:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات تشيريكو. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات تشيريكو. إظهار كافة الرسائل

الاثنين، يوليو 12، 2010

جماليّات الحزن


أحد الملامح القديمة في الفنّ الغربي هو تحويل الحزن والكآبة إلى فرح وطاقة للانطلاق والإبداع. والهيئة الأكثر شيوعا في الحالات التي تتناول موضوع الكآبة والحزن هي صورة إنسان، رجل أو امرأة، يضع يده على خدّه وهو مستغرق في التفكير والتأمّل الحزين.
الفلاسفة والأدباء منذ القدم ينظرون إلى الحزن على انه دعوة خلاقة للإنسان كي يرتفع فوق ذاته ويستغلّ إمكانياته. وهناك من يعتقد أن الحزن يجعل الشخص أكثر إنسانية وشفافية وأكثر إحساسا بإيقاعات الحياة المختلفة من فرح وترح ورجاء ويأس وحياة وموت.. إلى آخره. وهناك أيضا من يرى أن الإنسان لا يصبح مكتمل الإنسانية إلا من خلال المعاناة والحزن. الحزن يمكن أن يلهم الإنسان ويقوّي مخيّلته ويجعله أكثر ارتباطا بالعالم من حوله.
الشاعر البريطاني جون كيتس تحدّث كثيرا عن فائدة الألم. قال ذات مرّة: الحزن لا يمكن تجنّبه، وهو ليس ضعف إرادة ولا مرضا نفسيا بحاجة إلى علاج". كيتس اكتشف أيضا أن الحزن يلهم الأفكار العظيمة. "ما يجعلنا نحزن هو معرفتنا بأن كلّ شيء مصيره إلى زوال. لكن عندما نحسّ بدنوّ الموت فإننا ندرك كم هو جميل هذا العالم".
الموسيقي الألماني فريدريك هاندل كان يعاني في نهايات حياته من حالة من الحزن وذبول الصحة ووهن الجسد بعد أمجاده الموسيقية الكثيرة. وفجأة أحسّ بالنشاط والحيوية عندما كُلف بتأليف موسيقى المسيح التي أصبحت أعظم أعماله الموسيقية والتي ولدت من رحم الحزن والمعاناة.
الرسّامة الأمريكية جورجيا اوكيف كانت دائما تقاوم الإحساس بالكآبة والحزن. غير أن الحزن هو الذي أشعل روحها وجعلها ترسم أفضل لوحاتها عن الأشياء المظلمة في وهج الصحراء وتحت الغيوم الثقيلة والداكنة. تنظر إلى لوحاتها المشهورة فتحسّ بأن فيها شيئا غريبا يشبه صمت وقدسيّة العظام التي كانت ترسمها.
وهناك من يميّز بين الحزن والكآبة. الحزن قد يُشعِر الإنسان باليأس والإحباط. والكآبة نوع من الحزن لكنّه يخلو من التشاؤم واليأس. كما أن لا علاقة لها بالاكتئاب.
أرسطو ناقش الكآبة كثيرا عندما درس مشاكل الإبداع الفنّي. وفرويد قرنها بالنرجسية والهوَس. الكآبة فيها مساحة كبيرة للتأمّل. وهي تتعلق بالناس والأمكنة، من قبيل حبّ صديق أو الاشتياق لمكان ما قريب من نفوسنا أو مكان سبق وأن عشنا فيه وما زلنا نحتفظ له بذكريات عزيزة. الكآبة تتضمّن متعة وفيها حبّ وشوق وتطلّع. كما أن فيها نوستالجيا، لأنها تثير الحنين إلى الذكريات القديمة والأفكار والتخيّلات عن الفقد والغياب.
بعض مشاهد أفلام سكورسيزي وطبيعة الرسّام الألماني كاسبار ديفيد فريدريش وألحان شوبان فيها نوع من الحزن المتسامي الذي يخلو من اليأس أو الإحباط.
عندما تستمع إلى بعض مقطوعات شوبان تستطيع أن تلمس فيها حزنا ومعاناة. وغالبا ما تعبّر الموسيقى الحزينة عن نفسها من خلال الإيقاع البطيء الذي يثير حالة من التوق والاستبطان الحزين. وهو انفعال معقّد جدّا يستثير بدوره صراعا داخليا يستعصي على التوصيف البسيط.


مرأى الأطلال أو الآثار القديمة قد يستدعي، هو أيضا، في نفوسنا شعورا بالحزن والكآبة. ربّما يكون السبب هو حقيقة أن الأطلال تعبّر عن مرور الزمن وعدم ثبات وديمومة الحياة والإحساس بالعبور والتحوّل من مرحلة لأخرى وما يثيره ذلك في النفس من مخاوف وهواجس. وكلّ هذه الحالات تكون مصحوبة بإحساس قليل أو كثير بالكآبة. رؤية الآثار الدارسة والقديمة تستثير حالات من التفكير التأمّلي والوجداني ترافقها صور لأحداث وحيوات من العصور الماضية. الصروح المهدّمة والأبنية المهجورة كثيرا ما تثير خيالنا وتدفعنا لإعادة بناء قصص متخيّلة في أذهاننا عن شكل الحياة في الماضي وعن الارتباطات ما بين الآثار والأحداث التي ترويها. هنا أيضا نجد ظلالا من المشاعر السلبية والايجابية للنوستالجيا والحنين لأزمنة وأمكنة لم تعد موجودة سوى في الذهن بعد أن انتهى وزال وجودها الفيزيائي أو المادّي.
في لوحته بعنوان الحالم، يرسم كاسبار فريدريش شخصا جالسا في نافذة دير قوطي قديم، أو بالأصحّ في أطلال ما تبقّى من ذلك الدير. داخل الدير ألوان حمراء داكنة. لكن النور الذهبيّ الساطع يفيض من وسط الصورة ليملأ الفراغ. المشهد عبارة عن تأمّل صامت والتباين ما بين الضوء والعتمة يوحي بالوحدة. لكن بنفس الوقت ما يزال هناك ثمّة إحساس بالأمل وربّما التوق.
الكآبة التي يشعر بها الإنسان أثناء لقائه بالطبيعة ليست بالأمر الطارئ أو الجديد. تخيّل نفسك، مثلا، وأنت تمشي في طبيعة مقفرة. الأرض التي تمتدّ أمامك تبدو فارغة وفسيحة تلوّنها ظلال باهتة من الرمادي مقابل سماء بنّية. الهواء ساكن وخفيف. وإذ تجد نفسك متوحّدا مع إيقاعات الفراغ الهادئ الذي أمامك، قد ينتابك فجأة مزاج تأمّلي يستثير في نفسك ذكريات وأفكارا معيّنة من زمن بعيد. تشعر بشيء من المتعة عندما تتذكّر الأوقات الجميلة من الماضي. لكنها متعة يخالطها حزن وتوق غامض.
في منتصف القرن السادس عشر، كانت الكآبة ترتبط بالإنسان المتفوّق والناضج والقادر على المشاعر العميقة. الموسيقيّ البريطاني جون دولاند عاش في ذلك الوقت وكان معاصرا لـ شكسبير. وقد عُرف ببراعته في العزف على آلة العود "أو اللوت". تستمع إلى ألحانه اليوم فتحسّ فيها بقدر غير قليل من الحزن والحنين. ومثل شكسبير، فإن موسيقى دولاند ما تزال تتحدّث إلينا من وراء أربعمائة عام.
في ألمانيا، ارتبط الفنّ والأدب والفلسفة في العصر الرومانسي بالكآبة. وقد كتب عنها ايمانويل كانت قائلا: إن المشاعر المتسامية تثير المتعة والخوف معا".
البريخت ديورر، الفنّان الألماني، رسم لوحة بعنوان كآبة يظهر فيها رجل متعطّش للمعرفة وحريص على إثراء عقله. ثم لهذا السبب، يشعر بالغربة ويعيش معزولا ومنبوذا من بقيّة البشر. هذه اللوحة وجد فيها الكاتب الأمريكي دان براون ما أثار اهتمامه عندما أشار إليها في روايته الأخيرة الرمز المفقود.
الشاعر الألماني هاينريش هايني اخذ الفكرة واستخدمها في إحدى قصائده عندما كتب يقول: لا أعرف ما الذي يؤرّقني ويثقل على عقلي طوال اليوم".
العلماء يقولون إن الكآبة ليست شيئا سيّئا أو سلبيا وأن قوّتها الايجابية هي التي منحت القوّة والعبقرية للفنّانين والفلاسفة العظام.
الكآبة والحزن كانتا وما تزالان فكرتين رائجتين في الرسم. ومن أشهر من رسموهما في أعمالهم كلّ من لوسيان فرويد ورودان وفان غوخ وغويا ووليام بليك ودي تشيريكو وإدوارد هوبر وبيتر بريغل وإدفارد مونك وإدغار ديغا وغيرهم.

Credits
contempaesthetics.org
quod.lib.umich.edu

الأحد، يونيو 29، 2008

نافذة على عالم ماغريت – 2 من 4

يقال أن ماغريت لم يكن يختلف كثيرا عن شخصيات لوحاته. فقد كان شديد الاهتمام بمظهره حريصا دائما على ضبط أفعاله وتصرّفاته الشخصية.
ويبدو أن حبّه لباريس وأضوائها وصخبها لم ينسِه حبّه الأول لبلده بلجيكا التي كان يرى أنها اهدأ من باريس وأكثر تواضعا.
وقد عرف عنه نفوره من أسلوب حياة زملائه السورياليين الذين كان أكثرهم منغمسا في حياة الترف والمجون. وفي ما بعد تطوّر الأمر بينه وبينهم إلى قطيعة شبه كاملة عندما رأوا في لوحاته خروجا على النسَق الذي ميّزوا به أنفسهم.
وعلى الجانب الشخصي كان ماغريت حريصا على أن تبقى حياته العائلية طيّ الكتمان. كما كان وفيّا لزوجته جيورجيت بيرجيه التي ظلّ معها 45 عاما والى حين وفاته.
ويقال انه تأثّر في بداياته بالرسّام الميتافيزيقي دي تشيريكو Giorgio de Chirico وخاصّة لوحته المشهورة أغنية الحب The Song of Love التي كان ماغريت يرى فيها نموذجا لسموّ الشعر وتفوّقه على الرسم.
ولا بدّ وأن روح بلدته طبعت فنّه وأضفت عليه تلك المسحة من الغموض التي تميّز لوحاته. فقد ولد ماغريت في بلدة بلجيكية عُرف عنها سماؤها المعتمة وأجواؤها الضبابية الباردة.
ولأن السماء عنده تمثل المطلق واللانهائي فقد صارت عنصرا ثابتا في العديد من أعماله. وفي ما بعد ظهر مصطلح "سماء ماغريت في" إشارة إلى أسلوبه الخاص والمتفرّد في تمثيل الغيوم والسماء.
ولا شك أن كثيرا من الفضل يعود لـ ماغريت في انه اخرج السماء من كونها مجرّد فراغ فيزيائي مصمت أو مادّة للتنبؤات الدينية والميتافيزيقية الغامضة وحوّلها إلى فضاء من الكشوفات البصرية والفلسفية والجمالية المدهشة.
في لوحة استكشاف بلا نهاية يرسم ماغريت مشهدا غامضا لحوار تأمّلي في السماء ووسط الغيم يجمعه وصديقه الشاعر السوريالي البلجيكي بول كولونيه الذي كان يشركه في اختيار أسماء للوحاته. المنظر يصوّر الاحترام الذي كان كلّ من الرجلين يكنّه للآخر كما أنها توحي بـ "لا نهائية" العلاقة التي لا يمكن قياسها أو تحديد مداها.

لقد كان ماغريت يرى في السماء القبّة العظيمة التي تظلل الكون والصلة الكبرى التي توحّد جميع ساكني الأرض. ولطالما شغله التفكير في أسباب غيابها عن رسومات الفنانين الأوائل الذين انشغلوا كليا برسم مناظر الطبيعة وحياة البحر.
السماء بالنسبة له لم تكن مجرّد فراغ لا نهائي يملؤه الصمت والسكون الأبدي وإنما معجزة من معجزات الخلق التي نلمسها ونراها كل يوم. لكن بحكم التعوّد والتكرار، غادَرَنا الإحساس بالدهشة والانبهار وقوة التخيّل تجاه ما ترمز له السماء من رحابة وغموض وما تنطوي عليه من غرائب وخفاء وما تربطها بالأرض وعناصرها المختلفة من أواصر وجودية وشعورية ووروحية.

من الموتيفات التي تتكرّر كثيرا في لوحات ماغريت القبّعة. أحيانا يرسم نفسه معتمرا قبّعة وأحيانا أخرى يستحضرها كرمز لأفراد الطبقة البورجوازية والارستقراطيين.
وقد كان يتعمّد جعل هويّات أشخاصه مجهولة. وهو من خلال هذا الأسلوب يحقق أكثر من هدف لعلّ أهمّها عولمة الشخصية؛ أي جعلها عامّة ونموذجية. والهدف الثاني دفع الناظر إلى التماهي لا إراديا مع الشخصية وكأنه يقول إن ما تراه في اللوحة هو أنا وأنت ونحن جميعنا. إننا نغطي أعيننا أو ندير ظهرنا للعالم، وبذلك نحرم أنفسنا من رؤية الواقع على حقيقته وفهم واستيعاب ما يجري من حولنا.
في ديكالكومانيا نرى في الجهة اليسرى من اللوحة رجلا من الخلف وهو يرتدي القبّعة وبدلة رجال الأعمال ويقف في مواجهة سماء غائمة.
وفي الجانب الأيمن من اللوحة جزء مستقطع للرجل في ستارة حمراء تشفّ عن جزء مناظر من السماء الغائمة أمامه.
هذه اللوحة تعتبر من أجمل ما رسمه ماغريت، وهي مثيرة للتفكير والتأمّل. وقد تكون رمزا للفناء أو الخلود أو العبور من مرحلة لأخرى. ويقال إنها عبارة عن بورتريه شخصي للفنان أراده أن يكون مبهما ومفتوحا على عدّة احتمالات.

يقول احد الكتاب: أن تطالع لوحة لماغريت يعني أن تسمح له بأن يأخذ مقعدا في مؤخّرة دماغك ليبدأ من هناك في إعادة توجيه وربط العلاقات والاحتمالات والنسب بين ما هو متوقّع وما هو غير متوقّع، وبين ما هو واقعي وغير واقعي.
وماغريت يعتبر بلا منازع سيّد الرموز والإشارات المشفّرة. وهو من خلال الرموز والإيحاءات والإشارات يحاول أن يشدّ انتباه المتلقي ويدعوه لأن يعبر الحدّ الفاصل بين ما هو جميل وما هو مثير للتفكير والتأمّل.

في لوحة الحرب الكبرى نطالع صورة امرأة ترتدي ملابس بيضاء أنيقة وتمسك بمظلة وتضع فوق رأسها قبّعة كبيرة. لكن الأمر اللافت هو أن وجه المرأة مغطى بوردة بنفسجية.
والتفسيرات كثيرة. لكن أكثرها إثارةً للاهتمام يقول إن المرأة ليست سوى والدة ماغريت التي انتحرت بإغراق نفسها وهو ما يزال في الثانية عشرة. وعندما انتشلت جثتها من النهر ليلا، وكان رينيه حاضرا، كان وجهها مغطى بقطعة من فستانها الليلي.
والوردة التي تغطي وجهها في اللوحة كانت وردتها المفضلة. كانت تحبّ تلك الوردة بالذات وتحرص على زراعتها في حديقة بيتهم.
أما الاسم الغريب الذي اختاره ماغريت للوحة فربّما يشير إلى حالة التمزّق النفسي والألم المضني الذي كان يعتريه عندما يرى الورد في الحياة لكنه يعرف انه لن يستطيع رؤية وجه أمّه مرّة أخرى.

وكثيرا ما يُشار إلى قصّة موت والدة الرسّام مقرونة بنَفَس شاعري ويستشهد بتلك الحادثة باعتبارها المصدر الذي استلهم منه ماغريت فكرة رسم عدّة لوحات تظهر فيها نساء عاريات ورجال غطيت رؤوسهم بقطع من القماش.
والحقيقة أن منظر أمّه الميتة لم يفارق مخيّلته طيلة حياته. وكانت تلك الصورة تطفو إلى السطح بين وقت وآخر كي تأخذ طريقتها إلى بعض لوحاته.
ومن بين أعماله الأخرى التي تندرج ضمن هذا الإطار لوحته العاشقان التي تصوّر شخصين يقبّل كلّ منهما الآخر بينما غطيا رأسيهما بقماش ابيض.

في لوحة على عتبات الحرّية On the Threshold of Liberty يرسم ماغريت صديقه الشاعر الانجليزي ادوارد جيمس. كان جيمس شخصا ثريّاً وغريب الأطوار، وعرف عنه دعمه ورعايته للرسّامين السورياليين أمثال ماغريت ودالي وسواهما. وقد رسم ماغريت لادوارد جيمس ثلاث لوحات يظهر في إحداها واقفا أمام لوحة معلقة على جدار. لكن الرجل في غمرة انشغاله بالتحديق في اللوحة التي تمثل الحرّية، لا يفطن إلى أن هناك مدفعا ثقيلا قابعا خلفه ومصوّبا فوّهته نحو ظهره.
وفي لوحة الاستنساخ الممنوع نرى الشاعر نفسه واقفا أمام مرآة. غير أن المرآة لا تعكس وجهه كما هو متوقّع وإنما ظهره، الأمر الذي يذكّرنا بلوحة خيانة الصور التي يتساءل فيها الرسّام عن حدود ما هو واقعي وغير واقعي.
ومن الواضح أن هذه اللوحة تحتمل أكثر من تفسير. ربّما كان ماغريت يتساءل عمّا إذا كان بإمكاننا أن نعرف عن الشخص لو رأينا وجهه أكثر مما نعرف عنه عند رؤيته من الخلف. وقد يكون أراد أن ينقل لنا من خلال اللوحة صورة من صور الإحساس بغموض الهويّة وفقدان الذات. ولا ينسى ماغريت، زيادة في إدهاش الناظر وإرباكه، أن يرسم إلى جانب المرآة كتابا لشاعره المفضّل ادغار الان بو يحكي فيه عن رحلة متخيلة.

كان ماغريت متأثرا بـ ألان بو وبأشعاره الكثيرة عن الموت. ويقال إن أوّل ما فعله عندما حلّ بأمريكا هو زيارة ضريح الشاعر. وبعض لوحات ماغريت لا تخلو من مضامين عن الموت. وقد نشأت هذه الفكرة في ذهنه عقب وفاة والدته.
وقد عرف عنه انه كان يرسم لوحاته في غرفة المعيشة بالقرب من النافذة. وكان يرفض دائما أن ينشئ له محترفا أو استديو.
والغريب أنه لم يكن يمانع في أن يستنسخ الناس أعماله ويصوّروها. وقد يكون هذا سببا مهمّا في أن لوحاته أصبحت مألوفة كثيرا للعين، ابتداءً من مشهد القطار الذي يخرج من مدخنة، إلى المرأة التي تتحوّل بشرتها إلى نسيج خشبي "كان ماغريت يقول إن الرؤية هي اللمس من بعيد"، إلى الغيم الذي يأخذ شكل حمامة على خلفية من سماء زرقاء، إلى التفاحة الخضراء أو الحجر أو الوردة التي تملأ فراغ غرفة بأكملها، إلى النباتات التي تنمو على هيئة طيور .. إلى آخره.
ومن بين موتيفات ماغريت المفضّلة النافذة. فهي وسيلتنا لرؤية العوالم الأخرى والنظر إلى ما هو ابعد من وجودنا القريب. لكن النافذة بنفس الوقت لا تتيح للناظر سوى مشاهدة جزء من الواقع بحسب الزاوية أو المكان الذي ينظر منه، ونتيجة لذلك يمكن أن تكون الرؤية مشوّشة وغائمة. ولان للنوافذ عيوبها ونقائصها فإنها تصبح عند ماغريت رمزا لنقص معرفة الإنسان وقصور إدراكه عن فهم الواقع.
في لوحة التيليسكوب مثلا، يرسم ماغريت نافذة مواربة تحيل الناظر إلى سماء زرقاء غائمة. غير أن الجزء المفتوح منها يشير إلى ظلام في الخارج. وقد تكون اللوحة ترجمة لنظرية أفلاطون القائلة بأن ما ننظر إليه يمكن أن يكون صورة ظلية وليس بالضرورة واقعا فعليا.

ومما ينقل عن ماغريت قوله: إن إدراكنا عن أنفسنا ليس هو بالضرورة الصورة التي يرانا عليها الناس. وكثيرا ما نسمح لعقولنا أن تدفعنا للاعتقاد بأننا لا نكشف للآخرين عن انفعالاتنا أو لا نسمح لهم برؤيتها. لكن الحقيقة هي أننا لا نستطيع إغلاق جميع المنافذ لكي نهرب من انفعالاتنا أو نحجبها عن الآخرين".
في لوحة الجاسوس The Spy نرى شابّا ينحني لينظر من خلال ثقب الباب إلى امرأة تحدّق في الناظر بعينين متجمّدتين. هذا المشهد قد لا يكون باعثا للارتياح، لكنه يحمل سمات الترصّد والظلام التي كان ماغريت بارعا في تصويرها في لوحاته.
وفي لوحة يرسم ماغريت سفينة غامضة وسط البحر. وفي خلفية المنظر تشكيلات من الغيم. وليس في اللوحة ما يوحي بطبيعة الطقس أو الزمان أو المكان. والاهم من ذلك خلوّها من أيّة إشارة إلى عنصر الإغراء الذي يوحي به العنوان. والملمح الأساسي في اللوحة هو انثناءات الموج التي تمتدّ لتتداخل مع تفاصيل جسم السفينة نفسه. وثمّة احتمال بأن فعل الإغراء هنا هو ما يفعله البحر بالسفينة. إذ أن من دلالات المفردة أنها تشير إلى الحيلة والخداع "البصري في هذه الحالة". وقد يكون المعنى كامنا في عنصر المتعة التي يحصل عليها المتلقي عندما يتمعّن في اللوحة بعقل ناقد وعين متأمّلة.

من اللافت للاهتمام في لوحات مارغريت هذا الحضور الدائم للنار والغيم والورود والنوافذ المفتوحة والطيور والستائر والأشخاص البلا وجوه وكتل الحجارة والآلات الموسيقية والأجراس والتفّاح الأخضر والكرات المعدنية الصغيرة.. إلى آخره.
وقد كان من عادته أن يختار اسما واحدا لعدّة لوحات قد تتفق أو تختلف فكرتها عن اللوحة الأصل.
في إحدى لوحات سلسلة سحر أسود يرسم ماغريت امرأة عارية اختار لنصفها العلوي لونا ازرق في إشارة قد يكون قصد من ورائها أن الأفكار والمشاعر تأتي من العقل والقلب.
ولأن الأفكار والعواطف تتسم بطبيعتها اللامادّية، فقد اختار لذلك الجزء اللون الأزرق باعتباره لونا أثيريا يرمز للسموّ والنبل والتوحّد مع السماء.

وفي بعض لوحاته تأخذ المقتنيات والأشياء الشخصية من ملابس وفساتين وأردية داخلية أشكال أعضاء أصحابها.
في إحدى لوحات الموديل الحمراء مثلا، يتحوّل الحذاءان إلى قدمين. وقد يخطر بذهن الناظر أن الرسّام ربّما يشير إلى الارتباط اللاشعوري بين الإنسان وأشيائه الشخصية بحكم الاعتياد وطول المعايشة. لكن ماغريت يقدّم تفسيرا أكثر إقناعا وعمقا للوحة عندما يقول: إن أكثر الأشياء همجية وبربرية في هذا العالم يمكن أن تصبح مقبولة ومبرّرة من خلال قوّة العادة".