:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات فيفالدي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات فيفالدي. إظهار كافة الرسائل

الاثنين، يونيو 13، 2016

الربيع في الموسيقى الكلاسيكية


في الموسيقى الكلاسيكية مؤلّفات كثيرة تحتفل بالفصول الأربعة وبالتغيّرات التي تطرأ على الطبيعة مع مقدم كلّ فصل. وأوّل عمل موسيقيّ يخطر بالبال عند الحديث عن الفصول هو كونشيرتو الفصول الأربعة للمؤلّف الموسيقيّ الايطاليّ انطونيو فيفالدي. أيضا لا يمكن نسيان سيمفونية الرعاة التي ألّفها بيتهوفن وصوّر فيها مشاهد وأصوات الطبيعة في فصل الربيع.
الربيع، بشكل خاصّ، له مكانة خاصّة في الموسيقى الكلاسيكية. وليس هناك من احتفل بالربيع وأجوائه وطقوسه كالمؤلّفين الموسيقيين الروس، وهي ظاهرة نجدها أيضا في الأدب والشعر الروسيّ.
  • تشايكوفسكي، مثلا، كتب كونشيرتو اسماه الفصول . هذا الكونشيرتو يتألّف من اثنتي عشرة حركة، كلّ منها مخصّص لشهر من أشهر السنة. والمؤلّف في كلّ قطعة يصوّر مشاعره وانفعالاته وتجاربه، وكذلك مشاهد الحياة المرتبطة بكلّ فصل.
    الحركة المخصّصة لشهر مارس، مثلا، وعنوانها أغنية القبّرة ، تستثير مزاجا يذكّر ببدايات الربيع. وعندما تبدأ الأرض بالظهور وسط الثلج الذي يكون قد ذاب شيئا فشيئا مع بزوغ أوّل خيوط ضوء الشمس التي تلامس وجه الطبيعة الناعسة، يبدأ غناء القبّرات معلنةً للعالم عن مقدم الربيع.
    الأغاني العذبة لتلك الطيور الصغيرة توقظ العالم من غفوته بعد شتاء طويل. ثم تظهر أولى قطرات الثلج مع بداية الحركة الثانية المخصّصة لأبريل والتي اختار لها تشايكوفسكي عنوان قطرة ثلج .
    والأزهار إذ تنمو تصوّر لنا الجمال الأوّلي للربيع، رغم أن الطبيعة ما تزال مغمورة ببعض الثلج. وقطرة الثلج هي صدى لموسيقى القبّرات، وهي تذكير صُوري بديع بأن الربيع على وشك أن يحلّ.
    هذا الكونشيرتو يتضمّن أيضا حركة بعنوان ليال بيضاء خصّصها المؤلّف لشهر مايو، وهو يأخذنا من خلالها إلى الليالي المثلجة لسانت بطرسبورغ. كان تشايكوفسكي مغرما كثيرا بهذه المدينة الشمالية التي قضى فيها شبابه وكتب فيها أشهر أعماله.
    وفي تصويره هذا للطبيعة، استطاع المؤلّف أن يمزج بين ظاهرة الليل والضوء ليصوّر من خلال هذا المزيج اللحنيّ المركّب طيفا متنوّعا من الانفعالات والمشاعر الإنسانية.
  • ريمسكي كورساكوف كتب، هو الآخر، أوبرا فلسفية موسيقية عنوانها عذراء الثلج ، هي عبارة عن احتفال بالفصول. وقصّة هذه الأوبرا تتجلّى خلال فصل الربيع عندما تمنح الطبيعة الإنسان أجمل وأبهى عطاياها.
    هذا الجمال يتجسّد في شخصية سنيغوروتشكا، عذراء الثلج ابنة الغابة والربيع. عندما تولد سنيغوروتشكا في الغابة، يتعذّر عليها فهم معنى الحبّ. والربيع، أمّ عذراء الثلج، عندما ترى ابنتها في حيرة، توافق أخيرا على أن تعطي سنيغوروتشكا الشعور بالحبّ "حتى وإن كان مؤلما" كما تقول الحكاية.
    وعندما يبدأ قلب سنيغوروتشكا في إدراك مشاعر العاطفة، فإن جمالها البارد كالثلج يبدأ في الذوبان. وكلّ مشاهد هذه الأوبرا، من احتفالات ورقصات دائرية وأغان للرعاة، مزيّنة بالموتيفات الشاعرية للطبيعة عندما تتوشّح بالأزاهير في فصل الربيع.

  • ديمتري شوستاكوفتش ألّف، هو أيضا، مجموعة رقصات "أو فالسات" يتغنّى فيها بالربيع. والموسيقى هنا تأخذ السامع بعيدا إلى عالم حديقة مزهرة في فصل الربيع.
    هذا التوليف كتبه شوستاكوفتش لفيلم بعنوان "ميشورين" يستند إلى قصّة حياة شخص يُدعى ايفان ميشورين، وهو عالم بيولوجيا روسيّ مشهور كرّس حياته كلّها للنباتات.
    وبفضل خبرة ميشورين، اُبتُكرت أنواع عديدة من أشجار الفاكهة. وهو لم يكن يحبّ في حياته شيئا أكثر من رؤية حياة جديدة وهي تنمو من بذرة وحيدة. وفالس الربيع ، وهو ثاني هذه الرقصات، ينقلنا إلى أجواء حديقة ميشورين المزهرة، حيث مئات الأشجار الجديدة تستحمّ في ضوء الشمس الذي انتظرته طويلا.
  • المؤلّف الموسيقيّ الكسندر غلازونوف كتب، هو أيضا، باليه اسماه باليه الفصول . في هذا العمل الفانتازيّ يصوّر لنا المؤلّف الربيع خفيفا ملوّنا. تسمع هذه الموسيقى فتتخيّل الطيور المغرّدة والأزهار اليانعة والنسائم العذبة وهي تحيط بك من كلّ جانب.
    بعد المشهد الأول بعنوان "طبيعة شتوية"، يظهر شخصان قصيرا القامة وبشعر بنّي وهما يغادران الغابة ويشعلان نارا من الحجر لكي يطردا الشتاء وخدمه المخلصين، أي الثلج والبرد والبرَد. وبعدها تكتسي الطبيعة بالأزهار الملوّنة وتبدأ الطيور في الظهور معلنةً عن بشائر الربيع. والفكرة الرئيسية في هذا الباليه هي الصحوة الخالدة للطبيعة وللحياة بعد انقضاء موسم الشتاء.
  • ومن أشهر المؤلّفات الروسية الأخرى التي تصوّر الربيع الكانتاتا التي ألفها سيرغي رحمانينوف بعنوان الربيع. وهذه القطعة تصوّر لنا أحداثا مثيرة ترافق بدايات الربيع، وهي عبارة عن قصص يمتزج فيها الحبّ بالخيانة والجريمة. في هذه القطعة، لا يتمّ توظيف الطبيعة كخلفية للأحداث فحسب، وإنما تُصوّر كمشارك فعليّ في كلّ ما يجري.
    الشخصية القاسية للشتاء تدفع البطل، الذي أمسك بزوجته وهي تخونه، للاقتناع بضرورة قتلها. لكن ومع حلول فصل الربيع الذي ينشر الحبّ والسلام والصبر، تتمكّن الزوجة من أن ترقّق قلب زوجها وتهدّئ من ثائرته فيصفح عنها.
    في هذه الموسيقى، لن تستمع إلى النغمات الرقيقة والدافئة للطبيعة وهي تعلن عن قدوم الربيع، لأن كانتاتا رحمانينوف تصوّر لنا الربيع قويّا ومكثّفا. لكن بإمكانك أن تسمع حفيف أوراق الشجر الذي أراد المؤلّف أن يكون تحيّته الخاصّة إلى جمال فصل الربيع.
  • ايغور سترافنسكي كتب، هو الآخر، باليه اسماه طقوس الربيع . وهذا العمل يأخذنا إلى عالم روسيا الوثنية قبل أكثر من ألفي عام. كان من عادة الروس القدماء أن يوقظوا الأرض من سباتها الشتويّ وذلك بتقديم قربان إلى الربيع، هو عبارة عن صبيّة شابّة. ويتعيّن على الفتاة المختارة أن تؤدّي رقصة طقوسية إلى أن تموت.
    رقصات ومراسم تقديس الأرض، والطقوس الفلكلورية ورقصة الموت التي تؤدّيها الفتاة، تصاحبها موسيقى تصوّر الطبيعة الربيعية في ذروة بهائها وتألّقها. والمؤلّف هنا يقدّم رؤيته للطبيعة من خلال إيقاعات قويّة وتلقائية وذات طاقة تعبيرية هائلة.
    الألحان المركّبة والإيقاعات الوافرة وغير المنتظمة تمثّل عمق مشاعر الروس الأوائل تجاه أصوات ومناظر الربيع وتأثيرها الكبير. والكثيرون يعتبرون هذا الباليه من بين أكثر المؤلّفات تعقيدا في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية.

  • Credits
    classicalarchives.com

    الجمعة، مارس 26، 2010

    خمسة ألحان شائعة

    طلب مني صديق عزيز يتابع المدوّنة وله اهتمامات موسيقية وفنّية أن أفرد موضوعا عن أكثر المعزوفات الموسيقية الكلاسيكية شعبية وانتشارا. والحقيقة أن هناك قطعا موسيقية كلاسيكية كثيرة يمكن أن ينطبق عليها هذا الوصف بجدارة. لكن سأكتفي هنا بالإشارة إلى خمس مقطوعات أتصوّر أنها تتصف، إلى جانب رواجها وانتشارها الكبير، باعتبارها من أفضل وأجمل وأشهر المعزوفات الموسيقية الكلاسيكية في جميع الأوقات.
  • عند التطرّق إلى الأعمال الموسيقية الكلاسيكية المشهورة تأتي تلقائيا إلى الذهن السيمفونية الخامسة لـ لودفيغ فان بيتهوفن والتي ظهرت لأوّل مرّة في العام 1804م. وقد وصف هذه السيمفونية العديد من الروائيين والشعراء والموسيقيين بطريقة جميلة وبليغة. قال احدهم واصفا تأثيرها الشعوري: عندما تستمع إلى هذه السيمفونية تتخيّل أنوارا مشعّة تضيء في أعماق الليل. الأنغام فيها تشبه ظلالا عملاقة تتحرّك إلى الأمام والخلف مثيرة في النفس ألما مضنيا وتساؤلات حادّة عن القضاء والقدر". الضربات الأربع الأولى في بداية السيمفونية مثيرة للاهتمام. وقد وصفها بيتهوفن في إحدى المرّات بأنها ضربات القدر التي تدقّ على الأبواب بعنف. الضربات الدراماتيكية المؤرّقة تستدعي بعض المعاني والصور الرمزية. يصحّ القول مثلا أنها تنذر بالشؤم وأحيانا تثير في النفس إحساسا بالانتصار. وهي العنصر المسيطر الذي يتخلل أجزاء السيمفونية ويوحّد جميع حركاتها الأربع. ومن ابلغ ما قيل في وصفها أن من يسمعها، بمعزل عن سياقها الدرامي وتأثيرها الانفعالي، قد يتصوّر أن بوسع أيّ طفل أن يعزفها على البيانو. النسيج اللحني الذي يبطّن تلك الحركات هو من أروع وأعظم ما أنجزه بيتهوفن في حياته.
  • هناك أيضا السيمفونية الأربعون لـ وولفغانغ اماديوس موزارت والتي ظهرت عام 1788م. وهي مكوّنة من أربع حركات رئيسية، أشهرها الحركة الأولى المسمّاة مولتو الليغرو. وهي تبدأ بداية مظلمة. وما يعمّق هذا الإحساس صوت آلة الفيولا التي تُسمع فيها بشكل متواتر. الحركة الأولى ذات تأثير كبير وواسع جدّا. غير أن من الصعب إدراك المزاج الذي تثيره في نفس السامع. لكن يمكن أن يقال إنها تعطي إحساسا بالحزن والعزلة واليأس وأحيانا الرفض والندم. بعض النقّاد يشيرون إلى إنها تعكس إحباط موزارت وإحساسه بالحزن وخيبة الأمل بسبب تناقص شعبيّته وتدهور أوضاعه المالية. الحركة الأولى بالذات تعطي إحساسا بالهزيمة ويخيّل للسامع أن موزارت يطرح من خلالها أسئلة متكرّرة وذات نهايات مفتوحة يعقبها إجابات غير شافية أو مقنعة. أي أنها يمكن أن تكون صورة كئيبة عن حالة الإنسان في قمّة عجزه وحيرته ويأسه. وأهميّة هذه السيمفونية ليست في تفاصيلها الفنّية وإنما في تأثيرها الانفعالي الكبير. في الجزء الأخير من السيمفونية، ثمّة إحساس متجدّد بأن الحياة وإن بدت قاسية وكئيبة أحيانا، فإنها يمكن أن تجلب للإنسان لحظات تبشّر بالأمل والخلاص.
    من الأشياء غير المؤكّدة التي كُتبت عن هذه السيمفونية أنها لم تُعزف في حياة موزارت بل بعد موته. ورغم كثرة وتباين التفسيرات التي تناولتها، تظلّ السيمفونية الأربعون احد أعظم أعمال موزارت وأكثر المؤلّفات الموسيقية الكلاسيكية شهرة وإثارة للإعجاب على مرّ العصور.
  • عند الحديث عن المعزوفات الشائعة والمشهورة لا بدّ وأن نتذكّر موسيقى الماء لـ جورج فريدريك هاندل، وبالتحديد الحركة الأخيرة منها والمسمّاة "أللا هورن بايب".
    الاستماع إلى هذه المعزوفة يوفّر إطلالة على فنّ عصر الباروك. وبعض مقاطعها تذكّرنا بأسلوب فيفالدي وباخ اللذين عاشا في ذلك العصر. وقد قيل إن هاندل ألّف الموسيقى في محاولة لكسب رضا الملك الانجليزي جورج الأول. هاندل ألماني في الأساس لكنه هاجر إلى بريطانيا وأصبح في ما بعد الموسيقى المفضّل لدى البلاط. هذه القطعة مشهورة جدّا. فقد كانت تذاع من محطّة البي بي سي في بداية بثّ برامجها اليومية. كما عُزفت في العديد من محطّات الإذاعة والتلفزة داخل بريطانيا وخارجها. وقد قُدّمت الموسيقى لأوّل مرّة عام 1717م. وبناءً على طلب جورج الأول، عُزفت على نهر التيمز وشارك في عزفها خمسون موسيقيا. ويقال إن الملك أحبّ الموسيقى كثيرا. وكان من عادته أن يطلب عزفها في رحلاته البحرية وفي المناسبات الرسمية.
    موسيقى الماء جميلة وفخمة. صوت البوق فيها يثير شعورا بالأمجاد والانتصارات الغابرة. لا عجب، إذن، أن تتحوّل الموسيقى مع مرور الأيام إلى رمز لأمجاد الإمبراطورية البريطانية التي لم تكن تغرب عنها الشمس.
  • من القطع الموسيقية الشائعة والجميلة أيضا مقدّمة أوبرا كارمن التي ألّفها الموسيقيّ الفرنسي جورج بيزيه عام 1875م. لأوّل وهلة قد تظنّها لحنا لـ موزارت. وربّما يذهب ذهنك تلقائيا إلى زواج فيغارو بالتحديد. الشبه كبير ولافت بين القطعتين. السبب هو أن موزارت كان نموذج بيزيه المفضّل في التأليف الاوركسترالي. ويبدو انه نسج مقدّمة كارمن على طريقة موزارت الملوّنة والمرحة. اللحن هنا يشبه مارشا عسكريا. لكنه خفيف، مرح ولا يخلو من عفوية. الأوبرا نفسها تعتمد على قصيدة للشاعر الروسي الكسندر بوشكين. والأحداث تجري في اشبيلية بإسبانيا وتتمحور حول امرأة غجرية لعوب اسمها كارمن. الحركة الأولى تصوّر مشهدا لجنود يحرسون مصنعا للسجائر. موضوع الأوبرا ذو طابع كوميدي، لكنها تنتهي بمأساة. المفارقة أن جورج بيزيه، مثل موزارت، مات وعمره لا يتجاوز الخامسة والثلاثين. وقد قدّمت الأوبرا بعد أشهر من وفاته. وربّما لم يكن يخطر بباله أن كارمن سيكون لها هذه الشعبية الجارفة التي تتمتّع بها في عالم الموسيقى اليوم .
  • القطعة الخامسة المختارة هي السيمفونية التاسعة أو سيمفونية العالم الجديد كما تسمّى أحيانا للمؤلف الموسيقي التشيكي انتونين فورجاك. والحقيقة أن اسم هذا الموسيقيّ في حدّ ذاته يمثّل مشكلة. فهو يُكتب دفوراك، لكنه ينطق فورجاك وأحيانا فورتشاك. ومع ذلك هناك اتفاق على أن الفضل يعود لهذا الموسيقي في تعريف العالم بالموسيقى التشيكية. كما أن هذه السيمفونية أصبحت اليوم تعبّر عن الروح الأمريكية، وهي التي مهدّت الطريق أمام تصدير الثقافة الأمريكية إلى العالم.
    ألف فورجاك سيمفونية العالم الجديد عام 1893 أثناء زيارته للولايات المتحدة وعُزفت في نفس السنة في قاعة كارنيغي وكان نجاحها فوريا ومدويّا. وهي إحدى أشهر وأكثر السيمفونيات شعبية في الموسيقى الحديثة. ويقال انه تأثّر فيها بالأنغام الموسيقية للهنود الحمر والأمريكيين الأفارقة.
    الحركة الثانية من السيمفونية هي أشهر أجزائها وتتسم ببدايتها القويّة والمزعجة من خلال توظيف الآلات النفخية التي تثير إحساسا بالانتصار. كان فورجاك مشهورا بدمجه الألحان التشيكية الأصلية وإعطائها أشكالا موسيقية كلاسيكية. وقد مكث في أمريكا ثلاث سنوات غمر نفسه خلالها بالموسيقى الإفريقية والهندية. وفضّل أن يقيم في مستعمرة للمهاجرين التشيك الذين ساعدوه على التغلّب على إحساسه بالحنين إلى موطنه الأصلي في بوهيميا ببلاد التشيك. "العالم الجديد" موسيقى رائجة ومشهورة جدّا وتعطي انطباعا بالحداثة والمعاصرة. ومن الصعب وأنت تسمعها اليوم أن تصدّق أنها ألّفت قبل أكثر من مائة عام.

  • الاثنين، أغسطس 04، 2008

    الفصول الأربعة

    لو كان انتونيو فيفالدي ما يزال حيّا لكان عمره اليوم 330 عاما. ورغم أن هذا مجرّد افتراض بعيد الوقوع، فإن الأمر المؤكد هو أن فيفالدي ما يزال حيّا بالفعل من خلال موسيقى كونشيرتو الفصول الأربعة الذي ما يزال يعزف إلى اليوم ويستمتع به الناس ويتحدّثون عنه بعد كلّ هذه السنوات الطويلة.
    وهناك شبه إجماع في أوساط المهتمّين بالموسيقى بأن هذا الكونشيرتو الذي كتبه فيفالدي وعمره لا يتجاوز الخامسة والعشرين هو أشهر عمل موسيقي كلاسيكي، بل وأكثر الأعمال الموسيقية رواجا وشعبية على مرّ العصور.
    انه حتى أكثر شعبية وانتشارا من السيمفونية الخامسة لـ بيتهوفن أو السيمفونية الأربعين لـ موزارت أو موسيقى الماء لـ هاندل ومن وترية بــاخ ومن كارمن لـ جورج بيزيه ومن كونشيرتو البيانو لـ تشايكوفسكي ومن مارش كلارك ومن تأمّل شومان الصامت ومن شهرزاد كورساكوف ..
    لكن كيف تحقق ذلك؟ كيف أمكن لبضع نوتات موسيقية كتبت على ورقة صغيرة قبل ثلاثة قرون أن تعيش طوال هذه السنوات بل وأن تصبح برأي بعض النقاد احد أشهر معالم الألفية الماضية دون أن يخفت بريقها أو يخبو سحرها أو يتوقف الناس عن سماعها.
    قد يكون احد الأسباب – بالإضافة طبعا إلى جودة الموسيقى وقيمتها الإبداعية - هو أن العالم يتغيّر باستمرار لكنّ ما بداخلنا لا يتغيّر. والإنسان عادة يحتاج للراحة والتأمّل اللذين توفرهما الموسيقى وهو لا يهتم كثيرا مثلا بمن كتب الموسيقى ولا في أي عصر ظهرت.
    وفي حالة الفصول الأربعة على وجه الخصوص فإن الارتباط الحميم بين الإنسان والطبيعة، يعدّ عنصرا إضافيا مهمّا في رواج هذا العمل الموسيقي وانتشاره.
    في العام 1703 كان فيفالدي يعمل مدرّسا للموسيقى في ملجأ للأيتام بمدينة فينيسيا. وكانت مهمّته تعليم الفتيات العزف على الكمان. وقد خامرته فكرة انجاز هذا العمل في تلك الفترة بالذات.
    وزمن فيفالدي كانت الفصول حاضرة بقوّة في حياة الناس. كان بعضها رمزا للخير والوفرة والنماء، وكان بعضها الآخر يحمل معه نذر الشؤم والخراب على هيئة ثلوج وعواصف وفيضانات تتلف الزرع وتدمّر المحاصيل وتتسبّب في نشر الجوع والفقر والمعاناة.
    وقد وظفت موسيقى الفصول الأربعة في عدد من الأفلام السينمائية والبرامج الوثائقية والإعلانات وخلافها. وعندما ظهر الكونشيرتو لأوّل مرة في العام 1725 ، راق كثيرا للملك الفرنسي لويس السادس عشر لدرجة انه كان يأمر بعزف موسيقى الربيع في المناسبات التي كان يقيمها لضيوفه.
    ويعتبر الكونشيرتو من أفضل الأعمال الموسيقية التي الفت في عصر الباروك. وقد حرص فيفالدي على أن يكتب سوناتا وصفية لترافق كلّ حركة من حركات الفصول.
    الحركة الأولى من "الربيع" تعكس إحساسا بالسعادة والفرح. تبدأ الموسيقى خفيفة مبهجة وهي تعلن مقدم الربيع. وأصوات الكمان تتداخل مع بعضها وكأنها عصافير ترفع أصواتها بالإنشاد والتغريد فرحا بقدوم فصلها الأثير.
    الحركة الثانية صامتة كما يعبّر عنها صوت الكمان الهادئ. المروج مزهرة والقطيع نائم والأنهار والغدران ممتلئة بالماء والرعاة في حالة خلوة وتأمّل.
    في الحركة الثالثة تعود الطيور مجدّدا للغناء. المياه صافية ورقراقة والأزهار متفتّحة والأغصان نضرة والحداة يرفعون أصواتهم بالغناء. لكن هناك في الجو ما ينبئ باقتراب موعد العاصفة.
    الحركة الأولى من "الصيف" بطيئة وكسولة. انه أحد أيام الصيف القائظة. الشمس حارقة والرياح تهبّ بخفّة. لكن سرعان ما يعلو الإيقاع وتتسارع وتيرته مع قرب هبوب العاصفة. هنا يدخل التشيللو بحشرجته وصوته المفرغ معلنا وصول رياح الشمال.
    الحركة الثانية ساكنة، وقورة. كل شيء هادئ عدا أن هذا الوقت هو الوقت الذي تتجمّع فيه الغيوم في السماء.
    الحركة الثالثة مجلجلة وعاصفة. والتشيلو والآلات الوترية تعطي انطباعا عن قوّة الريح وتأثيرها المدمّر.
    في الحركة الأولى من "الخريف" صورة لطيور مهاجرة تعبر الأفق مؤذنة بمقدم الخريف. ثم هدوء. هنا يمكن استحضار صور لسيول وبرق ورعد، وروابي وتلال مغسولة بالمطر.
    في الحركة الثانية تدخل الآلات الوترية والاكورديون لتشيع جوّا من الدعة والاسترخاء. فالنسيم عليل والرياض مبتسمة والورود متألقة. بوسع السامع أيضا أن يتخيّل الفلاحين وهم يستمتعون بالحصاد بينما يسلم البعض الآخر منهم نفسه للنوم الهادئ.
    الحركة الثالثة متوثبة وسريعة. هذا هو موسم الصيد. والصيّادون يتأهّبون ببنادقهم وكلابهم لجني صيد وافر. ووسط الغبار والمعمعة تجاهد الحيوانات الجريحة للفرار بيأس.
    الحركة الأولى من "الشتاء" متوتّرة وجامحة. واهتزاز أوتار الكمان يعزّز الإحساس بالبرد القارس والرياح الباردة. الثلج يغطي الطبيعة وبرودة الجو تلفح الوجوه.
    في الحركة الثانية نتخيّل الأرض وقد اكتست بحلة من الثلج الأبيض الناصع. والمشي فوق الثلج يتطلب الحذر خوف الانزلاق والسقوط. هذه الحركة لا يمكن وصف رقتها وشاعريتها وأناقتها. الموسيقى هنا منسابة في رفق، حزينة .. تخالطها نشوة راقصة. مدّتها بالكاد دقيقتان لكنها ممتعة، مرهفة، عذبة وتعلق في الذهن بسهولة. تسمعها فتحسّ أن الوقت توقف أو كأنك تقف على مشارف حلم..
    الحركة الثالثة تعطي انطباعا عن الجلوس إلى جانب النار. وقرب نهايتها يتسارع صوت الكمان كما لو أننا نسمع وقع جياد تعدو. انه الإعلان عن نهاية الشتاء وعودة دورة الفصول من جديد.


    ولد فيفالدي في فينيسيا يوم 4 مارس 1678 وعمّد راهبا في سنّ الخامسة والعشرين ليلقب في ما بعد بالراهب الأحمر بسبب لون شعره المائل للحمرة. لكنه سرعان ما ترك الكنيسة نتيجة معاناته من الربو وآلام المفاصل. وربّما كان قد ادّعى المرض لكي يعود إلى عشقه الأول، أي الموسيقى.
    كانت الموسيقى في روما آنذاك تشهد ذروة نشاطها وتوهّجها. وكان موسيقيون لامعون مثل سكارلاتي وكوريللي وهاندل جزءا لا يتجزّأ من المناخ الثقافي السائد في ذلك الوقت.
    ومن خلال الفصول الأربعة استطاع فيفالدي إضفاء طابع وصفي على الموسيقى تلعب فيه الوتريات الدور الرئيسي. وبفضله أصبح للموسيقى الايطالية نكهة خاصة ومتفرّدة لا تخطئها الأذن.
    ومن الغريب أن هذا الكونشيرتو، من بين 5000 عمل موسيقي آخر ألفها فيفالدي، هو الوحيد الذي ذاع واشتهر. وقد جنت شهرة الفصول الأربعة على أعمال موسيقية أخرى لـ فيفالدي لا تقلّ جمالا.
    الشعبية الكاسحة التي تمتعت بها الفصول الأربعة عزّزت جاذبيتها لدى العازفين والموزّعين الموسيقيين وجمهور الناس على السواء.
    وقد ظهرت الفصول الأربعة في مئات التسجيلات. وكلّ منها يحاول تقديم العمل وترجمته من منظور مختلف. لكن يمكن التوقف عند أربعة تسجيلات: الأول لعازف الكمان البريطاني نايجل كينيدي. هذا التسجيل ظهر عام 1989 ليكسر كل الأرقام القياسية السابقة في تسجيلات الموسيقى الكلاسيكية وليصبح بالتالي أكثر تسجيلات الفصول الأربعة مبيعا في جميع الأوقات.
    وهناك أيضا تسجيل جميل آخر لعازفة الكمان الروسية فيكتوريا مولوفا تحت قيادة المايسترو كلاوديو ابادو.
    ثم هناك تسجيل عازف الكمان الأمريكي غيل شاهام تحت قيادة اوركسترا اورفيوس. والتسجيل الرابع لعازفة الكمان الأمريكية من أصل كوري ساره تشانغ.
    لكن هناك توزيعين للفصول يعتبران من بين التوزيعات الأكثر خصوصية وتفردّا؛ الأول للألمانية آنا زوفي موتار التي عزفت الفصول الأربعة مع المايسترو العبقري هيربرت فون كارايان والثاني للهولندية جانين يانسن. موتار مبهرة ويانسن متميّزة وترجمتهما للفصول الأربعة تنطوي على ابتكار وتجديد من نوع خاص.

    عندما يأتي الحديث على كونشيرتو فيفالدي، سرعان ما نتذكّر سيمفونية بيتهوفن السادسة المعروفة أكثر بسيمفونية الرُعاة The Pastoral Symphony . الحركة الثانية من هذه السيمفونية، وهي بالمناسبة من ارقّ وأجمل أعمال بيتهوفن ومن أكثرها استدعاءً للتأمّل، تبدأ بتصوير حركة انسياب الماء في الغابة. وقبل نهايتها نسمع غناء وشدو الطيور. وكلّ ذلك من خلال تطويع أصوات آلات الفلوت والاوبو والكلارينيت لتحاكي الأصوات الإيقاعية في عالم الطبيعة.

    إن الفصول الأربعة حافلة بالمعاني الدرامية والتلاوين التصويرية. وفيفالدي قد يكون موسيقيا في الأساس، لكنه هنا يمسك بريشة رسّام يجلب معه ألوانه وعدّة الرسم الأخرى ليرسم لوحات ذات ألوان متنوّعة، قشيبة وزاهية تجذب الأنظار وتخلب الألباب.
    وهذا يشي بالعلاقة النفسية والروحية التي تربط الموسيقي بالطبيعة. فقد كان فيفالدي مندمجا كلية بالطبيعة، مصغيا على الدوام لأصواتها وأنغامها وأسرارها ومكنوناتها. وقد ساعده إحساسه القويّ بالحياة ونقاء روحه وقوّة ملكته التعبيرية على إبداع هذه الموسيقى الخالدة والعظيمة.
    توفي فيفالدي في فيينا يوم 28 يوليو 1741 بعد أن داهمته أزمة ربو حادّة. وهو المرض الذي لازمه طيلة حياته. ومثل موزارت، الذي توفي بعد ذلك بخمسين عاما، مات فيفالدي شبه منسي ولم يحظ بجنازة تليق به.
    وبعد وفاته ذهب هذا الموسيقي المبدع في غياهب النسيان ولم يعد احد يتذكّره سوى بالكاد. لكن شعبيّته سرعان ما بعثت من جديد في مستهلّ القرن الماضي مع إعادة اكتشاف الفصول الأربعة التي أصبحت منذ ذلك الحين إحدى العلامات الفارقة والمهمّة في تاريخ الموسيقى العالمية.


    Credits
    studycorgi.com

    الأربعاء، مايو 07، 2008

    مائدة، كرسي، طبق فاكهة وآلة كمَان

    لماذا إذا تهيّأت للنوم يأتي الكمان؟!
    فأصغي آتياً من مكان بعيد
    فتصمت همهمة الريح خلف الشبابيك
    نبض الوسادة في أذني
    تتراجع دقّات قلبي
    وأرحل في مدن لم أزرها
    شوارعها فضّة
    وبناياتها من خيوط الأشعّة
    ألقى التي واعدتني على ضفّة النهر واقفة
    وعلى كتفيها يحطّ اليمام الغريب
  • أمـل دنقـل

  • عندما يتعلّق الأمر بالموسيقى، لا صوت يطرب ويثير المخيّلة كامتزاج أنغام آلتي الكمان والبيانو. لكنْ لو كان لي أن اختار آلة مفردة لما تردّدت في اختيار الكمان، لأنني مع من يقول إن الكمان هو الرمز الأسمى لأناقة الموسيقى وجمال الطبيعة معا. الكمان قريب جدّا من المشاعر. وهو اقرب الآلات الموسيقية شبها بصوت الإنسان.
    وقد قرأت ذات مرّة أن بدايات ظهور هذه الآلة تعود إلى القرن التاسع الميلادي. ويقال إنه أتى من آسيا وأن الأتراك والمغول قد يكونون أوّل من عرف الكمان في التاريخ، وكانوا يصنعون أوتاره من شعر ذيل الحصان.
    ثم ما لبث الكمان أن انتشر إلى الصين والهند وبلدان الشرق الأوسط. وطبعا كان شكل الآلة آنذاك بدائيا وبسيطا. وقد استغرق الأمر خمسة قرون كاملة قبل أن تصل هذه الآلة إلى شكلها الحالي والمتعارف عليه.
    التغيير الجذري الذي طرأ على شكل الكمان وعلى تطوّر إمكانياته تحقّق في مدينة ميلان الايطالية "ويقال في البندقية" حوالي بدايات القرن السادس عشر.
    ويشار إلى أن أوّل عازف كمان مشهور كان الايطالي اندريا اماتي الذي يرجع إليه الفضل أيضا في صنع أوّل آلة كمان بشكلها الحديث والمعروف.
    وأشهر ماركات الكمان في العالم هي ستراديفاريوس وأماتي وغارنييري، وهي أسماء لصنّاع ايطاليين برعوا منذ قرون في صناعة الكمان واستخدامه. وأشهر العازفين اليوم يفضّلون اقتناء هذه الأنواع القديمة من الكمان المعروفة بغلاء أسعارها وبأدائها العالي وجودة النغمات التي تصدرها.
    وفي مناسبات مختلفة بيع بعض هذه الآلات، لشهرتها ولقدم صنعها، بأكثر من مليون جنيه استرليني، في حين لا يكلّف أغلى وأجود نوع حديث أكثر من عشرة آلاف دولار.
    ولأن بدايات الكمان الحقيقية ارتبطت بإيطاليا، لم يكن غريبا أن يصبح نيكولو باغانيني الايطالي أشهر عازف كمان في تاريخ الموسيقى كله. ويقال انه كان لفرط مهارته يستخدم كلتا يديه في العزف. كما كان بارعا في العزف على وتر واحد في حال انقطعت الأوتار الثلاثة الأخرى. وقد أصبح تقليدا شائعا منذ ذلك الوقت أن يحتفظ العازف في جيبه بوتر إضافي تفاديا لاحتمال انقطاع احد الأوتار.
    وفي زمن باغانيني، وأيضا فيفالدي، كان الكمان مرتبطا بالطبقة الراقية وبفئة النبلاء والارستقراطيين.
    اليوم ثمّة ملاحظة جديرة بالاهتمام تتعلّق بهذه الطفرة الكبيرة التي نراها الآن في عدد النساء اللاتي يعزفن الكمان بعد أن كان في الماضي عملا يختصّ به الرجال وحدهم. والكثير من هؤلاء العازفات لا تنقصهنّ البراعة ولا الجاذبية. وهذه الصفة الأخيرة تُعتبر عاملا مهمّا جدّا لا تغفل عنه شركات التسجيل ولا منظّمو الحفلات الموسيقية.
    وهناك من يقول إن معظم الأسماء الكبيرة اليوم في مجال العزف على الكمان هي لنساء. ويتساءلون هل أن الأمر مجرّد مصادفة، وهل الإناث أكثر قدرة من الرجال على تحمّل الدروس الطويلة والشاقّة التي يتطلّبها العزف على الآلة، أم لأنّ الكمان يتميّز بصغر حجمه وبسهولة حمله من مكان لآخر دون حاجة إلى تجهيزات ثقيلة وتحضيرات معقدة؟
    وهل يمكن فعلا اعتبار الكمان والبيانو والفلوت آلات أنثوية بحكم أن الأسماء البارزة والأكثر شهرة في العزف على هذه الآلات في العالم اليوم تعود لنساء؟
    وفي المقابل، هل يمكن اعتبار الغيتار والساكسوفون والآلات النحاسية آلات ذكورية على اعتبار أن الرجال هم من يتسيّدون ساحة العزف على هذه الآلات حاليا؟
    قرأت مؤخّرا بعض الأفكار التي لا يخلو بعضها من طرافة عن تأثير موضوع الجندر في الموسيقى. ومن الواضح أن إتقان العزف على الكمان بخاصّة يتطلّب مستوى عاليا من الموهبة والذكاء وسعة الخيال. وقائمة مشاهير النساء البارعات في العزف على الكمان اليوم طويلة ولا تكاد تنتهي. وبعضهنّ عملن مع أشهر الفرق السيمفونية في العالم، وتتلمذن على أيدي أشهر العازفين وقادة الاوركسترا من أمثال ياشا هايفيتز وايزاك ستيرن ويوجين اورماندي ودانيال بارانبويم وفلاديمير اشكنازي وهيربرت فون كارايان وغيرهم.
    والأسماء النسائية المهيمنة الآن على صناعة العزف على آلة الكمان هي امتداد للرعيل الأول من النساء الرائدات في هذا المجال مثل البولندية واندا ولكوميرسكا والنمساوية ايريكا موريني والأمريكية مود باول والمجرية يوهانا مارتزي والبولندية ايدا هاندل واليابانية تاكاكو نيشيزاكي وغيرهن.
    ويأتي على رأس عازفات الكمان من الجيل الجديد الألمانية آنا زوفي موتار التي تخصّصت في عزف بيتهوفن وفيفالدي وباخ وموزارت وسترافنسكي. وعلى ذكر موزارت، لا اعتقد أنني سمعت من قبل أجمل ولا أروع من عزف زوفي موتار لكونشيرتو الكمان رقم 3 الذي يُعتبر ليس فقط احد أفضل أعمال موزارت وإنما احد أعظم القطع الكلاسيكية التي تمّ تأليفها على مرّ العصور.
    ولـ زوفي موتار طريقتها الخاصّة والمتميّزة في العزف، وهي لا تنظر إلى الجمهور إلا نادرا ولا تعيد العزف إلا في ما ندر. كما أنها تعامل في بلدها كأميرة ووريثة للعازف والمايسترو العظيم فون كارايان الذي اختارها وهي بعدُ في الثالثة عشرة وأجلسها معه في فرقته.


    وموتار هي اليوم في الخامسة والأربعين وتجني أكثر من ثلاثة ملايين دولار سنويا مقابل الحفلات الموسيقية التي تعزف فيها، أي ضعف ما يتقاضاه أفراد اوركسترا كاملة في فرنسا أو بريطانيا. موتار مغرمة كثيرا بموزارت الذي تقول عنه إن تأثير موسيقاه في الروح مثل تأثير أشعّة اكس التي تشفّ الجسم وتكشف كلّ ما فيه.
    ويظهر أن الأمريكيين بدءوا هذه الأيام يغارون من اتساع شعبية زوفي موتار التي يرون في صعود نجمها وازدياد شعبيتها عندهم تهديدا لمكانة من يعتبرونه عازف الكمان الأوّل في العالم اليوم وهو الأمريكي ايزاك بيرلمان .
    والحقيقة أن ريادة الأمريكيين في مجال العزف على الكمان وكثرة العازفين المبدعين عندهم أمر لا يمكن إنكاره. هناك مثلا العازفان الأسطوريان ايزاك ستيرن ويوشا هايفيتز، بالإضافة إلى كبار العازفين الأحياء أمثال جون كوريليانو وريجينا كارتر بالإضافة إلى جوشوا بيل الذي يستخدم آلة كمان من نوع ستراديفاريوس يعود تاريخ صنعها إلى ما قبل ثلاثة قرون.
    وكان آخر أعمال جوشوا بيل اشتراكه مع زميله كوريليانو في وضع الموسيقى التصويرية للفيلم السينمائي المشهور الكمان الأحمر.
    كلّ هؤلاء أمريكيون. كما أن أعظم عازف للتشيللو في العالم الآن هو الأمريكي من أصل صيني يو يو ما الذي اشتهر بعزفه المنفرد والمتميّز لسوناتات باخ وموسيقى دفورجاك وشوبيرت وموزارت.
    بعد زوفي موتار يأتي اسم عازفة الكمان الأمريكية من أصل كوري سارة تشانغ التي تتلمذت على يد يهودي مينوهين الذي وصفها في إحدى المرّات بأنها أكثر عازفات الكمان مثالية وإحكاما.
    ثم هناك الهولندية جانين يانسن التي برعت في عزف تشايكوفسكي ومندلسون وبرامز. وبوسع زائر موقعها الاليكتروني الاستماع إلى عزفها الجميل لبعض سوناتات فيفالدي.
    وهناك أيضا الأمريكية الصاعدة بقوّة هيلاري هان التي احتلّ أوّل ألبوماتها الذي ضمّ بعض سوناتات باخ المرتبة الأولى في قائمة التسجيلات المفضّلة طوال أسابيع. يُذكر أن هيلاري هان برعت على وجه الخصوص في عزف كونشيرتو جان سيبيليوس الذي يقال انه احد أصعب القطع الموسيقية التي كُتبت لآلة الكمان، وإجادته تتطلّب مستوى غير عادي من التركيز الذهني والسيكولوجي.
    وهناك كذلك الاسكتلندية نيكولا بينيديتي التي تظهر في بعض صورها محتضنة آلة كمانها المصنوع في فينيسيا عام 1751 على يد بييترو غارنييري.
    والقائمة تطول. لكن يمكن الإشارة في عجالة إلى بعض الأسماء النسائية الأخرى والمهمّة مثل الكندية لارا سانت جون واليابانية ايكوكو كاواي والروسية فيكتوريا مولوفا والبريطانية السنغافورية الأصل فانيسا ماي والجورجية ليزا باتياشفيلي والألمانية جوليا فيشر وسواهن.
    الملاحظة الأخرى التي تلفت الانتباه هي أن معظم عازفات الكمان، وأكاد أقول جميعهن، يتميّزن بقدر عال من الجمال والجاذبية والحضور. بل لا أبالغ إن قلت إن ملامح بعضهن وطريقة لباسهن وحتى أسلوب حياتهن لا يختلف في شيء عن عارضات الأزياء والممثلات ومغنّيات البوب. وقد اكتشفت مع الأيّام انه حتى الجيل الجديد من مغنّيات الأوبرا "وعلى خلاف ما يتصوّره الكثيرون عن جدّيتهن ورصانتهن" يشتركن في هذه السمة التي تلخّص إلى حدّ ما طبيعة الأنثى وميلها الغريزي إلى إبراز جمالها وحتى التفنّن في أظهار مفاتنها للفت أنظار الجنس الآخر.
    ومع ذلك لا يمكن لوم النساء وحدهن، فالموسيقيون من الرجال أيضا يبالغون في إظهار أناقتهم واهتمامهم بالشكل الخارجي. وقد قرأت مؤخّرا رأيا لم اتأكّد من صحّته وملخّصه أن نشأة الموسيقى الكلاسيكية نفسها ومن ثم تطوّرها خلال القرنين الأخيرين كان قائما على فكرة التقاطع ما بين الفن والجنس "أي الذكورة في مقابل الأنوثة"، وأن عددا كبيرا من المؤلّفين الموسيقيين من الرجال كانوا حريصين دائما على تقمّص نموذج شخصية اللورد بايرون في محاولة لخطب ودّ النساء والتقرّب منهن.
    وبعض قادة الاوركسترا الكبار كانوا يعمدون إلى ترتيب ديكور حفلاتهم بحيث يكون الضوء مركّزا على شعورهم الطويلة اللامعة للفت أنظار النساء ونيل إعجابهن.
    ومن العبارات المنسوبة إلى باغانيني قوله: لست بالرجل الوسيم، لكن عندما تسمعني النساء وأنا اعزف، سرعان ما يأتين إليّ زحفا ويجثين عند قدمي".
    وضمن هذه الإطار يقال إن الموسيقي فرانز ليست كان مضرب المثل في جماله ووسامته، كما كان أشهر عاشق في أوربّا في زمانه وأعظم عازف بيانو في تاريخ الموسيقى كلّه. وكانت النساء تتقاتلن من اجل الحصول على أعقاب السجائر التي كان يتركها على البيانو بعد الحفلات الموسيقية التي كان يحييها.
    إن تزايد أعداد النساء اللاتي برزن بقوّة في مجال العزف على الكمان في السنوات الأخيرة يرقى إلى اعتباره ظاهرة يمكن أن تكون تعبيرا عن عمق التغيير الاجتماعي والأدوار المتغيّرة في المجتمعات الغربية على صعيد الجندر.
    وهناك ثمّة من يقول إن عازفات الكمان هذه الأيام، مع الاعتراف ببراعتهن وإتقانهن، تعوزهنّ العضلات، خاصّة عندما يتعاملن مع بعض أعمال مندلسون وبيتهوفن وتشايكوفسكي التي تتّسم بإيقاعاتها القويّة وضرباتها الفجائية والسريعة. وفي الغالب يأتي عزفهن رقيقا ورفيعا وبطيئا، وأحيانا تتحوّل الموسيقى المجلجلة والصاخبة في أصابع بعض العازفات إلى قطع تأمّلية وشاعرية يُخيّل لمن يسمعها أنها آتية من عوالم وفضاءات أخرى.

    Credits
    classicfm.com