:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات فيلاسكيز. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات فيلاسكيز. إظهار كافة الرسائل

الاثنين، أكتوبر 09، 2017

لعبة المرايا

أعظم رسّامَي بورتريه في تاريخ الرسم لم يكن أيّ منهما يعرف عن وجود الآخر، رغم أنهما عاشا في عصر واحد. الأوّل رمبراندت (1599-1660) والثاني دييغو فيلاسكيز (1606-1669).
والسبب في أنهما يتصدّران قائمة رسّامي البورتريه في العالم هو أن أيّ وجه رسماه لم يُكتب له الخلود فحسب، وإنّما أيضا اكتسب سمة ميتافيزيقية وغامضة. ثمّة جاذبية فلسفية واضحة في طريقة رمبراندت وفيلاسكيز في النظر إلى البشر. ومع ذلك فإنهما - كرسّامَين - مختلفان.
رمبراندت في بورتريهاته التي رسمها لنفسه ينظر إليك بمعرفة عميقة للحياة. أما شخوص فيلاسكيز فينظرون بطريقة تخاطب المشاعر، لكنها لا توصل أيّ حكمة. ورمبراندت يؤكّد على الكرامة الإنسانية، أما فيلاسكيز فغير متأكّد. لكنه ينظر بعين محايدة ومتحرّرة من المجاملة والفانتازيا، وهي صفة طالما امتدحه عليها الايطاليون.
اطلب من أيّ فنّان أو فيلسوف أو شاعر اليوم أن يسمّي لك أعظم لوحة في العالم، والأرجح انه سيقول لك أنها وصيفات الشرف ، أكثر من عشاء ليوناردو الأخير وليلة فان غوخ المرصّعة بالنجوم ومدرسة أثينا لرافائيل.
ولو ذهبت إلى مدريد وزرت متحف برادو، فستلاحظ وجود غرفة عالية مثمّنة الأضلاع في وسط المتحف حيث تُعلّق الوصيفات. والزوّار يمرّون جيئة وذهابا من أمام اللوحة متأمّلين ودارسين.
الثقافة المعاصرة تمجّد هذه الصورة كثيرا، لأنها تجد فيها مرآة للوعي الحديث بالذات أكثر من كونها أيقونة فتنت أجيالا عديدة متعاقبة.
وصيفات الشرف لوحة ضخمة بما يكفي لأن تنافس الحياة. وهي تطلب منك أن تتأمّلها في فراغ ثلاثيّ الأبعاد. وهي تفعل هذا بخلق اتصال متوهّم بين الغرفة التي أنت فيها والغرفة التي في الصورة نفسها، كما لو انك تنظر إلى الوراء عبر الزمن؛ إلى داخل الغرفة الطويلة في قصر الكازار الاسبانيّ حيث نصب الرسّام عدّة الرسم قبل أكثر من ثلاثة قرون، وحيث ينظر إليك من زاوية في يسار اللوحة.
غير أن فيلاسكيز لا يكتفي بدعوتك للدخول في الصورة، وإنّما يعتبرك أيضا شخصية خاصّة في مسرحية. المرايا والتأثيرات البصرية تلعب دورا مهمّا في معظم لوحات فيلاسكيز المشهورة.
في فينوس أمام المرآة مثلا، تنظر ربّة الجمال إلى وجهها في مرآة، لكن انعكاسها المعتم لا يكشف شيئا عن مشاعرها.
وفي أسطورة اراكني المستمدّة من تحوّلات اوفيد، يظهر مِغزل يدور بسرعة فائقة لدرجة انك يمكن أن ترى من خلاله ما وراءه. الطريقة التي يُمسك بها فيلاسكيز بالتأثير البصريّ هي بلا شكّ لعبته المفضّلة في فنّ الرسم.
لقد رسم رمبراندت نفسه مرارا وتكرارا. لكن صورة فيلاسكيز الوحيدة هي هنا في تحفته "الوصيفات" الغامضة والمثيرة، والتي رسمها قبل أربع سنوات فقط من وفاته.
فيلاسكيز في غرفة العائلة في القصر يعمل أمام القماش بصحبة ابنة الملك وحاشيتها. وأوّل شيء يمكن ملاحظته هو أن الجميع متجمّدون، واهتمامهم مركّز على وجودٍ ما خارج الإطار. نظرة الذين يعرفون عن ذلك الحضور هي باتجاهنا، أي باتجاه الملك والملكة المنعكسة صورتهما على الجدار الخلفيّ.


أنت الملك، وأنت تقف بصبر من اجل أن يرسمك فنّان القصر الذي ينظر إليك من وراء رقعة الرسم. هذه هي الوضعية التي يتعامل بها فيلاسكيز مع الناظر إلى اللوحة. البورتريه الضخم لا يصوّر فحسب ملك وملكة اسبانيا اللذين لا يظهر منهما غير انعكاس صورتهما في المرآة، وإنّما يصوّر أيضا مشاعر التوتّر والقلق الذي تنطق به عيون الملك والملكة وبقية الجلساء في الغرفة. وفيلاسكيز بمعنى ما يرينا العالم من خلال عيني ملك.
في اللوحة، الوصيفات اللاتي يرتدين ثياب خادمات، يقمن على رعاية الفتاة الصغيرة انفانتا مارغريتا ابنة الملك الصغرى التي ترتدي ملابس نفيسة حتى وهي تلعب أمام والديها. لكنها تنظر إليهما بقلق، بينما يباشر اثنان من أقزام البلاط مهمّة الترفيه عنها.
انه عالم صغير، بارد وخطير. ولا احد في اللوحة يبدو في حالة استرخاء باستثناء المرأة التي تركل الكلب بقدمها.
المشهد لا يخلو من طابع مسرحيّ. فالجميع يرتدون ملابسهم الرسمية، وسلوكهم يبدو في غاية النظام والانضباط. لكن عند الباب في الخلفية يظهر رجل. انه يحمل الأخبار المستجدّة عن إمبراطورية اسبانيا الشاسعة والموشكة على الأفول عندما كان فيلاسكيز يرسم لوحته.
الملك الاسبانيّ فيليب الرابع كان من المفترض أن يكون سعيدا بهذا البورتريه العبقريّ والمفاهيميّ المبتكر. أما فيلاسكيز فقد أمطرت عليه السماء أوسمة ومكافآت من كلّ صوب.
غير أن هذه اللوحة تجرح نسيج الواقع ووهم الهويّة من خلال لعبة المرايا التي وظّفها الرسّام ببراعة. هل الملوك والملكات يوجدون فقط في أعين الآخرين؟ وإذا كان هذا يصدق على الملوك، فمن نكون نحن؟ أنت وأنا والآخرون؟!
فيلاسكيز ينظر إلينا من اللوحة بأدب وانضباط وبكثير من الصرامة. ذات مرّة، كتب الناقد الفرنسيّ ميشيل فوكو دراسة عن هذه اللوحة قال فيها إن النظرة الفولاذية للرسّام تحيل كلّ شيء آخر في الصورة إلى خواء.
ترى ألم يلاحظ فيليب كيف شُوّهت ملامحه؟ صورته المنعكسة مع الملكة في المرآة الخلفية تبدو متلاشية وشبحيّة. لقد كان فيلاسكيز ببساطة يمسك بمرآة ليعكس من خلالها أوقاتا عصيبة. فقد كانت اسبانيا آنذاك تمرّ بحالة انهيار في كلّ شيء، وكان فيليب يدرك هذا جيّدا.
هل يكون هذا هو السبب في أن الملك أمر بأن توضع اللوحة في غرفته الخاصّة وبعيدا عن الأنظار؟ المملكة التي كان فيليب يحكم أراضيها من بيرو إلى هولندا كانت تتضعضع شيئا فشيئا مع انعدام الأمن وتفشّي الفقر واندلاع الثورات في أطرافها. وربّما هذا هو السبب في أن وجه الملك يبدو حزينا مكفهرّا.
إنها حقيقة مذهلة عن عالم كلّ شيء فيه له وجهان، وكلّ حقيقة هي في نفس الوقت كذبة، وكلّ مرآة هي تذكير قاسٍ بتقلّبات الزمن.
عاش فيلاسكيز قريبا من الأحزان والمفارقات في القصر. وكثيرا ما تكون لوحات الرسّامين العظام شهادات على الواقع وعلى الخرائط السياسية الضائعة أو المتغيّرة. وهنا في هذه اللوحة، تتجمّع أشباح أسرة هابسبيرغ الملكية من وراء قارّة كاملة.
إننا كثيرا ما نجد أشياء تجذبنا في بعض الرسّامين وفي لوحاتهم. والأكيد أن الوقت الذي نقضيه بصحبة دييغو فيلاسكيز ليس بالوقت الضائع أبدا.

Credits
diegovelazquez.org
velazquezlasmeninas.com

الخميس، يوليو 06، 2017

روبنز: هوميروس الرَّسم


أينما نظرت في تاريخ الفنّ، لا بدّ أن ترى أثرا لبيتر بول روبنز؛ الفنّان الذي يقال انه أوّل من رسم البورتريه الفخم وأوّل من ابتكر قوس قزح في الرسم.
من دون رسومات روبنز، كيف كان يمكن، مثلا، أن يتطوّر موريللو وفان دايك؟ وهل كان استشراق القرن التاسع عشر سيأخذ شكله المعروف لولا لوحات روبنز المبكّرة والمثيرة التي تصوّر مناظر صيد التماسيح والقطط الكبيرة ؟ وهل كان بيكاسو سيرسم غورنيكا لو انه لم يرَ مثال روبنز عن ويلات الحروب في لوحته عواقب الحرب ؟
يمكن اعتبار روبنز شخصا مميّزا واستثنائيّا. شخصيّته الساحرة وسلوكه المتّزن وسرعة بديهته وإتقانه للعديد من اللغات جعل منه أيضا دبلوماسيّا ومبعوثا مرموقا. حياته الخاصّة كانت متميّزة أيضا. كان وسيما، لائقا صحّيّا، وكاريزماتيّا وبعيدا عن الحسد والضغينة والتنافس.
والناس اليوم يشيرون إلى روبنز على انه "الفنّان الذي رسم كلّ ذلك العدد الكبير من صور النساء ". وأثناء حياته ولثلاثة قرون بعد وفاته، كان يُنظر إليه كنموذج للانجازات الفنّية والاجتماعية. وعلى العكس من معاصره رمبراندت الذي عانى وتعثّر كثيرا في حياته وكان مثالا للرومانسيّ البائس، كانت حياة روبنز مليئة بالنجاح والشهرة والمال.
كان روبنز قادرا على فعل كلّ شيء ما عدا شيء واحد: أن يجد طريقه إلى قلوب الانجليز. في أوربّا، ظلّ دائما يُعامَل باحترام كبير. أحد النقّاد الفرنسيين من القرن التاسع عشر قال عنه إن الطبيعة البشرية بأسرها في متناول فنّه، باستثناء الأفكار المثالية والسامية".
وقد استطاع أن يؤثّر على الكثيرين من معاصريه، مثل فان دايك وفيلاسكيز ورمبراندت، وترك بصمته على الكثيرين ممّن أتوا بعده.
لم يكن روبنز مجرّد رسّام غزير الإنتاج، بل كان أيضا دبلوماسيّا وجامع آثار وشخصيّة أوربّية جامعة استطاعت أن تتنقّل بسهولة بين قصور ملوك القارّة، بما فيها بلاط تشارلز الأوّل ملك انجلترا.
لكن كلّ هذا لم يُكسِبه محبّة البريطانيين الذين لم يكن يعجبهم النمط الأوربّي الناعم الذي كانوا يرونه في فنّ روبنز. وبوصفه أعظم رسّامي الشمال، فقد ظلّ الكثيرون ولزمن طويل ينظرون إليه باعتباره مخلب قطّ للمؤسّسة الكاثوليكية وخبير دعاية بارعا لها.
وفي بعض الأحيان، اُتّهم بأنه كان يدير مصنعا للرسم أنتج عددا كبيرا من أعمال الاستديو التي لم تكن تحمل سوى القليل من بصمة المعلّم، أي روبنز. كان من عادته أن يضع نموذجا مصغّرا للوحة ويرسم الوجه والذراعين، ثم يكلّف احد مساعديه بإتمام باقي المهمّة.
والانجليز ليسوا الوحيدين الذين كانوا ينظرون إلى روبنز وفنّه بتحفّظ، بل لقد انتُقد كثيرا من معاصريه بسبب أشكاله المشوّهة ووجوهه النمطية. كما أن ألوانه الحسّية وتوليفاته الدينية كانت سببا آخر للتشكيك في فنّه.
في القرن التاسع عشر، قال عنه فان غوخ انه سطحيّ وأجوف ومنمّق. وحتى مؤيّديه، والكثيرون منهم رسّامون وخبراء رسم، كانوا يشعرون غالبا بأنه من الضروريّ أن يقرنوا ثناءهم عليه بملاحظات ناقدة.
مثلا، كان اوجين ديلاكروا يعتقد أن روبنز حصل على شهرة يندر أن حظي بها رسّام آخر. لكن كان يأخذ عليه ملء فراغات لوحاته بأعداد كبير من الأشخاص والجميع فيها يتحدّثون في وقت واحد".


وحتى جون راسكين الذي كتب مُشيدا بعقلية روبنز وأصالة فنّه وتفوّقه حتى على تيشيان ورافائيل، أخذ عليه افتقار أعماله للجدّية وخلوّها من العاطفة الحقيقية.
غير أن كلّ هذه الانتقادات تظلّ في النهاية مجرّد أحكام عامّة ولا تنطبق على مجموع أعمال روبنز الكاملة والتي يفوق عددها الألف وخمسمائة صورة.
روبنز، بكلّ تنوّعه، موضوع كبير وواسع. صحيح انه رسم قصصا دينية، لكنه أيضا رسَم بورتريهات لبعض أعظم الأشخاص في زمانه. كما رسم مشاهد من الميثولوجيا الكلاسيكية ومناظر طبيعة مثيرة للذكريات وصورا مجازية من التاريخ القديم والمعاصر.
ولا يمكن أيضا نسيان صوره المعبّرة لمعارك وعمليات صيد عنيفة، ولا صوره العائلية التي رسمها بأقصى درجات الرقّة والإتقان.
ورغم انه كان من الناحية الفنّية رسّاما فلمنكيّا، إلا انه كان في نفس الوقت شخصيّة أوربّية شاملة منذ البداية. والده كان كالفينيّا (نسبة إلى المصلح البروتستانتيّ كالفين)، وقد هرب الأب من انتورب إلى كولونيا عام 1568 عندما وصل دوق ألبا لإعادة الكاثوليكية بحدّ السيف إلى الأراضي المنخفضة الاسبانية، ردّا على النفوذ المتصاعد للبروتستانتية.
روبنز نفسه وُلد في وستفاليا. وبعد فترة قصيرة من موت والده في عام 1587، عاد هو ووالدته إلى انتورب وتحوّلا إلى الكاثوليكية. ورغم تحوّله، إلا انه تلقّى تعليما كلاسيكيّا وإنسانيّا وتلقّى تدريبا فنّيّا على أيدي ثلاثة من أشهر رسّامي انتورب وقتها.
لكن أسلوبه لم يتبلور تماما إلا بعد رحلته إلى ايطاليا التي سافر إليها ما بين عامي 1600 و 1608، وهناك استطاع بفضل مواهبه الرسميّة والشخصيّة الوصول إلى بلاط دوق غونزاغا. ثم بدأ من هناك رحلته الكبيرة إلى فينيسيا وفلورنسا وجنوا وروما لكي يستنسخ بعض اللوحات لمصلحة الدوق.
ذائقة روبنز الفنّية كانت عالية كما تعكسها لوحاته التي رسمها في ما بعد والتي تأثّر فيها بفنّ ميكيل انجيلو وتيشيان وكارافاجيو.
كان دوق غونزاغا أوّل من اعترف بقدرات روبنز الدبلوماسية، فبعثه إلى اسبانيا عام 1603 مع عدد من الهدايا للملك فيليب الثالث. وقد عيّنه الملك رسّاما للبلاط قبل أن يتّخذ منه سكرتيرا له ومبعوثا شخصيّا.
وفي عام 1608، عاد إلى انتورب مع سريان هدنة حرب الإثني عشر عاما بين اسبانيا وانفصاليي جنوب هولندا في عام 1609. وقد شكّلت تلك الفترة بداية عصر جديد من السلام والنموّ الاقتصاديّ الذي استفاد منه روبنز، خاصّة مع الطفرة الكبيرة في بناء دور العبادة وترميمها وتزيينها.
ثم عُيّن روبنز بعد ذلك رسّاما لبلاط الأمير البيرت والأميرة ايزابيللا، الوكيلين الاسبانيين لأسرة هابسبيرغ في حكم بلاد الفلاندرز، وهي وظيفة أعفته من دفع الضرائب وسمحت له بتأسيس مرسم خاصّ به.
وفي تلك الفترة أيضا، اقترن بزوجته الأولى ايزابيللا برانت التي أنجب منها ثلاثة أطفال وعاش معها بسعادة في بيت اشتراه وأعاد تصميمه على الطراز المعماريّ الايطاليّ.
كان روبنز يقدّر موهبته الفنّية جيّدا ويعرف أنه مُهيّأ بالفطرة لرسم الأعمال الضخمة أكثر من الصغيرة. وما عزّز هذا الشعور في نفسه هو اتّصافه بمستوى عالٍ من التجاوز والإقدام الفنّي.


وكان محسودا من الكثيرين، ليس بسبب مهارته كرسّام فحسب، وإنّما أيضا بسبب خصاله ومناقبه التي مكّنته من النفاذ إلى داخل دوائر السلطة.
في أواخر 1620، كلّفته الأميرة ايزابيللا، باعتباره مستشارها السرّيّ، بالقيام بعدّة مهامّ لاستعادة العلاقات بين بلده هولندا وانجلترا. وكانت زيارته اللاحقة للندن ناجحة دبلوماسيّا وفنّيّا.
وأثمرت جهوده تلك، مع آخرين، في وضع نهاية للحرب الاسبانية الانجليزية عام 1630. وقد أنعم عليه تشارلز بلقب فارس، ثم كلّفه بإنجاز بعض المهامّ الفنّية، ومن بينها رسم سقف دار الضيافة في الوايتهول.
في ذلك الوقت، تخلّى روبنز عن وظيفته الدبلوماسية وقرّر أن يعود إلى الرسم وإلى زوجته الثانية والجديدة هيلينا فورمنت التي عقد عليها بعد وفاة زوجته الأولى ايزابيللا عام 1626. وكانت صوره التي رسمها في ما بعد لهيلينا من بين أعظم لوحاته، وقد منحته خمسة أطفال أصغرهم وُلد بعد ثمانية أشهر من وفاته.
إنتاج روبنز في العقد الأخير من حياته اتسم بطابع شخصيّ، وقد اكتفى برسم مناظر للريف والحياة القروية حول ضيعته الجديدة خارج انتورب. وفي تلك اللوحات رسَم الفنّان عالما من السلام والتوازن يتناقض كليّةً مع واقع أوربّا آنذاك، حيث كانت حرب الثلاثين عاما في ذروة استعارِها.
وبسبب مكانته كرسّام بارز في عصره، فإن مجموعة أعماله الكاملة أعيد استنساخها وتوزيعها بمختلف وسائل الحفر والنقش.
ووصلت طبعات صوره الدينية إلى كلّ زاوية من زوايا العالم الناطق بالاسبانية، واستخدمها المبشّرون في المستعمرات. ويمكن العثور على آثار من روبنز في كنائس القرى المتناثرة في أرجاء بيرو والمكسيك والفلبّين وغيرها.
كما ظهرت نسخة من إحدى لوحاته منقوشةً على إناء من الخزف الصينيّ يعود تاريخه إلى بدايات القرن الثامن عشر.
وفي أوربّا نفسها، انجذب فنّانون كثر ومن جنسيات مختلفة إلى التنوّع الذي يميّز رسومات روبنز. فالانجليز أحبّوا لوحاته عن الطبيعة، والألمان أعجبوا بحيويّة صوره، والأسبان وجدوا في لوحاته الدينية مصدرا للإلهام، والفرنسيون ذُهلوا من مناظره الحسّية. واستمرّ هذا التأثير لزمن طويل.
أتباع روبنز الفرنسيّون كانوا كثيرين، من فاتو وبوشير وفراغونار إلى مانيه ورينوار وسيزان وغيرهم.
أما عندما يتعلّق الأمر برسم المناظر العنيفة، فإن روبنز كثيرا ما كان يُستخدم كموجّه ودليل. لوحته اصطياد نمر وفهد وأسد (فوق) تصوّر صراعا عنيفا حتى الموت بين بشر وحيوانات. وقد استلهمها رسّامون مثل رمبراندت وديلاكروا ولاندسير وبوكلين ورسموا مشاهد شبيهة.
ليس من الخطأ القول بأن لروبنز الفضل في ابتكار العديد من الأنماط الصُورية. لكن يجب أن نتذكّر أنه، هو نفسه، مدين لمن سبقوه من الرسّامين ممّن رأى أعمالهم في بداياته مثل ميكيل انجيلو ورافائيل وغيرهما.
وقد ظلّ يرسم حتى اللحظات الأخيرة من حياته، عندما مات بمرض النقرس عام 1640 عن ثلاثة وستّين عاما. غير أن وفاته كانت مجرّد محطّة عابرة في "الروبنزية"، فقد استمرّ تأثيره ومثاله في أوربّا وفي العالم حتى اليوم.

Credits
peterpaulrubens.net
theguardian.com

الأحد، أبريل 19، 2015

خواطر في الأدب والفن

تيشيان: شمس بين الأقمار


ولد الرسّام الايطالي تيشيان في بلدة كادوري الايطالية لعائلة نبيلة. وعندما بلغ العاشرة أظهر ميلا للفنون والرسم، فأرسله والده إلى بيت احد أعمامه في فينيسيا. وقد استطاع الأخير أن يلمس محبّة الصبيّ للرسم، فعهد به إلى الرسّام البارع والمشهور جدّا وقتها جيوفاني بيلليني.
في ذلك الوقت، كانت فينيسيا أغنى مدينة في العالم، وكان الرسم فيها مزدهرا كثيرا. كانت صناعة الرسم في هذه المدينة تضمّ رسّامين وباعة أصباغ وصانعي زجاج وناشري كتب وخبراء ديكور وصانعي أدوات خزفية وما إلى ذلك.
عندما أصبح تيشيان رسّاما يُشار إليه بالبنان، كان من بين تلاميذه جورجيوني. لكن عندما صار عمل التلميذ غير مختلف عن عمل أستاذه، قرّر جورجيوني انه لم يعد راغبا في أن يكون تلميذا لتيشيان واختطّ لنفسه طريقا آخر مختلفا.
لكن تيشيان لم يلبث أن تفوّق على معاصريه في مدرسة فينيسيا للرسم مثل تنتوريتو وفيرونيزي ولوتو. بل لقد تجاوز حتى القيود الثقافية والفنّية لعصر النهضة وأصبح معروفا باعتباره مؤسّس الرسم الحديث الذي هيمن هو عليه خلال حياته الطويلة. وقد عُرف على وجه الخصوص بابتكاريّته واستخدامه البارع للألوان.
وأجمل لوحات تيشيان مستوحاة من الأساطير التي كان يشبّهها بالشعر البصري. ولوحاته تلك تصوّر ضعف وهشاشة الإنسان بأسلوب يتّسم بالرقّة والغنائية.
في إحدى المرّات، وبناءً على تكليف من ماري ملكة المجرّ، رسم تيشيان مجموعة من أربع لوحات تصوّر شخصيات ملعونة في الأساطير: تيتيوس وسيزيف وتانتالوس وليكسيون. وجميع هؤلاء محكوم عليهم باللعنة وبالعذاب الأبديّ لإثارتهم غضب الآلهة.
ومثل ما فعل أسلافه الذين كانوا يرسمون على أواني الزهور، رسم تيشيان في إحدى هذه اللوحات "فوق" البطل الأسطوري سيزيف ببنية قويّة ومفعمة بالحياة، كما أظهره عَزوماً ثابت الخطى.
في اللوحة، كلّ جسد سيزيف منشغل ووجهه مشدود بفعل الثقل الذي يحمله. وهو لا يدفع بالصخرة لأعلى التلّ، وإنما يحملها فوق كتفه بحسب ما ذكره أوفيد في كتاب التحوّلات، وهو عمل أدبيّ كان مألوفا كثيرا لتيشيان، بل وربّما كان نموذجه الصوريّ.
سيزيف يبدو أنه كان شخصا حكيما، وربّما كان نموذجا للإنسان الذي ينافس الآلهة. تقول القصّة أن سيزيف، عندما حضره ملك الموت، قام بخداعه ثم أحكم وثاقه. ونتيجة لذلك، ولفترة من تاريخ الإنسانية، لم يكن احد من البشر يموت، إلى أن تدخّل زيوس كبير الإلهة وأعاد الأمور إلى نصابها.
الروح المتمرّدة وحبّ الحياة هما سمتان إنسانيّتان ضروريتان، وسيزيف كان يجسّدهما. ورغم كلّ الظلام والعدمية في العالم، فقد تخيّل تيشيان سيزيف وهو يقوم بمهمّته تلك إلى قمّة الجبل بعزيمة وثبات.
البير كامو، الكاتب والفيلسوف الفرنسيّ، اختصر القصّة في أن الصراع لبلوغ الأعالي يكفي لأن يملأ قلب الإنسان بالأمل وأن على المرء أن يتخيّل سيزيف وهو سعيد في مهمّته برغم كلّ المشاقّ والمعاناة التي تحمّلها.
أعمال تيشيان الأخيرة، والتي وصفها المؤرّخ جورجيو فاساري بأنها جميلة ومدهشة، نُفّذت بضربات فرشاة جريئة وبخطوط عريضة بحيث لا يمكن رؤيتها إلا من مسافة. وقد قال بعض النقّاد إن قصائده البصريّة تجسيد لعظمة ميكيل انجيلو ورافائيل، كما أنها تعبير عن الألوان الحقيقية للطبيعة.
بمعنى ما، كان تيشيان شمسا وسط أقمار صغيرة. وقد حرّر الرسم من التخطيط الأوّلي وكرّس ضربات الفرشاة باعتبارها أداة تعبير بحدّ ذاتها.
توفّي تيشيان أثناء انتشار وباء الطاعون في فينيسيا، وتوفّي معه في نفس تلك السنة ابنه وذراعه الأيمن اوراتسيو. والحقيقة أنه لم يترك وراءه أيّة رسائل أو مفاتيح تدلّ على حياته الخاصّة أو رؤيته الفنّية. ولوحاته التي يربو عددها على الخمس مائة تشهد على وفائه الأسطوري لمهنته.
نموّ تيشيان الفنّي رافقه حتى مماته، وأصبحت فرشاته في آخر عمره أكثر حرّية وأقلّ وصفية وأكثر تجريدا. "ها أنا أتعلّم أخيرا كيف أرسم".

❉ ❉ ❉

بترارك ودي نوفيس


ألّف فرانشيسكو بترارك، شاعر عصر النهضة الايطالي، عدّة قصائد عبارة عن تأمّلات حول طبيعة الحبّ. وقد كتبها من وحي علاقته العاطفية مع ملهمته لاورا دي نوفيس التي كان لها تأثير كبير على حياته وأشعاره.
في إحدى تلك القصائد، يتأمّل الشاعر في الحالة المحيّرة التي وضعه فيها حبّه لتلك المرأة. فهو في حبّه لها يشعر بأنه مسجون وفي نفس الوقت حرّ، وبأنه محترق بالنار وفي الوقت نفسه مغمور بالثلج. وفي قصيدة أخرى يصف حالة الجمال والصفاء في حبّه وأثر ذلك على السماء والطبيعة.
الموسيقيّ "فرانز ليست" قد تكون سوناتات "أو رباعيّات" بترارك حرّكت مشاعره، لذا ترجم بعضها موسيقيّا على البيانو بطريقة جميلة أمسك من خلالها بجوّ ومشاعر كلمات الشاعر. ومن أشهر ما ألّفه من وحي ديوان بترارك الرباعيّة رقم 104 . المعروف أن "ليست" قضى سنوات في ايطاليا، ألّف خلالها أيضا مقطوعات موسيقية أخرى من وحي بعض الأعمال التشكيلية التي رآها هناك مثل زواج العذراء لرافائيل وتمثال لورينزو دي ميديتشي لميكيل انجيلو وغيرهما.
المرأة التي ألهمت بترارك، أي لاورا دي نوفيس، كانت زوجة للكونت هيوز دي ساد الذي يُعتبر من أسلاف الماركيز دي ساد. غير أن المعلومات التاريخية المتوفّرة عنها قليلة. لكن معروف أنها ولدت في افينيون بفرنسا عام 1310 وكانت تكبر بترارك بستّ سنوات.
وقد رآها الشاعر للمرّة الأولى في إحدى الكنائس وذلك بعد زواجها بعامين، فوقع في حبّها من النظرة الأولى وأصبح مهجوسا بجمالها بقيّة حياته. وقضى السنوات التالية في فرنسا يغنّي لها حبّه الأفلاطوني ويتبع خطاها إلى الكنيسة وفي مشاويرها اليومية.
ديوان بترارك المسمّى كتاب الأغاني ألّفه في مديحها واتّبع فيه أسلوب الشعراء المتجوّلين أو التروبادور. ولم يتوقّف عن الكتابة عن لاورا بعد وفاتها، بل كتب عنها قصيدة دينية في رثائها.
دي نوفيس توفّيت عام 1348، أي بعد واحد وعشرين عاما من رؤية بترارك لها. كان عمرها آنذاك لا يتجاوز الثامنة والثلاثين. ولا يُعرف سبب وفاتها. لكن ربّما كان السبب إصابتها بالطاعون أو السلّ، بعد أن وضعت احد عشر طفلا.
وبعد وفاتها بعدّة سنوات عُثر على قبرها واكتُشف بداخله صندوق من الرصاص يحتوي على ميدالية منقوش عليها صورة امرأة وتحتها إحدى قصائد بترارك التي نظمها فيها.

❉ ❉ ❉

بورودين: قصّة حبّ مغولية


من سمات موسيقى المؤلّف الروسي الكسندر بورودين أنها تمتلئ بالأنغام التي يسهل تذكّرها وتعلق بالذهن بسهولة. من بين مقطوعاته الموسيقية المفضّلة لديّ هذه القطعة بعنوان "في سهوب آسيا الوسطى".
مفردة "السهوب" في العنوان تحيل تلقائيا إلى منغوليا وجنكيزخان والقبيلة الذهبية. والكلمة توازيها في المعنى كلمة "براري" في اللغة العربية.
هذه الموسيقى هي جزء من مسرحية بعنوان الأمير إيغور تتحدّث عن قصّة حبّ بين أمير روسيّ وإحدى نساء المغول.
الانطباع السائد لدى الكثيرين عن المغول هو أنهم قوم قساة متوحّشون ومتعطّشون للحروب وسفك الدماء. لكن المسرحية تقدّمهم بشكل مغاير، فهم في العموم لا يختلفون عن غيرهم من حيث المشاعر والعواطف الإنسانية.
وكلّ ما في هذه القطعة، من بناء وتوليف وأنغام، شرقيّ الطابع، وبالتحديد روسي. وقد وظّف فيها المؤلّف عددا من الأنغام الروسية. وهي تبدأ بعزف رقيق لآلتي الكمان والكلارينيت المفرد، ثمّ يتطوّر النغم شيئا فشيئا مع دخول الآلات الوترية.
وأنت تستمع إلى هذه الموسيقى ستتخيّل انك تشاهد قافلة تجارية وهي تقترب شيئا فشيئا. والموسيقى تعطيك هذا الانطباع بمرور موكب من الناس والحيوانات. وربّما مع شيء من التركيز قد تشعر بإحساس بالمشي وبوقع أقدام.
وأكثر ما يثير الانتباه في النغم الأوّل الذي يعزفه الكلارينيت هو كيف أنه يتطوّر ويتداخل مع العناصر الموسيقية الشرقية، وفي النهاية ينتهي بالفلوت والبيانو، ثم يتلاشى النغم، ويُخيّل للسامع انه يرى القافلة وهي تبتعد شيئا فشيئا إلى أن تتحوّل إلى نقطة صغيرة في الأفق البعيد.
إن أعجبتك هذه المقطوعة وأردت سماع شيء مختلف لبورودين أكثر رومانتيكية وقدرة على مخاطبة العواطف، فأظن أن لا شيء أجمل من معزوفته الليلية المشهورة "نوكتورن". توجد توزيعات كثيرة لهذه المعزوفة، لكن التوزيع الذي اعتبره الأفضل هو الموجود هنا ..

❉ ❉ ❉

فيلاسكيز: بورتريه اوليفاريز


هذا هو أشهر بورتريه فروسي رسمه دييغو فيلاسكيز عام 1634، ويصوّر فيه كونت اوليفاريز الذي كان وقتها أقوى رجل في مملكة اسبانيا؛ أقوى حتى من الملك نفسه.
وقد أراد فيلاسكيز التعبير عن كبرياء الرجل فرسمه فوق صهوة حصان، وهو شرف لا يناله غالبا سوى الملوك وزعماء الدول.
كان اوليفاريز مشهورا بحبّه للخيل. وهو يظهر هنا بقبّعة وعصا ودرع مزيّن بالذهب، بينما يجلس فوق حصانه هابطا من مكان عال، وشخصه يملأ كامل مساحة اللوحة.
الجواد الرائع الكستنائي اللون يميل برأسه في الاتجاه الآخر وينظر إلى أسفل اللوحة حيث تدور معركة ويرتفع دخان نار وذخيرة فوق السهل تحت.
اللوحة لا تصوّر معركة بعينها، بل تشير إلى المهارة العسكرية للرجل الذي كان يقود جيوش الملك من نصر إلى نصر.
الزاوية اليسرى إلى أسفل تظهر فيها ورقة بيضاء مثبّتة في حجر. لم يكن من عادة فيلاسكيز أن يوقّع لوحاته أو يسجّل عليها تواريخ. ورغم ذلك ترك هذه الورقة البيضاء في الصورة ولم يكتب عليها شيئا.
شغل اوليفاريز منصب الوزير الأوّل في اسبانيا بدءا من عام 1623. وطوال أكثر من عشرين عاما كان هو الحاكم المطلق للبلاد.
وقد انتهز توسّع حرب الثلاثين عاما كفرصة، ليس فقط لاستئناف الأعمال العدائية ضدّ الهولنديين، ولكن أيضا من اجل محاولة استعادة السيطرة الاسبانية على أوربّا بالتعاون مع أسرة هابسبيرغ.
وفي مرحلة تالية حاول اوليفاريز أن يفرض على الدولة نمط إدارة مركزيّا. لكن تلك الخطوة تسبّبت في اندلاع ثورة ضدّه في كاتالونيا والبرتغال أدّت في النهاية إلى سقوطه.
وأخيرا، إن كان سبق لك أن رأيت لوحة الفرنسي جاك لوي دافيد التي يصوّر فيها نابليون على ظهر حصانه فلا بدّ وأن تلاحظ الشبه الكبير بين تلك اللوحة وبين لوحة فيلاسكيز هذه. وأغلب الظن أن دافيد رسم نابليون بتلك الكيفية وفي ذهنه هذه اللوحة التي يبدو انه كان معجبا بها كثيرا.

Credits
titian-tizianovecellio.org
petrarch.petersadlon.com
diego-velazquez.org

الجمعة، أبريل 03، 2015

محطّات

قطار إلى لشبونة


ترى هل ساورك يوما شعور مفاجئ بالحاجة لأن تتخلّى عن حياتك السابقة وراء ظهرك وتبدأ حياة جديدة ومختلفة؟
ما يحدث في كثير من الأحيان هو أن حادثة واحدة وغير متوقّعة يمكنها أن تساعدنا على أن نقهر خوفنا الغريزي من المجهول ونبدأ حياة واعدة ومثمرة وتستحقّ أن تُعاش.
هذه هي الفكرة التي تتمحور حولها رواية قطار ليلي إلى لشبونة للفيلسوف والكاتب السويسري باسكال ميرسييه التي أصبحت احد أكثر الكتب مبيعاً بعد ترجمتها من الألمانية للانجليزية، ثمّ بعد أن تحوّلت إلى فيلم سينمائي قبل حوالي سنتين.
في الرواية يحكي المؤلّف عن رحلات مدرّس أدب كلاسيكي سويسري يُدعى ريمون غريغوريوس الذي يحاول استكشاف حياة طبيب برتغالي يدعى اماديو دي برادو أثناء حكم سالازار للبرتغال.
برادو نفسه ليس طبيبا فحسب، بل يمكن أيضا اعتباره مفكّرا ومهتمّا بالأدب. كما انه دائم التأمّل في أحوال العالم وفي التجارب الإنسانية. والقارئ يلمس عقليّته المتوقدة من خلال سلسلة من الملاحظات المكتوبة التي يحاول فيها استكشاف مدى وعي وقدرة الإنسان على اكتشاف ذاته وقدرة اللغة على تشكيل وتفكيك تجارب البشر ورغباتهم وهويّاتهم.
في ما يلي بعض ملاحظات برادو التي يجمعها ويقرؤها غريغوريوس في ثنايا هذه الرواية..
  • نترك شيئا من أنفسنا خلفنا عندما نغادر مكانا ما. إننا نمكث هناك حتى وان كنّا قد ذهبنا. وفي دواخلنا أشياء لا يمكن أن نجدها مرّة أخرى إلا عندما نعود إلى هناك؛ إلى نفس المكان.
  • أهرب عندما يبدأ شخص ما يفهمني. لا أريد لأحد أن يفهمني بالكامل. أريد أن أعيش حياتي غير معروف. عمى الآخرين هو بالنسبة إليّ سلامتي وحرّيتي.
  • عندما نتكلّم عن أنفسنا وعن الآخرين أو عن أيّ شيء، فإننا نكشف عن أنفسنا في كلماتنا. إننا نريد أن نُظهر ما نفكّر فيه وما نشعر به. وبذا نوفّر للآخرين فرصة لأن يُلقوا نظرة إلى داخل أرواحنا.
  • من الحكمة أن نبدأ في تحقيق الأمنيات الصغيرة التي طالما حلمنا بها، وأن نُصلح خطأ الاعتقاد بأنه سيتوفّر لدينا وقت في المستقبل لتحقيقها. قم بالرحلة التي طالما حلمت بالقيام بها، تعلّم لغة ما، إقرأ تلك الكتب، اشترِ هذه القطعة من المجوهرات، إقضِ ليلة في ذلك الفندق المشهور. لا تمنّ على نفسك بتحقيق هذه الأشياء الصغيرة. الأشياء الأكبر هي جزء من ذلك: تخلّ عن الوظيفة المملّة، اخرج من تلك البيئة الكريهة، إفعل شيئا يجعلك تبدو على حقيقتك أكثر ويجعلك اقرب إلى نفسك.
  • الخوف من الموت يمكن أن يوصف أحيانا بأنه خوف الإنسان من أن لا يكون قادرا على أن يكون الشخص الذي كان يخطّط لأن يكونه.
  • كيف سيكون عليه الحال بعد الجملة الأخيرة؟ كان دائما يخاف من آخر جملة. وابتداءً من منتصف أيّ كتاب، كان يتعذّب دائما من فكرة انه لا بدّ، ومن المحتّم، أن تكون هناك جملة أخيرة.
  • أشعر بالحزن على الأشخاص الذين لا يسافرون. عدم قدرة الإنسان على أن يتوسّع نحو الخارج يُفقده القدرة على أن يتوسّع إلى الداخل أيضا. والإنسان الذي لا يسافر محروم من إمكانية التنزّه داخل نفسه واكتشاف من هو وما الذي يمكن له أيضا أن يحقّقه.
  • حياتنا عبارة عن أنهار تتهادى منحدرة باتّجاه ذلك البحر اللانهائي الذي لا يمكن سبر غوره: القبر الصامت.
  • الشعور ليس هو نفس الشعور عندما يأتي في المرّة الثانية. إنه يموت أثناء وعينا بعودته. إننا نتعب ونملّ من مشاعرنا عندما تأتي بشكل متكرّر وتبقى معنا أطول ممّا ينبغي.
  • ❉ ❉ ❉

    بريولوف وملهمته


    كانت الكونتيسة يوليا سامويلوفا ملهمة الرسّام الروسي كارل بريولوف . كانا مرتبطين بقصّة حبّ، وقد رسم لها العديد من اللوحات من بينها هذه اللوحة التي تظهر فيها وهي تمتطي حصانا برفقة ابنتها.
    كانت سامويلوفا تنتمي إلى المجتمع البورجوازي، وكان والدها جنرالا يمتّ بصلة قرابة من بعيد لكاثرين العظيمة.
    وقد تزوّجت من احد الأمراء. لكن الزواج لم يستمرّ طويلا، وراجت العديد من التكهّنات عن أسباب الطلاق، منها أن يوليا كانت تتخذ لنفسها عشّاقا كثيرين.
    كان منزلها مقصدا لعشرات الزوّار والأشخاص المهمّين الذين كانت تقدّم لهم الأطعمة والمشروبات بسخاء. وربّما كان كرم الضيافة عندها يتجاوز أحيانا الحدود المتعارف عليها.
    انتقلت الكونتيسة يوليا سامويلوفا إلى ايطاليا بعد أن تركت عاصمة روسيا. وفي إثرها سار عدد من الشائعات وأحاديث النميمة. وفي ميلانو، أصبح الرسّام كارل بريولوف من بين من يتردّدون على قصرها.
    وقد لاحظ الناس التغيير الذي طرأ على سلوكها. فقد أصبحت تُعامل الرسّام كما لو انه قدّيس. وكان هو قريبا جدّا منها وكانت معجبة بفنّه. كتبت له ذات مرّة تقول: لا احد في هذا العالم معجب بك ويحبّك بمثل ما أنا معجبة بك ومحبّة لك. احبّك أكثر ممّا استطيع قوله. وسأظلّ احبّك إلى أن يواريني القبر".
    ولم تكن سامويلوفا وبريولوف يخفيان عن الناس علاقتهما الحميمة. لكن حبّهما كان غريبا، إذ لم تكن تخالطه غيرة. كانت تصله رسائلها حتى عندما يكون بعيدا عنها. "اخبرني أين أنت الآن، ومن تحبّ أكثر: يوليا أم الأخرى"؟ كتبت له ذات مرّة.
    ملامح الكونتيسة تظهر مثل الهاجس في العديد من لوحات بريولوف. في لوحته المشهورة آخر أيّام بومبي ، منح وجهها لامرأتين، ثم رسم نفسه كرجل وسيم وأشقر الشعر يحاول الاختباء من حمم النار المنهمرة بوضع كرّاس على رأسه. حتى رسوماته الأخرى تحتوي على وجوه تشبه وجه ملهمته الأسطورية يوليا.
    علاقة يوليا سامويلوفا وكارل بريولوف انتهت فجأة ولأسباب غير معروفة. وقد تزوّجت بعده أربع مرّات، كان آخرها عند بلوغها سنّ الستّين. ومع ذلك لم تذق في أيّ من زيجاتها الأربع طعم السعادة. كما لم تعد إلى روسيا بعد ذلك أبدا، واستمرّت تقيم في باريس إلى حين وفاتها في العام 1875م.

    ❉ ❉ ❉

    استراحة موسيقية


  • لم أكن اعرف هذه المقطوعة من قبل. لكن لأنني استمعت لها مرارا مؤخّرا واستمتعت بها، وجدت أنه قد يكون من المفيد أن أضعها هنا. سوناتا الكمان رقم 378 مقطوعة تأمّلية كتبها موزارت في عام 1779 وأهداها إلى تلميذته جوزيفا فون اورنهامر مجاملة لأبيها الثريّ.
    ومع أن هذه السوناتا ليست من بين أشهر ما كتبه موزارت، إلا أنها وُصفت في وقتها بأنها فريدة من نوعها وغنيّة بالأفكار الجادّة وبالشواهد التي تؤكّد العبقرية الموسيقية لصاحبها.


  • من أشهر مؤلّفات موزارت الأخرى كونشيرتو الكمان رقم 3 والمؤلّف من ثلاث حركات. وقد كتب هذا الكونشيرتو عام 1775 وعمره لم يكن قد تجاوز التاسعة عشرة.
    وكان موزارت يسمّيه كونشيرتو ستراسبورغ، لأنه استخدم في الحركة الثالثة منه جزءا من رقصة كانت تشتهر بها هذه المدينة.
    موزارت ألّف خلال حياته القصيرة خمسة كونشيرتوهات للكمان. ويقال، مع أن هذا ليس مؤكّدا، انه ألّفها جميعا في نفس تلك السنة. غير أن هذا الكونشيرتو ظلّ هو الأكثر شعبية من بين الكونشيرتوهات الخمسة بسبب جمال وبساطة أنغامه.
  • ❉ ❉ ❉

    دراما كونية


    من الحقائق العلمية التي باتت مؤكّدة اليوم أن الكون في حالة تمدّد دائم ومستمرّ. العالِم الفلكيّ ادوين هابل قاس تمدّد الكون ووجد أن المجرّات تندفع بعيدا عنّا بمعدّل 74 كيلومتر في الثانية كل ميغا بارسيك. والميغا بارسيك يساوي أكثر من ثلاثة ملايين سنة ضوئية.
    لكن إذا كان الكون يتمدّد فعلا، فلماذا تبدو مجرّتنا درب التبّانة على مسار تصادمي مع مجرّة اندروميدا؟ أليس من المنطقي أن تتراجع المجرّتان معا إلى الوراء بنفس تلك الوتيرة من السرعة الهائلة؟!
    من السهل تصوّر أن المجرّات تتحرّك بعيدا عن بعضها البعض. لكن الدلائل على الاصطدامات بين تلك العوالم الهائلة والعملاقة تملأ أرجاء الكون، ما يعني أن المجرّات تتحرّك بعيدا وترتطم ببعضها البعض، وهذا يحدث كثيرا وبوتيرة اكبر مما نظنّ.
    المجرّة التي تُعتبر جارتنا القريبة، أي اندروميدا، تتحرّك باتجاه مجرّتنا درب التبّانة بمعدّل حوالي 250 ألف ميل في الساعة، وهي سرعة تكفي لأن تنقلك إلى القمر في ظرف ساعة واحدة فقط.
    والفضل في ذلك هو لجاذبية المادّة المظلمة التي تحيط بالمجرّتين وتشدّهما إلى بعضهما بشكل وثيق، لدرجة أنهما يقاومان تمدّد الكون، وبدلا من ذلك تنجذبان إلى بعضهما البعض.
    وعندما يحدث الاصطدام الرهيب والمحتّم بينهما، وهو أمر لا يُحتمل أن يشهده البشر، فإنهما سيخلقان مجرّة واحدة بيضاوية الشكل، بينما سيتسبّب الاندماج بينهما في انفجار هائل يؤدّي إلى تشكّل نجوم وثقوب سوداء بالغة الضخامة تأخذ مكانها في قلب المجرّتين.
    واندماج المجرّتين لن ينتهي هنا. فتوأم اندروميدا أو مجرّتها الجارة المسمّاة ترايانغولوم "أو المثلّث"، والتي تتّصل مع المجرّتين بالمادّة المظلمة، سوف تنضمّ هي أيضا إلى الاصطدام، وسيتطلّب الأمر بليوني سنة أخرى لكي تندمج مع "ميلكوميدا" بشكل كامل.
    مجرّة درب التبّانة مساحتها مائة ألف سنة ضوئية. ومع ذلك يمكن أن تضع خمسين درب تبّانة داخل المجرّة المسمّاة IC 1101، وهي أكبر مجرّة اكتُشفت حتى الآن.
    أما اندروميدا، الأقرب إلى مجرّتنا، فتقع على بعد مليونين ونصف المليون سنة ضوئية فقط. في وسط هذه المجرّة، يوجد ثقب أسود ضخم يشبه مكنسة كهربائية هائلة. وهذا الثقب قويّ جدّا لدرجة أنه حتى الضوء لا يمكنه الإفلات منه.
    وفي عام 2005، اقترب تلسكوب الفضاء هابل من اندروميدا والتقط صورا مكبّرة لمركزها كشفت عن وجود قرص أزرق على شكل فطيرة يدور بالقرب من الثقب الأسود. وأظهر مزيد من التحليل أن هذا لم يكن مجرّد غبار ساخن، بل كان وهجا قادما من ملايين النجوم الزرقاء الفتيّة.
    وهذه النجوم تدور حول الثقب الأسود بسرعة تصل إلى أكثر من مليوني ميل في الساعة. وهي سرعة تكفي لإكمال الدوران حول الأرض في أربعين ثانية فقط.
    المجرّات عوالم رائعة وجميلة. لكنها أحيانا تتصرّف مثل أكلة اللحوم فيفترس بعضها بعضا بطريقة متوحّشة. والمجرّات الضخمة الحجم، مثل مجرّتنا، ما تزال تلتهم مجرّات اصغر حجما وتهضمها فتزداد ضخامة واتّساعا.

    ❉ ❉ ❉

    لوحة كاملة


    يمكن القول أن هذه اللوحة محكمة في كلّ شيء. وقد رُسمت ببراعة ولُوّنت بأفضل طريقة. إنها لوحة رائعة وبلا عيوب، من حيث نوعية الطلاء وعمل الفرشاة والتناغم الرائع بين الألوان والتفاصيل والتعبيرات على الوجوه.
    بعض النقّاد يقولون إن من الصعب الحكم على الرسّام من خلال قياس اللوحة أو حجمها. وهذه اللوحة ضخمة وتستحقّ أن يشاد بنجاح الرسّام في تنفيذها، إذ عندما يُرسم كلّ شيء بنجاح مذهل فإن ذلك يُعتبر انجازا في حدّ ذاته.
    صحيح أن لـ يواكين سورويا لوحات أخرى جميلة كثيرة، لكن لا يمكن مقارنة لوحته هذه بأيّ شيء آخر. وقد رسمها في سنواته المبكّرة عندما كان تأثير مواطنه فيلاسكيز عليه واضحا.
    اسم اللوحة إصلاح الشراع ، وقد رُسمت في حديقة منزل. وفيها يظهر جماعة من صيّادي السمك وهم يخيطون مع بضع نساء شراع سفينة في ضوء شمس البحر المتوسّط التي تتغلغل أشعّتها من بين أغصان الشجر.
    شارك سورويا بهذه اللوحة في عدّة معارض دولية، ففاز عليها بالميدالية الذهبية الأولى في معرضين، واحد أقيم في ميونيخ والثاني في فيينا.
    في بداياته، سافر سورويا في بعثة دراسية إلى ايطاليا، وقضى وقتا في روما حيث أتقن تدريبه الأكاديمي، كما عرّف نفسه بأعمال الرسّامين القدامى والمعاصرين.
    وقد سمحت له تلك البعثة أيضا بزيارة باريس، حيث تعرّف على الرسم الأكاديمي الواقعي الذي ألهمه رسم المواضيع الاجتماعية.
    لوحة إصلاح الشراع، جسّد فيها سورويا آثار ضوء الشمس الذي أصبح علامة فارقة على فنّه. وهناك لوحة أخرى له تشبه هذه اللوحة هي العودة من الصيد ، وهي لوحة عظيمة أيضا في تصويرها وفي تنفيذها.

    Credits
    bookforum.com
    britannica.com
    universetoday.com

    الاثنين، أغسطس 18، 2014

    ديغا والحياة الحديثة

    ما أن يُذكر اسم إدغار ديغا حتى تخطر في الذهن تابلوهاته الفخمة التي تصوّر فتيات صغيرات يتحرّكن كالفراشات وهنّ يتعلّمن فنّ رقص الباليه.
    كان ديغا محبّا لمظاهر الحياة الحديثة. وقد رسم النساء كثيرا في لوحاته، وخاصّة نساء الطبقة العاملة وهنّ يمارسن الأعمال المنزلية اليومية من غسيل وتنظيف وكوي وخلافه. وهؤلاء النساء لم يكنّ من طبقته هو. كان هو محسوبا على الطبقة البورجوازية الباريسية آنذاك.
    ورسوماته عن الطبقات الاجتماعية والمهن والسلوكيات المرتبطة بها تُعتبر من بين أفضل الأعمال التشكيلية التي تؤرّخ لتلك الفترة، أي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
    على المستوى الشخصي، كان ديغا شخصا عصبيّا بطبيعته. وكان نظره قصيرا جدّا لدرجة أنه كان يخاف من فقدان البصر. لكن، وربّما لهذا السبب بالذات، كان مخلوقا متقبّلا للآخرين وذا حساسية عالية، بحسب ما كتبه عنه الكاتب والناقد الفنّي الفرنسي إدمون دو غونكور.
    كان ديغا يعرف طبيعته الصعبة. وقد اعترف ذات مرّة لزميله الرسّام بيير أوغست رينوار بقوله: لديّ عدوّ واحد رهيب لا يمكنني التوافق معه. هذا العدوّ، بطبيعة الحال، هو نفسي".
    وقد عَرف ديغا من خلال أولئك الذين ارتبطوا به كيف يضبط مشاعره الانفعالية. "على العشاء، سيكون هناك طبق مطبوخ لي من دون زبدة. لا زهور على الطاولة، ومع القليل جدّا من الضوء. عليك أن تُخرس القط، وليس لأحد أن يجلب معه كلبا. وإذا كان هناك نساء بين الحاضرين، فاطلب منهنّ أن لا يضعن على أنفسهنّ روائح. لا لزوم للعطور عندما تكون هناك أشياء لها رائحة طيّبة كالخبز المحمّص مثلا. ويجب أن نجلس إلى المائدة في تمام الساعة السابعة والنصف".
    صرامة ديغا وانضباطيّته العالية دفعت كلّ أصدقائه تقريبا لأن يهجروه، بحسب رينوار. "كنت واحدا من آخر الذين كانوا يزورونه، ومع ذلك حتى أنا لم أستطع البقاء حتى النهاية".
    كان البعض يعتبر ديغا شخصا كارها للنساء، رغم أن قائمة أصدقائه كانت تضمّ الرسّامتين ميري كاسات وبيرتا موريسو، بالإضافة إلى كبار مغنيّات الأوبرا وراقصات الباليه في زمانه. وعندما اتّهم بأنه شخص منعزل نفى ذلك. "لست كارها للبشر، بل أنا ابعد ما أكون عن هذه الصفة، ولكن من المحزن أن تعيش محاطا بالأوغاد".
    وعلى الرغم من شخصيّته غير المهادنة، إلا أن ديغا كان يحظى بالاحترام من أقرانه الذين كانوا يخشونه. وكانت شعبيّته عالية لدى نقّاد الفنّ ومشتري الأعمال الفنّية. "كنت، أو هذا ما بدا لي، صارما مع الجميع وذلك بسبب ميلي لنوع من الخشونة التي تداخلت مع شكوكي ومزاجي السيّئ".
    ولد إدغار ديغا في باريس خلال نفس العقد الذي ولد فيه إدوار مانيه وبول سيزان وكلود مونيه. وكانت لديه العديد من الفرص. كانت سنواته الأولى متميّزة على الرغم من الحزن الذي شابها ورافقه طوال حياته. "كنت عابسا مع العالم كلّه ومع نفسي". وتحت ضغط والده وافق على دراسة القانون. ولكن سرعان ما تخلّى عن ذلك وقرّر أن يدرس الفنّ بحماس أقنع والده بدعمه.
    كانت أعمال ديغا المبكّرة عبارة عن لوحات تاريخية رسمها بالأسلوب الكلاسيكي. وفي بدايات تدريبه استوعب أساليب أوغست دومينيك آنغر وأوجين ديلاكروا وغوستاف كوربيه. وكان يطمح لأن يرسم مثل ميكيل أنجيلو ورافائيل.
    ولكن بدءا من 1861، تخلّى عن رسم المواضيع التاريخية وبدأ يرسم مشاهد من الحياة اليومية. وبينما كان يستنسخ أعمال فيلاسكيز في متحف اللوفر، التقى مانيه الذي أصبح صديقه والذي أدخله إلى دائرة الرسّامين الانطباعيين. وعلى الرغم من أن ديغا عرض معهم بعض أعماله، إلا انه لم يقدّم نفسه كفرد من أفراد الحركة. "ما أفعله هو نتيجة دراسة أعمال الرسّامين العظام، وأنا لا اعرف شيئا عن الإلهام والعفوية والمزاج".
    وعلى عكس أصدقائه الانطباعيين، كان إدغار ديغا رسّام مناظر حضرية وكان يحبّ رسم الأماكن المغلقة مثل العروض المسرحية والأنشطة الترفيهية وأماكن المتعة. ولم يكن مهتمّا بآثار الضوء في المناظر الطبيعية، بل كان يفضّل رسم الأشخاص ويمقت الرسم في الهواء الطلق. "يجب على رجال الدرك أن يطلقوا النار على حوامل اللوحات التي يراها الناس مبعثرة في أنحاء الريف".
    كان ديغا يسعى دائما إلى الكمال. كان يعيد رسم كلّ صورة ويدرس ويكرّر التفاصيل حتى يتقنها ويحفظها. وقد جرّب العديد من الوسائط، من بينها الباستيل الذي كان يخفّفه على البخار إلى أن يصبح عجينة. وكان يكره تألّق ولمعان الألوان الزيتية. ولهذا السبب كان يزيل الزيت ويستخدم بديلا عنه التربنتين المستخرج من أشجار الصنوبر. وغالبا ما كان يرسم على الورق بدلا من القماش.
    للحديث تتمّة غدا..

    الاثنين، ديسمبر 30، 2013

    علاقة الأشكال الفنّية بالحواسّ

    منذ القدم، كان يُنظر إلى حاسّة البصر على أنها النموذج في اكتساب المعرفة ومن ثمّ استيعابها من قبل العقل. أرسطو ركّز على هذا وقارن عملية التذكّر بالنظر إلى لوحة مرارا. وسان اوغستين قال إنه لا غنى عن البصر في التأمّل الروحي والفكري.
    ومع ذلك فالأساطير القديمة حافلة بأمثلة وصور عن القلق المتولّد من حاسّة البصر، مثل قصص نرسيس وميدوسا وأورفيوس. وفي أساطير أخرى، ترتبط حاسّة اللمس غالبا بالقوى الايجابية والواهبة للحياة، كما في أسطورة بيغماليون وبروميثيوس.
    أما أرسطو فقد حذّر من القوى الخطيرة المرتبطة بالوهم عند استخدام البصر. بينما أثنى، هو وتوما الاكويني، كثيرا على اللمس وقالا إن هذه الحاسّة هي أساس المعرفة التي يحصل عليها الإنسان من جميع الحواسّ.
    وهناك اليوم دراسات عديدة عن دور ووظيفة اللمس في أعمال فنّانين مثل سيزان وكاندنسكي والسورياليين.
    علماء الانثروبولوجيا وعلم النفس السلوكي والبيولوجيا بدءوا في تثمين حواسّ غير البصر في دراساتهم وتجاربهم. وبعض هؤلاء اقترحوا حاسّة الشمّ كبديل ممكن لما يرون انه مضامين أبوية لظاهرة التركيز على البصر في الثقافة المعاصرة.
    فولتير وديدرو ولوك قالوا إن اللمس حاسّة أساسية في اكتساب المعرفة التجريبية عن العالم وأن البصر ما هو إلا وسيلة ثانوية في تأكيد تلك المعرفة.
    في القرنين السادس عشر والسابع عشر ظهرت لوحات تصوّر انهماك أشخاص في لمس منحوتات، كما في لوحة الرسّام الاسباني جوسيبي دي ريبيرا (1591-1652) بعنوان "حاسّة اللمس" التي تصوّر رجلا أعمى يتفحّص بيديه تمثالا نصفيا بينما تستقرّ لوحة زيتية صغيرة بإهمال على طاولة بجانبه.
    وهناك لوحة أخرى لنفس هذا الرسّام بعنوان "النحّات الأعمى" تحمل نفس الفكرة، ويظهر فيها رجل أعمى وهو يتحسّس بيديه تمثالا نصفيّا.
    فكرة اللقاء بين رجل أعمى وعمل نحتي ظهرت أيضا في بعض الكتابات. في بداية القرن السابع عشر، مثلا، زعم كاتب ايطاليّ أن ميكيل انجيلو بعد أن تقدّمت به السنّ وضعف بصره كان يعتمد على اللمس وحده في الحكم على مزايا الأعمال النحتية القديمة أو المعاصرة. كما يقال أن الرسّام الفرنسي إدغار ديغا لجأ إلى النمذجة النحتية وأصبح يهتمّ بها أكثر من الرسم عندما بدأ بصره يضعف.
    لوحتا دي ريبيرا المشار إليهما آنفا كانتا ضمن سلسلة من اللوحات المشهورة التي خصّصها الفنّان لتناول الحواسّ الخمس. السلسلة تدفع المتلقّي للتفكير في دور الحواسّ وتأثيرها على الأفراد. وقد رسم اللوحات عندما كان يعيش في روما في وقت ما من القرن السابع عشر.
    في لوحة "حاسّة اللمس"، استدعى الرسّام مقارنة بين الصفات الوصفية واللمسية للرسم والنحت، أي بين الفرشاة والإزميل. وهو يبرهن على أنه من خلال حاسّة اللمس يمكن للرجل الأعمى أن يتعرّف على الأعمال النحتية.
    هذه اللوحة، من بين جميع لوحات السلسلة، مشهورة بشكل خاص بسبب سخريتها المزعجة. فالرجل الكفيف يقف وجها لوجه مع تمثال نصفي. وهو يريد أن يحسّ بالتمثال الرخامي ذي الأبعاد الثلاثة على الرغم من قربه منه، في حين أن اللوحة ذات السطح المستوي والموضوعة خلفه على الطاولة تذكّر الناظر أن هناك بعض المعلومات التي لا يمكن إيصالها حتى عن طريق اللمس.
    تذكّرنا هذه اللوحة مرّة أخرى بمحدودية الاتصال البشري وبالفجوة بين العالم الحقيقي وعالم الصور. الرأس المنحوتة قد تكون رأس ابوللو. أما الشخص الذي يتفحّصها فربّما يكون النحّات الايطالي الأعمى جيوفاني غونيللي، وقد يكون الفيلسوف الإغريقي كارنيديس الذي قيل انه كان يتعرّف على التماثيل النصفية من خلال تحسّسها ولمسها بيده وذلك بعد أن فقد حاسّة البصر. وقد كان من عادة الفنّانين آنذاك أن يربطوا صور الفلاسفة القدماء باستعارات عن الحوّاس.
    ترى هل أراد الرسّام أن يقول إن الإنسان الكفيف يمكن أن يتعرّف على النحت، بينما لا يمكن أن يتعرّف على الرسم سوى الإنسان المبصر؟ في ذلك الوقت كان يثور نقاش حول المنافسة بين الأشكال الفنّية من معمار ورسم ونحت وأدب وموسيقى. وبالتالي يبدو أن دي ريبيرا أراد من خلال اللوحة التأكيد على تفوّق الرسم على النحت.
    كان هذا الفنّان يرفض الرمز والاستعارة في أعماله ويتعامل مع ما يراه ويلمسه بنفسه. ويبدو أنه لم يخترع من مخيّلته أشخاصا يمثّلون كلّ حاسّة، بل فضّل أن يختارهم من الشارع ورسمهم من واقع الحياة.

    الفيلسوف الألماني يوهان هيردر (1744-1803) تحدّث مرّة عن فضائل النحت وخلع عليه هالة من الرومانسية عندما ميّز ما بين الرؤية واللمس. وقد روى هيردر عدّة قصص عن أشخاص مكفوفين ليبرهن على أننا نرى العمل النحتيّ كسطح ثلاثيّ الأبعاد لأننا كبرنا ونحن نستخدم حاسّتي اللمس والبصر في وقت واحد ومتزامن. ويضيف انه لولا حاسّة اللمس لكانت حاسّة البصر مجرّد حقل من الألوان والأشكال.
    وهو يرى بأن جوهر النحت شكل جميل ووجود فعليّ وحقيقة ملموسة. وعندما نفهم النحت على انه رؤية فقط، فإن هذا يُُعدّ تدنيسا للنحت واستهانة خطيرة بإمكانياته.
    وعلاوة على ذلك، دعا هيردر إلى الفصل ما بين الرسم والموسيقى، في ما بدا وكأنه اعتراض على أعمال فنّانين مثل كاندينسكي وموندريان اللذين قدّما لوحات "موسيقية"، وعلى أعمال بعض الملحّنين الرومانسيين الذين سعوا لرسم صور من خلال موسيقاهم.
    وهيردر يميّز ما بين الرسم والنحت. انه يربط الرسم بالرؤية وبعالم الأحلام، بينما يدّعي أن النحت هو مصدر الحقيقة. طبعا هو يقصد النحت الكلاسيكي الذي كان يعرفه في عصره. وبالتالي قد يتساءل المرء عمّا يمكن أن يقوله هيردر لو انه عاش إلى اليوم ورأى النحت التكعيبي الذي ابتعد كثيرا عن التمثيل الدقيق للأشكال في لحظة واحدة وأصبح ينظر إلى الأشياء ذات الحقائق المتعدّدة والمتحرّكة عبر الزمن، وكيف سيتعامل مع التقليلية مثلا ومع غيرها من الظواهر التي تؤكّد استحالة التنبّؤ باتجاهات ونزعات الفنّ.
    المعروف أن الرسّام جوسيبي دي ريبيرا كان تلميذا وتابعا لكارافاجيو. وقد قضى معظم حياته في روما وفي نابولي التي كانت في ذلك الوقت أعظم مدن ايطاليا ومركزا مهمّا للفنّ. وكان زملاؤه من الرسّامين الايطاليين يلقّبونه بالاسبانيّ الصغير.
    كانت مملكة نابولي وقتها جزءا من الإمبراطورية الإسبانية. وكانت تُحكم من قبل سلسلة من نوّاب الملك الإسباني. أصول دي ريبيرا الاسبانية أعطته الحقّ بأن يصبح مرتبطا بالطبقة الاسبانية الحاكمة في المدينة وبمجتمع التجّار الهولنديين فيها.
    كان الفنّان يرسم مثل معاصره وأستاذه كارافاجيو، وتحوّل بعيدا عن التقاليد والنماذج العتيقة والموضوعات المستوحاة من المثل الكلاسيكية العليا. ورسم بدلا من ذلك الحياة البشرية كما تبدو فعلا. وهي في كثير من الأحيان قبيحة وبشعة. وقد صوّر الفنّان كلّ هذا بواقعية كانت تصدم الجمهور وتروق له في الوقت نفسه.
    صور دي ريبيرا المروّعة عن التعذيب والمعاناة التي كانت تمارَس في زمانه كانت تحيّر الجمهور والنقّاد معا. وهو كان موهوبا في إظهار الرؤوس والوجوه والأيدي بطريقة اللمس. بنية الجلد والعظام في رسوماته واقعية بحيث أن العديد من مشاهده يمكن أن تؤذي مشاعر الأفراد ذوي الحساسية الشديدة.
    ومن الواضح أن دي ريبيرا لم يكن يقصد الإساءة لأحد. ولكن الوحشية لم تكن تصدّه عن تصوير مظاهرها وهو دائما ما كان يتبع مصادر إلهامه. وكان الجمهور قد أصبح معتادا على تصوير حزن الإنسان وبؤسه بتلك الطريقة.
    ولـ دي ريبيرا صورة أخرى مشهورة اسمها الشحّاذ العجوز الأعمى يظهر فيها رجل أعمى مسنّ مع مرشده الشابّ. وهذه اللوحة لها علاقة بفكرة التشرّد التي كانت رائجة في الأدب الإسباني آنذاك. لكن الرسّام أراد منها أساسا أن تكون موعظة عن الخيرية المسيحية.
    وقد استلهم موضوع اللوحة من رواية بعنوان حياة لازاريللو دي تورميس نُشرت لأوّل مرّة عام 1554 من قبل كاتب مجهول. بطلا الرواية هما رجل أعمى متسوّل وقاسي الطبع وصبيّ مراوغ يضطرّ باستمرار لأن يخدع سيّده كي يحصل على حصّة أكبر من الطعام والصدقات.
    وعلى الرغم من أن دي ريبيرا لم يعد أبدا إلى إسبانيا، إلا أن العديد من لوحاته أعيدت إلى هناك من قبل أعضاء الطبقة الحاكمة الإسبانية وعن طريق بعض التجّار. ويمكن رؤية تأثيره في فيلاسكيز وموريللو، بل وفي معظم الرسّامين الإسبان الآخرين من تلك الفترة.
    بعد وفاته، دخلت أعمال دي ريبيرا حيّز التجاهل والنسيان، ربّما بسبب سمعته التي كان يخالطها عنف وقسوة. فقد رسم أهوال الواقع ومظاهر توحّش البشر وأظهر انه يقدّر الحقيقة أكثر من المثالية.
    لكن بدأت إعادة تأهيل اسمه وفنّه من خلال معرضين أقيما لأعماله في لندن عام 1982 وفي نيويورك عام 1992. ومنذ ذلك الحين اكتسبت لوحاته المزيد من اهتمام النقّاد والدارسين.

    Credits
    archive.org
    artble.com

    الأربعاء، يناير 02، 2013

    حياتان متوازيتان

    أحيانا، وبتأثير عامل الصدفة وحده، يمكن لشخصين أن يرتبطا ببعضهما فكريّا ووجدانيّا دون أن يلتقيا أو يعرف أيّ منهما الآخر وعلى الرغم من أن كلا منهما يعيش في مكان مختلف.
    الرسّام الأمريكي جون سنغر سارجنت (1856-1925) والرسّام الاسباني يواكين سورويا (1923-1863) كانا يعيشان في عالمين مختلفين ولم يكونا على معرفة ببعضهما البعض، ومع ذلك كان يتنفّسان نفس الهواء وينسجان ذات الأحلام وتحرّكهما نفس الدوافع والهواجس.
    كان الاثنان متوافقين في أفكارهما، وكانت لديهما مشاعر وأفكار متماثلة. وأوجه الشبه بينهما غريبة وكثيرة. فقد عاشا في نفس العصر تقريبا. وهناك ملامح مشتركة بين أعمالهما وفنّهما. وكلاهما كان يعبّر عن تقديره وإعجابه بالآخر.
    في بدايات القرن العشرين، فتن سورويا باريس بلوحاته التي ينبعث منها الضوء الساطع. الكاتب والسياسيّ الفرنسي هنري روشفور عبّر عن إعجابه الكبير بمناظر سورويا بقوله: لا أعرف فرشاة أخرى تشعّ بكلّ هذا القدر من الضوء". في نفس الوقت تقريبا، كان جون سارجنت يحقّق نجاحا كبيرا من خلال لوحاته التي كان يعرضها في كلّ من لندن وباريس.

    بدأ كلّ من سارجنت وسورويا حياتهما المهنية في الجيل الذي أحدث ثورة كبيرة في الفنّ المعاصر، أي الانطباعيين. غير أنهما فضّلا أن لا يصطفّا مع التيّار الجديد. كانا يستكشفان المزيد من أساليب توظيف الضوء واللون في لوحاتهما ويدافعان عن الفنّ الحديث المستوحى من تقاليد الطبيعة.
    وجه الشبه الآخر المهم بين سورويا وسارجنت يتمثّل في أن كلا منهما كان متأثّرا بالرسّام الإسباني العظيم دييغو فيلاسكيز. وقد سافر سارجنت إلى مدريد لزيارة متحف برادو ودراسة لوحات فيلاسكيز. وتعلّم أن يرسم بخطوط فرشاة عريضة مع ظلال كبيرة ودرجات لون متوسّطة.
    تأثير فيلاسكيز يمكن ملاحظته أيضا على سورويا من خلال أسلوبه في التوليف واستخدام الضوء.
    سورويا وسارجنت حقّقا إبداعات كبيرة في حياتهما المهنية وكانا متفرّدين في أسلوبهما في استكشاف الضوء واللون.
    وقد ترك كلّ منهما إرثا كبيرا. سارجنت رسم أكثر من 900 لوحة زيتية وأكثر من 2000 لوحة مائية، بالإضافة إلى دراسات عديدة بالفحم. أما سورويا فكان واحدا من أكثر الرسّامين الإسبان إنتاجا، إذ رسم أكثر من 2200 لوحة تتوزّع على العديد من متاحف وغاليريهات العالم.

    السبت، فبراير 11، 2012

    خوسيه رويو: رسّام الضوء


    ولد خوسيه رويو في بلنسية عام 1940م. وقد ألِف الرسم منذ كان في التاسعة عندما بدأ والده، الفنّان هو الآخر، تعليمه الرسم. ومنذ الصغر، دأب خوسيه على زيارة متاحف اسبانيا الكبيرة بانتظام، حيث اطّلع فيها على أعمال فيلاسكيز ومونيه وسورويا ورينوار. وكانت أعمال الأخيرَين مصدر إلهام أساسي له، فنقل في لوحاته ذات الأسلوب الانطباعي أضواء وأجواء بيئة البحر المتوسط.
    لوحات رويو، المليئة بالضوء وبالألوان الحيّة والدراماتيكية التي تثير الحيوية والتفاؤل، ليست مجرّد صور بل هي انعكاس لمزاج وجوّ أيضا. ضربات الفرشاة العريضة وبقع اللون الكبيرة في هذه اللوحات تجذب الناظر إلى الداخل. وأنت تتأمّل هذه المناظر لا بدّ وأن يغمرك الإحساس بالضوء وحرارة الشمس وملوحة البحر وأن تسمع حفيف أوراق الشجر وأصوات تكسّر الأمواج على الشاطئ.
    ومعظم لوحاته هي عبارة عن بورتريهات لنساء في لحظات هدوء وتأمّل وسط طبيعة زهرية. وموديلاته في الغالب هنّ زوجته وبناته.
    رويو عرض أعماله في أنحاء متفرّقة من العالم. وهو احد الرسّامين الإسبان الذين يبحث جامعو الأعمال الفنّية عن لوحاتهم لاقتنائها.
    والبعض يشبّهه بمواطنه الرسّام يواكين سورويا. فكلاهما مولود في بلنسية. كما تلقّيا تعليما كلاسيكيا. والاثنان معنيّان بالإمساك بالجوهر البصري المثير لـ بلنسية وللبحر المتوسّط، وبالتحديد الشاطئ الجنوبي لإسبانيا. كما أن كلا منهما يوصف برسّام الضوء.

    الخميس، نوفمبر 10، 2011

    ألف لوحة ولوحة


    "ألف لوحة ولوحة يجب أن تراها قبل أن تموت" هو عنوان الكتاب الذي أحضرته معي بعد زيارتي الأخيرة إلى لندن. الكتاب يقع في حوالي ألف صفحة. وكلّ صفحة مخصّصة للوحة، مع شرح موجز عن الرسّام والعصر الذي عاش فيه.
    المؤلّف ستيفن فارذينغ يعمل أستاذا في جامعة الفنون في لندن. كما انه في الوقت نفسه رسّام. وقد ساعده في اختيار اللوحات وكتابة الشروحات مجموعة من تسعين كاتبا، بينهم أساتذة في الفنّ وموسيقيّون ومصمّمو مواقع اليكترونية.
    اللوحات المختارة تغطّي الفترة من عام 1420 قبل الميلاد وحتى العام 2006م. وتضمّ نماذج من الفنّ الفرعوني والإسلامي وفنّ عصر النهضة وصولا إلى فنّ القرن العشرين. وقد روعي في اختيار هذه الأعمال أن تكون ممثّلة لمختلف التيّارات والمدارس الفنّية في الرسم.
    ويحوي الكتاب أعمالا لفنّانين مشهورين مثل دافنشي وبيكاسو والبريخت ديورر وكلود مونيه وهيرونيموس بوش وكاندينسكي ورافائيل ودي غويا وميكيل أنجيلو وغوستاف كليمت وروبنز وغيرهم.
    والملاحظ أن المؤلّف لم يقدّم لكتابه بشرح عن بدايات الرسم. كما أن الكتاب لا يتطرّق إلى ماهيّة الرسم ولا إلى وظيفته.
    والملاحظة الأخرى تتعلّق بالعنوان. فالإشارة إلى الموت في عنوان كتاب يتحدّث عن الفنّ لم تكن موفّقة. لكن ربّما استوحى المؤلف العنوان من اسم كتاب شهير ورائج للكاتبة باتريشيا شولتز بعنوان "ألف مكان يجب أن تراها قبل أن تموت".
    المقال المترجم التالي يلقي المزيد من الضوء على مضمون هذا الكتاب. وهو خلاصة لآراء مجموعة من الكتّاب ونقّاد الفن.

    قد يكون من السهل على شخص ما أن يضع قائمة بلوحاته العشر المفضّلة من تاريخ الفنّ. لكن كيف يمكن لشخص واحد أن يتعاون مع عشرات الكتّاب الآخرين لتأليف كتاب شامل يتضمّن أهمّ وأشهر ألف لوحة في تاريخ الرسم؟
    الشيء المحيّر في هذا الكتاب هو انه خفيف جدّا رغم حجمه. وقارئه المستهدف هو بالتأكيد شخص ما يشبه المرأة التي تظهر على غلافه. وهي تبدو واقفة بينما تعطينا ظهرها وقد ارتدت ثوبا أسود أنيقا وغير مبهرج.
    في وقت ما من منتصف القرن التاسع عشر، حدثت انعطافة في تاريخ الرسم. فقد توقّف الرسّامون عن فعل ما كانوا يفعلونه من قبل، وبدءوا يطرحون أسئلة تتناول ماهيّة الرسم وغاياته.
    وكان هذا مؤشّرا على التحوّلات الهائلة التي مهّدت لدخول العصر الحديث. كان التغيير الأكبر يتمثّل في تخلّي الرسّامين عن تمثيل الأشياء بطريقة واقعية وإهمالهم للمسائل المتعلّقة بالمنظور.
    لكن، لسبب ما، كان الناس ما يزالون يشعرون بالرغبة في الرسم. ولا احد يدري لماذا. ربّما كان السبب هو محاولة الإبقاء على تقليد قديم على أمل أن يعيد إنتاج نفسه في عالم جديد.
    وأيّا ما كان الأمر، فإن الرسم تمكّن فعلا من إعادة تصنيع نفسه. واندفع الرسّامون إلى القرن العشرين بأفكار وأدوات جديدة. وبدأ بعضهم يتحدّث عن الرسم من داخل لوحاتهم.
    لوحة ماليفيتش المشهورة "ابيض على ابيض" يمكن أخذها كمثال. واللوحة هي عبارة عن مربّع ابيض مرسوم بطريقة مائلة على خلفية من اللون الزهري الخفيف. ويمكن اعتبار اللوحة دراسة في الشكل واللون.
    هذه اللوحة لن تعثر لها على اثر في كتاب "ألف لوحة ولوحة يجب أن تراها قبل أن تموت". وستجد عوضا عنها لوحة ماليفيتش الأخرى "الدائرة السوداء" والتي تحاول، هي أيضا، إيصال نفس الفكرة تقريبا.
    غير أن لوحة الدائرة السوداء تظهر في إحدى صفحات هذا الكتاب بمواجهة بورتريه الكونتيسة آنا دي نوي للفنّان الاسباني إغناثيو ثولواغا.
    من المؤكّد أن لوحة ثولواغا قويّة، وإن بطريقة مختلفة. تتمنّى لو انك عرفت هذه الكونتيسة عن قرب. تتأمّل في ملامح وجهها وتتخيّل كما لو أنها تقول: أحضر لي كأسا من النبيذ أيها الأحمق! النصّ تحت صورة الكونتيسة يتحدّث عن ألوان أغطية السرير الداكنة التي تحاكي لون شعر المرأة الفاحم وفستانها.
    وإذا ما حوّلت نظرك إلى الصفحة اليسرى من الكتاب، ستجد بضعة أسطر عن ماليفيتش تشير إلى أن الرسّام اختار للوحته توليفاً تجريديا بالكامل.
    الفرق بين هاتين اللوحتين كبير جدّا. السواد النقيّ في لوحة ماليفيتش يهدّد بمحو كل العناصر التمثيلية في لوحة الكونتيسة. هنا تقف الألوان الثريّة للباس التقليدي والمظاهر الأندلسية في مواجهة العالم الصامت للتجريد.
    ومن بين الأعمال العظيمة التي يتوقّع القارئ أن يجدها في هذا الكتاب رسومات ميكيل انجيلو في سقف كنيسة سيستينا، والغجرية النائمة لـ هنري روسو، والصرخة لـ إدوارد مونك، وظهيرة يوم احد لـ جورج سورا.
    لكن هناك مفاجآت أخرى ولوحات غامضة لا يبدو أنها جديرة بأن تُدرج في الكتاب، مثل في الصباح الباكر لـ موريتز لودفيغ فون شوند وأغنية من بعيد لـ فرديناند هولدر.
    في هذا الكتاب أيضا، ثمّة لوحات يُفترض أن لا تستطيع رؤيتها قبل الموت لسبب بسيط، هو أنها موجودة ضمن مجموعات فنّية خاصّة.
    على أن أفضل ما في الكتاب هو مجموعة اللوحات المختارة. وبطبيعة الحال لن تجد نفسك متّفقا مع جميع الاختيارات. لكنها تغطّي مجموعة كبيرة من الأساليب والتيّارات الفنّية والفترات الزمنية والرسّامين.
    من بين الأعمال المختارة لوحة رحلة المجوس إلى بيت لحم للفنّان الايطالي بينوتسو غوتسولي. هذا لوحة غريبة بالفعل. لكنّ منتصف القرن الخامس عشر، أي زمن رسم اللوحة، كان فترة غريبة. ومن الصعب جدّا فهم المشهد الفكري في أوروبّا من بدايات العصور الوسطى وحتى بداية عصر النهضة. كانت هناك قواعد مختلفة. الله كان ما يزال موجودا. وكانت الحياة تُفسّر من خلال شبكة معقّدة من الرموز والاستعارات التي لا يمكننا فهمها اليوم. لكن يمكن للمرء على الأقلّ أن يقدّر ثراء اللون وجمال التصميم في هذه اللوحة. فهي تنقل المتلقّي عبر فضاء حالم. والنصّ المكتوب تحتها يقول: التوليف يبدو غير محسوم. كما أن المنظور غير مقنع". وهذا استنتاج صحيح. فاللوحة عبارة عن محاولة تجريبية في أسلوب تناول التوليف والمنظور.
    الربع الأوّل من الكتاب تهيمن عليه الايقونات واللوحات الدينية من ايطاليا. والربع الأخير منه تغلب عليه لوحات فنّاني الحداثة مثل غوردون بينيت وداميان هيرست، بالإضافة إلى فنّان الشوارع البريطاني المشهور بانكسي.
    من المعلومات الغريبة التي يوردها الكتاب عن الموناليزا هي أن اللوحة لم تكتسب اسمها المعروف اليوم إلا بعد حوالي نصف قرن من رسمها، عندما كشف المؤرّخ الايطالي جورجيو فاساري هويّة المرأة زاعما أن اسمها الأصلي ليزا جيرارديني.
    من أوجه النقص في هذا الكتاب انه لا يتحدّث عن الأسباب التي تجعل من لوحة ما مهمّة وتستحقّ أن تراها. لكنّ المؤلّف يقول في المقدّمة إن كلّ عمل في هذا الكتاب لا يمكن أن يرقى إلى المستوى الممتاز الذي تتبوّأه لوحة مثل لاس مينيناس لـ فيلاسكيز. غير انه يؤكّد لنا أن كلّ لوحة اختيرت، إما لأنها مهمّة أو لأنها مثيرة للاهتمام، أو للأمرين معا. لكن متى تكون اللوحة مهمّة أو مثيرة للاهتمام؟ المؤلّف لا يكلّف نفسه عناء طرح مثل هذا السؤال رغم أهمّيته. كما انه لا يقدّم شرحا مقنعا وكافيا عن سبب اختيار هذه اللوحات بالذات، وكأنه ينصح القارئ بأن يتوقّف عن الكلام وينشغل فقط بالنظر. أي أن هذا الكتاب في النهاية إنما يعرض الصور أو اللوحات، لكنّه لا يتحدّث عنها.

    الاثنين، يوليو 25، 2011

    أمام المرآة


    هذه اللوحة اسمها فينوس أمام المرآة لرسّام عصر الباروك بيتر بول روبنز. المرآة تلعب دورا أساسيّا في اللوحة. فهي التي تعطي المرأة إحساسا بالهويّة والذات. لاحظ كيف أن الرسّام حجب معظم ملامحها عن الناظر بحيث لا يظهر وجهها إلا في المرآة الصغيرة التي يمسك بها الطفل. ثم إنها لا تنظر إلى وجهها في المرآة، بل تحدّق مباشرة في الناظر وكأنها تكشف له من خلال تلك النظرة عن جانب من ذاتها الحقيقية.
    من الناحية التقنية، تُظهر اللوحة براعة روبنز في تصوير العضلات وانثناءات الجسد وفي اختيار الألوان وقيم الضوء والظلّ المناسبة التي تعكس تفاصيل جسد الأنثى التي ترمز لـ فينوس إلهة الجمال القديمة.
    واللوحة تذكّر بلوحتين أخريين مشهورتين تلعب فيهما المرآة أيضا دورا رئيسيا، الأولى لـ فيلاسكيز والثانية لـ تيشيان.
    المرآة كانت وما تزال موضوعا مفضّلا في الرسم. وهناك العشرات، بل المئات من الأعمال الفنّية التي تشكّل المرآة عنصرا أساسيا فيها.
    لكن لماذا كلّ هذا الاهتمام بالمرآة في الفنّ والأدب والفلسفة؟ السبب يتمثّل في حقيقة أن ابتكار المرآة كان نقطة تحوّل مهمّة في نظرة الإنسان إلى نفسه ووعيه بذاته لأنها جعلته في حالة مواجهة مباشرة مع نفسه. وقبل اكتشاف المرآة الأولى على أيدي المصريين القدماء قبل أكثر من خمسة آلاف عام، كانت وسيلة الإنسان الوحيدة للتعرّف على هويّته هي النظر في مياه البحيرات والغُدران الراكدة.
    لكن لأن الماء لا يوفّر صورة ثابتة وواضحة دائما للوجه، فقد سعى الإنسان جاهدا لاكتشاف وسيلة أخرى يرى فيها وجهه في وضع ساكن وثابت.
    والمرآة بشكلها المعروف اليوم لم تظهر إلا منذ خمسة قرون، وبالتحديد في مدينة فلورنسا الايطالية.
    توق الإنسان لأن يرى صورته على حقيقتها كان هاجسا لازم البشرية منذ أقدم العصور. وكلّنا نتذكّر قصّة نرسيس في الميثولوجيا اليونانية القديمة. تقول الأسطورة إن نرسيس كان شابّا ذا جمال خارق لدرجة انه فُتن بصورته عندما رآها لأوّل مرّة منعكسةً على سطح مياه إحدى البحيرات. وأصبحت قصّته تقترن بالنرجسية وهي صفة أصبحت ترمز في علم النفس إلى الأنانية وحبّ الذات.
    المرآة أصبحت منذ اكتشافها مرتبطة بوعي الإنسان بذاته وهوّيته الشخصيّة. إسأل أيّ شخص، سواءً كان رجلا أم امرأة، عن أوّل عمل يقوم به في الصباح عندما يستيقظ من النوم. سيقول لك انه ينظر إلى ملامحه في المرآة بينما يغسل وجهه أو يفرّش أسنانه. وقبل أن يغادر المنزل إلى العمل أو المدرسة لا بدّ أن يعرّج على المرآة كي يعدّل أمامها هندامه ويطمئنّ إلى أن هيئته على أفضل ما يرام.
    أصبحت المرآة بمعنى من المعاني رمزا للحقيقة. لذا يقال في كثير من الأحيان أن المرآة لا تكذب.
    لكن هل صحيح أن المرآة لا تكذب؟ الواقع أن المرآة تُصوّر أحيانا على أنها رمز للخداع وتزييف الحقيقة. بل إن اندريه ماغريت الرسّام البلجيكي ذهب إلى ابعد من هذا عندما رسم لوحة مشهورة شبّه فيها عين الإنسان نفسها بالمرآة المزيّفة.
    والواقع انك بمجرّد أن تبتعد عن المرآة، ستكتشف أن صورتك سرعان ما تختفي وتصبح مجرّد ظلّ. المرآة تزيّف الواقع وأحيانا تشوّهه. وهي في النهاية مجرّد حيلة من حيل الفيزياء تُظهر صورنا معكوسة لدرجة انك لا تميّز أمامها يدك اليمنى من اليسرى ولا خدّك الأيسر من الأيمن.
    عندما ظهرت المرآة لأوّل مرّة كانت أداة للتباهي والتأكيد على المنزلة الاجتماعية الرفيعة. وعندما راجت وانتشرت بين الناس صارت رمزا للمساواة وأداة لاكتساب احترام وتقدير المجتمع.
    لا مشكلة في أن تقف أمام المرآة بضع دقائق في اليوم كي تصلح من مظهرك وتبدو بحال أفضل. لكن المشكلة مع المرآة هي أنها لا توفّر لك الوعي المنشود بالذات. فأنت في حقيقة الأمر لا تنظر إلى "نفسك" فيها، بل إن ما يشغلك في النهاية هو أن تعرف كيف سينظر إليك الآخرون.
    الإنسان عندما ينظر إلى نفسه في المرآة لا يبحث عن احترامه لذاته، وإنما عن احترام الآخرين له. وما تعكسه المرآة في واقع الأمر ليست صورتك الحقيقية عن نفسك، وإنّما صورتك التي تبحث عنها في أعين الآخرين.
    معرفة الإنسان لنفسه أصبحت هذه الأيّام لا تتحقّق من خلال تأثير الصورة والمظهر الخارجي، وإنّما من خلال طريقة الشخص في التعبير عن أفكاره وتصوّراته. بل إن هناك الآن من يقول أن فكرة معرفة الذات، كما تطرحها الكثير من الكتب الرائجة هذه الأيّام، هي نفسها فكرة مبهمة وغائمة. وانشغال الإنسان بهذه الفكرة والتعويل عليها أكثر مما ينبغي يمكن أن يصبح عقبة في طريق تحقيقه للنجاح والتجاوز في حياته.
    ترى لو خلا هذا العالم من المرايا فجأة، ما الذي سيحدث؟
    وكيف يمكن ملء الفراغ الذي كانت تملأه المرايا في حياتنا؟ هل سنصبح أكثر أم اقلّ وعياً ومعرفة بذواتنا؟ هل سنصبح أكثر أم اقلّ إحساسا بالوحدة؟ هل سيقبلنا الآخرون كما نحن دون أن نضطرّ إلى تغيير صورنا وتزييف طبيعتنا الحقيقية؟!

    الاثنين، يونيو 20، 2011

    أوليمبيا و مانيه

    بلوحة واحدة وصادمة تصوّر مومساً في حالة استرخاء، دشّن إدوار مانيه العالم العاري والجريء للفنّ الحديث.
    لم تكن مثل أيّ سيّدة متخففة تمّ رسمها من قبل. لم تكون حوّاء في الجنّة أو فينوس على سرير من الأمواج. ولم تكن إلهة أو ملاكا أو امرأة تغتسل بخجل وتراها العين على حين غرّة.
    كانت امرأة معاصرة، لا تبدو خجولة أو مغطّاة، كما أنها ليست رمزا أو استعارة لشيء. كان اسمها فيكتورين موران. لكن إدوار مانيه كان يسمّيها اوليمبيا. وقد غيّرت كلّ شيء.
    للوهلة الأولى، قد يتساءل المرء عن سبب كلّ هذه الضجّة. مانيه كان يعتبر نفسه رسّام طبيعة صامتة. وربّما هذا هو السبب في أن أوليمبيا تبدو بمثل هذا الغموض الصامت. هي تتمدّد بهدوء، بدون ثياب وبشكل صارخ، لكنّها ترتدي زينة كلاسيكية. فهناك وشاح أسود حول رقبتها وفردة نعال واحدة في قدمها اليسرى. الفردة الأخرى انزلقت بلا مبالاة. في أذنها زهرة قرنفل. يدها مثبّتة فوق حضنها. الزوايا الخارجية لفمها مرفوعة قليلا وكأنها على وشك الابتسام أو السخرية. عيناها ناعستان. لكنّ وضعية جلوسها متنبّهة بما لا يدع مجالا للشكّ. قارن بينها وبين أي أيّ حورية ساخنة ومبتذلة من عصر الباروك او الروكوكو. وسيتبيّن لك أنها رزينة بشكل ايجابي.
    لكنّ هناك شيئا مختلفا في هذه الأنثى. فمن ناحية، هي لا تفعل شيئا. كما أنها تتجاهل باقة الورد التي تقدّمها لها خادمتها السمراء . وقطّتها الصغيرة، خاصّة ذيلها الموحي، تبرز من سفح سريرها. إنها لا تستحمّ ولا تحلم ولا تخلع ملابسها. ونحن في صحبتها، ندرك أنها امرأة متجردة وفي السرير، لنفس السبب الذي تجلس فيه أيّ امرأة متجردة في السرير. وهي تحيّي الناظر بنظرة نصفها دعوة ونصفها جرأة. إنها عشيقة، أو على الأرجح بغيّ. لكنّها يقيناً ليست شبحا اسمه الربيع.
    ربّما كان مانيه أوّل فنّان صدم العالم. ونفوذه يتعدّى السمعة السيّئة التي ألصقت به. فهو كان مهذّبا وأنيقا ونبيلا. وقد روّعه ردّ الفعل القويّ على "أوليمبيا" بنفس القدر الذي روّعت فيه اللوحة النقّاد. كان مانيه رسّاما تدرّب على التقاليد الأكاديمية الرصينة. ولكن اندفاعه جعله غير متقيّد بها. كان يستلهم الواقعية الجريئة لـ غوستاف كوربيه والظلمة الأخروية للرسّامين الإسبان الكبار أمثال فيلاسكيز وغويا. وحتما، انجذب الشابّ مانيه إلى المواضيع الأقلّ تقليدية.
    صحيح أن أسلوبه لم يكن يرتاح لرسم الملاك السمين. لكن هذا لا يعني أن مانيه كان ينظر إلى نفسه على انه لا منتمٍ. فقد كان يؤكّد على انه يرسم ببساطة ما كان يراه. وكان يعرض أعماله على الناس لأنه كان يبحث عن القبول. وما حصل عليه كان المزيد من النقد اللاذع، والمزيد من الشهرة والقوّة الدائمة التي ما كان ليحلم بها أبدا.
    عندما عُرضت "أوليمبيا" في صالون باريس عام 1865 أشعلت فضيحة في أوساط الفنّ والأدب لم يسبق لها مثيل. انتزع النقّاد اللوحة من مكانها. والجمهور فعل تقريبا نفس الشيء.
    انطوان بروست أشار في وقت لاحق إلى أنه "إن لم تكن اللوحة قد دُمرّت، فإن سبب ذلك كان الاحتياطات التي اتخذتها إدارة المعرض".
    الأفكار الفيكتورية لم تكن مقتصرة على البريطانيين فقط. ولم يجرؤ فنّان جادّ على أن يرسم امرأة بمثل تلك السمعة السيّئة دون أن يلفّها على الأقلّ بذلك الرداء الغريب الذي يُلفّ به الحريم عادة. ومع ذلك كان هناك من نظر إلى اوليمبيا على أنها محاكاة ساخرة للوحة تيشيان "فينوس أوربينو". لكنها لم تكن كذلك. فـ مانيه لم يعرض فقط مجرّد بغيّ على أعين العالم. بل كانت لديه الجرأة لعبادتها أيضا. وكان هذا نوعا من التجديف. لكن من سوء حظّ منتقدي مانيه أن الصورة كانت أيضا رائعة.
    القصّة تبدأ مع المرأة نفسها، مع الوجه الفتّان لـ فيكتورين موران. كانت موران موديل مانيه المفضّلة منذ وقت طويل. وكانت ملهمته ورفيقته وموضوعا للعديد من لوحاته. ولأكثر من عشر سنوات ابتكرها مانيه مرارا وتكرارا، مرّة كمصارعة ثيران ذات وجه صبياني، ومرّة كموسيقية شوارع، وثالثة كسيّدة كريمة ترتدي جلبابا ورديا.
    في العام 1863، وهو العام نفسه الذي تزوّج فيه زوجته سوزان، رسم مانيه لوحتين عاريتين لـ موران، أشهرهما غداء على العشب، التي عرضها في الصالون، لكنّها رُفضت. فمنظر موران العارية في رحلة نزهة اعتُبر منظرا غريبا وغير لائق.


    وربّما بسبب غضبه من ردود الفعل على اللوحة، انتظر مانيه سنتين كي يعرض العارية الأخرى. غير أن اوليمبيا تسبّبت في إحداث ضجّة اكبر .
    ما الذي اغضب الناس في اللوحة؟ قد يكون السبب أنها بدت غير متأثّرة ولا مبالية. فهي تحدّق بهدوء في الناظر وتضعه في الدور غير السهل لزبون يقف على باب بغيّ مغرية.
    مانيه كان يسكن عالما كان يفترض فيه العامّة أن وظيفة المرأة هي التغذية وإشاعة الراحة وأن تكون مصدر إلهام أو إثارة، أي كلّ ما يتعلّق بدورها ومكانتها في المجتمع والأسرة.
    لكن أوليمبيا، لسهولة الوصول إليها، تبدو مكتفية ذاتيا بشكل صارخ. ولا يوجد فيها شيء متواضع. بالنسبة لهواة جمع الفنّ والنساء، الذين يعتبرون الصنفين ممتلكات لهم، فإن اوليمبيا جرّدتهم من أوهامهم. جسدها قد نضج وحان قطافه. لكنّ كلّ شيء آخر، بما في ذلك المعنى الكامن وراء تلك الابتسامة الغامضة، تحتفظ به لنفسها.
    من بين الأعمال العظيمة في تاريخ الفنّ، لا يوجد سوى القليل من تلك اللوحات التي تظهر فيها امرأة وهي تصوّب نظراتها المتحدّية وغير المساوِمة بشكل مباشر. الموناليزا تنظر بخجل إلى يسارها. وكذلك فتاة فيرمير ذات العقد اللؤلؤي. وفينوس بوتيتشيللي تنظر بطريقة حالمة إلى منتصف المسافة بينما تغرق في أفكارها الخاصّة. في حين أن مدام إكس لـ سارجنت تشيح برأسها بعيدا تماما. وعشرات المادونات تنظرن إلى الملائكة فوقهن بطريقة مفعمة بالنشوة، أو إلى أطفالهن أسفل منهنّ بحنان.
    عندما تكون المرأة في مواجهة الناظر مباشرة في لوحة، فيُحتمل أن تكون ملكة وليست محظيّة. أوليمبيا تواجهنا عيناً لِعَين. إنها طريقة مبتكرة ومربكة. وهي، إلى حدّ ما، انتقام من طرف الفنّان.
    النقّاد الذين لم يعتادوا على قلب الطاولات في وجوههم سارعوا إلى الرفض. فقد كرهوا الموضوع، وكرهوا الأسلوب المسطّح والبدائي، وكرهوا كلّ شيء في اللوحة. كتب احدهم يقول: ما هذه الجارية ذات البطن الأصفر، هذه الموديل الخسيسة، من التقطها ومن تمثّل؟" وقال آخر: هذا ابتذال لا يُصدّق". وأعلن ثالث: الفنّ الوضيع لا يستحقّ حتى اللوم".
    مانيه أحسّ بالدمار. اشتكى لصديقه الشاعر بودلير قائلا: الإهانات تنهال عليّ كالمطر". لكن بينما نظر الكثيرون إلى اوليمبيا كرمز للفساد والتفسّخ، رأى فيها آخرون رمزا للانتصار. اميل زولا اعتبرها تحفة مانيه والتعبير المتميّز عن موهبته القويّة".
    وسأل مانيه نفسه: لماذا يتعيّن عليّ أن أكذب، لماذا لا أقول الحقيقة؟" لكن الحقيقة جاءت بكلفة عالية. ورغم أنه واصل الرسم وعرض لوحاته بقيّة حياته، إلا أنه ظلّ هدفا لهجوم وازدراء العامّة. لم يكن مانيه يسعى للإساءة. كان ببساطة يرسم بأفضل طريقة كان يعرفها. تقنياته المبتكرة واختياراته غير التقليدية لمواضيعه أنتجت في نهاية المطاف جيلا جديدا من الفنّانين.
    وعلى الرغم من انه رفض أن يُصَوّر نفسه كمعلّم، إلا أن من أتوا بعده أشادوا به باعتباره الأب الروحي للانطباعية. وكان في طليعة الرسّامين الذين مجّدوا، ليس فقط الشخصيات الأسطورية، وإنما أيضا وهَج شاربي الابسنث والبغايا.
    أثناء حياة الرسّام، لم تنل أوليمبيا أبدا الثناء الذي تستحقّه. لكنها ظلّت تكبر مع الأيّام. وبعد سنوات من وفاة مانيه، عرض كلود مونيه اللوحة على الحكومة الفرنسية، وأصبحت منذ ذلك الحين منظرا ثابتا في المتحف الباريسي. كان مانيه سيُسرّ لو علم بذلك. وكان يقول: الزمن نفسه يعمل على اللوحات بصورة تدريجية".
    يحتاج المرء فقط لأن يتشمّس في الجمال المُسْكر لـ أوليمبيا، والظلال بين أصابعها، ومنحنيات بطنها، وتباينات الضوء والظلام، كي يفهم عمق موهبة مانيه. وعندما ننظر بشكل أعمق إلى تعقيدات وتناقضات وجمال ووحشية عمله، فإن عبقريته الحقيقية سرعان ما تظهر. لم يكن الفنّ بالنسبة لـ مانيه قصّة عن الآلهة أو القدّيسين أو الملوك. كان الفنّ عنده عن الحياة الحقيقية والعادية للناس.
    لقد اظهر مانيه إلى الضوء العالم الخفيّ للحياة اليومية وجعله ملحوظا. وتعاطفه يبدو جليّا في كلّ ضربة فرشاة وفي كلّ خط في هذه اللوحة. اوليمبيا ربّما تحاول أن تحجب قلبها. لكننا، نحن الذين لا حيلة لنا، ما نزال واقعين تحت تأثير سحرها وغموضها. .

    Credits
    musee-orsay.fr
    thecrimson.com

    الجمعة، أكتوبر 29، 2010

    دردشة مع فرناندو بوتيرو

    الرسّام الكولومبي فرناندو بوتيرو شخص مثير للجدل. النقّاد لا يستسيغونه كثيرا. بينما يتنافس جامعو الأعمال الفنية على شراء واقتناء لوحاته. شهرته في بلده كولومبيا لا تختلف عن شهرة مواطنه الروائي غارسيا ماركيز. ورغم ارتباطه الكبير بوطنه، إلا انه لا يقضي فيه أكثر من شهر واحد في السنة لأسباب أمنية. وفي كلّ الأحوال، لا ينام بوتيرو في بيته إلا بصحبة شخصين أو ثلاثة، كما يستخدم في تنقّلاته اليومية سيّارة مضادّة للرصاص.
    بوتيرو حلّ مؤخّرا في لندن، وكانت تلك مناسبة للحديث معه وسماع بعض الحكايات منه عن الاختطاف والفساد وسرّ حبّه للنساء البدينات.

    بوتيرو رجل غاضب غالبا. وقد أتى إلى لندن لحضور أوّل معرض يقام للوحاته في المملكة المتّحدة منذ 26 عاما. "لا أحد دعاني إلى هنا. وإحساسي أن هذا الأمر قد يكون مجرّد مصادفة". غير أن بوتيرو يعتقد انه محظور. "لقد ظلّ النقّاد يكتبون عنّي طوال حياتي بغضب وحنق".
    لوحات بوتيرو، التي يصوّر فيها جنرالات كولومبيا وصالات الرقص ومحلات الدعارة والرهبان والأساقفة وأفراد الطغمة العسكرية الحاكمة، معروفة في جميع أنحاء العالم.
    بعض نقّاد الفنّ المعاصر يصفون لوحاته بأنها مبتذلة ومثيرة للشفقة وأحيانا ساذجة.
    غير أن السفر مع الرسّام في موطنه كولومبيا يعطي فكرة مختلفة عن الطريقة التي ينظر إليه بها الناس هناك.
    الكثيرون هناك يعتبرونه بطلا قوميا ورمزا ثقافيا أكثر منه فنّانا أو مبدعا. في بلدته ميديين، يحاط بحشود من الناس الذين يريدون رؤيته أو الطلب منه أن يترك لهم توقيعه على أيّ شيء يحملونه.
    بوتيرو يُعتبر ولا شكّ واحدا من انجح الرسّامين بالمعنى التجاري والشعبي. ولوحاته تتعامل مع عدد كبير من القضايا التي كانت وما تزال تقع في قلب العملية الإبداعية والفنية في أمريكا اللاتينية في القرن العشرين.
    وصوره على اتساع نطاقها وتنوّع موضوعاتها تمنح جمهوره نظرة بانورامية عن كلّ ما هو نبيل وسيّئ في المجتمع الحديث على طرفي الأطلنطي وفوق وتحت خط الاستواء.
    كلمة بوتيرو أصبح لها معنى عام. في الإدراك الجمعي، يمكن أن يشير الاسم إلى رجل أو امرأة أو شيء متحرّك أو ساكن، ضخم ومستدير. وبالنسبة للكثيرين فإن بوتيرو يمثّل احتفاءً بالإثارة الحسّية أو العربدة والشهوانية. لكن من خلال المعارض الفنّية وعبر شوارع وميادين المدن الأكثر شهرة في العالم حيث تتواجد لوحاته وتماثيله، أصبحت أعماله معروفة ومميّزة جدّا مع أن معانيها ظلّت غامضة.
    في الأسبوع الماضي ذهبت لتناول الشاي مع فرناندو الجميل وذكّرته بتلك المقولات المُرّة عن فنّه. واكتشفت أن تأثيرها عليه يشبه تأثير الصدمة الكهربائية. ينظر بوتيرو بعصبية ثم يومئ بعنف إلى بعض لوحاته المعلّقة على جدران الغاليري ويقول: هذا فنّ حديث ومعاصر بمعاييري أنا. الرسم لم يمت، حتى إن كان هؤلاء النقّاد يعتقدون ذلك. إنهم يقتلونك ويسخرون منك. لقد ظلّوا يحاولون قتلي طوال حياتي. إنهم يغضبون ويصرخون في وجهي دائما".
    يهدأ بوتيرو قليلا ويبدو كما لو انه يبحث عن مساحة للتنفّس. ثمّ يقول: لو كان فنّي فظيعا، فلماذا تبادر المتاحف إلى شراء لوحاتي. ولماذا تتزايد الكتب التي تتحدّث عنّي وعن لوحاتي. لقد عرضت أعمالي في أكثر من ستّين معرضا. ومديرو المتاحف يحترمون لوحاتي أكثر من الأولاد الذين يأتون من معاهد الفنّ وينصّبون أنفسهم نقّادا ويستخدمونني ككيس للملاكمة".
    ويقتبس بوتيرو عن نيكولا بوسان مفهومه لمعنى الفنّ بالقول انه عبارة عن مجموعة من الأشكال والألوان التعبيرية التي تمنح المتعة. المتعة كانت هدف الرسّامين منذ 500 عام. والقليل جدّا من الرسّامين كانوا يبحثون عن الجمال، مثل غويا".
    قلت لـ بوتيرو: لو قلت هذا الكلام في حفل عشاء لعدد من الفنّانين المعاصرين فسيبتسمون من كلامك ويعتبرونه موضة قديمة. قال بصوت منخفض: نعم، هم الآن يقولون إن الجمال ضرب من الدعارة. ولكنّي أقول لك إنني إن اهتممت بما يقوله الآخرون فلن افعل شيئا على الإطلاق. لديّ قناعاتي الخاصّة وأنا لا اهتمّ بما يقوله أو يفعله غيري".

    هل هذه مجرّد نوبة غضب أم حركة تمرّد يقودها رجل فرد لمناهضة اتجاهات الفنّ في عصرنا؟ بحسب بوتيرو، فإن التعبيرات الرديئة للفنّ اليوم هي ممّا يستحقّ الرثاء، وهناك الكثير مما يمكن أن يقال عن الموضوع".
    ويضيف: في نهاية القرن التاسع عشر كان الفنّ مدهشا. كان هناك رينوار ومونيه وسيزان. وفي نهاية القرن العشرين أصبح الفنّ مثيرا للسخرية وسيّئا للغاية. حال الفنّ اليوم يشبه حال الإمبراطور الذي يظهر متجرّدا من ملابسه. الناس خائفون جدّا من أن يُصنّفوا بأنهم غير طليعيين ويخشون من أن يُطردوا من عربة الطليعية. الأمر مضحك جدّا".
    إحدى أكثر اللحظات أهمّية في تاريخ تطوّر فرناندو بوتيرو حدثت عندما اشترى متحف الفنّ الحديث في نيويورك لوحته المسمّاة "الموناليزا في سنّ الثانية عشرة". في هذه اللوحة وفي غيرها من أعمال بوتيرو نرى بوضوح وعن قرب خصائص أعضاء شخصيّاته التي يمكن التعرّف عليها بسهولة. في الموناليزا، حوّل بوتيرو الطبيعة الايطالية في الخلفية إلى منظر من أمريكا الجنوبية مع لقطة لبركان ثائر.
    بوتيرو يمزج رسم الأشخاص بإحساس جميل بالمرح والتعاطف الإنساني الذي لا نراه في أعمال غيره. وهو يتناول المرح والدعابة بعد أن كانا حكرا على رسّامي الكاريكاتير. هذه الحساسية تجاه تقلّبات الوجود الإنساني والاعتراف بجاذبية المتع الدنيوية هي خصائص تميّز فنّ بوتيرو وتضفي على أعماله سمات إنسانية عميقة.
    والأفكار الرئيسية التي شغلت خيال بوتيرو مثل الدين والسياسة والجنس والإثارة والحياة اليومية في كولومبيا والحياة الساكنة ومصارعة الثيران، كلّ هذه الأفكار والمواضيع تعامل معها بطريقة خاصّة وكنموذج لنظرة الرسّام وفهمه الخاصّ للعالم.

    لم يتأثّر بوتيرو بأعمال الرسّامين الايطاليين وحدهم، بل اخترق العوالم الأكثر خفّة للنهضة الشمالية. فقدّم لوحة فان ايك بعنوان زواج ارنولفيني في هيئة جديدة ومنحها حضورا معلميا في سياق بيئة القرن الحادي والعشرين. ووجد في روبنز نظيرا مثاليا له بسبب طموحاته الكبيرة. روبنز عُرف بلوحاته التاريخية الضخمة ومشاهده الميثية التي تشبه مناظر هوليوود وبحفلات الصيد واللوحات الدينية التي كان يملؤها بصور الرهبان والقدّيسين والعذروات الفاتنات والمثيرات.
    لكن من بين جميع رسّامي عصري النهضة والباروك، لم يشعل احد اهتمام بوتيرو ولم يجذب انتباهه أكثر من الرسّام الاسباني العظيم دييغو فيلاسكيز. كان فيلاسكيز دائما مصدر الهام وتحدّ للرسّامين من اسبانيا وأمريكا اللاتينية. وكان بوتيرو قد رأى لوحات فيلاسكيز عيانا في مدريد عندما كان يدرس في أكاديمية سان فرناندو عام 1952م. كان متحف برادو المكان الذي اجتذبه. وسرعان ما أصبح فيلاسكيز وغويا معلّميه الأكثر أهمّية في تلك الفترة.
    في بعض لوحات بوتيرو إحساس بالوعي والنقد الاجتماعي. في إحداها يتناول أهمّية الذات ودور الفساد السياسي. رئيس الجيش يرتدي لباسا عسكريا جميلا بينما تتدلّى الأوسمة من صدره وعنقه. زوجته أو خليلته تلبس فستانا مصنوعا من فرو الثعالب النفيس. رأس الحيوان المسكين يتدلّى إلى وسط الفستان. غرور السيّدة تؤكّده ملابسها الزاهية والباهظة الثمن. وفي لوحة السيّدة الأولى، تظهر زوجة الرئيس ممتطية صهوة جواد بينما تظهر خلفها غابة من أشجار الموز.
    أسأل بوتيرو عن رأيه في داميان هيرست. فيقول: هيرست؟ انه رجل ذكي، ذكيّ جدّا. لكن لا أعتقد أن ما يقدّمه فنّ عظيم. لديه إبداع يذكّرني بما تفعله وكالات الدعاية والإعلان. الفنّ شيء مختلف تماما. فنّ داميان هيرست فيه أفكار وإثارة. وإذا فرزنا الفنّ عمّا سواه فلن يبقى عنده فنّ كثير".

    ولد فرناندو بوتيرو قبل 70 عاما في مدينة ميديين التي كانت قرية صغيرة ضائعة في جبال الأنديز قبل أن تتحوّل اليوم إلى مدينة كبيرة تشتهر بالكوكايين وبالبنوك.
    في بوغوتا، وفي سنّ التاسعة عشرة بدأ يخالط الطليعيين الكولومبيين، ثم اخذ يرسم لوحات تذكّر بمرحلة بيكاسو الزرقاء.
    وشيئا فشيئا، بدأ بوتيرو في السير على خطى فان ايك وديورر وروبنز وفيلاسكيز وغويا وريفيرا. ثم توجّه إلى أوربا ليدرس أعمال الرسّامين الكبار في متحفي برادو واللوفر. كان اللوفر قلعة ملكية بناها فيليب الثاني في أواخر القرن التاسع عشر. لكن كولومبيا هي التي كانت دائما في عقل بوتيرو. شوارعها، ناسها، جبالها، مناظرها البحرية؛ كلّ هذه الأشياء هي التي أعطته فنّه.
    وفي سنّ الخامسة والعشرين أصبحت لوحات بوتيرو متميّزة وبات من السهل التعرّف عليها.
    حياة فرناندو بوتيرو غنيّة بالزوجات وبالأطفال. فقد تزوّج من غلوريا زيا وزيرة الثقافية الكولومبية السابقة ورُزق منها بطفلين. ثم تزوّج من سيسيليا زامبرانو وأنجب منها طفلا. وتزوّج من الفنّانة اليونانية صوفيا فاري التي يعيش معها اليوم متنقّلا بين باريس وتوسكاني.
    في التسعينيات أصبحت حياة بوتيرو وفنّه قاتمين، تماما مثل كولومبيا التي كانت تترنّح تحت عجلة العنف السياسي والحرب على المخدّرات. وفي عام 1994 اختطفه مجهولون اقتحموا منزله عنوة. وفي العام التالي انفجرت قنبلة تحت إحدى منحوتاته في شارع بـ بوغوتا، ما أدّى إلى مقتل 27 شخصا.
    ابن بوتيرو الأكبر، وهو وزير دفاع سابق، قضى في السجن حوالي ثلاثين شهرا لتقاضيه رشوة بـ 6 ملايين دولار من كارتيل كالي للمخدّرات.
    ولم يتحدّث بوتيرو مع ولده لمدّة ثلاث سنوات بعد الإفراج عنه. وقبل تسع سنوات حُكم على الابن بستّة وثلاثين شهرا أخرى في السجن بتهمة السرقة.
    إن من الصعب الإمساك بحياة بوتيرو. لكن فهم فنّه يبدو أكثر صعوبة. وعلى العكس من زوجاته، تبدو نساؤه المرسومات على درجة من الضخامة والبدانة.
    يقول بوتيرو محاولا شرح الأمر: أمريكا وبريطانيا تعبدان كيت موس وفيكتوريا بيكهام وبوش سبايس والجسد الاسطواني النحيل، خاصّة عندما يكون تجسيدا للضعف. البروتستانتية نفسها هي ثقافة نحافة وإنكار. ويضيف: حياة أمريكا اللاتينية والشعوب الناطقة بالبرتغالية والإسبانية والفرنسية "باستثناء كندا" هي حياة فائضة. إننا نعيش حياتنا كاملة. نشرب كثيرا. نمارس الحبّ كثيرا. نشرب الشمبانيا كثيرا. بينما انتم البروتستانت تشربون الماء". إذن فالحياة الكاملة هي السبب في أن راهبات بوتيرو وممرّضاته يبدين حسّيات على نحو مخجل، بينما يظهر جنرالاته منتفخين بلحم أردافهم التي تبرز من داخل زيّهم العسكري.

    من الواضح أن بوتيرو ابتكر أسلوبه الخاصّ في الرسم والذي تمسّك به طوال حياته منذ كان مراهقا. كان متعاطفا مع شخصيّات روبنز وقد درس أسلوب المعلّم الهولندي بعمق. لكن فنّ بوتيرو هو عن الحياة في كولومبيا. لماذا، إذن، لم يعش في كولومبيا؟ لماذا يقضي معظم السنة في باريس؟ ولماذا عاش 14 عاما في نيويورك، وطن البروتستانت الذين ينكرون الحياة؟! الجواب هو أن بوتيرو لا يشعر بالأمان في كولومبيا. منظّمات الجريمة والمخدّرات تحكم قبضتها على الريف وعلى المدن الصغيرة مثل ميديين وغيرها.
    وقد كان بوتيرو نفسه هدفا للاختطاف وربّما ما هو أسوأ. وفي عام 2000 بدأ يرسم مناظر من العنف الكولومبي. وفي عام 2007 رسم سلسلة من اللوحات التي تصوّر بعضا من مشاهد التعذيب التي جرت في سجن أبو غريب العراقي.
    ويوافق بوتيرو على أن كولومبيا هي اليوم أكثر أمنا ممّا كانت عليه قبل عهد الرئيس الجديد. لكنّه ما يزال يكتفي بالإقامة فيها مدّة شهر واحد فقط في السنة.
    "في كلّ الأحوال، لا استطيع النوم في البيت إلا برفقة شخصين أو ثلاثة ينامون معي. هذا مع أنني محميّ جيّدا وأتنقّل في سيّارة مصفّحة".
    فرناندو بوتيرو يحتاج لأن يبقى في أوربّا. ففيها تسعة وتسعون بالمائة من المتعاملين معه وطالبي لوحاته.
    أقول له: أنت رجل من هذا العالم وتعيش بسعادة في المنفى. يردّ بصوت أجشّ: لا، أنا رجل من كولومبيا، أنا كولومبي مائة بالمائة. موضوعاتي كولومبية، ولم اشعر بكوني أمريكيا بعد أن عشت في أمريكا لأربعة عشر عاما. كما لا أحسّ بانتمائي لـ فرنسا مع أنني أعيش في باريس منذ سنوات. لو كُتب لحياتي سيناريو مختلف لكنت عشت بسعادة في كولومبيا. كولومبيا مكان صعب. إنها ارض أمراء الحروب وتجّار المخدّرات ورجال العصابات. ولكي أنمو وينمو فنّي معي، كان عليّ أن أغادر. كان من الضروريّ بالنسبة لي أن اخرج من ذلك المكان كي أنمو وتنمو معي نسائي البدينات". "مترجم بتصرّف".

    الأحد، مارس 07، 2010

    اللوحات العشر الأكثر ترويعاً وعُنفاً


    اللوحات القاتمة والعنيفة في تاريخ الفنّ كثيرة، بل أكثر من أن تُعدّ أو تحصى.
    هناك مثلا بعض لوحات بيتر بريغل وإيغون شيلا وتجيسلاف بيشينسكي وجون هنري فوزيلي، وكلّها جديرة بأن تحتلّ مكانا بارزا في قائمة تتناول مثل هذا النوع من الأعمال الفنّية.
    في هذه القائمة يستعرض آرثر ويندرمير اللوحات العشر الأكثر ظلمةً ورعباً في تاريخ الرسم العالمي.


    كان وليام بليك فنّانا وشاعرا رومانسيا ابتكر أساطير استند فيها إلى الإنجيل وضمّنها رؤى وأفكارا مخيفة كان يزعم انه تلقّاها منذ الصغر.
    كان بليك يرسم أشعاره ويزيّنها بصور مائية رائعة حينا ومزعجة أحيانا. كما كُلّف برسم الصور الإيضاحية لكلّ من الإنجيل والكوميديا الإلهية.
    من أشهر رسوماته التي وضعها للإنجيل السلسلة المسمّاة التنّين الأحمر العظيم.
    في إحدى تلك اللوحات، واسمها التنّين الأحمر ووحش البحر، يرسم بليك تنّينا بملامح إنسان له جناحان هائلان منقوش عليهما نجوم، ربّما في إشارة إلى القوّة الكونية للشرّ.
    التنّين الضخم ذو الرؤوس المتعدّدة التي يبرز منها قرون ينظر إلى أسفل حيث يظهر وحش آخر في البحر ممسكا بيد سيفا وبالأخرى ما يشبه الصولجان. هذا الوحش له، هو أيضا، رؤوس كثيرة لكن هيئته اقلّ بشرية من هيئة التنّين.


    الفنّان الألماني البريخت ديورر عُرف بلوحاته المذهلة.
    من بين أشهر أعماله سلسلة لوحاته عن القيامة والتي تتكوّن من خمسة عشر رسما صمّمها لسفر الرؤيا.
    اللوحات تتحدّث عن بعض قيم وأفكار القرون الوسطى التي تتمحور حول الفضيلة وأبعادها الدينية والفكرية والأخلاقية.
    من أكثر تلك اللوحات إثارة للخوف والرهبة اللوحة المسمّاة "الفارس والموت والشيطان".
    فارس ديورر يمتطي حصانا شاحبا ويمرّ من أمام الموت الذي يأخذ شكل مخلوق متعفّن ومشوّه يمسك بساعة رملية، في إشارة إلى تسرّب وقصَر الحياة.
    في اللوحة أيضا أشجار ميّتة وعلى طول الطريق مجموعة من الأهوال والعقبات التي تحاول إعاقة الفارس وإخراجه عن مساره.
    الشيطان يتربّص وراء الرجل متّخذا هيئة مخلوق مشوّه، هو الآخر، له قرن طويل ويحمل رمحا ويبتسم ابتسامة ماكرة.
    هناك أيضا في اللوحة جمجمة، وسحلية تسير في الاتجاه المعاكس للفارس. معاصرو ديورر ذهبوا إلى انه كان يحاول في اللوحة تصوير فكرة الراهب ايراسموس روتردام عن الفارس المسيحي الذي يجب أن لا يكتفي بتأدية الطقوس الدينية بل أن يلتزم أيضا بقيم الدين وأخلاقيّاته.


    في روايته "رحلة إلى نهاية الليل" يصف الروائي الفرنسي لوي فرديناند سيلين بطنا مفتوحا وممزّقا لأحد القادة العسكريين بقوله: كلّ ذلك اللحم كان ينزف بغزارة".
    شخصية القائد البديلة تهرع عائدة إلى المعسكر وتصف ما تراه عندما يتمّ تغذية الجنود باللحم. اللحم منتشر في كلّ مكان، في الأكياس وعلى فراش الخيمة وعلى العشب.
    كانت هناك أمعاء وأحشاء كثيرة، قطع من الشحوم البيضاء والصفراء، أطراف في كلّ مكان. كان الجنود يتنافسون بضراوة على الظفر بالأجزاء الداخلية وكانت هناك أسراب كثيرة من الذباب تحوم حول المكان.
    كانت تلك بعض الفظاعات الجديدة التي أتت بها الحرب. في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، حاول الفنانون والمثقفون أن يعثروا على وسيلة للتعامل مع صدمة الحرب.
    وظهرت نتيجة لذلك الفلسفة الوجودية التي حاولت أن تجد للبشر مكانا في هذا الكون العبثي.
    الرسّام الانجليزي فرانسيس بيكون ربّما يكون احد أفضل الأمثلة عن فنّ ما بعد الحرب. لوحاته تصوّر بشرا يتعذّبون ويصرخون. وقد حوّل كلّ الرعب الذي تمتلئ به رواية سيلين إلى صور. ورغم انه يستلهم مواضيع بعض لوحاته من أعمال كبار الرسّامين مثل فيلاسكيز، فإنه يلوي الشخصّيات ويلطّخ وجوهها ويترك عليها خطوطا كأنها آثار أنياب ومخالب كما لو أن الرسّام يريد أن يمزّق العالم نفسه.
    إحدى أكثر لوحاته المذهلة هي هذه اللوحة "شخص مع لحم" التي يستعير فيها بورتريه الرسّام الاسباني الكبير فيلاسكيز عن البابا اينوسنت العاشر. البابا في لوحة بيكون يتخلّى عن عرشه المجيد وعن ملابسه المخملية الحمراء التي خلعها عليه فيلاسكيز ليبدو جالسا على كرسيّ من الخشب وبعينين فارغتين وفتحات مشوّهة وجلد متعفّن وفم يصرخ، بينما تبدو خلفه قطعتان كبيرتان من اللحم النيئ.


    كان رودولف بريسدن فنّانا غير ناجح كما عُرف عنه غرابة أطواره.
    في لوحاته بعض من نكهة بليك. وكان يعتبر اوديلون ريدون من بين تلاميذه، ومن هنا تأثيره على الحركة الرمزية.
    وقد أعجب بلوحاته بعض أشهر معاصريه مثل شارل بودلير وفيكتور هيغو وغيرهما.
    أكثر لوحات بريسدن ذات طابع بشع ومظلم. لوحته "كوميديا الموت" اعتُبرت تتويجا لانجازاته الفنّية.
    وفيها يرسم ناسكا جالسا على باب كهفه ومنشغلا بالصلاة والتأمّل.
    وعلى طرف المستنقع القريب منه يظهر رجل آخر يبدو في حالة احتضار.
    الطبيعة في اللوحة تأخذ شكل شياطين وأشباح وطيور.
    وكلّ تفصيل فيها تكتنفه الأهوال والكوابيس: جماجم، عظام متناثرة وهياكل عظمية في أفرع أغصان الأشجار الملتوية.
    وفوق المشهد إلى اليسار يظهر المسيح طافيا في الهواء وغير بعيد منه تبدو طيور لها رؤوس أشبه ما تكون برؤوس الفئران.
    الروائي الفرنسي شارل ماري هويسمان استوحى هذه اللوحة في روايته "ضدّ الطبيعة" ووصفها بقوله: اللوحة تشبه عمل شخص بدائي، كما أن فيها بعضا من البريخت ديورر. ولا بدّ وأن الفنان رسمها تحت تأثير الأفيون".


    الفنّان الفرنسي وليام بوغرو، صاحب اللوحات الجميلة والبريئة غالبا، رسم لوحة مرعبة وحيدة.
    كان رسّاما تقليديا ركّز اهتمامه على المواضيع الكلاسيكية.
    من بين تلك المواضيع دانتي وكتابه الكوميديا الإلهية.
    والغريب أن بوغرو اختار من بين جميع مشاهد الكوميديا الإلهية ذلك المكان من الجحيم الذي يُحكَم فيه على الغاضبين أن يتقاتلوا إلى الأبد على ضفاف نهر ستيكس الأسطوري.
    في "دانتي وفرجيل في الجحيم" يرسم بوغرو هذه الحادثة بأدقّ تفاصيل يمكن تخيّلها.
    السماء القرمزية للجحيم تتوهّج في الخلفية، بينما يبدو رجلان عاريان في مقدّمة اللوحة وهما مشتبكان في قتال شرّير فيما يقضم احدهما رقبة الآخر كما يفعل مصّاصو الدماء. والى يسار المنظر يبدو كلّ من دانتي وشبح الشاعر فرجيل وهما يتفرّجان على المتصارعَين وقد علت وجهيهما علامات تأفّف ورعب. وتحت السماء الحمراء في الخلفية يبدو شيطان مجنّح قبيح الملامح ومهلك النظرات وهو يراقب ما يحدث بابتسامة راضية وربّما يكون فخورا بنتيجة عمله.


    كان اوديلون ريدون رسّاما فرنسيا رمزيا أنجز أفضل أعماله باستخدام الباستيل.
    وفي نهايات حياته أبدع لوحات فاتنة بالألوان.
    غير أن أعماله المبكّرة كانت الأكثر إثارة للاهتمام. ويصعب الحديث عن لوحة معيّنة من لوحاته، فأعماله كلّها، تقريبا، عبارة عن صور غريبة وأحيانا مخيفة: عنكبوت يبتسم، وآخر يأخذ ملامح وجه إنسان، وأسنان تظهر على مجموعة من الكتب، وعين عملاقة تطلّ على منظر ريفي، وشجرة صبّار لها وجه، ونباتات بأغصان كرؤوس البشر .. إلى غير ذلك.
    "الأشباح" تعتبر واحدة من أكثر أعمال ريدون إثارة للرهبة.
    وهي تُظهِر امرأة ترتدي ملابس بيضاء وتقف في مكان يسيطر عليه ظلام حالك.
    وحول المرأة تظهر أرواح شيطانية وأفاعي وأقنعة تترصّد في الظلام.
    ويُحتمل أن لوحة ريدون تصوّر كابوسا، ويمكن أن تكون تصويرا لتوجّس الإنسان من الظلمة وخوفه من المناطق الخفيّة والغامضة.


    كانت الرمزية حركة أدبية وفنّية فرنسية. وكانت تركّز غالبا على الأشياء والظواهر المروّعة. الأدباء الرمزيون، مثلا، كانوا مفتونين بالشاعر الأمريكي ادغار الان بو. كما اظهروا اهتماما بلوحات الرسّام الفرنسي غوستاف مورو.
    في إحدى لوحاته، واسمها الظهور أو التجلّي، يرسم مورو الرأس المقطوع لـ يوحنّا المعمدان وهو يتراءى لـ سالومي في قصر الملك هارود.
    الدم يتدفّق من عنق المعمدان بينما تحدّق فيه سالومي بفم مفتوح ودموع منهمرة.
    بقع الدم تغطّي الأرضية بينما يقف الجلاد إلى يمين اللوحة مستندا على سيفه. وسالومي، كما قد يتخيّل الإنسان، تقف وجلة مرعوبة.
    الروائي جوريس هويسمان كتب باستفاضة عن هذه اللوحة في إحدى رواياته وقال واصفا إيّاها: في هذه الصورة الوحشية والمؤلمة تمتزج البراءة بالخطر والايروتيكية بالرعب. كانت زهرة اللوتس الطويلة قد اختفت والإلهة قد تلاشت. والآن ثمّة كابوس رهيب يمسك بخناق المرأة بعد أن أصابها الرقص بالدوار وأقضّ مضجعها الرعب.


    الفنّان الهولندي يان لويكن يمثل حالة مثيرة. فقد كان شخصا مسيحيا متعصّبا بعد أن عايش تجربة دينية حدثت له في صغره.
    كان معتادا على الصلاة والقراءة الدينية إلى حدّ الوسوسة.
    ثم أصبح يكتب الشعر الأخلاقي وامتلأ عقله بقصص معاناة المسيح وشهداء المسيحية.
    وقد كُلف بعمل الرسوم الإيضاحية لكتاب ديني بعنوان "مرآة الشهداء" يحكي عن حياة الشهداء وتضحياتهم.
    بالنسبة لعقل لويكن التقيّ وربّما المشوّش، كان هذا يعني وابلا من صور التعذيب والرعب وأحداث الموت الرهيبة التي عاناها الشهداء على مرّ التاريخ: رجل نصف مطبوخ يُقذف به إلى الحيوانات كي تلتهمه، نار تأكل قدمي رجل، صَلب، طعن بالرماح.. إلى آخره. هذه المشاهد البغيضة والمليئة باللحم البشري المشوي الذي يتصبّب منه الدم، مع كثافة الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة، تجعل من صور لويكن بعض أكثر اللوحات ترويعا وقسوة في تاريخ الفنّ.


    قد لا يحتاج هيرونيموس بوش إلى تعريف.
    كان هذا الرسّام الهولندي شخصا فريدا من نوعه. كان احد السورياليين الكبار وقد رسم عدّة صور مخيفة لمشاهد مليئة بالبشر والرعب.
    في لوحته "إغراء سانت انتوني" يرسم راهبة محبوسة داخل سمكة عملاقة ورجلا يقود كائنا من الزواحف.
    وفي لوحته الأشهر حديقة المباهج الأرضية يصوّر بوش في يمين اللوحة تفاصيل من الجحيم يظهر في احدها وحش له رأس طائر وهو يفترس إنسانا بينما يجلس على كرسي مرتفع.
    صور هيرونيموس بوش كانت دائما مصدر افتتان الكثيرين. وفي القرون المبكّرة كان الناس ينظرون إلى لوحاته على سبيل التسلية، بينما اسماه البعض رسّام الوحوش والغيلان. في القرن العشرين رأى بعض المؤرّخين والنقّاد في فنّه دلالات عميقة. والبعض يرى فيه رسّاما سورياليا حتى قبل ظهور السوريالية بصورتها الحديثة. وهناك اليوم محاولات كثيرة لتقصّي جذور ومعاني لوحاته الغريبة .


    الرسّام الاسباني العظيم فرانشيسكو دي غويا صدَمه مرض فتاك جعله يخشى الموت. كما عانى من الإحساس بالمرارة نتيجة تدهور الأوضاع في بلده وفي العالم.
    ونتيجة لذلك شرع في رسم لوحاته السوداء المشهورة على جدران منزله.
    وقد أودع في لوحاته تلك العديد من مشاهد الشرّ والحروب وظواهر ما وراء الطبيعة.
    لوحته "الماعز" تصوّر مجموعة من الساحرات يتجمّعن حول شيطان اسود له رأس ماعز.
    لكن أشهر تلك اللوحات والتي يمكن اعتبارها اللوحة الأكثر رعبا في تاريخ الرسم هي لوحته المسمّاة "زحل يفترس ابنه".
    في الأسطورة، يبدأ زحل بافتراس جميع أطفاله مدفوعا بخوفه من أن يُخلع عن عرشه.
    هذا الفعل المزدوج، أي التهام الأطفال وأكل لحوم البشر، يصوّره غويا بأكثر الطرق ترويعا وعنفا. زحل العملاق بأطرافه العنكبوتية والبرونزية يقف في الظلام ممسكا بجسد ابنه. وبإمكان المرء أن يرى أصابعه وهي تحفر في الجزء الخلفي من جسد الابن. وقد أكل للتوّ الرأس وأحد الذراعين. فم زحل مفتوح على اتساعه بينما يفترس الذراع الثانية. عيناه تلتمعان بالوحشية والجنون.
    هذه البدائية وهذا الرعب قد لا نجد لهما نظيرا في تاريخ الرسم كلّه.


    Credits
    barnebys.com

    الأحد، فبراير 07، 2010

    دايانا و آكتيون: النظرة المحرّمة

    مؤخّرا، اشترى الناشيونال غاليري في لندن لوحة تيشيان دايانا وآكتيون من دوق ساذرلاند بمبلغ خمسين مليون جنيه إسترليني. وقد تمّت الصفقة بعد مساومات طويلة وجدل كثير. المبلغ كبير ولا شكّ. لكن قيل أن اللوحة تستحق. ترى، ما الذي يجعل من هذه اللوحة عملا فنّيا خاصّا ومتميّزا؟
    المقال التالي هو خلاصة لبعض أهمّ الآراء التي تناولت اللوحة بالشرح والتحليل وتحدّثت عن سيرة حياة الرسّام وخلفية اللوحة وسرّ متعتها وغموضها.

    المكان مغارة في غابة داكنة وكثيفة الأشجار. خلف الغابة سماء ساطعة زرقاء وغائمة. في المغارة، هناك نافورة صغيرة وجدول ماء تستحمّ فيه إلهة الصيد دايانا برفقة وصيفاتها اللاتي يسلّين أنفسهن وهنّ عاريات. الوصيفات مهتمّات بالإلهة وإحداهنّ تنشّف إحدى قدميها بقطعة قماش عند طرف النافورة. وسط هذا المشهد الأنثوي الحميم يندفع آكتيون الصيّاد. يزيح بيده الستارة ويَراهُنّ وهنّ في ذروة مجدهن الجسدي. خطيئة رهيبة أن يرى رجل إلهة متجردة ناهيك عن أن تكون دايانا نفسها، الصارمة العفيفة.
    تيشيان يمسك باللحظة الكارثية في قصّة دايانا وآكتيون التي رسمها بناءً على تكليف من فيليب الثاني ملك اسبانيا في العام 1550م واعتمد في تفاصيلها على ما ذكره اوفيد في كتاب التحوّلات.
    كان تيشيان يعتبر هذا العمل قصيدة بصرية ونوعا من المحادثة مع قصّة أوفيد، أكثر منها محاولة لإعادة بناء المشهد الذي حكى عنه الأخير في كتابه.
    آكتيون صيّاد بريء قاده مصيره المشئوم إلى الغابة. وتيشيان يصوّر في اللوحة ردود فعل النساء وهنّ يرين الرجل الدخيل يقتحم عليهن خلوتهنّ. كما يصوّر حالة الهرج والمرج التي استبدّت بالنساء وهنّ يصرخن ويندفعن لتغطية الإلهة وستر جسدها. لكن دايانا ترتفع فوق مستوى المفاجأة. وجهها تعلوه حمرة الخجل والغضب جرّاء ما حدث وتنظر وراءها باحثة عن سهامها. لكن السهام ليست هناك. لذا تتناول اقرب شيء منها، حفنة من ماء لترشّه بها. تتحدّاه قائلة: الآن إذهب وقل للناس إنك رأيتني متجردة". من الواضح أنها تخشى القيل والقال. لكن الرجل يهرب من المكان بسرعة. وفي الطريق يرى انعكاس صورته في الماء. يريد أن يصرخ لكنّه لا يجد صوته. لقد رأى قرنين يبرزان من رأسه. وعرف انه في طريقه لأن يتحوّل إلى أيل. تلمحه كلابه وهو على تلك الحال، فتهجم عليه وتمسك به. وبينما تمزّق أطرافه وتنهش لحمه، تنادي الكلاب على سيّدها متسائلة لماذا هو غائب عن المشهد الممتع.
    ما فعله تيشيان هو انه ادخل لحظة خاطفة أو إطارا متجمّدا في قصّة اوفيد. وما نراه في اللوحة هو لحظة وصول آكتيون.
    آكتيون يدخل المشهد في لحظة واحدة. وجهه يتحوّل إلى لون قرمزي. يداه تعبّران عن مستوى الصدمة. المرأة القريبة من الستارة تحاول إعادتها إلى وضعها السابق وتلتفت لتنظر إلى سيّدتها في رعب. امرأة أخرى تختبئ وراء عامود. وثالثة تجلس على طرف النافورة مهتزّة وجلة. فقط المرأة السمراء التي تقف خلف دايانا تبدو متماسكة بينما تحدّق في وجهه. الإلهة تترك انطباعا بأنها ترى صورته المنعكسة في الماء.
    بناء هذه اللوحة شُيّد بعناية فائقة كأنما أراد الرسّام دعوة المشاهد للمشاركة في جوّ التوتّر والاضطراب والوقوف مع آكتيون على طرف الغدير.
    بعد لحظات، ستقف دايانا على تلك الساقين الطويلتين وستتناول الإناء الزجاجي الذي يفصل بينهما.
    النظرات يمكن أن تقتل. هذا هو الدرس الذي تقدّمه القصّة. جمجمة الأيل المستقرّة فوق العامود في الخلف تذكّرنا بمسار الأحداث المروّعة التي ستلي تلك اللحظة.
    قصّة دايانا وآكتيون هي واحدة من سلسلة من القصص التي يسردها اوفيد في كتابه والتي يتحدّث من خلالها عن تأثير النظر إلى الأشياء. بعد النهاية المحزنة لـ آكتيون، يحكي اوفيد عن قصّة سيميل. جمال هذه المرأة راق لعيني جوبيتر. وقع في حبّها ثم لم يلبث أن نام معها. كان يحبّها كثيرا وقد وعدها بأن يحقّق لها أيّ رغبة تتمنّاها. في إحدى الليالي طلبت أن تراه وهو في أوج مجده المقدّس مجرّدا من قناعه البشري الفاني. استسلم لطلبها، لكنّه كان يعرف إلى أين ستنتهي الأمور. عندما رأته المرأة في هيئته الحقيقية انفجر جسدها إلى أشلاء صغيرة. أخذ جوبيتر الجنين الذي كان قد نما في بطنها. في ما بعد سيكبر الطفل ويصبح باخوس إله الخمر.
    ثم ينتقل اوفيد إلى قصّة نارسيس الذي وقع في حبّ صورته المنعكسة في الماء وما جلبه عليه ذلك من تعاسة وشؤم.
    النظر خطير ويمكن أن يورد صاحبه المهالك. الجاذبية أيضا خطيرة وقاتلة أحيانا.
    قصّة دايانا وآكتيون رسمها الكثير من الفنّانين. لكن لا احد جسّد الإحساس بالهلاك والدراما المثيرة التي تتضمّنها القصّة بمثل ما فعل تيشيان.
    النظرة، وحتّى اللمحة الخاطفة، يمكن أن تكون شيئا خطيرا في عالم الشعر الغنائي اللاتيني. في كتابه "مراثي الحبّ"، يكتب الشاعر بروبيرتيوس في السطر الأول من أولى قصائد ديوانه يقول: سينثيا كانت أوّل من أسرتني بعينيها. الحبّ قمع نظرتي لما يعنيه الفخر والعناد". نظرة سينثيا في عيني عاشقها ليست نظرة حالمة. بل لمحة نارية أخضعته تماما، كما تقول قصيدة تالية.
    ربّما يذكّرنا هذا بلوحة أخرى لـ تيشيان اسمها الأعمار الثلاثة للإنسان. العاشقان البالغان يجلسان على العشب إلى يسار الصورة ويحدّق كلّ منهما بعمق في عين الآخر.
    دايانا وآكتيون أعطت تيشيان فرصة كبيرة للسعي إلى المجد من خلال أجساد النساء.
    في عصر النهضة الفينيسية الذي كان تيشيان احد روّاده، كانت المحظيات معترفا بهنّ كجزء من المجتمع. وكان الفنّانون يرسمونهن، لكن ليس بطريقة أكثر إثارة من هذه اللوحة. فرشاة تيشيان ترتعش بالرغبة. هذه ليست مجرّد لوحة تصوّر نساء عاريات. بل إنها تذهب إلى أعماقهن، وربّما تمارس الحبّ معهنّ. وهي تضيف تعقيدا وإثراءً لعالم تيشيان المتخيّل.
    المرآة الصغيرة على النافورة، الإناء الزجاجي إلى جانبها، والاهمّ من هذا وذاك المياه الخضراء التي تتحوّل فيها الصور والأشكال إلى نماذج طيفية وغريبة، كلّها عناصر تضاعف من متعة النظر إلى هذه اللوحة.
    الأشياء الناعمة في كلّ مكان. المخمل الأحمر الناعم الذي تجلس عليه دايانا، المناشف، الستارة الوردية الطويلة التي تفشل في إخفاء النساء المستحمّات عن عيني الرجل المتلصص، الأنسجة المخملية المليئة بالإيحاءات الايروتيكية.
    الأشجار والأعشاب والغيوم الزرقاء في السماء تضفي مسحة واقعية على المشهد الميثي.
    أوراق الخريف في اللوحة ربّما تذكّرنا بأن تيشيان كان يتقدّم في السنّ. اللوحة هي احتفاء أخير بالجسد. نظرة أخيرة قبل الصيام الكبير.
    كلب دايانا الصغير النابح يواجه بجسارة كلب آكتيون الأسود الضخم.
    المرأة التي تقف وتعطي ظهرها للناظر تبدو مختلفة عن رفيقاتها. بشرتها زيتونية وعضلاتها ذكورية. الأمر يبدو مثيرا للاهتمام. وصيفة دايانا السمراء هي مثال على عبقريّة الرسّام في التلوين. من عناصر الإبهار في اللوحة سطوع بشرة دايانا اللؤلؤية التي يعمّقها مجاورتها لبشرة المرأة السمراء. هل ضمّن تيشيان اللوحة امرأة سمراء كي يلمّح إلى انه إنما كان في الواقع يصوّر محظيات فينيسيا في زمانه؟ ربّما!

    في ما بعد، رسم تيشيان لوحة أخرى بعنوان موت آكتيون. كان ذلك بتكليف من فيليب الثاني أيضا. لكنّ الرسّام احتفظ باللوحة في محترفه حتى وفاته في العام 1576م. هذه هي اللوحة التوأم لـ دايانا وآكتيون. وهي تتحدّث عن الجزء الثاني من القصّة. كما أنها تعتمد إلى حدّ كبير على رواية اوفيد. لكنّها مفعمة بروح تيشيان الشاعرية والمجنّحة.
    يتحدّث كتاب التحوّلات عن كلاب آكتيون. كلّ واحد منها له اسمه الخاصّ وصفاته المميّزة. وفكرة المشهد تركّز على أن الرجل قُتل على أيدي الكلاب، رفاقه المقرّبين. في هذه اللوحة الأخيرة يصوّر تيشيان آكتيون لحظة هجوم الكلاب عليه وتمزيق جسده بضراوة. ويُفترض أن دايانا غائبة عن المشهد بعد أن أدّت مهمّتها بكفاءة. لكنّها هناك، في مقدّمة اللوحة. هي جزء من الفعل وجوّ الإثارة. الكلاب تبدو كما لو أنها تثِب من جسدها. آكتيون في منتصف المسافة إلى تحوّله. أصبح رأسه رأس أيل، لكنّ بقيّة جسده ما تزال تحمل ملامح إنسان. وتعاطفا مع غضب الإلهة المقدّس، تبدو السماء مظلمة والطقس عاصفا ومياه النهر متقلّبة وثائرة.
    أولى لحظات الرعب بالنسبة إلى آكتيون هي تلك اللحظة التي يرى فيها جسده منعكسا في مياه النهر وهو يتحوّل. في هذه اللوحة عَكْس متقن لمضمون اللوحة الأولى. النظرة المهمّة هنا هي نظرة دايانا. عينها، عين الصيّاد البارع، تحاصر الفريسة آكتيون ولا تتركه قبل أن تُمضي عليه حكمها.
    الطريقة التي وضع بها الرسّام الطلاء في خلفية المنظر الطبيعي المغبرّ والمشوّش تبدو مناسبة تماما لفكرتي الموت والتحوّل.
    كان آكتيون قد تعب من التجوال في الوادي فقصد الغابة كي يروي عطشه من نبعها. تيشيان ادخل دايانا في المشهد، وهي تظهر ممسكة بقوس وكاشفة عن ثديها الأيمن. آكتيون يصرخ في كلابه: أنا سيّدكم. لكن صيحاته تذهب مع الريح والكلاب لا تعبأ بتوسّلاته.
    تيشيان أعطى الحكاية بعدا مأساويا. وثمّة احتمال بأنه ضمّن المشهد اعترافا ذاتيا. فهي تحكي عن رجل يتحوّل إلى وحش عند رؤيته إلهة متخففة وتطارده كلابه كما لو أنها نوازعه الجنسية.
    معنى الصورة، مثل أيّ عمل فنّي عظيم، لا يمكن تحديده تماما. غير أنها تثير إحساسا بالحزن والنهاية. الصورة مثيرة جدّا للمشاعر. ويُحتمل أنها تتضمّن معنى الوداع. أوراق الخريف الذابلة الصفراء التي تثيرها الرياح الباردة تعمّق هذا الإحساس.
    في الأساطير اليونانية القديمة، كان الرجال والنساء يُكافَأون أو يُعاقبون بتحويلهم إلى نجوم وأزهار وأشجار وحيوانات.
    ويرجّح أن اوفيد ألّف التحوّلات في فترة قريبة جدّا من مولد المسيح. وكان الكتاب مصدرا أساسيا لفنّ عصر النهضة بالقدر الذي كان فيه العهد الجديد مصدرا للمسيحية.
    القصص الحزينة عن وحشية الآلهة تجاه الإنسان نقلها الرسّامون إلى لوحاتهم وأضافوا إليها الكثير من الإحساس والعاطفة والحزن وبطريقة لا تختلف كثيرا عن أسلوب تصويرهم لحادثة صلب المسيح.
    اوفيد في قصّة دايانا وآكتيون يعطي النساء أسماءً ويفصّل كثيرا في الحديث عن واجباتهنّ تجاه الإلهة. كما يتحدّث عن الكلاب وأيّها هاجم الرجل أوّلا وكيف وأين عضّته.
    عندما ننظر إلى القصّة ونتأمّل تفاصيلها قد يخطر لنا أن عنف دايانا غير مبرّر. فكلّ ذنب الرجل انه ضلّ الطريق ولم يكن باستطاعته أن يفعل غير ما فعل. الأمر لا يعدو كونه حادثة بسيطة مع شيء من الفضول.
    لوحتا تيشيان عن القصّة يمكن اعتبارهما إسهاما من الفنان في النقاش الذي كان يجري في عصره حول أيّهما أعظم: الرسم أم الشعر؟
    في اللوحة الأخيرة ما يزال آكتيون ممتلكا لعقله ومشاعره ولم يتحوّل بعد بالكامل إلى وحش. وقد أضاف تيشيان شيئا على الحكاية الأصلية. فـ دايانا تستأنف صيدها وكأن شيئا لا يحدث. والطريدة التي تصوّب عليها قوسها تقع خارج حدود الصورة. إنها لا تبالي حتى بإلقاء نظرة أخيرة على آكتيون في محنته رغم انه في نفس اتجاهها.
    تذكر القصّة انه خرج في بداية الأمر مع عدد من أصدقائه للصيد. غير انه ضلّ طريقه. ذلك كان خطأه الوحيد، أي النظر إلى إلهة متجردة. يقول اوفيد: ليس هناك خطيئة في أن يضلّ الإنسان سبيله".
    لقد أخطأ آكتيون. قد يكون ركّز عينيه على نهدي المرأة أو فخذيها. وربّما يكون حاول أن لا ينظر. غير أن دايانا لم تكن مهتمّة بمسألة ما إذا كان مذنبا أم بريئا.
    هي كانت إلهة محتشمة. في تلك اللحظة لم يكن قوسها حاضرا لذا ألقت بالماء، الماء السحري، في وجهه. وبعد وقت قصير من ذلك، أحسّ بالتهاب في وجهه وبأن شيئا ما على وشك أن يبرز في طرفي رأسه.
    حتى صوته فقده عندما أراد أن يخبر الكلاب انه هو. الكلاب في اللوحة تمسك بسيّدها المسكين. هي متحمّسة ونشطة وتفعل ما كان درّبها على فعله.
    الشيء الغريب انك عندما تنظر إلى رأس آكتيون لن تستطيع أن ترى عينيه. تيشيان عُرف ببراعته في تصوير أعماق وانعكاسات العيون. لكنه هنا اختار أن يُعمي آكتيون في ما يبدو وكأنه معادل فنّي لحرمان اوفيد له من الكلام.
    لوحة تيشيان لا تخلو من روح الدعابة. القصّة أساسا هي عبارة عن كوميديا سوداء عن العقاب الذي يتعرّض له المتلصّص. غير أن تيشيان يستمتع بالحضور الفخم لـ دايانا بطريقة احتفالية ومبهجة. لكنْ تظلّ اللوحة حزينة بل ومثيرة للشفقة كثيرا.
    المأساة تظهر في الأشجار أيضا. إنها صفراء شاحبة وخريفية. هي ليست أشجارا شابّة طازجة وخضراء، بل تبدو أشجارا متعبة أضناها التآكل والشيخوخة. لكنّ تلك الأشجار ما تزال جميلة وذات نسيج سميك. بإمكانك أيضا أن تحسّ بالجوّ العاصف وبالنسيم البارد قبل العاصفة وبالسحب المتحوّلة من الرمادي إلى الأصفر وكأنها وعد مشئوم من السماء.
    لوحة موت آكتيون لم تذهب إلى اسبانيا أبدا. ولم تُضمّ إلى مجموعة فيليب الثاني. بل ظلّت في محترف الرسّام إلى أن مات. ويبدو أن هذه اللوحة تتضمّن عنصرا شخصيّا. إنها إحدى اللوحات التي يتحدّث فيها تيشيان عن نفسه. وقد يكون هو آكتيون الذي تتقدّم به السنّ سريعا، الإنسان الشقيّ الواقع تحت رحمة عينيه المتجوّلتين المتفحّصتين دوما.

    كان تيشيان رسّاما عظيما. كان أمير الرسّامين ورسّام الملوك والأمراء وعامّة الناس. وقد ظلّ الفنانون يتعلّمون منه ويدرسونه ويستمدّون منه الإلهام. فيلاسكيز وروبنز ورمبراندت كانوا بعض أتباعه المخلصين. وأهميّته لا تختلف عن تلك التي لـ ليوناردو ومايكل انجيلو. كان يرتدي قناعا طوال عمره. وقد عاش حياته كلّها في فينيسيا التي كانت في وقته أرقى مدينة في العالم.
    كان مشهورا منذ سنوات عمره الأولى. وقد عرف كبار الكتّاب والشعراء وأرسِل في مهامّ ديبلوماسية. وهذا صقله كثيرا ورفع مكانته وفتح له الباب إلى مجالس الملوك والأمراء.
    ومع ذلك فإن حياته ما تزال مجهولة وغامضة، تماما مثل غموض الكثير من لوحاته.
    ويقال إن تيشيان مات وله من العمر 104 أعوام. ويرجّح أن في هذا مبالغة. في ذلك الوقت - أي قبل حوالي خمسمائة عام - كان كلّ من يعيش حتى الخمسين يعتبر إنسانا محظوظا. جورجيوني، معاصر تيشيان وأحد أنجب تلاميذه، مات بالطاعون وعمره لا يتجاوز الرابعة والثلاثين.
    والاحتمال الأكثر ترجيحا هو أن تيشيان كان بين الثمانين والتسعين عند وفاته.


    Credits
    artnet.com