:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات أدب. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات أدب. إظهار كافة الرسائل

الخميس، سبتمبر 11، 2025

خواطر في الأدب والفن


  • في إحدى المناطق الشاسعة من المحيط الهادئ، تقع جزيرة مرجانية صغيرة تُسمّى "ايفالوك". بعد الحرب العالمية الثانية، عرضت البحرية الأمريكية أحد أفلام هوليوود على شعب هذه الجزيرة لتسليتهم وتعزيز حسن النيّة معهم. كان الفيلم أكثر شيء عنيف ومروّع شاهده سكّان الجزيرة على الإطلاق. وقد أزعجهم العنف الذي رأوه على الشاشة لدرجة أن بعضهم مرضوا لعدّة أيّام.
    وفيما بعد، جاء أحد علماء الأنثروبولوجيا إلى الجزيرة لإجراء دراسة، وسأله السكّان المحليّون بشكل متكرّر: هل كان ذلك صحيحا؟ هل هناك بالفعل أناس في أمريكا قتلوا أشخاصا آخرين؟!
    يقول بعض العلماء اعتمادا على دراسات أُجريت على قبائل معزولة عن الحياة الحديثة وتتغذّى على النباتات والحيوانات البرّية أن الحرب ليست جزءا فطريّا من الطبيعة البشرية، بل هي سلوك تبنّاه البشر في مراحل متأخّرة من تطوّرهم.
    وافترضَ العلماء أنه منذ حوالي 12 ألف سنة، كان جميع البشر يعيشون في هذا النوع من المجتمعات الذي شكّل حوالي 90 بالمائة من مسارنا التطوّري. ومع انتقال الصيّادين وجامعي الثمار إلى الزراعة، أصبحت المجموعات أكثر إقليمية وصارت بُنيتها الاجتماعية أكثر تعقيدا. ومع استقرار البشر، أصبحت الحرب أكثر هيمنةً وحضورا.
    وذكرت الدراسة أنه إذا ما وُجد أن بعض مجتمعات ما قبل التاريخ عنيفة، فإن العنف في النهاية ثقافي وليس بيولوجيّا. كما دعت إلى وقف النظرة السلبية السائدة للحضارة الحديثة باعتبارها حضارة عنيفة، من خلال إثبات أن بعض مجتمعات ما قبل التاريخ كانت هي أيضا عنيفة بقدر ما ومنخرطة في حروب متكرّرة كانت بعضها مدمّرة للغاية.
    وهناك كتّاب عديدون تناولوا تحديدا استمرار ما أسموه "بالخرافات الخاطئة" التي يردّدها يعض علماء الأنثروبولوجيا وعلماء الاجتماع حول صلاح البشر البدائيين. فقد وقعت مذابح وعمليات قتل جماعي بين الإسكيمو و"هنود الغراب" وعدد لا يُحصى من الجماعات الأخرى قبل حوالي 13 ألف عام، أي قبل ايّ اتصال بالأوربيّين. كما تمّ القضاء على قبيلة "السكاكين الصفراء" في كندا بسبب المجازر التي ارتكبها هنود آخرون، واختفت تلك القبيلة نهائيا من التاريخ بعد ذلك بوقت قصير.
    وبالمقابل، أقام أحد علماء الاجتماع مع مجموعة قبلية في غينيا الجديدة. وفي هذه المجموعة، كان جميع الرجال يعيشون في منزل كبير، بينما كانت النساء والأطفال يعيشون في أكواخ فردية. ولم يجد الباحث أن الحرب كانت شائعة بينهم كما لم يشهد أي صراع مع الجماعات المنافسة. وقال إنه وجد أن بعض أكثر الشعوب "بدائيةً" على وجه الأرض كانت في الواقع مسالمة إلى حدّ كبير مقارنةً بالدول الحديثة المتقدّمة.
    وأضاف: كثيرا ما تُصوَّر الشعوب القبلية على أنها "متوحّشة وعنيفة". لكن الحرب لم تكن شائعة كثيرا قبل ظهور الزراعة، أي عندما كان معظم البشر، إن لم يكن كلّهم، يعيشون كباحثين عن الغذاء".
  • ❉ ❉ ❉

  • كان الرسّام الفرنسي هوبير روبير يحظى بدعم العديد من الرعاة والنقّاد والفنّانين على حدّ سواء في القرن الثامن عشر. كما حظي بإشادة واسعة في الفترة المسمّاة بالحقبة الجميلة. وقد تمتّع روبير بمديح بعض من أهمّ الشخصيات الأدبية الفرنسية، من الفيلسوف دينيس ديدرو الذي أطلق عليه لقب "روبير الأطلال"، إلى إدمون دي غونكور ومارسيل بروست بعد أكثر من قرن.
    وتمكّن الرسّام من تسلّق السلّم الاجتماعي في فرنسا بفضل مهارته الفطرية كفنّان، وأصبح نجما دائم الظهور في الصالونات والفعاليات الاجتماعية المختلفة. وكانت لوحاته علامة تجارية لما يقرب من 50 عاما. وقد عُرفت صوره باسم "كابريتشي"، وهو مصطلح يشير إلى التقاليد الزخرفية لتصوير الآثار المعمارية الخلابة التي تطوّرت في روما الباروكية وبلغت ذروتها بين الرسّامين الإيطاليين مع جيوفاني باولو بانيني، الذي شعر روبير تجاه أعماله بألفة عميقة.
    لكن القرن العشرين لم يكن كريما معه، فقد مرّ أكثر من 80 عاما منذ أن كان موضوعا لمعرض استعادي كبير. لكن معرضا اُقيم للوحاته مؤخّرا في اللوفر صحّح هذا الوضع وأعاد الى الرسّام بعض الاعتبار.
    في عام ١٧٥٤، وفي سنّ الحادية والعشرين فقط، دُعي روبير للانضمام إلى حاشية الكونت دي ستانفيل في روما، حيث استوعب أكبر قدر ممكن من المدينة الخالدة، وأتيحت له فرصة قبوله في الأكاديمية الفرنسية بروما، وهو تكريم لا يُمنح عادةً إلا للقليلين.
    وقد مكث في المدينة أحد عشر عاما أخرى، وخلال تلك العطلة الرومانية وُضعت أسس مسيرة روبرت الفنّية، وهي ركائز ستظهر وتعاود الظهور على الآثار المعمارية التي ملأَت رسوماته ولوحاته طوال حياته. وتشير صوره لفنّانين في بيئاتهم الرومانسية المتداعية إلى أن عالمي الخيال والواقع كانا على خطّ رفيع بالنسبة له. وقد أصبحت مناظره الخيالية عن الآثار الرومانية التي تُصوَّر في الهواء الطلق علامة مميّزة.
    بالنسبة لديدرو، يمكن ترجمة الآثار المرسومة إلى شعر. وقد سلّطت صور روبير الضوء على "الرعب الجميل" الذي اعتبره ديدرو بالغ الأهمية لقوّة هذه الأعمال.
    وعندما رأى الأخير لوحات روبير لأوّل مرّة في الصالون، كتب يقول: الأفكار التي توقظها الآثار في داخلي عظيمة. كلّ شيء يتلاشى، كلّ شيء يفنى، كلّ شيء يمر. وحده العالم يبقى، وحده الزمن يدوم".
    كان هوبير روبير غزير الإنتاج لدرجة أنه من السهل نسيان عدد أعماله. لكن يبقى شيء واحد مهم وواضح، وهو فهمه وتفسيره المذهل للفناء وهشاشة الحياة. وربّما يكون هذا الشعور بالموت والخوف من الضياع هو الذي غذّى حاجته للتواصل الاجتماعي المستمر.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • استلهم عشرون كاتبا بلجيكيا وهولنديا أفكارا وأشعارا من مجموعة الاعمال الفنّية التي يحتفظ بها متحف ماوريتسهاوس في لاهاي. وقد تأمّلوا بعض لوحات القرن السابع عشر من منظور التاريخ البديل ثم جسّدوها في نصوص قصيرة. إميلي بارييل وجدت في لوحة فيرمير "ديانا وحوريّاتها" موضوعا لخاطرة شعرية قالت فيها: ‬
    تريد ديانا أن تعرف لماذا تحوّلت إحدى حوريّاتها إلى شجرة، فيما أصبح الآن موقف سيّارات مهجور في مبنى مكاتب متهالك يعود تاريخه إلى ستّينيات القرن العشرين. في الماضي، تقف الإلهة ديانا في غابة. تنظر إلى تلك البطّة الغريبة هناك. يقف فيرمير حاملا لوحته تحت الأغصان القريبة ومردّدا لحنا. تقول ديانا: كيف يُعقل أن يصدر هذا الضجيج من فم صغير كهذا؟" تهزّ حورياتها رؤوسهن وهنّ يشحذن سهامهنّ للصيد. يمرّ أبوللو مرتديا ملابس رثّة، بدلة من ثلاث قطع.
    تلاحظ إحدى الحوريات أن أبوللو يضع إكليل غار على رأسه. تفتقد دافني بعض الأغصان. كلّ رسّام على مرّ التاريخ صوّرها هي وحورياتها بأجساد ملفوفة بالقماش. تحت الأغصان القريبة، يمزج فيرمير اللون الأخضر الحمضي ليلبّس مواضيعه فساتين. يهزّ أبوللو كتفيه. تستغرق الأصوات النسائية وقتا أطول للوصول إليه. يراقب فيرمير كلّ ما يحدث، ويصوّر أربع حوريات صامتات يحوّلن نظرهنّ عن ديانا، بينما حورياتها يهززن رؤوسهنّ ويسحبن أقواسهن.
  • ❉ ❉ ❉

  • اقتباسات...
    ○ الفقراء لا يدركون أن وظيفتهم في الحياة هي ممارسة الكرم. جان بول سارتر

    ○ كلّ ما يفعله الإنسان في الحياة، حتى الحب، يحدث في قطار سريع يتجه نحو الموت. "تدخين الأفيون" هو الخروج من القطار وهو لا يزال في طريقه، هو الانشغال بشيء آخر غير الحياة أو الموت. ج. كوكتو

    ○ لا أبحث عن البهجة ولا عن المرح. قلبي، بعد سنوات مرهقة من الحداد على الموتى، لم يعد يتقبّل المرح. ثم إن جدران قلعتي مهدَّمة والريح تهبّ باردةً عبر الأسوار والنوافذ المكسورة. أحبّ الظلال وأرغب في أن أكون لوحدي مع أفكاري. برام ستوكر

    ○ الترياق للغباء الجماعي ليس الذكاء فقط، بل الشجاعة في الاعتراف بأنك لا تعرف. سقراط كان أحد أوائل أبطال التفكير النقدي. قال مرّة: الحقيقة الوحيدة هي أن تعرف أنك لا تعرف شيئا". ولم يكن هذا انتقاصا من الذات، بل دعوة للبقاء فضوليّا ومتواضعا فكريّا ومستمرّا في السؤال، في مواجهة عالم غامض وواسع.
    الجميع يريدون التحدّث، ولكنْ قليلون يريدون الاستماع. المفارقة هي أن المفكّرين الحقيقيين غالبا ما يكونون هادئين، لأنهم يعلمون أن الحكمة لا تنمو من الضوضاء ولكن من الصمت، من التأمّل. وهذا هو السبب بالتحديد وراء تفكير المفكّرين النقديين. وهؤلاء غالبا ما يهمَّشون ويُتجاهلون في ثقافة تكافئ السرعة. التفكير البطيء فرَصُه ضئيلة، لكن لا ينبغي التخلّي عنه. مارشال ماكلوهان

    ○ الأمان في الغالب خرافة، لا وجود له في الطبيعة. وتجنُّبه ليس أكثر أمانا على المدى البعيد من التعرّض المباشر له. الحياة إما مغامرة جريئة، أو لا شيء. هيلين كيلر

  • Credits
    artic.edu
    mauritshuis.nl

    الثلاثاء، سبتمبر 09، 2025

    نصوص مترجمة


  • كان منشغلا بالفلسفة. وكان دائما يحمل ورقة مخطوطة في يده وسيغارة مشتعلة بين أصابعه. وعندما ينتهي من سيغارة، كان يشعل الأخرى لا شعوريا. ليس للتدخين، بل للتفكير. دخان متواصل. وفي مرحلة ما، أصبحت السيغارة إيقاع أفكاره وسُمّا ينهش رئتيه. كان سبب وفاته سرطان الرئة. لكن الجميع كان يعلم أنه مات من كثرة التفكير.
    هل ثمّة فلسفة هنا؟
    تزامُن التأمّل والتدمير "أو الطبيعة المزدوجة للوجود". الفلسفة هي عمل تعميق أفكار الإنسان، ولكنها بالنسبة لهذا الرجل كانت أيضا عملا من أعمال إنكار الذات. التبغ يشجّع على التأمّل، ولكنه أيضا يستحثّ الموت. حالة وجودية متناقضة حيث تتعايش "المعرفة والموت" و"الاستكشاف والنهاية".
    التفكير هو التفاني حتى الموت. "كلّ فكرة جعلتني أقرب إلى الموت". الفلسفة قد لا تكون هي الحرّية، بل الإدمان على "الأسئلة التي لا يمكن وقفها". السغائر عقد مع الموت. في كلّ مرّة أشعلَ فيها الرجل النار، كان يوقّع على موته. كان يعلم هذا، لكنه لم يُقلع، لأن السغائر بالنسبة له كانت "الميزان الذي يقيس به ثقل الحياة".
    الفلسفة ليست مطاردة الدخان بحثا عن إجابات، بل هي دفن الأسئلة في الدخان. د. ياماشيتا
  • ❉ ❉ ❉

  • كما يليق بملحمة حربية، تمتلئ الإلياذة بأمثلة عن الموت بطريقة وحشية. وبعض المجازر المروّعة تُرتكب تحديدا لإرهاب العدو. مثلا، قتلَ أغاممنون قائد القوات اليونانية هيبولوكوس التعيس وقطع ذراعيه ثم ركل جثّته ليقذفها بين حشد من المقاتلين الطرواديين "كجذع شجرة". وضربَ محارب يونانيّ آخر مقاتلا طرواديا في وجهه ثم قطع رأسه ورفعه في الهواء بطرف رمحه، ما تسبّب في إرهاب الطرواديين الآخرين.
    كان العالم القديم يعجّ بالعنف. ولا داعي لأن نقصُر الحديث على هوميروس. فمعظم الأساطير اليونانية تتسم بالعنف بشكل أو بآخر. كما كان الفنّ اليوناني نفسه عنيفا، وبدا كما لو أن بعض الرسّامين كانوا يستمتعون بتصوير الدم والقتل العنيف. ولا يزال العنف يهيمن على العالم الحديث. وهذه مشكلة لا يمكننا حلّها إلا عندما نعتبر حياة كلّ إنسان مهمّة ومتساوية، وكلّ خسارة تستحقّ البكاء. وقد يمرّ وقت طويل قبل أن نصل إلى تلك المرحلة المستنيرة. جوش برايرز
  • ❉ ❉ ❉

  • إيزابيل آيندي هي المؤلّفة الإسبانية الأكثر قراءةً في العالم. وهي تعرف كيف تروي قصّة مقنعة. روايتها "روحي إينيس" تستند إلى شخصية تاريخية. وقد بُنيت الرواية حول أكبر قدر ممكن من التاريخ المعروف المحيط بإينيس دي سواريز، إحدى أوائل النساء الإسبانيات اللاتي وصلن إلى العالم الجديد في أوائل القرن السادس عشر.
    يُروى الكتاب بضمير المتكلّم، بصوت إينيس كامرأة مسنّة تتذكّر حياتها وتحكي قصّتها لابنة زوجها قبل أشهر قليلة من وفاتها. ومثل إيزابيل آيندي نفسها، فإن إينيس ناجية شرسة وبارعة الحيلة.
    وتبدأ الرواية بحياة دي سواريز المبكّرة في إسبانيا، ثم كيف شقّت طريقها إلى العالم الجديد، البرّي وغير المتحضّر في معظمه، وهو أمر غير مألوف لامرأة في ذلك الوقت. في النهاية، أصبحت زوجة لأحد الغزاة الكبار، بيدرو دي فالديفيا، ورافقته في رحلته الاستكشافية من بيرو إلى المناطق البرّية في الجنوب، لاستكشاف ما يُعرف الآن بتشيلي وغزوها في النهاية.
    تقدّم الرواية قصصا آسرة عن عالم الاستعمار الإسباني المبكّر لبيرو، وتتضمّن ظهور بعض الغزاة الأوائل مثل بيزارو وألماغرو. كما نقف على التوتّر بين الإسبان والإنكا المهزومين بعد أقلّ من جيل من غزو بيزارو لإمبراطورية الإنكا.
    أبرز ما في الكتاب هو وصف إينيس للمصاعب والتحدّيات التي واجهتها هي والغزاة في الوصول إلى تشيلي ومحاولتهم ترسيخ موطئ قدم لهم في مواجهة مقاومة هنود المابوتشي الشرسين. وفي نهاية المطاف، وبعد الكثير من المشقّة والقتال، تمكّنوا من إقامة وجود هشّ أصبح فيما بعد مقعدا للحضارة الإسبانية، بعيدا عن مراكز قوّتهم الأخرى في العالم الجديد.
    يمكن أن تكون هذه الرواية شيّقة وممتعة لمن يهتمّون بالتحدّيات التي واجهها الأوروبيون في بدايات استيطانهم لأمريكا الجنوبية. وتصوير المؤلّفة للسكّان الأصليين وثقافتهم رائع. ويبدو أن آيندي بذلت جهدا كبيرا في البحث كي تحكي قصصهم بأقصى دقّة ممكنة. ج. شولتز
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • رسم الفنّان الفرنسي، الروسي الأصل، مارك شاغال لوحة "سقوط إيكيروس" عام ١٩٧٥، أي في أواخر حياته. وكان شاغال قد عانى من اضطرابات وصدمات نفسية، منها فراره من فرنسا التي احتلّها النازيّون إلى الولايات المتحدة عام ١٩٤١، والوفاة المبكّرة لزوجته الحبيبة بعد ذلك ببضع سنوات. في هذه اللوحة، يسقط شخص مجنّح من السماء على حشد من الناس في قرية.
    والمنظر هو تجسيد شاغال للأسطورة اليونانية عن إيكيروس الذي صنع له والده أجنحة من الريش والشمع ليتمكّن من الفرار من سجنه في جزيرة كريت. وقد حذّر الأب إيكيروس من الطيران قريبا من الشمس، ولكن ما أن ارتفع إلى السماء حتى غمره شعور بالقوّة والسرعة، فطار أعلى فأعلى الى أن ذاب جناحاه وهوى الى حتفه.
    من اللافت أن أحد أصول كلمة "خطر" يعود إلى الكلمة الإنغليزية الفرنسية daunger التي تعود إلى منتصف القرن الثالث عشر وتعني "الغرور". وكان هذا تذكيرا بأن الخطر والغرور غالبا ما يقترن كلّ منهما بالآخر. لذا كان إيمان إيكيروس بقدرته على التحليق بمفرده دون مراعاة للقيود والإمكانات سبيلا إلى هلاكه. اينوم اوغورو
  • ❉ ❉ ❉

  • "إنها تمطر"، قال الأب لاميرو. وتابع: قبل نصف قرن بالضبط، أتيتُ إلى اليابان في يوم كهذا. في الماضي، كان أباطرة هذا البلد رجالا ذوي مكانة عظيمة، لكن كلّ ذلك تغيّر عندما استولى العسكر على السلطة ونقلوا العاصمة إلى كاماكورا. وتُرك الإمبراطور الشابّ في كيوتو ليقايض توقيعه بالمخلّلات والأرز. كان ذلك في القرن الثالث عشر. ثم في عشرينات القرن العشرين، ذهبت إلى كاماكورا للدراسة في بعض المعابد البوذية".
    توقّف الأب لاميرو لبرهة، وبدا عليه التأمّل. ثم فرك ذراع كرسيّه المصنوع من شعر الخيل وتابع كلامه: بالنسبة لي كانت أفضل السنوات في اليابان هي عشرينات القرن الماضي. كنت شابّا، وعندما وصلت كان كلّ شيء هنا رائعا بالنسبة لي. كانت دراستي في كاماكورا، ولكنني كنت آتي إلى طوكيو في عطلات نهاية الأسبوع، إلى هذا المنزل بالذات، الذي كان مليئا بالقطط.
    كانت طوكيو آنذاك مبنية بالكامل من الخشب، وكلّ ليلة كانت هناك نار على مسافة قريبة سيرا على الأقدام. لا يوجد شيء أكثر تحفيزا من مشاهدة النار عندما تكون صغيرا. في ليالي الجمعة، كنّا نعقد اجتماعاتنا هنا، وإذا ذهبنا لرؤية النار، فإن مناقشاتنا كانت دائما أكثر حيوية. ومنذ الحرب، كنت نباتيّا صارما، باستثناء العسل والبيض. للأرز تأثير خاص على اليابانيين بعد ساعة أو ساعتين من تناوله، وهو بلا شك السبب الرئيسي وراء تفضيلهم للخارج. إدوارد ويتيمور
  • ❉ ❉ ❉

  • لدى الماوري قيم قبلية معيّنة، فما يفيد الجماعة يفيد الفرد، والعكس ليس بالضرورة صحيحا. وفي مجتمع الماوري المثالي، يسود تقاسم الموارد والالتزامات. وغالبا ما تكون التضحية مطلوبة. ويُقدَّر الوفاء تقديرا عاليا، ولا يُحتفى بروح المنافسة إلا في الرياضة، بينما يُحتقر الجشع والأنانية. والنتيجة مجتمع يُهتمّ فيه بالجماعة أكثر من الفرد. ومن نتائج ذلك أيضا أن الماوري، من وجهة نظر البيض، غالبا ما يبدون غير طموحين، بينما يبدو البيض، من وجهة نظر الماوري، قساة ومعزولين وباردِي القلوب. كريستينا تومسون
  • ❉ ❉ ❉

  • كان يا ما كان، كان هناك ولد، عاش في قرية لم تعد موجودة، في منزل لم يعد موجودا، على حافّة حقل لم يعد موجودا، حيث كان كلّ شيء ممكنا. يمكن للعصا أن تكون سيفا، ويمكن للحصاة أن تكون ماسة أو شجرة أو قلعة. كان يا ما كان، كان هناك ولد يعيش في منزل أمام الحقل، وفتاة لم تعد موجودة.
    ابتكرا ألف لعبة. كانت ملكة وهو ملك. في ضوء الخريف، كان شعرها يلمع كإكليل. كانا يجمعان العالم كلّه في حفنات صغيرة، وعندما تُظلم السماء، يفترقان وفي شعرهما أوراق. كان يا ما كان، كان هناك ولد أحبّ فتاة، وكان ضحكها سؤالا أراد أن يقضي حياته كلّها في الإجابة عنه. ن. كراوس

  • Credits
    isabelallende.com/en
    marcchagall.com/fr

    الأحد، سبتمبر 07، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • النثر الأرجواني purple prose مصطلح يُطلق على أيّ كتابة نثرية مزخرفة بشكل مفرط، لدرجة أنها تعطّل تسلسل السرد وتقلّل من تقدير القارئ، بسبب أسلوب الكتابة المبالغ فيه.
    والنثر الأرجواني يتّسم بالاستخدام الزائد للصفات والظروف والاستعارات. وعندما يقتصر هذا النثر على فقرات معيّنة، فإنه يمكن تسميتها بالبقع أو الفقرات الأرجوانية، حيث تكون مختلفة عن بقية العمل.
    كان الشاعر الروماني هوراس أوّل من صاغ عبارة "النثر الأرجواني" في كتابه "فنّ الشعر". فقد كتب ينصح كاتبا شابّا: افتتاحيتك واعدة جدّا. ومع ذلك، تظهر فيها بقع أرجوانيةٌ برّاقة، كما هو الحال عند وصفك بستانا مقدّسا أو مذبح ديانا أو جدولا متعرّجا عبر الحقول أو نهر الراين أو قوس قزح. لكن هذا لم يكن المكان المناسب لهذه الاوصاف. إذا كان بإمكانك تصوير شجرة سرو بشكل واقعي، فهل ستكتب هذا عند تكليفك برسم بحّار وسط حطام سفينة"؟!
    كانت الصبغة الأرجوانية آنذاك باهظة الثمن، وكان ارتداء أيّ ملابس بلون أرجواني يُعدّ دليلا على الثراء. وكان كثير ممّن يريدون الظهور بمظهر ثريّ يضعون قماشا أرجوانيا بين ملابسهم الرخيصة كي يبدوا أكثر ثراءً، ولذلك بدأ يُنظر الى الأرجواني كرمز للبريق والبهرجة.
    وقد تصوّر هوراس شبها بين النسيج الأرجواني في المجتمع والنثر الأرجواني في الكتابة. ثم استخدم الناس وصفه للإشارة الى أيّ نوع من الكتابة يبالغ في التأنّق والفذلكة ليحاول جذب القرّاء. والنثر الأرجواني أعمق من مجرّد كتابة الجمل، بل هو الكتابة البرّاقة من أجل البهرجة فقط، دون إعطاء معنى أو عمق للكتابة.
    إن كنت تمارس الكتابة، فعليك مراجعة عملك باستمرار والتفكير في أيّ أجزاء إضافية ترغب في حذفها. وإذا أفرطت في استخدام لغة سطحية في كتابتك، فقد لا يقتصر الأمر على نفور القرّاء، بل قد يصرفهم عن الفكرة الرئيسية التي تحاول طرحها.
    يمكنك أيضا قراءة كتاباتك بصوت عالٍ لمعرفة عدد الأنفاس التي تحتاج إلى أخذها لإنهاء جملة واحدة، والتي يمكن أن تكون علامة على أنها طويلة جدّا ومليئة بالحشو والكلمات، وبالتالي لا لزوم لها.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • بعض المعلومات التي ترسخّت في اذهاننا باعتبارها حقائق ومسلمّات، وذلك بفعل التواتر والتكرار، ثبت أنها لا تمتّ للحقيقة بِصلة.
    فمثلا، غير صحيح أن قسطنطين هو الذي أعلن المسيحية ديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية. ورغم أنه كان أوّل إمبراطور مسيحي، إلا أن المسيحية لم تُعلن ديانة رسمية للإمبراطورية إلا عام 380، أي بعد وفاة قسطنطين بـ 43 عاما.
    وغير صحيح أيضا أن يوليوس قيصر ولِد بعملية قيصرية، كما أن العمليات القيصرية (Caesarean section) لم تُشتقّ من اسمه. ولو أُجريت له أو لغيره مثل هذه العملية في ذلك الزمن لأودت بحياة الأمّ بسهولة.
    وغير صحيح أيضا أن كولومبوس كان أوّل أوروبّي يزور الأمريكتين، فقد استكشف ليف إريكسون، وربّما غيره من الفايكنج قبله، المناطق الساحلية لأمريكا الشمالية. وأثبتت الآثار أن مستوطنة نورسية واحدة على الأقل أقيمت في نيوفاوندلاند، ما يؤكّد القصّة التي رواها إريك الأحمر في ملحمته.
    وغير صحيح أيضا أن النار أُطلقت على أنف تمثال أبي الهول من قبل قوّات نابليون أثناء الحملة الفرنسية على مصر قبل مائتي عام. فقد كان الأنف مفقودا منذ القرن العاشر على أقلّ تقدير.
    وغير صحيح أيضا أن غريغوري راسبوتين قُتل بإطعامه كعكا ونبيذا ممزوجا بالسيانيد، أو بإطلاق النار عليه عدّة مرّات ثم رميه في النهر بعد نجاته من الحادثتين السابقتين. بل أثبت تشريح لجثّته أنه قُتل بطلقات ناريّة فقط. والمصدر الوحيد لقصّة السيانيد هو رواية مبالغ فيها من مذكّرات الأمير فيليكس يوسوبوف، الذي كان شريكا في المؤامرة.
    وغير صحيح أيضا أن رسّامي الخرائط في العصور الوسطى كتبوا على خرائطهم بانتظام عبارة "هنا توجد تنانين hic sunt dracones". كما لا توجد خرائط قديمة تحتوي على عبارة "أراض مجهولة terra incognita"، للإشارة الى أن أرضا ما تعجّ بالوحوش والأفاعي والتنانين وما الى ذلك. هناك خريطتان فقط من تلك الحقبة لمناطق في جنوب آسيا نُقشت عليهما هذه العبارة وتضمّنتا رسوما توضيحية لحيوانات أسطورية أو حقيقية.
    ويُحتمل أن من صمّموا تينكِ الخريطتين كانوا يتوقّعون ظهور العديد من الوحوش المرعبة في الأماكن التي حدّدوها على الخريطتين. ومن بينها بعض الحيوانات التي لا تُعتبر أسطورية اليوم كالفيلة والأسود، لكنها كانت تُعتبر في نظر الناس وقتها شبيهة بالتنانين.
    وغير صحيح أيضا أن سور الصين العظيم هو المَعلم البشري الوحيد الذي يُرى بالعين المجرّدة من الفضاء أو من القمر. فلم يبلِّغ أيّ من روّاد فضاء أبوللو عن رؤية أيّ جسم بشري محدّد من القمر. وحتى روّاد الفضاء الذين يدورون حول الأرض لا يستطيعون رؤية السور العظيم إلا بالمناظير المكبّرة. مع ذلك، يمكن رؤية أضواء المدن بسهولة في الجانب المظلم من مدار الأرض.
    وغير صحيح ما يقال من أن منازل القمر تؤثّر على أصوات الذئاب، وأن الذئاب تعوي عند رؤيتها القمر. والصحيح هو أنها تعوي عادةً لتجميع قطيعها قبل الصيد وبعده ولإطلاق إنذار وللتعرّف على بعضها البعض أثناء العاصفة وللتواصل عبر مسافات شاسعة عند عبور مناطق غير مألوفة.
    وغير صحيح أيضا أن النعامة تدفن رأسها في الرمال للاختباء من الأعداء أو للنوم. وأصل هذا الاعتقاد الخاطئ غير مؤكّد. لكن يُرجَّح أن من روّج له كان المؤرّخ بليني الكبير، إذ كتب أن النعامة "تتخيّل عندما تُدخل رأسها ورقبتها في شجيرة أن جسدها كلّه لا يُرى".
    وغير صحيح أن البشر تطوّروا من أيّ من أنواع الشمبانزي أو أيّ نوع آخر من القردة. ومع ذلك، تطوّر البشر والشمبانزي من سلف مشترك. ويُعتقد أن هذا السلف المشترك الأحدث للإنسان والشمبانزي قد عاش قبل حوالي ثمانية ملايين سنة.
    وغير صحيح أيضا أن الأنهار تتدفّق غالبا من الشمال إلى الجنوب، بل تنحدر في جميع اتجاهات البوصلة، وغالبا ما تغيّر اتجاهها على طول مجراها. والعديد من الأنهار الرئيسية تتدفّق جهة الشمال، بما في ذلك نهر النيل ونهر الراين وغيرهما.
  • ❉ ❉ ❉

  • كاريتاس، أو المحبّة، هو اسم مقطوعة مشهورة للموسيقيّ الآذاري سامي يوسف أُدّيت على الهواء لأوّل مرّة في قاعة الحفلات الموسيقية الملكية في أمستردام قبل ثلاث سنوات واشتركت في تقديمها فرقتان هولنديتان والفرقة التابعة ليوسف.
    هذا العمل هو جزء من مشروع موسيقيّ أكبر اسمه "عندما تلتقي الدروب". وهو يتنقّل بسلاسة بين الموسيقى الكورالية الغربية والأساليب الموسيقية الشرقية والأندلسية. كما يَعبُر الحدود بين المقامات والايقاعات المختلفة، باستخدام الارتجال والعزف المنفرد على آلات الإرهو الصينية والعود والناي والكمان.
    وفكرة العمل تؤكّد على عمق الحوار بين الحضارات من خلال الموسيقى. وتتردّد في ثناياه باللغات العربية والانغليزية والآذارية كلمات الشاعر الآذاري المتصوّف فضولي من القرن السادس عشر، والشاعرة الألمانية المتصوّفة هيلدغارد بينجن من القرن الثاني عشر، بالإضافة الى مواويل آسرة مستمدّة من أبيات للشاعر الأندلسي أبو الحسن الشُشتري من القرن الثالث عشر والشاعر الصوفي السوري عبد الغني النابلسي من القرن السابع عشر.
    مدّة العمل 16 دقيقة، ومقاطعه الأجمل تبدأ عند الدقيقة السابعة ، حيث تمتزج أنغام الرست الرائعة بالأصوات البشرية التي تلامس الروح. وقد وُصفت كلّ نغمة فيه بأنها "تحمل لمسة إيمان وبريق أمل".

  • Credits
    thewritelife.com
    samiyusuf.art

    السبت، أغسطس 30، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • هذا البورتريه رسمته الفنّانة المكسيكية فريدا كالو لنفسها عام 1940، وأرادت من خلاله إبراز موضوع الهوية والمشاعر المعقّدة. وفيه تَظهر الرسّامة بشعر قصير بعد أن قصّت شعرها الطويل الذي يظهر متناثرا حولها. الشعر المقصوص يرمز للتمرّد والاستقلالية وتوكيد الفردانية وتحدّي أدوار الجندر التقليدية.
    كما أن الرسّامة ترتدي بدلة وربطة عنق رجالية، بدلاً من الفستان المكسيكي التراثي الذي اعتادت أن تظهر به. وفي هذا أيضا تلميح الى هويّتها الخاصّة، المركّبة والمتعدّدة الأوجه، ورفضها للأعراف المجتمعية.
    في الصورة أيضا، تحمل الفنّانة مقصّا في يد وخصلة شعر باليد الأخرى. وبتناولها المقصّ وقصّ شعرها، تؤكّد استقلاليتها ورفضها لتوقّعات المجتمع التي فُرضت عليها كامرأة. أي أن للمقصّ في اللوحة رمزية قويّة، اذ يجسّد قدرة كالو على التصرّف وتحكّمها بجسدها وهويّتها.
    كانت كالو قد قصّت شعرها بعد شهر من طلاقها من زوجها الرسّام دييغو ريفيرا، ثم رسمت لنفسها هذه اللوحة بعد ذلك بوقت قصير. وفي أعلى الصورة، تظهر نوتة موسيقية مصحوبة بكلمات من أغنية شعبية مكسيكية تقول: انظر، إذا كنتُ أحببتك فذلك بسبب شعرك. الآن وقد أصبحت بلا شعر، لم أعد أحبّك".
  • ❉ ❉ ❉

  • "ضوء القمر الساطع يضيء واجهة السرير
    فيبدو كما لو كان صقيعا على الأرض.
    أنظر إلى الأعلى فأرى القمر اللامع في السماء
    وأنظر إلى الأسفل فأملأ ذهني بذكريات مدينتي".
    قصيدة "لي باي" هذه عنوانها "خواطر في ليل صامت"، وهي من أشهر القصائد الصينية التي كُتبت في عهد سلالة تانغ. والقصيدة قصيرة كما هو واضح ولا تستخدم سوى كلمات قليلة، لكنها مفعمة بالشغف والحنين .وما تزال تدرَّس كجزء من مناهج الأدب الصيني، وكواحدة من أقدم أعمال الشعر الصيني نظرا لبساطتها النسبية واستخدامها المباشر والفعّال للصور الشعرية الوثيقة الصلة بالقيم الكونفوشية.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • أُعجب عالم الأنثروبولوجيا جيمس موني بمركزية الماء في عالم الشيروكي. وكان قد أمضى في نهاية القرن التاسع عشر موسما عاش فيه مع بعض الأمريكيين الأصليين في جبال سموكي "الدخان" العظيمة بولاية كارولاينا الشمالية.
    وسجّل موني في دراسة له كيف أن الشيروكي تصوّروا الأرض على أنها "جزيرة كبيرة تطفو فوق بحر من الماء، معلّقة من كلّ من الجهات الأربع الأصلية بحبل يتدلّى من قبّة السماء. وعندما يشيخ العالم ويتآكل، سيموت الناس وتنقطع الحبال، فتغرق الأرض في لجّة المحيط ويعود كلّ شيء إلى الماء".
    كما كتب عن الأهمية الروحية التي يوليها الشيروكي لأنهارهم وجداولهم وبِركهم المحلية وقال إنه كان يذهب مع مجموعة منهم كلّ صباح عند بزوغ الفجر إلى جدول متدفّق، حيث يواجهون شروق الشمس ويغمرون أنفسهم في الماء الجاري، مجسّدين نوعا من الولادة الجديدة. واستنتج أن الذهاب إلى الماء "جزء من طقس لنيل العمر المديد وكسب ودّ النساء والشفاء من مرض مهلك وجلب الرخاء للعائلة مع كلّ عودة للقمر الجديد".
    لعدّة قرون، قبل تهجير شعب الشيروكي قسرا من أوطانهم الأصلية بدءا من عام 1838 خلال معركة درب الدموع، ارتبط نهر تينيسي ارتباطا وثيقا بالشيروكي، لدرجة أن المستوطنين الإنغليز والإسبان والفرنسيين غالبا ما كانوا يشيرون إليه ببساطة باسم "نهر الشيروكي". ومفردة الشيروكي التي تعني النهر، أو "الرجل الطويل"، تستحضر شيئا من الجوهر المقدّس لذلك النهر وغيره من الأنهار التي اعتبرها الشيروكي كيانات حيّة تتمتّع بشخصيّات وسمات فريدة.
    وبينما رأى المستوطنون الأوربّيون في نهر تينيسي مصدرا للفرص الاقتصادية، عارض شعب الشيروكي أيّ تحويل كبير لمجرى النهر أو بناء سدّ فوقه. ومن وجهة نظرهم "فإن ما تفعله عندما تُغيّر مجرى النهر هو تدميره. فالأنهار التي لا تتدفّق وتشكّل بِرَكاً راكدة كبيرة من المياه، كما هو الحال في السدود، تُعتبر مياها ميّتة. وعندها يفقد النهر شخصيته وأهميّته الروحية والشعائرية".
    اليوم، في جبال سموكي، حيث أمضى جيمس موني فترة مع قبيلة شيروكي الشرقية، وحيث فرّ عدد كبير منهم في عهد الرئيس جاكسون لتجنّب التهجير، تتدفّق عشرات الأميال من الجداول المحمية بمحاذاة مناطق غابات هادئة، مارّةً بوسط مدينة شيروكي، بينما تُبذل جهود لتجديد جداول المياه الجبلية.
  • ❉ ❉ ❉

  • اقتباسات...
    ○ إن إضفاء طابع رومانسي على العالم هو ما يجعلنا ندرك سحره وغموضه وعجائبه. ويجب أن ندرّب حواسّنا على رؤية العادي على أنه غير عادي، والمألوف على أنه غريب، والدنيوي على أنه مقدّس، والمحدود على أنه لانهائي. نوفاليس

    ○ لا تحمل معك أثناء ترحالك إلا ما تستطيع حمله دائما: لغات أخرى ومعرفة بالبلدان والشعوب. ولتكن ذكرياتك حقيبة سفرك. ألكسندر سولجينتسين

    ○ قصّة بيرسيوس اليونانية الكلاسيكية هي مظهر مبكّر لحكاية شعبية واسعة الانتشار، صنّفها فلكلوريو القرن العشرين تحت اسم "قاتل التنانين". هل كان هناك بيرسيوس بدائي أنقذ عذراء من تهديد استثنائي، من نوع من التضحية البشرية مثلا؟ من الصعب الإجابة على هذا السؤال، ولكن ليس من الصعب تخيّل مدى قدَم الحادثة البدائية عن قاتل التنانين.
    فهي منتشرة في ثقافات كثيرة، ولا يمكن تصوّر وجود صلة أدبية بينها وبين اليونان القديمة، حيث نشأت أسطورة بيرسيوس. ومع ذلك، فإن المجموعة المشتركة من الزخارف في النسخ المتعدّدة من الأسطورة تُظهر بوضوح نوعا من العلاقة الوراثية أو الترابط التاريخي. هل نحتاج إلى العودة آلاف السنين قبل أوّل تسجيل لقصّة بيرسيوس للعثور على بيرسيوس البدائي هذا؟ من الأسهل بكثير أن نفهم أن الحكاية الشعبية انتشرت ببساطة وأن أحد مظاهرها كان في اليونان القديمة. ر. أدامز

    ○ لا يرى أيّ فنّان عظيم الأشياء على حقيقتها. لو فعل ذلك، لتوقّف عن كونه فنّانا. مارك توين

    ○ كانوا يُلقّبونه بـ بيتر النَسيان "أي كثير النسيان". في إحدى المرّات، وصل إلى المعهد الموسيقي ولم يجد التشيللو الذي كان يحمله. قال بابتسامة عريضة: ربّما ضاع في الطريق. مشى عائدا إلى غرفته. ولم يجد التشيللو هناك. ثم تذكّر لفافة الخبز التي اشتراها من المخبز المجاور. وكان التشيللو هناك مع الرغيف أيضا. قال بيتر: لديّ ذاكرة قويّة. وأضاف اقتباسا من فيلسوف مشهور: الذاكرة هي القدرة على النسيان". وبنفس الذاكرة، نسي أيضا الأسماء والمواعيد والوعود. نسي المكان الذي ركن فيه سيارته، فاضطرّوا للبحث عنها في نصف المدينة في منتصف الليل. كان ينتظر ساعتين مبكّرا في المطعم الخطأ، وللمرأة الخطأ. وقال إن النسيان هو شرط السعادة. باتريشيا دي مارتيلييه

    ○ أتركْ بابك الأمامي والخلفي مفتوحين. دع الأفكار تأتي وتذهب. فقط لا تقدّم لها الشاي! شونريو سوزوكي

    ○ ما الحياة سوى رقصة من الأشكال الزائلة. أليس كلّ شيء في تغيّر دائم: أوراق الأشجار في الحديقة، ضوء غرفتك وأنت تقرأ هذه الكلمات، الفصول، الطقس، هذا الوقت من اليوم، الأشخاص الذين يمرّون بك في الشارع. وماذا عنّا؟ ألا يبدو كلّ ما فعلناه في الماضي حلما الآن؟ الأصدقاء الذين نشأنا معهم، أماكن الطفولة، تلك الآراء والأفكار التي كنّا نتمسّك بها بشغف مطلق ثم تركناها الآن خلفنا؟ الآن، في هذه اللحظة، تبدو لك قراءة هذا الأسطر حقيقية تماما. لكن حتى هذه الأسطر ستصبح قريبا مجرّد ذكرى. سوجال رينوشي

    ○ إهتمّ بالحياة كما تراها، بالناس والأشياء، بالأدب والموسيقى. فالعالم ثريّ جدّا وينبض بالكنوز الغنيّة وبالأرواح الجميلة والأشخاص المثيرين للاهتمام. هنري ميلر

    ○ قصّة دراكيولا في الثقافة الحديثة كثيرا ما تهيمن عليها مشاهد عنف مروّعة ومعارك ملحمية بين وحوش ذات أنياب حادّة وصيّادين يحملون أوتادا. لكن مصّاص دماء رواية "برام ستوكر" يتميّز ببراعة مقلقة؛ إنه أقرب إلى "مخلّص من الفساد" منه إلى جزّار ملطّخ بالدماء. ولعلّ أفضل تفسير لشخصية "دراكيولا ستوكر" هو أنه مرض خبيث يسلب من يحبّ صفاته الفاضلة ويستبدلها خلسة بشرّ خالص لا يموت.
    في النصف الأوّل من الرواية، يجسّد ستوكر ببراعة الحزن والصدمة المرتبطين بمشاهدة هذه العملية المخيفة والشعور بالعجز عن تغييرها. وفي النصف الثاني، يقدّم عملا جديرا بالثناء بنفس القدر، مُظهرا كيف يمكن للشجعان أن يتّحدوا ويتكاتفوا في أعقاب الخسارة لمنع المزيد من المآسي. مايلز ريمار

    ○ الطريقة الوحيدة للتعامل مع عالم غير حرّ هي أن تصبح حرّا تماما، لدرجة أن يصبح وجودك نفسه فعل تمرّد. ألبير كامو

    ○ لا تبحث عن النجاح، فكلّما طاردته وجعلته هدفا، أضعتَه. فالنجاح كالسعادة، لا يُسعى إليه بل يجب أن يأتي من تلقاء نفسه. وهو لا يأتي إلا كأثر جانبي غير مقصود لتفاني المرء في سبيل قضية أعظم منه. وينطبق الأمر نفسه على النجاح: دعه يحدث دون أن تبالي به. أريدك أن تنصت لما يمليه عليك ضميرك وأن تنفّذه على أكمل وجه. عندها ستدرك أن النجاح سيلاحقك على المدى البعيد، لأنك لم تعد تفكّر فيه. فيكتور فرانكل

  • Credits
    chinahighlights.com
    fridakahlo.org

    الثلاثاء، أغسطس 26، 2025

    نصوص مترجمة


  • كان أحد أعمامي يأمل أن يصبح رسّاما كبيرا. في مراهقته، فاز بمِنَح دراسية وجوائز مهمّة، لكنه فقد بصره بسبب السكّري. كنت في العاشرة وهو في العشرينات من عمره، عندما كنّا نسير معا ذات يوم في شارع مزدحم بالمشاة في بوينس آيرس. وفجأة قال أحدهم: ها هو بورخيس"! نظرتُ ورأيتُ بورخيس، فقلتُ لعمّي: هذا بورخيس".
    كان قادما نحونا، وهو ممسك أيضا بذراع صديق أو معجب، ثم صرخ عمّي الكفيف والفكاهي: بورخيس! كيف حالك؟ تبدو رائعا". حوّل بورخيس نظره إلى المكان الذي أتى منه صوت عمّي الكفيف، وتبادلا النظرات دون أن يَريا بعضهما، وأنا واقف بينهما غير مصدّق لما أراه.
    في ذلك الوقت، لم أكن قد قرأتُ أعمال بورخيس، ولكن كنتُ أعرفه جيّدا. كان من السهل أن ألتقي به في الشارع، وكان حاضرا باستمرار على شاشات التلفزيون، حيث كان موضوعا للعديد من المقابلات المطوّلة، وحتى لعروض الكوميديا القصيرة. كان الكوميديون يقلّدونه. كان فريدا من نوعه، بصوته وأسلوبه في الكلام وتواضعه المتغطرس وسعة اطلاعه التي تكاد تكون مجنونة وأسلوبه المهذّب والصارم في تقويض محاوريه.
    بعد سنوات قليلة من ذلك اللقاء مع بورخيس، ومع عدم وجود فرصة لرؤيته مرّة أخرى ولفترة طويلة، قرأت أوّل كتاب له: "تاريخ عالمي للعار". وأعتقد أنني قرأت كتب بورخيس بعد ذلك بنفس الطريقة التي قرأ بها هو ألف ليلة وليلة وستيفنسون وتشيسترتون وآلان بو وويلز. قرأته كما لو كان مؤلّف كتب أطفال بالمعنى النبيل للكلمة، ككاتب تأسيسي، كصانع قصص مثالية، كواحد من أولئك الرواة الذين يفتحون الباب لنا للّعب في كتب أخرى.
    وفي أحد الأيّام، في إحدى صالات الألعاب الرياضية، حدث أن اصطدمتُ برجل عجوز خفيف الوزن. طار الرجل في الهواء، ممسكا بعصاه، وأخذ يصرخ صرخات مكتومة قبل أن يسقط على وجهه. ثم اكتشفتُ أن ذلك الرجل لم يكن سوى بورخيس نفسه، وأنني ربّما قتلتُه.
    كانت تلك أهمّ لحظة في حياتي! من كان يعلم أن ذلك الاصطدام بالأدب العظيم سيُشعل شرارة قصص أخرى، أو سيمثّل نهايتي ككاتب. فما جدوى كتابة أيّ شيء إن سُجِّلْتُ في التاريخ بصفتي قاتل بورخيس؟!
    لحسن حظّي، ظلّ بورخيس حيّا. رأيتُه مُستلقيا على ظهره وعصاه على صدره، يفتح فمه ويغلقه كأحد طيور الكناري بحثا عن أكسجين. كانت تلك تجربتي الكبرى مع الأدب، ويزعجني قليلا ألا أتمكّن من التذكّر، مهما حاولت، إن كنتُ قد ساعدته على النهوض أم لا. لا أظنّ أنني فعلت.
    لقد رويت تلك القصّة مرّات عديدة. وأصبحتْ مثل الورقة الرابحة في جعبتي أو في ياقة أحد الكوميديين. وهكذا حدث اصطدامي الحقيقي بالأدب.
    عندما جلستُ لأقرأ بورخيس، لم أفعل ذلك رغبة في تحليله وإعادة بنائه لاحقا أمام لجنة من الممتحنين، أو من أجل خطّة نظرية حتمية لكيفية المضيّ قدما في عملي، بل من أجل متعة الاستمتاع بشخصية عظيمة.
    وهنا أصل إلى سرّ علاقتي الشخصية جدّا مع بورخيس. أتذكّر الانفجار الشخصي الكبير الذي مررت به عندما قرأتُ ذات صباح استوائي، وربّما ممطر "من يتذكّر وهو يقرأ تحت المطر!"، تلك الصفحة القصيرة بعنوان "بورخيس وأنا"، والتي يعترف بورخيس فيها "لا أعرف أيّنا الاثنين يكتب هذه الصفحة"، وحيث يطمس بورخيس الخطّ الفاصل بين المؤلّف والشخصية ويشوّه هويّة القارئ.
    ما شعرتُ به وقتها هو أنه لا يمكن للمرء أن يكسب عيشه من الأدب فحسب، بل يمكن أن يعيش الأدب، والأدب يمكن أن يحيا في الكاتب ومن خلاله. كان بورخيس، بالنسبة لي، وسيظلّ الكاتب العظيم الذي يفهم الكُتّاب كشخصيات عظيمة وكقُرّاء عظماء.
    بورخيس كقارئ/كاتب، ابتدع بأسلوبه تقليدا أدبيّا أرجنتينيا افتراضيّا ومراوغا، لم يكن يحفر في التربة بل في الجدار الذي تُعلّق عليه الكتب. الجدار الذي يؤوي عبقرية أمين مكتبة أعمى ومتعدّد الأشكال ومنحرفا، يوصي بأشياء كثيرة دفعة واحدة، مقتنعا بأن الخلاص والجنّة يعيشان دائما داخل كتاب، كتاب يحتوي الكون بأسره. رودريغو فريسن
  • ❉ ❉ ❉


  • يمثّل موزارت لمعظمنا الأناقة والذكاء والرقّة والألفة، وما إلى ذلك. ولو كان هذا كلّ شيء، لظلّ مجرّد فنّان من عصره. لكنه يختلف عن غيره من المؤلّفين من أواخر القرن الثامن عشر الذين أنتجوا موسيقى سهلة وراقية وغنائية ومرِحة لطبقة النبلاء.
    وصل موزارت إلى هذا العالم كروح سامية، وظلّ فيه حوالي ثلاثين عاما، ثم تركه غنيّا ومبارَكاً بزيارته. كانت عبقريته عالمية مثل جميع الفنّانين العظام. لم يلتقط فقط إحساس وروح عصره، بل جسّد أيضا روح الإنسان، إنسان كلّ العصور، الإنسان بكلّ رغباته وتطلّعاته وتناقضاته.
    عندما كنّا في موسكو قبل فترة، سمعت الكاتب الكبير بوريس باسترناك يقول: رغم كلّ شيء، أنا مفعم بالبهجة، فنّي موجود كسجلّ لمأساة الوجود البشري، يتغذّى من الأحزان. وفنّي هو كلّ بهجتي". وهكذا هو حال أعظم الأرواح المبدعة، وهكذا كان حال موزارت.
    قد يفاجئ هذا الكلام بعض الناس ممّن اعتادوا وصف موسيقى موزارت بالأرستقراطية. وكم من الناس سمعتهم يصفونها بـ"الرنّانة". يقولون: لا داعي لكلّ هذه التعقيدات البسيطة في موسيقاه. أعطني جرأة في الموسيقى: بيتهوفن، برامز، التراجيديا، العظمة".
    لكن هذا النوع من الكلام لا يعني سوى شيء واحد: أنهم لا يعرفون موزارت. لا يمكن لأحد أن يستمع إلى موزارت وينصت إليه باهتمام، بكلتا أذنيه، دون أن يختبر ما أسماه باسترناك "مأساة الوجود البشري".
    هل تشعر في موسيقى موزارت بذلك الحزن، ذلك الجوهر الثمين، حتى وهي محاطة بإطار من القرن الثامن عشر؟ إن موسيقاه تهرب باستمرار من إطارها، لأنه لا يمكن احتواؤها في قالب. وهي في جوهرها خالدة. إنها موسيقى كلاسيكية لرومانسي عظيم، وموسيقى حديثة وخالدة لكلاسيكي عظيم. ليونارد بيرنشتاين
  • ❉ ❉ ❉

  • في القرن السادس عشر، كان مصطلح "بيرو" يُطلق على أمريكا الجنوبية بأكملها، وليس فقط على أراضي الدولة التي تحمل هذا الاسم اليوم. وكانت أراضي أتاوالبا، آخر إمبراطورية للإنكا في بيرو، غنيّة بالذهب والفضّة. وفي أبريل عام 1545، تسلّق نبيل هنديّ ضئيل يُدعى دييغو غوالبا تلّة بحثاً عن ضريح، فسقط أرضا بفعل رياح قويّة. ووجد نفسه ممسكاً بكتل ضخمة من الفضّة بيديه، فأبلغ بذلك بعض المغامرين الإسبان في المنطقة المجاورة.
    وبعد مزيد من البحث، اكتُشفت خمسة عروق غنيّة بالفضّة. وتبع ذلك اندفاع محموم للبحث عن المعدن الثمين. وقتها كانت الفضّة، وليس الذهب، هي التي أصبحت في نظر العالم رمزا للثروات التي تُجنى بسرعة. وبالنسبة للفرنسيين في القرن السادس عشر، أصبحت مفردة "بيرو" مرادفة للثروة الهائلة.
    آنذاك وُصفت رواسب بوتوسي في بيرو، "الواقعة اليوم في بوليفيا"، بأنها "جبل فضّي" يبلغ قطر قاعدته ستّة أميال ويقوم على هضبة نائية ومهجورة ترتفع 12 ألف قدم فوق مستوى سطح البحر.
    ومن عام 1503 إلى عام 1660، قُدِّر أن 16 ألف طن متري من الفضّة وصلت إلى إشبيلية بإسبانيا، أي ثلاثة اضعاف موارد الفضّة الموجودة في أوروبا في ذلك الوقت. بينما دخَلَ 185 طنّا متريّا من الذهب إلى إشبيلية من العالم الجديد خلال الفترة نفسها. كانت الفضّة العنصر الرئيسي في ثروة إسبانيا الخيالية. وكانت تلك الثروة خيالية فعلا، لأن آثارها على الحكم الإسباني كانت غير متوقّعة، وأدّت على المدى الطويل ولأسباب متعدّدة إلى الإفلاس وتراجع نفوذ إسبانيا في الشؤون العالمية. كاسي كورتنغ
  • ❉ ❉ ❉

  • أحببت الفراشات وكنت مفتونا بها منذ الصبا، عندما عرّفني والدي على هذه المخلوقات الساحرة. وعندما كبرت، ازداد شغفي بها وألّفت كتابا عنها تحدّثت فيه عن حضورها الدائم في أحلامنا وفي الأدب والموسيقى والفنّ والثقافة الشعبية. وأعرف أن الكثيرين بدأوا يصبحون من مراقبي الفراشات ويدركون كيف يمكن لهذا النشاط الممتع أن يفيدهم عقليا وجسديّا وروحيا.
    إن فوائد التواجد في الهواء الطلق في أحضان الطبيعة والمشي بوتيرة هادئة والوقوف ساكنا وتعلّم الرؤية والنظر باهتمام والانتباه الكامل لهي من الأمور المفيدة والمجزية كثيرا. الكاتب فلاديمير نابوكوف هو مثال على رجل الفراشات العظيم. ولم يكتب أحد آخر بمثل هذا الشعور أو الجمال عن الفراشات.
    وأعتقد أن هناك دروسا يمكن استخلاصها من مشاهدة الفراشات. فنحن قد نتعلّم شيئا من طيرانها الرقيق والرشيق وكيف أنها لا تستقرّ طويلا بل تمضي قدما. وهي تعلّمنا شيئا عن العيش بِخفّة، لا أن نغرق في وحل الركود، وأن نحافظ على مرونتنا وقابليّتنا للتكيّف، وأن نمشي رويداً على الأرض، لا أن نتخبّط في أمور مدمّرة، وأن نقدّر تعقيد وهشاشة ما حولنا. نايجل أندرو
  • ❉ ❉ ❉

  • تتعرّض الحيوانات البرّية في بيئاتها الطبيعية لمواقف عصيبة ومختلفة، مثل البحث عن مجموعات وأماكن آمنة للعيش، والحصول على الطعام وتجنّب التعرّض للافتراس، وتحمّل الأمراض والإصابات دون علاج.
    وبينما يُتوقّع أن تُوفَّر للحيوانات الأسيرة أماكن آمنة للعيش وغذاء كافٍ ورعاية بيطرية عند الحاجة، إلا أنها لا تحصل بالضرورة على هذه الحقوق البسيطة. وحتى لو حصلت عليها، فهذا لا يعني بالضرورة أنها تتمتّع بحياة أسعد أو أفضل من أقاربها في البرّية المفتوحة.
    ويمكن أن نتخيّل وجود حالات قد يستفيد فيها الحيوان من إبعاده عن البرّية. مثلا، إذا كان يتعرّض للضرب باستمرار ككبش فداء أو يتضوّر جوعا أو يعاني من مرض أو إصابة خطيرة.
    ومع ذلك قد يقول قائل: هذا شعور طبيعي عندما يكون فردا في جماعة، ويجب أن تُمنح له فرصة عيش حياته الطبيعية. ففي النهاية، هذا ما تطوّر ليصبح عليه. قبل سنوات، أدركت معنى أن تكون حيوانا برّيا وأن تكون حيوانا أسيرا.
    ففي عالم يشهد هيمنة بشرية متزايدة، في حقبة تُسمّى "عصر الأنثروبوسين" الذي تحوّل إلى " موجة من اللاإنسانية "، من الواضح أننا كثيرا ما نتدخّل في حياة أنواعٍ لا تُحصى. نسرق حياتها وبيئاتها ونسرق أطفالها ومستقبلها. ومن المحتمل جدّا أن تعاني الحيوانات البرّية من اضطرابات نفسية مختلفة، بما في ذلك اضطراب ما بعد الصدمة وأمراض سلوكية أخرى. مارك بتكوف

  • Credits
    borges.pitt.edu
    wolfgang-amadeus.at

    الأحد، أغسطس 24، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • كانت الفنّانة الأوكرانية سونيا ديلوناي (1885-1979) شخصية بارزة في حركة الفنّ الطليعي في باريس. وقد خاضت مع زوجها الرسّام روبير ديلوناي مغامرة فنّية تستند الى تباينات الألوان وذوَبان الشكل من خلال الضوء. وأسّس الزوجان معا حركة فنّية ارتبطت بهما حتى بعد وفاتهما، وهي حركة الأورفية (orphism). الشاعر والناقد الفنّي غيوم أبولينير هو الذي اختار هذا المصطلح لوصف نسختهما الفريدة من التكعيبية، متذكّرا الاقتران القديم بين الفنّ والموسيقى الذي جسّده العازف والشاعر الأسطوري أورفيوس.
    وقد واصلت سونيا ديلوناي استكشاف هذه الحركة الفنّية بعد وفاة زوجها، وأصبح اسم الحركة "التزامنية Simultanism"، وهي فرع من الأورفية. وغالبا ما اقترن اسم ديلوناي بأسماء فنّانين مثل بيكاسو وماتيس وكاندنسكي. وقد رسّخت مكانتها كشخصية رائدة أعادت رسم الحدود بين الفنون الجميلة المختلفة.
    وهي لم تشارك زوجها فقط في تأسيس الأورفية، بل كانت أيضا أوّل فنّانة حيّة يقام لها معرض استعادي في متحف اللوفر عام ١٩٦٤. وقد تجاوزت رؤيتها الفنّية حدود اللوحات، حيث دمجت الفنّ في الحياة اليومية من خلال المنسوجات والتصميم الداخلي والأزياء.
    لوحتها "الهالات الكهربائية" (1914) هي أفضل مثال على براعتها في الألوان والأشكال. ويظهر النسيج فيها نابضا بالحياة بفضل خطوطها النشطة والمتقاطعة والدوّارة التي تعطي انطباعا بالحركة. وعنوان اللوحة يلمّح إلى استكشاف الضوء واللون. وقد استلهمت الرسّامة موضوع الصورة من الهالات الملوّنة للمصابيح الكهربائية في أحد شوارع باريس. وتتركّز النقطة المحورية في الصورة على دائرتين متداخلتين كبيرتين صُنعتا بواسطة أقواس أو أشكال منحنية من الألوان الأساسية والثانوية الموضوعة بجوار بعضها البعض.
    ولو أمعنت النظر في اللوحة سترى أضواءً من الألوان المُشعّة التي تتخلّل اللوحة بأكملها، وكشكا طويلا به كتب، بالإضافة الى أجزاء من شخصيات غامضة في النصف السفلي من اللوحة، وقد امتصّتها الألوان الزاهية للضوء الكهربائي.
    يقول النقّاد إن براعة ديلوناي تتمثّل في قدرتها على تصوير هذا المفهوم في صورة تجريدية، ما يضفي على سطح القماش هذا السطوع. وينعكس تأثير عمق اللوحة في مزيج الألوان والأشكال المتباينة، مؤلّفةً ما يبدو وكأنه سيمفونية بصرية.
    كان اللون أحد أبرز العناصر في فنّ ديلوناي، وكان له ارتباط خاص بطفولتها في أوكرانيا، حيث تأثّرت بالفنون الشعبية والتطريز المليء بالألوان. وقد مهّدت موهبتها الاستثنائية وابتكاراتها في مجالي الضوء واللون الطريق أمام أجيال من الفنّانين لاستكشاف الإمكانات اللامحدودة للفنّ التجريدي.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • تتساءل باتريشيا دي مارتيلييه (1957 - 2009): ما الذي يجمع بين العاشق والكاتب والفيلسوف؟ وتجيب: الثلاثة ينتهي بهم المطاف لأن يصبحوا خالي الوفاض تماما: العاشق، لأنه لا مفرّ من رحيل محبوبه مؤقتا أو دائما. والكاتب، لأنه يحاول عبثا التعبير باللغة عمّا لا يُقال. والفيلسوف، لأن عقله لا يمنحه سوى الشك، وبالتالي لا يقين".
    في الثالثة عشرة من عمرها، نشرت دي مارتيلييه روايتها الأولى بعنوان "ملك البرّية". بطل الرواية أسد صغير أُسر في الغابة وأُجبر على مشاهدة أمّه وهي تُسلخ حيّة. ثم يُؤخذ الشبل إلى سيرك، حيث يُدرّب على أداء جميع أنواع الألعاب والحيل. وهناك يمزّقه صراع داخلي، إذ يكتشف مصدوماً أنه أصبح متعلّقا بسيّده البشري، أشرس أنواع الحيوانات على الاطلاق. لكنه في الوقت نفسه يتوق إلى الحريّة.
    يتمكّن الأسد من الهرب من السيرك ويعيش في الغابة لفترة. لكن القصّة لا تنتهي نهاية جيّدة. حيث يؤسر مجدّدا، وفي محنته، يُلقي بنفسه على القضبان حتى يُصاب بجروح بالغة، ثم يقتله أحد الحرّاس رحمةً به. باتريشيا، ذات الثلاثة عشر عاما، تحثّ أسَدها على التأمّل قائلة: لك أن تُقرّر بنفسك ما ستفعله بحياتك. لكن مهما تخيّلت وحاولت، فإن جميع الطرق تؤدّي إلى نفس المصير: الموت".
  • ❉ ❉ ❉

  • اقتباسات...
    ○ اللغة منديل تنظيف منعش ورطب برائحة الليمون. اللغة هي نسمة الله، الندى على تفّاحة طازجة، مطر الغبار الناعم الذي يتساقط في شعاع شمس الصباح عندما تسحب من رفّ كتب قديم مجلّدا منسيّا. اللغة حفلة عيد ميلاد طفولة نصف متذكَّرة، صرير على الدرج، عود ثقاب متقطّع موصول بلوح زجاجي مجمّد، هيكل دبّابة متفحّمة، الجانب السفلي من صخرة غرانيتية، أوّل نموّ ريشي على الشفة العليا لفتاة متوسّطية، خيوط عنكبوت اكتسحها حذاء قديم منذ زمن طويل. ستيفن فراي

    ○ أتذكّر الحكاية القديمة الطريفة عن آينشتاين وهو يدرّس الرياضيات لفتاة صغيرة من جيرانه، لكن هذه المرّة ألقيت نظرة على مراسلات آينشتاين مع الناس العاديين الذين كتبوا إليه يطلبون منه النصيحة ويعبّرون له عن آرائهم، محاولين إظهار تقديرهم له. وقد اعجبت، ليس فقط بصدق ردوده، بل بقدرته على تخصيص بعض وقته للردّ على رسائل الناس، رغم كثرة انشغالاته وانطوائيّته المعروفة وحبّه للعزلة.
    وحقيقة أن الناس من جميع الأطياف، بمن فيهم الأطفال، شعروا بالحاجة إلى التواصل معه رغم استحالة فهمهم لمساهماته في الفيزياء، تشير إلى حاجة إنسانية فيهم. نعم كان آينشتاين شخصية مشهورة في مجتمع مهووس بالشهرة، لكن يبدو أن هناك شيئا ما في طريقة تعامل العامّة معه أعمق بكثير من مجرّد هوس المشاهير المعتاد، ما يوحي بأن آينشتاين استغلّ حاجة أعمق لديهم.
    لقد بلغت مكانة آينشتاين حدّا دفع مجلة "تايم" إلى اختياره وتمجيده كرجل القرن، ليس لأن هيئة تحرير المجلة قادرة على تقديره، بل لأنها اضطرّت إلى ذلك حفاظا على مصداقيتها ولإضفاء بعض الكرامة على حضورها البائس. ومع ذلك، فإن اللغز الكامن في قلب الصورة الرسمية لآينشتاين هو لامبالاته النفسية بالمؤسّسات والهياكل الرسمية للتعلّم والبحث وتأكيده الدائم على السعي وراء الأسئلة الأساسية والحفاظ على الفكر متجدّدا وحيوياً ومستقلاً. رالف دامين

    ○ ما فائدة الأحلام؟ لماذا نقضي شطرا من نومنا في رؤية قصص غريبة لا نتذكّرها إلا بشكل مبهم عندما نستيقظ؟ من أين تأتي هذه القصص، وماذا تعني؟ معظم الإجابات التقليدية تفترض أن الأحلام هي في الواقع قصص، أي أن لها معنى وتُروى لسبب. وأقدم نظريات الأحلام ترى أنها "رسائل من أقارب متوفّين أو من الآلهة". وقد تكون هذه الرسائل بسيطة أو معقّدة أو مباشرة أو غامضة لدرجة تتطلّب مساعدة تفسيرية من عرّاف أو شامان. ولكن في كلّ حالة، تُفهم الأحلام على أنها تواصل، كأن شخصا آخر يخبرنا بشيء ما أثناء نومنا.
    في إطار العلم، أصبح من غير المعقول وجود كيانات كهذه تخاطبنا، لكن نموذج الأحلام كرسائل لم يفقد جاذبيّته. وقد رأى فرويد ويونغ أن الأحلام قد تكون رسائل من أنفسنا، طالما أن هناك جزءا من أنفسنا لا نستطيع الوصول إليه مباشرة. إيليا فارير

  • Credits
    moma.org
    archive.org

    الجمعة، أغسطس 22، 2025

    نصوص مترجمة


  • في وقت مبكّر من عام 1504، عبّر ظهير الدين محمّد بابَر لأوّل مرّة عن رغبته في استكشاف الهند، أو هندوستان كما كانت تُسمّى. وواتته الفرصة لتحقيق ذلك بعد سنوات، عندما سيّر حوالي 12 ألف جندي بسرعة مذهلة إلى شمال الهند، واستدرج السلطان إبراهيم لودي إلى معركة في شمال دلهي وهزم جيش الأخير واستولى بسرعة على دلهي وأغرا.
    يقول بابَر في مذكّراته: في أوّل وصولنا إلى أغرا، كانت هناك كراهية وعداء ملحوظان بين سكّانها وشعبنا، حيث فرّ الفلاحون والجنود خوفا من رجالنا. وقدّم لنا النبلاء، بمن فيهم أحفاد ملوك هندوس سابقين، مجوهرات نفيسة من بينها ماسة كوهينور الشهيرة التي يزيد وزنها عن مائة قيراط".
    لكن تلك المجوهرات البرّاقة لم تُرضِ بابَر. كان همّه الأوّل بناء دولة. كما لم يكن راضيا عن هندوستان نفسها. ويشير إلى ذلك بقوله: هندوستان بلد ينقصها البريق. شعبها يفتقر إلى المظهر الحسن، لا علاقات اجتماعية ولا زيارات، لا عبقرية ولا كفاءة ولا مُثل. في الحرف اليدوية والعمل، لا شكل ولا تناسق، لا منهجية ولا جودة، لا خيول ولا كلاب جيّدة، لا عنب ولا شمّام ولا فواكه فاخرة، لا ثلج ولا ماء باردا، لا خبزا طيّبا ولا طعاما مطبوخا في الأسواق، لا حمّامات ساخنة، لا جامعات، لا شموع ولا مشاعل ولا حوامل شمعدانات".
    كان لدى هندوستان العمالة الرخيصة، والذهب والفضّة، وأنظمة حساب متطوّرة تتضمّن قياسات للوقت والوزن والمسافة. وكانت تلك أيضا المرّة الأولى التي صادف فيها بابَر قبائل مستقرّة وأراضي شاسعة مزروعة بمختلف أنواع المحاصيل. وكان هذا مختلفا تماما عن الحال في موطنه بوادي فرغانة.
    أكبر التحدّيات التي واجهها بابَر لم تأتِ من أهل الهند، بل من أفراد حاشيته نفسها. فقد أتلف طقس الهند الرطب الأسلحة والكتب والملابس والأواني والمنازل. فبعد وصوله بفترة وجيزة، تسبّبت موجة حرّ شديدة في أغرا في موت الكثيرين. ونظرا لهذه الظروف البيئية غير المريحة، أصبح معظم نبلاء وشجعان المغول غير راغبين في البقاء في الهند.
    ودعاهم بابَر لعقد اجتماع معه قال فيه: بدون أراض وتابعين، لا يمكن تحقيق السيادة والقيادة. وبفضل جهود سنوات عديدة ومواجهتنا للمشاقّ والسفر الطويل والزجّ بنفسي وبجيشي في المعارك والمذابح المميتة، هَزمنا بفضل الله هذه الجموع الغفيرة من الأعداء لنستولي على أرضهم الشاسعة. والآن، ما المبرّر الذي يدفعنا إلى التخلّي عن بلدانٍ خاطَرنا من اجلها بحياتنا؟ هل كنتم تريدون منا البقاء في كابول لنكابد معا لعنة الفقر المدقع؟!"
    في عام ١٦٠٥، أصبح الأمير سليم جهانغير حفيد بابَر إمبراطورا على الهند بعد تمرّده على والده، الإمبراطور أكبر. كان جهانغير مهووسا بشكل خاص بالأحجار الثمينة والنادرة، ولم يكن يرضى بأن يمتلك أيّ شخص حجرا له قيمة حقيقية. وكان صائغه في أغرا رجلا يُدعى هيراناند، كان يجلب المجوهرات إلى البلاط، وكان جهانغير يزور منزله بانتظام ليشتري منه. كان الأخير مهتمّا خاصّةً بالأحجار التي يزيد وزنها عن خمسة قراريط. وتشير السجلات إلى أنه لم يكن يدفع سوى ثلث قيمتها السوقية، لكن التجّار كانوا يحصلون على مزايا وامتيازات أخرى مقابل أسعار بضائعهم المخفّضة. سوديف شيت
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • تلعب الأشجار دورا مهمّا في أدب الإغريق والرومان القدماء. فمن أشجار البلّوط القويّة في ملحمتي الإلياذة والإنيادة، إلى حوريّات الرماد في قصيدة هسيود، وإلى الظلّ الهادئ لشجرة الزان في أشعار فيرجيل وهوراس، تبدو الأشجار وكأنها تحمل الخبرة الشعرية والمعلومات الثقافية المهمّة.
    في ملحمتي هوميروس، تمارس الأشجار دورا حيويّا في فهم المشهد الشعري المتخيّل. ومن بين الأشجار التي تحتلّ مراتب متقدّمة في إعجاب هوميروس، تحظى الصنوبر والزيتون باحترام كبير. فمثلا بُنيَ سرير زفاف أوديسيوس من شجرة زيتون حيّة تقف كعلامة فريدة ومستقرّة لموضوع الإخلاص في القصيدة ككل. وفي وصف كهف كاليبسو في الأوديسّا، تنمو أشجار الآلدر والحور والسرو العطر بوفرة حول مدخل الكهف وتوفّر مسكنا آمنا لعدد كبير من الطيور.
    وفي المشهد الخيالي للملحمتين، كثيرا ما ترتبط الأشجار بالجبال، ما يعكس الحقائق الجغرافية لعالم هوميروس. إذ يشار إلى القمم بأنها "ترتجف بأوراق الشجر". ويقارن هوميروس بين ضجيج المعركة والدمار الذي تجلبه وبين عاصفة الرياح في البرّية على منحدرات الجبال المُشجرة.
    وكما تتعارك الرياح الشرقية مع الرياح الجنوبية في وديان الجبال لزعزعة أخشاب الغابات العميقة كالبلّوط والرماد والكورنيل، فإن هذه الأشجار تضرب بفروعها بعضها البعض بضجيج صاخب ومشوّش.
    وفي شعر هسيود، تظهر صور لأشجار متساقطة كالبلّوط والتنّوب، بفعل اندفاع وعنف الرياح الشمالية التي تجوب الريف في منتصف الشتاء. بل إن الغابة المورقة بأكملها تئنّ في وجه هجوم الرياح. وتستخدم الشاعرة سافو أيضا صور الرياح والأشجار لوصف إحساس شخصي: لقد هزّ الحبّ عقلي مثل الريح التي تضرب أشجار البلّوط على الجبل".
    ويواصل شاعر العصر الفضّي ستاتيوس هذا التقليد، حيث يذكر ما لا يقلّ عن اثني عشر نوعا من الأشجار. وهنا تلعب المفاهيم الثقافية الإضافية دورا مهمّا. فمثلا يُطلق على شجر الرماد المستخدم في صنع الرماح اسم "الشجر المقدّر له أن يشرب دماء الحرب الكريهة"، ويطلق على شجر البلّوط القويّ اسم "المنيع"، ويطلق على شجر التنّوب الصالح للإبحار اسم "المغامر"، ويطلق على شجر الدردار الداعم اسم "المضياف لكروم العنب" لأن ظلّه الخفيف كان مثاليّا لنموّ العنب ونضجه على جذعه وأغصانه.
    وفي حكاية "بيراموس وتيسبي" عن الحبّ المحبَط، يروي اوفيد كيف تحوّل التوت من الأبيض إلى الأحمر، وكيف اختلط الدم من الجروح التي أحدثها العاشقان بنفسيهما وتناثر على جذور الشجرة، ما جعل الفاكهة التي كانت بيضاء ذات يوم تتحوّل، وإلى الأبد، الى قرمزية.
    كما يروي قصّة السهل المرتفع الخالي من الأشجار الذي حوّله الموسيقيّ أورفيوس إلى بستان أخضر، ويسرد ترنيمة شعرية عذبة لأشجار كالبلّوط والحور والغار والبندق والرماد والتنّوب والدلب وغيرها. ثم يسرد الشاعر قصّة حورية الغابة بومونا، المُحبّة للحدائق والبساتين، والتي اشتُقّ اسمها من الكلمة اللاتينيةpomum ، التي تعني فاكهة أو تفّاحة.
    وفي أشعار فيرجيل، ترمز شجرة الدلب للخطاب الفلسفي والرومانسية، بينما ترتبط شجرة البلّوط القويّة بالدين والحرب. وهكذا فإن الأشجار تشكّل روابط حيّة مع الماضي الكلاسيكي. جوزف ماكمهون
  • ❉ ❉ ❉

  • في مارس عام ١٨٧٧، غادر يوليسيس غرانت الرئاسة بسمعة ملطّخة. كان الأمر صعبا على رجل خرج من أنقاض الحرب الأهلية الأمريكية متمتّعا بمكانة وشهرة لا تشوبهما شائبة، سواءً للصديق أو العدو. إلا أن عقدا من الفساد والرشوة وانتقالا غير مسبوق للثروات، ترك وصمة عار على إرث بطل الحرب الذي أصبح رئيسا. كان غرانت رجلا طيّبا، وكان من بين أكثر الرجال أخلاقا وصدقا الذين خدموا هذا المنصب على الإطلاق. لكنه كان يعاني من إعاقة بسبب فضائله.
    كان بسيطا في السلم والحرب، وكانت كلمته عهده. كان لطيفا مع الضعفاء، رحيما بالمهزومين، واثقا بقدرته على الغفران. وقد غرست فيه والدته المتديّنة منذ صغره إيمانا راسخا بإمكانية خلاص الفرد. ونتيجة لذلك، تجلّت رحمته بلا حدود. قال ذات مرّة بفخر: لقد جعلت من ثقتي بالإنسان قاعدة في حياتي بعد أن يتخلّى عنه الآخرون".
    لكن تلك الرأفة غالبا ما تجاوزت حدود الحكمة. ففي مستنقع واشنطن القاسي، جعلت هذه الثقة غرانت يبدو شخصا ساذجا أكثر منه رجل دولة ماكرا. ونتيجة لذلك، امتلأت إدارته بعدد لا يُحصى من المسؤولين الأنانيين غير الأخلاقيين وغير المؤهّلين، الذين مارسوا الفساد دون رادع.
    كان غرانت، البالغ من العمر آنذاك 57 عاما، قد ضحّى برفاهه المالي من أجل الخدمة. وفي تلك الأيّام، كانت هناك قاعدة تُلزم العسكريين بالتنازل عن معاشاتهم التقاعدية إذا سعوا إلى الترشّح لمناصب عامّة. لذا عندما غادر غرانت البيت الأبيض، لم يكن معه من المال ما يكفي لعيش حياة معقولة.
    واتضح أن عليه البحث عن طريقة لكسب دخل. وفي تلك الأيّام، لم تكن هناك صفقات مع نتفليكس، ولا مقاعد مربحة في مجالس إدارة الشركات، ولا حتى أتعاب باهظة لإلقاء المحاضرات، كما هو الحال اليوم. وممّا زاد الأمور سوءا أن غرانت نفسه كان لديه سجل حافل بالمشاريع الفاشلة، ما أظهر بوضوح عدم فهمه لمفهوم المال والأعمال.
    ومع ذلك قرّر ان يستثمر كلّ ما كان يملكه، أي حوالي 100 ألف دولار، في صندوق يديره ابنه وخبير مالي. لكن سرعان ما انهارت شركته وأصبح الرئيس السابق على شفا الإفلاس. وبعد فترة وجيزة، تلقّى غرانت خبرا مروّعا عن إصابته بسرطان الحنجرة وأبلغه الأطبّاء بأنه لم يتبقَّ له من الحياة سوى عام واحد.
    وبمساعدة الكاتب مارك توين، تمكّن من الحصول على صفقة لنشر سيرته الذاتية. ولأشهر، جلس غرانت المنهك، منحنيا على كرسي ومرتديا قبّعة صوفية بسيطة ووشاحا، يكتب مذكّراته. كان يكتب ليل نهار رغم الألم المبرح والمتكرّر. ويتذكّر أحد مساعديه أن شرب الماء البسيط بالنسبة له كان أشبه ما يكون بشرب الرصاص المنصهر.
    كان توين يراقب بدهشة غرانت المريض وهو يُخرج روايته صفحة تلو أخرى. وكان على يقين بأن قوّة روحه ستُبقي جسده متماسكا حتى يُنجز المهمّة. وكان مقتنعا بأن ذلك الهدف الأسمى هو الذي أطال عمره وأبقاه على قيد الحياة. وقد ثبتت صحّة توقّعه، فقد توفّي غرانت بعد أيّام قليلة من إكماله المخطوطة النهائية. ديريك بوست

  • Credits
    dokumen.pub
    h-net.org

    الاثنين، أغسطس 18، 2025

    نصوص مترجمة


  • تقول أسطورة إن الشاعر العظيم لي باي لقي حتفه غرقا في سنّ الثانية والستّين، بينما كان يحاول وهو ثمل لمسَ انعكاس القمر في نهر اليانغتسي. لي هونغ بين، المحاسب السابق ذو الوجه الحزين، يعرف حقائق كثيرة عن لي باي، ويعتقد أنه هو نفسه مستنسَخ حيّ وحقيقيّ من الشاعر المشهور.
    يقول وهو ينحني في كشك تذكاري مهجور رمّمه ككوخ ناسك في مركز لي باي الثقافي، في تشينغليان، مسقط رأس الشاعر الكبير في مقاطعة سيتشوان غرب الصين: أنا واثق من ذلك. بعد 1300 عام، أنا الشاعر الوحيد الذي يعيش في مسقط رأس لي باي ولا يزال يكتب الشعر. بل إنني أوقع أعمالي باسم لي باي".
    بعض الدول، مثل جورجيا، محظوظة ببناء تماثيل لشعرائها أكثر من الملوك أو المحاربين. وفي قيرغيزيا، يقضي الشعراء المتدرّبون سنوات في حفظ قصيدة واحدة من ملحمة ماناس الوطنية المكوّنة من نصف مليون سطر. ومع ذلك، لم أجد الشعر منغمسا في الحياة العامّة أكثر ممّا هو في الصين. إذ تُعدّ الولادات والزيجات والوفيات مناسبات للعائلات لتأليف الشعر. ويتعلّم الأطفال القوافي القديمة في مناهجهم الدراسية الأساسية. وتزيِّن أبوابَ منازل المدن والقرى أبيات شعرية منقوشة على ورق أحمر لجلب الفأل والحظ السعيد.
    ماو تسي تونغ نفسه قيل إنه خاض غمار كتابة الشعر ذات مرّة. ومع ذلك، يُعدّ وجود شاعر حقيقي متفرّغ لكتابة الشعر اكتشافا نادرا في أيّ مكان.
    ولد لي باي في القرن الثامن الميلادي في آسيا الوسطى ونشأ في سيتشوان الحالية. وقد عاصرَ تمرّدا وحربا أهلية وفقداناً للأمن في امبراطورية تانغ. ثم طُرد الشاعر من البلاط الإمبراطوري لتجرّؤه على خلع حذائه المتّسخ أمام الملك. وفيما بعد أُلقي القبض عليه بتهمة الخيانة، وحُكم على هذا الرجل البدائي بالمنفى، وإن كان أُعيد لاحقا الى وطنه.
    للوصول إلى تشينغليان، سافرت شمالا من مدينة تشانغدو العملاقة، مرورا بقرى دُمّرت وأُعيد بناؤها منذ زلزال عام ٢٠٠٨ المروّع. عبرتُ أنهارا خضراء دافئة على جسور المشاة. كان ذلك في نهاية الصيف. كانت الأيّام جليدية، وكان المزارعون قد نشروا محصولهم من الذرة ليجفّ على جوانب الطرق.
    كانت تلك هي الصين التي تخيّلت فيها لي باي البدائي مرتاحا، وليست "صين" الصورة النمطية العالمية لأرضيات المصانع الآلية. أما الشاعر لي هونغ بين فقد رأيت فيه فنّانا كسر الصور النمطية البالية للطائفية الشرقية والتمرّد الفردي الغربي. بول سالوبيك
  • ❉ ❉ ❉

  • نظرا لحجم خطره، ينبغي أن يكون الذكاء الاصطناعي موضع اهتمام كلّ البشر. صحيح أن الجميع لا يمكن أن يصبحوا خبراء في الذكاء الاصطناعي، لكن يجب أن نتذكّر كلّنا أنه أوّل تقنية في التاريخ قادرة على اتخاذ القرارات وابتكار أفكار جديدة بنفسها. فيمكن له مثلا توليد أفكار جديدة بشكل مستقلّ، وفي مجالات تبدأ بالموسيقى ولا تنتهي بالطبّ.
    الغراموفون عزفَ موسيقانا والمايكروسكوب كشفَ أسرار خلايانا. لكن الغراموفون لم يستطع تأليف سيمفونيات جديدة، ولم يستطع المايكروسكوب تصنيع أدوية جديدة. الذكاء الاصطناعي قادر بالفعل على إنتاج الفن وتحقيق اكتشافات علمية بمفرده.
    وفي العقود القليلة القادمة، من المرجّح أن يكتسب القدرة على خلق أشكال حياة جديدة، إما بكتابة شيفرة جينية أو باختراع شيفرة غير عضوية. الذكاء الاصطناعي قد يغيّر مسار تاريخ جنسنا البشري، بل مسار تطوّر جميع أشكال الحياة. يوفال هاراري
  • ❉ ❉ ❉


  • شاهدت مؤخّرا فيلم "إلى البرّية" بعد أن سمعت عنه منذ سنوات. الفيلم مقتبس من رواية لكاتب يُدعى جون كراكوير، وتدور أحداثه حول شابّ إسمه "كريس" يتخلّى عن حياته العصرية وعن كلّ شيء، ويذهب للعيش في البرّية. وعندما انتهيت من مشاهدة الفيلم، لم أصنّفه ذهنيّا بين الجيّد أو السيّئ. ولم أفكّر فيما إذا كنت سأوصي به، أو فيما سأقوله عنه إذا سألني أحد.
    كان قرار بطل الفيلم بالاختفاء لفترة وترْك كلّ التوقّعات والراحة أشدّ وقعا عليّ مما توقّعت. ليس لأنني فعلت شيئا كهذا من قبل، بل لأنني أعرف الشعور الذي يحرّكه. فقد ساورني نفس هذا الشعور وأنا أخرج من مكتبي كلّ يوم في الساعة الخامسة مساء. وشعرت به في صباحات الأحد عندما تكون المدينة ما تزال نصف نائمة. وشعرت به وأنا أحجز رحلة "هروب" لعطلة نهاية الأسبوع، ثم أقضي معظم الوقت مستلقيا على سرير في الفندق أتصفّح هاتفي الجوّال!
    كان كريس يمضي أيّامه في جمع التوت البرّي وصيد السناجب والأرانب. كما يخصّص وقتا لقراءة مؤلّفيه المفضّلين والأكثر تأثيرا: جاك لندن وليو تولستوي وهنري ديفيد ثورو وسواهم. وداخل أعمال هؤلاء الكتّاب كان يجد شخصيّته الحقيقية. يقول نقلا عن ثورو: ذهبت إلى الغابة لأني أردت أن أعيش حياة مدروسة، وأن أتجنّب كلّ ما ليس حياة، فلا أكتشف عندما أموت أنني لم أعِش".
    بحلول الوقت الذي وصل فيه كريس إلى ألاسكا وحيدا في حافلة مهجورة في أعماق البرّية، كان شيء ما قد تغيّر. في البداية، كانت الوحدة جميلة وهادئة، بل رومانسية. كان يعيش الحلم الذي سعى إليه لسنوات. لكنْ شيئا فشيئا، أصبح ذلك الصمت مختلفا. وما كان يوما حرّية بدأ يتحوّل إلى وحدة. وهذا ما جعلني أتساءل: ماذا لو تبيّن أن ما كنتَ تسعى إليه لا تريده حقّا؟ ماذا لو وصلتَ إليه ولم يكن العلاج الذي توقّعته؟!
    الفيلم لا يعطيك إجابة، بل يترك هذا السؤال عالقاً في ذهنك، ينتظر أن تلاحظه. وهو يذكّرك بهذه الأشياء الصغيرة على طول الطريق: ليس من الخطأ ألا تعرف بالضبط ما تريده وأن ترغب في الاختفاء في بعض الأحيان. لكن كن حذرا، أحيانا الشيء الذي تبحث عنه ليس هو الشيء الذي تحتاجه.
    أثناء الفيلم، يلتقي الشابّ في طريقه ببعض الأشخاص: زوجان في منتصف العمر يفتحان له قلبيهما دون أحكام مسبقة، مزارع لا يراه مجرّد متجوّل، بل شخصا ذكيّا وكفؤا ويستحقّ السعادة، ورجل مسنّ يعيش وحيدا بعد أن فقد زوجته قبل عقود، فيعرض عليه أن يتبنّاه.
    وهؤلاء يذكّرونك بأن المعنى ليس "في الخارج" فقط، أي في البرّية البكر، بل هو في الناس أيضا. ربّما كان كريس يسعى نحو شيء نقيّ، لكنه في الطريق ظلّ يكتشف أن التواصل الإنساني ليس بالسمّ الذي كان يظنّه. أحيانا كان هو الدواء الذي يحتاجه.
    تلك المشاهد في الفيلم جعلتني أفكّر في حياتي، في الصداقات التي تلاشت لانشغالنا، والأحاديث العائلية التي تقلّصت إلى رسائل نصّية سريعة. في الماضي، كنّا أنا وعمّي نتحدّث لساعات خلال زيارات العطلات عن الموسيقى والسياسة وغيرهما. الآن نتبادل رسائل صوتية قصيرة لا تتجاوز الدقيقتين بضع مرّات في السنة.
    وبعض المَشاهد الأخرى في الفيلم فتحت لي آفاقا من الذكريات القديمة عن أمسيات هادئة بعد المطر وأنا مستلقٍ على سريري أستمع إلى أيّ أغنية يتصادف أن الراديو يبثّها. كان نوعا من الهدوء الذي اخترته، لا النوع الذي فُرض عليّ. ذكّرني وقت كريس في الحافلة وهو يدوّن يومياته بينما يتراكم الثلج في الخارج، بذلك الشعور؛ ذلك الهدوء الاختياري.
    الكثيرون ممّن شاهدوا فيلم "إلى البرّية" شعروا برغبة في فعل ما فعله كريس، أي التخلّي عن كلّ شيء، ثم السفر والهروب. أما أنا فكان الأمر عكس ذلك تماما. لقد دفعني هذا الفيلم إلى الاهتمام أكثر بالحياة التي أعيشها، بالأشياء الصغيرة: محادثة دافئة مع أمّي على الهاتف، طبق طعام سريع التحضير في منتصف الليل، العثور على مقعد في القطار خلال ساعة الذروة.
    كان كريس في الماضي مستاءً من المجتمع ومن محيطه، لكنه آمنَ لاحقا بأن "بهجة الحياة تحيط بنا من كلّ جانب، وكلّ ما نحتاجه هو تغيير نظرتنا للأمور". وفي النهاية أصبح مدفوعا بفكرة أن السعادة لا تتحقّق إلا بالمشاركة، فقرّر العودة إلى منزله لأنه لم يجد من يشاركه إيّاها في البرّية.
    وقصّة كريس تذكّرنا بأن التخلّص من مشاكل الحياة لا يحلّها هروب المرء من نفسه. فالهروب لا يمحو ما تحمله في داخلك، بل قد يزيده صخبا. وأعتقد أن سبب تعلّقي بالفيلم هو ما تركه وراءه بعد انتهائه: لحظة هدوء، وتذكير بأنه لا بأس أحيانا من ألا نمتلك جميع الإجابات. نيد فيرن

  • Credits
    Tldrmoviereviews.com
    learn.outofedenwalk.com

    الثلاثاء، أغسطس 12، 2025

    نصوص مترجمة


    ○ كان الجيش رمزا للألمان. لكنه كان أكثر من مجرّد جيش، كان غابة متحرّكة. لا يوجد بلد حديث آخر في العالم ظلّ فيه الشعور بالغابة حيّا كما في ألمانيا. صلابة الأشجار المنتصبة وتوازيها وكثافتها وعددها تملأ قلب الألماني بمتعة عميقة وغامضة. وحتى اليوم، لا نزال نبحث عن الغابة التي عاش فيها أسلافنا ونشعر بالاتحاد مع الأشجار.
    في عام ١٩٣٦، ظهرت الغابة الألمانية في فيلم دعائي اسمه "الغابة الأبدية"، وهو ترنيمة سينمائية كئيبة بالأبيض والأسود تنشِد للغابات الألمانية، مع تعليق صوتي يناسبها يقول: إن موت الغابة وتحوّلها منسوج عبر التاريخ. الشعب مثل الغابة، قائم في الأبدية. نأتي من الغابة ونعيش مثل الغابة. من الغابة نصنع الوطن والمكان". كلمات مثل الوطن والشعب مثقلة بالأيديولوجيا ومن الأفضل تجنّبها اليوم. المكان، الغابة. من الصعب العثور على كلمات بالألمانية لتحلّ محلّهما. وكظاهرتين، هما مستمرّتان ولا يمكن الاستغناء عنهما. هانا انغلماير

    ❉ ❉ ❉

    ○ أحيانا يأتي الحبّ فجأة كانفجار هائل وبرق ساطع، كإعصار سماويّ يهبّ على الحياة ويغيّرها ويقتلع الإرادة كورقة شجر ويجرف القلب كلّه إلى الهاوية. الأشياء الجميلة والبسيطة هي الحقيقية، والحفاظ عليها وتقديرها هو ما يمنحك الشجاعة للتمسّك بالحياة.
    هذه هي بالتحديد رسالة رواية "مدام بوڤاري" لغوستاڤ فلوبير التي يحتاج قراءتها الذين يمرّون بمصاعب في حياتهم ويرومون عزاءً وتغييرا الى الأفضل. فلوبير يعلّمنا درسا بسيطا جدّا وثمينا للغاية، لكننا غالبا ما ننساه، وهو أن ننظر إلى الجانب المشرق من الحياة وأن لا متعة أعظم ممّا نملك. ليام ستيوارت

    ❉ ❉ ❉

    ○ لطالما اهتممتُ بالعلاقة بين البشر والحيوانات. وأرى أن الحيوانات الأليفة أكثر من مجرّد رفقاء للإنسان، فهي تلعب دورا محوريّا في تعزيز صحّتنا النفسية. من حبّ الكلب غير المشروط للإنسان، إلى وجود القطّة المهدّئ، تمتلك الحيوانات الأليفة طريقة فريدة لتخفيف التوتّر والقلق والشعور بالوحدة. ومن تجربتي مع الكلاب التي كنتُ قريبة منها، وجدت أنها تُظهر حبّا غير مشروط بطريقة يعجز عنها البشر.
    وقد تجاوز عمق الحبّ الذي لمسته من رفاقي الحيوانات أيّ شيء شعرتُ به في علاقتي بالبشر. وثبت أن الكلاب تخفّف من قلق الانسان وتمنحه شعورا بالرضا. كما يساعد وجود كلب على خفض مستويات الكورتيزول المرتبطة بالتوتّر والقلق. وقد يُفسّر هذا سبب تبنّي الكثير من الناس للكلاب خلال فترة الجائحة. وعندما كنت أعاني من مرض خطير، وجدتُ راحة كبيرة في رفيقي "كلب الراعي" الألماني. كان وجوده علاجا بحدّ ذاته. ميشيل سليتر

    ❉ ❉ ❉



    ❉ ❉ ❉

    ○ من بين مئات الرسائل التي كتبها العالم الفيلسوف أبو يوسف يعقوب الكندي، هناك رسالة شيّقة في الأخلاق بعنوان "دفع الأحزان"، يمكن وصفها بأنها نوع من العزاء الفلسفي. وتتكوّن من نصائح عملية وحكَم وأمثال وحكايات تساعد على نبذ الحزن ومضاعفة السعادة.
    وهناك مقطع لافت في تلك الرسالة، يقول لنا فيه الكندي: تخيّلوا أننا في رحلة بحرية الى احدى الجزر على متن قارب ممتلئ إلى أقصى حدّ بالركّاب وأمتعتهم. يرسو القارب مؤقّتا وننزل منه لنستمتع بوقت فراغ في استكشاف الجزيرة. وعلى الجزيرة، قد نسبح مع الأسماك ونشتري بعض الأشياء ونتمشّى على الشاطئ ونستكشف أنواعا جديدة من النباتات والحيوانات ونصادق السكّان الأصليين ونقطف الثمار من الأشجار، أو حتى ننصب أرجوحة للاسترخاء.
    وبعد قليل، سيدعونا القبطان للعودة إلى القارب لمواصلة رحلتنا. قد يشعر بعضنا بالحزن لترك ممتلكاتنا الجديدة التي تعبنا في جمعها. وقد نحاول إقناع أنفسنا بأننا نستطيع بطريقة ما إيجاد طريقة لوضعها على متن القارب. وقد يعاني آخرون من فقدان صداقاتهم الجديدة. وندرك ونحن نعود إلى القارب أن كلا المطلبين مستحيل. حياتنا على الأرض تشبه التوقّف في هذه الجزيرة.
    وما يريد الكندي أن نستنتجه من هذه القصّة هو أننا قريبا سنُدعى للعودة إلى قاربنا لمواصلة رحلتنا الكونية إلى الحياة الأخرى، وأن ندرك أن الحزن أو الأسى هو نتيجة التعلّق بأشياء لن تبقى معنا. يُقال إن إبكتيتوس كان قد أسدى نصيحة مقلقة ذات مرّة، وهي أنه عند تقبيل طفل، يجب على المرء أن يذكّر نفسه بأن الطفل قد يموت غدا. هذا الشعور الرواقي يتردّد صداه في الفكرة القرآنية القائلة بأن "كلّ شيء هالك إلا وجهه".
    كان الكندي مدركا لهذا الأمر بالتأكيد. وهو يرى أن الخسارة حتمية، لكن الحزن ليس كذلك؛ إنه خيار يعتمد على كيفية استجابتنا للمواقف التي تضعها الحياة في طريقنا. وعلينا أن نقرّر أنواع التعلّقات التي نبنيها وأن ننمّي العادات الصحيحة التي ستحمينا من الوقوع في دوّامة الحزن كلّما فقدنا شخصا أو شيئا. تور محمود

    ❉ ❉ ❉

    ○ عندما يبدأ يوم جديد، تجرّأ على الابتسام بامتنان. وعندما يحلّ الظلام، حاول أن تكون أوّل من يضيء النور. وعندما يشيع الظلم، تجرّأ على أن تكون أوّل من يدينه. وعندما تبدو الحياة وكأنها تهزمك، لا تتوقّف عن المقاومة. وعندما يبدو أنه لا يوجد أمل، حاول إيجاد بعضه. وعندما تشعر بالتعب، ثابر على الاستمرار. وعندما تكون الأوقات صعبة، كن أنت أقوى.
    وعندما يتألّم شخص ما، ساعده على الشفاء. وعندما يتوه شخص، ساعده في العثور على الطريق. وعندما يسقط صديق، كن أنت أوّل من يمدّ إليه يده. وعندما تتقاطع طرقك مع شخص آخر، حاول أن تجعله يبتسم. وعندما تشعر بالرضا، ساعد شخصا آخر على الشعور بالرضا أيضا. وفي جميع الأوقات، حاول أن تكون أفضل ما يمكنك! ستيف مارابولي

    ❉ ❉ ❉

    ○ هناك لمحة من السحرة والساحرات والشامانات وحتى الفودو في عالم الرسّام بيتر رودولفو. لوحاته عبارة عن أدغال خلابة وشواطئ كاريبية مشمسة وأكشاك طعام ومناظر طبيعية خضراء وجبال صخرية ومناظر بحرية متنوّعة وماء في كلّ مكان، في البحيرات والجداول والنوافير والأنهار، يتلألأ ويتدفّق ويتدفّق.
    رودولفو ينحدر من أصول مختلطة، دانماركية وإنغليزية وترينيدادية وألمانية. ولد في واشنطن وقضى معظم طفولته في أستراليا والهند قبل أن تستقر عائلته في إنغلترا. أُرسل إلى مدرسة داخلية سرعان ما كرهها وحلم بسرقة قارب والهروب إلى الهند. التحق بدورة فنون جميلة في مدرسة نورويتش للفنون.
    تكثر في أعماله تفاصيل من شوارع بائسة ومهمَلة. وهي ليست أعمالا سردية بالمعنى الحرفي، بل تحمل طابعا أدبيا قويّا يشبه حزنَ مقدّمة إليوت: والآن يلفّ مطر عاصف بقايا أوراق ذابلة قذرة حول قدميك وصحف من الأرض اليباب على الستائر المكسورة وأواني المداخن".
    تحمل هذه اللوحات وحدة إدوارد هوبر، أشخاص يلفتون الانتباه بغيابهم، لكنه يضيف إليها دائما لمسة سحرية: كلب يتكاسل في الميزاب بينما يراقبه طائر أسود؛ أسلاك تلغراف معلّقةٌ كعامود فوق زقاق خلفي، ومدخّن وحيد يتّكئ على صناديق القمامة.
    وهناك حضور منتشر للطيور والحيوانات. أرواح متقاربة، القطط لها ملمح آلهة مصرية، الكلاب حرّاس حُماة، ديك يصيح خارج كوخ بدائي، ببغاوان سمينان مرحان في حديقة حيوانات يعلوها سقف مموّج، سرب من طيور النورس يصطفّ على جزء من رصيف مع سماء تشبه أجنحة الملائكة، أزهار صفراء متدلّية تزيّن سياجا قديما، جنبا إلى جنب مع سلّة مهملات. ويغمر كلّ شيء بريق ساطع. جويس دنبار

    ❉ ❉ ❉

    ○ إن سماع شخص مثقّف اليوم يمزح بلهفة متباهية بأنه جاهل تماما بالعلم، أمر محبط كسماع عالم يتفاخر بأنه لم يقرأ قصيدة قَط. الشعر والعلم كلاهما تجلّيات للروح التي تبدع طرقا جديدة للتفكير في العالم، بهدف فهمه بشكل أفضل. العلم العظيم والشعر العظيم كلاهما رؤيوي، وقد يصلان أحيانا إلى نفس الرؤى. إن ثقافة اليوم التي تُبقي العلم والشعر متباعدين هي في جوهرها ثقافة حمقاء، لأنها تقلّل من قدرتنا على رؤية تعقيد العالم وجماله كما يكشفه كلّ منهما .كارلو روڤيللي

    Credits
    rodulfo.org

    الجمعة، أغسطس 08، 2025

    رحلات باشو

    "تسافر الشهور والأيّام عبر الأبدية. وكالرحّالة، تأتي السنوات وتمضي".

    كان الشاعر الياباني ماتسو باشو (1694-1644) يشعر أحيانا بالملل من الحياة، فيقوم برحلات طويلة مشياً على الأقدام أو على ظهور الخيل بحثاً عن الإلهام، متأمّلا الطبيعة والمواقع الأثرية المشهورة. كان التجوال بالنسبة له نوعا من التطهير الروحي. ومن المرجّح أنه كان يرغب في خوض تجارب نفسية وروحية أثناء رحلاته في أنحاء البلاد كحاجّ.
    وباشو يُعتبر بإجماع كافّة النقّاد ومؤرّخي الأدب تقريبا أهمّ شاعر ياباني في جميع العصور، وإليه تُنسب أشهر قصيدة هايكو على الإطلاق والتي يقول فيها:
    "بركة قديمة
    ضفدع يقفز
    رذاذ الماء".
    وقد عُرف عن باشو تأثّره الكبير بالشعراء الصينيين الكلاسيكيين، كشاعرَي سلالة تانغ الشهيرين "لي باي" و "دو فو" اللذين كان معجبا بهما كثيرا. وكان الشعر الصيني الكلاسيكي يحمل مُثلا عُليا يُتوقّع من الشعراء أن يلتزموا بها، كالحاجة إلى فقدان الثقة بالنفس، وعدم تقبّل ما يُنظر إليه كابتذال اجتماعي، واستعداد الشاعر لمغادرة المجتمع كلّما رأى ذلك ضروريا، والتجوال بحثا عن التواصل مع معلّمي الشعر والتأمّل. ومن الواضح أن هذه المُثل كانت الدافع وراء رحلات باشو العديدة سيرا على الأقدام في أنحاء اليابان.
    "لا تتبع آثار الأوّلين
    إبحث عمّا
    بحثوا عنه".
    كان باشو بوذيّا، لكنه كان أيضا شنتويّا وكونفوشيّا وطاويّا في نفس الوقت. تعلّقه الشديد بهذا العالم جعله يتجنّب دخول الأديرة، إلا في زيارات قصيرة للتأمّل. وكان يؤمن بالجميع، ويعامل الدين باحترام بالغ. ومع ذلك، كان لديه من الشكوك ما يكفي تجاه الدين، لذا فضّل الاحتفاظ بآرائه الخاصّة. كان في الأساس شاعرا منجذبا إلى مُثل الشعراء الكلاسيكيين، لكنه كان يستمتع أيضا بحياة الرحّالة.
    "لا أحد يسافر
    على هذا الطريق إلا أنا
    هذا المساء الخريفي"
    وفي رحلاته المتعدّدة، كان باشو يرتدي زيّ الراهب، لأنه أراد أن يسافر ككاهن متجوّل، ولأن زيّه كان يحميه من اللصوص، إذ كان الكهنة معروفين بعدم حملهم أيّ ممتلكات ثمينة. ومن خلال مذكّراته عن رحلاته، خلق الشاعر عالما مثاليّا من الرهبان المتجوّلين. وكثيرا ما كان يشاد به كنموذج للشاعر المتديّن/المتجوّل. ويمكن اليوم العثور على أحجار كبيرة منقوشة بقصائده على طول الطرق التي سلكها في تجواله.
    "مرضت أثناء الرحلة
    وما زلت أتجوّل في البرّية
    في أحلامي".
    كانت رحلات الشاعر طويلة قادته إلى اثنتي عشرة مقاطعة تقع بين إيدو وكيوتو. من إيدو، اتّجه غربا على طريق رئيسي يمتدّ على طول ساحل المحيط الهادئ. مرّ بسفح جبل فوجي وعبَر عدّة أنهار كبيرة وزار أضرحة الشنتو الكبرى، ثم وصل إلى مسقط رأسه، أوينو، والتقى بأقاربه وأصدقائه.
    في كثير من الأحيان، كانت صور رياح الخريف وصراخ القردة تُستخدم بوفرة في الشعر الصيني لخلق شعور بالحزن. وبينما يواصل باشو سرد رحلته، يستشهد بالشاعر الصيني "دو مو" من القرن التاسع قائلا: كان القمر يُرى بالكاد، وكان الظلام ما يزال يخيّم على سفح الجبل. ركبوا خيولهم قبل صياح الديوك، والسياط لا تزال معلّقة على ظهورهم. عندما وصلتُ إلى جبل شياويون، تشتّتت أفكاري فجأة. ثم تذكّرتُ قصيدة دو مو "الرحيل المبكّر" التي يقول فيها:
    أتركُ السوط معلّقا، وأنا أثق في مشية الحصان. لم يعد ممكنا سماع صوت الديوك على مسافة أميال. مشينا بين الأشجار، وكنت لا أزال أحلم، وفي منتصف الحلم تساقطت عليّ الأوراق فجأة".
    ثم يصف باشو بدقّة كيفية سفره وعلاقته بالعالم الديني:
    ليس لديّ سيف في حزامي، بل حقيبة متسوّل حول عنقي، وفي يدي مسبحةٌ بها 18 خرزة. رأسي حليق ووجهي أشبه بوجه الراهب، لكني علماني. لست راهبا، لكن من يحلقون رؤوسهم يعامَلون كبوذيين ولا يُسمح لهم بدخول الأضرحة".
    كانت رحلاته مجزية. التقى باشو في الطريق بالعديد من الأصدقاء القدامى والجدد. وألّف عددا من قصائد الهايكو والرينكو عن تجاربه خلال رحلاته، بما في ذلك تلك التي جُمعت في ديوان "شمس الشتاء". كما كتب أوّل يوميات سفر له: "سجلّات هيكل عظمي معرّض للعوامل الجوّية" و"الطريق الضيّق إلى أعماق الشمال". وخلال كلّ تلك التجارب، كان باشو يتغيّر تدريجيا. في جزء من اليوميات، يظهر الهايكو التالي الذي كتبه في نهاية العام:
    "مضى عام آخر
    قبّعة سفر على رأسي
    وصنادل من القشّ على قدمي".
    في تلك الرحلة، زار باشو مسقط رأسه حيث يعيش أخوه وأخته. وهناك أراه أخوه ضفائر من شعر والدته التي توفّيت قبل ذلك بعام. وكتب باشو يقول: عدنا إلى مسقط رأسنا في سبتمبر. كان العشب مغطّى بالثلج، ولم يعد لقبر أمّي من أثر. كلّ شيء قد تغيّر. لم يستطع أخي، بشعره الأبيض وبالتجاعيد على جبينه، إلا أن يشير إلى أننا ما زلنا على قيد الحياة. ثم فتح حقيبة التذكارات وقال: إكراما لشعر أمّي الأبيض، دعونا نبكي"!
    واصل باشو ومرافق له رحلتهما، فوصلا إلى مكان يصطاد فيه الصيّادون سمك السلمون. وركبا قاربا وعبرا النهر إلى كاشيما، حيث كان معلّم باشو يعمل رئيسا لكهنة أحد المعابد. ودُعيا لقضاء الليل هناك. وهطلت الأمطار طوال الليل. لكن في الفجر، صفَت السماء قليلا، فأيقظ باشو الجميع. بالنسبة له، كان ضوء القمر المصحوب بصوت المطر تجربة روحية. لكنه شعر بخيبة أمل لأنه لم يستطع رؤية البدر. ظلّت السحب المتحرّكة تحجب المشهد، وبدا كما لو أن القمر نفسه يتحرّك بسرعة:
    "القمر يتحرّك سريعا
    بين قمم الأشجار
    وأنا أُمسكُ بالمطر"
    في عام ١٦٨٧، نشر باشو كتابا بعنوان "ملاحظات على حقيبة سفر". وهذه الفقرة منه تلخّص فلسفته جيّدا ويتحدّث فيها عن نفسه:
    بين مئات العظام وفتحات الجسم البشري التسع، هناك "راهب نزِق". إنه رقيق جدّا لدرجة أنه يمكن أن يَتلف بسهولة. لطالما أحبَّ الشعر الجامح، وهو الرذيلةٌ التي أصبحت هاجسه طوال حياته. أحيانا كان يملؤه اليأس ويحاول تجاهل كتبه المقدّسة. وأحيانا كان يشعر بفخر لبلوغه قمما سامية. كان دائما متردّدا ومفرطا في الحماس. وفي مرحلة ما، حاول تهدئة نفسه باحتمال أن يحقّق نجاحا دنيويا، لكن الشعر وضع حدّا لطموحاته".
    ويضيف: في النهاية، أدركُ أن المخرج الوحيد هو الاستمرار في الشعر. "من لا يجد في قلبه متّسعا لتفتّح الزهور! يمكن للبشر أن يصبحوا جزءا من الطبيعة. كان ذلك في بداية الشهر حين غاب القمر. كانت السماء غير مستقرّة، وكنت كورقة شجر تتقاذفها الرياح، لا أعرف إلى أين أذهب":
    "إنسان بلا مأوى
    شخص ما قد يدعوني
    أوّل مطر في الشتاء"


    عاد ماتسو باشو إلى إيدو في شتاء عام ١٦٩١. رحّب به أصدقاؤه وتلاميذه هناك، وبعضهم لم يروه لأكثر من عامين. وتضافرت جهودهم لبناء كوخ لمعلّمهم الذي تخلّى عن كوخه القديم قبيل رحلته الأخيرة. لكن في هذا الكوخ الأخير، لم يستطع باشو أن ينعم بالحياة الهادئة التي كان يرغب بها. فمن جهة، أصبح عليه الآن أن يعتني ببعض الناس. فقد جاء ابن أخ له مريض ليعيش معه. واعتنى به باشو حتى وفاته بعد ذلك بعامين.
    ثم زارته امرأة كان يعرفها في شبابه، وقد تكفّل برعايتها هي أيضا. كانت هي الأخرى في حالة صحّية سيّئة، ولديها العديد من الأطفال الصغار. وبعيدا عن هذه الانشغالات، كان باشو مشغولا للغاية، بسبب شهرته الكبيرة كشاعر. وأراد الكثيرون زيارته، أو دعوته للزيارة. في رسالة يُفترض أنها كُتبت في الشهر الثاني عشر من عام ١٦٩٣، أخبر صديقا أن يؤخّر زيارته له الى وقت آخر. وفي رسالة أخرى كُتبت في نفس الوقت تقريبا، قال بصراحة: أزعجك الآخرون، فلا تهدأ".
    وفي ذلك العام، ألّف هذا الهايكو:
    "سنة بعد سنة
    على وجه القرد
    قناع قرد".
    وتحمل هذه القصيدة مسحة مرارة غير مألوفة عند باشو. فقد كان غير راضٍ عن التقدّم الذي حقّقه. ومع تزايد مسؤولياته، أصبح تدريجيّا ينزع نحو العدمية. كان قد أصبح شاعرا متجاوزا لانشغالاته الدنيوية، لكنه الآن وجد نفسه منغمسا في شؤون الحياة بسبب شهرته الشعرية. كان الحلّ إما أن يتخلّى عن كونه شاعرا أو أن يتوقّف عن رؤية الناس تماما.
    جربّ باشو الخيار الأوّل، لكن دون جدوى. قال: حاولت التخلّي عن الشعر، والصمت. لكن في كلّ مرّة أفعل ذلك، كان شعري يتسلّل إلى قلبي فيومض شيء ما في ذهني. هذا هو سحر الشعر". لقد أصبح شاعرا أكثر من اللازم. لذا اضطرّ إلى الخيار الثاني: أن يتوقّف عن رؤية الناس تماما. وهذا ما فعله في خريف عام ١٦٩٣. "كلّما زارني الناس، ينتابني شعور مزعج بفقدان حياتي الخاصّة. الآن لا أجد ما هو أفضل من الاقتداء بـ "صن تشينغ" و"تو لانغ" اللذين انعزلا وراء أبواب مغلقة. سيصبح انعدام الصداقة صديقي والفقر ثروتي. وكرجل عنيد في الخمسين، أكتبُ لأؤدّب نفسي".
    في ذلك الوقت كتب هذه القصيدة:
    "زهرة الصباح
    في النهار
    يثبَّت مسمار
    على بوّابة الفناء الأمامي".
    من الواضح أن باشو كان يتمنّى أن يعجَب بجمال زهرة الصباح دون الحاجة إلى تثبيت مزلاج على بوّابته. ولا بدّ أن كيفية تحقيق ذلك كانت موضوع ساعات طويلة من التأمّل داخل منزله المغلق. وقد حلّ المشكلة بما يرضيه وأعاد فتح البوّابة بعد حوالي شهر من إغلاقها.
    واستند حلّ باشو هذا إلى مبدأ "الخِفّة"، الذي يمكّن الإنسان الذي انفصل عن أشغال الدنيا من العودة إلى العالم. "يعيش الإنسان وسط الوحل كمتفرّج روحي. لا ينجو من مظالم الحياة، يقف وحيدا، ويبتسم لها فحسب". وبدأ باشو الكتابة على هذا المبدأ ونصح طلّابه بتقليده.
    بعد فترة، مرض الشاعر وتساءل مجدّدا عن احتمال وفاته بعيدا عن وطنه. لكنه تعافى وواصل رحلته لرؤية جزيرة ماتسوشيما الشهيرة، والتي تُعتبر إحدى عجائب اليابان الثلاث الكبيرة. ثم توجّه إلى هيرايزومي ليشاهد آثارا تعود إلى عصر هييان. وفي موقع ساحة معركة قديمة سقط فيها قتلى، نظم باشو قصيدة قال فيها:
    "برّية من عشب الصيف
    تُخفي كل ما تبقّى
    من أحلام المحاربين".
    بعد أن استعاد باشو توازنه النفسي، بدأ يفكّر في رحلة أخرى. ربّما كان حريصا على نقل مبدأه الشعري الجديد، "الخفّة"، إلى الشعراء خارج إيدو أيضا. وهكذا، في صيف عام ١٦٩٤، سافر غربا على طول ساحل المحيط الهادئ. استراح في أوينو لفترة، ثم زار طلابه في كيوتو وفي مدينة قرب الساحل الجنوبي لبحيرة بيوا.
    عاد باشو إلى أوينو في أوائل الخريف ليستريح لشهر تقريبا. ثم غادر إلى أوساكا مع بعض الأصدقاء والأقارب، بمن فيهم ابن أخيه الأكبر. لكن صحّته كانت تتدهور بسرعة، على الرغم من أنه استمرّ في كتابة بعض القصائد الرائعة:
    "على غصن عارٍ
    يستقرّ غراب
    في شفق الخريف".
    كانت رحلة باشو تقترب من نهايتها، لكنه وصل أوّلا إلى معبد إيهيجي الشهير، حيث أراد التأمّل قبل التوجّه إلى قلعة هيغوتشي وسماع أولى صيحات إوزّ الخريف. كان القمر ساطعا جدّا في تلك الليلة، وعندما وصل إلى نُزل وسأل صاحبه إن كانت الليلة التالية ستكون بنفس السطوع، أجابه بأن ذلك مستحيل، وقدّم له بعضا من مشروب الساكي. وأراد باشو اغتنام هذه الفرصة لزيارة قبر الإمبراطور "حيث يتسلّل ضوء القمر من بين أشجار الصنوبر وتمتدّ الرمال البيضاء كالثلج أمام الحرم".
    ومن بين قصائد الهايكو التي كتبها في تلك الفترة:
    "سأموت قريبا
    وسيختفي المشهد
    بينما تستمرّ الحشرات في هسيسها".
    تشير القصيدة إلى إحساس باشو بدنوّ أجله. وبعد ذلك بوقت قصير، اضطجع على فراشه بسبب المرض. وسارع العديد من أتباعه إلى أوساكا وتجمّعوا حول سريره. ويبدو أنه حافظ على هدوئه في أيّامه الأخيرة. كان يعلم تماما أن الوقت قد حان للصلاة، لا لكتابة الشعر. ومع ذلك كان يفكّر في الشعر ليل نهار. أصبح الآن هاجسا، "تعلّقا آثما"، كما كان يسمّيه هو نفسه.
    توفّي باشو في سنّ مبكّرة نسبيّا، عن عمر ناهز الخمسين. وكان من الممكن أن يعيش أطول لو اعتنى بنفسه بشكل أفضل. وكانت قصيدته الأخيرة:
    "أصبت بالمرض أثناء رحلتي
    ولا تزال أحلامي تتجوّل
    لكن في حقول ذابلة".

    Credits
    matsuobashohaiku.home.blog