:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات بيسارو. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات بيسارو. إظهار كافة الرسائل

الأحد، نوفمبر 11، 2012

الفنّ في زمن الحرب

كثيرا ما تقترن باريس في الأذهان بكونها مدينة الهدوء والدّعَة والترف، حيث الموسيقيون الذين يعزفون موسيقاهم في الطرقات، وأصوات نغمات الكمان والأكورديون التي تصدح في الليل، وأزهار الربيع التي تنشر شذاها في أجواء أمسيات المدينة الحالمة.
لكن هذا لم يكن حال باريس في العام 1870م. فقد قرّر الفرنسيّون آنذاك، بزعامة نابليون الثالث، شنّ حرب على بروسيا. ونتيجة لذلك، انفتحت بوّابات الجحيم على مصاريعها في باريس خلال خريف وشتاء ذلك العام. وكما يحدث عادة عندما يشتبك بَلَدان في حرب، فقد فرّ السكان "أو على الأقلّ أولئك الذين لم يتحمّلوا الحرب" محاولين البحث عن ملاذ آمن خارج مناطق القتال.
ولم تكن توقّعات الإمبراطورية الفرنسية المترهّلة بإحراز نصر سريع وحاسم متطابقة مع إمكانيات آلة الحرب البروسية الضاربة وإصرار البروسيين على إحباط الهجوم الفرنسيّ.
وبعد هزيمة الفرنسيين في سيدان في سبتمبر من ذلك العام، تدهورت الحياة على نحو خطير في باريس. وقد واجه الفنّانون تحدّي الحرب بوسائل مختلفة. بعضهم هرب إلى لندن أو بروكسيل، كما فعل كلّ من كلود مونيه وأوجين بُودان وشارل دوبينييه . كميل بيسارو، على الرغم من أنه كان يعيش بأمان في انجلترا، إلا أن منزله في باريس احتُلّ من قبل البروسيين الذين حوّلوه إلى مسلخ. كما استخدموا لوحاته الزيتية التي وجدوها هناك كمماسح للأحذية ودمّروا عددا لا يُحصى من لوحاته بهذه الطريقة.
فنّانون آخرون فضّلوا الانخراط في الخدمة العسكرية، كما فعل كلّ من إدوار مانيه وإدغار ديغا. أوغست رينوار، الذي لم يكن قد اعتلى ظهر حصان في حياته، التحق بسلاح الفرسان، لكن تم ادّخاره للأجيال القادمة بعد أن اكتُشف انه يعاني من الدوزنتاريا. أمّا زميله فريدريك بازيل ، الذي انضمّ هو الآخر إلى سلاح الفرسان، فقد لقي مصرعه في تلك الحرب عن عمر لا يتجاوز التاسعة والعشرين.
وكان هناك فريق ثالث من الفنّانين ممّن آثروا الاختباء في بقعة ما من جنوب فرنسا، كما فعل سيزان وفان غوخ والروائي اميل زولا الذي اعفي من الخدمة العسكرية لكونه الابن الوحيد لأرملة.
الرسّام غوستاف كوربيه قرّر هو أيضا البقاء في العاصمة حيث اختير رئيسا للجنة حماية الكنوز الفنّية في البلاد. وقد تمكّن من إنقاذ أعماله بشحنها إلى لندن، وبذا نجت معظم لوحاته من الدمار.
وقد ازدادت الأمور سوءا عندما وقعت باريس تحت الحصار في أوائل يناير من عام 1871. كانت المدفعية البروسية تمطر المدينة بآلاف القذائف آناء الليل والنهار، واستمرّ ذلك لأكثر من ثلاثة أسابيع. كما أصبحت الإمدادات الغذائية ضعيفة. ثم ظهرت لافتات في الشوارع تعلن عن توفّر لحوم القطط والكلاب وحتى الفئران. والمحظوظون كانوا أولئك الذين يتمكّنون من الحصول على لحم حصان. وقد اشتكى مانيه في إحدى رسائله من أن لحوم الحمير أصبحت غالية جدّا.
وعندما استسلمت المدينة في نهاية ذلك الشهر، كانت تلك النوعية من اللحوم، التي لا بدّ وأنها كانت تمثّل تحدّيا لفنّاني المطبخ الفرنسي وقتها، قد اختفت تماما.
الحرب هي دائما شكل من أشكال الجحيم. وإحدى أكثر الحروب كارثية كانت تلك الحرب الصغيرة والمتهوّرة التي شنّها نابليون على بروسيا. ورغم أن الحرب كانت قصيرة، إلا أنها غيّرت بشكل جذريّ وجه التاريخ الأوربّي. فالانتصار السريع والكاسح للولايات الألمانية بقيادة بروسيا في ذلك الصراع سهّل تأسيس إمبراطورية ألمانية وتسبّب في انهيار إمبراطورية نابليون الثالث التي حلّت محلّها الجمهورية الثالثة. كما مثّلت تلك الحرب الخطوة النهائية في طريق صعود ألمانيا لتصبح قوّة عظمى في القارّة الأوربّية. وكجزء من التسوية، ضمّت ألمانيا مقاطعة الالزاس واللورين التي ظلّت تحتفظ بها إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى.
كانت السنوات التي تلت الهزيمة الفرنسية في الحرب قد تركت البلاد منهكة وتوّاقة للتشافي من جراح الحرب. وكانت الحركة الانطباعية في مراحلها الأولى في ذلك الوقت. لكن الرسّامين الانطباعيين لم يشغلوا أنفسهم برسم مناظر صادمة عن الحرب، بل فضّلوا بدلا من ذلك رسم مشاهد تصوّر أفراد الطبقة الوسطى وهم يستمتعون بأوقات فراغهم في الحدائق وعلى الشواطئ وفي المقاهي والمسارح.
وباستثناء ديغا ومانيه اللذين كانا يرسمان مشاهد مشحونة بالإيحاءات الجنسية، كانت لوحات الانطباعيين بوجه عام تعكس اهتمامات واحتياجات وتطلّعات الطبقة الوسطى. كان حجم تلك اللوحات صغيرا وكانت مصمّمة لتُعلّق في غرف المعيشة. كانت مزخرفة وغير مؤذية وذات مضمون خال من النزاعات السياسية أو الفضائح الاجتماعية.
لم يكن الانطباعيون يتعمّدون السخرية أو انتقاد احد. كما لم يحاولوا استنطاق التاريخ بحثا عن أساليب أو موضوعات. ولم يحاولوا مهاجمة مؤسّسة الرسم التقليدية أو التقليل من شأنها. كان همّهم أن يرسموا ما يريدونه وفقا لشروطهم هم.

الاثنين، ديسمبر 20، 2010

نافذة على فنّ كميل بيسارو


يُعتبر كميل بيسارو (1830 – 1903) احد آباء الانطباعية الفرنسية الأوائل. وكان له تأثير دائم على فان غوخ وغوغان وسيزان. وفي سنواته الأخيرة ارتبط بعالَم جورج سورا والنُقطيّة باعتبارها التطوّر الطبيعي للانطباعية.
ورغم أن الكثيرين يعتبرون بيسارو انطباعيّا فرنسيّا، إلا انه ولد في جزر العذراء لأب برتغالي وأمّ من جمهورية الدومينيكان. ولم يذهب إلى باريس إلا في عام 1855 عندما قصدها لتعلّم الرسم حيث تتلمذ على يد كميل كورو وغوستاف كوربيه.
وقد تركت لوحات كورو وغيره من أعضاء مجموعة باربيزون عن الطبيعة انطباعا عميقا في نفس بيسارو. كان منجذبا بوضوح نحو رسم الطبيعة. وطوال العشر سنوات التالية، درس في كلّية الفنون الجميلة التي كانت تقدّم دروسا مجّانية في الرسم.
وفي عام 1857 شجّعه كورو على التخلّي عن أسلوب الرسم التقليدي وأن يرسم بدلا من ذلك في الهواء الطلق وفي الطبيعة المفتوحة. ورغم أن لوحاته المبكّرة كانت صدى لأسلوب كوربيه، إلا انه كان فيها روح انطباعية لا تخطئها العين.
وربّما بسبب تنوّع خلفيّته العرقية، فإن بيسارو كان دائما شخصا غريبا إلى حدّ ما عن الجماعة الانطباعية. ومثل العديد من الانطباعيين، ترك بيسارو بيته في الريف الفرنسي عند نشوب الحرب بين فرنسا وبروسيا وقصد لندن بمعيّة كلود مونيه. ونتيجة للحرب، تم تدمير العديد من لوحاته من قبل الجنود الغزاة البروسيين.
وأثناء إقامته في لندن، تعرّض بيسارو لتأثير رسّامي الطبيعة الانجليز مثل تيرنر وكونستابل. ورغم انه عاد بعد ذلك إلى فرنسا، إلا انه زار انجلترا مرارا في ما بعد حيث رسم عددا من معالمها الرئيسية.


كان كميل بيسارو مهتمّا في الأساس برسم المناظر الطبيعية. لكن لوحاته تتضمّن أيضا رسومات لأشخاص وحيوانات. وقد كان بارعا على وجه الخصوص في اللون والتوليف.
في ثلاثينيات القرن الماضي، انضمّ بيسارو إلى جيل الرسّامين الأكثر شبابا مثل جورج سورا وبول سينياك في تبنّيهم للأساليب الانطباعية الجديدة. وعلى غرار العديد من الفنّانين والكتاب في عصره، أصبح بيسارو رسّاما فوضويّا. وتخلّى تدريجيا عن الانطباعية الجديدة مفضّلا عليها أسلوبا مكّنه بشكل أفضل من الإمساك بالأحاسيس التي تعبّر عنها الطبيعة.
وبينما استمرّ يرسم الطبيعة والفلاحين في المناطق الريفية، بدأ مغامرة جديدة تمثّلت في رسم طبيعة المدينة. وفي لوحاته عن باريس، حاول اكتشاف التأثيرات المتغيّرة للضوء والجوّ بينما عبّر عن حيوية المدينة الحديثة.
ومن بين جميع الانطباعيين كان بيسارو رسّاما محافظا إلى حدّ كبير. وبخلاف مونيه مثلا، لم يقم بتذويب أشجاره وتحويلها إلى كتل من الضوء النقيّ. كان حبّه للأشياء الصلبة والمتماسكة واضحا في كلّ تفصيل من لوحاته. فالضوء يفيض على أسطح الأشياء لكنّه لا يخفيها.
وفي لوحاته الريفية عن الحصاد والرعي، تتحوّل فرشاته الحسّاسة إلى بِرَك متوهّجة من اللون تعكس حركة الريح والسحب والحقول.
في إحدى تلك اللوحات، يرسم ضوء شمس الربيع الشاحبة وهي تضرب جذوع مجموعة من الأشجار التي تبدو وكأنها تتراجع إلى الوراء. وفي لوحة أخرى، يرسم بيسارو امرأة فلاحة من الصعب تمييزها عن الأرض المورقة من حولها بينما تنحني فوق نهر يبدو مثل طريق في مقدّمة اللوحة. وهذا مثال كلاسيكي على التصوير المثالي للطبيعة عند بيسارو والتي كان ينظر إليها كملاذ من متاعب وصخب المدينة.


التمعّن في لوحات بيسارو المألوفة عن فلاحين يعملون، ورؤيته الاجتماعية والسياسية المتطرّفة، كانت توحي بفردانية هذا الرسّام التي كان يعبّر عنها في حياته وفي فنّه.
ومن المهمّ تذكير القارئ بأهميّة أن ينظر إلى هذه اللوحات الجميلة بعينين ناقدتين. كما لا يجب أن ننسى أن الأعمال الانطباعية المحبوبة الآن كانت في أيّامها فنّا راديكاليا انتقدته وندّدت به المؤسّسة الفنّية آنذاك.
بالرغم من أن بيسارو لم يكن إنسانا متديّنا، إلا أن تربيته المحافظة أسهمت كثيرا في تشكيل وعيه الاجتماعي. وهو كان ينحدر من عائلة بورجوازية، إلا انه كان متماهيا مع الطبقة العاملة وكان يشير إلى نفسه دائما كـ "بورجوازي مفلس".
وعندما انتقل إلى باريس عاش فيها كمواطن يهودي وفوضوي. ورغم انه لم يكن محافظا على الطقوس الدينية وكان ضدّ فكرة الربّ أو الدين المنزل، إلا انه لم يُدر ظهره لليهودية بشكل كامل.
لكن من الواضح انه لم يكن يهتمّ كثيرا بالتقاليد الدينية. وعندما أراد ابنه مشورته بعد أن اشترطت عليه عائلة خطيبته اليهودية أن يخضع للختان إن هو أراد أن يتزوّج من ابنتهم، كان بيسارو قاطعا في نصيحته لابنه بأن يرفض الخضوع لطلبهم.


اهتمام بيسارو بتطوير الحركة الفنّية ورغبته في الانفتاح على الأفكار والاتجاهات الجديدة جعل منه معلّما قويّا لفنّانين آخرين مهمّين. وقد سار هؤلاء على خطاه وتعلّموا من تقنياته بينما كانوا يواصلون مسيرتهم نحو البروز والعظمة.
صحيح أن لم يبع سوى القليل من لوحاته أثناء حياته. غير أن أعماله اليوم لا تُقدّر بثمن. ورغم دوره الأبويّ في الحركة الانطباعية، إلا أن بيسارو كان ذا رؤية واضحة وأسلوب لم يكن يشبه أسلوب احد. كان يعوّل على الحدس أكثر من الدراسة والتلقين.
كان بيسارو يبحث دائما عن أساليب جديدة للتعبير. وكان احد أكثر الرسّامين ابتكارا. وقد عُرف بتعاطفه وتواضعه. لكنه مرّ بمشاكل مزمنة نتيجة عدم قدرته على بيع لوحاته وإعاشة أولاده. كان يعول ثمانية أطفال توفّي ثلاثة منهم أثناء حياته. ومع ذلك لم يعرف اليأس إلى قلبه طريقا.
في نهايات حياته كان بيسارو يوزّع وقته بين باريس وبلدته روين. وعندما توفّي في نوفمبر عام 1903 عن ثلاثة وسبعين عاما، كان قد بدأ يحصل على بعض الاعتراف. واليوم يمكن رؤية لوحاته في بعض أشهر وأهمّ المتاحف العالمية وفي العديد من المجموعات الخاصّة حول العالم.

Credits
camillepissarro.org
visual-arts-cork.com

الأحد، مايو 09، 2010

غداء مع سيزان

كثيرا ما يُوصف بول سيزان بأنه الأب الروحي للرسم الحديث. وقد كان لهذا الرسّام تأثير كبير على حركة الرسم في القرن العشرين، على الرغم من انه قوبل بالتجاهل والإهمال من قبل النقاد في عصره. لم يكن سيزان يثق بالنقاد كثيرا وكانت نصيحته دائما: لا تشتغل بالنقد الفنّي. وارسم، فإن في الرسم خلاصك". تأثّر به ماتيس وبيكاسو كما اعتُبر طليعة الاتجاه التكعيبي في الرسم.
بروك كيسترسون كتبت المقال المترجم التالي الذي تتحدّث فيه عن حياة سيزان وفنّه..

لو عاد بول سيزان إلى الحياة من جديد وواتتني فرصة دعوته لتناول الغداء معي فسآخذه إلى مكان منعزل وهادئ وذي إطلالة جميلة على البحر. وعلى الأرجح، سأصطحبه إلى مطعم صغير يشرف على الشاطئ ولا يكون مزدحما بالناس. فـ سيزان شخص انطوائي ومحبّ للعزلة. وبالتأكيد سيقدّر هذه البادرة كثيرا.
أثناء الغداء، ربّما نتحدّث عن المناظر الطبيعية أو حتّى عن القانون. فـ سيزان درس القانون في فرنسا لمدّة سنتين.
ويمكن أن نتحدّث عن الهزّات والمشاكل التي تخلّلت حياته، وعن موت والده أو حتّى عن زوجته وطفله.
وبعد الغداء، قد أصطحبه في مشوار على ساحل البحر. فـ سيزان مغرم كثيرا برسم مناظر الطبيعة والبحر. وأتصوّر انه سيستمتع كثيرا بمرأى الماء.
ولد سيزان في التاسع عشر من يناير عام 1839 في فرنسا. وتلقّى تعليمه الأوّليّ في ايكس، كما ربطته صداقة وثيقة مع الروائي المعروف اميل زولا.
درس سيزان القانون وأثناء ذلك كان يأخذ دروسا في الرسم. وقد قرّر، خلافا لرغبة والده، أن يحقّق حلمه في أن يصبح رسّاما. وفي مرحلة لاحقة انضمّ إلى صديقه زولا في باريس.
كان والده يدعمه ماليّا. لكنّه كان ما يزال بحاجة إلى المزيد من المال. في باريس، قابل زولا وسيزان كميل بيسارو وهو رسّام انطباعي آخر ترك تأثيره في ما بعد على العديد من أعمال سيزان.
في رحلته الأولى إلى باريس، قابل سيزان موديلا فرنسية تدعى "اورتونز"، ثم لم يلبث أن وقع في حبّها.
وقد أبقى علاقته مع المرأة سرّا وأخفى ذلك عن عائلته لسنوات حتى بعد أن أنجب منها طفلا.
غير أن سيزان وزوجته لم يكونا على وفاق أبدا. فـ اورتونز كانت تكره ايكس وتعشق باريس وأضواءها وصخبها.
سيزان نفسه لم يفهم النساء أبدا. ولم تكن زوجته استثناءً. وكانا يقضيان أكثر وقتهما متباعدين عن بعضهما.
كان يعتبر ايكس مكانا مناسبا للاعتكاف والرسم. واستمرّ يرسم مناظر الطبيعة والبورتريهات والحياة الساكنة مع التركيز على عناصر متكرّرة مثل التفّاح وقماش المائدة. لكن لوحاته لم تثر اهتمام احد من النقّاد.
في تلك الفترة، ألّف صديق سيزان الطيّب اميل زولا رواية جديدة. كانت الشخصية الرئيسية في الرواية فنّانا فاشلا قريب الشبه بـ سيزان. ولم تمرّ فترة قصيرة حتى انتهت الصداقة التي كانت تجمع بين الروائي والرسّام.
في إحدى مراحل حياته، كان سيزان مفتونا بـ مونت سان فيكتوار، وهو جبل كبير يبرز من وسط السهول. كان يرى في ذلك الجبل رمزا، كما كان له تأثير كبير على فنّه.
وفي أحد أيّام شهر أكتوبر من عام 1906 قرّر سيزان أن يذهب إلى محترفه مشيا على الأقدام بدلا من استئجار عربة كما كان يفعل عادة. كان المشوار طويلا والجوّ باردا. وفي منتصف الرحلة أمطرت السماء لساعات. عاد سيزان إلى البيت مريضا منهكا. وأرسل إلى اورتونز وابنه يبلغهما عن احتمال موته الوشيك.
وفي صباح اليوم التالي، أي 22 أكتوبر 1906، توفّي جرّاء مضاعفات إصابته بالتهاب رئوي حادّ. كان سيزان يتمنّى أن يرى ابنه للمرّة الأخيرة. لكنّ الابن والزوجة وصلا متأخرّين.
استخدم سيزان زوجته وولده في العديد من لوحاته. لكن اورتونز لم تكن تحبّ الرسم وكانت تبدو متضجّرة عندما كانت تقف أمامه لرسمها.
كان في حياة سيزان الكثير من الصعاب والأحزان. لكنه ظلّ إنسانا متفائلا واستمرّ يركّز على فنّه.
وبالقرب من نهايات حياته، كان اسم سيزان قد أصبح مألوفا وبدأت لوحاته في الانتشار في جميع أنحاء أوربّا.
المكان الأخير الذي يمكن أن آخذ سيزان إليه هو احد الغاليريهات الحديثة التي تعرض لوحات تنتمي إلى مدارس الرسم الحديث.
هناك سيكتشف بنفسه كم أن الرسم تغيّر كثيرا في المائة سنة الأخيرة منذ رحيله.



الثلاثاء، نوفمبر 17، 2009

دورا مار

قبل أن آتي إلى بريطانيا منذ أكثر من ثلاثين عاما، تخلّصت من معظم ما كنّا نحتفظ به في منزلنا من لوحات فنّية، وذلك إمّا بإهدائها إلى بعض معارفنا أو وضعها في عهدة آخرين لحفظها.
وبعد سنوات، ندمت كثيرا على تفريطي في تلك اللوحات. إحداها ظلّت تؤرّقني دائما. كان قد أهداها لنا فنّان شابّ من غويانا. أتذكّر هدوء تلك اللوحة الغامض وألوان خلفيّتها الدافئة. الشخصيّة فيها ترتفع مثل أبي الهول من بين الأنقاض الزرقاء لجدار.
وعندما عدت لأرض الوطن بعد سنوات، بحثت عن اللوحة إلى أن وجدتها في بيت عائلتنا القديم. فأعدتها معي إلى انجلترا. وأصبحت اللوحة شاهدا على قوّة الفنّ الذي يلاحقنا ويلتصق بنا ويغذّي أرواحنا.
إن قدرة الفنان على تحويل ألوانه إلى أشكال ومشاعر كانت دائما تحيّرني وتدهشني. ولا يقلّ عن ذلك فتنةً ذلك التفاعل والعلاقة المتبادلة بين أشكال الفنّ المختلفة من شعر ونحت وموسيقى ورسم.
غير أن العلاقة بين الرسم والشعر، على وجه الخصوص، تتسم بالعمق والقوّة.
فالاثنان محصّلة لرغبتنا في أن نصنع من الاعتيادي والمألوف شيئا جديدا، وأن نلتقط تجربة أو خبرة معيّنة بطريقة حيّة ومركّزة.
وكلا الاثنين، أي الشعر والرسم، له تناغم وبنية ولون وإيقاع. ففي التوليف المتوازن للوحة ما، يمكن للمرء أن يتحدّث عن لون واحد تتناغم معه بقيّة الألوان.
قبل بضع سنوات، دُعيتُ لأكون الشاعر المقيم في تيت غاليري بلندن. كانت الإقامة تتضمّن التفاعل مع اللوحات من خلال الشعر وإقامة بعض ورش العمل مع أطفال من المدارس الابتدائية.
الأطفال الذين شاركوا في ورش العمل كتبوا قصائد يتفاعلون من خلالها مع بعض اللوحات بطريقة عفوية. وغالبا ما كانوا يضعون رسما إلى جانب قصائدهم.
كان الأمر أشبه ما يكون بالرسّامين الصينيين الذين كانوا يضعون بيتا من الشعر في المساحات الفارغة في لوحاتهم، ما سمح للرسم الصيني أن يتنفّس وأن يزدهر.
بالنسبة للأطفال، كان هذا الشيء أمرا طبيعيا جدّا. فليس هناك ثمّة انفصال بين الكلمة والصورة، أو بين الصفحة البيضاء ورقعة الرسم الفارغة.
وهناك العديد من الشعراء والرسّامين الذين مرّوا بهذه التجربة.
الشاعر الاسباني رافائيل البرتي بدأ حياته كرسّام واستمر كذلك. ثم صاغ في ما بعد مصطلح "ليريكوغرافيا" أو القصيدة المرسومة.
والشاعر الهندي رابندرانات طاغور كان على النقيض من ذلك. فقد بدأ كشاعر ثم وجد نفسه يرسم خربشات على هوامش قصائده. وفي ما بعد نال جائزة نوبل في الأدب وأدهش الكثيرين بتحوّله المتأخّر إلى الرسم.
والشاعر الكاريبي ديريك والكوت، وهو الأخر حاصل على نوبل للأدب، كان لسنوات يمارس الرسم باستخدام الألوان المائية. وكتابه الأخير يُعدّ بمثابة تكريم لـ كميل بيسارو الفنّان الانطباعي الفرنسي المولود في جزر الهند الغربية.
القصائد التي كتبتها أثناء إقامتي في تيت غاليري لم تكن محاولة لشرح اللوحات أو تناول سردها الخفيّ، بل كانت طريقة لرؤية اللوحة، وأحيانا محاولة لإعطائها صوتاً.
لكن، هل يمكن للقصيدة المعتمدة على لوحة أن تنمو من وجهة نظر المتفرّج أو من شخصية في داخل اللوحة نفسها؟ هل يقوم حوار بين الطرفين؟ لقد اكتشفت أن المنظور في الرسم وثيق الصلة بالصوت في الشعر.
"المرأة الباكية" لـ بيكاسو، بملامحها المنهكة والمكسورة وبصراع الألوان فيها، دفعتني لأن أعطي ذلك الوجه المؤرّق صوتا. وفي النهاية كتبت القصيدة التالية بصوت "دورا مار"، المرأة التي تصوّرها اللوحة.
يقولون انه بدلا من فرشاة، كان يستخدم سكّينا لرسمي.
نوعا من الهندسة الوحشية.
لكن، وكما أقول، حاول أن تنظر ثانية.
هذه اقرب نقطة يمكن أن يقترب فيها الإنسان من الألم.
الأخضر يعرفني. ليس لون البراعم الجديدة. بل الأخضر الشبحي للغانغرينا.
الأصفر يعرفني. ليس لون الشمس المبتهجة. بل الظلال المريضة لهذه الحرب.
الأزرق يعرفني. ليس لون السماء أو البحر الذي لا تحدّه حدود. بل كآبة المغنّي وحزنه العميق.
هذا الحزن يحكم قبضته عليّ. ومن مسافة بعيدة، اسمع صوت صراخي المكتوم".
كانت "دورا مار" مصوّرة وفنّانة موهوبة. وكانت إحدى عشيقات بيكاسو وملهماته الكثيرات. ويقال إنها كانت تعاني من انهيار عصبي بسبب تدهور العلاقة بينهما.
ودون وعي منّي، تطوّرت قصيدتي عن المرأة إلى سلسلة كاملة من القصائد.
كنت كما لو أنني ابحث في أسلوب بيكاسو التكعيبي المتشظّي عن صدى لصوت تلك المرأة الواهن الممزّق.
تجربتي في المتحف أعطت شغفي القديم بالرسم دفعة جديدة، وجعلتني أكثر معرفة بالتوازن والتوليف في اللوحة وبلعبة الضوء والظلّ والطاقة واللون.
والأهم من ذلك كلّه، أنني أصبحت أعي قوّة وحيوية الإيقاع الداخلي، بينما تتابع عيناي تلك المنحنيات والخطوط نزولا وصعودا ومن جميع الجهات. كما أصبحت الآن اقضي وقتا أطول مع الرسم.
إن التأثير البصري للوحة يمكن أن يكون فوريا. فكلّ شيء أمامنا: الصور والألوان والأشكال التي هي عبارة عن مهرجان مثير للعين.
في لمحة، يمكن أن نرى التوتّر في تمثال الراقصة الصغيرة لـ إدغار ديغا، والطاقة الهائلة في ضربات فرشاة فان غوخ والانفعالات المتناقضة الظاهرة على وجهه .
ورغم أن القصيدة تنتقل عادة بطريقة أكثر عمقا وتساميا، فإنها تكشف عن تجلّياتها من خلال الحواسّ ومع مرور الوقت. ومع ذلك، قد لا يصل إلينا المعنى إلا بعد انتهاء القصيدة بوقت قد يطول أو يقصر.
ورغم أهمّية الموسيقى في القصيدة، فإن قوّة الصور في الشعر؛ الصور التي تنشئها الكلمات، هي التي تبقى في الذاكرة وتسكن المخيّلة وتجلب لنا المفاجأة والبهجة.
- غريس نيكولز، شاعرة بريطانية "مترجم"

الجمعة، مايو 01، 2009

جولة في الناشيونال غاليري


دخلت مع جموع الزائرين إلى مبنى الناشيونال غاليري صباحا. كان الجوّ ما يزال مشبعا برائحة المطر والسماء متّشحة بغلالة كثيفة من الغيوم الرمادية الداكنة.
وكنت قبل ذلك قد مررت بأحد المقاهي المنتشرة حول المكان لأسأل عن موقع "تيت غاليري" وكم يبعد عن ذلك المكان. فقال لي شخص انجليزي وقد علت وجهه ابتسامة مهذّبة كما هي عادة غالبية الانجليز: يلزمك نصف ساعة لكي تبلغه. لكني أنصحك بزيارة الناشيونال غاليري، فهو أولا أشهر، وثانيا لأنه قريب جدّا من هنا، وثالثا لأنه يضمّ اكبر مجموعة من الأعمال الفنية في العالم، ورابعا وأخيرا لأنني شخصيا أعمل هناك".
دخلنا المبنى الرخامي ذا التصميم الفخم والأنيق. كنا مجموعة كبيرة من السيّاح. رجال ونساء من بلدان وجنسيات شتّى. هنا لا تحتاج لأن تدفع شيئا مقابل مشاهدة الأعمال الفنية. فالدخول مجّاني. لكن بإمكانك التبرّع بما تجود به ممّا يذهب لدعم أنشطة المؤسّسة الراعية للغاليري.
والواقع أن الناشيونال غاليري عبارة عن متاهة كبيرة. ممرّات فسيحة وصالات واسعة كلّ واحدة تفتح على الأخرى. والأعمال الفنية التي تمتلئ بها الصالات لا تقدّر بثمن. بعضها يعود إلى ستّة قرون. والبعض الآخر ينتمي إلى مدارس الفنّ الحديثة والمعاصرة.
وكلّ شيء في الغاليري مرتّب له جيّدا. فدرجة الضوء والعتمة محسوبة بعناية زيادة في المحافظة على اللوحات وحمايتها من عوامل البلى والتلف. وهنا وهناك تنتشر مجموعات نقاش، كلّ واحدة تتناول لوحة أو عملا ما. وقد لمحت تلاميذ صغارا بصحبة معلماتهن وهم يطرحون الأسئلة والتعليقات عن هذه اللوحة أو تلك.
وفي الحقيقة، كان من النادر أن ترى زائرا لا يحمل في يده قلما وكرّاسا يدوّن فيه بعض الملاحظات من واقع ما يشاهده أو يقرأه أو يسمعه عن كلّ عمل.
اللوحات المعروضة تتفاوت من حيث كبرها. أكبر لوحة رأيتها هي إعدام الليدي جين غراي لـ بول دولاروش. وقد شدّ انتباهي كثرة الزوّار الذين تجمّعوا لمشاهدة هذه اللوحة والتمعّن في تفاصيلها رغم عنف ومأساوية مضمونها. وربّما لا يداني هذه اللوحة من حيث الضخامة سوى لوحة مستحمّون في انيير لـ جورج سورا.
والواقع أن الذي يرى اللوحات الأصلية سرعان ما يلحظ الفرق الكبير بينها وبين النسخ الموجودة على الانترنت من حيث التفاصيل والألوان والخطوط إلى ما غير ذلك.
وليس من قبيل المبالغة إن قلت انه يندر أن تكون قد سمعت باسم رسّام ما، سواءً في الماضي أو في الحاضر، دون أن ترى له لوحة واحدة على الأقل في هذا الغاليري. من رافائيل إلى دافنشي إلى بيسارو إلى ديغا إلى رينوار إلى بوتيشيللي إلى فراغونار إلى فيلارد إلى لوتريك إلى كليمت إلى فيلاسكيز إلى غوغان إلى بيكاسو إلى سيزان إلى كورو إلى بيرنيني إلى دوميير إلى همرشوي.. والقائمة تطول.
أهمّية الناشيونال غاليري تكمن، كما سبقت الإشارة، في ضخامته وكثرة الأعمال الفنية التي يضمّها. في هذا الغاليري فقط، يمكنك أن ترى لوحات مشهورة جدّا مثل دير في غابة السنديان لـ كاسبار ديفيد فريدريش، والأحزان لـ غيوتو، وأزهار عبّاد الشمس و أشجار السرو لـ فان غوخ "الأخيرة عادت إلى الغاليري مؤخّرا بعد إعارتها لمتحف الفنّ الحديث بنيويورك"، ولوحة الجواد ويسل جاكيت لـ جورج ستبس، والبارجة تيميرير لـ وليام تيرنر، وبورتريه شخصي لـ فيجيه لابران، وعشاء في ايموس لـ كارافاجيو، وبورتريه ايزابيل دي بورسيل لـ غويا، وعذراء الصخور لـ دافنشي، وارنولفيني وزوجته لـ فان ايك، وبورتريه شخصي لـ رمبراندت، إلى غير ذلك من اللوحات المعروفة والمألوفة.
وأثناء تجوالي في صالات الغاليري توقفت كثيرا عند لوحات الرسّام البريطاني جون كونستابل. أحسست إلى حدّ ما بأنني كنت أعيد اكتشاف كونستابل الذي تثير لوحاته إحساسا بفخامة الطبيعة وسحرها. ومن حسن الحظ أن الغاليري يضمّ أكثر من لوحة للفنان منها لوحته الأشهر عربة القشّ ولوحته الأخرى التي لا تقلّ شهرة كاثدرائية ساليزبوري . اللوحة الأخيرة تأخذ الأنفاس بجمال تفاصيلها وبألوانها الرائعة وتأثيرات الضوء والظلّ فيها، ما يوحي بمهارة كونستابل الاستثنائية وبشغفه الكبير بجمال الطبيعة وبهائها. والنسخ الكثيرة الموجودة على الانترنت لهذه اللوحة لا تشبه أبدا اللوحة الأصلية ولا تنقل سوى جزء يسير من رونقها وبهائها. هذه اللوحة، مثل بقيّة لوحات كونستابل، شديدة الواقعية، لكنها واقعية ممزوجة بفنتازيا من نوع خاصّ بحيث تشعر وأنت تراها أنها صورة عن عالم آخر يموج بعناصر الحلم والدهشة.
كان مسك ختام الجولة في الناشيونال غاليري رؤية رائعة فيلاسكيز فينوس في المرآة . وقد لاحظت أن معظم من توقفوا عند اللوحة كانوا من الأسبان واللاتينيين.
ومن بعيد ونحن في ذلك المكان كانت تنساب إلى أسماعنا، رقيقة ناعمة، نغمات موسيقى استورياس "أو لييندا" للموسيقي الاسباني إسحاق آلبينيث؛ ما أضفى على المكان لمسة شاعرية إضافية.