:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات دين. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات دين. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، مارس 20، 2019

الوعي باللحظة الراهنة

ثمّة حكمة بوذية عمرها أكثر من مائتي عام تشرح بوضوح أهمّية النظر إلى السماء بانتظام. فطبقا للحكاية الشعبية، كان المعلّم والشاعر اليابانيّ ريوكان تايغو الذي عاش ما بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ناسكا سعيدا.
وقد تلقّى هذا الناسك دروسا في دير لعشر سنوات، ثم رفض الدين التقليديّ وقرّر أن يعيش حياة بسيطة قضاها في التأمّل وكتابة الشعر.
ومن وقت لآخر، كان يحتسي شرابا شعبيّا مع الفلاحين في الريف ويتقاسم طعامه المتقشّف مع الطيور والحيوانات في البرّية.
وفي الحقيقة لم يكن لدى ذلك الناسك ما يغري الآخرين بالسرقة. لكن في إحدى الليالي أتى إلى كوخه الجبليّ المنعزل لصّ كان يمنّي نفسه بالعثور على كنز.
لكن اللصّ لم يجد شيئا ذا قيمة، فشعر بالإحباط، الأمر الذي أحزنَ الناسك أيضا. ويقال أن الناسك تناول ملابسه وفراشه ودفع بها إلى اللصّ قائلا: لقد أتيتَ من مسافة بعيدة وتجشّمت عناء الطريق لكي تراني. وأرجوك أن تقبل منّي هذه الهديّة".
وأخذ اللصّ المذهول ملابس الناسك ومضى في سبيله. ثم تذكر القصّة أن الناسك أمضى بقيّة تلك الليلة عاريا، يحدّق في السماء ويتأمّل القمر الذي كان يلمع مثل جوهرة لا يمكن لأحد أن يسرقها على الرغم من أن الجميع يستمتعون بمرآها.
وكان المعلّم ريوكان ما يزال حزينا لأنه لم يستطع أن يعطي اللصّ أكثر الكنوز قيمةً. وكتب في مفكّرته قصيدة هايكو أصبحت الآن مشهورة ويشرح فيها تلك التجربة بقوله: اللصّ تركه خلفه، القمر عند حافّة النافذة".
هذه القصّة يرويها معلّمو البوذية ليذكّروا تلاميذهم أن معظم الناس مرتبطون بأشياء غير مهمّة في واقع الأمر. وكان ريوكان سيشارك اللصّ كنزه الأعظم لو أن الزائر الغريب رأى ذلك الكنز.
القمر في البوذية يرمز للتنوير. وكلّ منّا يمكن أن يصبح إنسانا منيرا وساطعا كقمر مكتمل في ليلة صافية. لكن أفضل ما في طبيعتنا تحجبه الغيوم، على حدّ تعبير الأستاذ الأكاديميّ كينيث كلارك.
فالارتباط والتعلّق بالأشياء وتشتيت الانتباه تمنعنا من إدراك أن لدينا ما نحتاجه بالفعل. وبحسب فلاسفة الزِّن فإن الوجود بحدّ ذاته كافٍ وليس هناك حاجة لأن نتطلّع إلى السلطة أو المال أو التجارب المثيرة التي لا تسبّب للإنسان سوى المعاناة. لكن بمقدورنا دائما أن نُمسك بالكنز الحقيقيّ؛ بالقمر المنير المخبّأ خلف غيوم ذواتنا، على حدّ تعبير كرافت.
ويشرح ذلك بقوله: هناك صورة صغيرة ودائرية للهلال رسمها بالحبر البسيط المعلّم والرسّام اليابانيّ من القرن التاسع عشر ناتنبو، ليبرهن على الإمكانيات اللامحدودة التي توفّرها الأشكال المألوفة وأشياء الحياة اليومية، سواءً كانت قمرا في السماء أو آنية في مطبخك.
كان ناتنبو رسّاما غزير الإنتاج. وقد تعلّم استخدام الرسم كوسيلة للتعبير عن المعاني التي تعجز عنها الكلمات. ورسم معظم لوحاته بعد أن تجاوز السبعين من عمره ووظّف فيها احد أعمق الرموز في البوذية، أي الدائرة. فهي فارغة لكنّها مكتملة تماما، ولانهائية لأنها تبدو بلا بداية ولا نهاية، مثل الكون.
إننا عندما نتواصل مع الكون الكلّيّ ومع الأشياء البسيطة من حولنا فإننا نصبح أغنياء. وامتلاك هذه الثروة متاح للجميع، حتى للناسك الفقير الذي يعيش في الجبال. وهذا هو السبب في آن ناتنبو تقش على لوحته بيتا من الشعر يقول فيه: إذا أردت القمر فهو هنا، تعال وأمسك به".
هناك كلمة تتردّد دائما على ألسنة المعلّمين الروحانيين وخبراء تطوير الذات وهي (Mindfulness)، وتعني الوعي باللحظة الراهنة. أي البحث عن المتع البسيطة في الحاضر.
فبدلا من أن نشغل أنفسنا بتأمين راتب اكبر أو منزل أوسع أو سيارة أفضل لكي نطمئنّ على المستقبل، يتعيّن علينا أن نتوقّف عن ذلك اللهاث قليلا كي نشمّ عبير زهرة أو نمارس رياضة مفيدة أو نزور صديقا لم نرَه منذ زمن أو نأخذ إجازة قصيرة أو نراقب نزول قطرات المطر على ارض جافّة أو نستمع إلى زقزقة العصافير في الصباح الباكر.
ومثل هذه الأشياء على بساطتها ومألوفيّتها يمكن أن تجلب للإنسان سعادة عظيمة. والكثيرون منا يضيّعون هذه المتع الصغيرة أثناء بحثهم عن سعادة اكبر قد تكون متوهّمة ويتعذّر بلوغها، كما تقول الكاتبة الأمريكية بيرل بك مؤلّفة رواية "الأرض الطيّبة".
إن الحياة عبارة عن سلسلة من اللحظات، والسعادة هي احتفال بالحياة وبكوننا أحياءً. وعندما تشعر بالامتنان لكلّ شيء منحك الله إيّاه فستبتعد عنك الأفكار السلبية كالغضب والإحباط والكراهية والقلق والخوف وما إلى ذلك.
ذات مرّة سُئل شيخ صوفيّ: ما الذي يجعل قلبك راضيا قنوعا؟ فقال: في كلّ صباح ارفع يديّ إلى الله لأقول له شكرا لك يا ربّي على كلّ شيء، فأنا لا اشتكي من شيء ولا انتظر شيئا".
إننا لن نجد الحياة إلا في اللحظة الراهنة. فأمس أصبح تاريخا والغد في علم الغيب واليوم منحة أو هديّة، وهذا هو السبب في أن اليوم يُسمّى الحاضر أو (The Present) في الانجليزية. وما لم نعش في الحاضر فإن الحياة ستفوتنا.

Credits
qz.com

السبت، ديسمبر 16، 2017

صانع المطر


الصورة فوق هي إحدى الصور المألوفة والمنتشرة بكثرة في مواقع الانترنت. وهي في الوقت نفسه إحدى أكثر الأيقونات انتشارا واحتفاءً في ثقافة سكّان أمريكا الأصليين، أي الهنود الحمر.
اسم هذا الشخص الصغير الظاهر في الصورة هو كوكوبيللي. كوكو تعني الخشب وبيللي تعني ذا الظهر المنحني. لكنه أصبح يُعرف عموما بعازف الناي الأحدب.
وعمر الرجل يقارب الثلاثة آلاف عام، أي انه عاش حتى اليوم أكثر من مائة جيل. وقد وُجدت تصاويره الأولى منقوشة على الصخور في مناطق الجنوب الغربيّ الأمريكيّ، الذي يضمّ نيومكسيكو ويوتاه وأريزونا وكولورادو.
وأصل الكوكوبيللي ما يزال غامضا. لكن العديد من أساطير البيبلو والزوني والاناسازي وغيرهم من قبائل الهنود الحمر تزعم انه كان مخلوقا مقدّسا اُرسل من السماء وأن مهمّته كانت تحريض الناس على الحبّ والتعاطف.
ويقال أيضا انه كان إلها للخصوبة، ليس للبشر فقط وإنّما أيضا للنباتات والمحاصيل الزراعية التي يحتاجها سكّان أمريكا الأصليون في حياتهم ومعاشهم.
وقد اعتبروا وجوده نعمة، إذ بدونه لا تحلّ بركة ولا توجد حياة. لكنه في مراحل تالية أصبح ملهما للشعر والموسيقى والحرّية والإبداع. ومن مهامّه الأساسية تحريض فنّاني القبائل الهندية على خلق موسيقى عظيمة.
وهناك الكثير من الأساطير التي تُروى عنه. وإحداها تقول انه يسافر من قرية لأخرى فيحوّل الشتاء إلى ربيع ويذيب الثلج ويجلب المطر الذي تحتاجه الأرض والمخلوقات. أما لماذا يبدو ظهره محنيّا، فلأنه ينوء تحت ثقل أكياس البذور وكلمات الأغاني التي يحملها.



وهو يعزف الناي أثناء هبوب نسائم الربيع، فيجلب الدفء والحبور لساكني التلال. وعندما يسمع الناس عزفه فإنهم يباشرون الغناء والرقص طوال الليل. ولا يحلّ الصباح التالي إلا وقد ضمنت كلّ امرأة في القبيلة انه سيولد لها طفل.
الهنود الحمر شعب روحانيّ بامتياز. وقد نقلوا تاريخهم وأفكارهم وأحلامهم من جيل إلى جيل من خلال مثل هذه الرموز والعلامات.
والرمزية الخالدة والجذّابة للكوكوبيللي تتمثّل في افتتان الناس به حتى في عصر التكنولوجيا الحديثة. فصوره شائعة وحضوره واسع، ما يجعله شخصية مثيرة، لدرجة أن الإنسان الحديث لا يمكن أن يقاوم تقليد هذا الإنسان الضئيل والاحتفاظ بنسخ من صوره في البيوت والمكاتب.
الكوكوبيللي شخص غريب ووحيد. وهو دائم التحديق في الماضي، أي منذ اللحظة التي رسمه فيها فنّان مجهول على إحدى الصخور.
كما انه شخص كاريزماتيّ من حيث انه اُعيد ابتكاره مرّات كثيرة على أيدي الحكواتيين والفنّانين والحرفيين لآلاف السنين.
وصوره اليوم منقوشة على ألف صخرة، من مناطق الشرق إلى البحر الغربيّ العظيم، ومن بلاد الشمس الساخنة إلى سهول الأنهار الجليدية في أقاصي الشمال.
وطبيعة الكوكوبيللي التلقائية وأفعاله الخيّرة وروحه المتوثّبة هي بعض الأسباب التي حفظت له مكانة بارزة في أساطير الهنود الحمر حتى اليوم.

Credits
patheos.com

الأحد، ديسمبر 10، 2017

العنصرية في الفلسفة

هناك رأي شائع يقول إن الفلسفة الغربية ضيّقة الأفق وتفتقر إلى الخيال وكارهة للأجانب وخائفة منهم. وإلا كيف نفسّر تجاهل كافّة أقسام الفلسفة تقريبا في أمريكا وأوربّا للتقاليد الفلسفية الثريّة للصين والهند؟!
وهذه الظاهرة ليست وليدة اليوم، بل تعود إلى قرون. كان معروفا عن "ايمانويل كانت"، مثلا، احتقاره لكونفوشيوس. وقد كتب ذات مرّة يقول: لا وجود للفلسفة في سائر بلاد الشرق. وكونفوشيوس لا يعلّم في كتاباته أيّ شيء خارج العقيدة الأخلاقية المصمّمة أساسا لأمراء الصين منذ القدم. لكن أيّ مفهوم عن الفضيلة والأخلاق لم يدخل عقول الصينيين أبدا".
و"كانت" الذي يُعتبر احد أربعة فلاسفة هم الأكثر نفوذا في الفكر الغربيّ ليس الوحيد الذي يعتبر أن الصينيين والهنود، والشرقيين عموما، عاجزون عن الفلسفة. بل حتى الفلاسفة الغربيون المعاصرون يرون انه لا توجد فلسفة صينية أو هندية ويعتبرون أن هذا من الأمور المسلّم بها.
ويقال أحيانا، في معرض الدفاع عن وجهة النظر هذه، أن الفلسفة كلمة ذات أصل إغريقيّ، أي أنها تشير حصرا إلى التراث الذي تركه مفكّرو اليونان القديمة. لكن إذا كان منشأ العلم يحدّد نوع الثقافة التي "تمتلكه"، فإن المنطق يقتضي القول انه لا "جبر" في أوربّا لأن الأوربّيين اخذوا ذلك العلم عن العرب.
ذات مرّة، ذهب الفيلسوف الفرنسيّ جاك دريدا إلى الصين لحضور مناسبة ثقافية. وقد أدهش مضيفيه الصينيين عندما قال إن الصين تخلو من أيّ فلسفة وأن الموجود هو "فكر" فقط. ثم أضاف: الفلسفة ترتبط بتاريخ خاصّ وبلغة محدّدة وببعض ابتكارات الإغريق، أي أن الفلسفة لا توجد إلا في أووربّا".
تعليقات دريدا التي تنفي وجود فلسفة صينية تشبه حديث بعض الغربيين عن فكرة الهمجيّ النبيل، أي الشخص الذي لم يتلوّث بالتأثيرات الغربية المفسدة. لكن، ولذلك السبب بالذات، فإنه ممنوع من المشاركة في ثقافة أعلى منه وأكثر تفوّقا من ثقافته.
ومع أن الكثير من الفلاسفة الانغلوساكسون ينفون وجود فلسفة خارج أمريكا وأوربّا، إلا أن البعض منهم يسلّمون بوجود "فلسفة ما" في الهند والصين، لكنهم يفترضون أنها ليست بمثل جودة ورقيّ الفلسفة الأوربّية.
وهم يصفون أفكار كونفوشيوس بأنها مجرّد حكم وأقوال مأثورة غامضة. ويضيفون أن كلّ شيء شرقيّ هو انفعاليّ وطفوليّ وغير عقلانيّ، بينما كلّ ما هو غربيّ هو نقيض لهذه الصفات.
ويبدو أن الفلسفة الغربية كانت في الماضي أكثر انفتاحا وتسامحا ممّا هي عليه اليوم. فأوّل ترجمة لأقوال كونفوشيوس إلى اللغات الأوربّية وضعها مبشّرون يسوعيّون كانوا قد درسوا تراث أرسطو كجزء من عملهم.
وطبقا للفيلسوف الألمانيّ كريستيان وولف، فإن كونفوشيوس اثبت انه من الممكن أن يوجد نظام أخلاقيّ غير مستند إلى رسالة سماوية أو ديانة طبيعية، وأن الأخلاق يمكن أن تكون منفصلة تماما عن مسألة الإيمان بإله.
وعندما صادق وولف على كلام كونفوشيوس هذا، تصدّى له المحافظون المسيحيون، فحرّضوا عليه العوامّ، وفي النهاية فُصل من وظيفته قبل أن يُطرد من بلده بروسيا. لكن ذلك الرأي أهّله في ما بعد لأن يكون احد أبطال عصر التنوير الأوربّيّ.
بيتر بارك، الذي ألّف كتابا عن العنصرية في الفلسفة، قال إن معظم المؤرّخين في القرن الثامن عشر كانوا يتبنّون فكرة تقول إن الفلسفة بدأت أوّل الأمر في الهند وأن الهنود هم من منحوها للإغريق. لكن هذا الحال تغيّر عندما استُبعدت آسيا وإفريقيا من قانون الفلسفة على أيدي أنصار "ايمانويل كانت" الذين أعادوا كتابة تاريخ الفلسفة كي يجعلوا مثاليّته النقدية تبدو وكأنها ذروة ما توصّل إليه العلم.
كما أن المثقّفين الأوربّيين تقبّلوا فكرة تفوّق العِرق الأبيض وبأنه لا يوجد عِرق آخر يمكن أن يُبَلوِر فلسفة. كان استبعاد الشرق قرارا وليس نتيجة اقتناع. و"كانت" نفسه كان شخصا عنصريّا عندما تعامل مع العِرق كموضوع علميّ وربطه بالقدرة على التفكير المجرّد، وكذلك عندما نظّر عن مصير الأعراق ورتّبها بشكل تفاضليّ.
كان "كانت" يرى أن لدى البيض جميع المواهب والدوافع الفطرية. أما الهنود فلديهم قدر كبير من الهدوء، وهم يبدون كالفلاسفة لكنّهم ميّالون إلى الغضب والعاطفة. كما أن تعليمهم جيّد، لكنْ في الفنون وليس في العلوم. ولهذا السبب لم ينجحوا في وضع مفاهيم مجرّدة.
أما الصينيون، برأي "كانت"، فـ "قَوم جامدون" لأن كتب تاريخهم تُظهِر أنهم لا يعرفون الآن أكثر ممّا كانوا يعرفونه في الماضي.
أما الأفارقة، والكلام ما يزال لـ "كانت"، فلديهم الشغف والحيوية، لكنهم ثرثارون. ويمكن تعليمهم، لكن فقط كما يُعلَّم الخدَم.
أما الهنود الحمر برأيه فإنهم لا يقبلون التعليم لأنهم يفتقرون للتأثير والشغف. وهم ليسوا عاطفيين ولا يتوفّرون على مخيّلة خصبة، كما أنهم كسالى ويتكلّمون بصعوبة ولا يهتمّون بشيء".

Credits
aeon.co

السبت، أكتوبر 14، 2017

الروميّ بعيون أمريكية


  • سلام على أولئك الذين رأوا جدار روحك يوشك أن ينقضّ، فأقاموه ولم يفكّروا في أن يتّخذوا عليه أجرا.
    - الروميّ

    أصبح محمّد بن جلال الدين البلخيّ، المعروف بالروميّ، الشاعر الأكثر انتشارا والأفضل مبيعا في الولايات المتحدة اعتبارا من عقد التسعينات.
    والأقوال المنسوبة إليه تتردّد يوميّا على شبكات التواصل الاجتماعيّ بوصفها أفكارا محفّزة وإضاءات على طريق الرحلة الروحية..
  • إستمع إلى صوت الناي كيف يبثّ آلام الحنين. يقول مذ قُطعتُ من الغاب وأنا احنّ إلى أصلي.
  • لا تجزع من جرحك، وإلا فكيف للنور أن يتسلّل إلى باطنك.
  • وضع الله أمامنا سلّما علينا أن نصعده درجة درجة. لديك قدمان فلمَ التظاهر بالعرج؟!
  • بالأمس كنت ذكيّا فأردت أن أغيّر العالم. واليوم أنا حكيم ولذلك سأغيّر نفسي.
  • قد تجد الحبّ في كلّ الأديان. لكنّ الحبّ نفسه لا دين له.
  • ما تبحث عنه يبحث عنك.
  • دع الماء يسكن، وسترى نجوما وقمرا ينعكس في كيانك.
  • مهمتّك ليست البحث عن الحبّ، بل البحث بداخلك عن تلك الجدران والحواجز التي تبقيه بعيدا عن روحك.
  • هذه الحياة اقصر من شهقة وزفيرها، فلا تغرس بها سوى بذور المحبّة.
  • لكَمْ تمنّيت أن أشدو حرّا مثل هذه الطيور، غير مبالٍ بكيفية تلقّي الناس لما أقول ولا بأيّ نغم أصوغه.
  • أينما كان النور فأنا الشغوف، وأينما كانت الزهرة فأنا الفراشة، وأينما كان الجمال فأنا العاشق، وأينما كانت الحكمة فهي ضالّتي.
  • ❉ ❉ ❉

    إن كنت قرأت الرومي في الولايات المتّحدة بترجمة انجليزية، فأغلب الظنّ أن ما قرأته كان بترجمة كولمان باركس. وباركس شاعر وأستاذ جامعيّ من تينيسّي، كما انه يزاول التدريس في جامعة جورجيا.
    والواقع أن معظم مترجمي الأعمال الأدبية، والشعرية خاصّة، لم يحظوا بشهرة عالمية. لكن باركس لمع نجمه في العديد من المناسبات والمنتديات الأدبية، وقام برحلة إلى أفغانستان حيث ولد الروميّ، وإلى إيران التي عاش فيها شطرا من حياته. وقد مُنح باركس درجة دكتوراة فخرية من جامعة طهران تقديرا له على الثلاثين عاما التي قضاها في الاشتغال على ترجمة أشعار الروميّ.
    الجاذبية الكبيرة للروميّ في الولايات المتحدة يمكن أن تُعزى إلى ترجمات باركس بالذات. وقد بيع أكثر من نصف مليون نسخة من كتبه، بينما من النادر أن يباع أكثر من عشرة آلاف نسخة من أيّ كتاب للشعر سواءً كان أصليّا أو مترجما.
    بدأ كولمان باركس ترجمته للروميّ عام 1976، عندما سلّمه معلّمه الشاعر والمترجم روبرت بلاي نسخة من ترجمة للروميّ أعدّها أ. اربري قائلا له: هذه القصائد بحاجة إلى من يحرّرها من أقفاصها". وكان يقصد أن تلك الأشعار المترجمة ذات صبغة أكاديمية جافّة، وهي بحاجة إلى من يعيد تكييفها بحيث تصبح مفهومة كي تروق للذوق الشعبيّ العام.


    قبل ذلك لم يكن باركس قد سمع باسم الروميّ، أي أن قصّته مع الشاعر بدأت خلال لقاء بالصدفة. ويقول انه عندما بدأ ترجمته للروميّ رأى في الحلم معلّما صوفيّا اخبره بأن يستمرّ في عمله.
    وبعد سنتين على بدء عمله قُدّم إلى المعلّم الذي كان قد رآه في الحلم. ولم يكن ذلك المعلّم سوى باوا محيي الدين، وهو صوفيّ سريلانكي يعيش ويدرّس في فيلادلفيا. وينسب باركس فهمه للصوفية وعشقه لشعر الروميّ لهذا الرجل، حيث كان يزوره أربع أو خمس مرّات في العام إلى حين وفاة محيي الدين في عام 1986.
    والبعض يشبّه علاقة باركس بمحيي الدين بعلاقة الروميّ وشمس التبريزي التي كانت علاقة غامضة بين أستاذ وطالب أو بين عاشق ومعشوق أو بين عارف ومُريد.
    والمعروف أن الروميّ لم يبدأ حياته كمتصوّف، وإنّما كشاعر. وهو يوصف عادةً كداعية وعالم مسلم، تماما كما كان والده وجدّه. لكن في سنّ السابعة والثلاثين، قابل شمس الذي ربطته به علاقة صداقة متينة لثلاث سنوات.
    وبعد وفاة شمس التبريزي، مقتولا على الأرجح، بدأ الروميّ كتابة الشعر. ومعظم شعره الذي بين أيدينا اليوم نظمه ما بين سنّ السابعة والثلاثين والسابعة والستّين. وقد كتب معظم قصائده إلى الرسول الكريم وإلى شمس نفسه. وديوانه "المثنوي" ما يزال يُتلى ويُغنّى ويُستخدم كمصدر للإلهام في الروايات والأشعار والأفلام والموسيقى.
    يقول باركس إن ترجماته لأشعار الروميّ تجتذب الجمهور الحديث لأنها تقرّبهم من روح الرومي. غير أن منتقديه يتساءلون: هل هي روح الروميّ فعلا أم روح باركس التي ترى في أشعار الروميّ نوعا من الروحانية الحديثة؟
    وبنظر هؤلاء، فإن باركس اغرق السوق بـ "روميّ" مختلف أصبح يرمز إلى شخص لا يلتزم بأيّ تراث خاصّ ويبحث عن الحبّ قبل بحثه عن الإيمان. وهذه السّمة مألوفة كثيرا في الأدب الأمريكيّ خاصّة.
    ويبدو أن ترجماته المعدّلة لأشعار الرومي صُنعت كي تناسب أذواق الجمهور الواسع والباحث عن حلول روحية سريعة. والنتيجة، كما يقول منتقدوه، ظهور شاعر من العصر الجديد متخفّف من إسلام القرن الثالث عشر ومن أفكار وصور العصر الذهبيّ للشعر الفارسيّ الكلاسيكيّ.
    غير أن ما يترجمه، برأي البعض، ليس الروميّ. وهو لا "يفبرك" الترجمات كما هو شأن العديد من المترجمين الشعبيين الذين يستلهمون أعمال شعراء فارس الكلاسيكيين كالخيّام وحافظ. فترجمات باركس يمكن تصنيفها على أنها ترجمات ثانوية، أي أنها إعادة تصوير لترجمات أوّلية عن النصوص الأصلية.
    ولهذا السبب، يقول باركس أن ترجمته للروميّ اقلّ أكاديميةً وأكثر عاطفية. وهو بهذا، كما يقول منتقدوه، يحرّر نفسه من قيود النصّ الأصليّ، بينما يسمح لنفسه بالاستفادة مادّيّا من اسم الروميّ.
    لي شميت مؤلّف كتاب "أرواح حائرة" الذي يناقش فيه الروحانية في أمريكا يضع باركس في سياق سرديّ يتضمّن البروتستانتية وشعراء التسامي الأمريكيين أمثال ويتمان وثورو وإيمرسون.
    وشميت يعلّل شعبية ترجمات باركس للروميّ بالقول أنها تتماهى مع أفكار أيّ شاعر من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أكثر من كونها تعبيرا حقيقيا عن أفكار الروميّ الأصلية.
    ترجمات باركس تقدّم حلولا للجوع الروحيّ في أمريكا، لأنها تجرّد شعر الروميّ من تعقيداته. لكن هذا لم يكن بلا ثمن. فأحد النقّاد كتب مؤخّرا يقول إن ترجمات باركس كانت مشوّهة، إذ انه أزال المفردات الغريبة من النصّ الأصليّ وحوّل مولانا، أي الروميّ، إلى شخص آخر مختلف.
    وقيل أيضا أن باركس فعل مثل الكثير من الشعراء الذين تعمّدوا تبسيط ترجماتهم كي يفهمها الناس العاديّون، بدلا من أن يبحثوا عن جوهر شعريّ عالميّ. والنتيجة انه قلّص النَفَس الشعريّ المميّز للروميّ بتحويل شعره إلى معالجات روحية مألوفة ومتفائلة وجاهزة.
    لكن بصرف النظر عما يقال، فإنه بفضل باركس أصبح الروميّ الشاعر المفضّل والأكثر شعبية عند الأمريكيين. وفي وسائل الإعلام يعتبره الكثيرون الرجل الذي قدّم الروميّ إلى الغرب.

    Credits
    colemanbarks.com
    openculture.com

    الأحد، مايو 07، 2017

    إطلالة على جحيم دانتي


    في الكوميديا الإلهية، تتحوّل بعض شخصيات الأساطير الكلاسيكية إلى أبالسة وشياطين. وهذا كان أمرا مألوفا في الثقافة المسيحية في القرون الوسطى.
    ودانتي في كتابه يتصرّف كقاضٍ أعظم. ومثل ماينوس القاضي المتوحّش الواقف على بوّابة الجحيم، يقرّر دانتي مَن يذهب إلى هناك، وإلى أيّ دائرة من دوائر الجحيم التسع يجب أن ينتهي كلّ عاصٍ أو مذنب.
    ماينوس الأصليّ شخصيّة نصفها تاريخيّ ونصفها الآخر أسطوريّ. والمؤرّخون متّفقون على انه كان ملكا عادلا على جزيرة كريت. ولهذا السبب أصبح بعد موته احد قضاة العالم السفليّ.
    لكن طبقا للأساطير الكلاسيكية، كان ماينوس ابنا لزيوس ويوصف بأنه طاغية وقاسٍ. وقيل انه انتقم لموت ولده بإجبار الأثينيين على أن يقدّموا سبعة أولاد وسبع فتيات من أبنائهم كقرابين.
    وبعض كتب التاريخ تصفه بأنه كان كاهنا ومشرّعا حكيما. وكان هوميروس قد وضعه كقاضٍ للأرواح في هيديز. وربّما لهذا السبب استلهم دانتي شخصية ماينوس ووضعه حارسا وحكما على بوّابة الجحيم.
    ودانتي يعطيه مظهر وحش له ذيل أفعى ضخمة. وقد رسم ميكيل انجيلو صورة بليغة له تجسّد الفظائع التي وصفها دانتي في رحلته.
    على أطراف الجحيم توجد منطقة تُعرف بالحدّ، وتمثّل الدائرة الأولى من الجحيم. وقد خصّصها دانتي للأشخاص الذين لم تُكتب لهم النجاة أو الخلاص رغم أنهم لم يرتكبوا خطايا أو ذنوبا.
    والمنطقة توفّر نوعا من "المَخرج" الذي كان شائعا في التديّن المسيحيّ زمن الكاتب. وفي هذه المنطقة حشر دانتي عددا من الأشخاص الذين اسماهم "الفضلاء من غير المسيحيين" أو "الوثنيين الصالحين".
    ومن بين هؤلاء قادة ومفكّرون وفلاسفة من العالم القديم ومن القرون الوسطى، مثل صلاح الدين الأيّوبي وابن سينا وابن رشد. ورغم انه يصف ابن رشد بالحكيم ويثني على تعليقه على أفكار أرسطو، إلا انه يعتبره ممّن ضلّوا سواء السبيل.
    عندما كتب دانتي الكوميديا الإلهية، كان ابن رشد احد أكثر الفلاسفة شهرةً في العالم المسيحيّ خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر. لكن دانتي يسمّيه بـ "المعلّق"، في محاولة للتقليل من شأنه بالتلميح إلى أن دوره لم يتعدَّ التعليق على أفكار أرسطو.
    كان ابن رشد معروفا بمحاولة التوفيق بين فلسفة أرسطو العقلانية وبين المعتقدات الإسلامية والمسيحية. وكان يرى أن الفلسفة والدين يمكن أن يتعايشا جنبا إلى جنب وأنه لا يوجد طريقان مختلفان أمام الفرد للوصول إلى الحقيقة.
    وقد راج هذا الفهم وانتشر في القرن الثالث عشر. لكنه ولّد ردود فعل رافضة في الأوساط المحافظة من المسلمين والمسيحيين واليهود.
    في نفس ذلك الطرف من الجحيم، أي في منطقة الحدّ أو البرزخ الذي يصفه دانتي بـ "المكان الذي يثير الرهبة أكثر من الشهرة"، حشر أيضا مجموعة أخرى من الشعراء والفلاسفة الكلاسيكيين، مثل هوميروس وأوفيد وأفلاطون وسقراط، بالإضافة إلى أرسطو الذي يسمّيه "سيّد أولئك الذين لا يعرفون".
    الشيء المزعج هو أن دانتي لا يتردّد في وضع نفسه مكان الله كقاضٍ، وأحيانا يلعب دور الشاهد والقاضي معا. وهو لا يتساءل إن كان ما يراه أو يتخيّله هو حكم الله أم حكمه هو.
    هناك أيضا شيء مخيف في جحيم دانتي، هو هذا العذاب والألم الذي يخضع له الضحايا والمعذّبون العالقون أمام أعين دانتي ودليله فرجيل. الجثث العارية والمياه القذرة والعذاب الرهيب الذي لا ينجو منه حتى المنتحرين والمزوّرين.
    جحيم دانتي قطعة من العذاب الأبديّ، وكلّ الأشخاص هناك مهزومون ومقهورون كلّ على طريقته. وهو ما يدفع القارئ لأن يتساءل عن أيّ معنى للعدل أو الرحمة.
    ودانتي في نصّه المستفزّ يلعب دور الواعظ، لكنه واعظ شديد القسوة وربّما الساديّة. وهو لا يصوّر الخطايا وإنّما الخطّائين. لكن يبدو أن شكل الجحيم كما يصفه ليس أكثر من انعكاس للمفاهيم اللاهوتية التي كانت سائدة في عصره.
    عندما ينزل دانتي ومرافقه إلى أعماق الجحيم، تصبح ردود أفعاله عدوانية وشامتة. فهو لا يتوانى عن ركل بعض الأرواح المعذّبة بقدمه، بينما يبدي سروره وتلذّذه بالتعذيب الذي يراه يُرتكب ضدّ آخرين. غير أن هذه القسوة لا تمنعه أحيانا من إظهار بعض الشعور بالشفقة وإشراك القارئ معه في هذا الشعور.
    الولوج إلى جحيم دانتي تجربة مؤلمة. لكنّها تعلّمنا كيف أن الخير والشرّ متداخلان، سواءً في أنفسنا أو في الآخرين.
    وربّما أراد دانتي أن يشير إلى انه من الصعب على الإنسان أن يتوصّل إلى أيّ قدر من النقاء الأخلاقي من دون مرشد أو دليل. لكن حتى هذه الفكرة ليست نهائية، بل تحتمل الكثير من الأخذ والردّ.

    الأربعاء، مارس 29، 2017

    !اقتل البوذا


    في الكثير من أرجاء العالم، ما تزال البوذيّة تتضمّن طقوسا ومعتقدات يُنظر إليها باستغراب، مثل التناسخ أو الإيمان بأن الإنسان بعد موته يظهر في شكل آخر؛ حيوان أو نبات الخ، مع الاحتفاظ بسماته الشخصية الأصلية.
    أيضا ممّا يعاب على البوذية استغراقها الزائد عن الحدّ في الحديث عن فكرة الموت، لدرجة أنها خصّصت له كتابا اسمه كتاب الموتى.
    ومن الاعتقادات الأخرى الغريبة في البوذية أنه كان هناك بوذا آخر يُدعى اميتابا، ولا احد يعرف إن كان قد عاش على الأرض أو أنه موجود في كون موازٍ، وانك إذا ردّدت اسمه دائما فإنك ستذهب إلى مكان يُدعى "الأرض الطاهرة" حيث يمكنك أن تتعلّم أشياء كثيرة من معلّمي البوذية الأقدمين.
    وبوذا الحقيقي الذي يعرفه الناس يظهر في الكتب على هيئة غزال أو فيل أو قرد. والحكايات الفولكلورية التي تمتلئ بها بعض تلك الكتب عن حيوانات ومخلوقات أسطورية تفكّر وتتكلّم لا تخلو قراءتها من بعض المتعة، تماما مثل أن تقرأ كتاب كليلة ودمنة أو كتاب الحيوان للجاحظ.
    وبعض الأفكار الأساسية التي تقول بها البوذية مثل التناسخ والارتباط والكارما كانت وما تزال محلّ انتقاد من الكثيرين. الدالاي لاما نفسه أبدى تشكّكه مرّة في فكرة التناسخ وتساءل عن جدواها. وهناك أيضا من عاب على البوذية أن أفكارها ذكورية وترى أن الرجال وحدهم هم من يبلغون أعلى مراتب الروحانية.
    وحتى فكرة الاستنارة التي حقّقها بوذا بالانفصال والتخلّي عن زوجته وطفله كانت دائما موضع تساؤل وشكّ. وبنظر البعض أن الروحانية الحقيقية لا يجب أن تتنكّر لقيم العائلة ولا تفرّق بين الرجال والنساء.
    لكن عندما ننحّي مثل هذه الأفكار الجدلية جانبا، فإن البوذية تقدّم طرق تفكير جديرة بالنظر، بحسب ما يقوله بعض الكتّاب والمفكّرين. ذات مرّة امتدح اينشتاين البوذية بكلام قد لا يخلو من مبالغة عندما قال إنها يمكن أن تصبح دين المستقبل، لأن ليس فيها لاهوت ولا أفكار قاطعة ولا إله. وبوذا نفسه أكّد على انه ليس إلها ولا يجب أن يعامَل كذلك.
    وحتى فريدريك نيتشه الذي لم يكن على وفاق مع الأديان وصف البوذية ذات مرّة بأنها أفضل من المسيحية بكثير، على الرغم من أنها تظلّ بنظره "ديانة عدمية".
    وهناك من يرى أن البوذية تغطّي الطبيعيّ والروحانيّ معا. كما أنها تحاول أن تفهم العالم من حولنا. والمعرفة فيها تُكتسب من خلال التجربة الشخصية، وليس بالاعتماد على نصوص مقدّسة وتعاليم معلّمين.
    كما أنها ترفض المفاهيم والأفكار المطلقة ولا تطلب إيمانا أعمى. الإيمان فيها أمر ثانوي، والاهمّ منه هو المعرفة والتجربة.
    أيضا الناس في البوذية لا يرجون خلاصا مثل ذلك الذي تعد به المسيحية أتباعها. وحتى بوذا نفسه لا يضمن شيئا من ذلك. هو فقط يساعدك على أن تجد طريقك الخاصّ إلى السعادة والحرّية.
    ومن أفكار البوذية الشائعة والجديرة بالتأمّل التي وجدت طريقها إلى كتب تطوير الذات، وإن بصيغ وأشكال مختلفة، انه "لا يوجد طريق إلى السعادة، السعادة هي الطريق". وهو يشبه قولا قديما مفاده أن "الحياة هي الرحلة وليست الوجهة". وهذا صحيح إلى حدّ كبير. والمعنى هو انك لا يجب أن تعيش حياتك بانتظار نتائج نهائية، بل اكتشف أوقات الفرح والحزن على طول الطريق كي تكتشف ماذا تعني الحياة.
    وهناك فكرة أخرى تقول "إن الصديق غير المخلص أو الشرّير يجب أن يُخشى أكثر من الحيوان المتوحّش. فالحيوان قد يجرح جسدك، لكن الصديق الشرّير قد يجرح روحك". والمعنى هو أننا يجب أن نحيط أنفسنا بأناس مخلصين يدعموننا ويقبلوننا كما نحن. لكن عندما نربط أنفسنا بأولئك الذين يتسبّبون لنا بالآم ومعاناة فإننا نجرّد أنفسنا من فرصة أن نكون سعداء.
    وهناك قول آخر مفاده انه "في السماء لا يوجد شرق وغرب". والمعنى هو أن البشر هم من يخلقون الفروقات والتمايزات من عقولهم ثم يعتقدون أنها حقيقة. أيضا تعني الفكرة أن الناس جميعهم متساوون، أما التمايز فمن اختراع البشر. ومن منظور الكون، نحن جميعا متساوون ونستحقّ الحياة والسعادة.
    ومن الأقوال الأخرى الشائعة في البوذية أن "الإنسان لا يعاقَب من اجل غضبه، وإنّما بسببه". والمعنى هو أن الحقد والغضب لا يضرّان الشخص التي تُوجّه إليه غضبك. هو فقط يستهلك عقلك ويسرق سعادتك. وأن كلّ المشاعر لها ما يبرّرها، لكن أفضل شيء نستطيع فعله هو أن نتحرّك إلى الأمام ونتخلّص من المشاعر السلبية.
    والعديد من تعاليم بوذا تعتمد على مفهوم الارتباط، فـ "أنت تفقد فقط ما تتمسّك به". والمعنى هو أننا لا نعود بحاجة لأن نخشى افتقاد الأشياء إذا ما أزحنا ارتباطاتنا الشعورية بها. فالحبّ والفرح غير المشروط يأتي من القبول الكامل بالتجربة، حتى وإن كانت قصيرة. وحتى المتع المادّية يجب أن لا يربط الإنسان نفسه بها حتى لا يصبح عبدا لها فيحزن ويندم عندما يفتقدها. والإنسان لا يصبح حرّا إلا عندما يتحرّر من ارتباطه بالأشياء والمتع المؤقّتة والمشاعر الزائلة.
    وهناك قول آخر مفاده أن "لا احد ينقذك غير نفسك، أنت من يجب أن يمشي الطريق". والمعنى هو أن حياتك هي ملكك لوحدك. ولا يمكن لأيّ احد أن يرى العالم من منظورك الخاصّ غيرك. وبدلا من الاعتماد على الآخرين كي يقودوك في حياتك، يجب أن تمشي طريقك بنفسك. إننا جميعا نملك إمكانية أن ننمو وأن نتطوّر. وعندما نكون واعين بأفكارنا وبمسار رحلتنا، فإننا نفتح الأبواب لتجارب أفضل. ويترتّب على ذلك ضرورة أن تصبح شفّافا مع نفسك وأن تستيقظ من سباتك، فتغادر الجماعة وتمشي على قدميك ولا تذهب للبحث عن شخص ناجح كي تكرّره.
    وأخيرا، هناك في البوذية حكمة جميلة وشائعة وذات مغزى تقول: إذا قابلت البوذا على الطريق فاقتله. والبوذا هنا ليس بوذا الأصليّ أو القديم بل أيّ واعظ أو معلّم روحانيّ. والمقصود هنا طبعا ليس معنى القتل حرفيّا، بل أن لا تتّبع ما يقوله لك المعلّمون أو المرشدون، وبدلا من ذلك حاول أن تختار طريقك بنفسك.

    Credits
    psychologytoday.com

    الاثنين، يناير 23، 2017

    عصر أورانغ زيب

    قصّة حياة أورانغ زيب، سادس حكّام المغول في الهند، مليئة بالدراما والإثارة وبالمفارقات الغريبة. وربّما لا ينافسه من هذه الناحية سوى الشاه عبّاس الصفوي والسلطان العثمانيّ سليمان القانوني.
    قراءة سيرة حياة هذا الرجل لا بدّ وأن تثير العديد من الأفكار والتساؤلات. مثلا، هل يولد الإنسان قاسيا بطبيعته أم أن الظروف والتنشئة هي التي تجعله عنيفا مستبدّا؟ وهل من المفيد أم الضارّ مزج الدين بالسياسة؟ وهل التديّن الزائد عن الحدّ خصلة جيّدة أم رديئة، خاصّة عند الحكّام؟
    تُوّج أورانغ زيب حاكما على الهند في احتفال مهيب جرى عام 1658 في حدائق شاليمار المشهورة في نيودلهي. وقد حكم البلاد طوال خمسين عاما. والده، أي شاه جيهان، كان ملكا متفتّحا ومتسامحا ومحبّا للفنون. وإليه يُنسب أشهر صرح معماريّ في تاريخ الهند، أي تاج محلّ الذي بناه تكريما لذكرى زوجته ممتاز محل، والدة أورانغ زيب.
    أورانغ زيب نفسه كان شخصا متعلّما وذكيّا ومتديّنا بشدّة. تستطيع أن تقول إن أفكاره الدينية كانت سلفية قبل ظهور السلفية بمعناها الحديث. لكنه أيضا كان مخادعا وميّالا للانتقام. ولم يكن يثق بأحد، لذا احتفظ في بلاطه بشبكة واسعة من العيون والجواسيس.
    وكان أيضا، وهذه أخطر صفاته، إنسانا متعطّشا للسلطة. ولهذا السبب قام بخلع والده شاه جيهان وجلس مكانه على العرش. ثم نشأ نزاع ضارٍ بينه وبين أشقائه الثلاثة الذين احتجّوا على خلعه لأبيهم واستئثاره بالحكم لنفسه. لكنه في النهاية حسم الصراع لمصلحته بعد أن أمر بقتل إخوته جميعا.
    معاملة أورانغ زيب لوالده وأشقائه من الصعب اليوم أو في ذلك الوقت فهمها أو تبريرها. لكنّه لم يكن السلطان المغوليّ الوحيد الذي نكّل بأقاربه وضحّى بهم على مذبح حبّ السلطة. فتاريخ المغول مليء بمثل هذه الأحداث الرهيبة والقصص الدامية.
    بعد أن وطّد أورانغ زيب أركان حكمه، بدأ سلسلة من الحروب والغزوات التي خلقت له الكثير من الأعداء خارجيّا وداخليّا وتركت خزينة الدولة فارغة.
    ورغم انه كان يحكم مملكة شاسعة أغلبية سكّانها من الهندوس، إلا أن تعصّبه الدينيّ دفعه للانقلاب على سياسة التسامح الدينيّ التي تبنّاها جدّه السلطان أكبر . فقام بتهميش الهندوس وحظر احتفالاتهم الدينية ومنعهم من تولّي مناصب في الدولة، وأصبح التعيين ليس على أساس الكفاءة وإنما الدين.
    ولم يسلم من تعصّبه حتى السيخ، وهم طائفة صغيرة ومسالمة. مؤسّس الديانة السيخية هو المعلّم ناناك، وكان يبشّر بوحدة الأديان وبالأخوّة بين البشر. وأحد أسلاف ناناك كان المعلّم رام داس الذي كان معاصرا لجدّ اورانغ زيب، أي السلطان اكبر. وكان أكبر يحترمه كثيرا، ولطالما أقطعه أراضي من أملاك الدولة كي يقيم عليها معابد لأتباعه.
    عداء اورانغ زيب لأتباع الديانات الأخرى وإقصاؤه إيّاهم تسبّب في تقويض ولائهم للدولة ودفعهم للقيام بعدّة انتفاضات شعبية ضدّه نتج عنها إضعاف الدولة وتفتيت المجتمع.

    مع مرور الوقت، أصبح أورانغ زيب شخصا متقشّفا، فتجنّب كافّة أشكال الرفاهية وامتنع عن ارتداء الحرير، كما رفض الموسيقى، ولم يكن عنده شيء من شغف والديه بالعمارة والفنون. والأثر الباقي الذي تركه بعد موته وما يزال يُذكر به هو مسجد بادشاهي الذي أمر ببنائه في مدينة لاهور.
    كما أعاد العمل بالجزية وحارب ما اعتبره بِدَعاً وخرافات. ثمّ تحوّل إلى المتصوّفة، فأنكر عليهم أفكارهم وطقوسهم قبل أن يأمر بقتل أحد زعمائهم.
    ورغم انشغال أورانغ زيب بالحروب والحملات العسكرية، إلا انه كان يجد من الوقت ما يكفي لممارسة هواياته القليلة، مثل كتابة الشعر وقراءة كتب الفلك وممارسة الصيد في براري الهند. في إحدى اللوحات (الأولى من فوق) التي تعود إلى تلك الفترة، يظهر السلطان بلحيته البيضاء محمولا على سرير مرصّع بالجواهر، أثناء رحلة صيد مع أفراد حاشيته.
    مشاهد الصيد مألوفة كثيرا في رسم المغول. وهناك ثلاث لوحات أخرى يظهر فيها أورانغ زيب وهو يتعقّب حيوانات برّيّة.
    وفي لوحة أخرى، يظهر أثناء حصاره لمدينة غولكوند في وسط الهند وهو يراقب جنوده الذين يهاجمون أسوار المدينة المحصّنة. كانت هذه المدينة مشهورة بقصورها التاريخية ومصانعها ووفرة مياهها وبوجود منجم كبير للماس بها. وقد حاصرها مدّة ثمانية أشهر إلى أن استسلمت في أكتوبر من عام 1687م.
    من الأحداث التي توقّف عندها المؤرّخون طويلا قصّة سجن اورانغ زيب لوالده في قلعة اغرا وتركه هناك حتى وفاته. وقد قيل انه سجن والده في البداية في قصره. لكن أشيع في ما بعد أن الأب لم يكن يستنكف عن إقامة علاقات مع بعض نساء القصر بالرغم من تقدّمه في السنّ، الأمر الذي اغضب اورانغ زيب. وقد كتب ذات مرّة إلى احد أصدقائه المقرّبين رسالة يشكو فيها من سلوك أبيه قائلا: لماذا لا يقرأ والدي القرآن الكريم كما افعل"؟!
    كانت حياة أورانغ زيب عبارة عن سلسلة طويلة من المآسي. كان أقوى وأغنى حاكم في سلالته. لكنّ حكمه انتهى بفشل كارثيّ، ربّما لأنه كان يفتقر للكاريزما وللدراية الكافية بإدارة شئون الحكم.
    وعندما حضرته الوفاة وهو في سنّ الثامنة والثمانين، اعترف بأخطائه طالبا من الله الرحمة والمغفرة. ويؤثر انه قال لمن حوله: لقد أتيت إلى هذا العالم لوحدي، وأرحل عنه الآن غريباً. لا أعرف من أنا ولا ماذا كنت أعمل. وأينما نظرت لا أرى سوى الله. لقد ارتكبت الكثير من الذنوب ولا أدري أيّ عقاب ينتظرني".
    عندما توفّي أورانغ زيب كانت مملكته على حافّة الانفجار من الداخل بسبب الحروب والصراعات المستمرّة. خليفته، أي ابنه بهادور شاه، كان هو الآخر عجوزا عندما توفّي والده، لذا لم يحكم أكثر من بضع سنوات.
    وشيئا فشيئا حلّ الوهن والتآكل في أركان الإمبراطورية مع ظهور نزعات انفصالية في أكثر من ولاية، ما جعل البلاد هدفا لأطماع القوى المتربّصة. ومع تولّي بريطانيا حكم الهند، كان زمن المغول كحكّام على البلاد يقترب من نهايته.
    في البداية، قام الانجليز بنفي آخر أباطرة المغول بهادور الثاني، ثم ألغوا مملكته وأعدموا خليفته. ولم يمضِ وقت طويل حتى أصبحت إمبراطورية المغول في الهند، بأمجادها وتاريخها الطويل، مجرّد ذكرى غابرة.

    السبت، ديسمبر 03، 2016

    قصص وملاحم


    كثيرا ما تتضمّن قصص الملاحم بحثا ومغامرات وروّادا يناضلون في محاولتهم الذهاب إلى ما هو أبعد من الحالة الراهنة، ولأيّ سبب نبيل. غلغامش، مثلا، كان يبحث عن الخلود. وإينياس أنجز قدَرَه بتأسيس إمبراطورية جديدة في لاتيوم. وأخيل حارب من اجل الأخوّة ولينتقم من موت صديقه. وأوديسيوس حاول الإبحار إلى ما وراء الشمس الغاربة، وطوال الطريق ظلّ يحلم بالعودة إلى "إيثيكا" أو الوطن.
    تقاليد الملاحم وُلدت منذ القدم لتتحدّث عن توق الإنسان ورغبته الفطرية في أن يتجاوز مكانه وأن يسافر إلى ما وراء الحدود المقيّدة له على هذه الأرض.
    العالم الفيزيائيّ كارل ساغان كتب في مقدّمة مؤلّفه "الكون" يقول: البشر المولودون من غبار النجوم يقطنون الآن ولبعض الوقت عالما يُسمّى الأرض، وقريبا سيبدءون رحلة العودة إلى الوطن".
    ومثل اوديسيوس، فإن البشر في حالة بحث أبديّ عن وطن، أي عن أصولنا؛ عن مكان يملك الإجابات على تساؤلاتنا ويهدّئ من مخاوفنا.
    غير أن إيثيكا البشر ظلّت متمنّعة ومراوغة. هذه الإيثيكا الأبدية، سواءً كانت بالمعنى الدينيّ مثل الجنّة والنيرفانا والموشكا، أو بالمعنى الأدبيّ مثل لاتيوم أو يوتوبيا أو عدن، كانت وما تزال الهدف النهائيّ للبشرية الباحثة، وحتى لنقّاد ما بعد الحداثة والحركات النسوية.
    والملاحم الأدبية تحدّثت عن هذا البحث منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، وهو بحث لم يكلّ أو يملّ، فقط غيّر أشكاله وأساليبه بينما الإنسانية تبدأ الآن في استكشاف الكواكب الأخرى.
    غير أن بعض النقّاد يرون أن القصيدة الملحمية كجنس أدبيّ أنجزت نموّها منذ زمن طويل وأصبحت قديمة ولا علاقة لها سوى "بالماضي التليد". وهذا الماضي لا ارتباط له بالخطاب المعاصر، كما أن عقل القارئ الحديث لا يمكنه الدخول إلى الماضي الملحميّ، فنحن اليوم منقطعون عن أزمنة الملاحم وهي تظلّ مجرّد ذكرى بعيدة وماض مثالي.
    إن فكرة وجود عدد من الآلهة يقرّرون مصير البشر ويمثّلون تهديدا دائما لبعضهم البعض وللخليقة، ثمّ في النهاية يلوذون بالسماء حيث يعيشون هناك حياة أبدية على هيئة مجموعات نجمية أو أبراج، تبدو فكرة غريبة على كلّ الثقافات هذه الأيّام.
    كما أن الأديان المعروفة اليوم تناقض فكرة تعدّد الآلهة، بل إنها حتى ترفض الحضارات القديمة على أساس أنها وثنية وضدّ التوحيد.
    لكن روح الملاحم ما تزال تعيش معنا إلى اليوم وتؤثّر على المتلقي المعاصر من خلال قصص الخيال العلميّ التي يمكن من خلالها أن نفهم تقاليد الملاحم ونفهم أنفسنا كبشر بشكل أفضل.
    روايات الخيال العلمي تضع عقل الإنسان في مواجهة مع أسئلة الذات والمصير. فيلم "حرب النجوم" مثلا هو عبارة عن قصّة ملحمية، من حيث أن الملايين شاهدوه وأنه يتضمّن صورا وأفكارا وموتيفات عن مخلوقات مختلفة، كما أن الفيلم يحمل بصمة مبتكره.
    ملحمة الاوديسّا، التي تعني حرفيّا الرحلة الطويلة إلى الوطن، هي ككلّ الملاحم تقريبا عبارة عن قصّة عودة، وهي تسأل: هل يمكن للإنسان أن يعود إلى وطنه، خاصّة بعد سنوات طويلة من الحرب الدامية؟ والملحمة تحاول أن تعيد النظام بعد فوضى الحرب التي تُوجّت بسقوط طروادة.
    في نهاية الملحمة يتعلّم اوديسيوس أن أفضل مكان له هو حيث تكون زوجته وعائلته، أي الوطن.

    Credits
    literature.org

    السبت، مارس 05، 2016

    موسى وميكيل انجيلو وفرويد

    إلى ما قبل ظهور سيغموند فرويد، كان تاريخ الفنّ عبارة عن توثيق للأعمال الفنّية: كيف ظهرت وإلامَ انتهت، وما هي التأثيرات الثقافية والاجتماعية التي شكّلت دافعا للفنّان في انجاز هذا العمل أو ذاك.
    لكن عالم النفس النمساويّ الشهير ابتكر طريقة لاكتشاف كيف ولماذا يؤثّر فينا الفنّ العظيم. ومن خلال دراسة العمل الفنّي سيكولوجيا، وكذلك التحليل النفسي للفنّان صاحب العمل، قدّم لنا فرويد أدوات فعّالة تمكّننا من فهم الإبداع وإدراك القوّة التذكّرية والعاطفية للفنّ بطريقة أفضل.
    كان أسلوبه في دراسة الفنّ مشابها إلى حدّ ما لطريقته في تفسير الأحلام. فالصور في الأحلام، وكذلك في الرسم والنحت، ما هي إلا تقطير بصريّ للأفكار والتأثيرات.
    كان فرويد متماهيا مع النبيّ موسى. كتابه الأخير كان عنوانه "موسى والتوحيد". والواقع انه كان يرى في نفسه، هو أيضا ومثل موسى، زعيما لجماعة صغيرة، لكن تأثيرها قويّ وواسع.
    وكان فرويد يقول لأصدقائه دائما أن روما هي مدينته المفضّلة وأن زياراته لها تسرّه كثيرا. وقد عُرف عنه اهتمامه بالآثار وبجمع التحف. وكان يستخدم الآثار والتنقيب كتعبير مجازيّ عن العقل الباطن والكبت. وروما بطبقاتها المتعدّدة والقديمة من عصور النهضة والباروك والحداثة كانت تفتنه وتثير مخيّلته.
    وقد جاء إلى روما أوّل مرّة لزيارة تمثال موسى، ثم عاد مرارا لمعاينة التمثال. دراسته بعنوان "موسى وميكيل انجيلو" لها تاريخ غريب. وقد نشرها عام 1917 باسم مستعار في دورية سيكولوجية.
    لكن في البداية، ما هي قصّة تمثال موسى؟
    في عام 1505، بدأت فكرة بناء قبر للبابا جوليوس الثاني، عندما كلّف هذا البابا ميكيل انجيلو بتصميم القبر الذي كان عبارة عن ضريح فخم.
    وكان من المنتظر أن يوضع التمثال في كنيسة القدّيس بطرس التي كانت آنذاك تحت الإنشاء. وقد أتى الاقتراح ببناء الضريح من "بابا" كان يحبّ نفسه كثيرا، وكلّف للمهمّة نحّاتا شابّا كانت له، هو أيضا، طموحات عالية.
    ومنذ البداية، كانت النيّة متّجهة لإقامة ضريح ينافس في الفخامة ضريح الملك الإغريقيّ ماسوليوس الذي يُعتبر إحدى العجائب السبع في العالم القديم. ومن اسم ماسوليوس اشتُقّت كلمة موسوليوم التي تعني باللاتينية "الضريح".
    وتمثال موسى لم يكن سوى واحد من أربعين تمثالا داخل القبر. وهو على الأرجح كان أوّل قطعة يتمّ انجازها. وظلّ التمثال يشكّل عبئا ثقيلا على ميكيل انجيلو حتى بعد موت البابا جوليوس عام 1513م بوقت طويل.
    فكرة التمثال مأخوذة من سفر الخروج في العهد القديم الذي يذكر أن موسى خرج من مصر مع قومه قاصدا "ارض الميعاد" التي سيؤسّس عليها امّة موحّدة. وعندما وصل موسى إلى سيناء صعد إلى الجبل، وهناك تلقّى الألواح المقدّسة المسمّاة اليوم بالوصايا العشر، والتي تُعتبر أساس الأخلاق المسيحية اليهودية.
    لكن موسى يُفاجأ عند نزوله بأن قومه عادوا في غيابه لعبادة الأصنام ووجدهم يرقصون حول عجل ذهبيّ. وقد استولى عليه الغضب ممّا رآه، وهو المعروف بمزاجه العصبيّ، فقام بتحطيم الألواح في نوبة غضب.
    خلال عصر النهضة، أصبح كلّ من موسى وعيسى موضوعين مفضّلين للرسّامين. ومن يَزُر كنيسة سيستينا في الفاتيكان سيرى مقاطع مصوّرة من حياة هذين النبيّين تمتدّ من الجدار الشماليّ حتى الجنوبيّ. وأكثر الرسومات المتكرّرة تُظهر موسى ممسكا بالألواح عاليا فوق رأسه بعصبية وهو على وشك تكسيرها في الأرض.
    تمثال ميكيل انجيلو عن موسى مختلف. وفرويد كان مفتونا بهذا الفارق. وقد لاحظ في البداية أن التمثال ليس عن موسى وهو على وشك تكسير الألواح. فالتمثال العملاق يصوّر شخصا ينظر ناحية اليسار. وليس هناك من شكّ في غضبه الشديد أو قوّة الانفعال التي يختزنها داخل جسده.
    كما لاحظ فرويد لحيته الكثّة واليد اليمنى التي يُمسك بها الألواح، بينما الألواح على وشك أن تنزلق منه. وضعية ساقي الشخص توحي بأنه على وشك أن ينهض من مكانه ويندفع إلى الأمام. ومن المؤكّد أن الألواح ستسقط نتيجة لتلك الحركة.
    زار فرويد التمثال ورسمه مرارا، ثم توصّل إلى استنتاج أخير مؤدّاه أن هذا هو موسى فعلا، فالثورة تنطق بها عيناه وكلّ عضلة من جسده الضخم، لكنّ التوتّر في الجسد واللحية يُظهر تردّده.
    تمثال موسى هو عبارة عن عملاق ثائر وصعب المزاج في حالة صراع. لكن لماذا هذا الصراع؟ يقول فرويد: صحيح أن أمل موسى في قومه خاب، لكن يجب عليه أن يتذكّر أنهم أتباعه ولا يمكن أن يخاطر بالتخلّي عنهم ونبذهم. كان يعرف انه يجب أن يتحكّم في غضبه وأن يجدّد دين قومه.
    يقال أن من بين عيوب التمثال حقيقة أن قدمي ويدي الشخص ضخمة بشكل لا يتناسب مع التمثال ككلّ. لكن هذا كثيرا ما يُفسّر بأن التمثال أريد له أن يُنظر إليه من أسفل. وأحيانا قيل أن هذا خطأ فنّي فرضه شكل عمود الرخام الذي نُحتت منه الأطراف.
    وحتى عندما نحت ميكيل انجيلو تمثال بييتا عن المادونا وابنها، قيل وقتها وما يزال يقال إلى اليوم على سبيل النقد، بأن وجه الأمّ أكثر شبابا من وجه ابنها الميّت.
    غير أن هذه هي فكرة النحّات لما يعنيه مفهوم الأم، وفي هذا أيضا تلميح لحياته هو. فقد انفصل ميكيل انجيلو عن أمّه عندما وُلد، وعُهد به إلى مربّية في قرية مجاورة. وبعد أن أعيد إلى أمّه، توفّيت بعد ذلك بوقت قصير وعمره لا يتجاوز السادسة. والواقع أن ميكيل انجيلو كان له أمّ لم تكبر في عينيه أبدا. وربّما كان هذا انعكاسا لرغبة الإنسان في أن يعود إلى حضن أمّه التي كانت وقت ولادته.


    كان عقل ميكيل انجيلو المرهَق ميدان قتال متواصل. القوى المتعارضة للإيمان الدينيّ والجمال الوثنيّ كانت تتواجه في وعيه. لكنّ هذا ساعده على خلق مجموعة من التحف الفنّية الخالدة.
    دراساته التشريحية بارعة في تعبيريّتها وإحكامها، كما أن تصميماته لقبور معاصريه، مثل ميديتشي وجوليوس الثاني، ظلّت على الدوام تُلهم الرهبة وربّما الخوف.
    وقد عاش النحّات في زمن مثير تخلّلته غزوات نابليون وإصلاحات الكنيسة وفترات الاضطراب السياسيّ. كان مشهورا بحبّه للعزلة. وكان يطبّق على نفسه حالة امتناع عن المتع الدنيوية، بعد أن قرّر أن يصرف جميع انفعالاته ودوافعه على إبداعه الفنّي.
    وممّا لا شكّ فيه أن ميكيل انجيلو بذل جهدا خرافيّا في رسم سقف كنيسة سيستينا، ما أدّى إلى تشويه عموده الفقريّ وإتلاف نظره إلى درجة كبيرة.
    وبحسب ما يقوله المؤرّخ الايطاليّ انطونيو فورتشيللينو، كان أسلوب حياته المتقشّف وسيلة لادّخار المال. حتى مادوناته متقشّفات وبسيطات، وقد وضعهنّ في طبيعة قاحلة كردّ على انتقادات الكاهن سافونارولا الذي اتّهم الفنّانين وقتها بتصوير المادونا كبغيّ وذلك بإلباسها ثيابا غير محتشمة.
    كان سافونارولا قد جاء إلى السلطة في فلورنسا وأتى معه بجملة من القوانين المتشدّدة التي تحذّر الناس من الفراغ والانشغال "بالاهتمامات التافهة". وطبعا كان من بين تلك الاهتمامات الرسم والنحت والحُليّ والمجوهرات والآلات الموسيقية، لذا اُلقي بها جميعا إلى النيران لتأكلها.
    لكن لنعد الآن إلى القصّة الأصلية. بحسب فرويد، صنع ميكيل انجيلو تمثالا؛ ليس عن موسى الغاضب وإنّما عن موسى الزعيم الذي يعيش حالة صراع. انه ممزّق بين الغضب وبين الخوف في أن يتسبّب غضبه في تدمير ما كان قد بدأ عمله.
    والحقيقة أن كلا الشخصين، أي النحّات والبابا جوليوس الثاني، كان لهما مزاج غضوب جدّا. وقيل إن وجه التمثال هو وجه البابا نفسه. وممّا يُروى أن البابا في إحدى نوبات ثورته ضرب ميكيل انجيلو بالعصا على ظهره. وردّا على ذلك، ترك الأخير الفاتيكان وغادر إلى فلورنسا تاركا البابا في حالة هياج.
    وقد تصالح الرجلان مع بعضهما بعد جهد جهيد في ما بعد. وكان ميكيل انجيلو يعلم بأن عليه أن ينصاع في النهاية لرغبات راعيه.
    جدار قبر جوليوس انتهى العمل منه طبقا لمخطّط ميكيل انجيلو عام 1547، أي بعد وفاة البابا جوليوس بأربعة وثلاثين عاما. وهو يمثّل محصّلة لسلسلة من التسويات والمفاوضات.
    وعلى مرّ السنين، كان هناك جدل كثير عن النتوءات التي تشبه القرون والبادية على رأس موسى. وقد أضافها النحّات اعتمادا على ما ورد في سفر الخروج الذي يذكر أن موسى عندما تلقّى الوصايا العشر نزل من فوق الجبل وفي رأسه قرون من إثر حديثه إلى الربّ. وكانت تلك القرون تميّزه عن غيره وتمنحه نوعا من المكانة والمجد.
    لكن يقال أن فكرة القرون نتجت عن ترجمة مغلوطة لكلمة في النصّ اللاتيني عن قصّة الوصايا على أن معناها "القرون"، بينما يشير معناها في العبرية الأصلية إلى صفة "التألّق أو السطوع".
    ومن المثير للاهتمام أن فرويد في كتابه "موسى والوحدانية" طبّق مبدأ علمانيّا، فقال إن النصّ الإنجيلي يعني انه كان لموسى جبين بارز للغاية أو سنام، وعادة ما تقترن هذه الصفة بالذكاء الشديد.
    ميكيل انجيلو كان يشعر بأن هذا التمثال كان تحفة حياته. وطبقا للمؤرّخ جورجيو فاساري، فإن يهود روما كانوا يأتون جماعاتٍ وفرادى للنظر إلى التمثال وإظهار الإعجاب به كلّ يوم سبت.
    لكن كان هناك أيضا جدل بشأن الصدع الظاهر في الرخام على الركبة اليمنى للتمثال. ويقال أنه عندما فرغ ميكيل انجيلو من إتمامه ضربه بالمطرقة وصاح قائلا: هيّا تكلّم"! وطبعا هذا لم يحدث أبدا ولم ترد هذه القصّة في أيّ مصدر موثوق.
    كان فرويد يرى بأن دراسة العمل الفنّي من ناحية سيكولوجية يضيف الكثير إلى فهمنا لذلك العمل. وفي ما بعد وضع دراسة عن ليوناردو دافنشي، مضيفا معيارا آخر مهمّا لفهم العمل الفنّي، وهو العلاقة بين تطوّر الشخصية وتجارب الفنّان من ناحية وبين القطعة الفنّية من ناحية أخرى.
    وقد أسهم فرويد في دراسته للعمل الفنّي من منظور علاقته بصانعه في إثراء دراسة الفنّ وتقدير الجمهور للأعمال الفنّية.
    الجدير بالذكر أن ميكيل انجيلو توفّي وهو في التاسعة والثمانين من عمره، وكان ما يزال يعمل بنشاطه المعهود ويرتدي زيّ الفنّان المتقشّف. ومع ذلك، كان يُعتبر أكثر فنّاني عصره احتفاءً. شهرته كانت مدويّة في أرجاء أوربّا كلّها. ولهذا خصّته الكنيسة الكاثوليكية بمراسم دفن فخمة تعكس أمجاده الشخصية.
    وفي صباح اليوم الذي توفّي فيه، تسلّلت مجموعة من أهالي فلورنسا إلى الكنيسة التي كان جثمانه مسجّى بداخلها، ثم سرقوا الجثمان وقاموا بإخفائه في عربة مدرّعة. وبعد ثلاثة أيّام، وصلوا به إلى فلورنسا حيث خرج في وداعه الآلاف.
    ولم يرَ الناس وقتها موكبا بمثل تلك الضخامة عدا ما كان يُختصّ به القدّيسون عادة. كانت المعركة على جنازة ميكيل انجيلو رمزا للعلاقة المتناقضة دائما بين الدين والفنّ والسياسة.

    Credits
    michelangelo.org
    creativecommons.org

    الأربعاء، فبراير 17، 2016

    سهرة مع السهروردي


    بعض الشخصيات من عالم الإسلام الصوفيّ لن تندم على قضائك ساعات معها، تقرأ عن حياتها وتستمتع بأشعارها، وأثناء ذلك تلج إلى عصرها وتتأمّل عالم الأفكار والتصوّرات الذي أنتجته.
    والسهْرَوَرْدي، المولود في سهْرَوَرْد في مقاطعة زنجان من أعمال أذربيجان، هو احد تلك الشخصيات الملوّنة والمبهرة. وهو مشهور، خاصّة، بفلسفة الإشراق. ولهذا يلقّبه المؤلّفون الذين كتبوا عن سيرة حياته وأشعاره وعن مأساة موته بـ "حكيم الإشراق". وفلسفته تستند إلى فكرة مؤدّاها أن الله تعالى هو نور الأنوار ومصدر جميع الكائنات.
    وأنت تقرأ سيرة السهروردي ومأساة مقتله لن تجد فيها اختلافا كبيرا عن سيرة غيره من الشخصيات اللامعة التي انتهت نهايات مأساوية. في البدء يضيق به الحُسّاد والكارهون بعد أن يصبح قريبا من الملك أو السلطان الذي يصطفيه ويقرّبه لعلمه وفضله. ثم لا يلبث هؤلاء أن يشوّهوا صورته ويحرّضوا عليه العوامّ والدهماء وأنصاف العلماء كي يزيحوه عن طريقهم.
    في البداية، عندما وصل السهروردي إلى حلب قادما من العراق، رحّب به كبير علمائها الشيخ افتخار الدين واستقبله في قصره. وقد لمس فيه الشيخ علما ورجاحة عقل وحسن منطق، فقرّبه منه وأكرمه.
    ولم يلبث السهروردي أن حظي باستقبال ورعاية مماثلين من لدن الملك الظاهر، حاكم حلب وابن صلاح الدين الأيّوبي.
    وقد عرف هذا الملك قدر السهروردي وعدّه من أفاضل الرجال، فلم يكترث كثيرا لما يقوله عنه حسّاده ومناوئوه. لكن الوشايات والأخبار المغرضة تصل إلى صلاح الدين نفسه المعروف بكرهه للفلاسفة وأهل المنطق. وقد رسم هؤلاء عنه عند صلاح الدين صورة لرجل مهرطق وعدوّ للشريعة وخوّفوه من احتمال أن يُفسد السهروردي عقيدة ولده.
    وبقيّة القصّة معروفة في كتب التاريخ. شيئا فشيئا استطاع خصوم السهروردي حبك خيوط مؤامرتهم حوله وأوغروا عليه صدر صلاح الدين والقضاة بعد أن اتّهموه بالكفر والضلال.
    بعض المصادر التاريخية تقول انه بعد مناظرة طويلة مع العلماء، وأكثرهم من خصومه، حكموا عليه بالقتل. وقد خُيّر بين الموت قتلا بالسيف أو تجويعا. فاختار الأخيرة لأنها اقرب لما يتمنّاه النسّاك وأهل الزهد عادة. وقد وُضع في مكان منقطع ومُنع عنه الطعام والماء أيّاما إلى أن مات. ويقال إن الظاهر، الذي انصاع مضطرّا لفتوى العلماء، بكى عليه كثيرا بعد وفاته وندم اشدّ الندم لأنه لم يفلح في إقناع والده بأن يُبقي على حياته.
    أمضيت مع السهروردي ليلتين قرأت خلالهما كتابا عن حياته وبعض مقالات ودراسات هنا وهناك. وطبعا بإمكان كلّ إنسان أن يختلف أو يتفق مع أفكاره، لأنها كانت مثيرة للجدل في زمانه وظلّ الناس مختلفين حولها من قديم وإلى اليوم.
    لكنّي أحبّ أشعار السهروردي أكثر من أفكاره، بل إنّي اعتبر قصائده من أجمل عيون الشعر الصوفيّ والعربيّ بعامّة.
    مَن منّا، مثلا، لم يقرأ ويستمتع بقصيدته الحائيّة المشهورة التي تفيض ألفاظها ومعانيها رقّة وجمالا والتي يقول فيها:
    أبــــــــدا تــــحـــنّ إلـــيــكــم الأرواحُ " .. " ووصـــالــكــم ريــحــانــهـا والـــــــرّاحُ
    وقــلـوب أهـــل ودادكـــم تـشـتاقكم " .. " وإلــــــى لـــذيــذ لــقـائـكـم تـــرتــاحُ
    وارحــمــتــا لـلـعـاشـقـيـن تــكـلـفـوا " .. " ســتــر الـمـحـبّـة والــهــوى فــضّــاحُ
    بــالـسـرّ إن بــاحـوا تُــبـاحُ دمـاهـمـو " .. " وكـــــذا دمـــــاء الـعـاشـقـين تــبــاحُ
    وإذا هــمـو كـتـمـوا تــحـدّث عـنـهمو " .. " عــنــد الــوشـاة الـمـدمـع الـسـفّـاحُ
    عودوا بنور الوصل في غسق الدجى " .. " فــالـهـجـر لــيــل والــوصــال صــبــاحُ
    لا ذنــب لـلـعشّاق إن غـلـب الـهوى " .. " كـتـمـانهم فـنـمـى الــغـرام فـبـاحـوا
    سـمـحوا بـأنـفسهم ومــا بـخـلوا بـها " .. " لـــمّـــا دروا أن الــســمــاح ربــــــاحُ
    ودعـاهـمـو راعـــي الـحـقائق دعــوة " .. " فــغـدوا بــهـا مـسـتـأنسين وراحـــوا
    ركـبـوا عـلـى سـنـن الـوفاء ودمـعهم " .. " بـــحــر وحــــادي شــوقـهـم مــــلاحُ
    أفـنـاهمو عـنـهم وقــد كُـشفت لـهم " .. " حُـــجُــب الــبــقـا فــتـلاشـت الأرواحُ
    قــم يــا نـديـم إلــى الـمـدام وهـاتها " .. " فَــبِــحَـانـهـا قــــــد دارت الأقــــــداحُ

    كلّما قرأت القصيدة السابقة بمفرداتها الجزلة وصورها البديعة تذكّرت قصيدة الحلاج الرائعة التي يقول فيها:
    والله مـا طـلعتْ شـمسٌ ولا غـربت " .. " إلا و حــبّــك مــقــرون بـأنـفـاسـي
    ولا خــلـوتُ إلـــى قـــوم أحـدّثـهم " .. "إلا وأنـــت حـديـثي بـيـن جُـلاسـي
    ولا هممتُ بشرب الماء من عطش " .. " إلا رَأَيــتُ خـيالا مـنك فـي الـكاسِ

    ويقول السهروردي في قصيدة أخرى:
    رقّ الزجاج ورقّت الخمرُ " .. " فتشابها فتشاكل الأمرُ
    فـكـأنها خـمـر ولا قـدحُ " .. " وكـأنـها قـدح ولا خـمرُ!

    وفي قصيدة ثالثة يقول:
    على العقيق اجتمعنا " .. " نـحـن وسُـود الـعيون
    إن مـتّ وجـدا عليهم " .. " بـأدمـعي غـسّـلوني
    نـوحـوا عـليّ وقـولوا " .. " هــذا قـتـيل الـعيون!

    ومن شعره في الحكمة:
    بـــلاءٌ لَـيـسَ يُـشـبِههُ بَــلاء " .. " عَداوَة غَير ذي حَسَب وَدينِ
    يُـبيحك مـنه عـرضاً لم يَصُنهُ " .. " ويَرتَع منكَ في عِرض مَصون

    وقوله:
    تــولّـت بـهـجة الـدنـيا " .. " فـكـلّ جـديـدها خـلقُ
    وخــان الـناس كـلّهمو " .. " فــلا ادري بـمـن أثــقُ
    رأيـت مـعالم الـخيرات " .. " سُــدّت دونـها الـطرقُ
    فـلا حـسب ولا نسب " .. " ولا ديــــن ولا خُــلــقُ
    فلست مصدّق الأقوام " .. " فـي شيء ولو صدقوا

    وقوله أيضا:
    لا يمنعنّك خفض العيش في دَعَةٍ " .. " مـــن أن تــبـدّل أوطــانـا بـأوطـانِ
    تـلـقى بـكـلّ بـلاد إن حـللتَ بـها " .. " أهـــلا بــأهـل وإخــوانـا بــإخـوانِ

    الأربعاء، ديسمبر 23، 2015

    نجمة الميلاد


    كلّ عام والإخوة المسيحيون في كلّ مكان بخير وسلام بمناسبة أعياد الميلاد المجيد ورأس السنة.
    من بين الرسومات الجميلة التي تزيّن بطاقات الميلاد عادة في مثل هذا الوقت من كلّ عام صورة ظلّية لثلاثة رجال يرتدون ثيابا قشيبة ويمتطون ظهور الجمال في الليل ويحدّقون عبر التلال أو الكثبان الرملية بحرص قبل أن يوجّهوا أنظارهم نحو بيت صغير منعزل على مسافة.
    الليل مظلم، وهناك نجمة ساطعة ووحيدة تحوم فوق البيت الصغير وترسل شعاعا من الضوء الساطع باتجاه الأرض يضيء حدود البيت. وفي داخل البيت ثمّة ضوء آخر.
    الإشارات الدينية تذكر أن نجمة ظهرت لثلاثة من حكماء المجوس في الشرق. كان هؤلاء طبقة من الكهّان والحكماء من بلاد فارس، وكانوا على دراية بالفلك والنجوم والسحر.
    وقد رأوا في السماء شيئا نبّههم إلى أن المسيح كان على وشك أن يولد. وحفّزتهم النجمة للسفر من فارس إلى أورشليم، أي إلى المكان الذي يُرجّح أن ملك اليهود الموعود سيولد فيه.
    علم فلك المجوس كان يفترض أن النجوم تصوغ حياة الإنسان من الميلاد إلى الموت. كانوا يعتقدون أن الظهور المفاجئ لنجم جديد ولامع في السماء هو علامة على ولادة إنسان مهم. وكانوا يرون فيه تحقيقا لنبوءة ما.
    عندما وصل الحكماء الثلاثة إلى أورشليم بدءوا البحث عن الطفل. حاكم المدينة، أي الملك الرومانيّ هيرود، انزعج ممّا سمعه منهم، ثم نادى على كبار الكهنة والأعيان في قصره ليسألهم عن ولادة النبيّ الجديد.
    وعندما لم يجد الحكماء أثرا للطفل في أورشليم، واصلوا رحلتهم إلى بيت لحم. وقد اهتدوا أخيرا إلى بيته ودخلوه ورأوا الطفل وأمّه وخرّوا سُجّدا عند قدميه وصلّوا له، كما تقول الرواية الدينية. كانوا يحملون معهم ثلاث هدايا: آنية من الذهب، وأخرى من البخور، وآنية ثالثة من المُرّ. وكلّ واحدة من هذه الهدايا لها رمزيّتها الخاصّة. أما الملك الطاغية هيرود فقد أرسل جنوده إلى بيت لحم وكلّفهم بأن يقتلوا كلّ طفل رضيع في المدينة، في ما أصبح يُعرف في ما بعد بمذبحة الأبرياء.
    قصّة الحكماء مشهورة في التراث المسيحي. وقد أصبح الرجال الثلاثة من أكثر الشخصيات حضورا في الرسم، وهم يظهرون غالبا وهم يركبون الجمال ليلا ويتابعون نجمة في السماء، أو وهم يصلّون مع الرعاة للنبيّ الطفل بعد أيّام من ولادته. كما كُتبت أغاني وأشعار عديدة عن هذه القصّة وعُرضت عنها الكثير من الأفلام والمسرحيات.
    لكن السؤال: نجمة الميلاد، أو نجمة بيت لحم كما تُسمّى أحيانا، هذه النجمة الخارقة للعادة والتي أصبحت رمزا رئيسيا للكريسماس .. ما هي حقيقتها؟
    الواقع أن إنجيل متّى هو المكان الوحيد التي ذُكرت فيه هذه النجمة، وتحديدا في الآية التي تقول: عندما سمعوا الملك رحلوا، بينما النجمة التي رأوها في الشرق كانت تسير أمامهم إلى أن توقّفت حيث يوجد الصبيّ الصغير". وحتى هنا فإن المعلومات عنها متفرّقة ونادرة.
    وبالنسبة لأيّ شخص يميل إلى الأخذ بالتفسير الحرفيّ للنصوص المقدّسة، فإن هذه الآية تحلّ المسألة. وإذا كانت هذه الآية صحيحة، فإن نجمة بيت لحم قد لا تكون أيّ ظاهرة طبيعية معروفة، لأنه ببساطة لا شيء يتحرّك في السماء بتلك الطريقة.
    ومع ذلك، إذا ما سلّمنا بكلام مؤلّف إنجيل متّى، والذي لم يكن بالتأكيد أحد شهود العيان في كنيسة المهد، فإن النجمة قد لا تكون ظهرت حرفيّا بالطريقة الموصوفة. وفي هذه الحالة يمكن أن نفكّر في بعض الاحتمالات الفلكية الطبيعية.


    في الواقع هناك بعض الشكوك حول استخدام كلمة "نجمة" في المخطوطة اليونانية. مثلا، يؤكّد بعض العلماء أن كلمة "نجم" قد تعني ضمنا أيّ جرم فضائي آخر غير النجوم المعروفة. وبعض الأوصاف الفنّية تُظهر ما يبدو وكأنه نيزك ساطع أو نجم ساقط.
    ورغم أن النيازك المتفجّرة يمكن أن تكون مذهلة ومثيرة للإعجاب، إلا أنها لا تدوم سوى ثوان فقط، ويمكن أن تحدث في أيّ وقت. ومثل هذه الظواهر العابرة لا يمكن أن تقود الرجال الحكماء إلى بيت لحم.
    وهناك أجرام أو أجسام فلكية أخرى قد تبدو أكثر أهمّية. لكن هناك مشاكل أخرى، فنحن أوّلا لا نعرف على وجه اليقين متى ولد المسيح. فبسبب خطأ ارتكبه احد رجال الكنيسة بعد ذلك بمئات السنين، فإن ولادته يُعتقد أنها حدثت بعد التاريخ المعروف اليوم بأربع سنوات على الأقل.
    واليوم نعرف أن ولادته كانت في موعد لم يتجاوز العام الرابع قبل الميلاد، ويمكن أن تكون حدثت قبل ذلك بقليل. وبالتأكيد لم تكن ولادته في يوم الخامس والعشرين من ديسمبر. والإنجيل لا يقول شيئا عن هذه النقطة ولا يترك لنا سوى القليل من الأدلّة.
    غير أن هناك دليلا واحدا يتمثّل في الإشارة إلى أن الرعاة كانوا في الحقل و"كانوا يراقبون غنمهم ليلا"، وهو أمر يقول العلماء إن من المحتمل القيام به فقط في فصل الربيع عندما تولد الحملان الصغيرة. وبالتالي كانت الولادة على الأرجح في الربيع، وربّما بين العامين السابع والرابع قبل الميلاد.
    وهناك قليل من السجلات الفلكية التي حُفظت في ذلك الوقت، باستثناء سجلات الصينيين والكوريين. وقد سجّل هؤلاء ما قد يكون "مذنّبات" في العام الخامس ثمّ الرابع قبل الميلاد. والمشكلة الرئيسية هنا هي أن الصينيين، وأيضا المنجّمين المجوس، كانوا يعتبرون المذنّبات نُذر شؤم أو علامات على الحظّ السيّئ.
    وهناك احتمال آخر، هو أن نجمة عيد الميلاد كانت سوبرنوفا أو نجما متفجّرا، وهو نجم لم يُرَ قبل ذلك، يضيء فجأة ويكاد ضوؤه يخطف الأبصار. وفي الحقيقة تمّ رصد نجم مشابه من هذه النجوم من قبل الصينيين في ربيع العام الخامس قبل الميلاد، وقد ظلّ يُرى لأكثر من شهرين. ومع ذلك فإن موقعه في كوكبة الجدي كان يعني أنه ما كان من المرجّح أن "يقود" الحكماء بالطريقة التي يتحدّث عنها ضمنا الكتاب المقدّس.
    وبالنسبة للبعض، فإن هذا "النجم" لم يكن نجما على الإطلاق، وإنّما كان كوكب المشتري. أو بتعبير أدقّ، كان اقترانا عن قرب بين كوكب المشتري وكوكبين آخرين هما زحل والمرّيخ.
    القدماء كانوا يعتبرون الكواكب "نجوما متجوّلة"، وكانوا يؤمنون بأنها تحمل دلالات فلكية وباطنية كبيرة. وعلماء الفلك يعرفون أن سلسلة من هذه الاقترانات حدثت في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد في كوكبة الحوت التي يقول البعض إنها العلامة الفلكية لليهود. ولإضفاء المزيد من المصداقية على كُتّاب المسيحية الذين أتوا لاحقا مثل متّى، فإن علامة الحوت أصبحت في ما بعد العلامة السرّية للمسيحيين.
    قد يكون الحكماء الثلاثة رأوا نجما من تلك النجوم التي يزداد حجمها ووهجها ثم لا تلبث أن تأفل وتتلاشى. لكن هذه النظرية تفشل في تفسير كيف أن النجم الذي رأوه جهة المشرق ظهر أمام أعينهم إلى أن توقّف حيث يوجد الطفل. إذ ليس بمقدور نجم ثابت أن يتحرّك أمام الحكماء ليقودهم إلى بيت لحم، ثم ليس من طبيعة النجوم أو المذنّبات أن تختفي ثم تعاود الظهور ثم تقف ساكنة.
    وما لم يتمّ العثور على اكتشاف أثريّ كبير ولا يقبل الجدل كي يحلّ هذه المسألة نهائيا، فإن غموض نجمة عيد الميلاد سيظلّ عنصرا من عناصر عالم الإيمان. العلم نفسه لا يستطيع أن يفسّرها كجرم فيزيائيّ معروف، والتاريخ لا يقدّم سجلا واضحا، والدين لا يقدّم سوى طيف خارق للطبيعة وغير قابل للفحص أو التثبّت.
    ولكن على الرغم من عدم وجود اتفاق على طبيعة النجمة أو حتى على ما إذا كانت قد رؤيت فعلا قبل ألفي عام، فإن جميع الأطراف يمكنها أن تتّفق على طبيعة الرسالة التي بشّرت بها نجمة عيد الميلاد: على الأرض السلام، وفي الناس المسرّة".

    Credits
    planetsave.com
    universetoday.com

    السبت، أغسطس 15، 2015

    موزارت: القدّاس الجنائزي


    من أكثر أعمال الموسيقى الكلاسيكية شهرة وإثارة وغرابة القدّاس الجنائزي لموزارت. وأحد أهمّ الأسباب في كون هذا العمل مثيرا ومشهورا هو طبيعة القصص التي نُسجت حوله والتي يشبه بعضها الأساطير.
    وأنت تسمع قدّاس موزارت، يُخيّل إليك انك تمشي باتّجاه حفرة كبيرة. والحفرة تقع على الجانب الآخر من هاوية لا يمكن أن تراها إلا عندما تصل إلى حافّتها.
    موتك ينتظرك في هذا الجُبّ. وأنت لا تعرف هيئته ولا صوته ولا رائحته. أيضا أنت لا تعرف ما إذا كان جيّدا أو سيّئا. فقط تمشي باتجاهه.
    إرادتك عبارة عن آلة كلارينيت وخطى قدميك مجموعة من آلات الكمان. وكلّما اقتربت من الحفرة، كلّما ساورك إحساس بأن أمرا ما مرعبا ينتظرك هناك.
    ومع ذلك فأنت تمرّ بهذا الرعب كنوع من النعمة أو المنحة. مشيك الطويل ما كان ليكون له معنى لولا وجود هذه الحفرة في نهايته.
    وأنت تحدّق في الهاوية، تسمع فجأة ضوضاء أثيرية تتهشّم فوقك. في الحفرة ثمّة جوقة كبيرة. هذه الجوقة هي المُضيف السماويّ، وفي الوقت نفسه جيش الشيطان. وهي أيضا كلّ شخص أحدث فيك تغييرا أثناء حياتك على هذه الأرض: الأفراد الكثيرون الذين أحبّوك، عائلتك، أعداؤك، والنساء البلا اسم أو ملامح اللاتي نمن في فراشك، والمرأة التي كنت تعتقد انك ستتزوّجها، والمرأة التي تزوّجتها فعلا.
    وظيفة هذه الجوقة هي إصدار الحكم. الرجال يغنّون أوّلا، وحكمهم شديد للغاية. وعندما تنضمّ إليهم النساء، لا تكون هناك فترة راحة، فقط يتنامى النقاش بصوت أعلى وأكثر صرامة. إذن هو نقاش، تدرك ذلك الآن. الحكم لم يتقرّر حتى الآن. ومن المدهش كيف يتحوّل هذا الجَيَشان إلى صراع مثير على روحك التافهة.
    هكذا تصف زادي سميث قدّاس موزارت. لكن ما هي قصّة هذا العمل وكيف ظهر إلى الوجود؟
    في الواقع، قصّة القداس أشبه ما تكون برواية بوليسية تمتلئ فصولها بكلّ عناصر الغموض والتشويق والإثارة. ولنبدأ القصّة من أوّلها..
    في احد أيّام شهر يوليو من عام 1791، وهي السنة التي توفّي موزارت في نهايتها، حدث شيء غريب. فقد زاره في بيته وهو على فراش المرض شخص مجهول قدّم نفسه على انه مبعوث من الكونت فون والسيغ. ولم يكن لموزارت سابق معرفة لا بالكونت ولا بالشخص الذي أرسله.
    وأبلغ المبعوث موزارت بأن سيّده يريد تكليفه بتأليف قدّاس جنائزي يحيي به ذكرى زوجته المتوفّاة. ثمّ دفع الرجل نصف المبلغ مقدّما، وأصرّ على أن يظلّ اسمه واسم سيّده مجهولا.
    كان الكونت فون والسيغ شخصا غريب الأطوار. وقد دخل التاريخ كمحتال ولصّ. كان عازف حجرة هاويا، وكان من عادته أن يكلّف المؤلّفين سرّا بتأليف أعمال موسيقية ثمّ يستلمها وينسبها لنفسه.
    وقد دأب الرجل على إقامة حفلات موسيقية لأصدقائه في منزله كان يعزف خلالها تلك الأعمال المسروقة زاعما انه هو من ألّفها. وفي حالة موزارت أيضا، من الواضح أن الكونت كان يبحث عن شهرة ومجد موسيقيّ لا يستحقّهما عن طريق الادعاء بأن القدّاس من تأليفه.
    موزارت، من ناحيته، قبل التكليف. لكن زيارة ذلك الغريب أنهكت عقله وهدّت جسده الذي كان منهكا أصلا بسبب كثرة العمل والكحول، وأيضا بسبب المرض الغامض الذي سيقتله بعد أشهر.


    بدأ موزارت العمل على القدّاس. وفي الأثناء كانت تساوره الظنون بأن الزائر الغريب لم يكن سوى رسول أتى إليه من وراء القبر وأن الله هو من بعثه وأن الموسيقى ستكون من أجل موته.
    ولهذا كرّس كلّ طاقته لإنجاز العمل. ومن فترة لأخرى، كان ينصرف عنه ليعود للعمل على مؤلّفاته الأخرى. وعندما عاد إلى القدّاس ثانية كان قد أصبح مريضا جدّا. وحينما حضرته الوفاة في فيينا في الخامس من ديسمبر من نفس تلك السنة عن 35 عاما، لم يكن قد انتهى تماما من تأليف القدّاس.
    لكن بعد أيّام من وفاته، كانت أرملته كونستانزا حريصة على أن تحصل على بقيّة الأجر. ولذا قرّرت أن تعهد بالعمل سرّاً إلى عازف آخر كي ينجزه، على أن تسلّمه إلى الكونت كما لو أن موزارت نفسه هو الذي ألّفه بالكامل.
    ومن أوائل من فاتحتهم بالأمر المؤلّف الموسيقيّ جوزيف ايبلر الذي كتب أجزاءً منه قبل أن يعيده إلى كونستانزا. ثمّ سلّمته إلى فرانز سوسماير تلميذ موزارت وصديقه المقرّب الذي أضاف إليه وعدّل فيه بما يناسب طبيعته كـ قدّاس.
    سوسماير كتب الحركات الأربع الأخيرة من القدّاس بما فيها القطعة المسمّاة لاكريموزا، أي الحِداد (الأولى فوق). لكن طريقته في إعادة بناء العمل كثيرا ما تعرّضت للانتقاد، وقيل انه لم يجوّد عمله ولم يكن "موزارتيّاً" بما فيه الكفاية.
    في القدّاس أجزاء مظلمة وتضجّ بالحزن، وأحيانا بالثورة. لكن فيه أيضا أجزاءً مليئة بالسموّ والجمال. خذ مثلا المقطع المسمّى ريكوردير ، أو "تذكّر". الموسيقى هنا حميمة، رقيقة وذات جمال فتّاك. ثمّ إن هذا المقطع يمثّل الرؤية الوحيدة في القدّاس عن عالم لم يفسده الألم والحزن؛ لحظات عابرة من الصفاء لا تدوم طويلا. والحقيقة أن هناك غموضا فاتنا في هذا الموسيقى التي تحرّك الوجدان وتهزّ المشاعر بعمق.
    بموازاة قصّة موزارت مع الكونت، راجت أسطورة أخرى لا تقلّ إثارة. وقد بدأت هذه الأسطورة بعد وفاة موزارت بأربعين عاما، أي عام 1830، عندما كتب الشاعر الروسيّ الكسندر بوشكين دراما قصيرة بعنوان "موزارت وسالييري"، زعم فيها أن الأخير قام بتسميم موزارت عند إتمامه القدّاس. ثم تعزّزت القصّة أكثر عندما ألّف الموسيقيّ الروسيّ ريمسكي كورساكوف قطعة تتحدّث عن تلك المؤامرة المزعومة.
    في فيلم "اماديوس" للمخرج ميلوش فورمان، يظهر سالييري وهو يأخذ القدّاس من موزارت وينسبه لنفسه. وسالييري يُصوّر في الفيلم كشخص نذل وحاقد وحسود يسعى لإبعاد موزارت عن الرعاة والجمهور قبل أن يقوم بقتله بالسمّ.
    أما موزارت فيظهر في الفيلم كشخص غير ناضج ومجنون ومهووس بالجنس والشراب. وهذه الأوصاف في الحقيقة ليست بلا أساس. فموزارت كان، من عدّة وجوه، يشبه الطفل في تصرّفاته، تماما كما هو الحال مع معظم العباقرة.
    طبعا اليوم ليس هناك سوى عدد قليل ممّن يؤمنون بنظرية المؤامرة والسم. صحيح أن ثمّة من يقول إن سالييري اعترف بالجريمة، لكن هذا حدث بعد أن أصبح شيخا هرِما وبعد أن أصابه الخرف بعد محاولة انتحار. غير أن المقرّبين منه ظلّوا ينكرون تماما انه صدر منه مثل ذلك الاعتراف.
    وعلى الأرجح فإن موزارت مات متأثّرا بإصابته بمرض مُعدٍ بعد أن أنهك جسده لأشهر بسبب إسرافه في الكحول ومعاناته من مرض السيفلس.

    Credits
    classicalnotes.net
    baroque.org

    الثلاثاء، مارس 24، 2015

    خواطر في الأدب والفن

    فيرمير والبيوت الهولندية


    صور البيوت الجميلة والنظيفة والمرتّبة في الرسم الهولندي كانت تأكيدا على ولادة أمّة جديدة ومبتهجة يديرها التجّار الموسرون وليس الملوك.
    البيت الهولندي نفسه كان يمثّل بلدا منظّما مرّ بحروب طويلة. وقد رافق موضة رسم منازل الطبقة الوسطى في هولندا عهد من السلام والرخاء بعد توقيع معاهدة مونستار عام 1648 والتي نالت هولندا بموجبها استقلالها عن الحكم الاسباني بعد حرب الثلاثين عاما.
    وطبعا كان من عادة الرسّامين الهولنديين أن يُظهروا براعتهم في التقاط الأضواء الرائعة على الأسطح والنسيج. وأيضا كان من عادتهم أن يتلاعبوا بمخطّطات وديكورات المنازل التي يرسمونها كي تناسب أهواءهم وتفضيلاتهم الخاصّة.
    وبمعنى ما فإن هذه اللوحات هي المعادل النقيض للصخب والضجيج الذي نشعر به في الحياة الحديثة، وهذا احد أسباب جاذبيّتها الساحرة والمستمرّة.
    وفي الواقع لا احد ينافس يوهانس فيرمير في براعته في استدعاء نوعية الصمت والوقت البطيء في مناظره. ولوحاته تستكشف العلاقة بين الداخل والخارج، وبين العامّ والخاصّ.
    في لوحته صانعة الدانتيل ، يُدخل فيرمير إحساسا بالرواية والسرد ويبتعد عن الاستعراض. هذه اللوحة تتميّز بسكونها وجمالها العميق. وهي تصوّر امرأة مستغرقة مع نفسها.
    وبعض تفاصيل اللوحة يمكن اعتبارها تجريدية، مثل البقع المتطايرة من الأبيض والأحمر التي تمثّل الخيوط الملوّنة والتي تنهمر من الأريكة الزرقاء مثل شلالات صغيرة.
    بعض نساء فيرمير اللاتي كان يرسمهن في لوحاته يُخيّل إليك أنهن يدعين المتلقّي لإلقاء نظرة. ومن الغريب أن مثل هذه المناظر ما تزال تفتننا إلى اليوم. وبطبيعة الحال نفترض أنها كانت مرغوبة في ذلك الزمان.
    لكن الكثيرين اليوم قد لا يرتاحون أو لا ينجذبون كثيرا لهذه الصور، باعتبار أنها لم تكن أكثر من تهويمات مبتذلة لطبقة بورجوازية متأنّقة وفخورة ببيوتها وكلّ همّها أن تستعرض مقتنياتها لإظهار كم أنها قويّة ومتنفّذة.

    ❉ ❉ ❉

    طبيعة قطبية


    هناك احتمال أنه سبق لك من قبل وأن شاهدت فيلما وثائقيا واحدا على الأقلّ يتناول طبيعة المناطق القطبية ونوعية الحياة السائدة هناك. وأنتاركتيكا هي أكثر القارّات صمتا على هذا الكوكب، وهذا يعني "أن بإمكانك أن تسمع صوت الله هناك بشكل أفضل"، على حدّ وصف احد الكتّاب.
    الجمال الغريب للمناطق القطبية ظلّ ولوقت طويل يثير مخيّلة المستكشفين والكتّاب والفنّانين وحتى الناس العاديين.
    في عام 1818، أنهت الكاتبة البريطانية ميري شيللي روايتها المشهورة "فرانكنشتاين" بمشهد للطبيب وهو يطارد المخلوق الغريب في أراضي القطب الشمالي. كما ضمّن ادغار آلان بو القارّة القطبية في سرده لقصّة "آرثر غوردون بيم" عام 1838م.
    المغامرات الاستكشافية في أراضي القطب هي مزيج من الفضول العلمي والمشاعر القومية وروح المغامرة. وكلّ هذه الأشياء نقلها الفيلم الوثائقي ساوث "أو الجنوب" المنتج عام 1919. والفيلم عبارة عن تسجيل لرحلة آرنست شاكلتون عام 1915، مع لقطات تحبس الأنفاس لسفينته التي سحقها الثلج ببطء.
    وفي فيلمه الوثائقي الرائع لقاءات عند نهاية العالم ، واصل فيرنر هيرتزوغ هذا التقليد وأضاف لهذه الملحمة عنصرا جديدا، عندما صوّر النظام البيئيّ الهشّ للقطب وهو يتعرّض للتهديد بسبب الاحتباس الحراري.
    على جبهة الرسم، ثمّة رسّامون كثر صوّروا المناظر الطبيعية في القطب، بدءا من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. ومثال هذا لوحة الشفق القطبي في استراليا لجورج مارستون الذي رافق شاكلتون في رحلته المشئومة، وكذلك لوحة الرسّام البريطاني جورج تشيمبرز بعنوان مياه القارّة القطبية من عام 1834.
    لكن وليام برادفورد كان أفضل رسّام رسم تلك النواحي. ولأنه كان يزور المناطق القطبية بانتظام محاولا ترجمة تضاريسها غير العاديّة، فقد صوّر بطريقة درامية الأخطار التي يتعرّض لها البشر الذين يغامرون بالدخول إلى ذلك العالم المرعب.
    ومن أهمّ اللوحات الأخرى ذات الصلة بطبيعة القطب لوحة الشفق القطبي لفريدريك تشيرش. وقد أخذ هذا الرسّام التسامي الرومانتيكي بعيدا عن أرضه المألوفة، أي جبال الألب الأوربّية وغرب الولايات المتحدة التي كان يحتفي بها الرسّام البيرت بيرستادت.
    تشيرش سافر إلى أدغال وبراكين أمريكا الجنوبية. وفي عام 1861، انتقل إلى لبرادور ونيوفاوندلاند كي يرسم جبال الجليد ، وكرّر رسم تلك الفكرة مرارا.
    وهناك رسّامون كثيرون ضمّنوا مثل تلك المناظر بشرا يناضلون بطريقة بطولية للتأكيد على عنصري الخطر والشجاعة، بينما كان تشيرش يعبّر عن الرهبة من منظر الطبيعة، وهي القوّة التي تقزّم طموحات البشر.
    ومثل تلك اللوحة مفهومة في سياق ظروف القرن التاسع عشر. لكنها أيضا يمكن أن تعبّر اليوم عن المخاوف البيئية لإنسان العصر الحديث.
    التفاوت في الحجم بين حضور الإنسان وروعة الطبيعة أكثر دراماتيكية في لوحة الشفق القطبي. في هذه اللوحة المدهشة تبدو السفينة مثل خيط باهت في بحر من الألوان الفيروزية والذهبية والحمراء. المروحة الناريّة من الأضواء الملوّنة في السماء والمرتفعة من كتلة مركزية في الظلّ.. مذهلة.

    ❉ ❉ ❉

    شتراوس: ملك الفالس


    في بدايات سماعي للموسيقى الكلاسيكية، أذكر أن أوّل مقطوعتين سمعتهما للموسيقيّ النمساوي يوهان شتراوس الابن كانتا معزوفتيه الجميلتين حكايات من غابات فيينا والدانوب الأزرق "فوق". والحقيقة أن المعزوفات الراقصة لهذا الموسيقيّ مألوفة كثيرا ومعروفة في كلّ مكان من العالم تقريبا.
    اسم شتراوس ارتبط بروسيا، حيث قابل هناك في العام 1868 فتاة ثريّة، وغيّر ذلك اللقاء حياته إلى الأبد. لكن تلك قصّة سنأتي على تفاصيلها بعد قليل.
    شتراوس الثاني، كما يُسمّى في أوساط الموسيقى الكلاسيكية، كان يحاول أن يُثبت للعالم انه ملك موسيقى الفالس وأنه أحقّ بهذا اللقب من والده الذي يحمل أيضا نفس الاسم والمعروف في النمسا كواحد من أشهر مؤلّفي الموسيقى الكلاسيكية الموهوبين.
    شتراوس الأب فعل الكثير لموسيقى الفالس واستطاع أن يحصل على شهرة واسعة، ليس فقط في فيينا، وإنّما أيضا في كافّة أنحاء أوربّا.
    أطفاله الذين ولدوا في العائلة لم يكونوا غالبا يرون والدهم. وبالإضافة إلى ذلك، كانت له خليلة أنجبت له عددا من الأطفال، لكن شتراوس الأب لم يكن يخجل من ذلك أو يشعر بالذنب.
    وقد اقسم الصغير يوهان ذات مرّة أن يتفوّق على والده. كان جريئا ويعمل بجدّ، وقد ثابر على دراسة الموسيقى مخفيا طموحاته عن والده.
    وسرعان ما أصبح الصبيّ عازفا مشهورا. وقد دعاه السفير الروسيّ في فيينا لزيارة سانت بطرسبورغ ليحيي حفلات موسيقية فيها. وسُرّ لعزفه الجمهور هناك، كما دعته العائلات الموسرة في المدينة ليحيي حفلاتها الخاصّة.
    كان الاستماع إلى شتراوس نوعا من التميّز. وهو كان عاشقا حقيقيا للنساء. وقد أعجب بنساء روسيا ومنحهنّ الكثير من وقته. وذات يوم، قابل امرأة ارستقراطية اسمها اولغا سمارنيتسكايا. وقد طلبت منه أن يؤلّف موسيقى تحكي قصصها الغرامية التي تستند فيها إلى قصائد لشعراء روسيا المشهورين. وبسبب ذلك اللقاء ولدت سيمفونيّته المسمّاة "حبّ روسيّ".
    وقد تبادل كلّ من شتراوس وسمارنيتسكايا الرسائل الغرامية، وما تزال حوالي مائة من هذه الرسائل محفوظة إلى اليوم. وبعض مؤلّفاته الموسيقية استوحاها من قصّة الحبّ التي جمعته مع تلك المرأة، مثل وداعاً سانت بطرسبورغ وغيرها.
    كان شتراوس يتوق للزواج من أولغا. لكن عائلتها ظلّت ترفض الفكرة على أساس أن شتراوس لم يكن نبيلا وإنّما أتى من عائلة فقيرة. أما موهبته الموسيقية فعلى ما يبدو لم تكن ذات أهمّية بالنسبة لوالدي الفتاة.
    اولغا الحائرة لم تستطع أن تتصرّف خلافا لرغبة والديها. ومع ذلك طلب منها شتراوس أن تهرب معه إلى فيينا، لكنها رفضت ذلك بإصرار. وعاد هو إلى النمسا بمفرده. لكنه لم يستطع نسيانها أبدا. كان يعاني كثيرا بسبب ولعه بها، وفي نفس الوقت كان يحلم برحلة أخرى إلى روسيا.
    وقد كتب إليها في الأيّام الأولى لفراقهما رسالة يقول فيها: احبّك بجنون. ومن المستحيل أن أعيش بدونك. لا توجد متعة لي في هذه الدنيا ولا أمل اكبر من اللقاء بك".
    وبعد ذلك بعام، عاد إلى روسيا ليرى اولغا، وطلب منها الزواج مجدّدا. لكنها رفضت لأنها لا تريد إغضاب والديها. وغادر هو عائدا إلى النمسا. وبعد أشهر علم أنها تزوّجت من شخص آخر ثريّ يعمل بالمحاماة. ولكي ينسى القصّة، بدأ يواعد النساء، وبعد سنوات بدأت فيينا تتحدّث عن مغامراته.
    وعلى كلّ حال، تزوّج شتراوس في النهاية. كانت زوجته امرأة تكبره بسبع سنوات، ممثّلة وأمّ لعدد من الأطفال. وقد عاشت معه ستّة عشر عاما كانت خلالها الزوجة الوفيّة والمخلصة. وعندما ماتت صُدم، لكنه لم يلبث أن تزوّج من امرأة أخرى. وزوجته الثانية كانت هي أيضا ممثّلة شابّة. واستمرّ زواجه منها حتى وفاته بالالتهاب الرئوي عام 1899.

    ❉ ❉ ❉

    عالم صغير وملل كثيرة


    هذا العالم صغير جدّا، اصغر من أن نتجاهل نحن البشر بعضنا البعض. ومع ذلك فمعظمنا لا يعرف أيّ شيء سوى دينه أو مذهبه الضيّق، ولا يعرف شيئا عن أديان ومعتقدات الآخرين أو عن الدين السائد في المكان الذي يقيم فيه.
    وعندما نروّج للصور النمطية عن البشر الذين يختلفون عنّا (كالقول هؤلاء كفرة عبدة صليب وأولئك مجوس مشركون وهؤلاء مارقون أو أهل بدع وضلالات.. إلى آخر تلك الأوصاف الفجّة والغريبة) بسبب أننا لا نعرف عن معتقداتهم وعنهم الكثير ولا نعي أن الله وحده هو من يحكم على العباد، فإن تلك الصور النمطية تُبقينا محبوسين داخل أقفاصنا وسجوننا.
    وعندما تعمد إلى تصنيف الآخر وإقصائه لأنه مختلف عنك، وليس بالضرورة لأنك أفضل منه أو لأن دينك أو مذهبك اصحّ من دينه أو مذهبه، فإنك بنفس الوقت تحكم على نفسك بالإقصاء والنبذ وتصبح بنظر الأسوياء والعقلاء شخصا متحجّرا ومنغلق العقل.
    كيف يمكن أن تحبّ جيرانك دون أن تعرف وتحترم وتقدّر ما يعتبرونه مقدّسا وعزيزا على أنفسهم؟
    عندما نقترب من الآخرين ونراعيهم ونحترمهم، فإننا نسهم في تعزيز روح السلام والتسامح بين بني الإنسان وفي جعل الأرض مكانا أفضل للعيش.
    وأختم بعبارة قرأتها مؤخّرا وأعجبتني تقول: التسامح ليس معناه ألا يكون لك دين أو معتقد، بل كيف يوجّهك دينك عندما تتعامل مع الناس المخالفين لك".

    Credits
    essentialvermeer.com
    johann-strauss.org.uk

    الأربعاء، مارس 11، 2015

    ألوان إل غريكو


    رغم اسمه المستعار الذي يعني "الإغريقي"، فإن إل غريكو لم يكن يسمّي نفسه "اليوناني"، بل كان يوقّع لوحاته باسم "الكريتي" نسبة إلى جزيرة كريت حيث وُلد.
    لوحات هذا الرسّام عندما يعاد استنساخها تموت. ولا يوجد رسّام آخر يمكنه أن يعيد إنتاج ذلك اللون البنفسجي الفانتازي أو الأزرق السماوي بمثل تلك الروعة والدقّة.
    وإذا كان هناك من لا يزال يفضّل نكهة لوحات إل غريكو، فإن أفضل مكان لتذوّق صوره هو طليطلة؛ المدينة التي وصلت فيها موهبته الفنّية إلى أوجها.
    وخيال إل غريكو يمكن مضاهاته بالطابع الفخم لمباني هذه المدينة. وفقط في طليطلة بإمكاننا أن نرى كيف أن مناظره الغيمية في السماء وعلى الأرض استفادت من الدراما المتحوّلة التي كانت تحدث في الجوّ فوق رأسه.
    ورغم ذلك، فإن الرجل الذي قضى النصف الأوّل من حياته على ارض جزيرة كريت مسقط رأسه لم يستطع أبدا محو ذكرى ألوان الجزر اليونانية المشبعة بأشعّة الشمس. وهذه الألوان تتردّد كثيرا في أعماله كاللون الفيروزي لمياه بحر ايجه، واللون الأصفر البرّاق لأزهار المارغيتا التي تفترش حقول كريت في بدايات الصيف، واللون البنفسجيّ الساحر والهشّ لشقائق النعمان الذي حوّله إلى شال يغطّي الرأس الأحمر لمريم المجدلية في إحدى لوحاته المبكّرة والفخمة "فوق".
    في طليطلة عاش إل غريكو حياة بسيطة واستطاع التكيّف بسرعة مع أجواء هذه المدينة التي شُيّدت في الأساس من امتزاج الثقافات الإسلامية واليهودية والمسيحية.
    الموقع الجغرافيّ الدراماتيكي لطليطلة مكّن الرسّام من ابتكار حيل لا نهاية لها للتلاعب بالسماء والغيوم والطبيعة.
    من ناحية أخرى، كانت كريت، اكبر الجزر اليونانية منذ العصر البرونزيّ على الأقل، عالما منعزلا ثقافيّا وسياسيّا. وفي القرن السادس عشر، كان معظم البرّ الكريتي واقعا تحت سيطرة الحكم العثماني. وفي زمن إل غريكو كانت كريت تُحكم من قبل حامية عسكرية كانت تشكّل عُشر عدد سكّان الجزيرة.
    الرسّام الايطالي تيشيان ربّما كان النموذج المفضّل عند إل غريكو. غير أن تعامل غريكو مع الألوان الزيتية يعكس أيضا دراسته عن قرب لأسلوب تنتوريتو، الرسّام الايطالي الآخر المشهور بقطعه اللامعة من الطلاء والتي تحاكي منظر تساقط المطر.
    ولا بدّ وأن فينيسيا كانت المكان الذي بدأ فيه إل غريكو جمع الكتب، ومعظمها كان باليونانية والايطالية. كان يمتلك مكتبة تحتوي على العديد من الكتب. ولم يكن يشتري الكتب للزينة أو التباهي، بل كان يقرؤها بعناية ويسجّل أفكاره الخاصّة في هوامشها. وقد اشترى، من ضمن ما اشترى، نسخة من كتاب جورجيو فاساري "تاريخ الفنّانين" وملأ هوامشه بملاحظاته وتعليقاته بالايطالية.
    ويبدو أن إحساسه بالأبوّة كان العلامة الأكثر عمقا في حياته. فقد أسره منذ البداية جمال نساء طليطلة. وبعد عام من وصوله إليها، كانت إحداهنّ، واسمها هيرونيما ، قد حملت منه بطفل. لكن إل غريكو والمرأة لم يتزوّجا أبدا. ويبدو أنها توفّيت بعد وقت قصير من ولادة طفلهما.
    هذا الطفل هو جورج مانويل الذي سيظهر في ما بعد على هيئة صبيّ أنيق وجميل الملامح في تحفة إل غريكو المسمّاة دفن كونت اورغاس .


    في الرسم الاسباني كان من النادر أن ترى منظرا طبيعيّا. وهذه الندرة يمكن عزوها للتاريخ الإسبانيّ نفسه. فحركة الإصلاح الكنسيّ المضادّ في اسبانيا القرن السادس عشر كانت تتّخذ موقفا معارضا بشدّة من الأفكار الكلاسيكية والانسانوية.
    والعقيدة الكاثوليكية ذات التفسير المتشدّد للدين كانت تنظر إلى موضوع الطبيعة البشرية، والطبيعة إجمالا، على انه منحطّ وفاسد. وأن تتأمّل جمال الطبيعة، معناه أنك تشغل نفسك بفعل من أفعال الزندقة والوثنية. ونتيجة لذلك، ظهرت أنواع عدّة من رسم الطبيعة.
    لكن خلال النصف الثاني من القرن السادس عشر، أي عندما أتى إل غريكو ليعيش في اسبانيا، اكتسح تيّار صوفي وغنائيّ اسبانيا. وبدلا من رسم الأرض خضراء ومضيافة، بدأ الرسّامون يستخدمون الطبيعة كمكان للأحداث المقدّسة.
    وفي مناظر إل غريكو الطبيعية يمكن أن نرى هذه العاطفة المشبوبة. فأسلوبه العصبيّ والصوفيّ والرؤيويّ في الرسم لا يعبّر فحسب عن المناخ الفكريّ والثقافيّ لعصره، وإنّما أصبح بعد قرون نموذجا للجيل التالي من الرسّامين الاسبان، بمن فيهم دي غويا وثولواغا وبيكاسو ودالي وخوان ميرو وغيرهم.
    اسبانيا بدأت رحلة أفولها الطويل كقوّة عالمية مهيمنة ابتداءً من النصف الثاني من القرن السابع عشر. وخلال تلك الفترة من العزلة النسبية، ظلّت البُنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية القديمة على حالها، الأمر الذي عطّل عمليات تحديث البلاد. ومقاومة التغيير هذه أنتجت عادات وثقافة وفنّا متفرّدا ومختلفا عمّا كان موجودا في بقيّة البلدان الأوربّية.
    المناظر الطبيعية الاسبانية أصبحت تجسّد العمود الفقري لهويّة البلاد. والكتّاب والفنّانون في أواخر القرن التاسع عشر رفعوا ذلك النوع من الرسم إلى مستويات من التقشّف والقوّة وأصبح مزيجا من الصور الأسطورية والتاريخية المستمدّة من الأحداث العظيمة من الماضي. وصار الرسم الاسباني للطبيعة يعبّر عن التاريخ الوطني، وأيضا عن الروح الفردية والجماعية.
    رؤية إل غريكو كانت متجذّرة في تجاربه الشخصية وفي المناخ الديني لحركة الإصلاح المضادّ، أي عندما كانت البروتستانتية تشكّل تهديدا للكنيسة الكاثوليكية.
    ولوحاته تبدو عاطفية مع تشوّهات مستطيلة واستخدام بارع للضوء والعتمة وإحساس قويّ بالحركة. في لوحته عن القدّيس يوحنّا ، وهي إحدى آخر لوحاته وأكثرها غموضا، يرسم شخصية هذا الناسك وهو يرفع يديه بالدعاء إلى السماء. وفي الخلفية تظهر سماء مضطربة وقطع من الحرير الأصفر والأخضر المنسدل وراء الأشخاص.
    هذه اللوحة تصوّر حادثة من الإنجيل. والرسّام ضمّن رؤيته عن القصّة تشويها للأشكال وتحوّلات لنقاط الرؤية وضوءا مسرحيّا وطاقة روحانية ومظهرا ديناميكيا. وقد عمل على اللوحة لستّ سنوات وحتى وفاته في العام 1614م.
    كانت تلك أصعب سنوات حياة إل غريكو. كان وقتها يعاني من الإفلاس المالي ومن أفول نجمه قبل الأوان. ولأنه كان بلا دخل ثابت أو موارد، فقد واجه غائلة الفقر والحاجة. ولا بدّ وأن الأمر تطلّب منه إيمانا لا يُصدّق كي ينجز هذه اللوحة الرؤيوية المتميّزة.
    المعروف أن هذا العمل تعرّض للإهمال، وأحيانا للتخريب. وما نراه اليوم ليس سوى جزء بسيط من اللوحة الأصلية التي ضاع الجزء العلوي منها مع تغيّر الظروف وتقادم الزمن.

    Credits
    guggenheim.org
    nybooks.com

    الاثنين، سبتمبر 22، 2014

    لوحة لها تاريخ

    لوحة رافائيل "مادونا دير سان سيستو"، أو "عذراء كنيسة سيستين" كما تُسمّى أحيانا، اعتُبرت دائما ذات مكانة خاصّة بين الأعمال التشكيلية العالمية. وعلى مرّ القرون، أضفي على اللوحة طابع من القداسة والتبجيل، وكُتب عنها الكثير من المقالات والدراسات والأشعار.
    وهناك العديد من الأساطير التي تحيط بهذه اللوحة. يقال مثلا أن رافائيل رسمها بعد أن رأى تفاصيلها في حلم، وأن بعض مرضى فرويد مرّوا بحالة من النشوة الدينية بعد أن رأوها. وكان للوحة تأثيرها على كلّ من غوته وفاغنر ونيتشه. كما اعتبرها دستويفسكي "كشفا مهمّا عن الروح الإنسانية".
    في عام 1768، وكان غوته وقتها ما يزال طالبا يدرس القانون ولم يصبح بعد فيلسوفا وشاعرا مشهورا، دخل لأوّل مرّة إلى متحف الفنّ الجديد في دريسدن حيث توجد اللوحة. وقد وصف ما رآه هناك بقوله: الصمت العميق كان مخيّما على المكان. كان الأمر أشبه ما يكون بذلك الإحساس العميق بالهدوء والطمأنينة الذي ينتابك عندما تدخل دارا للعبادة. وهذا الشعور يتعمّق أكثر فأكثر كلّما تأمّلت الصورة التي على الجدار".
    بالنسبة لغوته، كانت رؤية هذه الصورة نوعا من التجربة الدينية. ولا بدّ وأنه تعامل معها بقدر من القدسيّة والتأمّل الصوفي. كان يتأمّل مثل هذه القطع الفنّية في سياق الطقوس الدينية الفعلية. وبالنسبة له، لم تكن المادونا مجرّد عمل فنّي، بل كانت وقبل كلّ شيء صورة تعبّدية لها غايات طقوسية معيّنة.
    ولكن، كيف اكتسبت اللوحة كلّ هذه الأهميّة بعد النسيان التام الذي عانته في سنواتها المبكّرة عندما كانت لوحة متواضعة في دير بإيطاليا؟!
    لنبدأ القصّة من أوّلها..
    ولد رافائيل "واسمه الأصلي رافائيلو سانشيو" في اوربينو، وهي مدينة تقع وسط ايطاليا. وقد درس الرسم على يد بييترو بيروجينو الذي منح رافائيل لقب معلّم واعتبره رسّاما ناضجا وهو لم يتجاوز الثامنة عشرة آنذاك.
    بعد أن أصبح رافائيل مشهورا في جميع أرجاء ايطاليا، دعاه البابا جوليوس الثاني لزيارة روما وكلّفه برسم جدارية في مكتبته في قصر الفاتيكان.
    كانت حظوظ رافائيل في روما أفضل من حظوظ ميكيل انجيلو الذي استغرق وقتا أطول قبل أن يعرفه الناس. ولهذا السبب، قيل إن ميكيل انجيلو كان يضمر شيئا من الحسد والكراهية لرافائيل، حتى قبل أن يقابله، بل لقد اتّهمه بالسرقة والتآمر ضدّه.

    البعض يشبّه رافائيل بفيدياس النحّات الاثيني الذي أشرف على بناء معبد البارثينون، الرمز الباقي لليونان القديمة. الإغريق يرون أن فيدياس لم يبتكر شيئا من عنده، بل جمع ومزج كلّ ما ابتكره الذين أتوا قبله لينجز في النهاية مستوى عاليا من التناغم والإحكام. وهذا هو بالضبط ما حقّقه رافائيل في أعماله التي كانت تبدو جديدة ومبتكرة بالنسبة لمعاصريه.
    في عام 1511، تلقّى رافائيل تكليفا من البابا جوليوس كي يرسم جدارية في دير سان سيستو في بياتشينسا، شرط أن تتضمّن شخصيّات مثل القدّيس سيستوس البابا السابع للكنيسة، والقدّيسة باربرا وهي امرأة عاشت في القرن الثالث للميلاد واستشهدت بسبب دفاعها عن معتقداتها، ويعرفها مسيحيّو الشرق باسم "باربارة" ولها عيد سنويّ باسمها.
    وبالفعل بدأ الفنّان تنفيذ المهمّة، فرسم جدارية تظهر فيها المادونا وهي تمسك بطفلها بينما تقف على بساط من الغيم. ثم رسم على يمينها سيستوس وهو ينظر إليهما ويشير إلى الناظر، بينما تاجه المثلّث موضوع عند قدميه، في إشارة إلى تواضعه إذ يرفض رمزا من رموز السلطة.
    من الأشياء اللافتة في هذه الصورة أن المادونا تبدو غير مبالية أو مكترثة بالناظر. ما من شكّ في أن ملامحها جميلة وأن الفنّان رسمها بطريقة ناعمة، غير أنها اقلّ الشخصيات في اللوحة إثارة للاهتمام.
    ومن الأسئلة التي تثار دائما: لماذا المادونا وطفلها يبدوان في مزاج حزن وحداد؟ ربّما يكمن السبب في أن الطفل كان يرى موته وأن أمّه ستكون شاهدة على تلك النهاية الحزينة.
    وإلى يمين اللوحة، تظهر القدّيسة باربرا ذات الملامح الجميلة والهادئة وهي تجثو على ركبتيها لتلقي نظرة على أروع شخصيات اللوحة، أي الملاكين الصغيرين عند قدميها.
    الملاكان المجنّحان الصغيران يُعتبران لوحدهما قصّة مثيرة للاهتمام. وقد تحوّلا إلى أشهر ملاكين في تاريخ الرسم، وصارت لهما حياة خاصّة بمعزل عن اللوحة منذ أصبحا يُستنسخان لوحدهما على الورق والبورسيلين منذ نهاية القرن الثامن عشر. ويبدو أن الثقافة الحديثة جعلت الملاكين الصغيرين هما ما يربط الناس باللوحة. إذ يمكن العثور عليهما اليوم مطبوعين على الأدوات المكتبية والمنزلية وعلى ورق التغليف والسيراميك والصيني في العديد من الأماكن حول العالم.

    لكن صورة الملاكين مطبوعة أيضا في عقول الكثيرين بنظراتهما الحالمة المتّجهة إلى السماء. ويقال أن رافائيل استلهمهما من صورة صبيّين رآهما في الشارع وهما يتسوّلان الطعام. لكن يقال أيضا أن الموديل التي قامت بدور القدّيسة كان لها طفلان وكانت تجلبهما معها إلى محترف الفنّان بينما كان يرسمها. النظرات الملولة على وجهيهما ربّما توحي بإحساسهما بالسأم وهما يريان أمّهما تجلس لساعات طويلة أمام الرسّام.
    الأطفال الصغار بأجنحة يمكن رؤيتهم بوفرة في لوحات عصر النهضة وعصري الباروك والروكوكو. ووجود ملاك صغير في لوحة هو رمز للحبّ، سواءً كان حبّا إلهيا أو ذا طبيعة أرضية. وبطبيعة الحال، لا يمكن أن ترى ملاكا دميما، فهو دائما جميل جدّا لدرجة انك تريد أحيانا أن تحتضنه.
    الأشخاص الثلاثة الرئيسيون في هذه اللوحة يظهرون في فراغ تخيّلي محاط بستارة ثقيلة تفتح على مشهد سماويّ. والثلاثة تجمعهم علاقة صورية متوازنة ومتناغمة، بينما يحتلّ كلّ منهم فضاءه الخاصّ. ونسب الوجوه الثلاثة محسوبة بعناية كي تنتج تأثيرا جماليّا، وهي سمة تعزّزها مهارة رافائيل في تمثيل درجات البشرة باستخدام تقنية "الكياروسكورو"، أو التباين القويّ بين الضوء والظلّ.
    رداء القدّيس يتألّف من اللونين الذهبي والأبيض، أي لوني البابا والكنيسة. وفي الخلفية تظهر قلعة وراء الستارة، وهي إشارة إلى أن القدّيسة حُبست في قلعة بسبب إيمانها.
    وهناك هالات حول رؤوس الشخصيات، لكنها لا تّرى إلا بالكاد بسبب بَهَتان وتقادم الألوان بعد مرور كلّ هذه السنوات الطوال. وهناك خلفية وراء الشخصيات رُسمت بنعومة ويظهر فيها ملائكة صغار وهم يمتزجون بالغيم.
    أيضا تتبدّى براعة رافائيل في رسم الستائر المنسدلة. وألوان عصر النهضة توجّه اهتمام الناظر وتضيف دفئا وغنى إلى التوليف.
    في عام 1754، أزيلت اللوحة من مكانها في دير سان سيستو وحُملت عبر جبال الألب لتستقرّ أخيرا في بلاط اوغستوس الثالث ملك بولندا ودوق ليثوانيا.
    كان من المفروض ألا تُنقل اللوحة إلا عندما يحلّ فصل الربيع. لكن عندما تمّت صفقة البيع، لم تمنع ثلوج وأمطار جبال الألب وكلاء اوغستوس من المضيّ في مهمّة نقل اللوحة الثمينة.

    كان اوغستوس مصرّا على أن يضيف هذه اللوحة إلى مجموعته الفنّية. وكان بحوزته لوحات عديدة لرسّامين كثر. لكن كانت تنقصه لوحة لرافائيل. ويقال انه دفع مقابلها مبلغا كبيرا بمقاييس تلك الأيّام.
    وصلت اللوحة إلى عاصمة اوغستوس الثالث في ديسمبر من عام 1754. وفي العام التالي، عُلّقت في غرفة منفردة في متحف دريسدن الملكيّ.
    لكن عند عرضها لأوّل مرّة، كانت لوحة لأنطونيو دا كوريجيو مثار اهتمام الناس في ألمانيا وقتها. لذا تمّ تخزين لوحة مادونا دي سان سيستو بعيدا عن الأنظار طوال المائتي عام التالية. وقبل ذلك لم يكن احد، غير رهبان الدير، قد رأى اللوحة بعد أن أتمّ رافائيل رسمها في العام 1512. حتى جورجيو فاساري مؤرّخ حياة الرسّامين الايطاليين لم يكتب عنها في كتابه سوى سطر واحد يصفها فيه بأنها "عمل نادر وغير عاديّ".
    ومع بداية القرن التاسع عشر، كانت اللوحة قد أصبحت مشهورة، بل وغدت أشهر المادونات جميعا وأشهر لوحة لرافائيل في أوربّا. وبين وقت وآخر، كانت تثير نقاشا لا ينتهي حول علاقة الفنّ بالدين.
    وقد نجت اللوحة من القصف الذي تعرّضت له مدينة دريسدن أثناء الحرب العالمية الثانية، إذ كانت مخزّنة مع أعمال فنّية أخرى في نفق بسويسرا إلى أن عثر عليها الجيش الأحمر.
    وفي عام 1946، أي بعد انتهاء الحرب، نُقلت المادونا إلى متحف بوشكين للفنون في موسكو. وفي عام 1955، أي بعد موت ستالين، قرّر الروس إعادتها إلى ألمانيا كبادرة حسن نيّة وبهدف تحسين العلاقات بين البلدين.
    "لا مادونا دي سان سيستو" يمكن اعتبارها قطعة من التاريخ وتحفة فنّية من ذروة عصر النهضة الايطالي. وهي اليوم إحدى أكثر اللوحات المألوفة للعين، بالنظر إلى أنها استُنسخت عددا لا يُحصى من المرّات وكان لها تأثير على أجيال متعاقبة من مؤرّخي الفنّ وعلى الناس العاديين. وقد احتفل متحف دريسدن الألماني قبل عامين بذكرى مرور 500 عام على رسم اللوحة.

    Credits
    visual-arts-cork.com
    historyofpaintings.com

    الاثنين، مارس 17، 2014

    تاريخ للّيل

    قبل عدّة قرون، كان الليل وقتا مخيفا وخطيرا للغاية. ليلة بلا ضوء قمر يمكن أن تكون مملوءة بالأخطار الحقيقية وغير الحقيقية. وفي هذا الكتاب بعنوان عندما ينتهي النهار: الليل في العصور القديمة ، ينير المؤرّخ روجر ايكيرك جانبا من الحياة تغاضى عنه المؤرّخون، فيسلّط الضوء على كيف كان الناس في أمريكا وأوربّا يقضون لياليهم في فترة ما قبل الثورة الصناعية.
    وفي الكتاب أيضا يتناول المؤلّف مواضيع مثل الخوف من الجريمة ومن القوى الغيبية، وأهمّية ضوء القمر، وازدياد حالات المرض والوفاة في الليل، وتجمّعات المساء لنسج الصوف وتبادل القصص، والحفلات التنكّرية والنزل والحانات وبيوت الدعارة.
    كما يتحدّث عن أعمال الشغب التي كان يقوم بها أشخاص سكارى في منتصف الليل، وعن إغراءات الساعات الأولى من النهار، واستراتيجيات اللصوص والقتلة والمتآمرين، وطرق الحماية من الطلاسم، والتأمّلات والصلاة وطبيعة نوم وأحلام الأسلاف.
    ويبدو أن ايكيرك قرأ كل ما نُشر في أوروبّا وأمريكا الشمالية خلال الخمسمائة عام الماضية، ورجع إلى المئات من كتب التاريخ ومن المقالات واليوميات والرسائل والقضايا القانونية وسجلات المحاكم الجنائية والقصص الطبّية للحصول على معلومات.
    يقول المؤلّف في بداية الكتاب: في أيّامنا هذه التي انتشرت فيها الكهرباء ومصابيح النيون في كلّ مكان تقريبا، من الصعب أن نتخيّل كيف كان الظلام في الأزمنة التي سبقت ظهور الإضاءة الاصطناعية. عند غروب الشمس، كان الظلام يهبط ومعه الخرافات والقلق. وخوفا من اللصوص والقتلة، كانت أبواب البيوت تُحصّن والأدعية تُتلى، وبعد ذلك يأتي نوم خفيف إلى أن يضيء الفجر السماء مرّة أخرى".
    ويمضي الكاتب في وصفه لما كان يحدث في الظلام في البلدان الغربية بدءا من عصر النهضة وحتى معظم القرن التاسع عشر فيقول: كان الليل في الماضي يعني أكثر من مجرّد غياب الضوء. كان عالما آخر بالنسبة لسلوك الإنسان. كانت قبضة السلطة تتراجع مع مغيب الشمس. والحرّاس الليليون يعلنون للناس أن الليل قد انتصف وأن كلّ شيء على ما يرام".
    في ذلك الوقت لم تكن الشرطة قد ظهرت بعد. وكانت عمليات السطو والقتل والحرق العمد شائعة. وكانت عصابات المتسوّلين وحملة السيوف والبلطجية تجوب الشوارع في الليل، ويمكن لأنشطتهم أن تؤدّي إلى عمليات قتل وتدمير.
    وبعض الحالات المسجّلة من ذلك الوقت تتحدّث عن أناس تعثّروا في الظلام وتراجعوا للعيش بعيدا في الخنادق وعلى حوافّ الوديان والأنهار. كما أن عائلات بأكملها كانت في كثير من الأحيان تتشارك في سرير واحد وخال من أسباب الراحة. لكن الرغبة في التقارب وطلب الأمان كانت تفوق الحاجة لأن يتقلّب الإنسان في الفراش أو أن يتنفّس.
    ثم يقدّم الكاتب حكايات تاريخية وفيرة لشرح التهديدات التي كان يمثّلها الليل. فحكم القانون يتعطّل إلى حدّ كبير ليلا، لذلك كانت الجريمة متفشّية. وإذا احتجت ضوءا أو تدفئة، فأنت تحتاج إلى النار التي كثيرا ما تخرج عن السيطرة عندما يكون الجميع نائمين.
    كان الظلام يعزل كلّ عائلة عن بقيّة العالم ويتركها عرضة للمجهول. وكان مدهشا ذلك العدد الكبير من المخلوقات الليلية الخطرة التي ابتكرها العقل الخرافيّ وشجّعتها الكنائس في فترة ما قبل الثورة الصناعية، كالغيلان والأشباح والشياطين والملائكة الساقطين والجان والجنّيات والذئاب على هيئة بشر.. إلى آخره.
    لكن كانت المخلوقات الليلية الأكثر إثارة للرعب هي السحرة والشيطان نفسه الذي يبدو أنه كان يُمضي قدرا كبيرا من وقته في التجوال في شوارع وطرقات أوروبّا ما قبل الثورة الصناعية مُصدِرا أصواتا غريبة تدبّ الذعر في قلوب السكارى العائدين إلى بيوتهم من الحانات.
    وفي معظم أنحاء العالم الغربيّ، كان مجرّد الخروج ليلا يثير الامتعاض، بل ويعتبر أمرا غير قانوني أحيانا. ولكن كانت هناك استثناءات، كالحرّاس الليليّين والمومسات والخبّازين وصنّاع الزجاج الذين يُبقون على النار مشتعلة وعمّال تنظيف الشوارع وحفّاري القبور وسواهم.
    وعلى الرغم من كلّ هذه المخاطر، لم يكن جميع الناس يلزمون بيوتهم ليلا. كان هناك منهم من يشعر بأن الليل يرخي ستارته على العالم المرئيّ ويتيح لهم التحرّر من قيود المجتمع. لذا كان الليل أيضا وقتا للمتعة. وكان بعض الناس يجتمعون في الظلام لإحياء الحفلات أو الذهاب إلى الحانات أو لإحياء بعض الطقوس الوثنية وغيرها من الأنشطة التي كانت تثير امتعاض رجال الدين.
    وعلى الرغم من أن المؤلّف يؤكّد في أكثر من مكان من الكتاب الشكوك بأن وقت الليل في الأزمنة المبكّرة كان خطيرا وغير مريح، إلا انه يشير إلى أن الليل لم يكن مجرّد خلفية للنّهار أو توقّف للطبيعة، وإنّما كان يجسّد ثقافة متميّزة مع العديد من العادات والطقوس المرتبطة به. كما ان الكاتب يعبّر عن تحفّظات عميقة على الإضاءة المسرفة في عصر الحداثة فيقول: مع تقلّص الظلام هذه الأيّام فإن فرص الخصوصية والعلاقة الحميمة والتأمّل الذاتي أصبحت أكثر ندرة".

    من حسنات هذا الكتاب انه يوفّر معلومات عن مختلف جوانب السلوك البشري في الليل وعن كلّ ما يرتبط بالليل في الماضي، من الفراش، إلى عادات النوم، إلى جهود الإنسان المبكّرة لخلق ضوء. كما يأخذنا في وصف مفصّل للشموع بمختلف أنواعها، وللمصابيح التي تحترق بزيت الحوت وبغاز الفحم، مع أوصاف لوسائل الحصول على الضوء والدفء كالسماد والخشب والجفت والفحم.
    ولا ينسى الكاتب أن يضمّن الكتاب أيضا فصولا عن الأحلام، وعن تفاصيل تأمين المساكن ضدّ أخطار الليل، وعن الزيارات الليلية إلى الحانات، وعن الإرهاب الذي يتعرّض له من يضطرّ إلى السفر ليلا.
    وقد جمع المؤلّف الكثير من المعلومات والاستشهادات من الأدب والاجتماع والسياسة. يذكر، على سبيل المثال، أن المفكّر والفيلسوف الانجليزي توماس هوبز كان يتهيّب من الاستلقاء وحيدا في الليل، ليس خوفا من الظلام وإنّما من مجرم قد يقتحم عليه البيت فجأة ويقتله من اجل حفنة جنيهات.
    وفي مكان آخر، يوثّق الكاتب محاولات السلطات في المدن والقرى الأوروبّية فرض النظام على الفوضى الليلية بقوانين حظر التجوّل والحرّاس الليليّين وبوضع قيود على الأسلحة وعمليات التنكّر.
    واستنادا إلى الأدلّة القولية، يشير المؤلّف إلى أنه قبل العصر الصناعيّ كان من الشائع أن ينام الناس مرّتين كلّ ليلة تتخلّلهما فترة صحو قصيرة. كما يصف ممارسة النوم المتقطّع فيقول إن الناس غالبا ما كانوا ينامون لبضع ساعات بعد العشاء ثمّ يستيقظون بعد منتصف الليل للتأمّل والصلاة أو للحديث أو للتدخين أو القراءة أو لممارسة الجنس، ومن ثمّ يستأنفون نومهم حتى الفجر. ويورد فقرة من كتاب بعنوان "أفكار منتصف الليل" نُشر العام 1682 ويقول فيه مؤلّفه: الرجل الصالح لا يجد وقتا يبتهل فيه إلى السماء أفضل من الاستيقاظ في منتصف الليل".
    من ناحيتهم، كان العلماء والمخترعون الأوائل يحلمون بوضع نهاية للخوف الفظيع من الليل وذلك بوسائل مختلفة. من تلك الوسائل، أنهم بنوا للمدن أسوارا ثمّ أضافوا لها أجراسا وحرّاسا يصرخون لتنبيه وطمأنة الناس بأن كلّ شيء تحت السيطرة. وأخيرا ابتدعوا فكرة الإضاءة الاصطناعية على مستوى المدن.
    ولم يكن من الصعب إقناع الحكومات بأهميّة صرف الأموال اللازمة لضمان نشر سيادة القانون في الليل والسماح للمواطنين بأداء أعمالهم التجارية والصناعية مع أقلّ قدر من المخاطر.
    لكن كانت لدى الكنيسة أفكار أخرى بطبيعة الحال، لأن الخوف من الليل كان يصبّ في مصلحتها. وحسب المؤلّف، خاضت كلّ من الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية حربا ضدّ الإضاءة الاصطناعية لأغراض السلامة العامّة، على الرغم من أن الكنيستين أجازتا استخدامها لإنارة الاحتفالات الدينية.
    في ذلك الوقت كتب راهب كاثوليكيّ يقول: إن الله لا يوافق على استخدام الفوانيس". كما حذّر قسّ في لندن الناس بقوله: إننا لا يجب أن نحوّل النهار إلى ليل أو الليل إلى نهار". لكن مع مرور الوقت، انتصر العقل وشرعت كلّ دولة في إضاءة مدنها بدءا بالعواصم. وكانت باريس أوّل عاصمة أوربّية تضيء شوارعها الشموع وذلك في العام 1667. ثم تبعتها أمستردام في عام 1669، فـ برلين عام 1682، ثمّ لندن عام 1683، وفيينّا عام 1688.
    من الأشياء التي يمكن أن تؤخَذ على هذا الكتاب إصرار مؤلّفه على التأكيد على غرائبية الليل. ومن الواضح أن أجندته المعادية للنهار بشكل واضح اختطفت خياله التاريخيّ وقادته إلى عالم أسطوريّ يُضفي على الليل سمة رومانتيكية.
    وبعض الاستنتاجات التي توصّل إليها مشكوك فيها، من قبيل ما ذكره من أن الليل في فترة ما قبل الثورة الصناعية كان له دور في إطاحة التسلسل الهرميّ الطبقيّ وصوغ علاقات اجتماعية حميمة نشأت عن القرب القسريّ بين الناس بسبب حاجتهم إلى حماية مشتركة.
    ومن آرائه الأخرى التي يمكن أن تكون مثيرة للجدل أيضا قوله انه على الرغم من أخطار الليل، إلا انه وفّر كثيرا من الاستقلالية للعديد من الطبقات الاجتماعية المسحوقة مثل العبيد والخدم واللصوص. بل وحتى العاهرات، كما يقول، وجدن قدرا نادرا من الحرّية في الليل في تجارة ظلّت تتحدّى السلطة الأبوية.
    ترى كيف يتّفق هذا الكلام مع قوله بأن "أخذ خطوتين في الليل خارج باب البيت كان أمرا محفوفا بالمخاطر"، ومع قوله انه "بعد غروب الشمس، يخرج المارقون والأوغاد كالحيوانات البرّية باحثين عن ضحايا جدد، بينما تتجوّل عصابات في الشوارع تمارس اغتصاب النساء الصغيرات بهدف السخرية من النظام القائم"؟
    ومع ذلك، فإن ممّا يُحسب لهذا الكتاب أن مؤلّفه وضع كتابا كاملا كرّسه للّيل. وقد كتب الكتاب بأسلوب ساحر واستعان فيه ببحوث ودراسات كثيرة. والكتاب نفسه جديد في موضوعه، بالنظر إلى أن الكتب التي تتحدّث عن الليل قليلة، بل ونادرة.

    Credits
    thefreelibrary.com
    common-place.org
    livescience.com

    الخميس، نوفمبر 28، 2013

    شخصيّات في الرسم: سالومي

    سالومي (أو شالوميت بالعبرية) هي واحدة من العديد من "النساء الشرّيرات" في تاريخ الفن. كانت ابنة لزوجة هيرود الذي كان ملكا على الجليل وحيفا في القرن الأوّل الميلادي. وكثيرا ما يأتي ذكر هذه المرأة، أي سالومي، مقرونا بحادثة قتل القدّيس يوحنّا المعمدان.
    كان الملك هيرود متردّدا في قتل يوحنّا خوفا من ردود فعل الناس. وكان يوحنّا قد استنكر زواج هيرود من زوجة أخيه هيروديا، أي والدة سالومي. لذا قرّر هيرود الغاضب أن يُلقي بالقدّيس في السجن.
    زوجة هيرود الجديدة والمثيرة للجدل كانت تريد يوحنّا ميّتا. وقد أتيحت لها فرصة مثالية لفعل ذلك خلال حفلة عيد ميلاد هيرود التي جمع فيها وزراءه وأركان حكمه. وتوسّلت الأمّ إلى ابنتها الجميلة سالومي كي تحاول التأثير على هيرود من خلال رقصها أمام الضيوف.
    ويقال إن سالومي لم تكن قد بلغت سنّ المراهقة عندما أدّت أمام هيرود رقصة الأقنعة السبعة المشهورة. وقد وقع الملك تحت سحر حركاتها المغرية، لدرجة انه عرض عليها وعدا بمكافأة. فطلبت أن يُسلّم لها رأس يوحنّا المعمدان على طبق. كان هذا طلبا دمويّا، خاصّة أنها عبّرت عنه أثناء حفل عشاء. كانت سالومي، مثل أمّها، تريد القدّيس ميّتا. ومن المؤكّد أن غضب أمّها كان دافعا لها لأن تطلب ذلك الطلب الغريب والقاسي.
    وكان واضحا أن سالومي تمكّنت من السيطرة على هيرود في لحظة لم يكن يستطيع فيها رفض طلبها. وكان التنفيذ فوريّا، ما بعث السرور والارتياح في قلب أمّها.
    قصّة سالومي، الشابّة الجميلة والواثقة، وردت تفاصيلها في كتاب العهد الجديد. لكن المرأة لم تُمنح اسما إلا بعد أن أشير إلى حكايتها في الآثار المكتوبة لليهود.
    قصّة سالومي ألهمت أعمالا مسرحية وسينمائية كثيرة، بالإضافة إلى تأثيرها في الأوبرا والباليه والرسم. الفنّانون الكلاسيكيون مثل بيتر بول روبنز وكارافاجيو وتيشيان وغويدو ريني صوّروا سالومي الفاتنة وهي ترقص. وفي العصر الحديث رسم القصّة فنّانون مثل أوبري بيردسلي وغوستاف كليمت واوديلون ريدون وغوستاف مورو وفرانز فون ستاك وروبيرت هنري وآخرين.
    روبنز، مثلا، رسم لوحته حفلة هيرود في آخر عشر سنوات من حياته. موديل سالومي في اللوحة كانت زوجته ذات الستّة عشر عاما التي تزوّجها بعد وفاة زوجته الأولى. وقد رسم اللحظة التي تُقدّم فيها سالومي إلى هيرود رأس يوحنّا على طبق من الفضّة. هيرود الزائغ العينين ينتفض رعبا بينما ترتسم على وجه هيروديا ابتسامة خفيفة وهي تراقب ردّ فعله.
    الرسّام الفرنسي هنري رينو (1843 – 1871) أظهر موهبة واعدة في بداية اشتغاله بالرسم. وقد توجّه إلى المغرب ليركب الموجة الاستشراقية، ورسم صورا استُقبلت استقبالا حسنا في صالون باريس. صورته عن سالومي المغرية وذات الشعر الداكن مع طبقها الفضّي رسمها عام 1870 واعتُبرت واحدة من أفضل لوحاته.
    ومثل زميله الانطباعي الفرنسي فريدريك بازيل، تطوّع رينو في الجيش الفرنسي، وحارب بشجاعة خلال الحرب الفرنسية البروسية. لكنّّه واجه مصيرا مشابها لمصير بازيل، إذ قُتل في ميدان المعركة وعمره لا يتجاوز الثامنة والعشرين.


    الرسّام الرمزيّ الفرنسيّ غوستاف مورو (1826 - 1898) كان، على ما يبدو، مفتونا برسم النساء الشرّيرات. وقد رسم عدّة صور لسالومي عام 1875. ويقال إن صُوَره لها ألهمت اوسكار وايلد كتابة مسرحيّته سالومي عام 1891. وكان وايلد قد كتب المسرحية في البداية باللغة الفرنسية، لأن إنجلترا آنذاك لم تكن تسمح بإعادة تمثيل قصص الإنجيل أدبيّا أو فنّيا.
    في لوحة مورو المسمّاة الظهور "أو التجلّي"، يصوّر الفنّان الحادثة بعد انتهاء الجريمة. الرسّام استخدم الألوان المائية ورسم جسد المرأة بنغمات لونية غنيّة وتمكّن من إيصال التفاصيل المعقّدة لجسدها المرصّع بالجواهر ولخلفية المشهد الفخم.
    في اللوحة يقف الجلاد صامتا، يداه على مقبض سيفه الطويل المبقّع بالدم. والرأس المقطوع للقدّيس يقطر دما. والعينان الشبحيّتان ترمقان الراقصة بصمت بينما تنهمر منهما الدموع. الفم مشوّه ومفتوح، والعنق يكتسي لونا قرمزيا، والوجه مطوّق بهالة من الفسيفساء.
    التفاتة سالومي نحو الجدار حيث يظهر الرأس المقطوع تشلّ حركتها وتصيب يديها وأصابعها بالتشنّج. هي متكشفة تقريبا. وفي ذروة حماسها للرقص يسقط خمارها. رأس القدّيس يشتعل وينزف بينما الدم يسيل على أطراف لحيته وشعره. سالومي فقط هي التي ترى الرأس. والدتها هيروديا لا يشغلها سوى أنها انتقمت أخيرا. هيرود أيضا لا يرى الرأس، بل يبدو مائلا بجسده قليلا إلى الأمام وواضعا يديه على ركبتيه وقد أخبله عري المرأة المشبعة بروائح البخور والمُرّ.
    الرسّام الأمريكي روبرت هنري (1865-1929) كان القوّة الخلاقة التي وحّدت مجموعة من ثمانية فنّانين شكّلوا في ما بعد ما عُرف بمدرسة آشكان للرسم الواقعي.
    في عام 1909، رسم هنري أكثر من لوحة لسالومي، مع لمسة هزلية. سالومي ذات الخمار والتي ترتدي ملابس مطرّزة تبدو واثقة وهي تخطو إلى الأمام بساقين عاريتين وكأنها تؤكّد مقدرتها على جعل الرجال ينصاعون لأوامرها ويفعلون ما تريده.
    الرسّامة الأمريكية المولد ايلا بيل (1846-1922) درست في باريس مع الأكاديميّ الفرنسيّ جان بول لوران. أعمال بيل ليست معروفة على نطاق واسع. لكن لوحتها عن سالومي كانت ثمرة مجهود رائع. وهي، أي اللوحة، تمثّل وجهة نظر فنّانة أنثى في موضوع ظلّ على الدوام مقتصرا تناوله على الرسّامين الرجال.
    سالومي، كما رسمتها بيل، لها شعر فضفاض يطاول خصرها، بينما تكشف عن جزء من ثديها. ومن خلال تعبيرات الوجه، فإن بيل توحي بقوّة سالومي أكثر من كونها مغرية أو ذات جاذبيّة أنثوية.
    الرسّام الرمزيّ الألمانيّ فرانز فون ستاك (1863-1928) تمكّن من الجمع بين الحسّي والمقدّس في لوحته عن سالومي التي رسمها عام 1906. سالومي فون ستاك تبدو نصف عارية، مع فم واسع ومفترس يتناقض مع حركات يدها المثيرة. وهي ترقص أمام سماء مرصّعة بالنجوم، في حين يظهر عبد حاملا رأس يوحنّا المعمدان على طبق. رأس القدّيس يحيط به شعاع من نور، في إشارة إلى أنه على الرغم من انه أصبح الآن جثّة هامدة، إلا أن إرثه كرجل مقدّس سوف يعيش إلى الأبد.
    ولعلّ أفضل ختام للموضوع هو سماع بعض الموسيقى ذات الصلة. المؤلّف الموسيقيّ الألمانيّ ريشارد شتراوس ألّف أوبرا سالومي التي يعتبرها الكثيرون أشهر عمل موسيقيّ عن القصّة. على هذا الرابط مقطع من تلك الأوبرا عنوانه رقصة الأقنعة السبعة.

    موضوع ذو صلة: كليوباترا في الرسم