:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات سيبيليوس. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات سيبيليوس. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، يناير 20، 2010

لغة الطيور


هل سمعت عن لغة الطيور؟
وابتداءً، هل للطيور لغة؟
الفلاسفة القدماء تحدّثوا كثيرا عن لغة الطيور وأسرارها وعلاقتها بالبشر وبالطبيعة.
قبل أيّام كنت أشاهد على التلفزيون لقاءً شيّقا مع عالم قال انه درس لغة الطيور وأصبح يفهم الكثير من أسرار تلك اللغة ورموزها. كان واضحا أن الرجل ملمّ بتخصّصه وبارع فيه. وقد قال إن أصحاب الطيور كثيرا ما يستعينون به في معالجة الحالات التي تعتري سلوكيات بعض الطيور اعتمادا على تحليل أصواتها ونبراتها ومن ثمّ ربطها بالأنماط السلوكية والحالة السيكولوجية للطائر. كلام ذلك العالم وجدته مثيرا للاهتمام ودفعني لأن اقرأ أكثر لأعرف المزيد عن هذه اللغة الغريبة، فكان هذا الموضوع الذي يعتمد في جانب منه على بعض ما كتبه هارولد بيلي في كتابه بعنوان اللغة الضائعة للرموز.
القرآن الكريم فيه أكثر من آية تتحدّث عن لغة الطير. إحدى الآيات تشير إلى سليمان الحكيم الذي تعلّم لغة الطيور وأوتي خيرا كثيرا. كان يفهم لغة الطيور وله قصص كثيرة مع الجنّ والحيوانات والطيور. هذه اللغة تسمّى أحيانا اللغة الخضراء. وفهمها من شأنه أن يعزّز علاقة الإنسان بالطبيعة ويعمّق فهمه لها.
الملك سليمان لم يكن قادرا على التفاهم مع الطيور والمخلوقات الأخرى فحسب، بل يقال انه أوتي أيضا القدرة على أن يطير في السماء مثل أيّ طائر.
ويقال أيضا أن هذه اللغة كانت أوّل لغة خلقها الله في الكون. كانت لغة جميع المخلوقات بمن فيهم الإنسان الأوّل.
لكنّ هذه اللغة انقرضت بعد حادثة طرد آدم وحوّاء من الجنّة.
ومنذ ذلك الوقت سعى الكثيرون إلى محاولة إعادة اكتشاف هذه اللغة ومعرفة أسرارها. حكماء وفلاسفة وعلماء كثيرون أوقفوا جهدهم ووقتهم على هذه الغاية على مرّ قرون.
في الأدب العربي، نتذكّر كتاب الحيوان الذي تجري أحداثه على ألسنة الحيوانات والطير.
الشاعر الصوفي الفارسي فريد الدين العطّار كتب ديوان شعر مشهورا اسمه "منطق الطير". بعض الطرق الصوفية تشير إلى أن لغة الطير هي لغة الملائكة.
لغة الطير كانت دائما الطريق إلى المعرفة الكاملة. في اليونان القديمة راجت قصّة أثينا إلهة الحكمة التي علّمت تيريسياس لغة الطيور. ابولينيوس وديموكريتوس يقال أنهما، أيضا، كانا يفهمان لغة الطير.
الأبحاث العلمية اليوم تؤكّد أن الطيور تستخدم النجوم دليلا في رحلاتها من مكان لآخر في الليل. الطيور ترى النجوم وتعرف مواقعها وتستهدي بها في طيرانها.
وفي كلّ حقب التاريخ، كانت النجوم تلعب دورا مهمّا في حياة البشر. بل يمكن القول أن تطوّر معرفة وحياة الإنسان في الأزمنة القديمة يُعزى أساسا إلى النجوم.
الميثولوجيا السلتية كانت تعتبر الطيور رمزا للمعرفة التي تعتمد على التنبّؤ ومعرفة الغيب. والكتابة الهيروغليفية كانت تُسمّى "أبجدية الطيور".
في ثقافات بعض الشعوب القديمة ارتبط فهم لغة الطير ببعض التحوّلات المتعلّقة بالسحر. كانت الطيور تحذّر البطل من خطر وشيك أو تنبّهه إلى كنز خفيّ.
لغة الطير موجودة أيضا في الثقافة والموسيقى المعاصرة. الموسيقي الفنلندي جان سيبيليوس ألّف مطلع القرن الماضي قطعة موسيقية بعنوان "لغة الطيور". ريتشارد فاغنر، هو الآخر، ألّف موسيقى بنفس العنوان.
لغة الطيور يمكن القول أنها تجربة حدسية. فالمخلوقات كانت تستخدمها منذ ملايين السنين، والبشر اهتمّوا دائما بتسجيل الرسائل التي تتضمّنها في لغات مشفرّة وغامضة منذ القدم.
في العصر الجليدي، اعتاد البشر الأوّلون على مراقبة الطيور بحثا عن الحيوانات الميّتة ليسدّوا بها جوعهم. ومنذ عصر النهضة كانت الطيور عنصر الهام للبحث عن لغة بدائية؛ موسيقية في الغالب.
قد يقول البعض إن هذه مجرّد خرافة لا يسندها العلم. لكنّ في الطبيعة ظواهر كثيرة غامضة. وكلّ ظاهرة تحيل إلى عدد من الرموز، وكلّ رمز يقود إلى معان وتفسيرات كثيرة. أحيانا لا تكفي العينان لفهم ما نراه، بل يتعيّن أن يملك الإنسان مجهرا ليرى ما هو أبعد.
كان القدماء يعتقدون أن السماء تملك أجوبة على كلّ تساؤلات البشر. الفصول، مواسم المطر، أيّام الأسبوع، أيّام الشهر والسنة.. إلى آخره.
النظام المقدّس القديم ما يزال في قلب كلّ نظم التقويم. والأساطير العظيمة ما تزال إلى اليوم مكتوبة في النجوم.
بعض علماء الرموز يقولون اليوم إن الدماغ يعرف تأثير تكرار الكلمات على العقل. وأهمّ ما نتعلّمه في لغة الطيور أن الكلمات ذات الأصوات المتجانسة لها نفس المعنى. وهذا يساعد كثيرا على فهم الأسرار الباطنية للميثولوجيا.
من جهة أخرى، أثبتت الدراسات الحديثة أن بعض النظم الصوتية التي تستخدمها الطيور شبيهة بتلك الموجودة في اللغات البشرية.
العلماء أيضا يقولون أن هناك عالما من الأسرار تبدو فيها الأشياء خلاف ما هي عليه في حقيقتها وجوهرها. واللغة تعلّمك فكّ الأسرار، لأنها عبارة عن موزاييك يتضمّن شرائح ومستحاثات أسلافنا القدامى. والكلمات نفسها عبارة عن اهتزازات وذبذبات. وفهم معاني الكلمات وعلاقاتها الشعورية وارتباطاتها بالطبيعة يتطلّب حالة من الوعي بالقوانين القديمة.
وما نعرفه اليوم هو أن موجات دماغ الإنسان لها تردّدات. ولو قدّر لك أن تسمع بعض هذه التردّدات على الطيف الصوتي فسيتبيّن لك أنها تشبه أصوات بعض اسماك البحر. الطيف الصوتي يمكن أن يكون أغنية كونية جامعة.
هل يمكن القول، إذن، أن أغاني الطيور تضبط التناغم بين موجات أدمغتنا والموجات الصوتية التي تمتلئ بها الأرض والكواكب من حولنا؟!

السبت، يناير 16، 2010

حِوار الثلج والنار

على ضوء شمعة واهنة، كان يجلس طفل صغير يحتضن كوب حليبه الساخن قبل النوم ويحاول في الوقت نفسه اتقاء وهج النار المنبعثة من المدفأة إلى جواره.
كلّ ما كان يسمعه كان عويل رياح الشتاء المتجمّدة وهي تبحث لها عن شقوق لتختبئ فيها.
ومع انه كان يستطيع مشاهدة تساقط حبّات الثلج عبر النافذة، فإن عينيه كانتا تفضّلان متابعة ألسنة اللهب وهي ترتفع إلى فوق لأنها تذكّره بصور وأخيلة من الحكايات التي كانت تقصّها عليه أمّه.
كلّنا نختزن في ذاكرتنا مثل هذه الصور عن ليالي الشتاء. لكنّها أصبحت نادرة هذه الأيام مع وجود التكنولوجيا الحديثة وتطوّر وسائل التدفئة وتوافر الأبواب والشبابيك التي تُغلق بإحكام لتوفّر أجواءً دافئة ومريحة داخل البيوت.
قبل أكثر من مائة عام كانت هذه الصور شائعة جدّا، خاصّة بالنسبة لطفل فنلندي مثل جان سيبيليوس. ومع ذلك فقد وجد فيها فائدة غريبة. الفصول في فنلندا واضحة المعالم جدّا. فالربيع، مثلا، يبدأ فجأة في اللحظة التي تتصدّع فيها الأرض ليسيل الجليد ولتأخذ الأرض بعدها شكلها الأوّل.
مثل هذه الأطوار المتغيّرة التي يمرّ بها الطقس تُعتبر مسألة مألوفة ما لم تمعن النظر جيّدا في التأثير الشعوري العميق للطبيعة. وهو ما كان يفعله سيبيليوس الذي طالما سجّل انطباعاته عن حالات الطبيعة في عدد لا يحصى من الملاحظات.
الطبيعة بالنسبة إليه كانت ترمز إلى تجدّد الحياة التي كان يحبّها والتي ظلّت حاضرة في كلّ نوتة وفي كلّ لحن كان يؤلّفه.

كانت الطبيعة تميّز موسيقى سيبيليوس حتى قبل ظهور موسيقاه الوطنية التي ألّفها كردّ فعل على تهديدات روسيا ضدّ بلده، وهي المقطوعات التي حوّلته في عيون الفنلنديين إلى بطل قومي.
في السنوات العشر الأولى من القرن التاسع عشر اخذ أسلوب سيبيليوس في التبلور، فتراجع تأثير كلّ من تشايكوفيتشايكوفسكي سكي وإدفارد غريغ على موسيقاه وأصبحت صوره الموسيقية انعكاسا لما كان يراه ويلاحظه من مظاهر تنوّع وثراء الطبيعة الفنلندية.
وأنت تسمع موسيقى جان سيبيليوس لا بدّ وأن تستحضر صورا للثلج والنار والضباب والغيم والبحيرات الساكنة في أمسيات اسكندينافيا الملفوفة بالصمت والبرد والظلام.
كونشيرتو الكمان يمكن اعتباره العمل الموسيقي الأشهر الذي كان علامة على نضج سيبيليوس الفنّي والموسيقي وانتقاله من الموسيقى القومية إلى موسيقى الطبيعة.
وقد أهدى الكونشيرتو إلى صديقه عازف الكمان فيلي بيرميستر الذي عزف الكمان المنفرد في أوّل حفل قُدّم فيه الكونشيرتو.
هذا الكونشيرتو هو الوحيد الذي ألفه سيبيليوس. ومع ذلك أصبح واحدا من أشهر الأعمال المؤلفة للكمان في العالم. في هذا العمل براعة وتفرّد وتجديد. ويكفي للتدليل على أهميّته وشهرته انه يتعيّن على كل عازف كمان يريد أن يثبت موهبته أن يتقن عزف هذا الكونشيرتو بما ينطوي عليه من صعوبة وتعقيد.
ويقال أحيانا انه يشبه في قيمته الموسيقية كونشيرتو الكمان لـ تشايكوفسكي.
وقد وُصف بأنه يتضمّن أنغاما عريضة كما يغلب على موسيقاه طابع الحزن والشجن، مع أن فيه أيضا لحظات إشراق وجذل.

الأربعاء، مايو 07، 2008

مائدة، كرسي، طبق فاكهة وآلة كمَان

لماذا إذا تهيّأت للنوم يأتي الكمان؟!
فأصغي آتياً من مكان بعيد
فتصمت همهمة الريح خلف الشبابيك
نبض الوسادة في أذني
تتراجع دقّات قلبي
وأرحل في مدن لم أزرها
شوارعها فضّة
وبناياتها من خيوط الأشعّة
ألقى التي واعدتني على ضفّة النهر واقفة
وعلى كتفيها يحطّ اليمام الغريب
  • أمـل دنقـل

  • عندما يتعلّق الأمر بالموسيقى، لا صوت يطرب ويثير المخيّلة كامتزاج أنغام آلتي الكمان والبيانو. لكنْ لو كان لي أن اختار آلة مفردة لما تردّدت في اختيار الكمان، لأنني مع من يقول إن الكمان هو الرمز الأسمى لأناقة الموسيقى وجمال الطبيعة معا. الكمان قريب جدّا من المشاعر. وهو اقرب الآلات الموسيقية شبها بصوت الإنسان.
    وقد قرأت ذات مرّة أن بدايات ظهور هذه الآلة تعود إلى القرن التاسع الميلادي. ويقال إنه أتى من آسيا وأن الأتراك والمغول قد يكونون أوّل من عرف الكمان في التاريخ، وكانوا يصنعون أوتاره من شعر ذيل الحصان.
    ثم ما لبث الكمان أن انتشر إلى الصين والهند وبلدان الشرق الأوسط. وطبعا كان شكل الآلة آنذاك بدائيا وبسيطا. وقد استغرق الأمر خمسة قرون كاملة قبل أن تصل هذه الآلة إلى شكلها الحالي والمتعارف عليه.
    التغيير الجذري الذي طرأ على شكل الكمان وعلى تطوّر إمكانياته تحقّق في مدينة ميلان الايطالية "ويقال في البندقية" حوالي بدايات القرن السادس عشر.
    ويشار إلى أن أوّل عازف كمان مشهور كان الايطالي اندريا اماتي الذي يرجع إليه الفضل أيضا في صنع أوّل آلة كمان بشكلها الحديث والمعروف.
    وأشهر ماركات الكمان في العالم هي ستراديفاريوس وأماتي وغارنييري، وهي أسماء لصنّاع ايطاليين برعوا منذ قرون في صناعة الكمان واستخدامه. وأشهر العازفين اليوم يفضّلون اقتناء هذه الأنواع القديمة من الكمان المعروفة بغلاء أسعارها وبأدائها العالي وجودة النغمات التي تصدرها.
    وفي مناسبات مختلفة بيع بعض هذه الآلات، لشهرتها ولقدم صنعها، بأكثر من مليون جنيه استرليني، في حين لا يكلّف أغلى وأجود نوع حديث أكثر من عشرة آلاف دولار.
    ولأن بدايات الكمان الحقيقية ارتبطت بإيطاليا، لم يكن غريبا أن يصبح نيكولو باغانيني الايطالي أشهر عازف كمان في تاريخ الموسيقى كله. ويقال انه كان لفرط مهارته يستخدم كلتا يديه في العزف. كما كان بارعا في العزف على وتر واحد في حال انقطعت الأوتار الثلاثة الأخرى. وقد أصبح تقليدا شائعا منذ ذلك الوقت أن يحتفظ العازف في جيبه بوتر إضافي تفاديا لاحتمال انقطاع احد الأوتار.
    وفي زمن باغانيني، وأيضا فيفالدي، كان الكمان مرتبطا بالطبقة الراقية وبفئة النبلاء والارستقراطيين.
    اليوم ثمّة ملاحظة جديرة بالاهتمام تتعلّق بهذه الطفرة الكبيرة التي نراها الآن في عدد النساء اللاتي يعزفن الكمان بعد أن كان في الماضي عملا يختصّ به الرجال وحدهم. والكثير من هؤلاء العازفات لا تنقصهنّ البراعة ولا الجاذبية. وهذه الصفة الأخيرة تُعتبر عاملا مهمّا جدّا لا تغفل عنه شركات التسجيل ولا منظّمو الحفلات الموسيقية.
    وهناك من يقول إن معظم الأسماء الكبيرة اليوم في مجال العزف على الكمان هي لنساء. ويتساءلون هل أن الأمر مجرّد مصادفة، وهل الإناث أكثر قدرة من الرجال على تحمّل الدروس الطويلة والشاقّة التي يتطلّبها العزف على الآلة، أم لأنّ الكمان يتميّز بصغر حجمه وبسهولة حمله من مكان لآخر دون حاجة إلى تجهيزات ثقيلة وتحضيرات معقدة؟
    وهل يمكن فعلا اعتبار الكمان والبيانو والفلوت آلات أنثوية بحكم أن الأسماء البارزة والأكثر شهرة في العزف على هذه الآلات في العالم اليوم تعود لنساء؟
    وفي المقابل، هل يمكن اعتبار الغيتار والساكسوفون والآلات النحاسية آلات ذكورية على اعتبار أن الرجال هم من يتسيّدون ساحة العزف على هذه الآلات حاليا؟
    قرأت مؤخّرا بعض الأفكار التي لا يخلو بعضها من طرافة عن تأثير موضوع الجندر في الموسيقى. ومن الواضح أن إتقان العزف على الكمان بخاصّة يتطلّب مستوى عاليا من الموهبة والذكاء وسعة الخيال. وقائمة مشاهير النساء البارعات في العزف على الكمان اليوم طويلة ولا تكاد تنتهي. وبعضهنّ عملن مع أشهر الفرق السيمفونية في العالم، وتتلمذن على أيدي أشهر العازفين وقادة الاوركسترا من أمثال ياشا هايفيتز وايزاك ستيرن ويوجين اورماندي ودانيال بارانبويم وفلاديمير اشكنازي وهيربرت فون كارايان وغيرهم.
    والأسماء النسائية المهيمنة الآن على صناعة العزف على آلة الكمان هي امتداد للرعيل الأول من النساء الرائدات في هذا المجال مثل البولندية واندا ولكوميرسكا والنمساوية ايريكا موريني والأمريكية مود باول والمجرية يوهانا مارتزي والبولندية ايدا هاندل واليابانية تاكاكو نيشيزاكي وغيرهن.
    ويأتي على رأس عازفات الكمان من الجيل الجديد الألمانية آنا زوفي موتار التي تخصّصت في عزف بيتهوفن وفيفالدي وباخ وموزارت وسترافنسكي. وعلى ذكر موزارت، لا اعتقد أنني سمعت من قبل أجمل ولا أروع من عزف زوفي موتار لكونشيرتو الكمان رقم 3 الذي يُعتبر ليس فقط احد أفضل أعمال موزارت وإنما احد أعظم القطع الكلاسيكية التي تمّ تأليفها على مرّ العصور.
    ولـ زوفي موتار طريقتها الخاصّة والمتميّزة في العزف، وهي لا تنظر إلى الجمهور إلا نادرا ولا تعيد العزف إلا في ما ندر. كما أنها تعامل في بلدها كأميرة ووريثة للعازف والمايسترو العظيم فون كارايان الذي اختارها وهي بعدُ في الثالثة عشرة وأجلسها معه في فرقته.


    وموتار هي اليوم في الخامسة والأربعين وتجني أكثر من ثلاثة ملايين دولار سنويا مقابل الحفلات الموسيقية التي تعزف فيها، أي ضعف ما يتقاضاه أفراد اوركسترا كاملة في فرنسا أو بريطانيا. موتار مغرمة كثيرا بموزارت الذي تقول عنه إن تأثير موسيقاه في الروح مثل تأثير أشعّة اكس التي تشفّ الجسم وتكشف كلّ ما فيه.
    ويظهر أن الأمريكيين بدءوا هذه الأيام يغارون من اتساع شعبية زوفي موتار التي يرون في صعود نجمها وازدياد شعبيتها عندهم تهديدا لمكانة من يعتبرونه عازف الكمان الأوّل في العالم اليوم وهو الأمريكي ايزاك بيرلمان .
    والحقيقة أن ريادة الأمريكيين في مجال العزف على الكمان وكثرة العازفين المبدعين عندهم أمر لا يمكن إنكاره. هناك مثلا العازفان الأسطوريان ايزاك ستيرن ويوشا هايفيتز، بالإضافة إلى كبار العازفين الأحياء أمثال جون كوريليانو وريجينا كارتر بالإضافة إلى جوشوا بيل الذي يستخدم آلة كمان من نوع ستراديفاريوس يعود تاريخ صنعها إلى ما قبل ثلاثة قرون.
    وكان آخر أعمال جوشوا بيل اشتراكه مع زميله كوريليانو في وضع الموسيقى التصويرية للفيلم السينمائي المشهور الكمان الأحمر.
    كلّ هؤلاء أمريكيون. كما أن أعظم عازف للتشيللو في العالم الآن هو الأمريكي من أصل صيني يو يو ما الذي اشتهر بعزفه المنفرد والمتميّز لسوناتات باخ وموسيقى دفورجاك وشوبيرت وموزارت.
    بعد زوفي موتار يأتي اسم عازفة الكمان الأمريكية من أصل كوري سارة تشانغ التي تتلمذت على يد يهودي مينوهين الذي وصفها في إحدى المرّات بأنها أكثر عازفات الكمان مثالية وإحكاما.
    ثم هناك الهولندية جانين يانسن التي برعت في عزف تشايكوفسكي ومندلسون وبرامز. وبوسع زائر موقعها الاليكتروني الاستماع إلى عزفها الجميل لبعض سوناتات فيفالدي.
    وهناك أيضا الأمريكية الصاعدة بقوّة هيلاري هان التي احتلّ أوّل ألبوماتها الذي ضمّ بعض سوناتات باخ المرتبة الأولى في قائمة التسجيلات المفضّلة طوال أسابيع. يُذكر أن هيلاري هان برعت على وجه الخصوص في عزف كونشيرتو جان سيبيليوس الذي يقال انه احد أصعب القطع الموسيقية التي كُتبت لآلة الكمان، وإجادته تتطلّب مستوى غير عادي من التركيز الذهني والسيكولوجي.
    وهناك كذلك الاسكتلندية نيكولا بينيديتي التي تظهر في بعض صورها محتضنة آلة كمانها المصنوع في فينيسيا عام 1751 على يد بييترو غارنييري.
    والقائمة تطول. لكن يمكن الإشارة في عجالة إلى بعض الأسماء النسائية الأخرى والمهمّة مثل الكندية لارا سانت جون واليابانية ايكوكو كاواي والروسية فيكتوريا مولوفا والبريطانية السنغافورية الأصل فانيسا ماي والجورجية ليزا باتياشفيلي والألمانية جوليا فيشر وسواهن.
    الملاحظة الأخرى التي تلفت الانتباه هي أن معظم عازفات الكمان، وأكاد أقول جميعهن، يتميّزن بقدر عال من الجمال والجاذبية والحضور. بل لا أبالغ إن قلت إن ملامح بعضهن وطريقة لباسهن وحتى أسلوب حياتهن لا يختلف في شيء عن عارضات الأزياء والممثلات ومغنّيات البوب. وقد اكتشفت مع الأيّام انه حتى الجيل الجديد من مغنّيات الأوبرا "وعلى خلاف ما يتصوّره الكثيرون عن جدّيتهن ورصانتهن" يشتركن في هذه السمة التي تلخّص إلى حدّ ما طبيعة الأنثى وميلها الغريزي إلى إبراز جمالها وحتى التفنّن في أظهار مفاتنها للفت أنظار الجنس الآخر.
    ومع ذلك لا يمكن لوم النساء وحدهن، فالموسيقيون من الرجال أيضا يبالغون في إظهار أناقتهم واهتمامهم بالشكل الخارجي. وقد قرأت مؤخّرا رأيا لم اتأكّد من صحّته وملخّصه أن نشأة الموسيقى الكلاسيكية نفسها ومن ثم تطوّرها خلال القرنين الأخيرين كان قائما على فكرة التقاطع ما بين الفن والجنس "أي الذكورة في مقابل الأنوثة"، وأن عددا كبيرا من المؤلّفين الموسيقيين من الرجال كانوا حريصين دائما على تقمّص نموذج شخصية اللورد بايرون في محاولة لخطب ودّ النساء والتقرّب منهن.
    وبعض قادة الاوركسترا الكبار كانوا يعمدون إلى ترتيب ديكور حفلاتهم بحيث يكون الضوء مركّزا على شعورهم الطويلة اللامعة للفت أنظار النساء ونيل إعجابهن.
    ومن العبارات المنسوبة إلى باغانيني قوله: لست بالرجل الوسيم، لكن عندما تسمعني النساء وأنا اعزف، سرعان ما يأتين إليّ زحفا ويجثين عند قدمي".
    وضمن هذه الإطار يقال إن الموسيقي فرانز ليست كان مضرب المثل في جماله ووسامته، كما كان أشهر عاشق في أوربّا في زمانه وأعظم عازف بيانو في تاريخ الموسيقى كلّه. وكانت النساء تتقاتلن من اجل الحصول على أعقاب السجائر التي كان يتركها على البيانو بعد الحفلات الموسيقية التي كان يحييها.
    إن تزايد أعداد النساء اللاتي برزن بقوّة في مجال العزف على الكمان في السنوات الأخيرة يرقى إلى اعتباره ظاهرة يمكن أن تكون تعبيرا عن عمق التغيير الاجتماعي والأدوار المتغيّرة في المجتمعات الغربية على صعيد الجندر.
    وهناك ثمّة من يقول إن عازفات الكمان هذه الأيام، مع الاعتراف ببراعتهن وإتقانهن، تعوزهنّ العضلات، خاصّة عندما يتعاملن مع بعض أعمال مندلسون وبيتهوفن وتشايكوفسكي التي تتّسم بإيقاعاتها القويّة وضرباتها الفجائية والسريعة. وفي الغالب يأتي عزفهن رقيقا ورفيعا وبطيئا، وأحيانا تتحوّل الموسيقى المجلجلة والصاخبة في أصابع بعض العازفات إلى قطع تأمّلية وشاعرية يُخيّل لمن يسمعها أنها آتية من عوالم وفضاءات أخرى.

    Credits
    classicfm.com