نشر قصّة رحلته الى مدينة متحجّرة في شمال أفريقيا. كانت "راس سم" آنذاك بلدة كبيرة ذات شكل دائري بشوارعها ومتاجرها وقصرها الذي يتوسّطها. وديغبي يصفها بقوله: كانت أشجار الزيتون والنخيل منتصبة في الأفنية، لكن الأشجار كانت قد تحوّلت إلى رماد. وكان هناك أيضا أشخاص في أوضاع مختلفة.
    وبعض هؤلاء الأشخاص، قبل أن يتحجّروا، كانوا يمارسون تجارتهم ومهنهم في الأسواق أو يحملون الأقمشة والخبز بأيديهم، كما لو كانوا يريدون جذب المارّة. وكانت هناك نساء يرضِعن أطفالهن أو ينحنين على المواقد أو المعاجن. وفي قصر البلدة، كان رجل مستلقيا على سرير فاخر وحرّاس مسلّحون بالرماح والنبل يقفون عند الباب. كان سكّان القصر، وكذلك الرجال والنساء في الخارج، من نفس الحجر المزرقّ. وكانت رؤوس بعضهم مفقودة، بينما فقد آخرون ساقاً أو ذراعاً.
    ويضيف: كانت هناك جمال وثيران وحمير وخيول وأغنام في السوق وطيور ضخمة تجثم على الجدران، وفي المنازل كلاب وقطط وحتى فئران. وكلّها، كأسيادها ومضيفيها، كانت في حالة تحجّر. أما العملات التي كانت قد جُلبت من هناك، فكانت تحمل رسم رأس حصان على أحد وجهيها، وبعض الحروف غير المعروفة على الوجه الآخر".
    وقد أُرسل بعض الأشخاص إلى هناك للتأكّد من الأمر، لكن لم يعثروا على أثر لجدران أو مبان أو حيوانات أو أوان في الموقع الذي قيل إن البلدة كانت فيه. لكنهم عثروا على شيء واحد لم يستطع أحد تفسيره. كان اشبه ما يكون برغيف صغير من الخبز المتحجّر. كما عُثر على برك صغيرة من الماء الثقيل كشفت عنها الرياح. وقد يكون هذا هو السائل الذي تسبّب في عملية التحجّر.
    أساطير الصحراء التقليدية تدور حول مدن شامخة غطّتها الرمال وحجبت معها حقائق وآثارا. لكن الصحراء عادةً لا تكشف عن أسرارها دفعة واحدة، بل بالتدريج وعلى مضض.
    كان العرب يعتبرون الأماكن المهجورة والميّتة موطنا للأرواح الشرّيرة، فكانوا يسرعون الخطى كلّما مرّوا بأحدها. أما بدو آسيا الوسطى فيتحدّثون عن مدن فخمة محتها العواصف الرملية في ليلة خاطفة، وعن كنوز يمكن العثور عليها إذا ما حفر المرء بحثا عنها وحالفه شيء من الحظّ.
    وإحدى الأساطير المشهورة تحكي عن مدينة صينية مندثرة، وعن مغامرين وأثرياء قدموا من أماكن عدّة للتنقيب بين أطلالها بحثا عن كنوز مطمورة. لكن في كل مرّة يحاولون فيها حفر الرمال، تهبّ ريح عنيفة، مثيرةً دوّامات من الدخان والضباب الكثيف الذي يجرف الطريق ويقذف بالعمّال إلى داخل الصحراء.
    وهناك مقطع من نصّ هنديّ قديم يصف مدينة اندثرت قبل ألفي عام. كانت المدينة، واسمها أنورادابورا، مشهورة بمعابدها وقصورها التي لا تُحصى وبقبابها الذهبية التي تلمع تحت أشعّة الشمس. كانت شوارعها تمتلئ بالجنود المسلّحين بالأقواس والسهام، مع فيلة وخيول وعربات ومشعوذين وراقصين وموسيقيين من بلدان عديدة.
    في مثل تلك الأراضي القديمة، ليس من المستبعد أن تختفي، ليس المدن فحسب، بل الدول أيضا، تحت الرمال. وقد استسلمت تلك المدن لمصيرها المحتوم بالتدريج، مع زحف الصحراء عليها عبر دورات متعاقبة من الجفاف وشحّ الأمطار.
    لكن أحيانا كان الدمار يحدث بسرعة خرافية. وقد رأى أحد الرحّالة الرمال وهي تتصاعد فوق أسوار مدينة يزد الفارسية وتتدحرج في شوارعها. ولا بدّ أن هذا حدث في أزمنة منسيّة في المساحة الشاسعة المحيطة بصحراء لوب. والأساطير التي تتحدّث عن هذا كثيرة.
    في صحراء غوبي في الصين، اكتُشفت إحدى هذه المدن التي كانت الرياح قد دفنتها تحت الرمال. حدث هذا قبل قرون لا تُحصى. وكانت المدينة ذات أسوار وجداول وبساتين وارفة الظلال. وكان في حدائقها وفرة من أشجار المشمش وأشجار التوت التي تتغذّى عليها دودة القزّ. وكانت هناك أسواق تعجّ بصخب الحرفيين. كان اسم المدينة "تكلا مكان"، الذي يعني "المكان الذي لا عودة منه".
    وما وجده المستكشفون من بقاياها كان غابة ميّتة وآثارا تمتدّ لأميال. كانت أخشاب مئات المنازل لا تزال قائمة، وخشب الحور كان أبيض كالطباشير وهشّا كالزجاج. ووجدوا أيضا أجزاءً من صور جبسية لبوذا ولنساء بوجوه ذات ملامح آريّة وهنّ يصلّين، مع صور لقوارب تتمايل على أمواج بحار هامدة. وجميعها مرسومة بذوق جماليّ رفيع.
    كان مستكشفو المدن المندثرة يتساءلون كلّما مرّوا بواحدة: في أيّ فترة كانت هذه المدينة الغامضة مأهولة؟ ومتى نضج آخر محصول من المشمش تحت الشمس؟ ومتى اصفرّت أوراق أشجار الحور الخضراء الحامضة في خريفها الأخير؟ ومتى سكت هدير طواحينها إلى الأبد؟ ومتى هجر أهلها اليائسون مساكنهم آخر مرّة ليبتلعها فم الصحراء الجائع؟ ومن هم الناس الذين عاشوا هنا؟ وما اللغة التي كانوا يتحدّثونها؟ ومن أين في البرّية جاء سكّانها المجهولون؟ وكم من الوقت ازدهرت مدينتهم، وإلى أين ذهبوا عندما رأوا أنه لم يعد بإمكانهم العثور على مسكن آمن داخل أسوارها؟!
    وكان البدو المترحّلون يسألون أنفسهم أيضا بعض هذه الأسئلة الغريبة. ومن الإجابات التي ألهمتهم إيّاها خرافاتهم وخيالاتهم نُسجت أسطورة الصحراء.

    Credits
    talesfromthedesert.com
    chinaxiantour.com

    الخميس، مايو 08، 2025

    أسفار الرومي/6


    "في داخلك ينبوع، فلا تتجوّل بدلو فارغ".

    في 29 نوفمبر 1244، ظهر شخص غريب في قونية. كان في حوالي الستّين من عمره، يرتدي عباءة مصنوعة من لباد أسود خشن ويلفّ حول رأسه عصابة. وقد اختار أن يقيم في أحد النُزل التي يديرها صنّاع الحلوى وبائعو الأرز داخل منطقة السوق، غير بعيد عن مدرسة الرومي. كان اسمه شمس الدين أو شمس التبريزي.
    عشرات السنين من السفر المضطرب في جميع عواصم العالم الإسلامي أكسبت "شمس" لقب "باراندي" أو "الطائر". وقد اختار البقاء متنكّرا بهيئة تاجر، حتى أنه وضع قفلا ضخما على بابه للتلميح إلى أنه يحمل بضائع ثمينة تحتاج إلى حماية، مع أن ما بالداخل لم يكن سوى حصيرة من القشّ.
    قال شمس أن العناية الإلهية هي التي دفعته إلى السفر إلى قونية للبحث عن الرومي، الذي سمع عن ذكائه وبلاغته وإخلاصه وموهبته. وما كاد الرومي يراه حتى نزل عن بغلته، تاركا حاشيته وأعرافه الاجتماعية. ولم يكن اللقاء بأقلّ أهمية بالنسبة لشمس الذي قال: لقد أصبحتُ بركة راكدة، وقد حرّكتْ روحُ مولانا روحي فبدأت المياه تتدفّق بفرح وثمر".
    سريعاً أدرك شمس، الأكبر سنّاً والأكثر حكمةً، بريق إمكانيات الرومي الحقيقية. كان يكبر جلال الدين بعشرين عاما، وكان الرومي قد أصبح بالفعل مرشدا ومعلّما روحيّا. ووضع شمس أمام الرومي مجموعة من التحدّيات، وطالبه أوّلا أن يضع كتبه جانبا ويتوقّف عن تلاوة مقاطع منها. وقال له: أين صوتك؟ أجبني بصوتك!".
    كان الرومي يقتبس الكثير من الأمثال أو القصائد والحكايات. وكان شمس منزعجا من تأمّل الرومي في صفحات مخطوطات والده. وذات مرّة اقتحم المكان بينما كان الرومي يقرأ، وصاح: لا تقرأ! لا تقرأ كلمات أبيك بعد الآن!". كما استنكر شمس شِعر شاعر الرومي العربيّ المفضّل من أيّام دراسته في حلب، المتنبّي. كان الرومي مولعا بقراءة أشعار المتنبّي في المساء "هذا لا يستحقّ القراءة. لا تقرأه مرّة أخرى أبدا!".
    تجاهل الرومي تحذيرات شمس تلك. وفي إحدى الليالي، كان جلال الدين يقرأ للمتنبّي، ثم نام ورأى في الحلم "شمس" وهو يمسك بالمتنبّي من لحيته ويسحبه. ثم التفتَ شمس إلى جلال الدين وقال له: هذا هو الرجل الذي تقرأ كلماته!" وتوسّل المتنبّي لجلال الدين بصوت خافت وقال: أرجوك حرّرني من يدي شمس ولا تقرأ أشعاري بعد اليوم!".
    وكان هناك شاعر آخر يقرؤه الرومي هو المعرّي؛ السوريّ الكفيف والحزين كالخيّام. لكن حتى شمس نفسه كان معروفاً بترديده بعض أبيات المعرّي من حين لآخر، مع أنه كان يكره الخيّام بشدّة "بسبب كلماته المختلطة والمظلمة".
    ولإضاءة قلب الرومي، شعر شمس بالحاجة إلى تحريره، ليس فقط من كتابات والده وشعر المتنبّي، ولكن أيضا من كلّ اللغة والفلسفة التي كانت أساس شهرته في بداية شبابه. ورأى شمس في الكلمات والمنطق "حجابا" يخفي الرومي عن الحقيقة.
    وفي إحدى المرّات، أمر شمس الرومي بشراء إبريق من النبيذ وحمله إلى المنزل أمام أعين الجميع قائلا له: إذا أردت أن تتحرّر من قيود التقاليد فعليك أن تتخلّى عن سمعتك الطيّبة!".
    وبتوجيهٍ من شمس، أصبح الرومي ممارسا شغوفا للسماع، أي الاستماع العميق والرقص الدائري. وأيقظت الموسيقى إلهامه. وخلال جلسات السماع، كان يرتجل قصائده التي كان أصدقاؤه يدوّنونها على عجل.
    كان شمس يفهم "السماع" بمعنى مختلف تماما. فبالنسبة له، لم يكن محور الاهتمام النصوص العلمية، بل الموسيقى والشعر اللذين اعتبرهما وسيلة للوصول إلى الكشف والنشوة الروحية. وكان شمس والرومي يرافقان الموسيقيين ويقضيان ساعات لا تُحصى في الاستماع إلى عزفهم. وكان ذلك بمثابة تحدّ للسلطات الدينية المحافظة التي كانت تعتبر الموسيقى في أحسن الأحوال إلهاءً، وفي أسوأها إثماً.
    وقد أصبح "السماع" يعني أيضا الرقص الدائري، وهو ممارسة عبادية مرهِقة ومبهجة علّمها شمس لجلال الدين. وفي "السماع"، يدور الراقص بعكس اتجاه عقارب الساعة حول محور ساقه اليسرى، مستديرا إلى الأبد نحو القلب. وبتوجيه ذراعيه الممدودتين وكفّه اليمنى نحو السماء واليسرى نحو الأرض، يصبح الراقص بمثابة قناة بين السماء والأرض، منخرطا في احتضان كامل للخلق.


    كان الرومي يتوق إلى التحرّر من هذا العالم الخانق واللوذ بصديق ورائيّ متحرّر من همومه وصادق وحميم. وكان يشعر بما يدعو إليه في خطبه: التحرّر من قوقعة الذات الضيّقة والاتحاد بحبّ لا حدود له مع الله". وقد تحقّق له ذلك عندما التقى "شمس". كان الأخير مفكّرا حرّا وباحثا مستقلّا وصوفيّا ضليعا. وكان يتمتّع بلسان حادّ وحبّ جارف للموسيقى.
    وقد اعتبر البعض "شمس" فظّا ومجدِّفا، ووجد آخرون في صدقه دافعا للتجدّد. لكن شمس لم يكن يبدي اهتماما بالأتباع. ذات مرّة قال: لقد ظلّوا يصرّون على اتّخاذي معلّما. وعندما هربت تبعوني إلى النزل. قدّموا لي الهدايا، لكنّي لم أعرها اهتماما وغادرت". وكما سئم الرومي من الشهرة، ملّ شمس من الوحدة "لقد مللت من نفسي، أردت أن أجد شخصا يشاركني هذا القدر من الإخلاص، شخصا ذا عطش عميق".
    فتح شمس قلب الرومي. روحه الجريئة وفهمه العميق للتصوّف وإرشاده السخيّ في الممارسات الروحية كالصيام والإنشاد والسماع مكّنت الرومي من الارتقاء من المفاهيم إلى التجارب المجسّدة لموت الأنا، والاتحاد والنشوة الإلهية، وهي حالات جوهرية في التصوّف.
    ورغم أنهما لم يُمضيا معا سوى عامين، إلا أن تأثير شمس لم يضعف أبدا. استمرّ الرومي في تأليف القصائد بقيّة حياته، وأحيانا كان أصدقاؤه يدوّنون كلماته. وقد قال في مدح شمس: لقد حطّمتَ قفصي وجعلتَ روحي تغلي وحوّلتَ عِنَبي إلى نبيذ!". وهكذا أصبح الواعظ الرصين شاعرا منتشياً.
    ألّف جلال الدين الرومي حوالي 65,000 بيت شعري جُمعت في كتابين: المثنوي، وهو قصيدة تعليمية سردية في أبيات مقفّاة، وديوان شمس التبريزي، وهو مجموعة ضخمة من الرباعيات الغنائية والغزليات.
    وشعره زاخر بقفزات مذهلة من الصور والأفكار والمديح والنقد والاعترافات والدعوات. وفي أشعاره يتجلّى اهتمامه بالإنسانية والتزامه الجوهري بتحرير الإنسان من خلال الحبّ. كما يصف تحوّله الشخصي ويشجّع القارئ على أن يحذو حذوه، متسائلا عن منظومة القيم التي تضع اللصوص على الدرجات العليا وتعطي الأولوية للكسب المادّي على التواصل الروحي وتؤيّد السيطرة على الآخرين بدلا من الرضا المتبادل.
    وفي شعر الرومي أيضا، يتجسّد هذا الحبّ الكبير بمختلف الطرق. أحيانا يكون الحبّ ماء الحياة، قوّة تتدفّق من أعماق الروح، تسقي الأرض في دواخلنا وفيما بيننا وتُنبت حدائق بدلا من ساحات المعارك. وأحيانا يكون الحبّ نارا تحرق السرديات والإسقاطات الأنانية التي تحجب إحساسنا بالترابط وتُبقينا منفصلين. "الحبّ جدول ومحيط بلا شاطئ، نبيذ وخبز، معلّم وصديق، شعلة تملأ المنازل بالنور. الحبّ يتحدّانا، يوقظنا من سباتنا، ينير أعيننا العمياء، يأتي من العدم ليغسل ثقل الأيّام".
    تقول الأسطورة إن "شمس" اختفى ذات يوم في ظروف غامضة. ولا يُعرف سبب اختفائه أو ما حلّ به حقّا حتى اليوم. قيل، مثلا، أنه بسبب قربه من الرومي والتغيير العميق الذي أحدثه في حياته، فقد حسده الكثيرون وكرهوا علاقتهما. وقيل انه قُتل على يد بعض أتباع الرومي الغيورين ممّن استاءوا من تأثيره على معلّمهم بعد أن استثمروا فيه الكثير، ولم يكن هناك متّسع لمعلّم آخر في ذلك المكان.
    لكن لأنه لا توجد أدلّة كافية تشير إلى أن شمس قُتل بالفعل، فقد تكون هذه قصّة مختلقة وبلا أساس أو سند تاريخي. وهناك من يقول ان "شمس" غادر إلى موطنه طواعيةً ليخفّف التوتّرات المتزايدة داخل مجتمع الرومي. فبعد أن انتهى عمله مع الرومي، حان وقت عودته بعد أن لم يبقَ المزيد ممّا يمكن أن يُقال أو يُفعل. وربّما لأنه لم يكن ممكنا تفسير اختفائه، نُسجت حكايات خيالية كثيرة لإضفاء هالة من الغموض عليه.
    وسواءً قُتل "شمس" حقّا أم لا، فقد ترك اختفاؤه الرومي حزينا مكسور القلب ودفعه إلى فترة حزن وأسى شديدين. إلا أن هذه الفترة أصبحت أيضا أرضا خصبة للتعبير الروحي والشعري العميق. وبسبب الشعور بالوحدة والفقد، أُجبر الرومي على مواجهة أعماق روحه وتوجيه أشواقه وآلامه في شعره وبدأ كتابة أشعاره الخالدة عن الله وعن الحبّ والحقيقة والحياة.
    لم يكن غياب شمس المفاجئ والغامض مجرّد نهاية، بل بداية جديدة عميقة في رحلة الرومي الاستثنائية، وترك علامة لا تُمحى على روحه وإرثه. وبفضل شمس، أصبح الرومي الشاعرَ العظيم الذي نعرفه اليوم. لماذا وصل إلى قونية تحديدا، ولماذا اختفى وكيف اختفى نهائيا، كلّ هذا سيبقى لغزا. ما هو واضح وأكيد هو أن شمس التبريزي لعب دورا مهمّا جدّا في تغيير وتنوير أحد أبرز الشعراء الصوفيين الذين عرفهم العالم.
    عاش جلال الدين الرومي حتى بلغ السادسة والستّين من عمره. ولم يعد إلى الوعظ، مع أنه ظلّ ناشطا في مجتمع قونية، يساعد في حلّ النزاعات بين سكّان المدينة ويقدّم الإرشاد والسلوان ويكتب رسائل إلى الحكّام لمساعدة الطلاب الفقراء وغيرهم من المحتاجين. وبالطبع، استمرّ في كتابة الشعر وقضى السنوات الأخيرة من حياته يكمل كتابه "المثنوي"، ويكتب المزيد من الرباعيات والغزليات لديوان "شمس التبريزي"، وينظُم القصائد حتى وهو على فراش الموت.

    Credits
    rumi.org.uk
    sufism.org
    lithub.com

    الأربعاء، مايو 07، 2025

    أسفار الرومي/5


    "لم تُخلق لتزحف في هذه الحياة. لديك أجنحة، تعلّم استخدامها وحلّق."

    في رسالة كتبها بعد هروبه بفترة وجيزة، رثى ياقوت بأسلوب مفعم بالعاطفة القصورَ والبيوت التي رآها وهي تُمحى من على وجه الأرض "كما تُمحى أسطر الكتابة من الورق، وتصبح مسكنا للبوم والغربان".
    لكن بينما كان جنكيز خان يؤسّس دولته الوحشية في آسيا الوسطى، كانت الممارسات الصوفية التي أحياها المهاجرون الخراسانيون، بمن فيهم بهاء الدين وعائلته، تقوى وتتجذّر. وأصبحت المحافل الصوفية مراكز ثقافية للتهذيب، حيث قدّم الشيوخ رسائل الأمل والتعالي والصداقة والحبّ، بالإضافة إلى الحفلات الموسيقية والشعر والرقص. الباحثة الألمانية آن ماري شيمل لخّصت ذلك التباين بقولها: شهدت تلك الفترة أفظع كارثة سياسية، وفي الوقت نفسه أعلى مستويات النشاط الديني والصوفي".
    وقد تعاملَ الرومي الأب مع الاضطرابات الناجمة عن غزو المغول، إمّا متجاهلا، أو متألّما بسبب المعاناة التي جلبها لعائلته ومجتمعه. وصاغ القضية بشكل أكثر وضوحا لدائرته من المهاجرين من خراسان بقوله: إذا كنتم خائفين من التتار فأنتم لا تؤمنون بالله".
    ولعلّه أدرك العناية والحكمة الإلهية فيما حدث، ونقل إلى ابنه هذا الفهم للأحداث المأساوية. ولم يكن اختياره لمكانه في آسيا الصغرى صدفة، فقد تنقّل واعظا متجوّلا من مدينة إلى أخرى، ومن راع إلى راع، مقتربا دائما من قونية؛ عاصمة سلطنة الروم السلجوقية التي كان يحكمها السلطان علاء الدين كيقباد الأوّل، والتي ربّما زارها لأوّل مرّة في وقت مبكّر من عام 1221. وبالطبع، سمح توقيت هذه الهجرة في أواخر حياته لعائلته بالنجاة من الإعدام المحتمل على يد فاتح العالم المعروف آنذاك. وقد أمضى جلال الدين وعائلته السنوات السبع التالية في وسط الأناضول قبل أن يصلوا أخيرا إلى قونية.
    وبحلول ذلك الوقت، لم يكن جلال الدين قد شهد فقط عددا كثيرا من الأسفار، بل عايشَ أيضا مراحل الحياة، مع وفاة والدته وشقيقه الأكبر وزواجه من صديقة طفولته ثم ولادة ابنيه. وسيكتشف في الولادة والتحوّلات المستمرّة لدورة الحياة استعارته المفضّلة عن الحياة الداخلية: مثل طفل في الرحم يتغذّى بالدم، يولد الجميع مرّة واحدة، ولقد ولدت مرّات عديدة".
    كانت قونية، حتى في هندستها، أقرب إلى مدن آسيا الوسطى منها إلى مدن آسيا الصغرى. كانت المنازل تمتدّ بين الأسواق وحدائق الزهور، بينما اصطفّت على جانبي الشوارع والأزقّة جداول من الطين المحروق تتدفّق منها المياه، وحُفرت نوافير في جدران المباني العامّة في أحواض مقوّسة الشكل. وكانت الحمّامات العامّة تقع في الوسط، مع أقسام للرجال والنساء.
    بعد أن استعان السلطان كيقباد بالأساطير الفارسية لتعزيز مكانته في قونية، ابتكر لنفسه نسَباً مميّزا يختلف عن أسلافه الأتراك الرحّل. ومثل أخيه ووالده، أخذ السلطان اسمه الملكي من الملوك الخياليين العظماء في الملحمة المسمّاة بـ الشاهنامه أو كتاب الملوك. وبالمثل، نقشَ السلطان على أبراج المدخلين الرئيسيين لقلعة قونية رسوما لشخصيات واقتباسات من الملحمة كُتبت بأحرف من ذهب. وفي جميع أنحاء القصور، وُضعت تماثيل لتنّين يرمز لمحارب تركي وصفه الفردوسي في قصيدته بأنه "تنّين خطير أنفاسه من نار!".
    كما بنى السلطان خاناً أسماه "خان السلطان" عام 1229. كان الخان مخصّصا للمسافرين على الطريق من قيصري إلى قونية، في منطقة من أراضي الأناضول المُعشبة والمسطّحة التي لا تتخلّلها سوى كتل من الجبال تشبه إلى حدّ كبير سهوب آسيا الوسطى.


    وفي بعض الممرّات الأخرى التي تؤدّي الى المدينة، تُفسح حقول القطن والذرة الطريق لحدائق البرقوق الأصفر، أو مشمش قونية الشهير. وفي الصباحات التي تعقب العواصف الرعدية، تتفتّح المزيد من الورود وتتناثر الخضرة وينتشر عطر أشجار التوت في كلّ مكان. كان الربيع هو الفصل المفضّل في قصائد الرومي، وغالبا ما تكون صوره الربيعية الأناضولية واضحة: حديقة الورود والريحان الشذيّ وظلال الفاوانيا التي تشبه سريرا بنفسجيّا بين التراب".
    كانت آسيا الصغرى منفصلة عن البرّ الرئيسي العربي ومعظم سكّانها من المسيحيين اليونانيين والأرمن، لذا سُمح للإسلام بالتطوّر في ظلّ هؤلاء السلاجقة بطريقة أكثر انسجاما مع عالمية ابن عربي. وكان سلاطين السلاجقة يؤمنون بأن أدعية الشيوخ الكبار، من أمثال بهاء الدين، تجلب الرخاء والاستقرار للبلاد.
    في صباح أحد أيّام فبراير عام 1231، وعن عمر يناهز الثمانين، توفّي بهاء الدين، بعد أن قاد عائلته آلاف الأميال ونجا معهم من الفناء المحتمل. وقد تبرّع كيقباد الأوّل بأرض في حدائق الورود الخاصّة به كي يُدفن فيها. كانت صحّة بهاء الدين قد بدأت بالتدهور وفقدَ معظم أسنانه وصار صوته مرتجفا. وكان يستقبل أتباعه في منزله ويقول لهم: انتظروا حتى أموت وسترون كيف سيحلّ ابني جلال الدين مكاني ويصبح أعلى شأنا منّي".
    ذات يوم، انتهى الى علم جلال الدين أن معلّمه برهان الذي لم يرَه منذ 15 عاما، قد وصل الى قونيه. كان توقيت ظهوره غريبا. وقد عزا برهان سبب مجيئه إلى حثّ بهاء الدين له في المنام. وبلكنته وسلوكه الخراساني، كان يحمل معه أصداء عوالم سمرقند وبلخ المنقرضة. كان برهان يسعى دائما إلى نقل أفكار باطنية يصفها بـ"الأسرار"، وتحْمِل في جوهرها فهما للألوهية كوجود في كلّ شخص. لكن تلك الأفكار لم يكن سهلا التعبير عنها، وكان التصريح بها ينطوي على مخاطر، إذ بدا أنها تتجاوز الخطّ الفاصل بين الإنسان والإله.
    كان برهان يستخدم صورا صوفية مألوفة في أحاديثه، مثل اكتشاف لؤلؤة أو انعكاس الضوء في المرآة أو الاحتراق مثل فراشة في اللهب. وكان يقول لطلّابه ومنهم جلال الدين: إن كنت لا تعرف نفسك، فإن كلّ العلوم والمعرفة التي تمتلكها لا طائل من ورائها".
    ولم تكن مثل هذه الرسائل عن معرفة الذات غريبة على سكّان الأناضول من اليونانيين. ومنذ شعار "إعرف نفسك" المنقوش على معبد أبوللو في دلفي، ارتبطت المعرفة عند الإغريق القدماء بالدين. وكان الفكر الأفلاطوني المحدث، الذي يؤكّد على المعرفة كمسار صوفيّ، حيّاً في منطقة الأناضول. كان أفلاطون شخصية ساحرة يعامله كلّ من الإغريق والأتراك كقدّيس. وقريباً من قونية، يتدفّق "نبع أفلاطون" حيث يُعتقد أنه عاش. ويزعم البعض أنه مدفون في كنيسة القلعة.
    في أحد الأيّام، انتشر الخبر عن وفاة برهان. وفي وقت وفاته تقريبا، توفّيت "جوهر"، زوجة الرومي، في ظروف غامضة ودون أيّ سبب معروف. ومرّة أخرى، عانى الرومي من فقدان رابط وثيق بطفولته في آسيا الوسطى، والأهم من ذلك أن جوهر كانت والدة ابنيه. وقد تزوّج الرومي بعد ذلك بوقت قصير من أرملة تُدعى "كيرا" وتنتمي الى عائلة رومانية تركية في قونية. وكان زوجها السابق متحدّثا أرستقراطيا من إيران. وعلى مدى السنوات القليلة التالية، رُزق الرومي وكيرا بابنهما مظفّر الدين وابنتهما ملكة.
    كانت كيرا أكثر وضوحا في الذاكرة من جوهر، حيث لم يكن زواجهما مرتّبا، وعاشت مع الرومي خلال فترة شهرته المتزايدة. وعلى الرغم من أنه لم يكتب عنها أبدا، فقد تذكّرها أولئك الموجودون في دائرته الداخلية، وكانت المرأة فيما بعد مصدرا لبعض الحكايات الأكثر سحرا وخيالا عن زوجها. كان اختيارها مغادرة الأسرة الأرستقراطية لزوجها المتوفّى والزواج من رجل دين يشير إلى ميول روحية. وكانت بالتأكيد تؤمن بالخرافات والجنّ والأرواح الشرّيرة غير المرئية.
    كثيرا ما كان الرومي يقع في فخّ التصنيف التقليدي للرجال على أنهم أقوياء وعقلانيون، بينما النساء متقلّبات وعاطفيات. وقد صوّر الزوجات ذات مرّة على أنهنّ اختبارات تطهيرية لفظاظة أزواجهن، فقد "أرانا الله طريقا ضيّقا وخفيّا لتهذيب أنفسنا، وهو طريق الزواج من النساء وتحمّل ظلمهن والاستماع إلى شكاواهن وتركهن يُصدرن الأوامر لنا".
    لكن في حالات أخرى، كان الرومي أكثر تعاطفاً، كما في قصيدته في المثنوي الموجّهة للنساء: المرأة شعاع من الله، سماويّ ومحبوب. إنها خالقة ومخلوقة". وكان أيضا ضدّ فرض الحجاب وكان العديد من تلاميذه من النساء، وقد انتُقد لحضوره اجتماعاتهنّ المسائية في إحدى الحدائق.

    الثلاثاء، مايو 06، 2025

    أسفار الرومي/4


    "حيثما يوجد خراب، هناك أمل بالعثور على كنز".

    باعتبارها ملتقى للحجّاج من جميع أنحاء العالم الإسلامي، كانت مكّة أيضا مركزا للأخبار والمعلومات، حيث كان الرومي وعائلته يتابعون آخر الاخبار من شهود العيان. وفي تلك السنة، أي 1218، كان الخبر العاجل في أوساط المسافرين من آسيا الوسطى يتعلّق بتهديد المغول. فمنذ رحيل عائلة الرومي من خراسان، ازدادت التوتّرات والهجمات بين جنكيز خان وشاه خوارزم. وكان مصير الحجّاج غير واضح وقرار العودة إلى المدن المهدّدة مثل بلخ أو سمرقند غير مؤكّد.
    بعد مكّة، رحلت عائلة الرومي إلى دمشق واستغرقت الرحلة بأكملها حوالي شهرين. كانت دمشق وقتها غير مستقرّة أيضا وسوريا لا تزال متأرجحة بسبب الحروب الصليبية. وكان حاكم دمشق هو "المعظّم" الذي كان والده يقاتل في الحملة الصليبية الخامسة.
    لم تدُم إقامة جلال الدين ووالده وعائلته طويلا في دمشق. وانتقلوا هذه المرّة من سوريا إلى الأناضول خلال صيف ذلك العام. كانت الأناضول في خيال المسلمين تمثّل الحدود الخارجية لحضارتهم وحدود روما المسيحية أو الروم. وكان مصطلح "رومي" يُستخدم أحيانا كمرادف للمسيحي.
    وكان عدد المسلمين في الأناضول يُقدّر بنحو عشرة بالمائة فقط من السكّان. وكانت مالاطية، المدينة الواقعة قرب ملتقى نهر الفرات والتي نزلوا فيها في البداية حامية عسكرية ملحقة بحصن من القرن الثامن الميلادي، وتُمثّل أوّل ساحة دفاع ضدّ البيزنطيين تمتدّ حتى البحر المتوسّط.
    وقد وصف ياقوت الحموي المدينة عندما حلّ فيها بأنها جزء من الأراضي اليونانية، إلا أن الأتراك السلاجقة كانوا على ما يبدو مسئولين عنها عندما أقامت عائلة جلال الدين فيها لفترة وجيزة. وأثناء وجوده في مالاطية، أجرى جلال الدين ثاني لقاءاته المشهورة مع رجال بارزين. كان يعيش في المدينة في ذلك الوقت الصوفيّ العربي المولود في إسبانيا ابن عربي، أعظم مفكّري عصره، وقد اتُّهمت آراؤه حول وحدة الوجود بأنها تحريف وثنيّ لعقيدة الإله المتعالي في الإسلام.
    وعلى الرغم من أنه كان يُدرّس في دمشق، إلا أن إقامته في سوريا لم تكن مريحة له، فقضى الأعوام من ١٢١٦ إلى ١٢٢٠ في مالاطية. ويقال أنه رُتّب حوار بين والد جلال الدين وابن عربي. وقد أحضر الأبُ جلالَ الدين معه، وعندما غادرا، كان الصبيّ هو من لفت انتباه الصوفيّ العظيم. وعندما رأى ابن عربي الرومي الصغير يقتفي أثر والده في الشارع، علّق قائلا: سبحان الله! محيط يتبع بحيرة!".
    كان بهرام شاه، أمير إرزينجان، وزوجته الأميرة عصمتي، أوّل راعيين لوالد جلال الدين في الأناضول. وكانت عاصمتهم تقع في الطرف الأعلى من وادي الفرات. كانت إرزينجان مدينة كبيرة يغلب عليها المسيحيون الأرمن. وغالبا ما أثارت مثل هذه المدن غضب المسلمين الزائرين الذين كانوا يعبّرون عن امتعاضهم من وفرة النبيذ ولحم الخنزير والمواكب الدينية فيها.
    وعلى ما يبدو، استقرّ والد جلال الدين في شتاء عام ١٢١٨ في "العصمتيّة"؛ المدرسة التي سُمّيت تيمنّا براعيته الملكية، حيث كان يعطي دروسا عامّة مع لمسة من التصوّف. كان هذا الشاه الصغير، أي أمير إرزينجان، معتادا على رعاية الشخصيات الثقافية البارزة. وكان قد دعمَ في وقت سابق إنتاج قصيدة تعليمية طويلة بعنوان "كنز الأسرار" ألّفها الشاعر نظامي وكُتبت بأسلوب سنائي.
    وكان شاعر البلاط الآذاري، أي نظامي، قد كتب أشهر قصّة رومانسية بعنوان "ليلى والمجنون"، وهي تنويع على حكاية عربية كلاسيكية ومشهورة عن الحبّ العذري. وقد ظلّ هذان الحبيبان، أي ليلى والمجنون، في خيال الرومي بمثابة عاشقيه المفضّلين، وقَدّس فيما بعد المجنون المتألّم باعتباره "شهيد الحبّ" الصوفيّ المثاليّ.


    مرّ عام تقريبا منذ أن ذهب الرومي وعائلته إلى الحجّ في مكّة. وخلال هذا الوقت، كانوا يتطلّعون ويستمعون بقلق لآخر الأخبار عن الوضع في بلادهم. لم يكن أحد ينعم بالاستقرار حقّا في أيّ مكان. وكانت التقارير التي جلبها المسافرون قاتمة، وسرعان ما صرفت العائلة النظر عن أيّ خطط للعودة في نهاية المطاف، وبدا أن إقامتهم في الأناضول ستطول.
    كانت منطقة خراسان، حيث ترك بهاء الدين وراءه والدته المسنّة وابنه وابنته الكبيرين، تسجّل نشاطا خطيرا أشعله حادث حدوديّ صغير. كان بعض من يأتون إلى أراضي شاه خوارزم يشترون الأقمشة ليكسوا أنفسهم. وقد منعهم الشاه وأمر بقتل تجّارهم. كما فرض عليهم الضرائب ومنع تجّاره من السفر إلى أراضيهم. وذهب التتار بتواضع الى ملكهم ليشتكوا له. فطلب الملك عشرة أيّام للنظر في الأمر، ودخل كهفا عميقا في الجبال، حيث صام لأيّام عشرة وتضرّع وصلّى. وجاءته صرخة من الله: لقد سمعت دعاءكم! ستُنصرون أينما ذهبتم!".
    كان جنكيز خان ينظر إلى خوارزم باعتبارها شريكا تجاريّا مربحا، وقد أرسل سفراءه للتفاوض على اتفاقية تجارية وتبعتهم قافلة من 450 تاجرا تحمل سلعا فاخرة. وبينما كانت القافلة تعبر إلى كازاخستان، شمال المنزل الذي شهد طفولة جلال الدين، استولى حاكمها، وهو قريب لشاه خوارزم، على البضائع وقتل التجّار باعتبارهم جواسيس.
    أرسل جنكيز خان مبعوثين للمطالبة بالاقتصاص من القتلة. لكن بدلا من ذلك، قطع شاه خوارزم رأس أحد المبعوثين وأعاد الآخرين وقد حلق لحاهم بشكل مهين. وتأكيدا لرواية جلال الدين، ذكر المؤرّخ الفارسي عطاء الله الجويني الذي عاصر تلك الأحداث أن جنكيز خان صعد قمّة جبل للصلاة ونزل "مستعدّا للحرب". واستمرّ الغزو العقابي الذي تلا ذلك أربع سنوات، حتى عاد جنكيز خان إلى وطنه منغوليا، تاركا وراءه المدن الكبرى التي عرفها جلال الدين في صباه، بخارى وسمرقند وبلخ وهيرات ومرو ونيشابور، وقد تحوّلت الى أنقاض.
    ويصف الجويني نزول القوات المغولية في بخارى بقوله: أُخذ جميع الناس، رجالا ونساء، وطُردوا إلى السهل ثم قُتلوا جميعا ولم يُستثنَ منهم أحد". وفي بلخ، حيث كان بعض أفراد من عائلة بهاء الدين ما يزالون يعيشون، هُدمت جميع التحصينات والجدران، وكذلك القصور. وتكرّرت حقول القتل في تِرمذ. كانت الوحوش البرّية تتغذّى على الجثث، والأسود تتزاوج مع الذئاب دون صراع، والنسور تأكل دون شجار مع الجوارح الأخرى".
    يمكننا أن نتخيّل الرومي وهو يسافر عبر مناظر طبيعية مهيبة من صحاري وجبال ومروج وغابات، مستنشقا عبير الزهور البريّة، ومتأمّلا السماء المرصّعة بالنجوم، ومستيقظا على أصوات الطيور، ومتجوّلا في حدائق الورود وبساتين السرو والخوخ وأسواق التوابل العطرية، وكلّ هذه العناصر وجدت طريقها إلى شعره.
    بأذن، كان يسمع حكايات شعبية وقصائد ونصوصا مقدّسة وأحاديث قافلة مفعمة بالحيوية. وبالأخرى، يسمع أخبار الفظائع والرعب الذي اجتاح البلاد مع غزو جيوش جنكيز خان للمدن وذبْح سكّانها وتركها أطلالا مشتعلة.
    وكانت معاناة نيشابور أشدّ من جميع المدن الأخرى في ذلك الانتقام الدموي. فقد انطلق سهم من وراء أسوار المدينة المحاصرة متسبّبا في مقتل توكوشار صهر جنكيز خان. وسمح الفاتح لابنته الأرملة والحامل بالانتقام. وفي أبريل 1221، قضت بالموت على الجميع، بمن فيهم الكلاب والقطط وأيّ حيوان حيّ، وأمرت بتكديس الجماجم على شكل ثلاثة أهرامات، للرجال والنساء والأطفال.
    وذكرت بعض الروايات أن العطّار كان من بين القتلى، وهو مصير محزن لشاعر اتّسم بالرقّة ووُصف بأنه "صوت الألم". وطوال السنوات الثلاث التي سبقت الغزو المغولي، كان الجغرافي ياقوت الحموي يقيم سعيدا في مرو متنقّلا بين مكتباتها العديدة. وقد كتب: لولا المغول لبقيتُ ولعشتُ ومتُّ هناك، لكن بالكاد استطعت الفرار".

    الاثنين، مايو 05، 2025

    أسفار الرومي/3


    "بِعْ ذكائك واشترِ الحَيرة"!

    كان شاعر الجيل السابق الذي تجنّبه العطّار هو عمر الخيّام الذي دُفن بجوار سور حديقة على بعد أميال قليلة من نيشابور، حيث تتناثر بتلات أشجار الكمّثرى والخوخ على قبره. وقد اشتهر الخيّام في حياته بأنه عالم رياضيات وفلك، كما كتب رباعيّات موجزة عن الحياة كمثل قوله: سواءً في نيشابور أو بابل، تستمرّ أوراق الحياة في التساقط واحدة تلو الأخرى". ومع ذلك، فإن رياح الشكّ والتشاؤم المنعشة في شعر عمر أزعجت العطّار "الصوفي".
    كانت نيشابور تُعرف باسم "بوّابة الشرق". وبعد المرور عبر تلك البوّابة، تنقسم الطريق الى فرعين. كان المسافرون، مثل عائلة جلال الدين، قد اتخذوا طريق القوافل الشمالي بدلاً من طريق البريد الجنوبي. ويمرّ هذا الطريق بالرّي ويستمرّ إلى بغداد. وعلى طول الطريق، أفسحت الألحان الفارسية الطريق تدريجيّا لأغاني الحبّ العربية. وقد كتب الرومي عن حياة قضاها في التنقّل بين هاتين اللغتين قائلا: تحدّث بالفارسية، على الرغم من أن العربية أجمل".
    شُيّدت بغداد كمدخل رئيسيّ إلى مكّة، وكانت المدينة مواجهة تقريبا للقبلة. وقد وصلت عائلة الرومي إلى بغداد في يناير عام 1218، وبذا فاتتها فرصة الاستمتاع بالعصر الذهبي للخلفاء العبّاسيين في بغداد. إذ كان بريق المدينة قد بلغ أوجه في عهد هارون الرشيد في القرن التاسع، وتجلّى ازدهار عاصمته ببذخ في "ألف ليلة وليلة".
    أنشأ هارون بلاطاً على الطراز الإمبراطوري الفارسي وشجّع المشاريع الفكرية، حيث ترجم الرهبان النسطوريون النصوص العلمية اليونانية. ورُسمت حدائق قصره حول شجرة مصنوعة من الفضّة مع طيور آليّة مغرّدة، وخلفها امتدّت مدينة عالمية تضمّ ثلاثة جسور عائمة، مثبّتة بسلاسل حديدية على ضفّتي نهر دجلة، بالإضافة إلى آلاف من زوارق العبّارات ومنطقة مسيحية بها كنائس وأديرة وحدائق عامّة لسباق الخيل وحديقة للحيوانات البرّية بها طواويس هندية.
    كان الخليفة الناصر يحكم منذ ما يقرب من أربعين عاما، ساعياً للحفاظ على أمجاد "بغداد هارون" ولكن دون قوّة عسكرية موحّدة. وظلّ الخليفة مقيّدا بشاه خوارزم من الشرق والأتراك السلاجقة من الغرب. ومع ذلك، كان يزرع حدائقه وينقل القصور من مدينة هارون الدائرية إلى الضفاف الشرقية لنهر دجلة. الشاعر الخاقاني، أثناء مروره ببغداد، أُغمي عليه عند رؤيته تلك الحدائق الرائعة وشبّه دجلة بدموع مريم العذراء.
    كانت بغداد في العصور الوسطى متنوّعة ومتسامحة كثيرا، مع بعض القيود. فقد أصدر بعض الخلفاء مرسوما بأن ترتدي النساء غير المسلمات ملابس صفراء أو زرقاء وأحذية حمراء لتمييزهنّ. ومع ذلك، كانت الأحياء المسيحية من بين أكثر المناطق شعبيةً في بغداد، حيث كان الرهبان يُخمِّرون النبيذ ويوزِّعونه من أديرتهم. وقد كتب أحد المؤرّخين يقول: في يوم ممطر، يا لها من متعة أن تشرب الخمر مع كاهن!".
    في وقت زيارة جلال الدين وعائلته لبغداد، كان الجغرافيّ ياقوت الحموي مفتونا بكنيسة نسطورية يونانية في حيّ دير الروم، وذكر أن حشودا من المسلمين كانوا يأتون في أيّام الأعياد "للتحديق في الشمامسة والرهبان الشباب بوجوههم الجميلة والاستمتاع بالرقص والشرب وصنع الملذّات". وباعتبارها مركزا للخلافة، ظلّت بغداد بالنسبة للرومي رمزا للعدالة والقوّة: بغدادك مليئة بالعدل وسمرقندك مليئة بالحلاوة".
    أُعجب الرومي بـ"شمس العراق الحارقة"، وانضمّ دجلة والفرات منذ ذلك الحين إلى نهر جيحون العظيم على خريطة خياله. في ذلك الوقت، كانت بغداد مليئة بالخانقاه، أو النزُل الصوفية، التي غالبا ما بُنيت بجوار المقابر، وهي مناسبة للتوق إلى العالم الآخر. ومع ذلك، قيل إن والد الرومي اختار بدلاً من "نزُل" الإقامة في إحدى الكليّات.


    ولو لم يكن بهاء الدين قد أقام في الكليّة النظامية، لكان على الأقل قد جال في هذه الجامعة الأعظم في العالم الإسلامي، التي أسّسها الوزير نظام الملك عام ١٠٦٥، قبل أكثر من قرن من تأسيس أكسفورد أو السوربون. كان هذا المعهد، المعروف أيضا باسم "أمّ المدارس"، يقع بالقرب من رصيف على ضفاف نهر دجلة بمحاذاة شارع سوق الثلاثاء الكبير شرق بغداد.
    في النظامية، قبل ذلك الوقت بحوالي مائتي عام، أي في القرن الحادي عشر، ألقى العالم الشهير الغزالي محاضرات في قاعات كانت مكتظّة بمئات الطلاب لمدّة أربع سنوات، ثم عانى على ما يبدو من انهيار عصبي وغادر بغداد للتجوّل في صحاري الحجاز. وبدافع الشكّ، دخل في النهاية إلى محفل صوفيّ، حيث كتب أطروحته المؤثّرة عن "العلم الباطني". وفي حياته، وحياة الرومي أيضاً، كان كتابه "إحياء علوم الدين" من أكثر الكتب مبيعاً.
    رغم أن بغداد كانت قد فقدت شيئا من رونق الخلافة عندما زارتها عائلة الرومي، إلا أنها كانت لا تزال مختبرا عظيما لتطوّر الصوفية، وهو ما كانته طوال القرون الأربعة السابقة.
    كان العطّار قد جمع "سيَر الأولياء" وذكر مجموعة من القصص الشعبية عن الشخصيات المقدّسة، مثل قصّة رابعة، المرأة الصوفية من البصرة، التي قيل إنها عبرت الشوارع بمصباح في يد وإبريق ماء في اليد الأخرى "لإحراق الجنّة وإطفاء نيران جهنم"، حتى لا يُحبّ أحد الله لمجرّد الثواب أو العقاب. ورسَم العطّار أيضا صورة للجنيد، بائع الزجاج، الذي روّج لمدرسة رصينة في بغداد ونصح بالتحدّث بالرموز، ولنظيره بايزيد البسطامي الذي ألهم مدرسة للصوفية.
    بالسفر إلى مكّة عام 1218، كان على عائلة الرومي مغادرة بغداد بحلول شهر فبراير على أبعد تقدير. كانت المرحلة الأولى من رحلتهم هي رحلة المائة ميل للانضمام إلى قوافل الحجّاج المغادرة من مدينة الكوفة المبنية من الطوب. واستغرقت القوافل المغادرة من الكوفة ما يقرب من شهر للوصول إلى مكّة. وكتب جلال الدين لاحقاً: الرجل الذي يسافر مع قافلة في ليلة مظلمة ملبّدة بالغيوم لا يعرف أين هو، أو إلى أيّ مدى سافر، أو ما مرّ به. وعند الفجر، يرى نتائج الرحلة، أي أنه سيصل إلى مكان ما. كذلك، من يعمل لمجد الله لا يهلك أبدا وإن أغمض عينيه".
    ذكريات جلال الدين الأكثر قسوةً كانت عن المخاوف التي واجهها أثناء السفر الى مكّة. فقد تحدّث عن مسافرين تعرّضوا للهجوم في مكان ما، "فقاموا بتكديس بعض الحجارة فوق بعضها كعلامة، وكأنهم يقولون: هذا المكان خطير".
    كان التهديد الأكبر يأتي من قبائل البدو التي كانت تهاجم القوافل. وقد شهد الجغرافي الاندلسي ابن جبير، الذي سافر إلى مكّة قبل عائلة الرومي بثلاثين عاما، حادثة دُهس فيها سبعة حجّاج حتى الموت أثناء تدافعهم على خزّان مياه يستخدمه الناس والإبل. وشبّه الرومي هذه المشاقّ بالجهود الروحية: تتجلّى عظمة الكعبة عندما يتحدّى الحجّاج قاطعي الطريق ويجوبون الصحراء الشاسعة".
    وذكر ابن جبير أيضا أنه بين قمّتي الصفا والمروة، يوجد "سوق مليء بالفواكه" بحيث كان من الصعب أن يحرّر الحاجّ أو الزائر نفسه من الزحام الشديد". كما وصف سوقا آخر كبيرا بالقرب من الكعبة تُباع فيه سلع مثل الدقيق والعقيق والقمح واللؤلؤ".
    كانت زيارة الكعبة فرضا يجمع الناس من مدن ومناخات عديدة في العالم. وكثيرا ما كان جلال الدين ينقل مكّة إلى المستوى الروحي دون أن يعلّق أبدا على تجربته الشخصية في الحجّ، حتى أنه أشفق على حاجّ فقير تائه في الصحراء المحيطة بقوله: يا من ذهبت للحجّ، أين أنت؟ ها هو الحبيب! ها هو ذا. أنت تائه في الصحراء". وتعكس بعض مشاعره المواقف التي ربّما تعلّمها من العطّار ومتصوّفة بغداد.

    الأحد، مايو 04، 2025

    أسفار الرومي/2


    "عليك أن تستمرّ في كسر قلبك حتى ينفتح."

    للسفر من سمرقند إلى بلخ، كان على جلال الدين وعائلته المسير بمحاذاة نهر جيحون. كانت نقطة العبور الطبيعية إلى جانب بلخ من النهر هي مدينة "تِرمذ" المحصّنة، مسقط رأس "برهان" معلّم جلال الدين، الذي قرّر البقاء هناك.
    في منتصف الأربعينات من عمره، كان برهان معلّما مكلّفا بمهمّة محدّدة، وهي رعاية جلال الدين علميّا وروحيّا. فكان بذلك شخصيةً محبّبةً ومهمّةً في طفولة الرومي ولم ينافسه في التأثير عليه سوى والده.
    في المرحلة الأولى من رحلتهم على طول حدود آسيا الوسطى، كانت قوافل طويلة لا حصر لها من الإبل والبغال تشقّ طريقها عبر الصحاري والسهول المحاطة بالجبال المغطّاة بالثلوج، وتتوقّف في مدن الواحات المحاطة بأشجار النخيل. كانت الأسواق المزدحمة تعجّ بالتجّار الذين يبيعون البطّيخ أو الخيول للمسافرين.
    في صباه، استوعب جلال الدين إيقاع تلك الإبل وهي ترسم خطوطها المتعرّجة بين الأعشاب وفي الرمال. كما أصبح يعرف عن ظهر قلب الألحان التي تنتشر في كلّ مكان أثناء الرحلة وتُغنّى لإزجاء الوقت أو تسريع القافلة، مصحوبةً في كلّ خطوة بجلجلة أجراس فضّية تُثبّت بالقرب من آذان الجمال.
    وكان سائقو الجمال يردّدون الأغاني التقليدية، غالبا أغاني الحبّ، التي لا تنقطع إلا عند ارتفاع الأذان للصلاة. وكان الناي، أو مزمار القصب، هو الأكثر وضوحا في تلك الألحان، وهو آلة حزينة أصبحت فيما بعد صورة لفنّ الرومي وروحه. "إستمع إلى صوت الناي كيف يبثّ آلام الحنين، يقول: مُذ قُطعت من الغاب وأنا أحنّ إلى أصلي".
    وفي النهاية ستُدمج صور المزامير والإبل والقوافل والنزُل والأهلّة ورمال الصحراء في موضوع الرومي العظيم عن عدم التعلّق، كمثل قوله: أصواتنا مثل أجراس القافلة أو الرعد. أيّها المسافر عندما تتكاثف الغيوم لا تترك قلبك في النُزل".
    كانت هذه الرحلة داخلية بقدر ما كانت خارجية، حتى إن كان الرومي ما يزال صبيّا صغيرا ولم يدرك بعد الكثير من تأثيرها. كان يراقب مناظر الطبيعة الخلّابة في جولته في المدن الإسلامية العظيمة آنذاك. والأهم من ذلك أنه كان يتواصل مع أدلّة مهمّة على أصوله الشعرية والثقافية والروحية، لا سيّما في نيشابور وبغداد ومكّة.
    كانت نيشابور مركزا جاذبا للشعر التعبّدي وللصوفيين الذين يجاهرون بالفضيحة كممارسة روحية. وكانت بغداد القلب النابض بالحياة الجامعية الإسلامية والتصوّف منذ بداياتهما، ومقرّا للخليفة. وفي مكّة، كان المسلمون من جميع الأعمار يتفكّرون، مرّة واحدة في العمر، في علاقة أرواحهم بالله، وهو أمر شغلَ الرومي منذ نعومة أظفاره كما شغلَ عائلته. وما كان من الممكن تصوّر الرجل الذي أصبح عليه الرومي لولا تلك الأجزاء من هويّته التي اكتشفها في هذه الرحلة التي استمرّت عقدا من الزمان.
    كانت المحطّة الأولى لجلال الدين وعائلته نيشابور التي وصلوها على الأرجح في وقت ما من عام 1217. كانت هذه المدينة رابع أكبر عواصم خراسان وأكثرها سكّانا. وكانت أيضا بمثابة استراحة مرغوب بها في مثل هذه الرحلة، إذ كانت الطرق الفرعية من بلخ أكثر تعرّجا وأقلّ صيانةً من الطرق الأوسع المؤدّية إلى بغداد.
    كانت العائلة قد مرّت لتوّها عبر مساحات طويلة من الأراضي القاحلة المغبرّة التي أصبحت مخبئاً مزعجاً للخارجين عن القانون، مع سهول لا متناهية لا ينعشها في الربيع إلا حفيف العشب الأخضر المزيّن بالخشخاش الأحمر، بينما تنتشر هنا وهناك بيوت طوب مقبّبة ومخيّمات للرعاة الرحّل.


    في نيشابور، كان الجغرافيّ والرحّالة ياقوت الحموي، قد زار العديد من المدن نفسها التي زارها جلال الدين وعائلته. وقد وصف المدينة في ذلك الوقت تقريباً بأنها كانت لا تزال تعاني من آثار الزلزال الكبير الذي وقع عام 1145، ومن حصار الأتراك الأويغور للمدينة بعد أن أسرَ أهلُها سلطانَهم العظيم سنجر السلجوقي. وباعتباره باني إمبراطورية، أصبح سنجر يمثّل الحكّام الأقوياء في قصائد جلال الدين الرومي.
    كان ياقوت لا يزال يجد عجائب رائعة تلفت انتباهه. وقد أشاد بشكل خاص بمناجم الفيروز وبنهر نيشابور الذي يغذّي عشرات المطاحن بالثلوج المذابة من الجبال القريبة. ومع أن المدينة لم تكن من أكثر الأماكن التي زارتها عائلة الرومي شهرةً أو تميّزا، إلا أنها قدّمت أسلوبها الروحاني المتحرّر وشكّلت مشهدا شعريّا جديدا ورائعا على حدّ سواء، وكشف الرومي في النهاية عن تقارب وجدانيّ معها.
    وقد رأى جلال الدين بعض متصوّفة نيشابور، وكان أشهرهم أتباع "الملاماتية" أو "طريق اللوم". كانوا يُخفون تقواهم حتى لا يُنظر إليهم على أنهم قدّيسون، وكانوا يسيرون في الشوارع حفاة ويشربون الخمر ويرتدون الحرير المطرّز ويتصرّفون كما لو كانوا آثمين أو مجانين.
    وكان أشهر هؤلاء فريد الدين العطّار الذي كان قد تجاوز آنذاك الثمانينات أو حتى التسعينات من عمره. كما كان قد انتهى من كتابة أروع أعماله "منطق الطير"، وهو حكاية مبتكرة وخيالية مكتوبة شعراً عن سرب من الطيور ينطلق في رحلة بحثاً عن الطائر السماويّ الجاثم على أعلى قمّة في سلسلة جبال البُرز شمال إيران.
    كانت قصص هذا الكتاب مناسبةً لصبيّ مثل جلال الدين. وقد استجاب لوزنِها العربيّ البسيط واستخدمه لاحقاً في "مثنويّه" الخاص. وعكست قصائده الكثير ممّا كان غنيّا وآسراً في حساسية نيشابور في تلك اللحظة المزدهرة. وخلال إقامة العائلة هناك، قيل إن جلال الدين رفقةَ والده وجد طريقه إلى متجر الأعشاب الذي يديره العطّار داخل سوق مزدحم.
    كما قيل أيضا إن العطّار استشرف ببصيرته النافذة مستقبل الطفل الواقف أمامه وتنبّأ لوالده بنبوغه قائلا: سيُشعل ابنك قريبا ناراً في قلوب جميع محبّي الله في العالم". وكهديّة، قدّم الشاعر للصبيّ نسخة من مؤلّفه "كتاب الأسرار". وفي هذه التأمّلات المجرّدة التي يغلب عليها طابع الحكمة، يكشف العطّار أن أسرار العالم مخفيّة قرب عرش الله، وأن اكتشاف هذه الحقائق الأبدية متاح فقط لمن هم على استعداد "لفقدان عقولهم" وشرب ماء الورد الإلهي".
    لم ينظر جلال الدين إلى العطّار كشاعر فحسب، بل تقبّل أيضا السلالة الشعرية التي صنعها لنفسه. كان العطّار قد وجد الإلهام والنموذج الأمثل في شخص الحكيم سنائي، وهو شاعر من الجيل السابق في غزنة. وكان سنائي أوّل شاعر بلاط يتوقّف عن كتابة قصائد التملّق لراعيه حتى يتمكّن من ممارسة الشعر العرفاني.
    وفيما بعد، قال جلال الدين الرومي موضحاً نسبه الشعري والروحي لطلّابه: من يقرأ كلمات العطّار بعمق، سيفهم أسرار سنائي. ومن يقرأ كلمات سنائي بإيمان، سيفهم كلماتي بشكل أفضل وسيستفيد منها ويستمتع بها".

    السبت، مايو 03، 2025

    أسفار الرومي/1


    "نحن منسوجون من العدم، نجوم منثورة كالغبار".

    في حوالي عام ١٢١٢، سافر الصبيّ جلال الدين الرومي مع عائلته من بلخ إلى سمرقند. ووصلوا إلى المدينة في قافلة والده الشيخ بهاء الدين "أو سلطان العلماء كما كان اتباعه يلقّبونه" عبر سلسلة جبال زرافشان، ومنها الى منطقة يحكمها القراخانيون، إحدى السلالات التركية المتنافسة على حكم المنطقة.
    في قصائد الرومي اللاحقة، غالبا ما يظهر هؤلاء المحاربون الأتراك متجمّدين في الزمن بشكل رومانسي؛ بدواً في السهوب يمتطون خيولا برّية، كما في إحدى قصائده الرمضانية: داخل هذا الشهر قمر مخفيّ كالتركي داخل خيمة الصيام".
    ومع ذلك، وبحلول الوقت الذي وصل فيه مع والده وعائلته إلى سمرقند، كان حكّامها الأتراك الجدد، مثل العديد من العشائر المتجوّلة، قد تخلّوا منذ زمن طويل عن ممارساتهم الشامانية القديمة من أجل حياة أكثر حضرية وعالمية، مع تبنّيهم للإسلام السنّي.
    كانت سمرقند تقع أيضا على مفترق طرق شعريّ، فقد أُلّفت فيها القصائد المبتكرة وغُنّيت لأوّل مرّة قبل قرنين من الزمان باللغة الفارسية التي تتحدّثها عائلة جلال الدين، بدلاً من الشكل الكلاسيكي الأقدم.
    كان شارستان، الحيّ القديم المهيب، الذي يطلّ على أعلى أرض فوق أسوار المدينة المبنية من الطين في عصور ما قبل الإسلام هو أوّل ما تراه أيّ قافلة تعبر نهر زرافشان وتشقّ طريقها عبر بساتين الخوخ المحيطة وأشجار السرو الباسقة المرويّة من قنوات عدّة. ومن المرجّح أن عائلة الرومي استقرّت في حيّ شعبي يقع على ضفّة النهر وتغمره المياه أحيانا في الربيع عند ذوبان الثلوج في الجبال.
    بعد خمسين عاما، استحضر جلال الدين هذا الحيّ التجاري بشكل خافت في القصّة الافتتاحية لكتاب المثنوي، قصّة صائغ سمرقند، التي لا تُروى فقط كمثل روحي، ولكن أيضا مع إحساس بنسيج محيطها والشعور بالمكان الذي ينبع من كونك مقيما لا مجرّد زائر.
    تدور القصّة حول جارية جميلة يعشقها ملك أكبر منها سنّا. ولأنها لم تستجب لمحاولاته التقرّب منها، أرسل الملك طبيبه الموثوق لتشخيص مرض مفاجئ ألمّ بها. وبذكاء، يقيس الطبيب الملكي نبضها ويطرح أسئلة موجّهة. كان نبضها يدقّ بشكل طبيعي، وفجأة تسارعَ، وتحوّل وجهها إلى اللون الأحمر عندما ذكر لها اسم صائغ من سمرقند. وعندما اكتشف الطبيب سرّ كلّ هذا الألم والبؤس سألها: وأين شارعه وأيّ طريق تقود إليه؟" أجابت: بجانب الجسر في شارع كذا".
    كان رواة القصص وسحَرة الثعابين ولاعبو الطاولة ما يزالون يتجوّلون في مساءات سمرقند على ضوء مصابيح الزيت. وكانت منتجات المدينة كثيرة ومتنوّعة. كانت الأنوال تنسج القماش الأحمر والفضّي، بالإضافة إلى الديباج والحرير الخام. وكان النحّاسون يطرقون أواني النحاس الضخمة، والحرفيون يصنعون الركائب والأحزمة والكؤوس، والفلاحون يزرعون الجوز والبندق.
    وكان ورق حرير سمرقند، وهو في الأصل منتج صيني، مشهورا عالميّا. كان الورق الناعم، المصنوع يدويّا من لحاء أشجار التوت المصبوغ بألوان عديدة باستخدام الحنّاء أو ماء الورد أو الزعفران، يتمتّع بلمعان نادر وغريب. وكانت قصائد الرودكي، شاعر سمرقند، ما تزال تُغنّى في الساحة وتُقرأ بشغف من ورق سمرقند الفاخر عندما كان الرومي يكبر ويدوّن أشعاره.


    ويقال إن الرودكي اخترع شكل الرباعية بناءً على أنشودة كان قد سمعها من أفواه الأطفال وهم يدحرجون الجوز في شوارع بخارى، المدينة التوأم القريبة من سمرقند والمشهورة بمكتبتها، والتي ذكرها جلال الدين الرومي في شعره أيضا: يأتي السكّر من سمرقند، لكن شفتيه وجدت الحلاوة في بخارى". لذلك ظلّت كلمات الرودكي ترنّ في ذهن جلال الدين طوال حياته، مثل أغاني الطفولة.
    بعد وصول جلال الدين وعائلته بفترة وجيزة، حوالي عام ١٢١٢، واجهوا أوّل حصار مرعب شنّه شاه خوارزم الذي شعر بأنه مستعدّ وقويّ بما يكفي لضمّ هذه العاصمة الأكثر جاذبية في آسيا الوسطى الى ملكه. وقد تذرّع الشاه بسوء معاملة ابنته؛ إحدى زوجات الحاكم القراخان، وحشدَ جنوده عند أسوار المدينة وبدأ حصارا قاسيا استمرّ ثلاثة أيّام.
    كانت هذه أقدم ذكريات الرومي المدوّنة، وقد استعاد الأحداث بعد سنوات في حديث مع طلّابه، متأمّلا تلك المحنة ومفسّرا المشهد بأثر رجعي: كنّا في سمرقند، وكان شاه خوارزم قد حاصر المدينة بجنوده في صفوف. في ذلك الحيّ، كانت هناك سيّدة فائقة الجمال، لا مثيل لها في المدينة كلّها. ظللتُ أسمعها وهي تقول: يا إلهي! كيف تركتني أقع في أيدي هؤلاء الطغاة؟ أعلم أنك لن تسمح بمثل هذا أبدا، أثق بك".
    ونهب جند الشاه المدينة وأسروا الجميع، بمن فيهم جواري تلك السيّدة، لكن لم يصبها شيء. ورغم جمالها الفاتن، لم ينظر إليها أحد. لذا، يقول جلال الدين "يجب أن تعلم أن من يتوكّل على الله سينجو من كلّ مكروه".
    كان الانطباع الذي تركَته سمرقند في شعر جلال الدين الرومي دافئا وحنونا: إجمع شظايا عقلك بالحبّ حتى تصبح حلوا كسمرقند ودمشق". وكثيرا ما كان يتحدّث عن وطنه بأكمله باسم "خوارزم"، بما في ذلك سمرقند التي أصبحت الآن جزءا من خوارزم. كما علّق أكثر من مرّة على جمال أهلها: هناك الكثير من الجمال في خوارزم الذي بمجرّد أن تراه ستُفتن به".
    كان الشابّ جلال الدين يسمع قصص الأنبياء من القرآن والتي ستشكّل المادّة الخام لصلواته وأحاديثه، وبالتأكيد شعره. وكان من بين أصحاب القصص المفضّلين لديه إبراهيم الذي نجا من فرن نمرود الناريّ دون أن يحترق، ونوح الذي مات ابنه المضطرب في الطوفان، ويوسف الذي قطعت بعض نساء مصر الجميلات أيديهنّ بسكاكين العشاء وهنّ يحدّقن في جماله بذهول.
    كما أُعجب بقصّة موسى الذي تحوّلت عصاه إلى ثعبان ابتلعَ عصيّ السحرة، ومريم التي وضعت رضيعها تحت شجرة نخيل أسقطت عليها رطبها الناضج، والطفل يسوع الموهوب بالكلام في مهده والقادر على إعطاء الحياة للطيور بأنفاسه، وسليمان بخاتمه السحري. وفيما بعد، تخيّل جلال الدين القرآن الكريم كقماش ديباج فاخر.
    في حوالي عام 1216، عندما كان جلال الدين الرومي في التاسعة أو العاشرة من عمره، انطلقت قافلة الجمال التابعة لوالده مرّة أخرى، هذه المرّة باتجاه مكّة. وكان عليهم اجتياز العديد من المدن والأنهار والصحاري، قبل أن يبلغوا مسقط رأس النبيّ محمّد عليه السلام ومدينة الإسلام المقدّسة.

    الجمعة، مارس 28، 2025

    حياة أخرى


    تنقل الكاتبة الصينية "سان ماو" عن بوذا قوله: يجب على شخصين أن يعيشا مائة حياة ليلتقيا في نفس القارب، وعليهما أن يعيشا ألف حياة لينتهي بهما الأمر إلى أن يصبحا زوجا وزوجة".
    كتاب سان ماو "حكايات من الصحراء" يشبّهه بعض النقّاد بكتاب" ألف ليلة وليلة" بسبب تأثيره على آلاف القرّاء في أماكن كثيرة من العالم. وهو عبارة عن مجموعة من الانطباعات الشخصية لامرأة صينية تتناول فيها قصّة زواجها من رجل إسباني ومغامراتهما في الصحراء الكبرى أو ما كان يُعرف في السبعينات بالصحراء الإسبانية.
    تقول الكاتبة في مستهلّ الكتاب أنها قرأت ذات يوم في أوائل سبعينات القرن الماضي مقالاً مصوّرا عن الصحراء الكبرى، وأدركت أنها يجب أن تذهب إلى هناك. وكتبت: لم أستطع أن أفهم الشعور بالحنين الذي أحسست به والذي لا يمكن تفسيره تجاه تلك الأرض الشاسعة وغير المألوفة. بدت لي كصدى من حياة سابقة".
    وفي عام 1973، في سنّ الثلاثين، سافرت سان ماو بالفعل لتحطّ الرحال أخيرا في "العيون" عاصمة الصحراء التي طالما حلمت بها. وبعد وقت قصير، التقت شخصا اسبانيّاً يُدعى خوسيه. وعندما اكتشف خوسيه، الذي سيصبح زوجها المستقبلي، أن سان ماو أحضرت معها رزمة من المال هديّة من والدها، رمقها بنظرة طويلة ثم قال لها: لقد أردتِ أن تأتي إلى الصحراء لأنك رومانسية عنيدة، ولكنك سوف تملّين منها قريباً". ثم عرض عليها حلّاً وسطا: بمجرّد أن تري كل ما تريدين رؤيته وتنتهي من رحلتك هنا سنعود معا إلى إسبانيا".
    كان خوسيه يعرف أن الصحراء هي حلم سان ماو وهوسها الكبير. لذا وافقت على وضع المال في البنك والعيش فقط على ما يمكن أن يجلبه خوسيه. ففي النهاية هي ليست هنا فقط لتنظر وتشاهد، بل أيضا لتعيش.
    القصص التي ترويها سان ماو في كتابها تشكّل تضاريس نفسية لرحلة داخلية: الجدل مع الجيران، بيع الأسماك في الشوارع، الهروب من أيدي عصابة، المعاناة من حجر ملعون، مطاردة أجسام طائرة مجهولة. شهادة ثنائية لا تنفصل بين الحبّ والقسوة، بين المرأة والصحراء.

    ❉ ❉ ❉

    بعض الناس ينكرون أن لنا -كبشر- جانبا وحشيّا أو فطريّا، ويفضّلون بدلاً من ذلك نعمة الوظيفة والراحة. إذن، ما الذي يدفع الانسان الى هذه الرغبة في التجوال ورفض الاستقرار في مكان واحد كما فعلت سان ماو؟ قدماء البدو الصينيين كانوا يترحّلون بحثا عن شيء ما، الانسجام والتسامي ربّما. ومع ذلك تصف سان ماو شغفها بالترحال، لا كمحاولة للعثور على شيء ما، بل "للعودة إلى الوطن".
    يقول الفيلسوف الصيني تشوانغ تشو واصفا القلق: إنه طائر يمتدّ جناحاه إلى مسافات مستحيلة، ينظر إلى السماء الزرقاء اللانهائية، ويتساءل ما إذا كانت النهاية موجودة حقاًّ. الوحشية او الفطرية هي رفض للحدود ورفض للنهايات". في هذه الحياة لا يوجد شيء اسمه فرح خالص، ولكن لا يوجد أيضا الكثير من الحزن. والحياة التي لا تتغيّر تشبه خيوط المغزل، حيث تُنسج الأيّام والسنوات سطرا تلو آخر في نمط رتيب إلى الأبد.

    ❉ ❉ ❉

    تجارب سان ماو ملهمة ومحزنة في الوقت نفسه. فقد تقبّلها المجتمع الصحراوي في العيون، أحيانا بحماس وأحيانا بعدم ثقة. لقد فتنتها الصحراء باتساعها وقسوتها وعنادها. وهي تصف لحظات العزلة والوحدة، وكذلك لحظات الحبّ والحنان مع زوجها وأصدقائها الإسبان المغتربين وجيرانهم الصحراويين. ونثرُها في الكتاب وصفيّ للغاية، وغالبا ما يكون حزينا، مع إشارات عن الأساطير والأشباح.
    تكتب: أحبّ الوحدة بالقدر المناسب. إنها اللحظات الأكثر تحرّرا للروح، ودائما ما أجد صعوبة في الاستمتاع بها مع الآخرين. في الحقيقة من الصعب مشاركة مثل هذا الكنز الشخصي مع أحد. إن الاستمتاع بليالٍ صافية وهادئة يجب أن يكون أمرا شخصيّا، على عكس تناول الطعام الذي يكون أكثر إمتاعا عند مشاركته مع الآخرين."
    وتضيف: عندما نستيقظ في الصباح نكون مثقلين بعبء كلّ ما ينتظرنا خلال النهار. إن معرفة أننا يجب أن نواجه يوما مجهولاً يجعلنا نشعر بالتوتّر والحذر. الغروب مختلف، فهو مقدّمة لليلة دافئة، لحظة تحرّرية ومريحة تعلّمنا الاستمتاع بأجمل ما في الحياة."
    وسان ماو تجد الجمال في كلّ شيء تقريبا: في قطع الخشب الطافي وأشجار البونساي الثمينة وفي الصحراء المضاءة بنور القمر ليلا. وفي غياب الزهور، تأخذ غصن كزبرة من المطبخ وتثبّته على قبّعتها، وتنطلق وزوجها عبر الكثبان الرملية.


    كان خوسيه مثلها عرضة للأهواء، وكانت أهواؤه أحيانا أكثر خطورة. ذات يوم أحضر لها هديّة. تقول: مزّقت المغلّف بحماس وفتحت العلبة. وفوجئت بجمجمة تحدّق فيّ. كانت جمجمة جمل، عظامها بيضاء متناسقة مع صفّ ضخم من الأسنان المرعبة وثقبين أسودين كبيرين مكان العينين. وغمرتني السعادة. وضعت الجمجمة على رفّ الكتب وأنا أتنهّد فرحا وإعجابا".
    وفي أحد أجزاء الكتاب تتساءل: ما الذي يجذبني إلى هذا المكان؟! اتّساع الأرض والسماء أم حرارة الشمس أم هبوب العواصف؟ هناك فرح ما في هذه الحياة المنعزلة وحزن في آنٍ واحد، لدرجة أنني أحبّ هؤلاء الجهلة وأكرههم بنفس الوقت، وهذا أمر مربك للغاية".
    وتضيف: لقد وجدت الصحراء ساحرة جدّا، لكنها لم تعِرني أيّ اهتمام، وهذا ما ينبغي أن يكون. كلّ يوم مع غروب الشمس كنت أجلس على سطح البيت حتى تظلم السماء تماما فأشعر بوحدة هائلة في أعماق قلبي".
    القصص القصيرة التي ترويها سان ماو في الكتاب تضع الحياة المنزلية والدنيوية على خلفية الصحراء الكبرى القاسية والخارقة للطبيعة. وبصفتها راوية وبطلة، تعمل بجدّ في المطبخ وتهتمّ بغسيل الملابس والأعمال المنزلية وتتنافس للحصول على رخصة سياقة.
    وتتعامل الكاتبة مع الحوادث والعقبات على نحو هادئ، وتنظر الى الوحدة السائدة في الصحراء باعتبارها قوّة يجب أخذها في الحسبان بدلاً من التنازل عنها. ومع ذلك، هناك ومضات غريبة وتوقّعات مذهلة في بعض فصول الكتاب؛ لحظات تشير إلى حزن أعظم.
    ورغم حبّها للثقافة المحلية، إلا أنها تشتكي بعبارات صريحة من بعض العادات المحلية وتستنكر ما تعتبره جهلا وقمعا في المجتمع الصحراوي، من قبيل الزواج القسري للفتيات في سنّ البلوغ أو ما قبله.

    ❉ ❉ ❉

    بالنسبة لجيل القرّاء الصينيين الذين خرجوا للتوّ من الثورة الثقافية ولديهم شغف جامح بالتجوال والهروب من الأعراف الاجتماعية الصارمة، كان لكتاب سان ماو أثر عميق. وفي تايوان، صنعت المؤلّفة لنفسها اسماً ككاتبة تتمتّع بصراحة ملحوظة وبفهم بارع للسرد، إلى جانب شخصية أكبر من الحياة. كانت تُعرف باسم المرأة المتجوّلة في الصحراء، القادرة على سحر الغرباء أو التفوّق عليهم في كلّ منعطف.
    والكاتبة تقدّم نموذجا مختلفا تماما من المرأة الصينية والصور النمطية الشائعة عنها في ذلك الوقت. فهي بلا شكّ روح حرّة تتبع مسارها الخاص، سواءً كان في الحبّ أو السفر أو أسلوب العيش. وقد ألهمت جيلًا كاملاً من النساء الصينيات، اللاتي نشأن في ظلّ حالة من عدم اليقين السياسي والمعايير المحافظة.
    أحد النقّاد يصفها بقوله: كانت سان ماو امرأة متحرّرة خالفت كلّ القواعد وفعلت ذلك بابتسامة مرحة ومشاكسة. وعند قراءة قصصها كان أكثر ما أغراني هو الجمع بين صوتها وروحها التي لا تُقهر، وهي الروح التي تمكّنت من التوفيق بين حلمها بأن تكون أوّل مستكشفة أنثى تعبر الصحراء الكبرى وواقع المشقّة المؤلمة لعيشها في أرض قاحلة."
    وسان ماو تكتب بأسلوب يلامس جوهر الموضوع. لا تهدر الكلمات في تفاصيل غير ضرورية أو أوصاف مضخّمة، وتسرد الأحداث بإيجاز دون أن تؤثّر على فهم القارئ لما حدث. ورغم أن نثرها وشخصيّتها العامّة عرضة للانتقاد، فإن جاذبيتها أثبتت أنها دائمة. فقد عاش قراؤها في الصين في سبعينات وثمانينات القرن الماضي من خلال حكاياتها خلال حقبة سياسية لم يكن بوسع سوى قلّة من الناس السفر إلى أماكن بعيدة وواسعة.
    كانت تمثّل قيم "الحرّية والفضول والإيمان باللطف الإنساني" بالنسبة لمعاصريها. وكانت الكتابة بمثابة البلسم لوحدتها ووسيلة لنقش المنطق والنظام على واقع مربك ومهين للإنسانية في بعض الأحيان.

    ❉ ❉ ❉

    كانت سان ماو في الـ 31 من عمرها عندما قرّرت الانتقال إلى الصحراء وتبنّت اسمها المستعار الذي أصبحت تُعرف به كواحدة من أكثر الشخصيات أهمية في الأدب الصيني الحديث. ومما يُحسب لها أنها رغم استمتاعها بالاختلاف و"الآخر" في الصحراء، إلا أنها لم تغفل عن الفقر والقمع الاستعماري وعاصفة الاستقلال التي توشك أن تهبّ بقوّة.
    تصف الكاتبة الأيّام الأخيرة لها ولزوجها في الصحراء بقولها: كان الجميع يتحدّثون عن الوضع السياسي بوعي أو من غير وعي. وعلى الطريق رأينا الكثير من القوافل العسكرية تتجه نحو المدينة. وكانت المباني الحكومية محاطة بالأسلاك الشائكة، بينما كان حشد من الناس يصطفّون بصبر أمام مكتب صغير للخطوط الجويّة. وفجأة أحدثت مجموعة من الصحفيين الذين لا أعرفهم ضجيجا باندفاعهم إلى الأمام مثل حفنة من المشاغبين. وألقى الضجيج المتوتّر بظلاله المشؤومة على هذه المدينة التي كانت مسالمة ذات يوم. وكانت هناك نذر عاصفة تلوح في الأفق".
    وتضيف: عندما أعلن الإسبان رحيلهم عن الصحراء رسميا، احتفل الصحراويون باقتراب أملهم في تقرير المصير. لكن المغرب سرعان ما أعلن نيّته ضمّ الصحراء الغربية وزحَف نحو العيون بجيش قوامه مليونا جندي".
    وبينما كانت سان ماو تراقب المقاتلين الصحراويين أزواج صديقاتها وهم يندفعون نحو حتفهم دفاعا عن حلم الاستقلال، اقتبست بضعة أسطر من كتاب صيني كلاسيكي تقول: المحبطون يهربون إلى أديرة رهبانهم، والمخدوعون يموتون بتعاسة كالطيور التي تلجأ إلى الغابة، تاركين الأرض خرابا".
    وفي نهاية فترة وجودها هناك، وبينما كانت تشاهد الوضع يتدهور ويتحوّل إلى سفك دماء، كتبت: لا مكان في العالم يضاهي الصحراء. هذه الأرض لا تُظهِر عظمتها وحنانها إلا لمن يُحبّها".
    وعندما ساءت الأمور أكثر، اضطرّت سان ماو وخوسيه للهرب إلى جزر الكناري التي تبعد حوالي ساعة بالطائرة عن البرّ الرئيسي الأفريقي. واستقرّا هناك لبعض الوقت. لكن حياتهما الهادئة على الجزيرة لم تستمرّ سوى بضع سنوات. فقد توفّي خوسيه في حادث غرق غريب في عام 1979، وعادت سان ماو في نهاية المطاف إلى بلدها تايوان وانهمكت في عملها بالتدريس الجامعي والترجمة من الإسبانية إلى الصينية.
    لم يكن يدور بخلد سان ماو أن القدر يخبّئ لها أكثر من مفاجأة غير سارّة، وأن خوسيه الذي كان زوجا محبّا ومنبهرا بمواهبها سيغرق في البحر وأنها ستعيش بعده 12 عاماً أخرى في وطنها، تكتب وتحاضر، وأنها هي أيضاً ستغرق، ليس في البحر، بل في الهواء البارد المعقّم في جناح مستشفى.
    ففي عام 1991 انتحرت الكاتبة في مستشفى في تايوان عن عمر يناهز 41 عاما فقط. وقيل ان السبب الذي دفعها لإنهاء حياتها شنقاً قد يكون الاكتئاب الناجم عن وفاة زوجها أو إصابتها بالسرطان في ذلك الوقت.
    والغريب أن وفاة الزوج قبل ذلك كانت سبباً في ميلاد أسطورة سان ماو وخوسيه. إذ أصبح قبر الزوج في جزر الكناري والمزيّن دائما بالأزهار النضرة مزارا لقرّاء سان ماو والمعجبين بقصّتهما.
    في اللغة الصينية، الكلمة الأكثر شيوعاً للموت هي "مغادرة هذا العالم". وفي تايوان، يستخدمون للموت مصطلحا بوذيّا يعني "نحو حياة أخرى". ومن الغريب والمؤلم أن سان ماو التي كانت تؤمن بالاختلافات الثقافية كانت امرأة مختلفة حتى في موتها.
    وكتابها "حكايات من الصحراء" قصّة حميمية عن امرأة استثنائية وفترة مهمّة من تاريخ منطقة أثارت اهتمام العالم عديدا من السنوات. والكتاب مهم لمن يريد التعرّف على جزء من تاريخ وثقافة الصحراء الكبرى من خلال عيون كاتبة صينية استطاعت أن تكون جزءا من المكان بطريقتها الخاصّة.

    Credits
    chinachannel.lareviewofbooks.org

    الاثنين، مارس 03، 2025

    زيارة إلى ماكوندو


    من الناحية الثقافية والجغرافية، تبدو مدينة قرطاجنّة الكولومبية أشبه بهافانا أو سان خوان أكثر من كونها مدينة أمريكية أنديزية. في عهد الإمبراطورية، كانت المدينة نقطة انطلاق رئيسية للكنوز الذهبية التي كانت تُشحن إلى إسبانيا. واليوم، يحدّ البحر الكاريبي الطريق الرئيسي، وتقع المنطقة السياحية على شريط ضيّق طويل يكتسي باللون الأزرق.
    وفي الليل، يرى المرء أناسا من جميع الأعمار، يعزفون موسيقى السالسا أو يتابعون إيقاع الفرق اللاتينية التي تضفي حيوية على المقاهي. وكما هي الحال في معظم أنحاء منطقة الكاريبي الأخرى، فإن حرف السين الأخير في أيّ كلمة يكاد يختفي من اللغة المنطوقة.
    بدأ غابرييل غارسيا ماركيز حياته المهنية في قرطاجنّة. في عام 1948، درس القانون ثم تولّى وظيفته الأولى كمراسل لجريدة "إل يونيفرسال"، وهي صحيفة يومية محلية تتخذ مقرّا لها في مبنى أبيض اللون ومتهالك إلى حدّ ما في وسط المدينة القديم والساحر. وعلى الرغم من أن ماركيز عاش هنا لمدّة عامين فقط، إلا أن قرطاجنّة ظلّت معه دائما واستخدمها بعد عقود كنموذج للمدينة في رواية "خريف البطريرك."
    وفي كثير من الأحيان، يقف البطريرك "في الرواية" على شرفته المطلّة على البحر، حيث يستطيع أن يستنشق "رائحة المحار الفاسد"، ويتطلّع الى قلعة الميناء و"البيت المرتفع الذي يشبه سفينة ركّاب عابرة للمحيطات"، وهو وصف دقيق لدير "لا بوبا" في قرطاجنّة الذي سُمّي بهذا الاسم لأنه يشبه مؤخّرة سفينة كبيرة. وكما هو الحال في رواية غارسيا ماركيز هذه، فإن الحياة في شوارع هذه المدينة الساحلية عادية ومكثّفة في الوقت نفسه.
    في قرطاجنّة رأيت صيدلية ومبنى سكنيّا يحملان اسم "ماكوندو"، على اسم القرية المذكورة في رواية "مائة عام من العزلة". وفي بارانكويلا لاحظت متجرا يحمل نفس الاسم. وغارسيا ماركيز له حضور في مختلف أنحاء كولومبيا. وكثيرا ما تذكره الصحافة والناس العاديون باسمه المحبّب "غابو".
    خلال النصف الأوّل من الرحلة التي استغرقت ساعتين، كان البحر الكاريبي على يسارنا، ثم مررنا بمستوطنات ساحلية صغيرة من النوع الذي صوّره ماركيز في قصص مثل "بحر الزمن الضائع". وسرعان ما مررنا على المستنقعات والجبال التي عبرها أفراد عائلة "بوينديا" في بحثهم عن أرض الميعاد. وعلى صدع طويل، كان المحيط على يسارنا، ومستنقع واسع على يميننا. وتذكّرت تعجّب خوسيه بوينديا في الرواية: "يا إلهي! ماكوندو محاطة بالماء من جميع الجهات!".
    وعندما توقّفنا في بلدة سييناغا، أشار لي البائع ذو البشرة البرونزية إلى النصب التذكاري المهيب لعمّال شركة "يونايتد فروت" الذين قُتِلوا: هناك، في الساحة الرئيسية، يوجد تمثال بنّي ضخم يبلغ ارتفاعه خمسين قدما على الأقل لرجل أسود ضخم يلوّح بمنجل في يده اليمنى".
    تُعرف شعوب منطقة البحر الكاريبي في كولومبيا باسم "الساحليين". وغارسيا ماركيز ينتمي إلى هذه الفئة، وقد نجح بشكل رائع في منح هؤلاء القاطنين في منطقة الكاريبي صورة أدبية ومكانة في الثقافة العالمية، تماماً كما فعل فوكنر مع الجنوب الأمريكي العميق. والأجانب يميلون إلى التفكير في كولومبيا باعتبارها منطقة أنديزية وهندية، ولكن هذه الصورة غير مكتملة. فالساحليون يرون أنفسهم مختلفين عرقياً وثقافياً ومزاجياً عن شعب بوغوتا، الذي يطلقون عليه اسم "الكاتشاكوس" أو "سكّان المرتفعات".
    قال ماركيز ذات مرّة: أشعر براحة أكبر في منطقة الكاريبي اللاتينية، في كولومبيا الساحلية وليس في المرتفعات. المرتفعات ظلّت جزءاً من ثقافة استعمارية إسبانية، مهيبة ورمادية وباردة للغاية، ولطالما شعرت أنها بلد آخر. هذان عالمان متعارضان، المرتفعات حيث يعيش الناس في صمت وانطواء، ومنطقة الكاريبي حيث الوفرة الحسّية والضوء والحرارة والأحاديث السريعة. في هذه المنطقة، يُنظَر إلى الحقيقة باعتبارها وهماً آخر، مجرّد نسخة أخرى من وجهات نظر متعدّدة ومحتملة، ويغيّر الناس واقعهم بتغيير تصوّرهم لها".


    وقال ماركيز واصفا "الوضع النفسي الكاريبي": الناس هنا يشعرون بوجود ظواهر أو كائنات أخرى، حتى لو لم تكن موجودة. ولابدّ أن تكون هذه الكائنات متأثّرة بالأديان القديمة وبالهنود والسود. إن هذا العالم مليء بالأرواح التي تجدها في كلّ مكان، في بورتوريكو وفي كوبا وفي البرازيل وفي سانتو دومينغو وفي فيرا كروز".
    وصلنا إلى أراكاتاكا، مسقط رأس ماركيز، والتي يبلغ عدد سكانها 17 ألف نسمة. تبدو البلدة أصغر كثيرا، ولكن بعد نزهة قصيرة نكتشف أنها ممتدّة. لا توجد طرق معبّدة، والهواء الكثيف مليء بالغبار، ومن بين تلك الطرق الترابية شارع الأتراك. والعديد من المساكن عبارة عن أكواخ خشبية تصطفّ جنبا إلى جنب مع منازل خرسانية. ويسود هدوء استوائي غريب، ومعظم السيّارات متوقّفة في صمت، والنسائم الساحلية لا تجلب الراحة.
    ومع حرارة الظهيرة، يستخدم العديد من سكّان البلدة المظلات أو يتردّدون على المقاهي. ودار السينما المفتوحة التي صوّرها غابو في فيلم "ساعة الشرّ" تحوّلت الآن إلى شركة تأمين. الخنازير الصغيرة تمرح والصبية الصغار يلعبون كرة القدم على طول المسارات المؤدّية إلى محطّة السكّة الحديدية المهجورة.
    ولا يزال مكتب التلغراف الذي عمل فيه والد غابو يعمل في ساحة البلدة، كما توجد هناك الكنيسة المصفرّة، حيث دارت بعض المشاهد الأكثر إثارة في حياة ماركيز. وبينهما الطريق المؤدّي إلى المقبرة، الذي سارت عليه الأمّ الشجاعة في قصّة ماركيز "قيلولة الثلاثاء".
    أثناء زيارتي لمبنى البلدية، قال لي العمدة الحالي الذي عرف غابو شخصيا أنه كان طويلاً عريض المنكبين، يرتدي نظارة شمسية ويركب دراجات نارية. كما ذكر لي بعض الأمثلة على الشهرة العالمية المفاجئة التي اكتسبتها أراكاتاكا. فقد زارت فرق التلفزيون الفرنسية المدينة مرّتين لتصوير لقطات. كما كانت تأتي من حين لآخر حافلات سياحية مليئة بالأوروبيين أو الأميركيين، يخرجون ويلتقطون الصور ثم يغادرون، لأنهم نادراً ما يعرفون الإسبانية".
    ذهبت في نزهة مع العمدة وسألته عمّا إذا كانت أراكاتاكا قد اعترفت بابنها الأصلي فقال: توجد في المدرسة الثانوية غرفة أدبية تحمل اسمه، ولكن هناك بعض الاستياء منه. فمنذ أن أصبح مشهوراً عاد مرّة واحدة فقط، وكانت لحضور مهرجان موسيقي. كنت أعتقد أن الحكومة ستعترف بنا، على الأقل من خلال رصف بضعة طرق".
    وقدّم لي العمدة أحد كبار السن، وهو شخص متذمّر عمل ذات يوم كحارس في شركة "يونايتد فروت". وتذكّر قائلاً: كانت تلك أوقاتاً طيّبة، كان لدينا الكثير من المال في ذلك الوقت. كما عمل العديد من إخوتي في الشركة. هل تتذكّرون تلك المقاطع من الرواية التي تصوّر أشخاصاً يرقصون وهم يحملون أوراق البيزو المحترقة في أيديهم؟ حسناً، هكذا كان الحال".
    ولمّا سألت الرجل عن شعوره تجاه المضربين بدا عليه نفاد الصبر، ثم قال: لقد تسبّب هؤلاء الناس في إحداث الفوضى في كلّ شيء. واسمحوا لي أن أخبركم بأن كلّ ما قيل عن مذابح العمّال غير حقيقي. لم يحدث ذلك قط. وأكثر ما سمعته على الإطلاق هو مقتل رجلين بالرصاص. انظروا، إذا كان هناك حقاً كلّ هؤلاء القتلى "الذين تحدّث عنهم ماركيز"، فأين ألقوا بجثثهم؟".
    كان ماركيز قد سُئل ذات مرّة عن مشاهد الاضراب والقتل المذكورة في "مائة عام من العزلة" وما إذا كان قد بالغ في تقدير أعداد القتلى فقال: هذا التسلسل يرتبط بشكل وثيق بوقائع إضراب شركة "يونايتد فروت" في عام 1928، والتي تعود إلى طفولتي، حيث وُلدت في ذلك العام. والمبالغة الوحيدة هي في عدد القتلى. لذا بدلاً من مئات القتلى، رفعت العدد إلى آلاف. ولكن من الغريب أن صحافيا كولومبياً أشار في أحد الأيّام إلى "الآلاف الذين ماتوا في إضراب عام 1928". وكما يقول بطريركنا: لا يهمّ إذا كان شيء ما غير صحيح، لأنه في النهاية سيكون صحيحاً"!

    Credits
    gale.com

    الخميس، نوفمبر 21، 2024

    أسفار ناصر خسرو


    يُعتبر "كتاب السفر"، أو "سفرنامة"، للشاعر والرحّالة والفيلسوف الفارسي ناصر خسرو (1004 - 1072) وثيقة تاريخية قيّمة عن العالم الإسلامي خلال العصور الوسطى. وفيه يسرد الكاتب تفاصيل رحلاته خلال القرن الحادي عشر الميلادي والتي دامت سبع سنوات وضمّنها مشاهداته وتجاربه وانطباعاته.
    والكتاب ليس مهمّا لمزاياه الأدبية فقط، بل أيضا لأهميّته التاريخية والثقافية. وما يميّزه عن كتب الرحلات الأخرى أن سرده يعكس نهجا فلسفيا وتأمّليا ويركّز على النموّ الشخصي للكاتب والدروس الأخلاقية التي استفادها من ترحاله.
    يقول ناصر خسرو في بداية الكتاب: في يوم اقتران كوكب المشتري والقمر، وهو اليوم الذي يقال إن الله يستجيب فيه لكلّ دعاء، اعتزلتُ في زاوية وصلّيت ركعتين، سائلاً الله أن يمنحني ثروة. وذات ليلة، رأيت في المنام شخصا يقول لي: إلى متى تستمرّ في شرب المُدامة التي تدمّر عقل الإنسان؟ لو بقيت واعيا لكان ذلك أفضل لك".
    فأجبته: لم يستطع الحكماء أن يأتوا بشيء آخر يخفّف من حزن هذا العالم". فأجابني: إن فقدان الحواسّ ليس راحة. ولا يمكن أن يسمّى حكيما من يقود الناس إلى الجنون، بل يجب على المرء أن يبحث عمّا يزيد العقل والبصيرة". فقلت: وأين أجد مثل هذا؟" قال: إبحث تجد". ثم أشار إلى جبل ولم يقل شيئا آخر.
    ولما استيقظت تذكّرت كلام الرجل وقلت لنفسي: لقد استيقظتَ من نوم الليلة الماضية، فمتى ستستيقظ من نوم الأربعين عاما؟". وفكّرت في أنني إن لم أغيّر من نفسي فلن أجد السعادة أبدا. وفي اليوم التالي تطهّرت من الرأس إلى القدمين، وذهبت إلى المسجد، وصلّيت إلى الله طلبا للمساعدة في إنجاز ما كان عليّ القيام به والامتناع عمّا نهى عنه. ثم عزمت على أن أذهب إلى مكّة لأداء فريضة الحج. وسدّدت ما عليّ من ديون وتركت سائر أمور الدنيا إلا ما كان منها ضروريّا".
    بدأ ناصر خسرو رحلته من ساحل بحر قزوين في إيران إلى شرق الأناضول في تركيا ثم إلى سوريا وفلسطين ولبنان. وقد زار القدس وعكّا وحيفا وطبريّا، ومن هناك ذهب إلى مصر والقاهرة، مقرّ الخلافة الفاطمية. ومن مصر واصل طريقه إلى الحجاز عبر شبه الجزيرة العربية حيث أدّى الحج مرّتين وتوقّف في الطائف وجدّة، ليعود بعد نحو سبع سنوات من الترحال إلى موطنه في بلخ.
    في هذا الكتاب استوقفني بشكل خاص حديث المؤلّف عن زيارته لمدينتي حلب وسرمين وعن لقائه بالشاعر أبي العلاء المعرّي. يقول: على بعد ستّة فراسخ من سرمين، تقع معرّة النعمان، وهي مدينة مكتظّة بالسكّان ولها سور حجري. وقد وجدت أسواقها مزدهرة، وبُني مسجد الجمعة فيها على تلّة بحيث يتعيّن على من يريد الصعود إليه أن يرقى ثلاث عشرة درجة. وتتكوّن زراعتها أساسا من القمح، كما يكثر التين والزيتون والفستق واللوز والعنب. وتأتي مياه المدينة من الأمطار والآبار.


    وكان في هذه المدينة رجل اسمه أبو العلاء. ورغم أنه أعمى، إلا أنه كان عمدة للمدينة وعلى جانب من الثراء. كما أن عنده العديد من العبيد والخدم، لكنه اختار حياة الزهد. وكان يلبس الثياب الخشنة ويلازم البيت ويقسم نصفا من خبز الشعير إلى تسعة أجزاء ويكتفي بقطعة واحدة منه طوال النهار والليل، ولا يأكل شيئاً غير ذلك.
    ويضيف: وسمعت أن باب داره يظلّ مفتوحاً دائماً، وأن وكلاءه يقومون بكلّ أعمال المدينة، إلا الإشراف العام الذي كان يتولّاه بنفسه. كان يصوم ويسهر الليل ولا يشارك في شئون الدنيا ولا يحرم أحدا من ثروته. وقد بلغ هذا الرجل من المكانة في الشعر والأدب ما جعل علماء الشام والمغرب والعراق يعترفون بأنه لا يوجد في هذا العصر من يضاهيه.
    ثم يذكر الرحّالة أن المعرّي ألّف كتاباً اسمه "الفصول والغايات" تحدّث فيه بأمثال غامضة. ويضيف: ورغم فصاحته وعجيبه، إلا أن هذا الكتاب لا يفهمه إلا القليلون ممّن قرأوه معه. ويجتمع حول الرجل دائماً أكثر من مائتي شخص من كلّ مكان لقراءة الأدب والشعر. وسمعت أنه نظَم أكثر من مائة ألف بيت من الشعر. وقد سأله أحدهم ذات مرّة لماذا، وقد أعطاه الله كلّ هذه الثروة، يوزّعها على الناس ولا يأخذ منها شيئا لنفسه. فقال: لا أملك شيئا أكثر ممّا آكله".
    ثم يتحدّث ناصر خسرو عن رحلته الى بلدة يقال لها زوزان وتقع الى الجنوب من هيرات، وعن لقائه فيها مع رجل يُدعى أبا منصور محمد بن دوست. فيقول: كان هذا الرجل يعرف شيئاً من الطبّ والفلك والمنطق. فقال لي: خارج الأفلاك والنجوم، ماذا يوجد؟" قلت: إن الأشياء التي داخل الأفلاك لها أسماء، ولكن ليس لها أيّ شيء خارجها." فسألني: فما تقول إذن؟ هل يوجد جوهر خارج الأفلاك أم لا؟"
    فقلت: لا بدّ أن يكون الكون محدوداً بالضرورة. وحَدُّه هو الكرة الأخيرة". فقال: لذلك فإن الجوهر الذي يجب أن يعتقد العقل أنه موجود إنما هو محدود وينتهي عند هذا الحدّ. فإذا كان محدوداً، فإلى أي حدّ يكون موجوداً؟! وإذا كان لانهائياً، فكيف يمكن أن يزول من الوجود؟!" ثم قال في نهاية حديثه: لقد عانيت من حيرة شديدة بسبب كلّ هذا"، فأجبته: ومن لم يعانِ من هذه الحيرة؟!".
    ويختم الرحّالة كتابه بهذه الكلمات المعبّرة: على الرغم من أن مشقّة وتعب العالم طويلان، فإن له نهاية ولا شك. إن الكواكب والنجوم تسافر ليلا ونهارا، وكلّ ما مضى يأتي بعده آخر. ونحن نسافر عبر ما يمكن تجاوزه حتى تأتي تلك الرحلة التي لا يمكن تجاوزها.
    ويضيف: كانت المسافة التي قطعناها من بلخ إلى مصر ومنها إلى مكّة ثم عبر البصرة إلى فارس ثم بلخ مرّة أخرى، عدا رحلات زيارة الأضرحة وغيرها، أكثر من ألفي فرسخ. وقد سجّلت مشاهداتي كما رأيتها. وإذا كان بعض ما سمعتُه من حكايات الآخرين لا يتفّق مع الحقيقة، فأرجو من قرّائي أن يسامحوني ولا يعاتبوني. والحمد لله ربّ العالمين".

    Credits
    dokumen.pub

    الخميس، سبتمبر 19، 2024

    بريدجمان: الرحلة الجزائرية


    تأثّر الفنّان الأمريكي فريدريك بريدجمان كثيرا بثقافات وطبيعة الجزائر التي زارها بشكل متكرّر في أواخر القرن التاسع عشر. وغالبا ما تعكس أعماله رؤية رومانسية لطبيعة شمال إفريقيا، بالتقاطها التفاعل الفريد بين الضوء والظلّ الذي يميّز المنطقة.
    وقد اتّسمت الفترة التي قضاها بريدجمان في الجزائر بتحوّلات تاريخية وثقافية كبيرة. إذ كانت البلاد واقعة تحت الحكم الفرنسي منذ عام 1830، مع ما نتج عن ذلك من تغييرات ديموغرافية واجتماعية وسياسية كبيرة. وقد سّافر الرسّام على نطاق واسع في الجزائر وتوفّرت له تجارب مباشرة أثّرت على فنّه. وغالبا ما تصوّر لوحاته الحياة المحلية والهندسة المعمارية والبيئة الطبيعية وما الى ذلك.
    كان وقت بريدجمان في الجزائر مزيجا من الاستكشاف الفنّي والتفاعل الثقافي وتأثيرات الاستعمار. وهو نفسه كان جزءا من الحركة الاستشراقية الأوسع، حيث صوّر الفنّانون الغربيون موضوعات ترتبط بثقافات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
    أعمال بريدجمان الجزائرية ساعدت في ترسيخ مكانته كشخصية بارزة في الفنّ الأمريكي وكمفسّر مهم لبيئات شمال أفريقيا في الفنّ الغربي. وبشكل عام، أثّرت تجربته في الجزائر على ممارسته الفنيّة وشكّلت حياته المهنية، ما سمح له بإنشاء أعمال ثريّة بصريّا وذات صدى ثقافي واضح.
    وقد ألّف بريدجمان كتابا لخّص فيه بعض جوانب تجربته في الجزائر وتناول بعض مشاهداته وانطباعاته أثناء زياراته لذلك البلد. هنا فقرات مترجمة من الكتاب..

    ❉ ❉ ❉

  • مهما كان شكل البيت العربي، لابدّ أن يتضمّن فناءً مربّعا، وفي بعض الأحيان يكون هناك نافورة في الوسط وأعمدة تحيط بالفناء وتدعم الأعمدة الأصغر، عمود واحد في كلّ زاوية وبينها درابزين مزخرف. الطابق العلوي على شكل أقواس حدوة الحصان، ويتكرّر نفس العدد من الأعمدة والأقواس لدعم السقف، ثم تُبنى الغرف بكلّ الأشكال التي يمكن تصوّرها لتناسب راحة المالك وتضمن الاستفادة القصوى من كلّ شبر من الأرض.
  • عندما استأجرنا غرفنا في الفندق، لفت انتباهنا مجموعة من العرب في ساحة الأسلحة الواسعة المفتوحة والمزروعة بالأشجار والتي تقع قبالة نوافذنا. وأمام محلّ الجِزارة العربي، بجوار مقهى، كان قد سُلخ أسدان قُتلا مؤخّرا في الجوار ونُظّف وقُشّر جلداهما اللذان كانا ما يزالان ساخنين. ومن المؤسف أن جثّتيهما قُطّعتا، وإلا لكانت فرصة نادرة لدراسة علم تشريحيهما. ومنذ الاحتلال الفرنسي للجزائر، اختفت الأسود وغيرها من الوحوش الشرسة تقريبا. ولا تزال المنطقة محاطة بالغابات والتلال حيث يمكن رؤية معظم الأسود وصيدها.
  • يشكّل بنو مْزَاب، أو المْزابيون، مجموعة إثنية منفصلة تقيم شمال الصحراء الكبرى بولاية غرداية. وهم أمازيغ من عشيرة زناتة ومسلمون على المذهب الإباضي. وتواجدهم في تلك المنطقة يعود إلى العصر الحجري. والمزابيون من صنّاع المال ويمارسون التجارة على نطاق واسع في جميع أنحاء المستعمرة. والعرب الآخرون ينفرون منهم بقدر ما ينفرون من اليهود بسبب ادّخارهم واجتهادهم. وهم يرتدون زيّا مختلفا، عبارة عن ثوب واحد يسمى القندورة، وهو مربّع الشكل بلا أكمام ويصل إلى الركبتين، مع فتحتين كبيرتين للذراعين وفتحة واحدة للرأس.
  • وطموح المزابي هو أن يصبح ثريّاً وأن يعود إلى موطنه الأصلي الذي يقع على بعد أكثر من مائة ميل ويمثّل في حد ذاته نهاية كلّ شيء. ويتطلّب الوصول اليه رحلة شاقّة تستغرق أربعة أو خمسة أيّام في الصحراء. والبلد الذي يتوق المزابي إلى الوصول إليه ويأمل أن ينهي أيّامه فيه هو واحد من أغرب المناطق على وجه الأرض. فهو أكثر بقاع الصحراء جفافاً واحتراقاً، وتحيط به واحة تشبه شبكة هائلة من الصخور وقشور الكهوف السوداء. ويبدو المكان بعيداً للغاية وطموح المزابيين غير مبرّر إلى الحدّ الذي يجعل المرء يتذكّر حكايات ألف ليلة وليلة.


  • عندما ذهبت لزيارة صديقنا بلقاسم وعائلته في بيتهم، كان المطر يتدفّق غزيرا في الفناء المفتوح لمسكنه. وكان أطفاله الخمسة يقفون على أقدامهم العارية مثل الدجاج المبلّل الحزين. وكانت أمّهم تحمل طفلا رضيعا بين ذراعيها. منازل الطبقات الدنيا من اليهود، مثل بلقاسم، متواضعة عموما. حتى الأرضيات والجدران المصنوعة من البلاط المزجّج، والتي يسهل غسلها، تختفي تماما تحت الأوساخ المتراكمة.
    والفوضى في غرف المعيشة لا يمكن وصفها. والتعويض عن هذا العنصر المثير للتعاطف هو استقبال الغرباء بأدب والسماح للفنّانين برسم اسكتشات في أيّ جزء من مساكنهم والتي تختلف قليلاً عن البيوت العربية. وقد جرت العادة أن تُترك الأبواب مفتوحة على مصاريعها وأن تعيش عدّة عائلات في غرف مختلفة تطلّ على الفناء.
  • رأينا جماعة من الناس يقومون بالعديد من حيل السحر التي تُسعد الناظرين، كالوقوف والاستلقاء على حدّ السيف وحمل الجمر المشتعل في أفواههم وحرق وجوههم وأذرعهم الى أن تنبعث منها رائحة اللحم. وأخيرا الحيلة "إن جاز أن نسمّيها حيلة"، وهي التهام أرنب حيّ بشعره ولحمه. ويشارك في هذه الوجبة الفاخرة عربيّان يعضّان الحيوان المسكين بشكل محموم مثل الذئاب ويمزّقانه بأسنانهما وأيديهما وفمهما وأصابعهما التي تفوح منها رائحة دماء الأرنب الساخنة، والذي لا يزال يحاول عبثاً الفرار من بين أيديهما.
  • كان العرب من ذوي الدخل المتوسّط الذين لم يكن بوسعهم شراء فيلات وحدائق كبيرة، يُسكنون زوجاتهم في غرف صغيرة في المدينة. وبسبب دوافع الغيرة أو العيب، لا يُسمح للنساء برؤية ضوء الشارع المفتوح. وبسبب افتقارهنّ إلى التمارين الرياضية، أصبحن بديناتٍ إلى الحدّ الذي جعلهنّ لا يستطعن التحرّك إلا بصعوبة بالغة. وتُعَد السمنة من مظاهر الجمال عند العرب. لكن بصرف النظر عن ذلك، فقد كانت النساء يعانين من عدد من الأمراض والأسقام الناجمة عن الحبس الضيّق.
  • أدرنا ظهورنا للمناظر الطبيعية الجبلية ودرجات الحرارة، وانغمسنا في النباتات الاستوائية. كانت أشجار اللوز والبرتقال والليمون تحيط بالفندق الذي استُقبلنا فيه لتناول الإفطار. لكن الإحساس الذي تغلّب حتى على جوعنا كان متعة تمديد أجسادنا التي أُنهكت لطول ما حُشرنا داخل عربة ضيّقة وعلى وسائد جلدية غير مريحة. ركضنا في ضوء الشمس الساطع ورأينا بحرا من أشجار النخيل التي تشكّل كتلة خضراء داكنة تسرّ العين، وقد أحاطت بالصحراء الصخرية التي تنوء تحت درجة حرارة لاهبة.
  • كانت الأيّام الأولى من شهر مايو تُنذر بدرجة حرارة الصيف المرهقة التي بدأت في إضعاف طاقاتنا واجتهادنا بعد ما عانيناه من ضيق وتعب خلال الشهرين الماضيين. ولكننا كنّا متردّدين في ترك الحياة الهادئة السهلة في الصحراء، متأثّرين بمثال العرب في التمتّع بالوجود ورعاية أنفسهم. فطوينا أدوات الرسم، وفي الساعة الثانية صباحا، وهو وقت تكون فيه الحرارة خانقة بالفعل، أدرنا ظهورنا للواحة النائمة وبدأنا في تسلّق الطريق الطويل إلى جانب الجبل بصعوبة.
  • أبدى فنّان مشهور وصاحب مقهى معروف بكونه ملاذا لمدخّني الحشيش اهتماما معيّنا باسكتشاتي، لكنه أكّد لي أن جهوده في الرسم كانت مصحوبة بصعوبات أكبر بكثير من تلك التي مررت بها، بينما لفت انتباهي إلى نتاجاته الأخيرة على الجدران البيضاء. كان كلّ شيء مرتّبا لإسعاد المدخّنين: حصائر جديدة وطاولات صغيرة عليها جرار زجاجية زرقاء كبيرة تحتوي على ماء وأسماك ذهبية، وأوانٍ ذات أشكال مختلفة مملوءة بالزهور والنباتات، وأعمدة محاطة بشرائط وورق ملوّن مقصوص بتصاميم خيالية.
  • في بداية شهر رمضان كانت الأمسيات تغري السكّان بالخروج من منازلهم وكانت المقاهي تكتظّ بالرجال الذين وضعوا برانيسهم جانباً أو تركوها في المنزل، والذين كانوا يدخّنون ويغنّون ويصفّقون للموسيقيين والراقصين. وكان الأخيرون من الصبية أو النساء الذين يؤدّون عروضاً في الجزء الخلفي من المقاهي المضاء بشكل غريب. وكان قد أُعيد تزيين هذه المنتجعات بلوحات بدائية للسفن والقاطرات والأسود والطيور للاحتفال الكبير بشهر رمضان الذي بدأ للتوّ.

  • Credits
    frederickarthurbridgman.org
    archive.org