:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، أكتوبر 16، 2024

ثورو عن العزلة


إن كنت قد سئمت من التعامل مع البشر وترغب في إتقان فنّ العزلة المفكّرة والمتأمّلة، فهذا الكتاب هو دليلك المناسب لفعل ذلك وللبقاء على قيد الحياة. فقط تأكّد من أن لديك مقصورة مناسبة وإمدادات كافية من الطعام وكرّاسا للكتابة واستعدادا لتقطيع الحطب وجلب الماء من الغدير أو النهر القريب.
إسم الكتاب "والدن"، أو الحياة في الغابات، لمؤلّفه المفكّر والفيلسوف الأمريكي هنري ديفيد ثورو (1817 - 1862).
كان ثورو خرّيجا لهارفارد ومعلّما سابقا وشاعرا وكاتب مقالات. وكان جزءا من مجموعة "كتّاب التسامي" الذين ظهروا في بداية القرن التاسع عشر في نيو إنغلاند. وهو يجمع في كتاباته بين الفلسفة والنثر والشعر والطبيعة والتفكير النقدي والمساعدة الذاتية.
وقد ألّف هذا الكتاب أثناء إقامته في "والدن" في كونكورد بماساتشوستس لأكثر من عامين وشهرين. وكانت بِركة والدن وجوارها مملوكة لصديقه رالف إيمرسون الذي منحه حرّية استخدامها، فبنى ثورو كوخاً بالقرب من حافّة المياه ليعيش فيه. وخلال إقامته هناك، لم يكن منعزلاً تماما. كانت عمّته وابنة عمّه تزورانه كثيراً وتُحضران له الوجبات وتأخذان ملابسه المتّسخة لتنظيفها.
في مقدّمة كتابه يقول ثورو: لقد ذهبت إلى الغابة لأنني كنت أرغب في أن أعيش حياة مدروسة، وأن أواجه فقط الحقائق الأساسية للوجود، وأن أرى ما إذا كان بإمكاني أن أتعلّم ما يجب أن تعلّمني إيّاه الحياة، لئلا أكتشف عندما يحين موعد موتي أنني لم أعِش. لم أكن أرغب في أن أعيش ما ليس حياة، فالحياة عزيزة للغاية. كنت أريد أن أعيش بعمق وأن أمتصّ كلّ رحيق الحياة وأن أعيش بطريقة تشبه أسلوب عيش الإسبارطيين بحيث أهزم كلّ ما ليس حياة".
الدرس المهم الذي تَعلّمه ثورو في عزلته هو أن الأشياء التي نشعر بأننا بحاجة إليها لنكون سعداء لا يمكن العثور عليها إلا من خلال الطبيعة". وأفكاره حول الحياة البسيطة جديرة بالثناء، وهي بمثابة نسمة من الهواء النقيّ في مجتمع حديث يركّز على المادّيات.
وهو يرى أن الكثير من المجتمع الحديث يعمل على عكس طبيعة الإنسان، وبالتالي فإن البشرية أصبحت تشعر بخيبة الأمل والتعاسة بشكل متزايد. كما يعلّمنا أن نكون مستقلّين وأن نتبع الطبيعة لنعيش حياة سعيدة. وبدلاً من وضع فلسفات فكرية معقّدة من شأنها أن تعكّر صفو حياتنا البسيطة، يجب أن نثق في أحكامنا ونسير على إيقاع طبولنا الخاصّة.
كان ثورو يريد أن يعيش ببساطة قدر الإمكان وأن يُهدر أقلّ قدر ممكن من الوقت والطاقة في كسب لقمة العيش كي يتمكّن من الاستمتاع بحياته بالفعل وتكريسها للتعلّم وتطوير نفسه.
ومن أجل تحقيق ذلك يقدّم للقارئ جملة من النصائح: عِش حياتك ودع بوصلتك الأخلاقية الداخلية ترشدك، وثق بنفسك، واتبع أحلامك، وانبذ الأفكار السخيفة حتى لو كان الجميع يؤمنون بها، ولا تتنازل عما يتعارض مع نزاهتك، وابحث عن الحقيقة في الفاصوليا التي تنمو في الأرض والبوم الذي ينادي في الليل والثعالب التي تهرول على الثلج في الشتاء والديك الذي يصيح عندما تشرق الشمس، وتذكّر أنك كائن روحي، واعرف أن هذه الحياة وُجدت للاستمتاع بها والاحتفال بها وأن أفضل طريقة لتفعل ذلك هي أن تعيشها على أكمل وجه.
فترة إقامة ثورو في "والدن" أنتجت عملاً أدبيّا في الفلسفة السياسية بلغ من العمق حدّاً جعله يصل إلى عقول أشخاص كالمهاتما غاندي ومارتن لوثر كنغ بعد أكثر من قرن من الزمان. كما ساعد في بناء المشاعر المناهضة للحرب في الجامعات الأميركية.
يقول ثورو: كثيرا ما أجد من المفيد أن أكون بمفردي. فالتواجد في صحبة، حتى مع أفضل الناس، سرعان ما يصبح مرهقا ومُضجِرا. إنني أحبّ أن أكون بمفردي. ولم أجد رفيقا أفضل من الوحدة.
وقد تعلّمتُ من تجربتي أنه إذا تقدّم المرء بثقة باتجاه أحلامه وسعى إلى عيش الحياة التي تخيّلها، فسوف يلقى نجاحا غير متوقّع ويتجاوز حدودا غير مرئية ويعيش بحريّة في مرتبة أعلى من بقيّة الكائنات".


كان أتباع فلسفة التسامي الأمريكيون، بمن فيهم ثورو، يمارسون شكلاً من أشكال الإنسانية المسيحية. وربّما لو عاشوا الى اليوم لصُنّفوا باعتبارهم ديمقراطيين اشتراكيين. فقد كان لهم تأثير على التطوّر الفكري في نيو إنغلاند يتخطّى كلّ الحدود، مع أن عددهم لم يكن يتجاوز بضع عشرات من الأشخاص.
أما عن تأثير ثورو وكتاباته، فربّما كانت كلمات صديقه رالف إيمرسون هي الأفضل للتعبير عن مبلغ هذا التأثير. فقد أشاد إيمرسون بثورو قائلا: لم يكن هناك رفيق مساوٍ له في نقائه وخلوّه من النفاق. وأعتقد أن مُثله العليا حالت دون حصوله على القدر الكافي من الاكتفاء الذاتي في المجتمع البشري".
كان ايمرسون يتذكّر ثورو دائماً باعتباره أفضل صديق له. حتى عندما كان فقدان ثورو للذاكرة متقدّماً إلى الحدّ الذي لم يعد معه قادراً على تذكّر اسمه قال عنه ايمرسون: كان المشي معه متعة وامتيازا. كان يعرف البلاد كما يعرفها الثعلبُ أو الطائر، ويمرّ بها بحرّية من خلال مساراته الخاصّة. وكان يعرف كلّ أثر في الثلج أو على الأرض وأيّ مخلوق سلك هذا المسار من قبله. وكان يحمل تحت ذراعه كتابا عن النباتات وفي جيبه مذكّراته وقلمه ومنظارا للطيور ومجهرا وسكّينا وخيوطا. وكان يرتدي قبّعة من القشّ وحذاء متيناً وسراويل رمادية قويّة ليتحدّى أشجار السنديان والشجيرات ويتسلّق شجرة من أجل عشّ صقر أو سنجاب."
يقول ثورو في مكان آخر من الكتاب: إذا كنتَ قد بنيتَ قلاعا في الهواء، فإن عملك لن يضيع لأن هذا هو المكان الذي يجب أن تكون فيه. والآن ضع أساسات تحت القلاع.
ومهما كانت حياتك صعبة، واجهها وعِشها، لا تتجنّبها وتُطلق عليها صفات قاسية. إنها ليست بهذا السوء الذي تتصوّره. إن من يبحث عن العيوب سيجدها حتى في الجنّة. أَحبّ حياتك مهما كانت بائسة".
كتاب ثورو ممتع ويمكن أن يعلّمنا الكثير. ولا تصدّق الفكرة الخاطئة الشائعة عن الرجل بأنه كان منفصلاً تماما عن المجتمع. كان إنسانا متفائلاً وكاريزماتيّاً وإنسانوياً. وهو يقدّم للقارئ دليلا لكي يعيش حياة كاملة حتى لا يندم عندما يموت.
يقول في إحدى فقرات الكتاب: أخبرَني أحد معارفي الشباب، الذي ورث بعض الأفدنة عن والده، أنه يريد أن يعيش مثلي إذا كانت لديه الوسائل. لكنّي لا أريد لأيّ شخص أن يتبنّى أسلوبي في العيش لأيّ سبب. أتمنّى أن يكون هناك أكبر عدد ممكن من الأشخاص المختلفين في العالم، وأريد أن يحرص كلّ شخص على اكتشاف طريقه الخاص، وليس أسلوب أبيه أو أمّه أو جاره.
ويقول أيضا: ينشغل الكثير من الناس بغسل جزيئات الذهب من مياه الأنهار. لماذا لا أقوم بغرس عمود من الذهب بداخلي وأعمل على استخراجه من منجمي!
إذا كان النهار والليل على هذا النحو الذي يجعلك تستقبلهما بفرح، والحياة تنشر عطراً كشذى الأزهار والأعشاب العطرية، فهذا دليل على نجاحك وسعادتك".
ويقول في مكان آخر: إن قراءة كتب التاريخ الطبيعي هي من أكثر المتَع المبهجة في فصل الشتاء. فعندما يغطّي الثلج الأرض، أقرأ بمتعة كبيرة عن أشجار الماغنوليا وجزر فلوريدا ونسمات البحر الدافئة، وعن سياج الأشجار وأشجار القطن وهجرة طيور الأرز، وعن نهاية الشتاء في لابرادور وذوبان الثلوج في نهر ميزوري، وأدين بالمزيد من الصحّة لهذه الذكريات عن الطبيعة الخصبة.
لكن وكما هو الحال مع كلّ كاتب، كان لثورو نقّاد ومعترضون. يقول أحدهم متحدّثا عن صعوبة بعض كتاباته: تكمن المشكلة في التدفّق المتعرّج لعقله وهو يفكّر بعمق في بعض مواضيعه. أحيانا يكون ما يقوله مباشرا وواضحا، خاصّة عندما يصف بيئته الطبيعية والعالم الجغرافي لنيو إنغلاند.
لكن أحيانا ينقل ثورو رسائل أعمق إلى القارئ وكأنه يقول: إتبعني عبر عقلي المعقّد وانظر إن كنت تستطيع ملاحقتي". وهذا على الأرجح هو ما منع ثورو من إحداث تأثير حقيقي خلال حياته على العالم الأوسع. فعندما يتعمّق الشخص في أفكاره ويرغب في أن يسكن الآخرون معه فيها، فإن هذا غالبا ما يخيف الناس منه ويدفعهم للابتعاد عنه".
توفّي هنري ثورو بمرض السلّ في مايو عام 1862. وكان عمره 44 عاما. ورغم أنه لم يأخذ حقّه من التقدير في حياته، إلا أنه يُعتبر اليوم واحداً من أعظم الكتّاب في الأدب الأميركي وأحد الآباء المؤسّسين لحركة الحفاظ على البيئة. كما أصبح كتاب "والدن" من الكتب المقرّرة في العديد من المدارس هناك.

Credits
thoreausociety.org