:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات هاندل. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات هاندل. إظهار كافة الرسائل

الأحد، أكتوبر 01، 2017

موسيقى الماء

عندما سمعت هذه الموسيقى لأوّل مرّة، لم أكن اعرف شيئا عن خلفيّتها ولا عن مناسبتها. لكني تخيّلت منظرا لبحر وسفن حربية وتمرينات وربّما ألعاب نارية.
هذه هي بعض عناصر الصورة المشهدية كما تعكسها أجواء موسيقى الماء لجورج فريدريك هاندل. موسيقى فخمة واحتفالية بامتياز. وما يؤكّد هذه الصفة، بشكل خاصّ، هو غلبة الآلات النفخية على نسيجها الأوركستراليّ.
حتى إن كنت مثلي لا تستسيغ سماع أصوات هذه الآلات الحادّة في كلّ حين، إلا انك ستقدّر عاليا براعة المؤلّف في اختيار كيف ومتى تدخل كلّ آلة ومتى تتوقّف.
موسيقى الماء يمكن أن توحي بانتصار عسكريّ، كما أنها تصلح لأن تكون نشيدا وطنيّا لبلد ما. لذا لم استغرب عندما لاحظت أن محطّة البي بي سي اختارت هذه الموسيقى بالذّات كإعلان عن بدء بثّ برامجها كلّ يوم.
لكن، أوّلا، ما هي قصّة ظهور هذه الموسيقى؟
في عام 1717، طلب الملك الانجليزيّ جورج الأوّل من الموسيقيّ جورج فريدريك هاندل أن يؤلّف قطعة موسيقية كي تُعزف على متن يخت الملك الذي سينقله هو وضيوفه من قصر الوايتهول في رحلة عبر نهر التيمز تنتهي عند تشيلسي.
كان عمر هاندل وقتها لا يتجاوز الثانية والثلاثين. وقد شرع في تنفيذ تلك المهمّة على الفور وأنجزها قبل الموعد المضروب بأسابيع. وقد أسمى عمله "موسيقى الماء" لسببين: الأوّل أنه كُتب ليُعزف فوق الماء. والثاني: أن أنغام العمل تحاكي في ارتفاعها وانخفاضها حركة الماء.
في اليوم المحدّد، أخذ هاندل مع أفراد الفرقة الموسيقية أماكنهم على متن قارب مجاور ليخت الملك. وكان النهر ممتلئا بالقوارب التي جاء أصحابها ليستمعوا إلى الموسيقى.
وقد سُرّ الملك جورج الأوّل كثيرا بهذه الموسيقى لدرجة انه طلب من الفرقة أن تعيد عزفها أربع مرّات في ذلك اليوم. واستمرّ العزف إلى ما بعد منتصف ليل ذلك اليوم، ما شكّل إرهاقا كبيرا للعازفين.
وقد حدث بعد ذلك أن تحوّلت هذه القطعة إلى واحدة من أشهر الأعمال الموسيقية الكلاسيكية في جميع العصور.
ويقال أن الملك كان قبل ذلك غاضبا على هاندل لسبب ما. وكان تأليف الأخير لهذه الموسيقى وسيلة لاسترضاء الملك وتطييب خاطره.
الأصل الألمانيّ للملك ولهاندل كان من العوامل التي قرّبت بين الرجلين. وقد أصبحا من أهمّ الشخصيّات التي عرفتها انجلترا. وظلّ هاندل إلى اليوم الموسيقيّ المفضّل لدى الانجليز عموما. أما جورج الأوّل فقد نجح في تأسيس سلالة ملكية ما تزال تحكم انجلترا إلى اليوم في شخص حفيدة حفيد جورج، أي الملكة الحالية اليزابيث الثانية.
وهناك إشارات كثيرة تؤكّد أن الملك أراد أن تكون موسيقى الماء أداة دعاية سياسية له. كان بحاجة إلى عمل ما يعزّز صورته كحاكم جديد على انجلترا، بعد أن أثارت بعض قراراته وتصرّفاته جدلا واسعا بين الناس.
في السنوات الأولى من حكمه، لم يكن جورج الأوّل يحظى بأيّة شعبية تُذكر، لافتقاره إلى أيّ قدر من الذكاء أو الكاريزما. وكان معارضوه يدعمون ابنه الأكبر جورج الثاني الذي سيصبح ملكا في ما بعد.
وقد أشار عليه مستشاروه بأن ينظّم حدثا ملكيّا فخما يلفت إليه الأنظار ويثير إعجاب سكّان لندن، وفي نفس الوقت يسرق الأضواء من ابنه الساخط عليه والذي رفض حضور العرض الموسيقيّ.


اختار هاندل لموسيقى الماء شكل "السويت" الذي يعني بالعربية فاصل أو وصلة أو متوالية موسيقية، وفي لغة الموسيقى الكلاسيكية مجموعة من الحركات الموسيقية المتتالية التي يربط بينها وحدة الفكرة والنغم.
وأصل هذا النوع من الموسيقى يعود إلى القرن الرابع عشر، وبلغ أوج ازدهاره خلال عصر الباروك، وبرع فيه موسيقيّون كثر من أشهرهم باخ وهاندل وآخرون.
وموسيقى الماء هي أيضا عبارة عن قطع صغيرة مؤلّفة لأوركسترا مصغرّة لا يتجاوز عدد أفرادها الخمسين عازفا. وكتبها هاندل لآلات الفلوت والباسون والكمان والبوق والترومبيت والاوبوا. أي انه استخدم للموسيقى جميع الآلات الموسيقية المعروفة في عصر الباروك، باستثناء الهاربسيكورد والتيمباني لأنه كان من المستحيل جلبهما فوق القارب.
يتألّف سويت موسيقى الماء من ثلاث حركات رئيسية يتفرّع عنها واحد وعشرون لحنا وتتضمّن مجموعة من المينويتات والأنغام الراقصة.
وفي تلك الرحلة النهرية، عُزفت بعض أجزائها فقط، لكنها لم تُطبع كمجموعة كاملة إلا بعد وفاة هاندل بسنوات.
وبعد ثلاثين عاما، أي في 1749، سيؤلّف هاندل موسيقاه المشهورة الأخرى الألعاب الناريّة في عهد الملك جورج الثاني. وكثيرا ما تظهر هاتان المقطوعتان معا في التسجيلات كمجموعة واحدة.
المعروف أن هاندل ولد في هالي بألمانيا في فبراير عام 1685 وتوفّي في لندن في ابريل 1759. وقد عاش في البداية أربع سنوات في ايطاليا حيث عمل هناك وألّف بعض الأعمال الاوبرالية والموسيقى الدينية.
وفي سنّ الخامسة والعشرين، ذهب إلى لندن باحثا عن وظيفة. وكان جورج الأوّل قد سمع بعض موسيقاه، فاستدعاه وعيّنه مديرا للموسيقى في القصر، ثم لم يلبث أن أصبح الموسيقيّ الرسميّ للبلاط.
صحيح أن موسيقى الماء عند ظهورها وُظّفت كأداة للدعاية السياسية. لكن كان هناك سبب آخر في نجاحها الفوريّ وفي شهرتها المستمرّة إلى اليوم، وهو أنها كانت تحفة موسيقية حقيقية.
أما هاندل نفسه فقد كان معروفا بمزاجه العنيف وباعتزازه الشديد بنفسه واحتقاره لزملائه من الموسيقيين الانجليز. ومما يُروى عنه أن هدّد ذات مرّة بإلقاء سوبرانو زميلة من النافذة إن لم تنفّذ تعليماته وتفعل بالضبط ما يقوله.
بيتهوفن وصف هاندل ذات مرّة بأنه أعظم مؤلّف موسيقيّ. وأضاف: أمام قبره لا املك إلا أن احني ركبتي وأخفض رأسي احتراما".
واليوم وبعد مرور ثلاثمائة عام على ظهورها، ما تزال موسيقى الماء تحتفظ بجاذبيّتها وسحرها القديم. وقد أصبحت أجزاء كثيرة منها مشهورة جدّا ومألوفة كثيرا، مثل مقطع اللا هورن بايب (الفيديو فوق) والذي وُظّف كثيرا في الإعلانات والتلفزيون والراديو وفي أعمال سينمائية مثل فيلم "قوى الطبيعة" وفيلم "جمعية الشعراء الموتى" وغيرهما.

Credits
classicfm.com

الاثنين، يونيو 29، 2015

خواطر موسيقية


هذه القطعة "فوق" اسمها "آريا دا كابو"، وهي المعزوفة الأولى من تنويعات غولدبيرغ ليوهان سيباستيان باخ. "آريا" تعني نغم، و"دا كابو" تعني من الرأس أو من البداية.
ويُعتقد أن باخ لم يؤلّف النغم نفسه، ولكنّه قام بتكييفه من رقصة فرنسية انقرضت ولم يعد لها أثر اليوم.
علماء الموسيقى يذهبون إلى أن باخ كُلّف بتأليف التنويعات من قبل الكونت كايزرلينغ السفير الروسي في بلاط دريسدن لكي يعزفها يوهان غولدبيرغ رئيس موسيقى الغرفة في بلاط الكونت.
ويقال إن كايزرلينغ كان يعاني من الأرق المزمن. وقد أراد بعض الموسيقى التي من شأنها أن تكون ناعمة ومهدّئة كي تساعده على النوم. ويبدو أن موسيقى باخ المسكّنة هذه فعلت فعلها للكونت وأدّت إلى تحسّن حالته. وقد كافأ باخ على عمله بأن أهدى إليه إناءً مذهّبا يحتوي على مائة قطعة من الذهب.
النسخة الأكثر شهرة من تنويعات غولدبيرغ هي تلك التي وضعها عازف البيانو الكندي غلين غولد في عام 1955. وكان هذا أوّل تسجيل مهمّ لها.
وقد أبدت شركة التسجيل الراعية قلقها في ذلك الوقت من احتمال أن لا يكون هذا العمل ملائما لذوق الجمهور. ومع ذلك، عندما طُرح التسجيل في السوق لقي إقبالا ومديحا هائلا وكان من بين أفضل تسجيلات الموسيقى الكلاسيكية في تلك الفترة مبيعا ورواجا.
المشكلة أن هذه القطعة الأنيقة على البيانو، أي المعزوفة الأولى من تنويعات غولدبيرغ، أصبحت معروفة في العقل الشعبي على أنها الموسيقى المفضّلة لعالم النفس والمجرم آكل لحوم البشر هانيبال ليكتر، وهو سفّاح متخيّل سيّئ السمعة لعب دوره الممثّل أنتوني هوبكنز في فيلم صمت الحملان. وبطبيعة الحال، أصبح من الصعب أن تقنع الناس أن هذه المعزوفة الرقيقة والهادئة كُتبت، ولغاية أخرى مختلفة، قبل حوالي ثلاثة قرون من ظهور هذا الفيلم.
المجرم ليكتر كان مغرما بسماع موسيقى باخ هذه. وقد وظّف المخرج تسجيل غلين غولد لهذه القطعة في مستهلّ الفيلم. وأيضا في احد المشاهد يقوم المجرم بقتل حارسين على أنغام هذه الموسيقى.
كما ظهرت القطعة أيضا في الموسيقى التصويرية لفيلم المريض الانجليزي الذي أُنتج عام 1996.
بشكل عام يمكن القول أن الـ آريا دا كابو هو شكل من أشكال الموسيقى التي كانت سائدة خلال عصر الباروك. وكان يُغنّى من قبل عازف منفرد بمرافقة الآلات الموسيقية، وغالبا مع اوركسترا صغيرة.


وكان هذا النوع من الموسيقى شائعا جدّا في الأشكال الموسيقية مثل الأوبرا والاوراتوريو أو الموسيقى الدينية. ووفقا للمؤرّخ راندل، فإن عددا من موسيقيّي الباروك (وأشهرهم جورج فريدريك هاندل) ألّفوا أكثر من ألف نغم من هذا النوع أثناء حياتهم. وكان نصّ نغم دا كابو عادة عبارة عن قصيدة أو تسلسل من أبيات شعرية مكتوبة في مقطوعتين.
والواقع أن من بين العديد من المزايا الفريدة لموسيقى باخ الصوتية هي استخدام ما يُسمّى الـ دا كابو 'الحرّة' أو 'المعدّلة'. والسبب في تبنّي باخ لهذا الشكل المميّز من الموسيقى كان موضوعا لتكهنّات كثيرة من قبل خبراء الموسيقى الذين وجدوا سوابق في أعمال سكارلاتي وأمثلة موازية في موسيقى هاندل.
لكن، ومن خلال التحليل الدقيق للنصّ والموسيقى في أمثلة عديدة، اتّضح أن نسخة باخ من هذه الموسيقى تختلف عن أيّ شيء في موسيقى أسلافه ومعاصريه.
ولا يوجد تفسير واحد عن سرّ استخدامه لذلك الأسلوب. لكن معظم الأمثلة تثبت اهتمام باخ بالسمات الرسمية أو البلاغية للنصوص الشعرية.
وبما أن الحديث عن باخ وموسيقاه، قد يكون من المناسب أن اختم الموضوع بالقطعة الثانية إلى فوق، وهي كونشيرتو الكمان رقم 2. هذه القطعة سبق أن وضعتها في هذه المدوّنة مرارا لأنني أحببتها دونما سبب واضح، ربّما بسبب عزف الكمان الرائع أو التوزيع الموسيقي البديع فيها.
صديق عزيز لهذه المدوّنة وصف المعزوفة هكذا: رائعة ومليئة بالحياة، وأوّل صورة تنطبع في خيالي عندما اسمعها هي رقصة لـ "باروكيين" في قصر مُذهّب ومليء بالشموع، وفساتين ملوّنة ومنتفخة من الخصر".
بينما أنا استمع إلى هذا الكونشيرتو، للمرّة العشرين أو الثلاثين ربّما، تساءلت: موسيقى بمثل هذه الأناقة والفخامة، ترى كيف كانت تُعزف في زمن باخ الذي لم يكن فيه اوركسترات كبيرة وضخمة؟ وكيف كان تجاوب الناس مع العزف؟ وإلى أيّ حدّ تتشابه أو تختلف طريقتا العزف هذه الأيّام وفي عصر الباروك؟!

Credits
jsbach.org
baroquemusic.org

السبت، يوليو 07، 2012

القوّة الخفيّة للأحلام

ذات ليلة، حلم الاسكندر المقدوني أنه يراقص إله الغابات "ساتاير" الذي يأخذ شكل فرس جامح. وقد استدعى مفسّرا ليشرح له معنى الحلم. فقال له: هذه بشارة لك بأنك ستفتح مدينة صُوْر". وقد بنى المفسّر نبوءته على أساس أن المقطع الأخير من اسم إله الغابات يطابق اسم صُوْر باللاتينية. وفي نفس تلك السنة، فتح الاسكندر صُوْر بالفعل وضمّها إلى امبراطوريّته الواسعة.
الرئيس الأمريكي ابراهام لينكولن داهمه في إحدى الليالي حلم غريب. رأى نفسه جالسا ليلا داخل قاعة فسيحة ومضاءة. وفجأة تناهت إليه أصوات رصاص، وشعر بأنه يسقط على الأرض فاقدا الوعي. وهُرع باتجاهه أشخاص كان بعضهم يصيح والبعض الآخر يبكي. وبعد ذلك بأيّام، أي في الخامس عشر من ابريل عام 1865م، اغتيل لينكولن برصاصة في الرأس أطلقها عليه احد الأشخاص بينما كان يحضر عرضا في احد مسارح ولاية إلينوي.
الزعيم النازيّ ادولف هتلر رأى ذات مرّة حلما مزعجا جعله يقفز من سريره مرعوباً. وبعد لحظات، اخترقت قذيفة مدفع جناح المبنى الذي كان يستخدمه كمكتب وقتلت كلّ من كان فيه.
كارل يونغ، المفكّر وعالم النفس السويسريّ المشهور، حلم في إحدى الليالي أن طوفانا عظيما غمر كافّة أرجاء أوربّا ووصلت مياهه إلى قمم جبال سويسرا، ثمّ تحوّلت المياه إلى دماء. وبعد أشهر من ذلك الحلم الغريب، انطلقت شرارة الحرب العالمية الأولى.
الموسيقيّ الايطالي جيوسيبي تارتيني أمضى أشهرا عديدة وهو يبحث، دون جدوى، عن خاتمة مناسبة لتحفته المشهورة سوناتا الشيطان. وذات ليلة، حلم انه عثر على زجاجة على شاطئ البحر وبداخلها شيطان محبوس. وقد توسّل إليه الشيطان أن يطلق سراحه. وتوصّل الاثنان إلى صفقة. ناول تارتيني كمانه للشيطان، وذُهل لروعة وجمال عزفه. وعندما استيقظ من حلمه، حاول أن يستعيد ما سمعه في الحلم. وقد كتب تارتيني بعد ذلك يقول: سوناتا الشيطان هي أفضل ما كتبت. غير أنها اقلّ جمالا بكثير من الموسيقى التي سمعتها في الحلم".
هذه فقط بعض الأمثلة التي تدلّل على القوّة الخفيّة والغامضة للأحلام وعلى أهميّتها وحضورها الدائم في حياة الإنسان.
تخيّل، على سبيل المثال، دور الأحلام في الأدب والفنّ. العديد من الأعمال الأدبيّة المشهورة ظهرت بفضل حلم رآه الكاتب في منامه: فرانكنشتاين لـ ميري شيللي، والشفق لـ ستيفاني ماير، ودكتور جيكل ومستر هايد لـ روبيرت ستيفنسون.. والقائمة تطول.
وهناك الكثير من الروايات التي تستند حبكتها الرئيسية على عنصر حلم. في رواية المسخ لـ فرانز كافكا، مثلا، يستيقظ غريغور سامسا بطل الرواية من حلم ذات صباح ليجد نفسه وقد تحوّل إلى صرصار ضخم.
وهناك عدد لا يُحصى من الكتّاب الذين وظّفوا قصص الأحلام في رواياتهم: جوزيف كونراد، آرثر ميللر، جيمس جويس، شكسبير، لويس كارول، دستويفسكي، جورج اورويل، ايتالو كالفينو، ادغار الان بو وغابرييل غارسيا ماركيز.. وغيرهم.
الأحلام أيضا حاضرة بقوّة في الفنّ التشكيليّ. العديد من لوحات هنري روسّو وسلفادور دالي وجاسبر جونز وهنري فوزيلي وغيرهم كانت نتاج أحلام.
وفي السينما أيضا استخدم مخرجون كثر صور الأحلام في أفلامهم مثل انغمار بيرغمان، ارسون ويلز وفيدريكو فيلليني وسواهم. كما ألهمت الأحلام عددا من الموسيقيين من أمثال هاندل، شوبيرت وفاغنر وغيرهم.
أهميّة وقوّة الأحلام معروفة وراسخة. ومن معابد العصور القديمة، إلى مختبرات النوم في العصر الحاضر، حاول البشر أن يفهموا الأحلام وأن يفسّروها.
وأقدم الأحلام المسجّلة وجدت في وثائق يعود تاريخها إلى ما يقرب من 5000 عام، في بلاد ما بين النهرين أو الهلال الخصيب. السومريون، أوّل مجموعة ثقافية قطنت تلك المنطقة، تركوا سجلات للأحلام يعود تاريخها إلى عام 3100 قبل الميلاد. ووفقا لتلك الكتابات المبكّرة، كانت الآلهة والملوك، مثل الملك العالم آشور بنيبعل من القرن السابع، يبدون اهتماما كبيرا بالأحلام.
ومن ضمن أرشيف هذا الملك من الألواح الطينية، تمّ العثور على أجزاء من ملحمة الملك الأسطوريّ غلغامش. في هذه القصيدة الملحمية، وهي واحدة من أقدم القصص الكلاسيكية المعروفة، يسرد غلغامش أحلامه المتكرّرة على أمّه الإلهة نينسون التي قدّمت أوّل تفسير مسجّل لحلم. كما اتخذت أحلامه كنبوءات. المواقف المدوّنة في ملحمة غلغامش توفّر مصدرا قيّما للمعلومات حول المعتقدات المتعلقة بالأحلام في العصور القديمة.

العبرانيون القدماء كانوا يعتقدون أن الأحلام هي عملية اتصال مع الله. الشخصيّات التوراتية، مثل سليمان ويعقوب ونبوخذ نصّر ويوسف، كلّهم زارهم الربّ أو الأنبياء في أحلامهم وساعدوهم في توجيه قراراتهم. كان من المسلّم به والمقبول أن أحلام الملوك يمكن أن تؤثّر على أمم بأكملها وعلى مستقبل شعوب بأسرها. التلمود، المكتوب ما بين عامي 200 و 500م، يتضمّن أكثر من 200 إشارة لأحلام. وهو يشير إلى أن الأحلام غير المفهومة هي "مثل الرسائل التي لم يتمّ فتحها".
قدماء المصريين أيضا أولوا اهتماما خاصّا بأحلام قادتهم الملكيين، بالنظر إلى أن الآلهة كانوا أكثر عرضة للظهور فيها. سيرابيس، إله الأحلام المصريّ، كانت له معابد لحضانة الأحلام. وقبل الذهاب إلى هذه المعابد، يصوم الحالمون ويصلّون كي يضمنوا رؤية أحلام سعيدة.
الصينيون اعتبروا أن روح الحالم هي العامل المهمّ في توجيه الحلم. كانوا يعتقدون أن "الهون" أو الروح تغادر الجسد أثناء الحلم لتتواصل مع أرض الأموات.
كتاب الأوبنيشاد، ظهر ما بين 900 و 500 قبل الميلاد. وهو يتناول منظورين عن الأحلام: الأوّل يرى أنها مجرّد تعبير عن الرغبات الداخلية. والثاني يشبه الاعتقاد الصيني عن الروح التي تغادر الجسد أثناء النوم لتعود عندما يستيقظ الجسد ثانية.
القرن الخامس قبل الميلاد شهد ظهور أوّل كتاب يونانيّ معروف عن الأحلام. وقد كتبه انتيفون الذي كان رجل دولة من أثينا. في تلك الفترة، ساد بين الإغريق اعتقاد بأن الروح تغادر جسد الإنسان الحالم. اوسكولابيوس كان معالجا إغريقيا، وكان على اتصال بالطوائف التي بدأت في ممارسة حضانة الأحلام. كان يزور النائمين ويقدّم لهم المشورة والنصح.
أبقراط، والد الطبّ ومعاصر سقراط، ألّف كتابا اسماه "عن الأحلام". وكانت نظريّته بسيطة: في النهار تستقبل الروح الصور، وفي الليل تعيد إنتاجها. وهذا هو السبب في أننا نحلم".
أرسطو كان يعتقد بأن الأحلام ليست محصّلة وحي إلهي، وإنّما مؤشّرات عن أوضاع داخل الجسم. كما افترض بأن المؤثّرات الخارجية تكون غائبة أثناء النوم. ولهذا فإن الأحلام هي مظاهر وعي عميق بالأحاسيس الداخلية التي يُعبّر عنها على هيئة صور في الأحلام.
جالينوس ركّز على الحاجة لملاحظة الأحلام بعناية بحثا عن أيّ رسائل قد تتضمّنها. معاصره ارتيميدوراس وضع كتابا عن تفسير الأحلام يعتبره البعض أفضل مصدر عن الأحلام في العصور القديمة. وهو يصف نوعين من الأحلام: الأوّل يتنبّأ بالمستقبل، والثاني يتعامل مع مسائل الحاضر.
في أوربّا العصور الوسطى، كانت الأحلام كثيرا ما تُدرّس في سياق علاقتها بالله. والسؤالان النموذجيان اللذان كانا يُطرحان عادة في تلك الفترة هما: هل الأحلام مرسلة من الله للصالحين وأصحاب الكرامات؟ أم أنها مرسلة من الشياطين إلى الخاطئين والمذنبين؟!
في القرن العشرين، مُنحت الأحلام حياة جديدة على يد سيغموند فرويد الذي احدث تغييرا جذريّا في دراسة الأحلام مع ظهور كتابه المشهور "تفسير الأحلام".
فرويد رأى أن الأحلام عبارة عن رغبات لم تتحقّق، أو محاولات من اللاوعي لحسم صراع من نوع ما، وأن الرمز أو الصورة التي تظهر في حلم قد تنطوي على معان متعدّدة.
كان فرويد يركّز على الدوافع البيولوجية للفرد، الأمر الذي باعد بينه وبين العديد من زملائه مثل يونغ وأدلر. كما أن تعويله الكبير على دور الدافع الجنسيّ في الأحلام دفع معارضيه لوصفه بـ "عدوّ للبشر" لأنه تعامل مع البشر كما لو أنهم حيوانات برّية.
وفي حين أن نظريّاته ودراساته النفسية عن الأحلام شابتها بعض العيوب المنطقية والافتراضات المتحيّزة، إلا أن انجازات فرويد في هذا الميدان لا يمكن إغفالها أو التقليل من شأنها.

موضوع ذو صلة: المدن والذاكرة

Credits
plato.stanford.edu
simplypsychology.org

الاثنين، يوليو 12، 2010

جماليّات الحزن


أحد الملامح القديمة في الفنّ الغربي هو تحويل الحزن والكآبة إلى فرح وطاقة للانطلاق والإبداع. والهيئة الأكثر شيوعا في الحالات التي تتناول موضوع الكآبة والحزن هي صورة إنسان، رجل أو امرأة، يضع يده على خدّه وهو مستغرق في التفكير والتأمّل الحزين.
الفلاسفة والأدباء منذ القدم ينظرون إلى الحزن على انه دعوة خلاقة للإنسان كي يرتفع فوق ذاته ويستغلّ إمكانياته. وهناك من يعتقد أن الحزن يجعل الشخص أكثر إنسانية وشفافية وأكثر إحساسا بإيقاعات الحياة المختلفة من فرح وترح ورجاء ويأس وحياة وموت.. إلى آخره. وهناك أيضا من يرى أن الإنسان لا يصبح مكتمل الإنسانية إلا من خلال المعاناة والحزن. الحزن يمكن أن يلهم الإنسان ويقوّي مخيّلته ويجعله أكثر ارتباطا بالعالم من حوله.
الشاعر البريطاني جون كيتس تحدّث كثيرا عن فائدة الألم. قال ذات مرّة: الحزن لا يمكن تجنّبه، وهو ليس ضعف إرادة ولا مرضا نفسيا بحاجة إلى علاج". كيتس اكتشف أيضا أن الحزن يلهم الأفكار العظيمة. "ما يجعلنا نحزن هو معرفتنا بأن كلّ شيء مصيره إلى زوال. لكن عندما نحسّ بدنوّ الموت فإننا ندرك كم هو جميل هذا العالم".
الموسيقي الألماني فريدريك هاندل كان يعاني في نهايات حياته من حالة من الحزن وذبول الصحة ووهن الجسد بعد أمجاده الموسيقية الكثيرة. وفجأة أحسّ بالنشاط والحيوية عندما كُلف بتأليف موسيقى المسيح التي أصبحت أعظم أعماله الموسيقية والتي ولدت من رحم الحزن والمعاناة.
الرسّامة الأمريكية جورجيا اوكيف كانت دائما تقاوم الإحساس بالكآبة والحزن. غير أن الحزن هو الذي أشعل روحها وجعلها ترسم أفضل لوحاتها عن الأشياء المظلمة في وهج الصحراء وتحت الغيوم الثقيلة والداكنة. تنظر إلى لوحاتها المشهورة فتحسّ بأن فيها شيئا غريبا يشبه صمت وقدسيّة العظام التي كانت ترسمها.
وهناك من يميّز بين الحزن والكآبة. الحزن قد يُشعِر الإنسان باليأس والإحباط. والكآبة نوع من الحزن لكنّه يخلو من التشاؤم واليأس. كما أن لا علاقة لها بالاكتئاب.
أرسطو ناقش الكآبة كثيرا عندما درس مشاكل الإبداع الفنّي. وفرويد قرنها بالنرجسية والهوَس. الكآبة فيها مساحة كبيرة للتأمّل. وهي تتعلق بالناس والأمكنة، من قبيل حبّ صديق أو الاشتياق لمكان ما قريب من نفوسنا أو مكان سبق وأن عشنا فيه وما زلنا نحتفظ له بذكريات عزيزة. الكآبة تتضمّن متعة وفيها حبّ وشوق وتطلّع. كما أن فيها نوستالجيا، لأنها تثير الحنين إلى الذكريات القديمة والأفكار والتخيّلات عن الفقد والغياب.
بعض مشاهد أفلام سكورسيزي وطبيعة الرسّام الألماني كاسبار ديفيد فريدريش وألحان شوبان فيها نوع من الحزن المتسامي الذي يخلو من اليأس أو الإحباط.
عندما تستمع إلى بعض مقطوعات شوبان تستطيع أن تلمس فيها حزنا ومعاناة. وغالبا ما تعبّر الموسيقى الحزينة عن نفسها من خلال الإيقاع البطيء الذي يثير حالة من التوق والاستبطان الحزين. وهو انفعال معقّد جدّا يستثير بدوره صراعا داخليا يستعصي على التوصيف البسيط.


مرأى الأطلال أو الآثار القديمة قد يستدعي، هو أيضا، في نفوسنا شعورا بالحزن والكآبة. ربّما يكون السبب هو حقيقة أن الأطلال تعبّر عن مرور الزمن وعدم ثبات وديمومة الحياة والإحساس بالعبور والتحوّل من مرحلة لأخرى وما يثيره ذلك في النفس من مخاوف وهواجس. وكلّ هذه الحالات تكون مصحوبة بإحساس قليل أو كثير بالكآبة. رؤية الآثار الدارسة والقديمة تستثير حالات من التفكير التأمّلي والوجداني ترافقها صور لأحداث وحيوات من العصور الماضية. الصروح المهدّمة والأبنية المهجورة كثيرا ما تثير خيالنا وتدفعنا لإعادة بناء قصص متخيّلة في أذهاننا عن شكل الحياة في الماضي وعن الارتباطات ما بين الآثار والأحداث التي ترويها. هنا أيضا نجد ظلالا من المشاعر السلبية والايجابية للنوستالجيا والحنين لأزمنة وأمكنة لم تعد موجودة سوى في الذهن بعد أن انتهى وزال وجودها الفيزيائي أو المادّي.
في لوحته بعنوان الحالم، يرسم كاسبار فريدريش شخصا جالسا في نافذة دير قوطي قديم، أو بالأصحّ في أطلال ما تبقّى من ذلك الدير. داخل الدير ألوان حمراء داكنة. لكن النور الذهبيّ الساطع يفيض من وسط الصورة ليملأ الفراغ. المشهد عبارة عن تأمّل صامت والتباين ما بين الضوء والعتمة يوحي بالوحدة. لكن بنفس الوقت ما يزال هناك ثمّة إحساس بالأمل وربّما التوق.
الكآبة التي يشعر بها الإنسان أثناء لقائه بالطبيعة ليست بالأمر الطارئ أو الجديد. تخيّل نفسك، مثلا، وأنت تمشي في طبيعة مقفرة. الأرض التي تمتدّ أمامك تبدو فارغة وفسيحة تلوّنها ظلال باهتة من الرمادي مقابل سماء بنّية. الهواء ساكن وخفيف. وإذ تجد نفسك متوحّدا مع إيقاعات الفراغ الهادئ الذي أمامك، قد ينتابك فجأة مزاج تأمّلي يستثير في نفسك ذكريات وأفكارا معيّنة من زمن بعيد. تشعر بشيء من المتعة عندما تتذكّر الأوقات الجميلة من الماضي. لكنها متعة يخالطها حزن وتوق غامض.
في منتصف القرن السادس عشر، كانت الكآبة ترتبط بالإنسان المتفوّق والناضج والقادر على المشاعر العميقة. الموسيقيّ البريطاني جون دولاند عاش في ذلك الوقت وكان معاصرا لـ شكسبير. وقد عُرف ببراعته في العزف على آلة العود "أو اللوت". تستمع إلى ألحانه اليوم فتحسّ فيها بقدر غير قليل من الحزن والحنين. ومثل شكسبير، فإن موسيقى دولاند ما تزال تتحدّث إلينا من وراء أربعمائة عام.
في ألمانيا، ارتبط الفنّ والأدب والفلسفة في العصر الرومانسي بالكآبة. وقد كتب عنها ايمانويل كانت قائلا: إن المشاعر المتسامية تثير المتعة والخوف معا".
البريخت ديورر، الفنّان الألماني، رسم لوحة بعنوان كآبة يظهر فيها رجل متعطّش للمعرفة وحريص على إثراء عقله. ثم لهذا السبب، يشعر بالغربة ويعيش معزولا ومنبوذا من بقيّة البشر. هذه اللوحة وجد فيها الكاتب الأمريكي دان براون ما أثار اهتمامه عندما أشار إليها في روايته الأخيرة الرمز المفقود.
الشاعر الألماني هاينريش هايني اخذ الفكرة واستخدمها في إحدى قصائده عندما كتب يقول: لا أعرف ما الذي يؤرّقني ويثقل على عقلي طوال اليوم".
العلماء يقولون إن الكآبة ليست شيئا سيّئا أو سلبيا وأن قوّتها الايجابية هي التي منحت القوّة والعبقرية للفنّانين والفلاسفة العظام.
الكآبة والحزن كانتا وما تزالان فكرتين رائجتين في الرسم. ومن أشهر من رسموهما في أعمالهم كلّ من لوسيان فرويد ورودان وفان غوخ وغويا ووليام بليك ودي تشيريكو وإدوارد هوبر وبيتر بريغل وإدفارد مونك وإدغار ديغا وغيرهم.

Credits
contempaesthetics.org
quod.lib.umich.edu

الجمعة، مارس 26، 2010

خمسة ألحان شائعة

طلب مني صديق عزيز يتابع المدوّنة وله اهتمامات موسيقية وفنّية أن أفرد موضوعا عن أكثر المعزوفات الموسيقية الكلاسيكية شعبية وانتشارا. والحقيقة أن هناك قطعا موسيقية كلاسيكية كثيرة يمكن أن ينطبق عليها هذا الوصف بجدارة. لكن سأكتفي هنا بالإشارة إلى خمس مقطوعات أتصوّر أنها تتصف، إلى جانب رواجها وانتشارها الكبير، باعتبارها من أفضل وأجمل وأشهر المعزوفات الموسيقية الكلاسيكية في جميع الأوقات.
  • عند التطرّق إلى الأعمال الموسيقية الكلاسيكية المشهورة تأتي تلقائيا إلى الذهن السيمفونية الخامسة لـ لودفيغ فان بيتهوفن والتي ظهرت لأوّل مرّة في العام 1804م. وقد وصف هذه السيمفونية العديد من الروائيين والشعراء والموسيقيين بطريقة جميلة وبليغة. قال احدهم واصفا تأثيرها الشعوري: عندما تستمع إلى هذه السيمفونية تتخيّل أنوارا مشعّة تضيء في أعماق الليل. الأنغام فيها تشبه ظلالا عملاقة تتحرّك إلى الأمام والخلف مثيرة في النفس ألما مضنيا وتساؤلات حادّة عن القضاء والقدر". الضربات الأربع الأولى في بداية السيمفونية مثيرة للاهتمام. وقد وصفها بيتهوفن في إحدى المرّات بأنها ضربات القدر التي تدقّ على الأبواب بعنف. الضربات الدراماتيكية المؤرّقة تستدعي بعض المعاني والصور الرمزية. يصحّ القول مثلا أنها تنذر بالشؤم وأحيانا تثير في النفس إحساسا بالانتصار. وهي العنصر المسيطر الذي يتخلل أجزاء السيمفونية ويوحّد جميع حركاتها الأربع. ومن ابلغ ما قيل في وصفها أن من يسمعها، بمعزل عن سياقها الدرامي وتأثيرها الانفعالي، قد يتصوّر أن بوسع أيّ طفل أن يعزفها على البيانو. النسيج اللحني الذي يبطّن تلك الحركات هو من أروع وأعظم ما أنجزه بيتهوفن في حياته.
  • هناك أيضا السيمفونية الأربعون لـ وولفغانغ اماديوس موزارت والتي ظهرت عام 1788م. وهي مكوّنة من أربع حركات رئيسية، أشهرها الحركة الأولى المسمّاة مولتو الليغرو. وهي تبدأ بداية مظلمة. وما يعمّق هذا الإحساس صوت آلة الفيولا التي تُسمع فيها بشكل متواتر. الحركة الأولى ذات تأثير كبير وواسع جدّا. غير أن من الصعب إدراك المزاج الذي تثيره في نفس السامع. لكن يمكن أن يقال إنها تعطي إحساسا بالحزن والعزلة واليأس وأحيانا الرفض والندم. بعض النقّاد يشيرون إلى إنها تعكس إحباط موزارت وإحساسه بالحزن وخيبة الأمل بسبب تناقص شعبيّته وتدهور أوضاعه المالية. الحركة الأولى بالذات تعطي إحساسا بالهزيمة ويخيّل للسامع أن موزارت يطرح من خلالها أسئلة متكرّرة وذات نهايات مفتوحة يعقبها إجابات غير شافية أو مقنعة. أي أنها يمكن أن تكون صورة كئيبة عن حالة الإنسان في قمّة عجزه وحيرته ويأسه. وأهميّة هذه السيمفونية ليست في تفاصيلها الفنّية وإنما في تأثيرها الانفعالي الكبير. في الجزء الأخير من السيمفونية، ثمّة إحساس متجدّد بأن الحياة وإن بدت قاسية وكئيبة أحيانا، فإنها يمكن أن تجلب للإنسان لحظات تبشّر بالأمل والخلاص.
    من الأشياء غير المؤكّدة التي كُتبت عن هذه السيمفونية أنها لم تُعزف في حياة موزارت بل بعد موته. ورغم كثرة وتباين التفسيرات التي تناولتها، تظلّ السيمفونية الأربعون احد أعظم أعمال موزارت وأكثر المؤلّفات الموسيقية الكلاسيكية شهرة وإثارة للإعجاب على مرّ العصور.
  • عند الحديث عن المعزوفات الشائعة والمشهورة لا بدّ وأن نتذكّر موسيقى الماء لـ جورج فريدريك هاندل، وبالتحديد الحركة الأخيرة منها والمسمّاة "أللا هورن بايب".
    الاستماع إلى هذه المعزوفة يوفّر إطلالة على فنّ عصر الباروك. وبعض مقاطعها تذكّرنا بأسلوب فيفالدي وباخ اللذين عاشا في ذلك العصر. وقد قيل إن هاندل ألّف الموسيقى في محاولة لكسب رضا الملك الانجليزي جورج الأول. هاندل ألماني في الأساس لكنه هاجر إلى بريطانيا وأصبح في ما بعد الموسيقى المفضّل لدى البلاط. هذه القطعة مشهورة جدّا. فقد كانت تذاع من محطّة البي بي سي في بداية بثّ برامجها اليومية. كما عُزفت في العديد من محطّات الإذاعة والتلفزة داخل بريطانيا وخارجها. وقد قُدّمت الموسيقى لأوّل مرّة عام 1717م. وبناءً على طلب جورج الأول، عُزفت على نهر التيمز وشارك في عزفها خمسون موسيقيا. ويقال إن الملك أحبّ الموسيقى كثيرا. وكان من عادته أن يطلب عزفها في رحلاته البحرية وفي المناسبات الرسمية.
    موسيقى الماء جميلة وفخمة. صوت البوق فيها يثير شعورا بالأمجاد والانتصارات الغابرة. لا عجب، إذن، أن تتحوّل الموسيقى مع مرور الأيام إلى رمز لأمجاد الإمبراطورية البريطانية التي لم تكن تغرب عنها الشمس.
  • من القطع الموسيقية الشائعة والجميلة أيضا مقدّمة أوبرا كارمن التي ألّفها الموسيقيّ الفرنسي جورج بيزيه عام 1875م. لأوّل وهلة قد تظنّها لحنا لـ موزارت. وربّما يذهب ذهنك تلقائيا إلى زواج فيغارو بالتحديد. الشبه كبير ولافت بين القطعتين. السبب هو أن موزارت كان نموذج بيزيه المفضّل في التأليف الاوركسترالي. ويبدو انه نسج مقدّمة كارمن على طريقة موزارت الملوّنة والمرحة. اللحن هنا يشبه مارشا عسكريا. لكنه خفيف، مرح ولا يخلو من عفوية. الأوبرا نفسها تعتمد على قصيدة للشاعر الروسي الكسندر بوشكين. والأحداث تجري في اشبيلية بإسبانيا وتتمحور حول امرأة غجرية لعوب اسمها كارمن. الحركة الأولى تصوّر مشهدا لجنود يحرسون مصنعا للسجائر. موضوع الأوبرا ذو طابع كوميدي، لكنها تنتهي بمأساة. المفارقة أن جورج بيزيه، مثل موزارت، مات وعمره لا يتجاوز الخامسة والثلاثين. وقد قدّمت الأوبرا بعد أشهر من وفاته. وربّما لم يكن يخطر بباله أن كارمن سيكون لها هذه الشعبية الجارفة التي تتمتّع بها في عالم الموسيقى اليوم .
  • القطعة الخامسة المختارة هي السيمفونية التاسعة أو سيمفونية العالم الجديد كما تسمّى أحيانا للمؤلف الموسيقي التشيكي انتونين فورجاك. والحقيقة أن اسم هذا الموسيقيّ في حدّ ذاته يمثّل مشكلة. فهو يُكتب دفوراك، لكنه ينطق فورجاك وأحيانا فورتشاك. ومع ذلك هناك اتفاق على أن الفضل يعود لهذا الموسيقي في تعريف العالم بالموسيقى التشيكية. كما أن هذه السيمفونية أصبحت اليوم تعبّر عن الروح الأمريكية، وهي التي مهدّت الطريق أمام تصدير الثقافة الأمريكية إلى العالم.
    ألف فورجاك سيمفونية العالم الجديد عام 1893 أثناء زيارته للولايات المتحدة وعُزفت في نفس السنة في قاعة كارنيغي وكان نجاحها فوريا ومدويّا. وهي إحدى أشهر وأكثر السيمفونيات شعبية في الموسيقى الحديثة. ويقال انه تأثّر فيها بالأنغام الموسيقية للهنود الحمر والأمريكيين الأفارقة.
    الحركة الثانية من السيمفونية هي أشهر أجزائها وتتسم ببدايتها القويّة والمزعجة من خلال توظيف الآلات النفخية التي تثير إحساسا بالانتصار. كان فورجاك مشهورا بدمجه الألحان التشيكية الأصلية وإعطائها أشكالا موسيقية كلاسيكية. وقد مكث في أمريكا ثلاث سنوات غمر نفسه خلالها بالموسيقى الإفريقية والهندية. وفضّل أن يقيم في مستعمرة للمهاجرين التشيك الذين ساعدوه على التغلّب على إحساسه بالحنين إلى موطنه الأصلي في بوهيميا ببلاد التشيك. "العالم الجديد" موسيقى رائجة ومشهورة جدّا وتعطي انطباعا بالحداثة والمعاصرة. ومن الصعب وأنت تسمعها اليوم أن تصدّق أنها ألّفت قبل أكثر من مائة عام.

  • الاثنين، أغسطس 04، 2008

    الفصول الأربعة

    لو كان انتونيو فيفالدي ما يزال حيّا لكان عمره اليوم 330 عاما. ورغم أن هذا مجرّد افتراض بعيد الوقوع، فإن الأمر المؤكد هو أن فيفالدي ما يزال حيّا بالفعل من خلال موسيقى كونشيرتو الفصول الأربعة الذي ما يزال يعزف إلى اليوم ويستمتع به الناس ويتحدّثون عنه بعد كلّ هذه السنوات الطويلة.
    وهناك شبه إجماع في أوساط المهتمّين بالموسيقى بأن هذا الكونشيرتو الذي كتبه فيفالدي وعمره لا يتجاوز الخامسة والعشرين هو أشهر عمل موسيقي كلاسيكي، بل وأكثر الأعمال الموسيقية رواجا وشعبية على مرّ العصور.
    انه حتى أكثر شعبية وانتشارا من السيمفونية الخامسة لـ بيتهوفن أو السيمفونية الأربعين لـ موزارت أو موسيقى الماء لـ هاندل ومن وترية بــاخ ومن كارمن لـ جورج بيزيه ومن كونشيرتو البيانو لـ تشايكوفسكي ومن مارش كلارك ومن تأمّل شومان الصامت ومن شهرزاد كورساكوف ..
    لكن كيف تحقق ذلك؟ كيف أمكن لبضع نوتات موسيقية كتبت على ورقة صغيرة قبل ثلاثة قرون أن تعيش طوال هذه السنوات بل وأن تصبح برأي بعض النقاد احد أشهر معالم الألفية الماضية دون أن يخفت بريقها أو يخبو سحرها أو يتوقف الناس عن سماعها.
    قد يكون احد الأسباب – بالإضافة طبعا إلى جودة الموسيقى وقيمتها الإبداعية - هو أن العالم يتغيّر باستمرار لكنّ ما بداخلنا لا يتغيّر. والإنسان عادة يحتاج للراحة والتأمّل اللذين توفرهما الموسيقى وهو لا يهتم كثيرا مثلا بمن كتب الموسيقى ولا في أي عصر ظهرت.
    وفي حالة الفصول الأربعة على وجه الخصوص فإن الارتباط الحميم بين الإنسان والطبيعة، يعدّ عنصرا إضافيا مهمّا في رواج هذا العمل الموسيقي وانتشاره.
    في العام 1703 كان فيفالدي يعمل مدرّسا للموسيقى في ملجأ للأيتام بمدينة فينيسيا. وكانت مهمّته تعليم الفتيات العزف على الكمان. وقد خامرته فكرة انجاز هذا العمل في تلك الفترة بالذات.
    وزمن فيفالدي كانت الفصول حاضرة بقوّة في حياة الناس. كان بعضها رمزا للخير والوفرة والنماء، وكان بعضها الآخر يحمل معه نذر الشؤم والخراب على هيئة ثلوج وعواصف وفيضانات تتلف الزرع وتدمّر المحاصيل وتتسبّب في نشر الجوع والفقر والمعاناة.
    وقد وظفت موسيقى الفصول الأربعة في عدد من الأفلام السينمائية والبرامج الوثائقية والإعلانات وخلافها. وعندما ظهر الكونشيرتو لأوّل مرة في العام 1725 ، راق كثيرا للملك الفرنسي لويس السادس عشر لدرجة انه كان يأمر بعزف موسيقى الربيع في المناسبات التي كان يقيمها لضيوفه.
    ويعتبر الكونشيرتو من أفضل الأعمال الموسيقية التي الفت في عصر الباروك. وقد حرص فيفالدي على أن يكتب سوناتا وصفية لترافق كلّ حركة من حركات الفصول.
    الحركة الأولى من "الربيع" تعكس إحساسا بالسعادة والفرح. تبدأ الموسيقى خفيفة مبهجة وهي تعلن مقدم الربيع. وأصوات الكمان تتداخل مع بعضها وكأنها عصافير ترفع أصواتها بالإنشاد والتغريد فرحا بقدوم فصلها الأثير.
    الحركة الثانية صامتة كما يعبّر عنها صوت الكمان الهادئ. المروج مزهرة والقطيع نائم والأنهار والغدران ممتلئة بالماء والرعاة في حالة خلوة وتأمّل.
    في الحركة الثالثة تعود الطيور مجدّدا للغناء. المياه صافية ورقراقة والأزهار متفتّحة والأغصان نضرة والحداة يرفعون أصواتهم بالغناء. لكن هناك في الجو ما ينبئ باقتراب موعد العاصفة.
    الحركة الأولى من "الصيف" بطيئة وكسولة. انه أحد أيام الصيف القائظة. الشمس حارقة والرياح تهبّ بخفّة. لكن سرعان ما يعلو الإيقاع وتتسارع وتيرته مع قرب هبوب العاصفة. هنا يدخل التشيللو بحشرجته وصوته المفرغ معلنا وصول رياح الشمال.
    الحركة الثانية ساكنة، وقورة. كل شيء هادئ عدا أن هذا الوقت هو الوقت الذي تتجمّع فيه الغيوم في السماء.
    الحركة الثالثة مجلجلة وعاصفة. والتشيلو والآلات الوترية تعطي انطباعا عن قوّة الريح وتأثيرها المدمّر.
    في الحركة الأولى من "الخريف" صورة لطيور مهاجرة تعبر الأفق مؤذنة بمقدم الخريف. ثم هدوء. هنا يمكن استحضار صور لسيول وبرق ورعد، وروابي وتلال مغسولة بالمطر.
    في الحركة الثانية تدخل الآلات الوترية والاكورديون لتشيع جوّا من الدعة والاسترخاء. فالنسيم عليل والرياض مبتسمة والورود متألقة. بوسع السامع أيضا أن يتخيّل الفلاحين وهم يستمتعون بالحصاد بينما يسلم البعض الآخر منهم نفسه للنوم الهادئ.
    الحركة الثالثة متوثبة وسريعة. هذا هو موسم الصيد. والصيّادون يتأهّبون ببنادقهم وكلابهم لجني صيد وافر. ووسط الغبار والمعمعة تجاهد الحيوانات الجريحة للفرار بيأس.
    الحركة الأولى من "الشتاء" متوتّرة وجامحة. واهتزاز أوتار الكمان يعزّز الإحساس بالبرد القارس والرياح الباردة. الثلج يغطي الطبيعة وبرودة الجو تلفح الوجوه.
    في الحركة الثانية نتخيّل الأرض وقد اكتست بحلة من الثلج الأبيض الناصع. والمشي فوق الثلج يتطلب الحذر خوف الانزلاق والسقوط. هذه الحركة لا يمكن وصف رقتها وشاعريتها وأناقتها. الموسيقى هنا منسابة في رفق، حزينة .. تخالطها نشوة راقصة. مدّتها بالكاد دقيقتان لكنها ممتعة، مرهفة، عذبة وتعلق في الذهن بسهولة. تسمعها فتحسّ أن الوقت توقف أو كأنك تقف على مشارف حلم..
    الحركة الثالثة تعطي انطباعا عن الجلوس إلى جانب النار. وقرب نهايتها يتسارع صوت الكمان كما لو أننا نسمع وقع جياد تعدو. انه الإعلان عن نهاية الشتاء وعودة دورة الفصول من جديد.


    ولد فيفالدي في فينيسيا يوم 4 مارس 1678 وعمّد راهبا في سنّ الخامسة والعشرين ليلقب في ما بعد بالراهب الأحمر بسبب لون شعره المائل للحمرة. لكنه سرعان ما ترك الكنيسة نتيجة معاناته من الربو وآلام المفاصل. وربّما كان قد ادّعى المرض لكي يعود إلى عشقه الأول، أي الموسيقى.
    كانت الموسيقى في روما آنذاك تشهد ذروة نشاطها وتوهّجها. وكان موسيقيون لامعون مثل سكارلاتي وكوريللي وهاندل جزءا لا يتجزّأ من المناخ الثقافي السائد في ذلك الوقت.
    ومن خلال الفصول الأربعة استطاع فيفالدي إضفاء طابع وصفي على الموسيقى تلعب فيه الوتريات الدور الرئيسي. وبفضله أصبح للموسيقى الايطالية نكهة خاصة ومتفرّدة لا تخطئها الأذن.
    ومن الغريب أن هذا الكونشيرتو، من بين 5000 عمل موسيقي آخر ألفها فيفالدي، هو الوحيد الذي ذاع واشتهر. وقد جنت شهرة الفصول الأربعة على أعمال موسيقية أخرى لـ فيفالدي لا تقلّ جمالا.
    الشعبية الكاسحة التي تمتعت بها الفصول الأربعة عزّزت جاذبيتها لدى العازفين والموزّعين الموسيقيين وجمهور الناس على السواء.
    وقد ظهرت الفصول الأربعة في مئات التسجيلات. وكلّ منها يحاول تقديم العمل وترجمته من منظور مختلف. لكن يمكن التوقف عند أربعة تسجيلات: الأول لعازف الكمان البريطاني نايجل كينيدي. هذا التسجيل ظهر عام 1989 ليكسر كل الأرقام القياسية السابقة في تسجيلات الموسيقى الكلاسيكية وليصبح بالتالي أكثر تسجيلات الفصول الأربعة مبيعا في جميع الأوقات.
    وهناك أيضا تسجيل جميل آخر لعازفة الكمان الروسية فيكتوريا مولوفا تحت قيادة المايسترو كلاوديو ابادو.
    ثم هناك تسجيل عازف الكمان الأمريكي غيل شاهام تحت قيادة اوركسترا اورفيوس. والتسجيل الرابع لعازفة الكمان الأمريكية من أصل كوري ساره تشانغ.
    لكن هناك توزيعين للفصول يعتبران من بين التوزيعات الأكثر خصوصية وتفردّا؛ الأول للألمانية آنا زوفي موتار التي عزفت الفصول الأربعة مع المايسترو العبقري هيربرت فون كارايان والثاني للهولندية جانين يانسن. موتار مبهرة ويانسن متميّزة وترجمتهما للفصول الأربعة تنطوي على ابتكار وتجديد من نوع خاص.

    عندما يأتي الحديث على كونشيرتو فيفالدي، سرعان ما نتذكّر سيمفونية بيتهوفن السادسة المعروفة أكثر بسيمفونية الرُعاة The Pastoral Symphony . الحركة الثانية من هذه السيمفونية، وهي بالمناسبة من ارقّ وأجمل أعمال بيتهوفن ومن أكثرها استدعاءً للتأمّل، تبدأ بتصوير حركة انسياب الماء في الغابة. وقبل نهايتها نسمع غناء وشدو الطيور. وكلّ ذلك من خلال تطويع أصوات آلات الفلوت والاوبو والكلارينيت لتحاكي الأصوات الإيقاعية في عالم الطبيعة.

    إن الفصول الأربعة حافلة بالمعاني الدرامية والتلاوين التصويرية. وفيفالدي قد يكون موسيقيا في الأساس، لكنه هنا يمسك بريشة رسّام يجلب معه ألوانه وعدّة الرسم الأخرى ليرسم لوحات ذات ألوان متنوّعة، قشيبة وزاهية تجذب الأنظار وتخلب الألباب.
    وهذا يشي بالعلاقة النفسية والروحية التي تربط الموسيقي بالطبيعة. فقد كان فيفالدي مندمجا كلية بالطبيعة، مصغيا على الدوام لأصواتها وأنغامها وأسرارها ومكنوناتها. وقد ساعده إحساسه القويّ بالحياة ونقاء روحه وقوّة ملكته التعبيرية على إبداع هذه الموسيقى الخالدة والعظيمة.
    توفي فيفالدي في فيينا يوم 28 يوليو 1741 بعد أن داهمته أزمة ربو حادّة. وهو المرض الذي لازمه طيلة حياته. ومثل موزارت، الذي توفي بعد ذلك بخمسين عاما، مات فيفالدي شبه منسي ولم يحظ بجنازة تليق به.
    وبعد وفاته ذهب هذا الموسيقي المبدع في غياهب النسيان ولم يعد احد يتذكّره سوى بالكاد. لكن شعبيّته سرعان ما بعثت من جديد في مستهلّ القرن الماضي مع إعادة اكتشاف الفصول الأربعة التي أصبحت منذ ذلك الحين إحدى العلامات الفارقة والمهمّة في تاريخ الموسيقى العالمية.


    Credits
    studycorgi.com

    الأربعاء، مايو 07، 2008

    مائدة، كرسي، طبق فاكهة وآلة كمَان

    لماذا إذا تهيّأت للنوم يأتي الكمان؟!
    فأصغي آتياً من مكان بعيد
    فتصمت همهمة الريح خلف الشبابيك
    نبض الوسادة في أذني
    تتراجع دقّات قلبي
    وأرحل في مدن لم أزرها
    شوارعها فضّة
    وبناياتها من خيوط الأشعّة
    ألقى التي واعدتني على ضفّة النهر واقفة
    وعلى كتفيها يحطّ اليمام الغريب
  • أمـل دنقـل

  • عندما يتعلّق الأمر بالموسيقى، لا صوت يطرب ويثير المخيّلة كامتزاج أنغام آلتي الكمان والبيانو. لكنْ لو كان لي أن اختار آلة مفردة لما تردّدت في اختيار الكمان، لأنني مع من يقول إن الكمان هو الرمز الأسمى لأناقة الموسيقى وجمال الطبيعة معا. الكمان قريب جدّا من المشاعر. وهو اقرب الآلات الموسيقية شبها بصوت الإنسان.
    وقد قرأت ذات مرّة أن بدايات ظهور هذه الآلة تعود إلى القرن التاسع الميلادي. ويقال إنه أتى من آسيا وأن الأتراك والمغول قد يكونون أوّل من عرف الكمان في التاريخ، وكانوا يصنعون أوتاره من شعر ذيل الحصان.
    ثم ما لبث الكمان أن انتشر إلى الصين والهند وبلدان الشرق الأوسط. وطبعا كان شكل الآلة آنذاك بدائيا وبسيطا. وقد استغرق الأمر خمسة قرون كاملة قبل أن تصل هذه الآلة إلى شكلها الحالي والمتعارف عليه.
    التغيير الجذري الذي طرأ على شكل الكمان وعلى تطوّر إمكانياته تحقّق في مدينة ميلان الايطالية "ويقال في البندقية" حوالي بدايات القرن السادس عشر.
    ويشار إلى أن أوّل عازف كمان مشهور كان الايطالي اندريا اماتي الذي يرجع إليه الفضل أيضا في صنع أوّل آلة كمان بشكلها الحديث والمعروف.
    وأشهر ماركات الكمان في العالم هي ستراديفاريوس وأماتي وغارنييري، وهي أسماء لصنّاع ايطاليين برعوا منذ قرون في صناعة الكمان واستخدامه. وأشهر العازفين اليوم يفضّلون اقتناء هذه الأنواع القديمة من الكمان المعروفة بغلاء أسعارها وبأدائها العالي وجودة النغمات التي تصدرها.
    وفي مناسبات مختلفة بيع بعض هذه الآلات، لشهرتها ولقدم صنعها، بأكثر من مليون جنيه استرليني، في حين لا يكلّف أغلى وأجود نوع حديث أكثر من عشرة آلاف دولار.
    ولأن بدايات الكمان الحقيقية ارتبطت بإيطاليا، لم يكن غريبا أن يصبح نيكولو باغانيني الايطالي أشهر عازف كمان في تاريخ الموسيقى كله. ويقال انه كان لفرط مهارته يستخدم كلتا يديه في العزف. كما كان بارعا في العزف على وتر واحد في حال انقطعت الأوتار الثلاثة الأخرى. وقد أصبح تقليدا شائعا منذ ذلك الوقت أن يحتفظ العازف في جيبه بوتر إضافي تفاديا لاحتمال انقطاع احد الأوتار.
    وفي زمن باغانيني، وأيضا فيفالدي، كان الكمان مرتبطا بالطبقة الراقية وبفئة النبلاء والارستقراطيين.
    اليوم ثمّة ملاحظة جديرة بالاهتمام تتعلّق بهذه الطفرة الكبيرة التي نراها الآن في عدد النساء اللاتي يعزفن الكمان بعد أن كان في الماضي عملا يختصّ به الرجال وحدهم. والكثير من هؤلاء العازفات لا تنقصهنّ البراعة ولا الجاذبية. وهذه الصفة الأخيرة تُعتبر عاملا مهمّا جدّا لا تغفل عنه شركات التسجيل ولا منظّمو الحفلات الموسيقية.
    وهناك من يقول إن معظم الأسماء الكبيرة اليوم في مجال العزف على الكمان هي لنساء. ويتساءلون هل أن الأمر مجرّد مصادفة، وهل الإناث أكثر قدرة من الرجال على تحمّل الدروس الطويلة والشاقّة التي يتطلّبها العزف على الآلة، أم لأنّ الكمان يتميّز بصغر حجمه وبسهولة حمله من مكان لآخر دون حاجة إلى تجهيزات ثقيلة وتحضيرات معقدة؟
    وهل يمكن فعلا اعتبار الكمان والبيانو والفلوت آلات أنثوية بحكم أن الأسماء البارزة والأكثر شهرة في العزف على هذه الآلات في العالم اليوم تعود لنساء؟
    وفي المقابل، هل يمكن اعتبار الغيتار والساكسوفون والآلات النحاسية آلات ذكورية على اعتبار أن الرجال هم من يتسيّدون ساحة العزف على هذه الآلات حاليا؟
    قرأت مؤخّرا بعض الأفكار التي لا يخلو بعضها من طرافة عن تأثير موضوع الجندر في الموسيقى. ومن الواضح أن إتقان العزف على الكمان بخاصّة يتطلّب مستوى عاليا من الموهبة والذكاء وسعة الخيال. وقائمة مشاهير النساء البارعات في العزف على الكمان اليوم طويلة ولا تكاد تنتهي. وبعضهنّ عملن مع أشهر الفرق السيمفونية في العالم، وتتلمذن على أيدي أشهر العازفين وقادة الاوركسترا من أمثال ياشا هايفيتز وايزاك ستيرن ويوجين اورماندي ودانيال بارانبويم وفلاديمير اشكنازي وهيربرت فون كارايان وغيرهم.
    والأسماء النسائية المهيمنة الآن على صناعة العزف على آلة الكمان هي امتداد للرعيل الأول من النساء الرائدات في هذا المجال مثل البولندية واندا ولكوميرسكا والنمساوية ايريكا موريني والأمريكية مود باول والمجرية يوهانا مارتزي والبولندية ايدا هاندل واليابانية تاكاكو نيشيزاكي وغيرهن.
    ويأتي على رأس عازفات الكمان من الجيل الجديد الألمانية آنا زوفي موتار التي تخصّصت في عزف بيتهوفن وفيفالدي وباخ وموزارت وسترافنسكي. وعلى ذكر موزارت، لا اعتقد أنني سمعت من قبل أجمل ولا أروع من عزف زوفي موتار لكونشيرتو الكمان رقم 3 الذي يُعتبر ليس فقط احد أفضل أعمال موزارت وإنما احد أعظم القطع الكلاسيكية التي تمّ تأليفها على مرّ العصور.
    ولـ زوفي موتار طريقتها الخاصّة والمتميّزة في العزف، وهي لا تنظر إلى الجمهور إلا نادرا ولا تعيد العزف إلا في ما ندر. كما أنها تعامل في بلدها كأميرة ووريثة للعازف والمايسترو العظيم فون كارايان الذي اختارها وهي بعدُ في الثالثة عشرة وأجلسها معه في فرقته.


    وموتار هي اليوم في الخامسة والأربعين وتجني أكثر من ثلاثة ملايين دولار سنويا مقابل الحفلات الموسيقية التي تعزف فيها، أي ضعف ما يتقاضاه أفراد اوركسترا كاملة في فرنسا أو بريطانيا. موتار مغرمة كثيرا بموزارت الذي تقول عنه إن تأثير موسيقاه في الروح مثل تأثير أشعّة اكس التي تشفّ الجسم وتكشف كلّ ما فيه.
    ويظهر أن الأمريكيين بدءوا هذه الأيام يغارون من اتساع شعبية زوفي موتار التي يرون في صعود نجمها وازدياد شعبيتها عندهم تهديدا لمكانة من يعتبرونه عازف الكمان الأوّل في العالم اليوم وهو الأمريكي ايزاك بيرلمان .
    والحقيقة أن ريادة الأمريكيين في مجال العزف على الكمان وكثرة العازفين المبدعين عندهم أمر لا يمكن إنكاره. هناك مثلا العازفان الأسطوريان ايزاك ستيرن ويوشا هايفيتز، بالإضافة إلى كبار العازفين الأحياء أمثال جون كوريليانو وريجينا كارتر بالإضافة إلى جوشوا بيل الذي يستخدم آلة كمان من نوع ستراديفاريوس يعود تاريخ صنعها إلى ما قبل ثلاثة قرون.
    وكان آخر أعمال جوشوا بيل اشتراكه مع زميله كوريليانو في وضع الموسيقى التصويرية للفيلم السينمائي المشهور الكمان الأحمر.
    كلّ هؤلاء أمريكيون. كما أن أعظم عازف للتشيللو في العالم الآن هو الأمريكي من أصل صيني يو يو ما الذي اشتهر بعزفه المنفرد والمتميّز لسوناتات باخ وموسيقى دفورجاك وشوبيرت وموزارت.
    بعد زوفي موتار يأتي اسم عازفة الكمان الأمريكية من أصل كوري سارة تشانغ التي تتلمذت على يد يهودي مينوهين الذي وصفها في إحدى المرّات بأنها أكثر عازفات الكمان مثالية وإحكاما.
    ثم هناك الهولندية جانين يانسن التي برعت في عزف تشايكوفسكي ومندلسون وبرامز. وبوسع زائر موقعها الاليكتروني الاستماع إلى عزفها الجميل لبعض سوناتات فيفالدي.
    وهناك أيضا الأمريكية الصاعدة بقوّة هيلاري هان التي احتلّ أوّل ألبوماتها الذي ضمّ بعض سوناتات باخ المرتبة الأولى في قائمة التسجيلات المفضّلة طوال أسابيع. يُذكر أن هيلاري هان برعت على وجه الخصوص في عزف كونشيرتو جان سيبيليوس الذي يقال انه احد أصعب القطع الموسيقية التي كُتبت لآلة الكمان، وإجادته تتطلّب مستوى غير عادي من التركيز الذهني والسيكولوجي.
    وهناك كذلك الاسكتلندية نيكولا بينيديتي التي تظهر في بعض صورها محتضنة آلة كمانها المصنوع في فينيسيا عام 1751 على يد بييترو غارنييري.
    والقائمة تطول. لكن يمكن الإشارة في عجالة إلى بعض الأسماء النسائية الأخرى والمهمّة مثل الكندية لارا سانت جون واليابانية ايكوكو كاواي والروسية فيكتوريا مولوفا والبريطانية السنغافورية الأصل فانيسا ماي والجورجية ليزا باتياشفيلي والألمانية جوليا فيشر وسواهن.
    الملاحظة الأخرى التي تلفت الانتباه هي أن معظم عازفات الكمان، وأكاد أقول جميعهن، يتميّزن بقدر عال من الجمال والجاذبية والحضور. بل لا أبالغ إن قلت إن ملامح بعضهن وطريقة لباسهن وحتى أسلوب حياتهن لا يختلف في شيء عن عارضات الأزياء والممثلات ومغنّيات البوب. وقد اكتشفت مع الأيّام انه حتى الجيل الجديد من مغنّيات الأوبرا "وعلى خلاف ما يتصوّره الكثيرون عن جدّيتهن ورصانتهن" يشتركن في هذه السمة التي تلخّص إلى حدّ ما طبيعة الأنثى وميلها الغريزي إلى إبراز جمالها وحتى التفنّن في أظهار مفاتنها للفت أنظار الجنس الآخر.
    ومع ذلك لا يمكن لوم النساء وحدهن، فالموسيقيون من الرجال أيضا يبالغون في إظهار أناقتهم واهتمامهم بالشكل الخارجي. وقد قرأت مؤخّرا رأيا لم اتأكّد من صحّته وملخّصه أن نشأة الموسيقى الكلاسيكية نفسها ومن ثم تطوّرها خلال القرنين الأخيرين كان قائما على فكرة التقاطع ما بين الفن والجنس "أي الذكورة في مقابل الأنوثة"، وأن عددا كبيرا من المؤلّفين الموسيقيين من الرجال كانوا حريصين دائما على تقمّص نموذج شخصية اللورد بايرون في محاولة لخطب ودّ النساء والتقرّب منهن.
    وبعض قادة الاوركسترا الكبار كانوا يعمدون إلى ترتيب ديكور حفلاتهم بحيث يكون الضوء مركّزا على شعورهم الطويلة اللامعة للفت أنظار النساء ونيل إعجابهن.
    ومن العبارات المنسوبة إلى باغانيني قوله: لست بالرجل الوسيم، لكن عندما تسمعني النساء وأنا اعزف، سرعان ما يأتين إليّ زحفا ويجثين عند قدمي".
    وضمن هذه الإطار يقال إن الموسيقي فرانز ليست كان مضرب المثل في جماله ووسامته، كما كان أشهر عاشق في أوربّا في زمانه وأعظم عازف بيانو في تاريخ الموسيقى كلّه. وكانت النساء تتقاتلن من اجل الحصول على أعقاب السجائر التي كان يتركها على البيانو بعد الحفلات الموسيقية التي كان يحييها.
    إن تزايد أعداد النساء اللاتي برزن بقوّة في مجال العزف على الكمان في السنوات الأخيرة يرقى إلى اعتباره ظاهرة يمكن أن تكون تعبيرا عن عمق التغيير الاجتماعي والأدوار المتغيّرة في المجتمعات الغربية على صعيد الجندر.
    وهناك ثمّة من يقول إن عازفات الكمان هذه الأيام، مع الاعتراف ببراعتهن وإتقانهن، تعوزهنّ العضلات، خاصّة عندما يتعاملن مع بعض أعمال مندلسون وبيتهوفن وتشايكوفسكي التي تتّسم بإيقاعاتها القويّة وضرباتها الفجائية والسريعة. وفي الغالب يأتي عزفهن رقيقا ورفيعا وبطيئا، وأحيانا تتحوّل الموسيقى المجلجلة والصاخبة في أصابع بعض العازفات إلى قطع تأمّلية وشاعرية يُخيّل لمن يسمعها أنها آتية من عوالم وفضاءات أخرى.

    Credits
    classicfm.com