:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات رسّامون. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات رسّامون. إظهار كافة الرسائل

الأحد، أبريل 07، 2024

شاعر الطبيعة


نتوق أحيانا إلى ما لا نستطيع بلوغه؛ إلى ما هو جميل ومثالي وبعيد المنال. في الشتاء، مثلا، قد تتطلّع الى أن تجد المتعة في مشهد خريفي ليس هذا أوانه. ومع ذلك ربّما لا يأتي الخريف بأكثر مما تمنحنا إيّاه هذه اللوحة "الى فوق"، والتي يصوّر فيها الرسّام الروسي إيساك ليڤيتان نهرا تصطفّ على جانبيه بعض الأشجار في أعماق الريف الروسي.
كان ليڤيتان (1860 - 1900) يُضفي على رسوماته للطبيعة أمزجة متنوّعة مع مسحة روحانية تصبح انعكاسا للظرف الانساني. وبعض صوره الأخيرة التي رسمها قبيل وفاته كانت تنبض بالضوء، مع غيوم داكنة في السماء. كما كانت مشبعة بالتجارب والمشاعر الإنسانية الذاتية من حزن وسلام ومرح وابتهاج وما إلى ذلك.
وكان أيضا يصوّر الكثير من المشاعر في اعماله متبنّيا نوعا من الواقعية القاسية الممزوجة بشيء من روح الشعر الواهب للحياة. ولهذا يصبح وجود البشر في المنظر غير ضروريّ بل وحتى زائدا عن الحاجة.
التنظيم الذهني الجيّد والشكّ والضعف والمزاج الكئيب الذي تعكسه بعض صوره يعكس قدرة ليڤيتان الرائعة على النفاذ الى عمق الطبيعة الروسية السرّية والناعمة ممّا لم يستطع فعله رسّام آخر قبله أو بعده.
ومناظر القرى الفقيرة مع طبيعتها القاسية، لكن الجميلة، التي نراها كثيرا في لوحاته سبق أن تغنّى بها شاعر روسي عاش في القرن التاسع عشر ويُدعى تيوتشيف، الذي كان أحد الشعراء المفضّلين لدى ليڤيتان. ومما يُنقل عن هذا الشاعر قوله: المكان الذي ولدت فيه كان اللون الغالب فيه هو الرمادي، ودروبه المتعرّجة تذكّر بعواء العواصف الثلجية".
أحد معاصري ليڤيتان كان الرسّام ليونيد باسترناك الذي يقول: في روسيا لا يوجد منظر طبيعيّ لا يستحقّ أن تسجّله فرشاة رسّام". وكان يصف مناطق شمال روسيا "بالشمال العظيم الكئيب". لكن ليڤيتان نفسه لم يكن يعتبر الطبيعة الروسية متجهّمة ولا فقيرة.
وقد سافر إلى خارج روسيا ثلاث مرّات، حيث رأى طبيعة أكثر حيوية في فرنسا وإيطاليا، وأكثر وقارا في جبال سويسرا. لكن تلك المناظر لم تحرّك مشاعره، بل ظلّ غير مبالٍ ومرهقا وملولا. وكتب رسالة حزينة يقول فيها: أستطيع أن أتخيّل جمال روسيا الآن بعد أن فاضت الأنهار وعادت الحياة الى مجراها. لا يوجد بلد أفضل من روسيا! فقط هناك يمكن أن يوجد منظر طبيعيّ حقيقيّ".


كان من عادة الفنّانين الرمزيين أن يرسموا حالة الطبيعة في المساء أو الليل. وكانوا يعتقدون أنه عند الغسق أو في ضوء القمر يبدو العالم غامضا وشبحيّا ومبهما. وبدوره اكتشف ليڤيتان أن في حبّه القويّ للطبيعة الروسية الصاخبة والمتواضعة في آن شيئا ما روحانيّا أو مقدّسا وأن فيها الكثير من الشعر المتسامي.
في بعض مناظره المسائية، تبدو الألوان صامتة والخطوط العريضة مهزوزة وغير واضحة في ضوء القمر الناعم. أما السماء فتظهر بلون أزرق وردي، مع سحابة مزرقّة تحجب جزءا من ضوء القمر وضبابٍ خفيف منتشر على الأرض ومجسَّد بطريقة رائعة وبارعة.
في عام 1887، ذهب إيساك ليڤيتان إلى منطقة نهر الفولغا. رحلته الأولى الى هناك لم تُثر إعجابه كثيرا. وقد كتب إلى صديقه الكاتب المسرحيّ أنطون تشيكوف يقول: رأيت شجيرات وجبالا شديدة الانحدار. كنت أتوقّع أن يثير مرأى نهر الفولغا في نفسي انطباعات فنّية قويّة، ولكن كلّ ما رأيته كان سماءً رمادية ورياحا قويّة".
وسرعان ما عاد الرسّام إلى موسكو ليرسم لوحته "المساء على نهر الفولغا". وبعد مرور عام، عاد إلى منطقة الفولغا مرّة أخرى، ولكن هذه المرّة مع فنّانة تُدعى صوفيا. واستقرّا في بلدة صغيرة ذات جمال خلاب على ضفّة النهر. وهناك رسم العديد من اللوحات مثل "الفناء المتهدّم" و "الخريف" و"البنفسج الليلي" وغيرها.
قضى ليڤيتان العام الأخير من حياته في منزل الكاتب أنطون تشيكوف في شبه جزيرة القرم. وتوفّي في أغسطس من عام 1900 وهو في سنّ الأربعين بعد أن عانى من مرض عضال.
كانت أعماله الأخيرة تمتلئ بالضوء بشكل متزايد وتعكس هدوء وجمال الطبيعة في قرى روسيا النائية. وقد عُرف الرسّام بحبّه الشديد لأزهار الليلك. ويقال إنه عندما توفّي تفتّحت أزهار الليلك مرّتين في ذلك العام، وبدا الأمر اشبه ما يكون بالأعجوبة.

Credits
russianartgallery.org

السبت، مارس 23، 2024

لوحات ضائعة


هناك العديد من اللوحات الفنّية التي فُقدت واختفت تماما لسبب أو لآخر، ما أدّى الى إثارة التكهّنات حول غيابها الغامض. وفقدان تلك اللوحات يمثّل فراغا كبيرا في السجّل التاريخي الفنّي وخسارة للتراث الثقافيّ للإنسانية.
وما تزال تُبذل جهود حثيثة من قبل مؤرّخي الفنّ وجامعيه والمؤسّسات الفنّية العالمية لتحديد أماكن هذه الروائع المفقودة واستعادتها بسبب أهميّتها، ولأن إعادة اكتشافها لن يؤدّي فقط إلى إثراء فهمنا لتاريخ الفنّ بل سيعيد أيضا هذه الأعمال التي لا تُقدّر بثمن إلى دائرة الاهتمام والتقدير العام.
  • ومن بين اهمّ تلك اللوحات الضائعة معركة أنغياري The Battle of Anghiari لليوناردو دا فينشي. وقد رسم الفنّان هذه الجدارية لتزيّن قصر فيكيو في فلورنسا بإيطاليا. وانتظر الناس انجاز اللوحة بفارغ الصبر ليحظوا برؤية تقنيات ليوناردو المبتكرة فيها، مثل استخدامه للضوء وتركيزه على التقاط الحركة الديناميكية وغير ذلك.
    لكن لسوء الحظّ لم تكتمل الجدارية أبدا وما يزال المكان الذي كان مقرّرا ان توضع فيه في القصر الإيطالي فارغا. وبعض مؤرّخي الفنّ يعتقدون بأنها قد تكون مخبّأة تحت أكداس من اللوحات الأخرى في احدى قاعات القصر الواسعة.
  • وهناك أيضا لوحة الحفلة الموسيقية The Concert لفيرمير. وقد رسم الفنّان الهولنديّ هذه التحفة في حوالي منتصف القرن السابع عشر، وتُصوّر مجموعة من الموسيقيين في غرفة أو صالة في بيت.
    وقد سُرقت اللوحة عام 1990 من متحف إيزابيلا ستيوارت غاردنر في بوسطن بالولايات المتحدة، بالإضافة إلى عديد من الأعمال الفنّية الأخرى القيّمة من بينها لوحة رمبراندت المشهورة عاصفة على بحر الجليل The Storm on the Sea of Galilee. وعلى الرغم من التحقيقات التي جرت والمكافآت التي بُذلت لاستعادتها، إلا أن هذه اللوحات ما تزال مفقودة ومكان وجودها ما يزال لغزا الى اليوم.

  • وهناك أيضا لوحة أزهار الخشخاش Poppy Flowers لفنسنت فان جوخ التي سُرقت من متحف محمّد محمود خليل في القاهرة بمصر عام 2010. ولم تُستردّ هذه اللوحة أبدا. وتُقدّر قيمتها بملايين الدولارات ويُعتقد أن سرقتها كانت جزءا من عملية أوسع استهدفت عددا أكبر من الأعمال الفنّية.
  • وهناك أيضا بورتريه أديل بلوك باور Portrait of Adele Bloch-Bauer لغوستاف كليمت. رسم الفنّان النمساوي هذه اللوحة الأيقونية عام 1907 واكتسبت شهرة عالمية بسبب أنماط أوراق الذهب المعقّدة والألوان الغامضة فيها. وخلال الحرب العالمية الثانية صادر النازيّون اللوحة وأصبحت موضوعا لمعركة استرداد طويلة. وفي النهاية أعيدت إلى ورثة المرأة ثم بيعت إلى أحد هواة جمع التحف الفنّية عام 2006.
  • أيضا هناك لوحة حمامة مع بازلاء خضراء Le Pigeon aux Petits Pois لبابلو بيكاسو. وقد رسم بيكاسو هذه التحفة الفنّية التكعيبية عام 1911. لكن في عام 2010 سُرقت اللوحة ليلا مع لوحات أخرى من متحف الفنّ الحديث في باريس على يد لصّ ملثّم تسلّل الى المتحف بعد أن أزال الزجاج من النافذة، بينما كان جهاز استشعار الحركة والإنذار معطّلين. ولم تُكتشف السرقة إلا في صباح اليوم التالي. وقد تتبّعت الشرطة الجاني وتبيّن انه صاحب سجلّ إجرامي حافل.
    وزعم انه ألقى باللوحة وبأعمال أخرى لماتيس وليجيه ومودلياني في الزبالة. وحُكم عليه بالسجن ثمان سنوات، وأُمر هو وشركاؤه بدفع غرامة مالية قدرها 104 ملايين يورو. وعلى الرغم من التحقيقات المكثّفة، لم تستردّ لوحة بيكاسو حتى اليوم.
  • وأخيرا بورتريه لشابّ Portrait of a Young Man لرافائيل. ويُعتقد أن هذا البورتريه هو صورة للفنّان الإيطالي نفسه. وقد اختفى منذ الحرب العالمية الثانية. وكان جزءا من مجموعة متحف تشارتوريسكي في كراكوف ببولندا. لكن نهبه النازيون أثناء الاحتلال ولا يزال مكان وجوده مجهولاً الى اليوم.
    في فيلم "رجال الآثار" من بطولة الممثّل جورج كلوني من عام 2014، تظهر اللوحة بشكل بارز في مخبأ كبير للأعمال الفنّية المسروقة والمخزّنة في كهف أو منجم مجهول وقد أشعلت فيها القوّات الألمانية النار.


  • Credits
    suite101.com

    الأربعاء، سبتمبر 09، 2020

    لوحات ناقصة

    في عام 1481، تلقّى ليوناردو دا فنشي تكليفا من بعض الرهبان بأن يرسم قصّة الحكماء الثلاثة الذين ذهبوا إلى بيت لحم لرؤية المسيح الطفل. وبعد أن اعدّ الرسّام بعض الدراسات بدأ رسم اللوحة. لكن عمله فيها توقّف عندما كُلّف برسم "العشاء الأخير"، فترك اللوحة الأولى ناقصة ولم يعد لإكمالها أبدا.
    والحقيقة أن فنّانين آخرين من عصور مختلفة مرّوا بنفس هذه التجربة، إذ يحدث أن يبدأ فنّان برسم لوحة معيّنة ثم يتخلّى عنها، إما لنقص المال، أو لانعدام الاهتمام أو الإلهام، أو لتدخّل الصدفة، أو لعدم القدرة على الذهاب إلى نقطة ابعد في الرسم، أو ببساطة لأن الرسّام توفّي فجأة.
    بعد الثورة الأمريكية، ذهب الآباء المؤسّسون لأمريكا إلى باريس لعقد مفاوضات سلام مع فرنسا واسبانيا وانغلترا. وكُلّف الرسّام بنجامين ويست بأن يرسم تلك اللحظة التاريخية.
    لكن الانغليز رفضوا الجلوس إلى الطاولة لرسمهم، وذلك لإحساسهم بالحرج بسبب هزيمتهم في الحرب. لذا رسم ويست المجتمعين وترك مكان الوفد الانغليزي على الطاولة فارغا لأنهم لم يكونوا هناك.
    ورسّام البورتريه الأمريكي المشهور غيلبيرت ستيوارت الذي رسم صورا لأكثر من ألف شخصية، ترك بورتريه جورج واشنطن ناقصا.
    وكان قد رسم للرئيس الأمريكي بورتريها ناجحا قبل ذلك. فكلّفته زوجة الرئيس برسم بورتريه ثانٍ له. لكن ستيوارت لم يستطع إكماله لسبب ما. ثم ظهر هذا البورتريه الناقص في ما بعد مطبوعا على ورقة نقدية من فئة الدولار.
    ورسّام عصر النهضة الايطالي بارميجيانينو كُلّف ذات مرّة برسم صورة للمادونا وابنها (الأولى فوق). وكان هذا الرسّام معروفا بإتقانه وبراعته. وظلّ يرسم اللوحة إلى أن مات فجأة عام 1540 دون أن يكملها.
    وقد قرّر راعيه أن يعلّق اللوحة في الكنيسة كما هي وأمر بأن تُكتب عليها عبارة تقول: القدر المحتوم منع الرسّام من إكمال هذه اللوحة".
    والرسّام الفرنسي بول سيزان ترك بعض أجزاء من لوحته "طريق العودة" ناقصة. وقيل إن اختياره لفرشاة غير مناسبة هو ما دعاه إلى ترك اللوحة عند تلك النقطة.
    وقال آخرون إن ضعف بصره لم يسعفه في ملاحظة النقص في الصورة. وعندما عرف لم يرغب في أن يتلفها عملا بقاعدة أن القليل يغني عن الكثير.
    بعض خبراء الفنّ يقولون إن عدم اكتمال بعض الأعمال الفنّية هو ما يعطيها قيمة وأهمية أحيانا. فهي مثيرة بسبب نقصها لأنها تكشف عن قصص لم يُقدّر لها أن تظهر. كما أنها تقدّم فكرة عن العملية الإبداعية للفنّان وعن السياق التاريخي للعمل، حتى عندما يكون النقص متعمدّا.
    المسوّدة الضخمة للوحة "الحكماء الثلاثة" التي تركها دا فنشي ناقصة تقدّم مثالا عن النقص عندما يصبح أداة ثمينة يوظّفها مؤرّخو الفنّ ومدراء المتاحف لسبر أغوار العمل الإبداعي.


    وبحسب بعض النقّاد فإن الصورة غير الكاملة تشبه الأشعّة التي تسمح لك برؤية ما وراء سطح اللوحة كالنُسخ المبكّرة والرسوم الأوّلية والمعمار المؤسّس للصورة.
    لكن هناك سؤالا يثار أحيانا وهو متى يُعتبر عمل فنّي ما منتهيا فعلا، وهل يحتاج لأن يبدو منتهيا كي يصبح كاملا وذا معنى؟
    معلّمو عصر النهضة مثل دوناتيللو وليوناردو وميكيل انجيلو وغيرهم تركوا لنا بعض أهمّ الأعمال الفنّية غير المنتهية. وليس مصادفة أن الأخيرين بالذات، وهما أعظم فنّاني ذلك العصر، تركا اكبر عدد من اللوحات غير المكتملة.
    الصور الناقصة لليوناردو ورفاقه شكّلت سابقة للفناّنين في القرن السادس عشر وما بعده. فقد أصبح من قبيل الموضة أن يترك فنّانون أعمالهم غير كاملة، لدرجة أنه ظهر مصطلح جماليّ جديد هو "نون فينيتو" الذي يعني بالايطالية الصورة غير المكتملة.
    وقد قيل إن ميكيل انجيلو وجد في وقت ما أن من المستحيل بالنسبة له أن يعبّر بما فيه الكفاية عن مفاهيم الفخامة والرهبة باستخدام يديه وعدّة النحت. لذا فقد تخلّى عن الكثير من أعماله، بل وأتلف بعضها خوفا من أن يبدو في أعين الناس اقلّ براعةً وإتقانا.
    أما ليوناردو فمعروف انه كان يلزمه سنوات لإكمال قطعة فنّية واحدة، لأنه كان يعتقد أن الجودة تأخذ وقتا، وهذا هو السبب في أن معظم أعماله تُركت ناقصة.
    في مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أعلن بعض النقّاد أن بعض لوحات كلود مونيه (مثل اللوحة الثانية فوق) غير كاملة. واتّهم الناقد جون راسكين الرسّام جون ويسلر بأنه لا يرسم شيئا وإنما يكتفي بإلقاء الأصباغ في وجوه الجمهور.
    وقد دافع بودلير عن الاثنين بقوله إن الكامل ليس منتهيا بالضرورة وإن المنتهي من حيث التفاصيل قد يفتقد إلى وحدة الشيء الكامل.
    وهناك نظرية تقول إن للعمل الفنّي غير المكتمل أو الناقص جمالا فريدا يجعل الناظر يظنّ انه أكثر تلقائية وأكثر أصالة، كما انه يمسك أكثر بالحركة وبالجوهر الداخليّ للشخصية.
    ويقول ناقد إن الصورة غير الكاملة تصنع تاريخا بسبب الظروف التي جعلتها تبدو ناقصة، كما أنها تعجب الناس أكثر من غيرها أحيانا لأنها تتيح رؤية الرسوم التمهيدية وأفكار الفنّان الحقيقية.
    كان أفلاطون يرى أن الفن مجرّد وهم ويمكن أن يكون خطيرا إذا بدا حقيقيا أكثر ممّا ينبغي.
    وفي مراحل مختلفة من تاريخ الفنّ ظهرت أصوات تدعو لإنتاج أعمال فنّية غير مكتملة، وكان ذلك انعكاسا لتغيّر أذواق الناس واختلاف معايير الجمال من عصر لآخر.
    وهناك أعمال فنّية تُركت ناقصة عمدا مثل تلك لتي تحدّث عنها الروائي امبرتو ايكو واصفا إيّاها بالأعمال المفتوحة التي تعتمد بنيتها على عدم وجود نهاية. ويدخل ضمن ذلك أعمال بعض الموسيقيين مثل السيمفونية الناقصة لشوبيرت.
    ورغم أن كثيرا من الفنّانين لم يكن في نيّتهم أن يرى الناس أعمالهم الناقصة، إلا أن تلك الأعمال تظلّ جديرة بالتقدير لأنها تقول لنا الكثير عن الروح الداخلية لأصحابها.
    في عام 1998، بيعت لوحة للرسّام الهولندي بيت موندريان بـ 40 مليون دولار. وكان الرسّام قد ترك هذه اللوحة ناقصة إثر موته المفاجئ في نيويورك عام 1944.

    Credits
    artsheaven.com

    الجمعة، أغسطس 14، 2020

    ديلاكروا: الرحلة الجزائرية

    غادر الرسّام اوجين ديلاكروا فرنسا متوجّها إلى المغرب في يناير من عام 1832، أي بعد عامين من احتلال بلده للجزائر. كان قد أصبح فنّانا مشهورا بعد أن رسم "دانتي" و"موت ساردانابولوس" و"الحرّية تقود الشعب".
    وقد سافر بمعيّة دبلوماسيّ يُدعى شارل دي مورناي الذي كان يرأس وفدا كلّفه الملك لوي فيليب بمقابلة سلطان المغرب مولاي عبدالرحمن الذي أدّى دعمه للمقاومة الجزائرية إلى تهديد استمرار التوسّع الفرنسيّ غرباً.
    وأثناء توقّف ديلاكروا في الجزائر، استُجيب لرغبته في الدخول إلى جزء من بيت احد الأهالي، حيث تعيش النساء فيه في عزلة عن الرجال. وقد لاحظ الرسّام الحريم من مسافة عبر رواق يؤدّي إلى غرفتهن. وفي نهاية الغرفة رأى ثلاث نساء مع خادمتهن وهن يجلسن حول أرغيلة وفي جوّ يوحي بلحظات من الخصوصية.
    في ذلك المكان، تشكّلت في ذهن ديلاكروا الملامح الأوليّة للوحته "نساء الجزائر" التي وصفها احد النقّاد في ما بعد بأنها انجازه الأكبر.
    وهناك غموض يحيط بهويّة اثنتين من النساء، الأولى وتُدعى منى بنسلطان، وتظهر في أقصى يسار اللوحة متكئةً على أريكة وجالسةً في مواجهة الناظر. أما الثانية فتُدعى زهرة بنسلطان التي تجلس متربّعة في الوسط وهي تتحدّث بهدوء مع رفيقتها إلى اليمين.
    قد تكون المرأتان شقيقتين أو ابنتي عمّ أو زوجتين لنفس الرجل. والاسمان العربيان ليسا دليلا كافيا على أنهما مسلمتان بالضرورة. كما أن لباسهما ليس ممّا ترتديه عادةً النساء اليهوديات في شمال أفريقيا.
    النساء الثلاث يجلسن بين الظلّ والضوء، وأذرعهنّ وأقدامهنّ المشمّرة توحي بأن الوقت صيف. وهنّ يجلسن على سجّاد تركيّ الطراز مزيّن بموتيفات امازيغية، مع وسائد من مخمل. واللون الأرجوانيّ الغالب على اللوحة يخلق جوّا غامضا وحالماً.
    الأشياء الظاهرة في الغرفة، كالباب الخشبيّ المذهّب والستارة والزخارف والنقوش على الجدار، كلّها عناصر تشي بالروابط الوثيقة بين الجزائر وموانئ الشرق في القرن التاسع عشر.
    الاكسسوارات والأزياء والديكور والمجوهرات وطريقة الجلوس رُسمت أوليّا وبتفصيل كبير أثناء زيارة ديلاكروا للجزائر. وقد أضاف إليها ملحقات وموادّ أخرى عندما جلس ليرسم اللوحة في باريس.
    المعروف أن الفنّان رسم نسختين من هذه اللوحة تفصل بينهما 15 عاما. لكن اللوحة فوق هي الأشهر. وقد اشتراها ملك فرنسا عام 1834 وقدّمها هديّة إلى متحف لوكسمبورغ. ثم انتقلت في ما بعد إلى متحف اللوفر حيث ظلّت فيه إلى اليوم.
    الأسطورة الأوربّية عن فانتازيا الحريم تكرّست في القرن التاسع عشر بعد ترجمة انطوان غالان لكتاب "ألف ليلة وليلة" إلى الفرنسية عام 1717. ثم تعمّق المفهوم الأوربّي عن الشرق أكثر فأكثر من خلال صور ديلاكروا.
    وقد كتب الرسّام في ما بعد إلى صديق له يقول: لم أرَ في حياتي اغرب مما رأيته في طنجة. فهذه المدينة هي حكاية خارجة من كتاب الليالي العربية. إنها مزيج مدهش من الأعراق والأزياء والألوان".
    لوحة "نساء الجزائر" تُوازن بين الكلاسيكية والرومانسية. الإلهام الشرقيّ وثروة الألوان التعبيرية هي ملامح رومانسية. والنظام الإيقاعي للأشكال والشغف المحسوب هي ملامح كلاسيكية. الضوء والظلّ يلعبان هنا دورا مهمّا. والتلوين يخلق جوّا من الدفء قيل إن رسّاما لم يحقّقه من قبل باستثناء فيلاسكيز في لوحته "النسّاجات".
    وعندما تنظر إلى اللوحة سيُخيُّل لك أن الوقت فيها متوقّف. وليس فيها أيّ حبكة أو فعل أو قصّة. إنها صورة نقيّة، لكنها ساحرة وجذّابة بما لا يُوصف.


    والسمات العديدة فيها، كالنظرات المتلصّصة والظلال المنوّمة والألوان اللامعة والهدوء المهيمن، كلّها عناصر عن الطبيعة المتناقضة للوحة كثمرة للمزاوجة بين الواقع والخيال.
    مزيج الألوان ووضعيات الأيدي وطيّات الملابس والضوء غير المتوقّع والتباين بين الشخصيات دفعت احد النقّاد للقول إن اللوحة مليئة بالأفكار والرؤى.
    وقال ناقد آخر: إن هذه اللوحة تعكس الحياة المملّة لهؤلاء النساء اللاتي يفتقرن للأفكار الجادّة والعمل المفيد الذي يمكن أن يمنع عنهن الشعور بالسأم في هذا السجن الذي يقبعن وراء جدرانه".
    ألهمت لوحة "نساء الجزائر" أجيالا متعاقبة من الرسّامين، مثل فان غوخ وغوغان وسيزان. كما كانت مصدر إلهام لبيكاسو وماتيس والانطباعيين الذين أتوا في ما بعد.
    كان بيكاسو مهجوسا كثيرا بـ "نساء الجزائر". وفي عام 1954، أي بعد مرور 120 عاما على رسم ديلاكروا للوحة، رسم بيكاسو 15 لوحة، بالإضافة إلى مئات الاسكتشات. وكانت كلّها عبارة عن تنويعات على لوحة ديلاكروا.
    وإحدى تلك اللوحات أصبحت أغلى لوحة في العالم، عندما بيعت قبل خمس سنوات بـ 180 مليون دولار. ونُقل عن بيكاسو وقتها قوله: لو رأى ديلاكروا لوحتي لأحبّها وقدّرها. لقد رسم لوحته وفي ذهنه روبنز. ورسمتها أنا وفي ذهني ديلاكروا. لكني فعلتها بشكل مختلف".
    كان ديلاكروا أوّل رسّام فرنسي يعبر البحر المتوسّط. وقد تأثّر في استشراقه بنموذج اللورد بايرون الذي شارك في حرب الاستقلال التي خاضها اليونانيون ضد الأتراك العثمانيين.
    وكان عمر ديلاكروا عندما زار الجزائر والمغرب 34 عاما. وقد مكث فيهما ستّة أشهر فُتن خلالها بهذا الشرق الجديد وبألوانه الساطعة وبالعرب ونسائهم وخيولهم الساحرة، وهي العناصر التي ظلّ يرسمها طوال حياته.
    وفي الجزائر والمغرب رأى نسخة من الشرق الأسطوريّ والرائع الذي طالما تخيّله. ولم توفّر له تلك الرحلة الفرصة ليرسم ما رآه فحسب، وإنّما أتاحت له فرصة للتأمّل الفلسفيّ. وقد كتب في مذكّراته يقول: عشت في الجزائر والمغرب ستّة أشهر فقط. ومع ذلك أحسست أنني عشت هناك أكثر ممّا عشت في باريس بعشرين مرّة".
    كان ديلاكروا يعتقد بأن أسلوب حياة الأقدمين يوشك على الانتهاء، وهو انطباع ظلّ معه حتى مماته. كما كان يؤمن بأن الحلقات المفقودة من الحضارة موجودة في الشرق، وأن حجم الإرث الحضاري للشرق يكفي لإلهام عشرين جيلا من الرسّامين.
    لكن لأن ديلاكروا سافر إلى شمال أفريقيا كجزء من بعثة دبلوماسية فرنسية بعد عامين من غزو فرنسا للجزائر، فقد ظنّ البعض بأن اللوحة كانت شكلا من أشكال الدعاية لطموحات فرنسا الاستعمارية. غير أن النظر إلى اللوحة عن قرب يثبت أنها بعيدة عن رسم الآخر الغرائبي، أي نموذج اللوحات الاستشراقية السائد آنذاك.
    كان ديلاكروا يؤمن بأن حضارة الجزائر، رغم كونها اقلّ تطوّرا من فرنسا، إلا أنها اقرب إلى الطبيعة، كما أن فيها بعضا من قيم روما القديمة التي كانت تتآكل في الغرب. صحيح أن الرسّام كان متأثّرا بفكرة التفوّق الأوربّي، لكنه فوجئ بنبل الناس في الشرق مقارنةً بما كان يعتبره "فساد الفرنسيين".
    كان ديلاكروا جزءا من حركة فلسفية وفنّية تتضمّن الفنون الفكرية والبصرية والأدبية. وهو نفسه كان شاعرا ومؤلّفا وعاشقا للتاريخ والأدب. وقد تضمّنت تجربته في شمال أفريقيا لوحات أخرى مثل "متعصبّو طنجة" و"زواج يهودي" وغيرهما.

    Credits
    louvre.fr
    eugenedelacroix.net

    السبت، أغسطس 01، 2020

    غويا: إعلان ضدّ الحرب

    كان في ذهن الرسّام الإسباني فرانسيسكو دي غويا وهو يرسم هذه اللوحة الأيقونية أن تكون تخليدا للعمل الأكثر بطولة في نضال الشعب الاسباني ضدّ "طاغية أوربّا"، أي نابليون، الذي كان قد احتلّ اسبانيا في بداية عام 1808 وأجبر الملك تشارلز الرابع على التنحّي.
    في الثاني من مايو من ذلك العام، حاولت جماعة موالية للعرش الاسباني أن تستعيد السلطة في مدريد. لكن تلك الانتفاضة انتهت بفشل دمويّ كامل. وفي صباح اليوم التالي، ألقت القوّات الفرنسية القبض على المئات ممّن اشتبه في مشاركتهم في ذلك التمرّد، وجمعتهم في مكان خارج المدينة ثم أطلقت عليهم النار ليلا.
    وبعد ستّ سنوات، وكانت إمبراطورية نابليون على وشك السقوط وابن تشارلز يجلس على العرش الاسبانيّ، أنهى غويا رسم لوحته الأكثر شهرةً وإثارةً للانزعاج.
    كثيرا ما توصف لوحة "الثالث من مايو 1808" بأنها أعظم لوحة معادية للحرب وأوّل عمل من أعمال الفنّ الحديث، كما أنها تحفة غويا بلا منازع. والغريب أن هذه اللوحة قضت أوّل أربعين عاما من عمرها في المخازن. ثم حُوّلت بعد ذلك إلى متحف برادو في مدريد. ولم يهتمّ المتحف بإدراجها ضمن مقتنياته إلا في عام 1872. في ذلك الوقت، كانت الفظائع التي رسمها غويا في اللوحة قد أصبحت خارج الذاكرة الجمعية للناس.
    طوال فترة انشغاله بالرسم، كان غويا بارعا في إقناع رعاته بعمل شيء ثم انجاز شيء آخر. والحقيقة أن "الثالث من مايو" حافظت على ذكرى التمرّد الإسباني حيّة في الأذهان. ومع ذلك فإن من المشكوك فيه ما إذا كان الرسّام أراد إظهار تلك المذبحة كحادث مقترن بالبطولة أو المجد. لكن المؤكّد أن غويا استطاع من خلال هذا العمل توسيع أعراف الرسم الأكاديمي كي يُبرز الوقائع المريرة والدامية للصراعات الحديثة.
    في عام 1975، نشر الكاتب الفرنسي اندريه مالرو مقالا قال فيه إن الرسم الحديث بدأ باللوحات السوداء التي تناول فيها غويا فظائع الحرب. لكن غويا رسم في "الثالث من مايو" لوحة حداثية مروّعة كانت بلا وجه ولا مشاعر".
    الجنود الفرنسيون الذين يظهرون في الجانب الأيمن من اللوحة لا يمكن مساومتهم أو مجادلتهم بالعقل. ولأننا لا نستطيع رؤية تعابير وجوههم وهم يطلقون النار، فإننا لا يمكن أن نعرف ما الذي كان يعتمل في رؤوسهم في تلك اللحظات.
    وبدلا من ذلك فإن خوذاتهم السوداء التي تشبه الأقنعة ووقفتهم الموحّدة هي التي تلفت انتباه الناظر. ومن الواضح أن هؤلاء الجنود أتوا إلى هذا المكان ليلا لإنجاز مهمّة لا مكان فيها للتفكير أو المشاعر. كانوا فقط ينفّذون الأوامر التي أُعطيت لهم.
    وإذا كان منفّذو إعدامات الثالث من مايو جنودا متبلّدي المشاعر وعديمي الرحمة، فإن غويا لا يُظهر منهم سوى القليل في اللوحة. لكن ضحاياهم لا يمكن نسيانهم، لأن مشاعرهم وردود فعلهم تُفصح عن نفسها.
    مؤرّخو الحرب، من ناحيتهم، أراقوا حبرا كثيرا في تحليل شخصية الرجل الشهيد ذي القميص الأبيض والعينين المفتوحتين على اتساعهما.
    في السيرة الرائعة التي كتبها الناقد روبيرت هيوز لغويا، يصف الكاتب هذا الشخص الظاهر في اللوحة بأنه واحد من أكثر الشخصيات حضورا في كل أعمال الفنّ، بينما شبّه آخرون وقفته بوقفة المسيح على الصليب. وإذا نظرت إلى الرجل عن قرب فستلاحظ أثر جرح على إحدى يديه، في إشارة إلى معاناة المسيح.
    لكن غويا لا يسمح لتلك الإشارات الأيقونية الموحية بأن تُسقط لوحته في مأزق العاطفية الفجّة. فهذا الرجل ضحيّة، لكنه ليس شهيدا تماما. فهو لم يختر لنفسه أن يموت، ناهيك عن أن يموت في سبيل قضيّة. إن موته يثير الغضب ولا شكّ، لأنه غير مفهوم، كما لا يمكن تبرير قتله بدافع من دين أو وطنية. ولم تكن للقتل أهداف عليا، فقط الطغيان الذي يعلن عن نفسه في الليل.
    يمكن أن تُكتب مئات الصفحات عن وقفة هذا الرجل المشهور وعن تعابير وجهه. وقد فعل هذا العديد من مؤرّخي الفنّ. لكن "الثالث من مايو" هي من اللوحات النادرة التي لا يخلو تفصيل فيها من فكرة أو إيحاء.

    لاحظ، مثلا، انثناءة السيف اللامع لآخر جنديّ فرنسيّ إلى اليسار. إنه مجرّد تفصيل صغير في هذه اللوحة الضخمة والتي - بحسب هيوز - تتفوّق فعليّا على أيّ شيء في الرسم الأوربّي بعفويّتها وحيويّتها الملهمة. السيف المتقادم الذي يتدلّى من خصر صاحبه بلا فائدة هو رمز للرومانسية الباهتة للحرب.
    مالرو لاحظ أيضا منظر المدينة البعيدة المتّصل بالمقدّمة بسلسلة من الأسرى الذين لا يكادون يبينون فوق رؤوس الجنود الفرنسيين، وهم يراقبون من ذلك المكان العالي عمليات القتل. إن غويا في هذا التفصيل يستثير أشباحا من المدن دون أن يضطرّ لرسم أطلال أو خرائب، وهو شيء لم يسبقه إليه احد من قبل، بحسب مالرو.
    والحقيقة أن هذا الوصف يمكن أن ينطبق على أيّ من انجازات غويا الأخرى. لكن لا يمكن القول أن رسّامين آخرين لم يحاولوا أن ينجزوا ما فعله. فإدوار مانيه مثلا في لوحته "إعدام ماكسيميليان" لم يحاول إخفاء تأثّره بـ "الثالث من مايو"، في حين اعتُبرت "غورنيكا" بيكاسو عملا مناظرا للوحة غويا، ولكن في القرن العشرين. وهاتان مجرّد علامتين فقط على النجاح المبهر للوحة باعتبارها إعلانا ضدّ الحرب.
    المسئولون الإسبان الذين كلّفوا غويا برسم اللوحة أرادوا لها أن تصبح عملا تذكّريا يحتفي بإسبانيا وبوطنية الإسبان. لكنهم في النهاية لم يحتفوا بشيء سوى شجب واستنكار الحرب. ولم يعد مهمّا معرفة من الذي خاضها ولماذا.
    وعندما تلاشت حروب نابليون من كتب التاريخ، أصبحت عالمية "الثالث من مايو" أكثر وضوحا في القرن العشرين. إذ لا يبدو الأشخاص في اللوحة على أنهم فرنسيون أو إسبان تحديدا. ومن السهل أن تتخيّل حدوث هذا المنظر الرهيب والغارق في الدماء في ألمانيا عام 1942، أو في تشيلي عام 1973، أو في العراق عام 2006.
    على الأرجح، لم يكن غويا شاهد عيان على ما حدث. ولم تكن اللوحة مجرّد تسجيل لحادث بعينه، بل كانت تأمّلا كئيبا عن طبيعة السلطة وشرور الحرب. ورغم انه اشتغل معظم حياته كرسّام للقصر، إلا انه ظلّ يتحلّى بالاستقامة الثورية.
    كان غويا يكره كافّة أشكال السلطة: الكهنة، الجنود والمسئولين. وكان يعرف أن كلّ هؤلاء لو توفّرت لهم السلطة لنكّلوا بالضعفاء ولسحقوهم بلا رحمة. وشعوره هذا هو الذي منح قوّة ورمزية للرجل صاحب القميص الأبيض وللضحايا الآخرين المضرّجين بدمائهم.
    لم تكن الدماء منظرا يحظى بالشعبية في الرسم التاريخيّ في القرن التاسع عشر. لكن المعركة هنا رهيبة وليس فيها أيّ قدر من النبل أو البطولة. لقد رسم غويا جنودا يقتلون بدم بارد أفرادا عُزلا، وأبقى وجوه القتلة بلا ملامح لكي لا يتماهى معهم الناظر. غير أن الضحايا أو معظمهم لهم وجوه، وهذا من أعظم خصائص اللوحة.
    مع "الثالث من مايو" بدأ ظهور الصورة الحديثة للحرب، وللقتلة المجهولي الهويّة، بينما وصلت التقاليد الطويلة عن الحرب كمظهر من مظاهر الشجاعة والفروسية إلى نهايتها.
    ليس بالمستغرب أن يلجأ الفنّانون من جميع أنحاء العالم إلى غويا عندما يريدون التعبير عن رؤاهم المضادّة للحرب. وبسبب عالمية وأيقونية "الثالث من مايو" وبوحي منها، ثابر العديد من الفنّانين، وعلى مدى قرنين، على تصوير فظائع الحروب، وبطريقة بليغة أحيانا. لكنهم لم يستطيعوا منع الحروب ولو مرّة.
    بطبيعة الحال، ليس مطلوبا من الفنّانين أن يوقفوا الحروب وليست تلك مهمّتهم على أيّ حال. لكن من الصعب ألا تنظر إلى الوراء؛ إلى عشرات الصور المذهلة والمشحونة سياسيّا التي استُلهمت من "الثالث من مايو"، ثم تمنع نفسك من التساؤل: لماذا كانت تلك الحروب أصلا، وما الذي فعلته أو جلبته غير القتل والدمار.
    ويمكنك أن تشعر بنفس القدر من الحزن والمرارة وأنت تتأمّل تفاصيل لوحة غويا. لقد كانت فكرته وهو يرسمها هي انه رأى كلّ شيء وخَبِر وعايش احد أكثر الأوقات عنفا وهمجية في التاريخ الأوربّي الحديث.
    كانت موهبة غويا الغامضة تتمثّل في انه رأى في ذلك الوقت أكثر ممّا استطاع أيّ شخص آخر رؤيته. لقد رأى كلّ ما كان يحدث لبلده وتوصّل إلى انه لا يستطيع فعل أيّ شيء حياله، غير أن يرسمه.
    وهذا بحدّ ذاته انجاز كبير.

    Credits
    smarthistory.org
    khanacademy.org

    السبت، أكتوبر 12، 2019

    ميلودراما يان ستين

    في تاريخ الرسم، هناك مرحلة اتّفق مؤرّخو الفنّ على تسميتها بالعصر الذهبيّ للرسم الهولندي والذي امتدّ طوال القرن السابع عشر. والحقيقة انه ليس من السهل أن يعجب المرء اليوم بالكثير من الفنّ الذي أُنتج خلال تلك الفترة. وهناك الآن منه الكثير في المتاحف وفي المجموعات الفنّية الخاصّة. ومعظمه عصيّ على الفهم بمعايير هذه الأيّام.
    لكن بطبيعة الحال فإن رمبراندت وفيرمير، وإلى حدّ ما هولس، يُعتبرون متميّزين عن غيرهم. ثم هناك تيربورش الذي يجبرك على أن تتوقّف أمام لوحاته لتتأمّل تفاصيلها وألوانها المدهشة.
    وهناك اسم خامس هو يان ستين الذي يبدو انه ما يزال يتمتّع حتى اليوم بحضور لافت بدليل المعارض التي تقام لأعماله من وقت لآخر. تفاصيل لوحاته المرحة والمليئة بالحياة لا بدّ وأن تدفع كلّ من يراها للابتسام، مع أن المرح سمة نادرة في الرسم عموما.
    ربّما كان الناس في الماضي يظنّون أن كون الفنّان مرحا ينزع عنه لباس الوقار والجدّية ويجرّده من العظمة. غير أن العصر الذهبيّ للرسم الهولنديّ أنتج عددا كبيرا من الفنّانين الهزليين. وما من شك في أن سخريّتهم التي تُشيع السعادة هي من بين انجازات ذلك العصر.
    كان يان ستين أفضل هؤلاء. مناظره المنزلية التي تمتلئ بالفوضى تبعث على الابتسام، على الرغم من الرسائل الأخلاقية الثقيلة التي تحملها. لكن ستين رسم، بالإضافة إلى صوره المنزلية، عددا من اللوحات التي تتناول قصصا من العهد القديم.
    وإحدى لوحاته من النوع الأخير اسمها "غضب اخشورش". واخشورش (أو Xerxes كما يُكتب اسمه باللاتينية) كان ملكا فارسيّا حكم قبل أكثر من ألفي عام إمبراطورية واسعة كانت تضم بالإضافة إلى بلاد فارس أراضي تركيا والأردن ولبنان وفلسطين وغيرها.
    وفي اللوحة التي رسمها ستين (فوق)، يظهر الملك مرتديا عمامة مع ملامح وجه غضوبة، وأمامه يجلس كبير وزرائه هامان الذي ينتسب إلى العماليق الذين عُرف عنهم كراهيّتهم الشديدة لليهود.
    تقول القصّة إن ايستر زوجة اخشورش اليهودية الظاهرة في اللوحة (يقال أن اسمها مشتقّ من اسم الإلهة عشتار) دعت زوجها الملك ووزيره هامان إلى وليمة في القصر. ولوحة ستين تصوّر جانبا من تلك الوليمة، أو بالأصح اللحظة الدرامية التي تنتقم فيها ايستر من هامان كاره قومها.
    المصادر التاريخية تذكر أن هامان كان قد نجح في استصدار قرار من الملك بقتل جميع اليهود في الإمبراطورية. لكن هذه المرأة بدهائها وجمالها استطاعت أن تحبط الخطّة وأن تقنع اخشورش بقتل هامان، بل وجميع أعداء اليهود. وقد تحقّق لها ما أرادت ثم خلا لها الجوّ وأصبحت المتصرّفة بلا منازع في شئون الإمبراطورية.
    في الصورة تبدو ايستر بهيئة امرأة جميلة ترتدي فستانا زهريا رائعا، بينما اخشورش يقفز في غضب من على كرسيّه بعد سماعه كلامها ويحكم على هامان من فوره بالموت. وقد صوّر ستين تلك اللحظة بالكثير من التفاصيل. لكن ستين ليس رمبراندت. وإن كنت تبحث عن العمق الانفعاليّ أو الإحساس بالخلاص فلن تجد من هذا شيئا في هذه اللوحة. لكن بعض تفاصيلها لا تخلو من كوميديا. فالملك الشرقيّ الشموليّ كامل بلحيته وعمامته. والمرأة التي ترتدي ثوبا هولنديا من ذلك الزمن تبدو صغيرة على اللباس وغير مقنعة في دور المرأة اليهودية المغرية. أما هامان، بتعابيره التي تنطق بالصدمة والهلع، فيذكّرنا بالمهارات التمثيلية المبالغ فيها في بعض المسارح.
    استمرّ ستين في رسم المزيد من اللحظات المسرحية المسليّة والمستمدّة من القصص الدينية، فرسم شمشون لحظة قصّ شعره وكأننا أمام حفلة عشاء صاخبة لمجموعة من السكارى في هارلم.
    حادثة اخشورش و ايستر وقعت حوالي عام 480 قبل الميلاد. ومنذ تلك الحادثة واليهود يحتفلون بما يسمّونه عيد البوريم، أي اليوم الذي قُتل فيه هامان ومن ثم مُنحوا الرخصة بقتل كلّ من يعتبرونه عدوّا.
    كلّ الدراما والإيماءات والملابس في هذه اللوحة تحمل علامات المسرح الشعبي الهولندي. وفي كلّ لوحاته يكشف ستين عن تأثّره بذلك المسرح. كانت المسارح آنذاك تعرض قصّة ايستر وزوجها بانتظام. وكانت هولندا واقعة بين براثن الاحتلال الاسبانيّ، لذا فإن فكرة أن "شعبا مختارا" تنقذه بطلة جميلة كان لها وقع وطنيّ قويّ في نفوس الهولنديين في ذلك الوقت.

    Credits
    thetimes.co.uk

    الجمعة، يونيو 28، 2019

    سفينة الأغبياء

    في عام 1494، اصدر كاتب ألماني يُدعى سيباستيان برانت كتابا بعنوان "سفينة الأغبياء". كان برانت، مثل الكثيرين من معاصريه، يعتقد أن نهاية العالم وشيكة وأن عودة المسيح إلى الأرض تتطلّب من البشر أن يتوبوا وينبذوا ما يغضب الخالق.
    وقد حاول في كتابه ذاك أن يشرح أسباب سلوك البشر في عالم ساقط، وعزا ذلك في الأساس إلى غباء البشر وبعدهم عن الله. أما السفينة التي يتحدّث عنها في كتابه فهي سفينة بلا ربّان، وركابها الذين يُفترض أنهم مبحرون باتجاه مكان خيالي يُسمّى ناراغونيا أو جنّة الأغبياء، فيبدون تائهين وغير مبالين بالاتجاه الذي يسلكونه.
    وفي القرن التالي، أي السادس عشر، أصبح موتيف سفينة الأغبياء يُستخدم للسخرية من الكنيسة الكاثوليكية التي كانت تقدّم نفسها للناس باعتبارها سفينة الخلاص.
    لكن مفهوم السفينة يعود إلى زمن أقدم بكثير. ففي كتاب "الجمهورية" لأفلاطون، يناقش سقراط أساليب الحكم الرشيد ويسوق أمثولة عن سفينة قبطانها أقوى من بقيّة البحارة، لكنه أصمّ قليلا ونظره ضعيف ومعرفته بالبحر ليست كافية. لذا ينشأ بين البحّارة جدل حول المسار الذي ينبغي أن تسلكه السفينة وكلّ منهم يزعم لنفسه الحقّ في توجيه دفّتها.
    ثم تتطوّر الأمور وتنشب بينهم معركة ويحدث تمرّد. ويعلّق سقراط على القصّة بقوله أن من غير الحكمة أن يسلّم أيّ مجتمع قياده لحكم الرعاع أو الدهماء وأن من الضروري أن لا يقود سفينة الأغبياء إلا ربّان بارع وحكيم . لاحظ أن سقراط يفترض أن ركّاب السفينة أغبياء بطبيعتهم، وبناءً عليه فإنهم بحاجة دائما إلى قائد ذي بصيرة يوجّههم ويرشدهم.
    الرسّام الألماني هيرونيموس بوش كان معاصرا للكاتب برانت ويرجَّح انه قرأ كتابه ثم استلهم موضوع الكتاب في رسم لوحة بنفس العنوان.
    وأغبياء السفينة في لوحة بوش ينتمون لفئات مختلفة من المجتمع، وهؤلاء يظهرون وهم مبحرون بلا هدف أو وجهة محدّدة. وعندما تتأمّل اللوحة ستدرك أن الركّاب فيها ليسوا جماعة من الغرباء، بل هم أنت وأنا والآخرون.
    في اللوحة نرى راهبا وراهبة يجلسان عند طرفي طاولة في السفينة ويفتحان فمهما على اتّساعه. الراهبة تعزف على آلة اللوت والراهب يشاركها الغناء. وإلى اليسار نرى امرأة تمسك بجرّة وتهوي بها على رأس رجل. والرجل يبدو وقد تكوّم على نفسه محاولا تفادي هجوم المرأة. وفي الخلف أشخاص منهمكون في نقاش صاخب. وبينما الركّاب في حالة هياج وفوضى، تمضي سفينتهم نحو المجهول.
    في العالم الحديث يمكن للمرء أن يتخيّل أن سفينة الأغبياء هي كناية عن سكّان العالم. إذ ليس هناك ربّان حكيم يوجّه السفينة وما من ميناء يمكن لها أن ترسو فيه في النهاية. ومثل هذه الفكرة نجد لها صدى في الكثير من أعمال الأدب الحديث مثل كتابات ميشيل فوكو وغيره.
    وفي هذا العصر تبدو مقارنة السفينة بحال العالم اليوم مفهومة ومبرّرة. فالدول تنفق مبالغ فلكية على التسلّح والحروب، بينما يكفي جزء بسيط من تلك الأموال للقضاء على الفقر في العالم أو توفير الطعام والماء لملايين العطاشى والجياع.
    في حكاية السفينة هناك سخرية لاذعة من بعض رجال الدين الذين يحثّون الناس على الرحمة والإيثار بينما هم لا يهتمّون في واقع الأمر سوى بمصالحهم ومتعهم الخاصّة. والواقع أن مثل هذا النوع من النقد كان سائدا أثناء حركة الإصلاح الديني في أوربّا. ووجود القسّ والراهبة المنشغلين بالغناء والأكل في مقدّمة اللوحة والغير مكترثين بما يجري هو أيضا جزء من ذلك النقد الذي طال الكنيسة ورجالها.

    Credits
    louvre.fr

    الأحد، يناير 13، 2019

    رمبراندت أم دافنشي ؟

    في هولندا أُعلن رسميّا أن 2019 هو عام رمبراندت. وأكبر المتاحف الهولندية أعلنت عن تنظيم العديد من المعارض احتفالا بمرور ثلاثمائة وخمسين عاما على وفاة رمبراندت في عام 1669.
    لكن رمبراندت ليس وحده المحتفى به هذا العام الذي يصادف أيضا ذكرى مرور خمسمائة عام على وفاة ليوناردو دافنشي في عام 1519.
    والكثير من الكتّاب رأوا في تزامن هاتين المناسبتين فرصة لطرح هذا السؤال: ترى أيّهما أعظم رمبراندت أم دافنشي؟
    قد يكون الرهان الذكيّ على رمبراندت. ففنّه عميق ومأساويّ ومثير للأفكار والمشاعر. يمكن القول أن بورتريهاته هي المعادل الفنّي لمأساة الملك لير. وروح الإنسان على إطلاقه متجسّدة في صوره.
    في المقابل فإن ليوناردو نجم شعبيّ، وهو ما يزال يشغل الناس حتى بعد مرور خمسة قرون على رحيله. وبالتأكيد لن تشعر بالعزلة وسط كلّ ذلك العدد الكبير من الهواتف الذكيّة التي يحملها السيّاح الذين يفدون إلى اللوفر ليقفوا أمام تحفته "الموناليزا".
    البورتريه الذي رسمه رمبراندت لنفسه بعنوان بورتريه شخصيّ مع دائرتين (الصورة فوق) لا يُرجّح أن تراه محاطا بالكثير من الزوّار والكاميرات في ما لو أتيحت لك زيارته في متحف كينوود هاوس في لندن.
    يمكنك هناك أن تحدّق في عيني الرسّام المظلمتين وهما تتأمّلانك. حضوره الواعي يتبدّى من خلال الألوان الهادئة والناعمة.
    انه يستخدم فرشاته ليخلق نفسه وليخلق في نفس الوقت ما يبدو انه خارطة ناقصة للعالم. رمبراندت يبدو نبيلا وغير كامل، يحدّق فيك كما يحدّق شخص متعب في آخر.
    هل أنجز ليوناردو دافنشي شيئا بمثل هذه الدرامية والإنسانية؟
    قصّة ليوناردو تشبه الحكايات الخيالية. وهناك صورة ذهنية عنه في طفولته وهو يشتري الطيور من السوق فقط لكي يحرّرها ويطلقها في الجوّ.
    إن من التجنّي أن تقارن صورة رمبراندت لنفسه بلوحة الموناليزا. أعجوبة ليوناردو الحقيقية هي رسوماته الأوّلية أو اسكتشاته.
    هو لم يكمل سوى القليل من اللوحات، لكنه لم يحلّق عاليا سوى في اسكتشاته. في صفحات متتالية من مفكّرته، رسم ليوناردو دراسات للطيور والطبيعة والآلات والأسلحة والتحصينات، كما بحث في أسرار الطيران.
    لكن أعظم تجليّات دافنشي البصرية هي رسوماته التشريحية. هذه الرسومات هي ردّه على بورتريهات رمبراندت، كما أنها في نفس الوقت معجزات علمية.
    ذات مرّة كتب ليوناردو عن الرعب الذي شعر به عندما قضى ليلة بأكملها في غرفة تشريح محاطا بهياكل الموتى. ومن تلك التجارب أنتج رسومات أعمق من رسومات رمبراندت. وبدلا من أن يتأثّر بملامح وجه، كان ليوناردو يحفر ويقطع بحثا عن البنى الخفيّة للإنسان.
    وليس هناك من عمل فنّي مثير للأحاسيس من رسمه للجنين في بطن أمّه (الصورة فوق). غموض رسوماته المخيفة للرئتين والقلب، ودقّة رسوماته للعين والدماغ تتمتّع جميعها بحساسية شديدة ومبهرة.
    بالتأكيد يمكن اعتبار رمبراندت شكسبير الرسم. لكن ليوناردو هو شكسبير وآينشتاين والأخوان رايت مجتمعين في شخص واحد.

    Credits
    theguardian.com

    الثلاثاء، يناير 08، 2019

    زونارو: الرسّام المنسيّ


    هذه الأيّام لا يكاد احد يتذكّر اسم فاوستو زونارو. لكن قبل أكثر من مائة عام، كان هذا الرسّام الايطالي أشهر فنّان أوربّي عمل وعاش في الشرق.
    كانت لوحاته عبارة عن وثائق تاريخية. وبعضها يُظهر مواقع في اسطنبول لم تعد قائمة اليوم كما أنها غير معروفة بالنسبة للكثيرين. وهي تعكس احتفالات وعادات ومراسم وتقاليد من الزمن العثمانيّ.
    ولد زونارو عام 1854 وأظهر منذ طفولته شغفا بالرسم. وتعلّم في ما بعد في بادوا ثم في أكاديمية فيرونا. وبعد أن عمل في نابولي وفي مدن أخرى عدّة سنوات، قرّر أن يستقرّ في فينيسيا.
    وفي عام 1891، حدثت نقطة تحوّل مهمّة في حياته، عندما وقع في حبّ إحدى تلميذاته وتُدعى اليزابيتا بانتي. ثم قرّر الاثنان أن يتزوّجا ويذهبا إلى اسطنبول عاصمة الدولة العثمانية. وكان ملهم الرسّام لتلك الرحلة ديوان شعر كان قد قرأه لشاعر ايطاليّ يُدعى ادموندو دي اميتشيز يسرد فيه انطباعاته بعد رحلة له لتلك المدينة المشرقية.
    في اسطنبول افتتح زونارو لنفسه محترفا، وحظي برعاية السفيرين الايطاليّ والروسيّ لدى البلاط اللذين قدّماه إلى السلطان عبدالحميد الثاني. ولم يلبث الأخير أن عيّنه رسّاما للبلاط، حيث شغل تلك الوظيفة لأكثر من أربعة عشر عاما. وقد رسم ضيوف السلطان من الأجانب، خاصّة الذين يأتون من أوربّا، كما رسم لوحات متعدّدة لمعالم المدينة.
    كان عبدالحميد نفسه شخصا محبّا للفنون وراعيا للفنّانين، وفي نفس الوقت كان رسّاما موهوبا. وكان قصر يلدز في زمانه أشبه ما يكون بأكاديمية الفنون كما نعرفها اليوم. وكان هناك بهو مخصّص للرسّامين الذين كانوا يعامَلون بلا تمييز من حيث جنسياتهم أو دياناتهم أو لغاتهم أو أعراقهم، وكان البهو يُستخدم في نفس الوقت لتعليم الطلبة الرسم.


    مع مرور الأعوام، تعلّم زونارو اللغة التركية وأتقنها وأصبح أكثر قربا من أوساط الحكم بفضل رسوماته التي صوّر فيها شجاعة وبطولة الجنود الأتراك في مقارعة اليونانيين أثناء حرب عام 1897.
    وقد كافأه عبدالحميد على ذلك مكافأة مجزية وخصّص له منزلا كبيرا يمتدّ على مساحة أكثر من ألفي متر مربّع. وفي ذلك البيت كان زونارو يستقبل ضيوفه من كبار مسئولي الدولة. كما خصّص جزءا من المنزل ليكون ورشة فنّية يرسم ويعرض فيها لوحاته.
    لكن حظوظه تغيّرت فجأة عندما أزيح السلطان عبدالحميد عن العرش في ثورة عام 1908. وقد أراد زونارو أن يرسمه بعد تلك الأحداث، فأخبر السلطان برغبته تلك واستطاع في النهاية أن يقنعه وأصبح هو الفنّان الوحيد الذي رسم بورتريها للسلطان.
    بعد الانقلاب على عبدالحميد، صُرف زونارو عن الخدمة ولم يعد لديه وظيفة. كما صودرت كافّة الحقوق والامتيازات التي كان يتمتّع بها. ومع ذلك أبدى رغبته في أن يبقى في اسطنبول وأن يستمرّ في تأدية واجباته بطريقة مختلفة.
    لكن في ما بعد قرّر أن يعود إلى روما على متن قطار الشرق السريع في مارس من عام 1910. ثم انتقل إلى سان ريمو إحدى أجمل مدن الريفييرا الايطالية. وفي السنة التالية رسم مناظر للأماكن التي تجوّل فيها على امتداد الساحل. كما استمرّ يرسم مواضيع من وحي تجربته وذكرياته المشرقية.
    رسوماته لشواطئ انتيب التي أنجزها في تلك الفترة تشبه كثيرا رسومات مونيه أبي الانطباعية. وقد قيل انه لو أن زونارو كرّس نفسه لرسم الريفييرا الفرنسية والايطالية بدلا من التركيز على الرسم الاستشراقي، لربّما كان الناس سيتذكّرونه اليوم كما يتذكّرون مونيه وسيسلي وبيسارو وغيرهم من رموز الانطباعية.
    ظلّ فاوستو زونارو يعيش في سان ريمو حتى وفاته في يوليو من عام 1911. ولوحاته موجودة اليوم في متاحف اسطنبول وجنوا وميلانو وباريس وغيرها.

    Credits
    pictorem.com

    الاثنين، سبتمبر 10، 2018

    عناصر سرد ونهايات مفتوحة

    أنتجت أرض التشيك، على امتداد تاريخها، العديد من الأشخاص الموهوبين في شتّى مجالات المعرفة والإبداع.
    ومن بين هؤلاء الموسيقيّ انتونين دفورتشاك، والروائيّان فرانز كافكا وميلان كونديرا، والكاتب المسرحيّ فاكلاف هافل الذي أصبح في ما بعد أوّل رئيس منتخب للجمهورية، والمخرج السينمائيّ العالميّ ميلوش فورمان الذي اخرج فيلم اماديوس.
    وفي الرسم برزت أسماء مثل فرانتيشيك كوبكا وألفونس موكا، بالإضافة إلى رسّام آخر غير معروف كثيرا وإن كان لا يقلّ أهمّية، هو ياكوب شيكاندر "اسكندر".
    ولد شيكاندر عام 1855 لعائلة تشيكية بسيطة الحال. وقد بدأ دراسة الرسم في براغ عام 1871، ثم انتقل إلى ميونيخ لإكمال دراسته. وفي عام 1876 عرض أولى لوحاته في براغ. وبعد سنتين زار باريس وقضى فيها ثلاث سنوات للدراسة. ثم عاد إلى براغ وكُلّف، مع رسّامين آخرين، بترميم وتزيين مسرح براغ الوطنيّ.
    في عام 1885، عُيّن شيكاندر أستاذا في مدرسة الفنون الديكورية في براغ، وفي نفس الوقت استمرّ يرسم صورا لفقراء الأرياف. في لوحة له بعنوان الطريق الحزين ، نرى امرأة تركب في مؤخّرة عربة يجرّها حصان وتحمل كفناً.
    ويبدو أن المرأة ترمّلت قبل الأوان، وهي تحدّق في الطريق الموحل أمامها بخواء، بينما يمشي إلى جانبها رجل، وكلاهما يرتديان أحذية خشبية. وفي خلفية الصورة، يظهر نهر في حالة فيضان. القصّة تحدث في نهايات الخريف، أي مع تساقط آخر أوراق الشجر.
    إذا كانت الصور انعكاسا لذهنية صاحبها، فما من شكّ أن عالم هذا الرسّام قاحل وكئيب. في إحدى لوحاته تظهر امرأة تثني جسدها لتلتقط بعض النباتات من أحد الحقول. والمنظر يذكّر بصور جون ميلليه وبريتون التي عكسا فيها الواقع الاجتماعيّ لكلّ منهما. لكن هناك المزيد من السرد هنا، إذ يظهر رجل يقف إلى جانب عربة يقودها ثور ويبدو كما لو انه ينادي على المرأة من مسافة.
    في لوحة بعنوان رفقة على الشرفة من عام 1887، نلاحظ تغيّرا كاملا في مزاج الرسّام. الوقت مساءً في إحدى المدن، وهناك مجموعة من الرجال والنساء الأثرياء كما هو واضح من هيئاتهم يجلسون على شرفة بجوار نهر. ويظهر بينهم شابّ يغنّي ويعزف على العود، بينما الآخرون يستمعون له باهتمام ويتابعون كلمات أغنيته.
    من وقت لآخر يعود شيكاندر لتناول فكرة الفقد، وفي إحدى اللوحات يرسم امرأة مسنّة تقف لوحدها ممسكة بعصا ووراءها جدار منخفض. الوقت يبدو خريفا، إذ أن هناك أوراق شجر جافّة مبعثرة على الأرض. المرأة تنظر إلى أسفل في وجوم. ربّما كانت تفكّر في زوجها أو ابنها الميّت. وإلى يمينها قنديل أحمر معلّق عليه طوق أزهار وخلفه ضريح حجريّ.

    لوحة شيكاندر بعنوان جريمة في البيت يعتبرها الكثيرون أشهر لوحاته، وكانت شعبية جدّا عندما عُرضت لأوّل مرّة في برلين ثم في براغ. تدور أحداث القصّة في جانب من الحيّ اليهودي في براغ، في فناء أنواره باهتة. والمكان غير بعيد عن الشقّة التي عاش فيها الرسّام بين عام 1872 وحتّى زواجه عام 1884.
    في الفناء الذي يتوسّط عددا من البيوت المتواضعة، هناك جثّة امرأة شابّة ممدّدة على الأرضية. الدم الظاهر على رأسها يوحي بأنها طُعنت في رقبتها. وهناك بقع دم أخرى عند مدخل احد البيوت في الخلف.
    وعلى الطرف الآخر، إلى اليسار، يقف عشرة أشخاص من فئات اجتماعية مختلفة، بينما أحدهم، وهو شابّ، يتحدّث أمامهم كما لو انه يحاول تفسير ما حدث، فيما الآخرون يحدّقون في جثّة المرأة الملقاة على الأرض.
    وخلفهم يظهر شبّاك كبير يضيئه قنديل زيت يعكس نورا احمر ساطعا. والرسّام يعطي لكلّ فرد شخصيّته الخاصّة ويترك السرد مفتوحا بما يتيح للناظر أن يتكهّن بطبيعة ما يحدث أمامه.
    وفي لوحة امرأة غارقة من عام 1893، نرى امرأة شابّة أخرى ترتدي فستانا ابيض وهي تستلقي ميّتة على رمال الشاطئ. ومع أن المنظر حزين ومقبض،إلا أنه يأخذ ملمحا شبه أثيريّ. فالبحر هادئ والشمس مشرقة وليس هناك حطام، وبالتالي لا تفسير واضحا يشرح كيف غرقت المرأة.
    وهناك لوحة تأمّلية له بعنوان راهب على الشاطئ، يظهر فيها رجل دين مغطّى الرأس يجلس على الشاطئ بمواجهة الماء. من الواضح أن الرجل غارق في التأمّل في هذا المكان البعيد والمنعزل. واللون الأحمر الذي تصطبغ به السماء إلى اليمين يوحي بأن الشمس تشارف على الغروب وأن الشفق يقترب.
    وفي منظر رمزيّ آخر، يرسم الفنّان شبحا لموسيقيّ يعزف على آلة كمان على طرف طريق يقود إلى بيت بابه مفتوح. وأمام باب البيت تقف امرأة وهي تحدّق في العازف.
    في الفترة التي تولّى فيها ياكوب شيكاندر وظيفة أستاذ في مدرسة الفنون في براغ، سافر كثيرا في أرجاء أوربّا وزار باريس عددا من المرّات وكذلك ايطاليا. ثم زار انجلترا واسكتلندا بصحبة احد زملائه. وأثناء ذلك ظلّ يمارس الرسم بلا انقطاع.
    صور شيكاندر تتضمّن دائما عنصر سرد ودراما وتأمّلات وحالات غموض ونهايات مفتوحة، وكأنه يستحثّ الناظر على أن يمعن النظر أكثر في ما يراه ويتخيّل المقدّمات والمآلات المرتبطة بالأحداث والشخصيات والمواقف التي ينقلها في لوحاته.

    Credits
    linesandcolors.com

    الاثنين، سبتمبر 03، 2018

    في مجلس سلطان المغول

    في عام 1556، وفي سنّ الثالثة عشرة، أصبح "اكبر" ثالث سلاطين المغول، وحَكَم الهند لخمسين عاما. ثمّ خلفه ابنه المسمّى "جهانغير" أو فاتح العالم. وفي الجيل التالي من هذه السلالة، تولّى ابن جهانغير "أي شاه جهان" أو ملك العالم، الحكم في عام 1627.
    كانت طموحات هذه العائلة كبيرة وبلا حدود. وامتدّ حكمها من عام 1526 إلى عام 1857، وسيطرت على أراضٍ في الهند وباكستان وبنغلادش وأفغانستان، وكان لها نفوذ كبير في سائر أنحاء العالم الإسلاميّ.
    وقد مزج هؤلاء الحكّام قوّتهم بحبّهم للفنون، فأصبحوا رعاة كباراً للأدب والفنّ، ووظّفوا ذلك لشرعنة حكم عائلتهم، خاصّة أثناء عهد اكبر وجهانغير وشاه جهان.
    كان المغول معروفين أيضا بجمعهم للأعمال الفنّيةّ، وكانت منزلة الحاكم عندهم تقاس باتّساع مكتبته. ويقال انه عند وفاة اكبر عام 1605، كان في مكتبته أكثر من خمسة وعشرين ألف كتاب، كما رعى تأليف عدد من النصوص المصوّرة وملأ القصور بالفنّانين الذين تلقّوا تدريبهم في بلاد فارس وغيرها، بمن فيهم الرسّام المشهور مير سيّد علي.
    بعد سنوات من تولّي أكبر الحكم، وبالتحديد عندما بلغ الثامنة والعشرين، أصبح يقلقه أنه لم يكن قد وُلد له ولد كي يخلفه على العرش. لذا استشار في الأمر شيخا صوفيّا يقال له سليم، فأكّد له الشيخ انه سيُرزق عمّا قريب بمولود ذكر.
    ولم يمرّ طويل وقت حتى رُزق بولد اسماه سليم تيمّنا باسم الشيخ. وعندما اعتلى سليم العرش عام 1605، قرّر أن يمنح نفسه اسماً شرفيّا هو "نور الدين" ولقباً هو "جهانغير" أي فاتح العالم.
    وأثناء عهد جهانغير، رسم له بختيار رسّام القصر هذه اللوحة/المنمنمة مع بعض ضيوفه. وفيها يجلس السلطان الذي يعتمر غطاء رأس مذهّب أمام خلفية هي عبارة عن قرص ذهبيّ ضخم بداخله شمس، بينما يلامس حوافّ القرص قمر أو هلال صغير، في ما يبدو وكأنه رمز لسلطة الحاكم المطلقة وللحقيقة المقدّسة.
    هنا يجلس جهانغير على مقعد مرتفع مرصّع بالجواهر يحاكي شكله الدائريّ شكل القرص في الأعلى. والسلطان هو أضخم الأشخاص الخمسة المرسومين. وهو يواجه أربعة رجال ملتحين يقفون على سجّادة زرقاء تزيّنها نقوش أزهار وأرابيسك.
    وعلى نفس مستوى السلطان، يقف شيخ صوفيّ يتسلّم منه كتابا هديّة وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة خفيفة. وبحديثه المتبسّط مع الشيخ فإن جهانغير يؤكّد على توجّهاته الروحية. والكلام المنقوش على اللوحة يشير إلى أن السلطان يفضّل زيارة رجل دين على مجالسة الملوك.
    إلى جانب الشيخ مباشرةً يقف سلطان عثمانيّ لا تُعرف هويّته، يرتدي ملابس خضراء مطرّزة بالذهب وعمامة تميّزه كأجنبيّ. وهو ينظر باتجاه العرش ويداه مترابطتان في لفتة احترام.

    أما الشخص الثالث الذي ينتظر استقبال جهانغير له فيُفترض انه جيمس الأوّل ملك انجلترا. وهو مميّز بملابسه الأوربّية ووشاحه وبوضعية ظهوره من الأمام ونظرته المباشرة، بالإضافة إلى المجوهرات والقبّعة التي يعتمرها فوق رأسه.
    أما الشخص الأخير في الأسفل فهو بختيار، رسّام هذه المنمنمة، وهو يرتدي ثوبا اصفر في إشارة إلى انه هندوسيّ ويعمل في خدمة البلاط المغوليّ، وهذا تذكير بأن الفنّانين الذين أبدعوا الفنّ الإسلاميّ لم يكونوا دائما مسلمين.
    أثناء حكم المغول، كان الفنّانون يعامَلون حسب مواهبهم الخاصّة، بعضهم لإتقانه رسم اللوحات النباتية، والبعض الآخر لبراعة تناوله للطبيعة، بينما كان آخرون يقيَّمون لمهارتهم في كتابة الخطّ. وبختيار كان بارعا في رسم البورتريه واشتُهر خاصّة بتصويره الرائع للأيدي.
    يدا الشيخ العاريتان في اللوحة ويدا جهانغير اللتان تزيّنهما المجوهرات توضّح الفرق بين الغنيّ والفقير والتوفيق بين الماديّ والروحيّ.
    لاحظ كيف أن الشيخ حريص على أن يتسلّم هديّة السلطان، ليس بيديه مباشرة، بل ملفوفةً في قطعة قماش، وبذا يتجنّب الاتصال الجسديّ المباشر مع الذات الملكية، الأمر الذي كان يُعتبَر وقتها "تابو" ثقافيّا.
    وهناك مبدأ مشابه يظهر في تصرّف السلطان العثمانيّ الذي يضغط يديه معا على طريقة الهنود في إيماءة احترام. ومن خلال موافقته على تبنّي عادة التحيّة في بلد غريب يزوره كضيف، فإن العثمانيّ يقدّم آيات الإجلال والخضوع لمضيّفه.
    وبالنسبة للملك الانجليزيّ، يمكن رؤية إحدى يديه فقط وهي موضوعة بالقرب من سيفه، لكنها لا تلامسه.
    الرسّام أيضا صوّر نفسه ممسكا بمنمنمة ذات إطار احمر من صنعه وكما لو أنها كنز ثمين. وفي هذه الصورة الصغيرة داخل اللوحة، يعيد رسم ردائه الأصفر كي يؤكّد على هويّته الدينية، ويضع نفسه جنبا إلى جنب مع حصانين وفيل قد تكون هدايا من السلطان إليه. وهو يرسم نفسه في الصورة منحنيا أمام السلطان كعلامة عرفان وتواضع.
    وتحت مقعد جهانغير، هناك ملاكان صغيران اقتبسهما الرسّام على ما يبدو من الرسومات الأوربّية وتتوسّطهما عبارة بالفارسية تقول: أيّها السلطان، ليطل الله في عمرك ألف عام". أما الساعة الرملية الضخمة فهي تذكير واضح بمرور الزمن الذي يتسرّب سريعا من حياة الإنسان.
    والحقيقة أن لا احد يدري إن كان جهانغير قابل ذلك الشيخ فعلا أو زاره سلطان عثمانيّ. لكن المؤكّد أن أيّا من ملوك انجلترا لم يزر البلاط المغوليّ أبدا. غير أن الرسّام حقّق رغبة مليكه وراعيه في أن يبدو حاكما قويّا وفي مكانة تعلو فوق مكانة غيره من الملوك الآخرين، مع مضمون روحيّ.
    لقد وضع الرسّام كلّ هذه العناصر نصب عينيه في اللوحة، لكنّه أيضا وظّفها بذكاء كي يخلّد نفسه أيضا.

    Credits
    khanacademy.org

    الجمعة، يونيو 01، 2018

    رسّام أضواء الشمال


    عاش الرسّام النرويجيّ بيدر بالكا في القرن التاسع عشر وجسّد في لوحاته البعد الرمزيّ للحركة الرومانسية، مع مسحة تعبيرية لم ينافسه فيها أيّ من معاصريه من الرسّامين.
    وقد صوّر بأسلوبه الخاصّ الجمال الفطريّ لبلده النرويج في لوحات دراماتيكية ترفض الفنّ الفيكتوريّ لصالح تبسيط الشكل واللون.
    كان بالكا قد نُسي تماما بعد وفاته. لكن في السنوات الأخيرة أعيد اكتشافه من قبل خبراء الفنّ وجامعي الأعمال الفنّية.
    كان هذا الرسّام شخصا مغامرا وأحد الفنّانين القلائل الذين غامروا بالذهاب إلى الدائرة القطبية. وقد رأى وهو شابّ الجدار الصخريّ الضخم المسمّى بالقطب الشماليّ ورسم طوال حياته المشاهد المتجمّدة في الأطراف القصيّة من النرويج.
    خيال بالكا مليء بالثلج ومتجمّد في تأمّل شيء ما عند أطراف التجربة الإنسانية. والبشر نادرا ما يظهرون في صوره. فقط السفن المحطّمة والبلدات الثلجية التي ترمز لحياة الإنسان.
    كان يرى في شمس منتصف الليل حاجزا صامتا وحَدّاً أخيرا للمعرفة والاستكشاف، وخلف ذلك الحدّ لا يوجد شيء. وعندما كان يقف محدّقا في الثلج، كان يشعر وكأنه واقف أمام نهاية العالم. السماء فوق الصخور خاوية بشكل مخيف، والبحر يمتدّ في فراغ لا إنسانيّ.
    والرسّام يترجم أحاسيسه إلى صور موحشة تتضمّن بضعة عناصر متكرّرة: الجبال والشواطئ والسماء والبحر.
    في ما بعد، عندما أصبحت ذكرى تلك المشاهد بعيدة عن ذهنه، أصبح من السهل عليه استدعاؤها وعكسها في صوره بطريقة أكثر تجريدا. فهو يرسم الجبال الثلجية الشاهقة والمنحدرة وكأنها معلقة فوق الشطآن التي تحتها، ويرسم الشمس ككرة من نار في سماء صفراء.
    ومثل هذه الرؤى المزعجة تشبه تلك التي رسمها سلفه الألمانيّ كاسبار فريدريش، الرومانسيّ الذي رسم هو أيضا الطبيعة باردةً ومخيفة. وبالنسبة لهذين الرسّامين، فإن الطبيعة هي رمز سيكولوجيّ. وتماهي بالكا مع المناظر المتطرّفة يوصل شعورا بعزلة لا نهاية لها. ولهذا السبب، ربّما، لم تبع لوحاته المقفرة جيّدا عندما كان حيّا.


    وعندما مات بالكا في نهاية القرن قبل الماضي، كان الشابّ إدفارد مونك قد بدأ يرسم لوحاته التعبيرية عن سماوات وبحار النرويج غير الحقيقية. وفي الحقيقة كان مونك يكمل الرحلة التي كان قد بدأها بالكا إلى القطب الشماليّ والتي تشبه رحلة داخلية إلى نهايات الليل.
    عاش بالكا في زمن كانت الثورات فيه تلوح في الأفق والمشاعر القومية في ازدياد وعصر الاستكشاف في ذروته. وقد أنتجت تلك البيئة المضطربة ما عُرف بفنّ التسامي، أي الخوف من قوى الطبيعة الذي يقود الإنسان إلى نسيان نفسه كليّا أمام سطوة الطبيعة وجبروتها.
    كان بالكا تلميذا ليوهان دال. ومثل الفنّانين الآخرين، تبع التلميذ خطى معلّمه وأصبحت لوحاته صدى للوحات أستاذه، حيث مناظر الأشجار الداكنة والسفن المحطّمة في طبيعة ثلجية كئيبة ومتمنّعة.
    كانت المناطق القطبية الخطيرة تحتلّ جزءا كبيرا من الرسم الرومانسيّ، وكانت أشبه ما تكون بالمتاهات المظلمة. وأكثرها لم يكن قد اكتُشف بعد، كما كان ارتيادها في القرن التاسع عشر يشبه ارتياد الفضاء في القرن العشرين. وقد جلب ذلك كثيرا من الإثارة والمخاوف.
    في ما بعد، أصبحت رسومات بالكا مختلفة، صارت تشبه الألوان المائية الصينية بظلالها الضبابية وجبالها الطافية التي تحلّق كممالكَ في السماء. وحتى بحاره أصبحت مظلمة ومليئة بالدراما والعنف.
    ويبدو أن الرسّام لم يجد صوته الخاصّ أبدا. لكن انجازاته تتمثّل في حقيقة انه لم يتوقّف مطلقا عن النظر إلى الأشياء من حوله. لكن المؤسف أن سمعته كفنّان تلاشت بعد موته دون أن يترك أثرا في بلده أو في العالم. واستمرّ هذا الحال حتى السنوات الأولى من القرن العشرين عندما عاود فنّه الظهور على الساحة العالمية.
    في هذه الأيّام، يبدو العالم منشغلا كثيرا بمستقبل القطب الشماليّ. وهناك قلق كبير بسبب ذوبان الثلوج في تلك الأماكن. وفي زمن الرسّام لم يكن الناس قد سمعوا بعد بالتسخين الحراريّ، ولم يكن لديهم معلومات دقيقة عن المحيط القطبيّ.
    كان بيدر بالكا إنسانا محبّا للطبيعة. ولوحاته كانت جديرة بالثناء، وحياته كانت تستحقّ الإعجاب. وعندما تقرأ مذكّراته التي كتبها قبل رحيله، لن يساورك شكّ أبدا في أنه كان إنسانا عظيما وأن معظم الناس يودّون لو عرفوه لتواضعه وشجاعته وخياله الواسع.

    Credits
    independent.co.uk

    الخميس، مايو 24، 2018

    جيروم والنمر


    القصص التي تتحدّث عن الارتباط الوجدانيّ بين الإنسان والذئب كثيرة. وربّما يعود سبب هذا الارتباط إلى حقيقة أن الذئاب جزء من آثار العالم القديم والمندثر عندما كان الإنسان واقعا بالكامل تحت رحمة الطبيعة وعاجزا عن السيطرة على قواها القاهرة.
    وغالبا ما تقترن الذئاب بالحياة في الصحاري والجبال التي تذكّر الإنسان بأسلافه الأقدمين وبخلود العالم. ولهذا السبب أصبح هذا الحيوان رمزا لاستمرارية الوجود الإنسانيّ وديمومة الحياة على الأرض.
    وفي مقابل وفرة القصص التي تحكي عن العلاقة بين الإنسان والذئب المعروف بقابليّته للاستئناس، لا تتوفّر قصص مشابهة عن حيوان كالنمر، مثلا، لسبب واضح. فالنمر حيوان متوحّش جدّا، وهو الحيوان الوحيد الذي لا يمكن للإنسان أبدا أن يروّضه أو يأمن شرّه.
    وحكايات الرحّالة الأوائل الذين لم يروا النمر تُصوّره على انه مخلوق خياليّ لا يختلف كثيرا عن التنّين. وبالنسبة للأوربّيين، ، كان النمر، وحتى القرن الثامن عشر، ما يزال أشبه ما يكون بالأسطورة، إذ لم يكن احد قد رآه عيانا. والصورة الوحيدة المتوفّرة عنه مصدرها كتاب مصوّر عن هيئات الحيوانات يعود تاريخه إلى القرون الوسطى.
    والفنّانون الذين رسموا النمر تخيّلوه في هيئة حيوان عنيف وشرس جدّا؛ أكثر شراسةً حتى من الأسد. أما الهنود والكوريون والصينيون فقد عرفوه منذ أقدم الأزمنة. والكوريون يعتبرون النمر حيوانا مقدّسا، وظهوره في مكان ما يُعدّ بشارة خير وعلامة فأل.
    الرسّام الاستشراقي الفرنسيّ جان ليون جيروم رسم في عام 1882 لوحة بعنوان أحزان الباشا، استوحاها من قصيدة كان قد قرأها لمواطنه الروائيّ فيكتور هيغو بنفس العنوان.
    والقصيدة تتحدّث عن باشا تركيّ كان قد استأنس نمرا واحتفظ به في قصره إلى أن مات "أي النمر". ويصف الكاتب الباشا وهو جالس أمام الحيوان الميّت وقد علت وجهه أمارات الألم والحزن.
    كان جيروم نفسه قد طاف ببلاد الشرق وسجّل في العديد من لوحاته بعض المناظر التي رآها في رحلاته الكثيرة إلى مصر وتركيا وغيرهما. وبعض تلك اللوحات تصوّر مشاهد صراع دامٍ حتى الموت بين بشر وحيوانات مفترسة.


    في "أحزان الباشا"، نرى الرجل التركيّ جالسا يتأمّل في صمت نمره الميّت المتمدّد على السجّادة التي تناثرت فوقها الورود الحمراء. اللوحة صغيرة نسبيّا، لكنها تعكس حالة غريبة ونادرة من التعاطف بين الإنسان وحيوان يصعب تصوّر أن يتمّ ترويضه أو أن تنشأ بينه وبين البشر علاقة ودّ وألفة.
    علماء الحيوان يقولون إن من عادة النمر أن يستبدّ به الغضب عندما يرى أيّ كائن حيّ يتحرّك بالقرب منه. وحتى لو عومل معاملة حسنة فإنه لا يتردّد في تمزيق اليد التي أطعمته. وكلّ مؤرّخي الطبيعة تقريبا مجمعون على هذه السمة العدوانية في سلوك هذا الحيوان.
    كما أن النمر معروف بطبيعته الأنانية، فعندما يقتل فريسة فإنه لا يأكلها في نفس المكان، بل يسحبها بسرعة إلى داخل الغابة حيث يمكنه أن يلتهمها هناك بمفرده ودون أن يُشرك معه حيوانا آخر.
    لكن النمر في لوحة جيروم مختلف، فهو مصوّر بطريقة رائعة وكأنه خارج لتوّه من حكاية شرقية قديمة. وبعض مؤرّخي الرسم رأوا في اللوحة ما يشبه النبوءة بقرب أفول شمس الإمبراطورية العثمانية.
    وأيّا تكن الرسالة، فإن جان ليون جيروم نجح في نيل استحسان النقّاد في زمانه، الذين أشادوا بمقدرته الفائقة في إخفاء أيّ اثر للفرشاة وفي إبراز أدقّ التفاصيل، كنوعية النسيج والفراء الناعم والأزهار وغيرها.
    كان من عادة هذا الفنّان أن يختار لصوره أحداثا بعيدة في الزمان والمكان. وكان يفضّل غالبا رسم الأساطير الكلاسيكية والتاريخ القديم وثقافات بلدان الشرق الأوسط والحيوانات الغريبة.
    وقبل جيروم بخمسين عاما، رسم الفنّان والشاعر الرومانسيّ الانجليزيّ وليام بليك صورة يظهر فيها نمر جميل وشرس مع بضعة أبيات شعرية متأمّلة تتغنّى "بعينيه ويديه الخالدتين" وبتناسق أعضائه ورعبه القاتل.
    ثم يتساءل بليك: هل كان الربّ يبتسم عندما خلق النمر، وهل من خَلَقه هو نفس الربّ الذي خلق الحمل"؟! وبالنسبة لبليك فإن ما يجعل من النمر أعجوبة من أعاجيب الطبيعة ليس جماله، وإنّما شراسته وقوّته.
    وأنت تتأمّل هذه اللوحة بألوانها الذهبية والأرجوانية البديعة، سيُخيّل إليك انك أمام مخلوق وديع وحالم. وهذا بالطبع تصوير مبالغ فيه ولا يمتّ إلى الواقع بصلة.
    لكن في هذه الأيّام فإن للوحتي جيروم وبليك أهمّيّة ومغزى، خاصّة في ضوء تحذير العلماء من أن النمور يمكن أن تختفي من العالم نهائيا خلال العشر سنوات القادمة بسبب الصيد الجائر والظروف البيئية غير المواتية.

    Credits
    joslyn.org

    الثلاثاء، مارس 27، 2018

    الليلة التي ألهمت فان غوخ

    ما أن يُذكر اسم فنسنت فان غوخ حتى يستذكر الناس قصّة قطعه لأذنه؛ ذلك الفعل الذي أقدم عليه أثناء نوبة من نوبات الاكتئاب التي لازمته حتى نهاية حياته.
    لكن لكي نعرف فان غوخ الحقيقيّ، يجب أن نتجاوز الصورة الكاريكاتيرية الشائعة عنه باعتباره إنسانا معذّبا وعبقريّا اُسيء فهمه، وأن نركّز بدلا من ذلك على صورته كإنسان مجتهد في عمله ومتديّن جدّا وصعب المزاج.
    فان غوخ وجد مكانه اللائق في الفنّ، وإنْ بعد مماته، وأنتج أعمالا انفعالية الطابع وجذّابة بصريّا طوال فترة اشتغاله بالرسم والتي لم تستمرّ أكثر من عشر سنوات.
    وقد علّم نفسه بنفسه ورسم أكثر من ألفي لوحة زيتية ومائية. وأصبحت لوحاته تحظى بشعبية كبيرة بعد موته. وأثناء حياته كتب عشرات الرسائل، خاصّة إلى أخيه ثيو، أوضح فيها بعض أفكاره ورؤاه عن الفنّ.
    في عام 1874، كتب إلى شقيقه يقول: أحبّ المشي كثيرا وأعشق الطبيعة، وهذا هو الطريق الحقيقيّ لكي نتعلّم كيف نفهم الفنّ بشكل أفضل. الرسّامون يفهمون الطبيعة ويحبّونها وهي تعلّمهم كيف يرون العالم".
    كانت الطبيعة والناس الذين عاش بينهم هما العنصران اللذان عزّزا ميول فان غوخ الفنّية. وهو لم يكن نسيج وحده في هذا، فقد كانت الطبيعة موضوعا يحظى بالشعبية الكبيرة في فنّ أواخر القرن التاسع عشر.
    كان الرسّامون وقتها غير راضين عن التغييرات التي أحدثتها المدنية الحديثة. لذا بحث الكثير منهم عن أماكن تشبه الجنّة الأرضية، حيث يمكن لهم أن يراقبوا الطبيعة مباشرة ويضمّنوا أعمالهم بعض معانيها السيكولوجية والروحية.
    كان فان غوخ مفتونا، على وجه الخصوص، بحياة الفلاحين وأسلوب العيش في الريف. وأعماله المبكّرة تحتوي على صور لفلاحين هولنديين وطبيعة ريفية رسمها بألوان مزاجية ومظلمة.
    في عام 1886، انتقل الرسّام إلى باريس حيث اطّلع على أعمال الانطباعيين الجدد وعلى لوحات جورج سُورا النُقَطية. وقد ألهمته الألوان المتناغمة لهؤلاء وضربات فراشيهم القصيرة واستخدامهم الوفير للطلاء بأن يُضفي على ألوانه سطوعا وأن يوظّف فرشاة فضفاضة ويركّز على الخواصّ الفيزيائية للألوان على رقعة الرسم.
    والأسلوب الذي ابتدعه في باريس وواظب عليه حتى وفاته عُرف بـ "ما بعد الانطباعية". وهو مصطلح يتضمّن أعمالا لرسّامين وحّدهم اهتمامهم بالتعبير عن مشاعرهم الانفعالية والسيكولوجية تجاه العالم من خلال توظيف الألوان الجريئة والصور التعبيرية، وغالبا الرمزية.
    كتب فان غوخ ذات مرّة متحدّثا عن ذهن ومزاج الفنّان وهو يرسم، فأشار إلى حساسيته الفائقة تجاه اللون ولغته الخاصّة وتأثيرات ذلك على التباينات والتناغمات في اللوحة.
    في عام 1888، عاد الرسّام إلى الريف الفرنسيّ ليصبح قريبا من بيئة الفلاحين الذين كان قد استلهمهم في وقت مبكّر. وهناك رسم مناظر للطبيعة وبورتريهات له ولغيره وبعض المناظر الداخلية والحياة الساكنة المليئة بالرموز الشخصية.

    وقد كتب آنذاك إلى شقيقه رسالة قال فيها: هذا اليوم، راقبت الصباح من نافذتي قبل أن تشرق الشمس بوقت طويل. لم يكن هناك شيء باستثناء نجمة الصباح التي بدت كبيرة ومتوهّجة".
    كان فان غوخ يصف المنظر الذي ألهمه رسم تحفته الأشهر، أي سماء مرصّعة بالنجوم عام 1889. والنافذة التي كان يشير إليها كانت في ملجأ في ضاحية سان ريمي حيث كان يقضي فترة نقاهته من مرضه ويرسم.
    ولوحته هذه تستدعي الروحانية التي وجدها الرسّام في رحاب الطبيعة. والصورة مشهورة جدّا لأنها تدفع بفعل الرسم إلى خارج المنطقة التي اعتاد الرسّامون أن يجسّدوا من خلالها العالم بشكله الفيزيائيّ أو الواقعيّ.
    هذه الصورة الزيتية المتوسّطة الحجم تهيمن عليها سماء ليلية ينيرها ضوء القمر والنجوم التي تحتلّ ثلاثة أرباع مساحة الصورة. والسماء تبدو مضطربة ومهتزّة بعنف، مع أنماط ملتفّة كالدوّامات التي تتدحرج عبر مساحة الصورة كالأمواج.
    سماء فان غوخ مأهولة بالأجرام السماوية الساطعة، ومن بينها هلال في أقصى اليمين، وإلى يسار الوسط تبدو نجمة الصباح تحيط بها دوائر وحيدة المركز تصطبغ بالأبيض المشعّ وبالأضواء الصفراء.
    وأسفل هذه الألوان التعبيرية تنام قرية هادئة تتألّف من بيوت متواضعة تقوم في وسطها كنيسة يرتفع برجها فوق الجبال الداكنة الزُّرقة في الخلفية.
    وفي مقدّمة هذا المشهد الليليّ المهيب أيضا، تقوم شجرة سرو عملاقة يشبه شكلها ألسِنة اللهب وترتفع إلى أقصى الطرف العلويّ للصورة. ويبدو أن وظيفة الشجرة هي الربط البصريّ ما بين الأرض والسماء.
    ومن الناحية الرمزية، يمكن النظر إلى السرو كجسر بين الحياة كما تمثّلها الأرض والموت كما ترمز إليه السماء. كما أن أشجار السرو ترتبط عادةً بالمقابر والحِداد.
    في ذلك الوقت، كتب فان غوخ لأخيه رسالة يقول فيها: إن منظر النجوم في السماء يجعلني دائما احلم، وكثيرا ما اسأل نفسي لماذا تبدو بقع الضوء في قبّة السماء الزرقاء ابعد من البقع السوداء على خارطة فرنسا".
    "ليلة مرصّعة بالنجوم" تعتمد على الملاحظات المباشرة لفان غوخ وكذلك على مخيّلته وذكرياته وانفعالاته. برج الكنيسة، مثلا، يشبه الأبراج التي سبق أن رآها في موطنه هولندا، وليس في فرنسا. والأجرام التي تأخذ شكل الدوّامات تحاكي الملاحظات الفلكية المنشورة عن سحب الغبار والغاز المسمّاة بـ "السُّدُم".
    التوليف المتوازن والمعبّر في هذه اللوحة مشيّد من وضع شجرة السرو وبرج الكنيسة والغيوم السديمية في وسطها. وضربات الفرشاة القصيرة مع الطلاء السميك تبثّ في نسيج اللوحة بأكمله حركة هائجة ومُغضَبة.
    كان فان غوخ يرى أن الليل أكثر حيويةً وأغنى بالألوان من النهار. ومثل هذا المزج في اللوحة بين التباينات البصرية المختلفة أنتجه خيال فنّان كان يعشق الليل ويجد فيه مصدرا دائما للجمال والرهبة.

    Credits
    smithsonianmag.com

    الخميس، فبراير 08، 2018

    فيرمير والآخرون


    لماذا تكلّف نفسك عناء الذهاب إلى متحف لرؤية لوحة عظيمة، بينما بإمكانك أن تراها على شاشة حاسوبك وعلى مسافة اقرب ممّا يتيحه الحضور لأيّ متحف؟
    في هولندا القرن السابع عشر، كانت المعارض الفنّية نادرة، وكان الناس بشكل عامّ يرون اللوحات في مجموعات خاصّة، أو وهي معروضة للبيع في معرض، وأحيانا عندما تُقدَّم كجوائز.
    ولو قُدّر للناس في ذلك الوقت أن يروا الإمكانيات الكبيرة التي تُعرض بها الأعمال الفنّية في المتاحف هذه الأيّام لأصيبوا بالدهشة: الغرف الواسعة، وتقنيات الإضاءة الخاصّة، والألوان اللامعة على الجدران، وتزاحم الناس الذين يُطلب منهم أن يبقوا على مسافة.
    صُوَر يوهانس فيرمير كانت تُرسم بطلب من أشخاص، وكان الناس يرونها في فراغات اصغر وأكثر إعتاماً. كانوا يرونها في النهار عندما يكون الطقس مناسبا، وأحيانا كانوا يقدّرونها أكثر في الأضواء الباهتة في وقت ما بعد الظهيرة، أو مضاءةً بالشموع في الأمسيات المظلمة والباردة. وبعض تلك اللوحات كانت تُحمى بستارة أو حاجز أو تؤخذ إلى خارج الغرف لرؤيتها في مكان خاصّ.
    النوعية الخاصّة سمة غالبة في لوحات فيرمير، بمعنى أن فيها دائما شيئا ما يدفع المتلقّي لأن يشعر بأن هذه اللوحة أو تلك رُسمت من اجله فقط.
    ومن هنا يبرز السؤال: ترى ما الذي يغري أيّ شخص لأن يرى تلك اللوحات وسط حشد من الناس في متحف؟ ما الشيء الذي لا يمكن إيصاله في الصور والطبعات المستنسخة؟
    اللوحات الأصلية المعروضة في المتاحف تقدّم لنا أشياء شخصية لا توفّرها الصور المستنسخة. القماش يقدّم لك نفسه، مقاسه يناسب مقاسك، وأنت تقرؤه بشكل طبيعيّ عندما تراه عموديّا أمام عينيك.
    أمام لوحة في معرض، ستفهم كيف حرّك الرسّام يده ليعمل، وكيف قرّبها ثم أبعدها عن القماش، وستلحظ بوضوح تغيير اتجاه الفرشاة وكثافة النسيج وسمك الطلاء.
    وربّما يكون فيرمير قد اخذ هذا من فنّانين آخرين، لكن فنّه مختلف. وبعكس الآخرين، فإن صُوَره تتوهّج على الجدران كما لو أنها مضاءة من داخلها. وشخوصه يجذبوننا أكثر ويحرّضوننا على أن نتوقّف وننظر. وشيئا فشيئا، نبدأ في فهم إيقاع الصورة ونترك أعيننا تتجوّل حيث يسمح لنا الرسّام، نتوقّف حيث يتوقّف، ونتحرّك حيث يتحرّك.
    ثم نبدأ في اكتشاف المعالم الأساسية في اللوحة، ونرى الأشياء المكرّرة ومدى تناسبها مع بُنية التوليف. ثم نرى تحوّلات الألوان من القاتمة إلى الفاتحة وبالعكس. وفي الأثناء، نشعر بنسيم "ديلفت" البارد والخفيف من حولنا ونحسّ بلمعان اللؤلؤ ورهافة الريش والفِراء والحرير.


    نساء فيرمير يقفن في غرف مُشعّة. وهو يمسك بهنّ في لحظات تفكير، أو وهُنّ يبتسمن أو يتحدّثن. وأنت تراقب وتتمعّن متأمّلا أن يكون ما تراه حقيقيّا. وأمام اللوحة، أنت تقف على مسافة قريبة من المكان الذي كان يقف فيه فيرمير عندما رسمها. تُحوّل وجهك باتجاه الضوء المتسرّب من النافذة، وتنتظر أن تتطوّر الصورة في حدقة عينك وأن تترك انطباعا لا يُمحى من ذاكرتك.
    ما الذي تتمنّاه عندما تذهب إلى معرض لترى لوحة لفيرمير؟ ما تتمنّاه غالبا هو أن تُحْدِث الصورة في ذهنك ارتباطا مع شيء ما يدوم ويستمرّ إلى ما لا نهاية.
    فيرمير وزملاؤه الهولنديون الآخرون، مثل جيرارد تير بورش و غيريت دو و بيتر دي هوك و غابرييل ميتسو و فرانز فان ميريس و يان ستين ، كانوا يرسمون أفكارا متجذّرة في حياة عصرهم. لكن الطريقة التي كانوا يقدّمون بها تلك الأفكار تُعزى إلى الرؤى الجمالية المشتركة السائدة في ذلك الوقت.
    تأمّل صُوَر نساء فيرمير بمعاطفهنّ الأنيقة وقصّات شعرهنّ الحديثة. كان يصوّرهن في لحظات حميمة وهنّ يعزفن الموسيقى أو يطرّزن الملابس و يؤدّين أعمالا منزلية أخرى. وكثيرا ما تُربط هذه الموتيفات بفيرمير، لكننا نكتشف أن فيرمير إنّما كان يترّسم خطى تير بورش، وهو رسّام منجِز كان يكبر فيرمير بخمسة عشر عاما على الأقلّ. وكان هو أوّل من استكشف صور النساء في لحظات خاصّة وحالات حميمية.
    وأكثر الرسّامين ابتكارا في ذلك الوقت كانوا يعرفون ماذا كان زملاؤهم من مختلف الأعمار يفعلون. حتى الرسّامين الذين كانوا يعملون في أماكن بعيدة كانوا على تواصل مع زملائهم الآخرين. في ذلك الوقت كان السفر من وإلى حواضر هولندا الصغيرة المساحة سريعا وسهلا نسبيا.
    لذا كان من السهل على الرسّامين أن يروا أعمال بعضهم البعض في المحترفات والمجموعات. ورغم تشابه الموتيفات، إلا أنهم لم يكونوا يقلّدون بعضهم البعض، بل كان كلّ منهم يترجم أفكاره الخاصّة ويركّز على مواطن قوّته المتفرّدة. وأحيانا كانوا يتنافسون على أيّ منهم يستطيع رسم أكثر الملابس جمالا وابتكارا.
    النظر إلى لوحات رسّامين متعدّدين من شانه أن يوسّع فهمنا للطريقة التي كان يعمل بها رسّامو العصر الذهبيّ الهولنديّ. لكن ممّا لا شك فيه أن صُوَر فيرمير بالذات هي التي تسترعي اهتمامنا أكثر من غيرها، رغم جمال أعمال الآخرين وتشابه أفكارها.
    قد يكون السبب هو أن لا احد استطاع تشييد التوليف بمثل دقّة وبراعة فيرمير، ولهذا السبب قُدّر لأعماله أن تستمرّ وأن يُكتب لها الخلود أكثر من غيره.

    Credits
    theartnewspaper.com

    الثلاثاء، يناير 23، 2018

    بروست والرَّسم

    تتألّف رواية "البحث عن الزمن الضائع" لمارسيل بروست من سبعة مجلّدات وثلاثة آلاف صفحة. وطول الرواية هو احد الأسباب التي تجعل الكثيرين يتردّدون في قراءتها. لكنّ النقّاد يحتفون بها كثيرا لشغفها بكلّ شيء تقريبا، من المعمار والبصريات إلى الموسيقى الكلاسيكية والموضة والطبخ الفرنسيّ.
    وهناك من يصف الرواية بأنها احد أكثر الأعمال البصرية ثراءً وعمقا في الأدب الغربيّ بسبب العدد الكبير من اللوحات الفنّية التي يتحدّث عنها المؤلّف في نسيج الرواية. وبروست نفسه قال ذات مرّة للناقد جان كوكتو: كتابي هو عبارة عن رسم".
    كان بروست يحبّ الرسم الكلاسيكيّ والحديث، وكان منجذبا إلى الانطباعية والتكعيبية على وجه الخصوص. وقبل أن يكتب روايته، كان يحمل في رأسه متحفا كاملا من اللوحات. إذ كان قد رأى اللوفر كثيرا وقرأ العديد من كتب الفنّ. وقد استدعى هذه الأعمال الفنّية إلى عقله وقام بإعادة استنساخها كي يملأ بها الممرّات الطويلة والمتعرّجة لروايته.
    وإذا كنت لم تقرأ بعد رواية بروست وتنوي قراءتها الآن، فإن كتاب ايريك كاربيلز بعنوان "الرسم في رواية بروست" يصلح لأن تتّخذه رفيقا لك أثناء القراءة. وفكرة الكتاب بسيطة، ومن المدهش أن أحدا لم يفكّر بها من قبل. فالمؤلّف يستعرض عشرات اللوحات التي أشار إليها بروست في روايته ويضمّن الكتاب نسخا فاخرة من كلّ لوحة ويورد إلى جوارها المقطع أو الفقرة التي ذكرها بروست فيها في سياق روايته.
    كان بروست يتردّد على متاحف باريس باستمرار. وقد تشكّل إحساسه بالفنّ من خلال زياراته تلك، بالإضافة إلى رحلاته الأخرى، سواءً كانت حقيقية أو متخيّلة، إلى متاحف فلورنسا ولندن وفينيسيا.
    وهو يشير إلى اللوحات في الرواية لأنه يحبّها، وقد وظّفها لتوضيح أوصافه ولاستثارة أنواع شتّى من الأمزجة والانفعالات في ذهن القارئ. ومن بين تلك اللوحات سلسلة سوسن الماء لمونيه، و الحرس الليليّ لرمبراندت، و صلاة نهاية اليوم لجان فرانسوا ميلليه، و مولد فينوس لبوتيتشيللي، و الربيع لنيكولا بوسان، و خلق الكواكب لميكيل انجيلو، و الفيلسوف المتأمّل لرمبراندت، و بورتريه شابّ مع كتاب لبرونزينو، وبورتريه امرأة لبيير أوغست كوت، وامرأة تمسك بميزان لفيرمير، بالإضافة إلى لوحات لويسلر وروبنز وشاردان وجيوتو وفان دايك وفاتو وغوستاف مورو وغيرهم.
    وكلّ لوحة تفتح نافذة على خيال بروست، ولكنها أيضا تثري النصّ بعناصر بصرية وتوفّر للقارئ فضاءً للتأمّل الخاصّ. والإشارة إلى لوحة ما تُظهر الراوي وهو ينظر إلى الحياة من خلال عيون أشخاص آخرين فيدرك أن هناك عوالم خاصّة كثيرة داخل هذا العالم الذي نشترك فيه مع آخرين.
    كاربيلز نفسه هو أيضا فنّان وصاحب نثر رائع. وأنت من خلال قراءة كتابه ستزور اللوفر وغيره من المتاحف عديدا من المرّات. وقد واتته فكرة الكتاب من رغبته في رؤية هذه اللوحات مجتمعةً في مكان واحد. لذا سترى اللوحات التي كان بروست يحبّها وستفهم لماذا كان شغوفا بها. كما أن الكتاب يساعدك على رؤية المشاهد التي يصفها وتلمُّس أهميّة الرسم في روايته.
    وبروست يتحوّل من لوحة إلى أخرى بما يتناسب مع هذا السياق أو ذاك. هو مثلا يرى امرأة تقف أمام لوحة لرسّام عصر النهضة الايطاليّ جيوتو، ثم يقارنها بامرأة يعرفها. ثم يتحدّث عن لوحة فيرمير منظر لديلفت فيقارنها بحياته هو ويشبّهها بقصيدة تثير أحاسيس مركّبة، فيها انجذاب إلى العالم المحسوس وفي نفس الوقت رفض له. وفي مكان آخر يتحدّث عن سماوات باريس التي تذكّره بأجواء لوحات مونتينا وفيرونيزي.
    يقول بروست إن ما يميّز الكتاب الجيّد هو المتعة التي نحصل عليها عندما نعيده إلى الرفّ والحكمة التي نكتسبها في اللحظة التي يغادرنا فيها المؤلّف.
    وإذا لم تكن تحبّ الفنّ والرسم، فلن تحبّ بروست، لأن الفنّ في كلّ مكان في كتاباته. والطريقة التي يرى بها العالم الذي رسمه في كتابه توسّع المجال البصريّ للقارئ وتغذّي مخيّلته.
    وإن كنت ممّن لهم شغف بالأدب وبتاريخ الفنّ، فإن كتاب كاربيلز يناسبك، وربّما تحتاج لأن تكون قد قرأت ولو صفحات من رواية بروست كي تقدّر هذا الكتاب الجميل.
    أما إن كنت قد قرأت الرواية كاملة، فإن تقليب صفحات هذا الكتاب سيمتّعك وينعش حواسّك، لأنه يشبه مطالعة ألبوم صُوَر عن جمال منسيّ.

    Credits
    paintingsinproust.com

    السبت، نوفمبر 25، 2017

    ميتسو: عودة إلى الضوء


    عندما يأتي الحديث عن الرسم الهولنديّ، فإن أسماء مثل رمبراندت وفيرمير وروبنز هي الأسماء التي يعرفها الناس.
    لكن هل سمعت من قبل باسم غابرييل ميتسو؟
    فيرمير وميتسو عاشا في نفس العصر، غير أن ميتسو (1629–1667) كان النجم اللامع في العصر الذهبيّ للرسم الهولنديّ في القرن السابع عشر، واستمرّ كذلك لفترة طويلة.
    وميتسو كان أيضا الفتى الأوّل في القرن التاسع عشر، أمّا فيرمير فلم يُكتشف إلا في بدايات القرن العشرين.
    في أيّامه، كان ميتسو محبوبا كثيرا في مختلف أنحاء أوربّا. وقد رسم في عام 1664 واحدة من أهمّ لوحاته "فوق" واسمها "رجل يكتب رسالة"، ويظهر فيها شابّ وسيم بملابس سوداء وشعر طويل، يجلس للكتابة أمام طاولة مغطّاة بقماش مطرّز.
    كما رسم في نفس ذلك العام لوحة أخرى "الصورة أسفل" بعنوان "امرأة تقرأ رسالة"، وفيها تظهر امرأة ترتدي فستانا اصفر وتنّورة زهرية رُصّعت من منتصفها بالذهب، وعلى رأسها وشاح من النوع الذي لم يكن يلبسه في الماضي إلا الملوك. ويُفترض أن الرسالة التي تقرأها المرأة هي نفسها التي كان يكتبها الشابّ في اللوحة السابقة.
    الملابس الفخمة مرسومة ببراعة وكذلك التفاصيل. والمرأة تبدو منشغلة كثيرا بقراءة الرسالة، لدرجة أنها لم تنتبه إلى أن إحدى فردتي حذائها انزلقت بعيدا.
    في أعماله المبكّرة، رسم ميتسو مناظر دينية بالإضافة إلى صور للحياة اليومية في مدينته الصغيرة ليدن. وعندما انتقل إلى أمستردام عام 1650، رسم مشاهد لأسواق مزدحمة ولأشخاص، في محاولة لمسايرة الذوق الفنّي السائد آنذاك في المدينة المتطوّرة والمزدهرة.


    وأيّا كان الموضوع الذي يرسمه، فإن ميتسو كان يضمّن كلّ لوحة من لوحاته قصّة، رغم أن القصّة ليست واضحة دائما. لكنها في النهاية تصوّر مشاعر وانفعالات حقيقية: امرأة تطرّز الدانتيل ، خادمة تقشّر التفّاح، رجل يدخل غرفة بالقرب من مدفأة، طفل مريض، زوج وزوجته يتناولان إفطارهما و امرأة تعزف الموسيقى بصحبة رجل فضوليّ.
    كان ميتسو حكواتيّا على طريقته، لكنه غالبا لا يفصح عن بداية ووسط أو نهاية القصّة، بل يريدنا أن نتأمّل مناظره ونفهمها، كلّ بحسب ما يرى. ولوحاته هذه كانت مثار نقاش في غرف الرسم في هولندا في القرن السابع عشر.
    ميتسو هو بلا شكّ رسّام سرديّ، وإذا كان لا يخبرنا عن نهاية الفيلم أو القصّة، فإن فيرمير كان أكثر غموضا منه من عدّة أوجه. فتاة فيرمير ذات القرط اللؤلؤيّ، وكذلك نساؤه الأخريات، تبدو حياتهنّ متوقّفة مؤقّتا في لحظة بين اللحظات.
    أما شخوص ميتسو فآتون من مكان ما وذاهبون إلى آخر. وأنت لا تستطيع أن تعرف إلى أين سينتهي بهم الطريق.
    في القرن العشرين أفل نجم ميتسو أو كاد، بينما أصبح رفيقه فيرمير النجم الهولنديّ الأشهر في العالم، بخلفياته المسطّحة وألوانه الباردة ونظرات شخوصه إلى البعيد، بحيث يبدو أكثر تجريدا بالنسبة للمتلقّي الحديث.
    غير أن خبراء الفنّ يتوقّعون لميتسو عودة قويّة ووشيكة إلى مركز الضوء، خاصّة مع تجدّد الاهتمام بفنّه في أوساط الرسم في العالم.

    Credits
    rijksmuseum.nl

    الأحد، نوفمبر 12، 2017

    لُوفر أبو ظبي


    أن يُشيّد في عاصمة عربية، وخليجية بالتحديد، فرع لمتحف عالميّ مشهور كاللوفر هي ولا شكّ فكرة رائعة.
    غير أن هذه الفكرة ليست بالجديدة تماما، فالعديد من المتاحف العالمية المشهورة سبق أن فتحت لها فروعا في دول أخرى. وبفضل مثل هذه المشاريع، تحوّلت مدن كانت مغمورة أو شبه منسيّة إلى مناطق جذب ثقافيّ يقصدها المهتمّون برؤية كنوز الفنّ العالميّ.
    وفي مدينة مثل أبو ظبي، الممتلئة بناطحات السحاب المشيّدة من الخرسانة والحديد والزجاج، كان لا بدّ من وجود صرح آخر يوازن بين ما هو تجاريّ وثقافيّ.
    ويُنتظَر أن يضيف المتحف الكثير إلى القوّة الناعمة لدولة الإمارات ويحوّل العاصمة إلى مدينة للتسامح الحضاريّ وجسر بين الحضارات المختلفة.
    وأبو ظبي ليست الوحيدة في منطقة الخليج من حيث تركيزها على التاريخ والثقافة، فقد سبقتها كلّ من سلطنة عمان وإمارة دبي اللتين افتتحتا في السنوات الأخيرة دُوراً للأوبرا وقاعات للموسيقى الكلاسيكية.
    ولوفر أبو ظبي هو أوّل فرع لمتحف اللوفر يُدشّن خارج فرنسا. ويقال أنه المتحف الأغلى في العالم حتى الآن، إذ اُنفق على إنشائه حوالي بليون دولار أمريكيّ. لكن هذا ليس بالمبلغ الكثير إذا ما أخذنا في الاعتبار مردوده الكبير، من حيث أنه سيغيّر صورة هذه المدينة وسيضيف إلى جاذبيّتها السياحية والتجارية بُعدا ثقافيا وحضاريا.
    وسيعمل المتحف كمؤسّسة مستقلّة على الرغم من انه سيحمل اسم اللوفر للثلاثين عاما القادمة، كما تنصّ الاتفاقية. وقد بُديء العمل فيه عام 2007 وكُلّف بوضع تصميمه مهندس فرنسيّ مشهور هو جان نوفيل.
    وحسب نوفيل، المعروف بشغفه بالمتاحف والذي سبق له أن صمّم متحف قطر الوطنيّ، فإن المبدأ الذي اعتمده في التصميم هو ضرورة أن ينتمي المتحف إلى الجغرافيا والثقافة المحليّة وإلى هويّة البلد الحاضن.
    وقد روعي في التصميم طبيعة التراث والبيئة المحلية الإماراتية بحيث تتفاعل في المكان السماء الضخمة مع أفق البحر وأرض الصحراء. والمتحف أشبه ما يكون بأرخبيل في البحر تعلوه قبّة ضخمة على شكل مظلّة مشيّدة من الفضّة والحديد والألمنيوم.
    والقبّة الفضّية مزيّنة بأنماط ارابيسك على هيئة نجوم تطفو فوق الغاليريهات منتجةً ما يشبه المطر الضوئيّ، بحسب وصف المصمّم. ولكي يصل الضوء إلى الطابق الأرضيّ، يجب أن يعبر ثمان طبقات من الثقوب التي تنتج أنماطا متحوّلة تحاكي ظلال أشجار النخيل المتشابكة في واحات الإمارات أو أسطح الأسواق التراثية العربية.
    وقد واكب المشروع في بداياته نقاش فرنسيّ واسع تركّز حول مخاطر إقراض الكنوز الوطنية إلى بلد شرق أوسطيّ مقابل أموال البترول. وجزء من السجال كان يدور حول الظروف المناخية في الإمارات واحتمال تلف القطع الفنّية أثناء نقلها إلى أماكن بعيدة.
    لكن في النهاية انتصرت فكرة المشروع بعد أن التزمت الجهات الإماراتية باتخاذ تدابير احترازية لحماية القطع الفنّية من العوامل المناخية في بلد تصل فيه درجة الحرارة إلى أكثر من أربعين درجة مئوية صيفاً.
    ومنذ الإعلان عن افتتاح لوفر أبو ظبي في سبتمبر الماضي، ازدادت وتيرة الرحلات الجويّة من باريس إلى أبو ظبي لنقل المعروضات الفنّية كي تصبح جاهزة يوم الافتتاح. وقد حصل المتحف الناشئ على أكثر من ستمائة عمل فنّي من ثلاثة عشر متحف فرنسيا بالإضافة إلى اللوفر، بينما استعيرت أعمال أخرى من مجموعات فنّية خاصّة من أكثر من مكان.
    وخُصّص جزء صغير من المتحف لأعمال الفنّ الحديث والمعاصر. أما الجزء الأكبر فيعرض أعمالا فنّية من عدّة أماكن تتناول تاريخ وأديان العالم.
    ومن بين القطع المعروضة الآن بورتريه لفان غوخ ولوحة لإدوار مانيه وأخرى لجاك لوي دافيد ولوحة لدافنشي وأخرى لجون ويسلر، بالإضافة إلى أعمال للرسّام الهولنديّ بيت موندريان والتركيّ عثمان حمدي بيه. ومن بين المنحوتات المعروضة تمثال لأبي الهول يعود تاريخه إلى القرن السادس قبل الميلاد وأعمدة رومانية قديمة مزيّنة بنقوش وزخارف.
    لوفر ابو ظبي مشروع حضاريّ واعد. وربّما سيمضي بعض الوقت قبل أن يكتسب المتحف صورته أو ماركته المميّزة. لكن المسئولين عنه مقتنعون بأنه سينجح في تقديم صورة بصرية شاملة عن تاريخ العالم وسيوفّر جسرا للحوار بين الثقافات.

    الجمعة، نوفمبر 10، 2017

    ناسج الأحلام


    أينما نظرت في لوحات هنري ماتيس ستجد أنسجة وأقمشة وأنماطا من كلّ شكل ولون. كان يحيط نفسه بكلّ شيء: أزهار ونباتات حيّة، اسماك في أحواض، عصافير في أقفاص، بلاط مزخرف وأواني وأشكال جبسية مختلفة وأقمشة ونُسُج ومطرّزات من مختلف الأنماط والأشكال والألوان.
    وقد جمع الرسّام كلّ هذه الأشياء خلال أسفاره العديدة وكان يحتفظ بها باعتبارها موارد مفيدة ولا غنى عنها لمكتبته البصرية. ثم وجدت طريقها إلى لوحاته ورسوماته التي يتداخل في نسيجها السجّاد والقماش الفاخر من كلّ شكل ولون.
    كان رسّامون مثل فان غوخ وسيزان وفويار يستخدمون الأنماط والأنسجة الورقية والإيقاعية في لوحاتهم لتكثيف الإحساس الذي تمنحه صورهم للناظر. لكن ماتيس ذهب خطوة ابعد بإعادة إنتاج الأنسجة الناعمة والألوان البديعة للحرير والقطن والمخمل والتافتا والتطريز بطريقة لم يسبقه إليها احد.
    لكن من أين جاء عشقه للأقمشة وألوانها وأنماطها المختلفة؟
    ولد ماتيس ونشأ في بلدة في شمال فرنسا ملاصقة للحدود مع بلجيكا. وكانت البلدة مشهورة بصناعتها للأقمشة الفاخرة التي كانت تعتمد عليها شركات صنع الملابس في فرنسا.
    وعائلة والده كانوا من النسّاجين. ومن هنا على الأرجح ولد حبّه للأقمشة. غير أن أهل بلدته لم يكونوا يهتمّون بالفنّ خارج صناعة النسيج. كانوا ينظرون إلى حرفتهم كمصدر للرزق فقط ولم يكونوا يعتبرون الأقمشة ذات صلة بالفنّ.
    في سنّ العشرين، انتقل ماتيس إلى باريس. وفي مرحلة تالية استقرّ في جنوب فرنسا التي أحبّ ألوانها الساطعة ومناخها الدافئ.
    وفي لوحاته الكثيرة التي رسمها طوال فترة اشتغاله بالرسم يمكنك أن تلاحظ استخدامه الوفير للأنسجة والتصاميم المختلفة. كما انه كان أيضا شديد الاهتمام بالموضة وبصناعة الأزياء في باريس. وكان يحتفظ على الدوام بمجموعة خاصّة من الملابس والأنسجة والإكسسوارات التي وجدها في الكثير من الأمكنة التي ذهب إليها.
    والعديد من لوحاته تُظهر كيف كان ماتيس يوظّف تصاميم الأقمشة فيها. مثلا لوحته بعنوان حياة ساكنة مع سجّادة حمراء هي في الأساس عن الأقمشة وألوانها وأنماطها الزخرفية المتنوّعة.

    ولوحته بعنوان شال مانيللا تُظهر ولعه بالملابس ذات الألوان القشيبة التي طالما جمعها. المرأة في هذه اللوحة تبدو كما لو أنها تستعرض ملابسها ذات الأنماط الزهرية والخضراء والحمراء والبنّية الجميلة.
    أما لوحته بعنوان البلوزة الرومانية الخضراء فهي عن اللون الأخضر أكثر من كونها عن المرأة التي تظهر فيها. ومع ذلك بإمكانك أن تعرف أشياء عن شخصية هذه المرأة من الاسكتش البسيط الذي رسمه ماتيس لوجهها ولطريقة جلوسها.
    وفي لوحة أخرى بعنوان ديكور وأزهار وطائرا ببّغاء صغيران ، يملأ الفنّان فراغ اللوحة بالأقمشة والأشكال المختلفة متذكّرا رحلته التي قام بها إلى المغرب عام 1912. غطاء المائدة الأصفر تستقرّ عليه ليمونتان وكوب شاي ومزهرية.
    وفي نهاية المائدة قفص مذهّب بداخله طائرا ببّغاء بلون اخضر وأصفر. أيضا هناك الأنماط الجميلة على الأرضية والباب والجدار الخلفي. الأقمشة الكثيرة في هذه اللوحة تجسّد ذوق ماتيس في التصميم الداخليّ. والألوان الساطعة فيها هي أيضا تذكير بحبّه لمنطقة جنوب فرنسا.
    وفي لوحته جارية جالسة مع خلفية زخرفية ، نرى الأقمشة والأشكال المختلفة تملأ الغرفة بالألوان. الأنماط على الجدار الخلفيّ تتناغم مع الأشكال الظاهرة على فستان المرأة، بينما الأشكال على الصحن والكأس تتوافق مع الأنماط الظاهرة عند قدميها. وإلمام ماتيس بهذه الأنماط لم يتحقّق إلا بعد زيارته إلى المغرب.
    في لوحته ديكور مع كلب ، نرى المزيد من الأنماط التعبيرية والألوان القويّة التي تحمل سمات ألوان الرسّام من المرحلة الوحوشية. الأشكال البسيطة لخلفية اللافندر الرائعة تبرز منها أشكال مبسّطة لأوراق خضراء، وفرشاة الفنّان تضفي على المنظر مزيدا من الحيوية والتناغم.
    وفي لوحة رداء ارجواني مع شقائق النعمان ، يبرهن ماتيس مرّة أخرى على براعته في استخدام الألوان والأنماط. الخطوط المرسومة على الرداء الأرجوانيّ تضاهي ديكور الجدار الفضّيّ والبرتقاليّ في الخلفية. وهذه الموجات اللونية الناعمة تتجانب معا في مقابل الخطوط السوداء والرمادية القويّة على الجدار وعلى الأرضية.
    وفي لوحة حياة ساكنة: باقة ورد وطبق فاكهة ، يرسم ماتيس باقة ورد ناعمة من الألوان الأصفر والمشمشيّ والزهريّ. وبنفس النعومة يرسم الأشكال السوداء على ورق الحائط وعلى أنماط الأزهار على المائدة. واللافت أن الرسّام ضمّن المنظر طبق فاكهة مع حمضيات، في ما يبدو وكأنه إشادة بزميله الحداثيّ الآخر بول سيزان.

    عندما انتقل ماتيس إلى نيس حوّل محترفه إلى ما يشبه المسرح الصغير. ولطالما ألبس عارضاته الفساتين وأغطية الرأس العربية وبناطيل الحريم والثياب المغربية المقصّبة ذات الأزرار الصغيرة.
    وكان يُجلسهنّ في دواوين مليئة بالسجّاد والأرائك والطاولات ذات الأنسجة المشرقية الجميلة، مع مشربيات وستائر مصرية يمكن تمييزها من ألوانها الخضراء والحمراء الغميقة. وفي بعض لوحاته الأخرى، نقل صورا لأقمشة أخرى من رومانيا وطنجة وإيران والجزائر وتركيا وغيرها.
    لوحته بعنوان قماش مائدة ازرق تصوّر حياة ساكنة تقليدية مع إبريق قهوة وطبق فاكهة. لكن أهمّ تفصيل فيها هو قماش المائدة الذي كان من ضمن أشيائه الخاصّة، وهو عبارة عن قطعة من الحرير الفرنسيّ يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر وتتميّز بلونها الأزرق مع موتيف متكرّر عبارة عن سلّة أزهار. خلفية القماش في اللوحة تصبح خضراء بلون البحر وكأن اللوحة بأكملها هي عبارة عن قطعة قماش.
    وبقدر ما رسم ماتيس من أشياء فإنه أيضا كان يرسم مناظر. ونحن نرى الأنماط والألوان والأقمشة والتطريز كصفات للأشياء التي كان يرسمها وللوحة نفسها، كما لو انه كان يتعامل مع أكثر من واقع بنفس الوقت.
    لوحات ماتيس هذه التي تحتشد بالأقمشة والنسيج والأنماط والألوان الزاهية ترسم صورة لرجل كان في حالة سلام مع العالم من حوله ومع نفسه. وصور الرسّام الفوتوغرافية الموجودة على الانترنت يظهر فيها بهيئة رجل مهذّب ذي لحية بيضاء يجلس وسط الحمام والقطط في غرفة مليئة بالضوء وعلى جدرانها صور لنقوش وأنماط جميلة.
    لكن هذه الصورة لا تعكس طبيعة ماتيس بالضرورة. فقد كان إنسانا عصبيّا وعرضة للمرض بشكل دائم. لكن يبدو أن فنّه المتفرّد كان ثمرة للمتعة التي كان يشعر بها وهو ينظر إلى الجانب المشرق من الحياة، وفي نفس الوقت كان انعكاسا لاحتفائه الذي لم تكن تحدّه حدود بالضوء واللون والجسد والشكل وبتفاصيل الحياة بشكل عام.

    Credits
    henrimatisse.org
    artdaily.com

    الاثنين، أكتوبر 09، 2017

    لعبة المرايا

    أعظم رسّامَي بورتريه في تاريخ الرسم لم يكن أيّ منهما يعرف عن وجود الآخر، رغم أنهما عاشا في عصر واحد. الأوّل رمبراندت (1599-1660) والثاني دييغو فيلاسكيز (1606-1669).
    والسبب في أنهما يتصدّران قائمة رسّامي البورتريه في العالم هو أن أيّ وجه رسماه لم يُكتب له الخلود فحسب، وإنّما أيضا اكتسب سمة ميتافيزيقية وغامضة. ثمّة جاذبية فلسفية واضحة في طريقة رمبراندت وفيلاسكيز في النظر إلى البشر. ومع ذلك فإنهما - كرسّامَين - مختلفان.
    رمبراندت في بورتريهاته التي رسمها لنفسه ينظر إليك بمعرفة عميقة للحياة. أما شخوص فيلاسكيز فينظرون بطريقة تخاطب المشاعر، لكنها لا توصل أيّ حكمة. ورمبراندت يؤكّد على الكرامة الإنسانية، أما فيلاسكيز فغير متأكّد. لكنه ينظر بعين محايدة ومتحرّرة من المجاملة والفانتازيا، وهي صفة طالما امتدحه عليها الايطاليون.
    اطلب من أيّ فنّان أو فيلسوف أو شاعر اليوم أن يسمّي لك أعظم لوحة في العالم، والأرجح انه سيقول لك أنها وصيفات الشرف ، أكثر من عشاء ليوناردو الأخير وليلة فان غوخ المرصّعة بالنجوم ومدرسة أثينا لرافائيل.
    ولو ذهبت إلى مدريد وزرت متحف برادو، فستلاحظ وجود غرفة عالية مثمّنة الأضلاع في وسط المتحف حيث تُعلّق الوصيفات. والزوّار يمرّون جيئة وذهابا من أمام اللوحة متأمّلين ودارسين.
    الثقافة المعاصرة تمجّد هذه الصورة كثيرا، لأنها تجد فيها مرآة للوعي الحديث بالذات أكثر من كونها أيقونة فتنت أجيالا عديدة متعاقبة.
    وصيفات الشرف لوحة ضخمة بما يكفي لأن تنافس الحياة. وهي تطلب منك أن تتأمّلها في فراغ ثلاثيّ الأبعاد. وهي تفعل هذا بخلق اتصال متوهّم بين الغرفة التي أنت فيها والغرفة التي في الصورة نفسها، كما لو انك تنظر إلى الوراء عبر الزمن؛ إلى داخل الغرفة الطويلة في قصر الكازار الاسبانيّ حيث نصب الرسّام عدّة الرسم قبل أكثر من ثلاثة قرون، وحيث ينظر إليك من زاوية في يسار اللوحة.
    غير أن فيلاسكيز لا يكتفي بدعوتك للدخول في الصورة، وإنّما يعتبرك أيضا شخصية خاصّة في مسرحية. المرايا والتأثيرات البصرية تلعب دورا مهمّا في معظم لوحات فيلاسكيز المشهورة.
    في فينوس أمام المرآة مثلا، تنظر ربّة الجمال إلى وجهها في مرآة، لكن انعكاسها المعتم لا يكشف شيئا عن مشاعرها.
    وفي أسطورة اراكني المستمدّة من تحوّلات اوفيد، يظهر مِغزل يدور بسرعة فائقة لدرجة انك يمكن أن ترى من خلاله ما وراءه. الطريقة التي يُمسك بها فيلاسكيز بالتأثير البصريّ هي بلا شكّ لعبته المفضّلة في فنّ الرسم.
    لقد رسم رمبراندت نفسه مرارا وتكرارا. لكن صورة فيلاسكيز الوحيدة هي هنا في تحفته "الوصيفات" الغامضة والمثيرة، والتي رسمها قبل أربع سنوات فقط من وفاته.
    فيلاسكيز في غرفة العائلة في القصر يعمل أمام القماش بصحبة ابنة الملك وحاشيتها. وأوّل شيء يمكن ملاحظته هو أن الجميع متجمّدون، واهتمامهم مركّز على وجودٍ ما خارج الإطار. نظرة الذين يعرفون عن ذلك الحضور هي باتجاهنا، أي باتجاه الملك والملكة المنعكسة صورتهما على الجدار الخلفيّ.


    أنت الملك، وأنت تقف بصبر من اجل أن يرسمك فنّان القصر الذي ينظر إليك من وراء رقعة الرسم. هذه هي الوضعية التي يتعامل بها فيلاسكيز مع الناظر إلى اللوحة. البورتريه الضخم لا يصوّر فحسب ملك وملكة اسبانيا اللذين لا يظهر منهما غير انعكاس صورتهما في المرآة، وإنّما يصوّر أيضا مشاعر التوتّر والقلق الذي تنطق به عيون الملك والملكة وبقية الجلساء في الغرفة. وفيلاسكيز بمعنى ما يرينا العالم من خلال عيني ملك.
    في اللوحة، الوصيفات اللاتي يرتدين ثياب خادمات، يقمن على رعاية الفتاة الصغيرة انفانتا مارغريتا ابنة الملك الصغرى التي ترتدي ملابس نفيسة حتى وهي تلعب أمام والديها. لكنها تنظر إليهما بقلق، بينما يباشر اثنان من أقزام البلاط مهمّة الترفيه عنها.
    انه عالم صغير، بارد وخطير. ولا احد في اللوحة يبدو في حالة استرخاء باستثناء المرأة التي تركل الكلب بقدمها.
    المشهد لا يخلو من طابع مسرحيّ. فالجميع يرتدون ملابسهم الرسمية، وسلوكهم يبدو في غاية النظام والانضباط. لكن عند الباب في الخلفية يظهر رجل. انه يحمل الأخبار المستجدّة عن إمبراطورية اسبانيا الشاسعة والموشكة على الأفول عندما كان فيلاسكيز يرسم لوحته.
    الملك الاسبانيّ فيليب الرابع كان من المفترض أن يكون سعيدا بهذا البورتريه العبقريّ والمفاهيميّ المبتكر. أما فيلاسكيز فقد أمطرت عليه السماء أوسمة ومكافآت من كلّ صوب.
    غير أن هذه اللوحة تجرح نسيج الواقع ووهم الهويّة من خلال لعبة المرايا التي وظّفها الرسّام ببراعة. هل الملوك والملكات يوجدون فقط في أعين الآخرين؟ وإذا كان هذا يصدق على الملوك، فمن نكون نحن؟ أنت وأنا والآخرون؟!
    فيلاسكيز ينظر إلينا من اللوحة بأدب وانضباط وبكثير من الصرامة. ذات مرّة، كتب الناقد الفرنسيّ ميشيل فوكو دراسة عن هذه اللوحة قال فيها إن النظرة الفولاذية للرسّام تحيل كلّ شيء آخر في الصورة إلى خواء.
    ترى ألم يلاحظ فيليب كيف شُوّهت ملامحه؟ صورته المنعكسة مع الملكة في المرآة الخلفية تبدو متلاشية وشبحيّة. لقد كان فيلاسكيز ببساطة يمسك بمرآة ليعكس من خلالها أوقاتا عصيبة. فقد كانت اسبانيا آنذاك تمرّ بحالة انهيار في كلّ شيء، وكان فيليب يدرك هذا جيّدا.
    هل يكون هذا هو السبب في أن الملك أمر بأن توضع اللوحة في غرفته الخاصّة وبعيدا عن الأنظار؟ المملكة التي كان فيليب يحكم أراضيها من بيرو إلى هولندا كانت تتضعضع شيئا فشيئا مع انعدام الأمن وتفشّي الفقر واندلاع الثورات في أطرافها. وربّما هذا هو السبب في أن وجه الملك يبدو حزينا مكفهرّا.
    إنها حقيقة مذهلة عن عالم كلّ شيء فيه له وجهان، وكلّ حقيقة هي في نفس الوقت كذبة، وكلّ مرآة هي تذكير قاسٍ بتقلّبات الزمن.
    عاش فيلاسكيز قريبا من الأحزان والمفارقات في القصر. وكثيرا ما تكون لوحات الرسّامين العظام شهادات على الواقع وعلى الخرائط السياسية الضائعة أو المتغيّرة. وهنا في هذه اللوحة، تتجمّع أشباح أسرة هابسبيرغ الملكية من وراء قارّة كاملة.
    إننا كثيرا ما نجد أشياء تجذبنا في بعض الرسّامين وفي لوحاتهم. والأكيد أن الوقت الذي نقضيه بصحبة دييغو فيلاسكيز ليس بالوقت الضائع أبدا.

    Credits
    diegovelazquez.org
    velazquezlasmeninas.com