في مصنع يقع على أطراف المدينة، تعطّلت فجأة إحدى الآلات المهمّة، وساد الارتباك أرجاء المصنع. أومضت الأنوار ودوّت أصوات الإنذار وتوقّفت سيور النقل.
واتصل مدير المصنع غاضبا بجميع المهندسين الذين يعرفهم. كان معظمهم مشغولين أو مرتبطين بمواعيد. ثم همس أحدهم: هناك شخص واحد يمكنه اصلاح الخلل. وهو معروف بأمرين: إصلاح الأعطال المستحيلة وتقاضي مبالغ طائلة مقابل ذلك".
لم يضيّع المدير وقتا. اتصل رأسا بذلك الفنّي وطلب منه المجيء على الفور الى المصنع.
وبعد نصف ساعة، دخلت سيّارة مغبرّة ومتهالكة إلى موقف سيّارات المصنع، وخرج منها رجل في الخمسينات من عمره، ضئيل وذو شعر أشيب ويحمل صندوق أدوات مكسّرا.
لم يتحدّث الرجل كثيرا. مشى نحو الآلة مباشرة، دار حولها مرّة واحدة، فحصها ثم نقر عليها بمطرقة مطاطية صغيرة. وبعد بضع طرقات عادت الآلة إلى العمل. هلّل العمال وصفّقوا بينما رمشت عينا المدير في ذهول وقال: أهذا كلّ شيء؟ قال الفنّي العجوز: نعم، ثم استدار مغادرا بعد أن سلّمه الفاتورة.
فتح المدير الورقة وتفاجأ عندما وجد مكتوبا فيها: عشرة آلاف دولار. دولار واحد لإصلاح الخلل و٩٩٩٩ دولارا لتشخيصه.
العبرة من القصّة هي أن كميّة العمل ليست عنصرا مهمّا دائما، بل المعرفة والخبرة والبصيرة التي يوظّفها المرء فيه. أحيانا، نقرة واحدة تساوي عمراً من التعلّم.
❉ ❉ ❉
عُرف الرسّام السويدي يوجين يانسن (1862-1915) بأسلوبه الفريد وبتصويره لمدينة ستوكهولم بمناظرها الطبيعية والحضرية. وُلد الرسّام في ستوكهولم وقضى حياته كلّها فيها. وعلى الرغم من أنه لم يسافر كثيرا، إلا أنه كان أحد أكثر الرسّامين إبداعا في بلده.
في شبابه رسم لوحات الطبيعة الصامتة لكسب رزقه واعتمد أسلوبا طبَع مرحلة كاملة من عمله، فاعتمد على اللون الأزرق واختار شكلا تعبيريا فريدا من نوعه وموضوعا مميّزا هو رسم صور بانورامية لـ ستوكهولم.
وقد أتقن يانسن رؤية هذه المدينة بجزرها ومياهها الممتدّة وفُتن كثيرا بالجوّ الأزرق والأثيري الذي ينبعث منها ليلا والذي أهّلهُ لنيل لقب "الرسّام الأزرق". وقد اعتبر أصدقاؤه أن الضوء الأزرق في صوره له علاقة وثيقة بطريقته في العزف على البيانو. كانت الموسيقى مصدر إلهام مهم له. وليس من المستغرب أن يطلق على العديد من لوحاته الزرقاء اسم "نوكتيرن" الذي استلهمه من شوبان مؤلّفه الموسيقيّ المفضّل.
عاش يانسن في عزلة نسبية عن أكثر الفنّانين ابتكارا في عصره، ولم يكن على معرفة مباشرة بأعمال فنّانين مثل فان غوخ وغوغان وبيكاسو ومونيه وسيزان. ومع ذلك يمكن ملاحظة أوجه شبه مهمّة بين لوحاته ولوحات معاصريه في أوروبّا. وقيل انه رأى بعض أعمال إدفارد مونك في وقت مبكّر من عام 1894، وقد أثّرت على أعماله اللاحقة. كما كان قريبا من بعض الشخصيات الثقافية والأدبية والفنّية البارزة في بلده، مثل كارل لارسون وريتشارد بيرغ وغيرهما.
ومع ذلك كثيرا ما قوبلت لوحاته بتشكّك الجمهور والنقّاد والمتاحف. وبالكاد كان يجد من يشتريها لكونها طليعية وثورية. لكن هذا لم يمنعه من الاستمرار والمثابرة. فقد كان فردانيّا وشغوفا ولم يكن على استعداد لتقديم أيّ تنازل عن النهج الذي اختاره.
لوحته المشهورة "فوق" تُعتبر جزءا من الحركة الرمزية التي تركّز على المزاج والعاطفة بدلا من التجسيد الواقعي. وقد صوّر فيها جمال وجوهر منطقة وسط ستوكهولم المعروفة بـ "ريدارفجاردين"، وذلك بالتركيز على عناصر بعينها مثل مناظر المياه الهادئة والمباني المُضاءة وتفاعلات الضوء في وقت السحَر.
غالبا ما تتميّز أعمال يانسن بألوانها الناعمة وبخلوّها من الأشخاص، وبتركيزها على جوهر البيئة والصدى العاطفي وتأثيرات الضوء والطابع الأثيري الذي يوحي بالحنين والشاعرية والألفة والتأمّل. كما أنه كثيرا ما يدمج أسلوبه بعناصر من الانطباعية، خاصّة في طريقة إمساكه بالضوء وتأثيراته الحالمة والشاعرية على المشهد الحضري للمدينة.
❉ ❉ ❉
❉ ❉ ❉
ظللت أفكّر في روعة احتواء هذا العالم على هذا العدد الهائل من الأرواح. في تلك الشوارع، الناس منهمكون في آلاف الأمور المختلفة: مشاكل مالية، مشاكل عاطفية، مشاكل مدرسية. يقعون في الحب ويتزوّجون ويذهبون إلى مصحّات الإدمان ويتعلّمون التزلّج على الجليد ويرتدون نظّارات ويدرسون للامتحانات ويجرّبون الملابس ويقصّون شعورهم ويولدون. وفي بعض البيوت، الناس يشيخون ويمرضون ويموتون، تاركين آخرين يحزنون. كان هذا يحدث طوال الوقت، دون أن يلاحظه أحد، وكان هذا هو الأمر الأهمّ حقّا. جيفري يوجينيدس
أظنّ أنّني لن أرى أبدا قصيدة جميلة مثل شجرة. الشجرة ينحني فمها الجائع على صدر الأرض العذب، وتنظر إلى الله طوال اليوم وترفع ذراعيها المورقتين بالدعاء، وربّما تحضن في الصيف "عشّاً" من العصافير في شعرها، وعلى صدرها يتساقط الثلج وتعيش بدفء مع المطر. القصائد هي من صُنع أناس حمقى مثلي، لكن الله وحده قادر على صنع شجرة! جويس كيلمر
الألم جزءٌ من الحياة. أحيانا يكون كبيرا، وأحيانا خفيفا، ولكنه في كلا الحالتين جزء من اللغز الكبير، من الموسيقى العميقة، من اللعبة الرائعة. للألم فعلان: يعلّمك ويخبرك أنك على قيد الحياة. ثم يزول ويتركك بعد أن يغيّرك. أحيانا يجعلك أكثر حكمةً، وأحيانا يجعلك أقوى. وفي الحالتين، يترك الألم أثراً لا يُمحى. جيم بوتشر
عندما لا تعرف ماذا تفعل، تكون قد وصلت إلى هدفك الحقيقي.
وعندما لا تعرف أيّ طريق تسلك، تكون قد بدأت رحلتك الحقيقية! ويندل بيري
نحن لا نحلّل الإعلام على المرّيخ أو في القرن الثامن عشر أو ما شابه. نحن نرى بشرا حقيقيين يعانون ويموتون ويعذَّبون ويتضوّرون جوعا بسبب سياساتنا، ونحن كمواطنين في مجتمعات ديمقراطية نشارك فيها بشكل مباشر ونتحمّل مسؤوليتها.
وما تفعله وسائل الإعلام هو ضمان عدم قيامنا بمسؤولياتنا وأن تُخدم مصالح السلطة، لا احتياجات الشعوب المعذّبة، ولا حتى احتياجات الشعب الأمريكي الذي سيُصاب بالرعب إذا أدرك حجم الدماء التي على يديه بسبب الطريقة التي يتمّ فيها التلاعب به وخداعه. نعوم تشومسكي
❉ ❉ ❉
للوهلة الأولى، يشكّل الدكتور سوس والفيلسوف الرواقي سينيكا ثنائيا غريبا. أحدهما يُبهجنا بكلماته المرحة وصوره الخيالية، بينما يُثير الآخر فينا حكمة فلسفية عميقة عمرها ألفا عام. لكن وراء اختلافاتهما الظاهرية تكمن رسالة قويّة ومشتركة، فكلاهما يدعواننا لإعادة النظر في كيفية تعاملنا مع رحلة الحياة، ويذكّراننا بأن أعظم مغامراتنا وإحساسنا بالذات يبدأ من الداخل.
الدكتور سوس يحثّ القارئ بابتهاج قائلا: جَبَلك ينتظرك، لذا انطلق!". لكنه يحذّرنا من مكان الانتظار، وهو عالَم مجازي يُقصد به التردّد والمماطلة والركود. ويردّد سينيكا هذا الشعور في رسائله، محذرّا من البحث عن السلام في المحيط الخارجي فقط: من يقضي وقته في اختيار منتجع تلو الآخر بحثا عن السلام والهدوء، سيجد في كلّ مكان يزوره ما يمنعه من الاسترخاء". ويؤكّد أن الرضا الحقيقي لا يتحقّق بتغيير بيئتنا، بل يُزرع في داخلنا بالنيّة الواعية والاختيار الموفّق.
ويركّز كلا المؤلّفين على حقيقة جوهرية، وهي أن أعظم خطر في الحياة ليس الفشل؛ بل الجمود. ويذكّرنا الدكتور سوس بأن مسار الحياة نادرا ما يكون سلسا، لكنه دائما يستحقّ الخوض فيه.
ويكمل سينيكا هذه الفكرة بالحثّ على اتخاذ إجراءات مدروسة نحو حياة ذات معنى بدلا من انتظار التغيير الخارجي بسلبية. وينصح بأنه لا توجد لحظة خالية من التحدّي وبأن ندرك أن المصائب غالبا ما تظهر فجأة وبأن المرونة من خلال التجربة ضرورية.
هذان الصوتان يذكّراننا بأن مغامرة الحياة الحقيقية تتطلّب التوازن من خلال الطموح المعزّز بالوعي الذاتي والحماس المقترن بالتأمّل. سوس يدفعنا للأمام بشجاعة، "لكنك ستمضي قدما حتى لو كان الطقس قاسيا، ستمضي الى الأمام حتى لو كان أعداؤك يجوبون الشوارع، ستمضي قدما حتى لو نبحت عليك أخطر الكلاب". أما سينيكا فيرسّخ فينا اليقظة المنضبطة ويعلّمنا أن نستخدم الشدائد وقودا للنموّ لأنه "غالبا ما تمهّد النكسة الطريق لازدهار أكبر، والكثير من الأشياء تسقط لترتفع إلى آفاق أسمى".
تأمّل حكمة الاثنين مجتمعة: الدكتور سوس يثير الحماس، وسينيكا يقدّم منظورا مستقيما، كلاهما يشجّع على اتخاذ القرارات الحاسمة ويذكّراننا بأننا نمتلك كلّ ما يلزم لتحويل العادي إلى استثنائي.
من أشهر العبارات المنسوبة إلى هنري ماتيس قوله: هناك دائما زهور للذين يريدون رؤيتها". والمعنى المجازي لكلامه هو أن هناك الكثير من الأشياء الرائعة التي تملكها ولا يملكها الآخرون، لكنك لا تراها. وأنت تفتقدها أو لا تعرف أنها موجودة لانشغالك بأشياء أخرى. وعندما تُلقي نظرة من حولك، فهذا قد يساعدك على الشعور بالامتنان لها ويذكّرك بأنها مؤقّتة وأنك تحتاج لأن تقدّرها وتعرف أهميّتها الآن وقبل أن تختفي.
عندما نستكشف فنّ ماتيس أكثر، فإننا لا نكتشف رؤاه الثورية عن اللون والشكل فحسب، وإنما أيضا نتعرّف على أفكاره ورؤيته للحياة بشكل عام. كان شغوفا بالسفر، وكان للأماكن التي زارها تأثير مهم على فنّه. وقد ترحّل كثيرا في أنحاء فرنسا وركّز بشكل خاصّ على الجزء الجنوبي منها الذي ترك علامة واضحة على إدراكه للضوء والألوان.
في السيرة التي كتبتها هيلاري سبيرلينغ لماتيس، تنقسم حياته الى فصول تحمل أسماء الأماكن التي عاش فيها. وهذا يُثبت أنه كان يستمتع بالانتقال من مكان لآخر أثناء بحثه عن إلهام لأعماله.
وعندما كان مقتدرا ماليّا، ذهب إلى الجزائر وإسبانيا وإيطاليا وألمانيا والمغرب، كما زار روسيا وإنغلترا وأمريكا. وأمضى بعض الوقت في تاهيتي، حيث أُعجب كثيرا بالبحيرات وبالحياة البرّية الغريبة هناك. وكانت تلك الرحلات مصدر إلهام لبعض أهمّ أعماله.
وفي لندن، درس أعمال رسّام المناظر الطبيعية الرومانسي وليام تيرنر الذي كان معروفا باستخدامه البارع للضوء والألوان لخلق أجواء وأمزجة.
سافر ماتيس أيضا إلى كورسيكا والكوت دازور، حيث أصبحت ألوانه أكثر إشراقا. وقد عاش وعمل مع كتّاب وفنّانين بارزين، مثل جان كوكتو وراينر ماريا ريلكا وكلارا ويستهوف وأوغست رودان.
كان يحبّ الطبيعة والحيوانات، وعلى الأخصّ القطط. كما كان محبّا للطيور وكان لديه حمام أليف كان يشتريه من الباعة على نهر السين. وظهرت بعض هذه الحيوانات والطيور في فنّه.
في مرسمه في باريس الذي تطلّ نوافذه على حديقة دير، رسم ماتيس في عام 1908 أحد أهمّ أعماله في الفترة من 1908 إلى 1913. وكانت اللوحة "فوق" مخصّصة لتزيّن غرفة الطعام في قصر جامع التحف الروسي المشهور سيرغي شتشوكين في موسكو. كان الأخير تاجر أقمشة وراعيا وفيّا لماتيس. وقد كتب للأخير في عام 1910 يقول: الجمهور ضدّك لكن المستقبل لك".
تُصوّر اللوحة، التي تَغيّر اسمها فيما بعد الى "الغرفة الحمراء"، منظرا داخل بيت لطاولة مغطّاة بقماش أحمر، وفوقه أوانٍ فيها فواكه وحلويات. وخلف الطاولة نافذة مفتوحة على منظر طبيعي، بينما يظهر على الجدار ورق حائطي مرسوم عليه أنماط وزخارف معقّدة.
ويبدو قماش الطاولة الأحمر الفاخر بزخارفه الزرقاء النابضة بالحياة وكأنه يغوص في الحائط ويغطّي على الفضاء الثلاثي الأبعاد للغرفة.
وللوهلة الأولى، يبدو المنظر غارقا في اللون الأحمر الطاغي، لكن عندما نتمعّن فيه أكثر سنبدأ في فهم التناغم الذي يحقّقه ماتيس باختياره المدروس والمقصود للألوان والأنماط.
استخدام الرسّام للون الأحمر في الصورة جريء للغاية، إذ يغطّي كامل اللوحة تقريبا. ويقال إن اسمها كان في الأصل "تناغم باللون الأزرق". لكن ماتيس اضطرّ لأسباب إبداعية لتحويل اللون الأزرق إلى أحمر يشعّ طاقة وحياة، وأثبت أن تصرّفه ينمّ عن دراية وذكاء. فلم يُضِف اللون الأحمر حيوية ووهجا إلى المنظر فحسب، بل لقد أدّى الى تسطيح المنظور، ما خلق تأثيرا رائعا ثنائي الأبعاد.
المنظور المسطّح يعزّز الشعور بالتناغم، وهذه سمة أخرى مميّزة لأعمال ماتيس. وبدلاً من خلق تصوير واقعي للمساحة، ركّز الرسّام على التوازن العام للتوليف باستخدام اللون والنمط بغرض توحيد عناصر اللوحة المختلفة، وهذه شهادة على رؤية الفنّان الثورية واحتفال بروحه المبتكِرة وقدرته على إدراك العالم وتصويره له بطرق جديدة ومثيرة للاهتمام.
الاستخدام الجريء للألوان، بالإضافة الى المنظور المسطّح ووحدة الشكل، ملمحان يحملان تحدّيا لمعايير الرسم التقليدية. وقد أصبحت اللوحة فيما بعد مصدر إلهام للعديد من الفنّانين وساهمت بشكل كبير في تطوير الفنّ الحديث.
بالنسبة للأوروبيين، وعلى مدى قرون، كان يوانمينغيوان، أو مجمّع القصر الإمبراطوري الواقع شمال غرب بيجين، ملمحاً أساسيا في أحلامهم عن الشرق. كان القصر مكانا للكثير من الخيال والدهشة إلى أن تعرّض للتدمير عام ١٨٦٠ على يد جيش من الإنغليز والفرنسيين. ومن وقتها، أصبح القصر وملحقاته رمزا لاستعباد الصين على أيدي القوى الأجنبية في القرن التاسع عشر، ومن ثمّ محورا للقومية الصينية الحديثة.
ولم يكن من المستغرب أن يعود الزوّار الأوروبيون القلائل الذين رأوا المكان بالفعل قبل تدميره بروايات مليئة بالعجائب. وقد تفوّق الرهبان والرحّالة في العصور الوسطى على بعضهم البعض في سرد القصص التي تحكي عن جمال القصر والسلطة الهائلة التي كان يتمتّع بها "الخان العظيم".
بُني قصر يوانمينغيوان، ومعناه بالصينية حديقة الإشراق، على مراحل مختلفة بدءا من أوائل القرن الثامن عشر وحتى تدميره. وكان في البداية ملاذا خلّابا للأباطرة الذين رغبوا في الهرب من حرارة المدينة المحرّمة والالتزامات الرسمية في بيجين.
كانت الحديقة جنّة على الأرض لأباطرة تشينغ. كانت جميلة، فخمة، ومن صُنْعهم بالكامل وليست إرثا من السلالات السابقة. وقد صُمّمت المناظر الطبيعية لتشبه مشاهد من منطقة وادي اليانغتسي السفلي التي برز منها شعراء ورسّامون وأدباء صينيون مشهورون.
في القرن الثالث عشر تمكّن التجّار والمبشّرون الأوروبيون من السفر إلى الصين. وكان قصر "الخان العظيم" محطّ اهتمام رواياتهم عن ذلك البلد. والوصف الأكثر شهرة له جاء على لسان ماركو بولو الذي وصل إلى بيجين عام 1266 وقضى هناك حوالي 24 عاما.
وقد ذكر ماركو بولو أن قصر الإمبراطور ليس مجرّد مبنى واحد، بل مجمّع ضخم تبلغ مساحته حوالي أربعة أميال، ويضمّ بداخله العديد من القصور الرائعة الأخرى، وساحة مسيّجة يعيش فيها الخان مع عائلته. وهناك تلّ اصطناعي مزروع بالأشجار وبحيرة اصطناعية تعبرها جسور. ويمتلئ جزء كبير من المجمّع بالطيور والحيوانات البرّية، بحيث يتمكّن الإمبراطور من مطاردة الطرائد متى شاء دون مغادرة القصر أبدا. وفي وسط المبنى جرّة كبيرة يمكن للزوّار الشرب منها، وهناك مجموعة من تماثيل الطاووس بالإضافة الى أسد أليف يتجوّل بين الصالات.
كما يذكر ماركو بولو أن أعمدة القصر الأربعة والعشرين صُنعت من الذهب، بينما نُحتت جرّة الشرب من أحجار ثمينة تجاوزَ ثمنها قيمة أربع مدن عظيمة، وكان ثمن كلّ لؤلؤة تزيّن معاطف رجال الحاشية حوالي خمسة عشر ألف فلورين.
كانت الوفرة والجمال والثراء تعبيرات عن قوّة الإمبراطور الهائلة. وأمام عرشه، كان الزوّار يصمتون ثم يسجدون، مُؤدّين "الكوتو"، أي الركوع ثلاث مرّات والضرب مثلها على الرأس، كما ينصّ بروتوكول البلاط. كان عدد زوّار الخان من الأوروبيين قليلا، ولم يكن لديهم سوى سلوكهم الحسن لدعم مطالبهم المتواضعة بالتجارة والحقّ في التبشير بالإنجيل.
كان ماركو بولو يلقّب بـ"المليون" لميله الى المبالغة. ولكن سواءً كانت شهاداته صادقة أم لا، كانت هناك حاجة لسرد الكثير من العجائب إذا ما أُريد للقصص أن تجد جمهورا.
المبشّرون اليسوعيون في الصين اتّبعوا استراتيجية هرمية لتحويل أهل البلاد الى المسيحية. فبعد أن يُقنعوا البلاط الإمبراطوري باعتناق دينهم في البداية، كانوا يأملون لاحقا في تحويل البلاد كلّها الى الدين المسيحي. ولتحقيق هذا الهدف، قدّموا للإمبراطور نماذج متنوّعة من التكنولوجيا والفنون الأوروبية وعرضوا خدماتهم كرسّامين ورسّامي خرائط وعلماء فلك وصانعي ساعات وحتى صانعي مدافع.
وقد شكّلت رسائل البعثة اليسوعية العائدة إلى فرنسا والمنشورة في باريس في القرنين السابع عشر والثامن عشر، المصدر الأكثر موثوقيةً للمعلومات عن الصين. كانت تلك الرسائل تُقرأ على نطاق واسع، خاصّة من قِبل المدافعين عن الامتيازات الملكية في إنغلترا وفي فرنسا. وأصبحت الصين بالنسبة لفلاسفة مثل فولتير نموذجا للحكم الرشيد والنظام الاجتماعي.
وسمح تواجد بعض اليسوعيين في قصر الخان العظيم بوضع وصف شامل إلى حدّ ما للقصور والحدائق. وأشهر تلك الاوصاف يرد في رسالة كتبها الفرنسي جان دينيس أتيريه عام 1745 عندما كان يخدم كرسّام في بلاط الامبراطور.
وقد أوضح أتيريه أن الإمبراطور استلهم لتصميم الحديقة، ولكي تظهر بجمال خاص، معالم من جميع أنحاء الصين والعالم، منها معابد من منغوليا والتبت، وقرية ومشهد لنهر من هونان، وحدائق من سوتشو وهانغتشو، ومجموعة من الأبنية على الطراز الأوروبّي. بل إن القصر كان به نسخة طبق الأصل من شارع صيني عادي مليء بالمتاجر والأكشاك والباعة المتجوّلين والزبائن والمتسوّلين. وكان الإمبراطور يتجوّل في تلك الأرجاء كما يحلو له، وكانت نساؤه يعقدن صفقات مع الخصيان الذين يلعبون دور البائعين.
لكن أكثر ما كان يلفت الانتباه الفوضى الجميلة و"عدم التماثل" اللذان سيطرا على تصميم المكان. فلم تكن المسارات والجسور العابرة فوق البحيرات مستقيمة بل متعرّجة، ولم تكن الأبواب والنوافذ مربّعة الشكل بل دائرية أو بيضاوية أو على شكل أزهار أو طيور أو أسماك. ورغم أن هذا الوصف قد يبدو ساذجا، إلا أن أتيريه أقرّ بأنه "عندما تراه بنفسك، ستُفكّر بطريقة مختلفة وستبدأ بالإعجاب بالفنّ الذي صُمّم به هذا التباين".
كانت حديقة القصر، بتنوّعها وشمولها، تمثّل كلّ ما هو موجود: الماضي والمستقبل والمواقع الغريبة والنباتات والحيوانات المذهلة والجبال الشاهقة والمحيطات والريف والمدينة. وكان الإمبراطور هو الحاكم الأوحد لهذا الكون البديع والشخص الذي جُمعت له كلّ هذه التسلية. ولأن كلّ شيء كان مرتّبا بتناغم وسلام، كانت الحديقة دليلا واضحا على فضائل حكمه. ومن منظور التصنيفات الجمالية التي كانت شائعة في القرن الثامن عشر، كان كلّ هذا مثيرا للفضول.
في رسائل اليسوعيين، استُبدلت لغة الجمال والرهبة في العصور الوسطى بانطباعات التعدّدية المبهجة. وتحوّل يوانمينغيوان إلى قصر "روكوكو"؛ إلى خزانة ضخمة مليئة بالتحف الفنّية وبآلات ومؤثّرات وخِدع بصرية.
ويذكر أتيريه أن هناك خصوبة لا مثيل لها في روح الصينيين. في الواقع "أميل إلى الاعتقاد بأننا فقراء وعقيمون مقارنةً بهم". في حقبة سابقة، كانت هذه الخصوبة دليلاً على الفردوس. وكانت الفردوس أيضا حديقة يتجدّد فيها كلّ شيء باستمرار ودون عناء. وفي حقبة تالية، أصبحت هذه الخصوبة نفسها دليلاً على إنتاجية التربة الصينية وثروات الأسواق الصينية التي كانت تنتظر استغلالها من قبل التجّار الأوروبيين.
وتمشيّا مع موضة الطراز الصيني، ساهم أتيريه في إلهام إنشاء حدائق بنفس الطراز في جميع أنحاء القارّة. فبعد سنوات قليلة فقط من نشر مذكّراته، بنى فريدريك العظيم منزلا صينيّا في سان سوسيس وشيّدت كاترين العظيمة قصرا صينيا في أورانينباوم وبنى أدولف فريدريك ملك السويد قصرا صينيا في دروتنينغهولم. وفي عام 1761، شيّد المهندس المعماري ويليام تشيمبرز معبدا يبلغ ارتفاعه خمسين مترا في حدائق كيو، بالإضافة إلى "بيت كونفوشيوس".
كان تشيمبرز قد زار الصين من قبل. ففي شبابه، زار غوانتسو مرّتين في أربعينات القرن الثامن عشر على متن سفن تابعة لشركة الهند الشرقية السويدية. وقد درس هناك العمارة الصينية وفنون الحدائق. وفور عودته إلى أوروبّا، نشر عام ١٧٥٧ كتيّبا بعنوان "فنّ تصميم الحدائق عند الصينيين".
وأوضح تشيمبرز أن هناك ثلاثة أنواع مختلفة من المشاهد في الحدائق الصينية: المبهج، والمرعب، والساحر". وفي حين أن المبهج والساحر يتوافقان مع تصنيف اليسوعيين، إلا أن تركيزه على المرعب كان أمرا جديدا تماما. وقد أصرّ تشيمبرز على أن هذه المشاهد المروّعة كانت تتضمّن أشجارا مشوّهة مزّقتها العواصف وصخورا متداعية وشلالات جارفة ومبانٍ التهمت النيران نصفها. وصُمّمت هذه المشاهد لاستثارة المشاعر المتسامية.
وقد عاد تشيمبرز ثانية إلى حديقة الرعب تلك واستخدم قصر يوانمينغيوان كمثال توضيحي. وبعد وصفه للمتع التي تثيرها مسارات الحديقة المتعرّجة العديدة ومناظرها الساحرة، انتقل إلى "مشاهد الرعب": غابات كئيبة، ووديان عميقة لا تصلها الشمس، وصخور قاحلة، وكهوف مظلمة، وشلالات هادرة تتدفّق من الجبال في جميع الأرجاء".
وفي البساتين "كانت ترفرف الخفافيش والبوم وكلّ طائر جارح وتعوي الذئاب والنمور والضباع في الغابات وتتجوّل الحيوانات شبه الجائعة في السهول وتُرى المشانق والصلبان والعجلات وجميع أدوات التعذيب. وفي أكثر أركان الغابة كآبة، حيث الطرق وعرة ومليئة بالأعشاب، وحيث يحمل كلّ شيء علامات هجرة السكّان، توجد معابد مكرَّسة لملك الانتقام، وكهوف عميقة في الصخور، ومنحدرات تقود إلى مساكن تحت الأرض مُغطّاة بالأغصان والشجيرات العالقة".
بالطبع، كان وصف تشيمبرز الغريب لـ"حديقة الرعب" هدفا سهلا للسخرية.
ومع ذلك، لم يكن من السهل كبح الحساسية التي كان وصف تشيمبرز تعبيرا عنها. فبالنسبة للكتّاب الرومانسيين في مطلع القرن التاسع عشر، كانت عجائب الشرق مصدرا لأحلام اليقظة الغريبة، وكان قصر الإمبراطور الصيني موضوعا مفضّلا.
في أكتوبر 1797، تناول الشاعر الإنغليزي سامويل تيلر كولريدج جرعة صغيرة من الأفيون ثم قرأ صفحات من حكايات الرحّالة الى الصين في العصور الوسطى، قبل ان يغالبه النعاس. وعندما استيقظ كتب قصيدة تصف جنّة صينية سامية ألهمته الشوق والرهبة:
"في زانادو أصدر قبلاي خان
قراراً ببناء قبّة ابتهاج فخمة
حيث جرى النهر المقدَّس "ألف"
عبر كهوف لا يستطيع إنسان إدراك مداها
أسفل إلى بحرٍ لا تطلع عليه شمس
لذا أُحيطت عشرةُ أميالٍ
من الأرض الخصبة بأسوار وأبراج
ووُجدت هناك حدائقُ زاهرة بجداولَ مُتعرِّجة
حيث أزهر كثير من شجر البخور
هنا كانت غابات قديمة كالتِّلال
تحتضن بقعاً خضراءَ مشمسة".
من الواضح أن كولريدج كان يتحرّك في نفس المجال الشعري الذي تحرّك فيه تشيمبرز. فكهوف كولريدج التي "لا يستطيع إنسان إدراك مداها" ليست بعيدة كثيرا عن "كهوف تشيمبرز العميقة في الصخور". كما لم يبتعد هذا كثيرا عن الرواية التي قدّمها ماركو بولو نفسه ذات مرّة. وما رآه كولريدج في حلمه هو قصر قبلاي خان الذي زاره بولو.
سياسيّا، يمكن قراءة قصيدة "قبلاي خان" على أنها تخلٍّ عمّا يُسمّى بـ "عبء الرجل الأبيض" ودعوة للمستعمرين والمستعمَرين لتبادل الأماكن. وعلى النقيض من ذلك، لم يكن تشيمبرز سريعا في التخلّي عن نفسه. فقد أشاد بالصينيين، ليس فقط لرعبهم، ولكن أيضا لبهجة حدائقهم.
في أغسطس 1793، وصل وفد ديبلوماسي بريطاني بقيادة جورج ماكارتني إلى بيجين بهدف فتح السوق الصينية الضخمة لتجارة السلع البريطانية الصنع. وعند وصولهم إلى القصر الإمبراطوري، متوقّعين بوضوح "تجربة سامية"، شعر الدبلوماسيون بخيبة أمل قويّة. وقال ماكارتني: ما رأيناه لا يرقى إلى مستوى الأوصاف الخيالية التي دسّها لنا الأب أتيريه والسير ويليام تشيمبرز على أنها حقائق".
وقال شخص آخر في الوفد ان القصور كانت صغيرة ومزخرفة بشكل مبالغ فيه، و"ليست مجرّدة من الأناقة، بل في حال يُرثى لها من الاهمال". وأضاف أن جزءا كبيرا من المباني يتكوّن من أكواخ متواضعة. كما أن مسكن الإمبراطور نفسه وقاعة المحاضرات الفخمة، بعد تجريدهما من التذهيب والألوان الصارخة التي طُليا بها، لا يتفوّقان إلا قليلاً على حظيرة مزارع إنجليزي!". لكنه أشاد بـ "المزهريات الرائعة المصنوعة من اليشب والعقيق و"أرقى أنواع الخزف الياباني"، وآلات القمار، والساعات، والآلات الموسيقية الرائعة".
في أربعينات القرن الثامن عشر في بريطانيا، بلغت موضة الطراز الصيني ذروتها. وبحلول التسعينات، غالبا ما كانت الأشياء الصينية تُعتبر مبتذلة، على الأقل بين الرجال ذوي الأذواق الكلاسيكية الجديدة. وكان الطراز الصيني، مثله مثل طراز الروكوكو الفرنسي أو العمارة القوطية الجديدة، يُعتبر متشاوفاً وزائفا.
لم يُظهِر الدبلوماسيون البريطانيون حماسا حقيقيا إلا لحدائق وأراضي القصر الإمبراطوري. وقال ماكارتني واصفا حدائق المنتجع الصيفي الإمبراطوري إنها "من أجمل مناظر الغابات في العالم" وأضاف: عند وصولنا إلى قمّة إحدى التلال، انفتح أمامنا فجأة مشهد يمتدّ لعشرين ميلاً، كان مشهدا غنيّا ومتنوّعا وجميلا وساميا لم ترَ عيناي مثله قط".
في صباح يوم 7 أكتوبر عام 1860، شقّت القوّات الفرنسية والبريطانية طريقها إلى قصر يوانمينغيوان. وعلى الرغم من أوامر القادة العسكريين، نهبَ الفرنسيون المجمّع، بينما سارع الإنغليز إلى عرض ما تبقى منه للبيع. وبعد عشرة أيّام، أحرقت القوات البريطانية المباني وما تبقّى من محتوياتها بالكامل. وكان لهذا التخريب سياق سياسي وعسكري تمثّل في انعدام انضباط الجيش الفرنسي ورغبة الانغليز في الانتقام من "المعاملة الوحشية" التي تلقّاها مجموعة من الرهائن على أيدي الصينيين.
كانت القوّات الفرنسية هي التي نفّذت معظم عمليات النهب. لكن القادة الفرنسيين نفوا رسميّا أيّ تورّط لهم، وألقوا باللوم في ذلك على عصابة من الصينيين الذين رافقوا الجيوش الأوروبية.
كان من بين من شهدوا تلك الأحداث اللورد إلجين الذي كان رجلا محافظا ومتشكّكا في الإمبريالية الجشعة، وكان أيضا من أتباع الشاعر كولريدج. وفي أكسفورد انجذب فكره إلى التكهّنات التجريدية الراقية، وقرأ أفلاطون وميلتون بالإضافة الى كولريدج. ومع ذلك، عندما واجه قصر يوانمينغيوان، أيقن أنه ليس القصر الذي وصفه كولريدج في قصيدته. فلم "يُغمض عينيه خوفا" ولم يشرب "حليب الجنّة". وبدلا من ذلك، شارك في إحراق المكان.
عندما تطوّرت الأمور إلى فكرة حرق القصر، رفض القادة الفرنسيون أيّ مشاركة. وقال البارون غروس: إننا نتحدّث باستمرار مع الصينيين عن "حضارتنا" وعن "الخيرية المسيحية"، وتدمير القصر سيكون عملاً همجيّاً ومنافقاً".
أما بالنسبة للجنود العاديين، سواءً البريطانيين أو الفرنسيين، فبمجرّد أن دخلوا بوّابات يوانمينغيوان، بدا وكأنهم في حلم. كانت تلك مملكة سحرية مليئة بكلّ الكنوز التي يمكن تخيّلها. ولم يكن الجنود قلقين مثل قادتهم من احتمال محاسبتهم، فاعترفوا بأفعالهم واستعانوا بخيالاتهم. قال أحدهم: لقد صُعقت وذُهلت ممّا رأيته، فجأة بدت لي ألف ليلة وليلة قابلة للتصديق تماما، كان كلّ شيء أشبه ما يكون بحكاية خرافية".
وقال آخر: شعرتُ كأنني علاء الدين ممتلئا بالدهشة في قصره المسحور المرصوف بالذهب والألماس. ولوصف ما رأيته سأحتاج إلى إذابة جميع الأحجار الثمينة المعروفة في ذهب سائل ورسم صورة بريشة من الماس تحتوي شعيراتها على جميع خيالات شاعر من الشرق".
وحدث الدمار النهائي في نوع من الهذيان. ركض الجنود من غرفة إلى أخرى باحثين عن الغنائم. كان هياجا ونهبا معربدا وكأن الجميع قد أصيبوا بجنون مؤقّت.
وبدا الأمر كما لو أن الحرب التي تنبّأت بها "أصوات الأسلاف" في قصيدة كولريدج قد وصلت أخيرا، وأن الأوروبيين هم الشياطين الذين ينفّذونها.
كان الأوروبيون قد وعدوا بـ "بداية جديدة" للصين و"مستقبل مشرق من التقدّم والتجارة الحرّة". لكن كان لا بدّ أوّلا من تدمير العالم القديم، إذ لا سبيل لنشر "الحضارة" إلا من خلال أعمال همجية. وقال بعض الانغليز: كان تدمير قصر الإمبراطور أقوى دليل على قوّتنا المتفوّقة، فقد أسهم في دحض قناعة الصينيين السخيفة بسيادة مُلكهم على العالم. ومع هذا النصر، برز الأوروبيون أخيرا كحكّام للعالم بلا منازع".
بعض المؤرّخين يشبّهون غزو نابليون بونابرت لفلسطين بمرور نيزك ضخم لم يلبث أن اختفى مُحدثاً دمارا هائلا. كان الجنرال الفرنسي قد انطلق من مصر، وعند وصوله إلى يافا، تغلّب على مقاومة الحامية العثمانية المحلية واجتاح المدينة بقوّة ونهبها وقتل الآلاف من أهلها.
وفي أعقاب تلك الفوضى، أصيب العشرات من الجنود الفرنسيين بالطاعون.
في لوحة الرسّام أنطوان جان غروس "فوق"، نرى نابليون البالغ من العمر وقتها 29 عاما وهو يزور برفقة مساعديه جناحا في مستشفى في يافا يتواجد فيه جنود فرنسيون مرضى بالطاعون وبحال من البؤس والمعاناة. ويظهر الجنرال وهو يحاول تهدئة ذعر الجنود ويمدّ يده العارية ليلمس، دون خوف، خُرّاجا ملتهبا لجنديّ مصاب. وخلفه يقف ضابط يضع منديلاً على أنفه لحجب الرائحة، أو ربّما لوقاية نفسه من العدوى.
أنهى غروس هذه اللوحة المليئة بالاستعارات والرموز في الأشهر التي سبقت تتويج نابليون إمبراطورا على فرنسا في كاتدرائية نوتردام. واليد الممدودة في اللوحة تمثّل يد يسوع التي تشفي من الجذام والعمى والصمم بمجرّد اللمس.
لكن تلك اللمسة لم تجلب الشفاء لأن الجند كانوا بحاجة إلى أطبّاء، بدليل الجثث المتناثرة. كانت غاية بونابرت إظهار قدرته على رعاية المرضى والسير جنبا إلى جنب مع زملائهم الجنود، وكأنه يقول: انظروا! أنا بشر، لكنّي لا أخشى انتقال العدوى إليّ ولا يجب أن تخافوا أنتم أيضا".
في المخيّلة الشعبية الاوربّية، يُعتقد أن الطاعون - واستطرادا "كوڤيد" في عصرنا - مرضان
ألحقهما الشرق بالغرب. والسبب هو أنه في أوائل القرن الثامن عشر، اختفى الطاعون من أوروبّا الغربية. وبحلول منتصف ذلك القرن، أنشأت عائلة هابسبورغ الملكية حاجزا صحّيا منع الطاعون من الوصول إلى وسط القارّة أيضا.
لكن الوباء استمرّ في اجتياح الإمبراطورية العثمانية. وتشير موسوعة ديدرو الفرنسية الى أن الطاعون "يأتي إلينا من آسيا، وعلى مدى ألفي عام، انتقلت جميع الأوبئة التي ظهرت في أوروبّا من خلال تواصل المسلمين والعرب والمغاربة والأتراك معنا، ولم يكن لأيّ من أوبئتنا أيّ مصدر آخر".
واشتهرت إسطنبول، على وجه الخصوص، بأنها مركز للأمراض المعدية. وفي رواية ميري شيلي "الرجل الأخير"، يبدأ وباء مدمّر للعالم من هناك. وكانت لمصر العثمانية سمعةٌ مماثلة، ففي القاهرة تسبّبت جائحة للطاعون عام 1791 في مقتل ثلث عدد السكّان تقريبا.
ولهذا السبب اعتبر الأوروبيون في زمن نابليون الطاعون "مرضا شرقيّا" أو "تركيّا". وفي هذه الحالة، لم يكن الطاعون الذي أصاب قوّات نابليون مستوردا، بل كان مصدره الأتراك، كما توحي بذلك تفاصيل لوحة غروس. وعلى الرغم من أن جناح المشفى المصوّر في اللوحة كان يقع في دير أرمني، إلا أن الرسّام وضعه فيما يشبه مسجدا محاطا بأروقة على الطراز الإسلامي. وخلف المشهد يرفرف العلم الفرنسي ذو الألوان الثلاثة.
ومن هذا المنطلق، فإن الإشارة إلى وباء "كوڤيد" قبل سنوات باعتباره "الڤايروس الصيني" لم تكن سابقة. لكن كثيرا ما كانت أصابع الاتهام تُوجّه في الاتجاهين، ففي الإمبراطورية العثمانية كان يُطلق على مرض الزهري اسم "جُدريّ الفرنجة!".
لكن الرسّام غروس أدخل الى اللوحة عنصرا عقّد ربطه بين الطاعون والشرق. ففي مقدّمة الصورة الى اليمين، يظهر شخص تركي، أو لعلّه عربي، أنيق اللباس وهو يعالج مريضا فرنسيّا. وقد اعتبر الأكاديميون الفرنسيون الشكليون إدراج الفنّان لهذا الشخص عيبا في العمل، لأنه يشتّت انتباه الناظر عن نابليون والجنود العراة.
من يافا توجّه بونابرت بعد ذلك إلى عكّا وحاصرها، لكن دون جدوى. وفي انسحابه المتسرّع جنوبا، لقي عدد من الجنود الجرحى والمرضى حتفهم على طول الطريق. وعند عودته إلى يافا زار جناح الحجر الصحّي مرّة أخرى. ويقال إنه اقترح على كبير الأطبّاء إعطاء الجنود الفرنسيين المصابين بالطاعون جرعات قاتلة من الأفيون، إذ لا يمكن نقلهم إلى مصر، وإلا "سيقعون بأيدي الأتراك الساديّين". لكن الطبيب رفض ذلك قائلا: مهنتي هي شفاء الناس، لا قتلهم!".
ومهما كانت حقيقة قصّة الأفيون، فإنها تثير سؤالا يبدو ملحّا اليوم: ما هي التنازلات التي يجب تقديمها في خضمّ نقص الإمكانيات؟ عندما خطّط نابليون لانسحابه، كانت موارده محدودة وأراد حماية جيش ضعيف أصلا. فهل كان عليه أن يخاطر بحياة المرضى المصابين بأخذهم معه والتسبّب في إصابة الجند الأصحّاء؟
يُعتقد أن هذه اللوحة رسُمت بتكليف من نابليون تحديدا، وذلك لدحض التقارير التي تحدّثت عن الفظائع الفرنسية التي ارتكبت أثناء حصار يافا، وأيضا لنفي قصّة إعطاء مرضى الطاعون أفيوناً قاتلا. وكانت تلك التقارير قد انتشرت في فرنسا وتسبّبت في إثارة غضب الكثيرين.
في دراسة أوّلية للوحة، يظهر نابليون وهو يحمل جثّة! لكن على ما يبدو، رأى الرسّام أخيرا أنه من غير اللائق أن يبالغ في الدراما لاستدرار المشاعر، فاستبدلها بلمسة الجنرال الحازمة والواثقة للجنديّ المصاب.
في سبتمبر 1804، عُرضت اللوحة في صالون أكاديمية الفنون الجميلة في باريس، وكانت هي العمل الأبرز في المعرض. وفيما بعد، أُعيد إنتاجها في مطبوعات ونقوش مصغّرة وجدت طريقها إلى جميع أرجاء فرنسا. وفي تلك الأثناء، أصبح دير يافا محطّة نموذجية للسيّاح الفرنسيين.
كانت اللوحة دعايةً صارخة صوّرت حملة عسكرية كارثية وحوّلت نابليون إلى قائد مقدام لا يعرف الخوف أو التردّد. وكُلّف العديد من الفنّانين الآخرين بإنتاج أعمال مماثلة تمتدح انتصاراته. ولأن حملة فلسطين كانت ضعيفة في تحقيق أيّ نجاح في ساحة المعركة، فقد حلّت لوحة غروس، الذي لم يسافر قطّ إلى الشرق الأدنى، هذه المشكلة وسَدّت النقص.
كانت رسالة اللوحة واضحة: ربّما لم ينتصر نابليون على الأتراك في فلسطين، لكن ذلك لم يكن ذنبه. ألا ترى الجثث؟! لقد كان يكافح الطاعون"! وعلى الرغم من أن الطاعون كان "عدوّا لم تصله حراب الفرنسيين" بحسب أحد الصحفيين، إلا أن نابليون تغلّب على خوفه ومُنح لمسة إلهية!
اسم اللوحة التي فوق "ڤيللا على شاطئ البحر" للفنّان السويسري أرنولد بوكلين من القرن التاسع عشر. وهي واحدة من سلسلة من اللوحات التي تتناول نفس الفكرة مع بعض التعديلات المعمارية البسيطة. وقد عاد بوكلين مرارا لرسم هذه الڤيللا كموضوع، ربّما لارتباطها في ذهنه بذكرى معيّنة أو حادثة ما.
في الصورة، يظهر شاطئ وأشجار حُور طويلة ومبنى مهجور. وبين الأشجار رواق مظلّل تعلوه تماثيل تطلّ على الأمواج. وهناك امرأة وحيدة، يمكن أن تكون راهبة، ترتدي فستانا أبيض وشالاً أسود وتقف على الشاطئ بينما تتأمّل البحر. ونفس هذه المرأة المنعزلة تظهر في بقيّة لوحات السلسلة، لكن بمظهر مختلف نوعا ما.
كان بوكلين يميل لرسم الڤيللات الرومانية وغيرها من المناظر الطبيعية في إيطاليا تمشيّا مع الذوق الفنّي السائد آنذاك. و"ڤيللا على شاطئ البحر" تتّسم بغموضها، إذ لا يوجد ما يدلّ على هويّة المرأة ولا سبب وجودها في هذا المكان. وقد تعمّد الرسّام استحضار دلالات مختلفة في هذا العمل الذي يوحي بالحزن والزوال والكآبة.
ويقال إن هتلر، ولأسباب غير معروفة، استولى على إحدى هذه اللوحات كغنيمة حرب وأضافها لمجموعته الخاصّة. وظهرت اللوحة في صورة فوتوغرافية خلف الزعيم النازي في إحدى المناسبات.
بعض النقّاد يرون بأن هذه اللوحات ربّما لم تكن قريبة إلى قلب الفنّان بمثل قرب أعماله الأكثر غموضا وقوّة والتي يُعرف بها بوكلين اليوم عن جدارة مثل سلسلة "جزيرة الموتى". وهذه الأخيرة تذكّر بمقبرة فلورنسا الإنغليزية القريبة من مرسمه، حيث دُفنت ابنته. ويقال إن امرأة أرملة هي التي كلّفته برسم أولى لوحات تلك السلسلة وأن تكون ذات أجواء غامضة وحالمة.
السؤال: لماذا يعود الفنّان إلى رسم نفس الموضوع أكثر من مرّة؟ هناك أكثر من سبب، أحيانا لاستغلال إمكانات موضوع معيّن على أكمل وجه، أو ببساطة لأنه منجذب الى الموضوع. لكن على الأرجح فإن ڤيللا بوكلين هذه تعبّر عن مكان خاص جدّا وخيالي أكثر منه واقعي. وربّما يكون لرسمها مرارا سحر غامض جعل الڤيللا أكثر واقعيةً بالنسبة له.
رسم أرنولد بوكلين خلال حياته مجموعة واسعة من الأعمال، بما في ذلك المناظر الطبيعية والبورتريهات والأعمال الرمزية. وتتّسم لوحاته عموما بطابعها الحالم والخيالي، وغالبا ما تتضمّن شخصيات ومشاهد غامضة من الأساطير اليونانية.
تلقّى الفنّان تدريبا في الرسم في أكاديمية دوسلدورف، ثم ذهب الى أنتويرب وبروكسل، حيث نسخ أعمال المعلّمين الفلمنكيين والهولنديين. ثم قصد باريس وعمل في متحف اللوڤر ورسم العديد من المناظر الطبيعية.
وفي مارس ١٨٥٠ ذهب إلى روما. كانت معالم العاصمة الإيطالية بمثابة حافز جديد لعقله، حيث أدخل تأثيرات جديدة وشخصيات رمزية وأسطورية في لوحاته. وفي عام ١٨٥٦، عاد إلى ميونيخ وأقام فيها أربع سنوات.
تأثّر بوكلين بالرومانسية وكثيرا ما مزج صوره المستمدّة من الأساطير بجماليات ما قبل الرفائيلية. والعديد من أعماله تقدّم تفسيرات خيالية للعالم الكلاسيكي أو تصوّر مواضيع أسطورية في بيئات تتضمّن عمارة قديمة. وغالبا ما تستكشف تلك اللوحات الموت والفناء بشكل مجازيّ وفي سياق عالم خيالي وغريب. وأخيرا، ترك بوكلين تأثيرا كبيرا على الحركة الرمزية ولا تزال أعماله تحظى بشعبية كبيرة في أكثر من مكان.
❉ ❉ ❉
في كتابه الموسوم "قبل أن تبرد القهوة"، يوصي توشيكازو كاواغوتشي قارئه بأن يحاول ما استطاع ان يهدأ قليلا وينتزع نفسه من زحمة الحياة وصخبها ويستمتع بجمال الطبيعة وحميمية القهوة، وبذا يخلق لنفسه لحظات من الصفاء تستحقّ أن يتذكّرها في قادم الايّام.
والكتاب عبارة عن رواية عن مقهى في طوكيو يوفّر لزبائنه فرصة السفر عبر الزمن الى الوراء، شرط أن يفعلوا هذا قبل أن تبرد قهوتهم. وهذه العودة قد تكون لرؤية أناس رحلوا عنّا أو لتصحيح أخطاء أو لاستكمال أشياء لم تُنجز كما ينبغي أو بما فيه الكفاية.
يتضمّن الكتاب أربعة فصول، يروي كلّ منها قصّة شخص سافر عبر الزمن لسبب مختلف. والغاية ليست تغيير الحاضر، بل لاستدعاء الذكريات. ويمكن اعتبار الكتاب تأمّلا معمّقا في قِصَر الحياة وأهميّة عيشها بعزيمة وهدوء. كما انه يدعو القارئ إلى التأمّل في نفسه والتفكير في تأثير تجارب الماضي على مساره كشخص وعلى سلامته النفسية. كما يحثّ القارئ على قبول التغيير وتنمية القدرة على التحمّل وبناء حياة ذات معنى.
كتاب كاواغوتشي أصبح من أكثر الكتب مبيعا في اليابان والعالم. والدرس العميق الذي يقدّمه هو اننا لا نستطيع تغيير الماضي، لكن يمكننا الاستفادة من دروسه لإثراء الحاضر والمستقبل.
من العبارات الجميلة في الكتاب: لا تؤجّل شيئا إلى وقت لاحق. لاحقا، تبرد القهوة وتفقد الاهتمام ويتحوّل النهار إلى ليل ويكبر الناس ويشيخون. لاحقا، تمضي الحياة وتندم على عدم فعل شيء عندما سنحت لك الفرصة لفعله.
❉ ❉ ❉
❉ ❉ ❉
في عام 1971، ذهب ملك أفغانستان محمّد ظاهر شاه للصيد في منطقة غابات شمال شرق البلاد. وأثناء الصيد، عثر بشكل غير متوقّع على أنقاض مستوطنة قديمة. وبعد ثلاث سنوات، بدأت مجموعة من علماء الآثار الفرنسيين بالحفر في الموقع. وما وجدوه كان أحد أهم وأكبر الاكتشافات في التاريخ القديم: بقايا قصر ضخم بالإضافة إلى صالة ألعاب رياضية ومسرح كبير وترسانة ومعبدين. كما عُثر على العديد من النقوش والعملات المعدنية والتحف والأواني الخزفية.
وقد سُمّي المكان "إي خانوم"، الذي يعني سيّدة القمر باللغة الأوزبكية. وهو يتمتّع بجميع سمات المدينة اليونانية الكلاسيكية. في البداية، كان يُعتقد أن الموقع هو بقايا مدينة الإسكندرية، إحدى المدن العشرين التي بناها الإسكندر الأكبر في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد. لكن أظهرت الحفريات اللاحقة أن المدينة بُنيت في الواقع عام 260 قبل الميلاد على يد أحد ملوك الإمبراطورية السلوقية. وقد أدّى نشوب الحرب السوفياتية الأفغانية في أواخر السبعينيات إلى توقّف عمليات الحفر. وخلال الصراعات التي أعقبت ذلك في أفغانستان تعرّض الموقع للنهب والتخريب عددا من المرّات.
❉ ❉ ❉
من أقوال أحد زعماء الهنود الحمر:
عندما نريد قتل نبات أو شجرة أو حيوان، يجب أوّلا أن تكون هناك حاجة ماسّة لذلك. ثم يجب أن نستأذن من المخلوق ونشكره. ويجب أن تقام الصلوات والرقصات وغيرها من الطقوس لمزيد من الشكر للكائنات التي قُتلت ولمساعدة الأحياء منها على النموّ والتكاثر. وعندما نحفر الجذور أو نبني المنازل، فإننا نصنع ثقوبا صغيرة. ونهزّ أشجار الجوز والصنوبر ولا نقطعها. ولا نستخدم سوى الخشب الميّت.
نؤمن أنه عندما يموت إنسان، هناك جسر يتعيّن عليه عبوره ليدخل الجنّة. وعلى رأس الجسر ينتظر كلّ حيوان أو طائر قابله الإنسان في حياته. والحيوانات، بناءً على معرفتها بهذا الشخص، تقرّر أيّ البشر يُسمح لهم بعبور الجسر وأيّهم يُمنع.
لكن المستعمرين يقتلون الحيوانات والطيور بلا رحمة ويدمّرون الأرض ويقتلعون الأشجار دون اهتمام. تقول لهم الشجرة: لا تفعلوا، أنا أتألّم، لا تؤذوني!". لكنهم يقطعونها. روح الأوربّي تكره الطبيعة. إنهم يفجّرون الأشجار أو يقطعونها، وهذا يؤلمها. الهنود لا يؤذون شيئا، لكن البيض يدمّرون كلّ شيء. كيف لروح الأرض أن تحبّ الأوربّي؟! أينما حلّ هؤلاء، هناك ألم".
❉ ❉ ❉
تمكّن محارب ساموراي من الهرب على ظهر حصانه أثناء معركة مع رجال عشيرة أخرى. وأثناء فراره مع جنده، عبروا نهرا فسقط قوس الساموراي في الماء بفعل ركض الحصان القويّ. واستدار ليرى قوسه وهو يطفو، فأوقف حصانه. لكن جنوده صاحوا به أن يتركه، لأن لا وقت لديه للمخاطرة بحياته من أجل قوس. لكن الساموراي لم يكترث بنصحهم وترجّل عن حصانه وخاض في الماء باحثا عن قوسه.
وفيما بعد قال لجنده: القوس ليس مجرّد خشب وخيوط، بل ثمرة لمئات الساعات من الجهد والعرق الذي بُذل لصنعه. وتركه خلفك سيكون بمثابة عمل لا يليق بمحارب وسيصبح ما فعلته عارا لا يُغتفر عليك وعلى عشيرتك.
انتهت القصّة هنا. والسؤال: كم من الأشياء التي نتركها وراءنا دون تفكير لأننا لا نعرف قيمتها؟!
في إحدى القرى البعيدة، عاش الأهالي حياة بسيطة ومتواضعة. كان كلّ منهم متحفّظا ومنشغلا بتأمين رزقه. لكن ذات يوم هطلت أمطار غزيرة ومفاجئة. فلجأ القرويون على عجل إلى حانة قريبة. وداخل الحانة، كان هناك أيضا رجل غريب. وعلى الرغم من أنه لم يكن مبلّلاً، إلا أنه كان ينظر إلى أسفل وكأنه يخفي شيئا.
امتلأ الجزء الداخلي من الحانة بالضحكات المصحوبة بصوت المطر. ونسي أهل القرية سلوكهم المتحفّظ والصامت المعتاد، وأخذوا يتبادلون الأحاديث والمزاح ونمت بينهم علاقة حميمية غامضة. ووجد الرجل الغريب نفسه منجذباً إلى الدائرة. وعندما عُرض عليه مشروب، شعر ببعض الراحة والاسترخاء. ثم تمتم قائلاً: هذه القرية تتغيّر عندما تمطر، أليس كذلك؟"
في النهاية، عندما توقّف المطر، ودّع أهل القرية بعضهم البعض، حاملين مشاعر دافئة في قلوبهم. وقال الرجل الغريب وهو يغادر: دعونا نلوذ بملجأ يحمينا كلّما أمطرت السماء".
كانت تلك الكلمات تحمل معنى أكبر من مجرّد تحيّة. كانت تذكيرا لأهل القرية بالروابط التي تشكّلت بينهم أثناء تواجدهم في ملجأ المطر وبأهميّة دعمهم لبعضهم البعض مستقبلا.
لكن بعد أن غادر الرجل، ارتفع ثانية جدار رقيق بين أهل القرية. نسي الجميع الحميمية اللحظية وعادوا إلى حياتهم اليومية الصامتة. فكّر الرجل بألم أن ملجأ المطر في القرية يشير إلى رابطة عابرة، وليس ارتباطا عميقا. وربّما كانت هذه هي الطبيعة الحقيقية لأهل القرية. الناس يجتمعون بسبب المطر، ولكن في لحظة سطوع الشمس يبدأون في المشي كلّ في مساره المنفصل.
❉ ❉ ❉
كان المعلّم يحبّ رسم الأسماك ولا يتحمّل أن يراها تُقتل وتُؤكل. لذلك كثيرا ما كان يدفع مالاً للصيّادين مقابل تحرير الأسماك التي اصطادوها. وذات يوم، نام المعلّم أثناء الرسم ورأى في الحلم انه تحوّل الى سمكة وبدأ يلعب مع الأسماك الأخرى في النهر.
وعندما استيقظ، رسم لوحة للسمكة التي حلم بها. وفيما بعد مرض المعلّم، وبينما كان فاقدا للوعي، منحه إله البحر رغبته في أن يحوّله الى سمكة، مكافأة له على إنقاذه العديد من الأسماك خلال حياته. ولكن عندما أصبح المعلّم سمكة، أمسك به أحد أصدقائه وأكله. وهنا عاد المعلّم إلى جسده البشري ليواجه الصديق الذي أكله ولينتقم منه!
❉ ❉ ❉
عُرف سقراط بشجاعته وحكمته في كلّ ما قاله. وكان أيضا عظيما في صمته. كان الوحيد الذي أقرّ لنفسه أنه لا يعرف شيئا.
يقول نيتشه: أنا معجب بشجاعة سقراط وحكمته، هذا الوحش الساخر عازف المزمار الأثيني، الذي جعل أكثر الشباب غطرسة يرتجفون ويبكون. لم يكن فقط أعقل ثرثار على مرّ العصور، بل كان عظيما بنفس القدر في الصمت.
تمنّيت فقط لو أنه ظلّ صامتا أيضا في لحظات حياته الأخيرة، لربّما حاز مرتبة أعلى روحيّا. لقد ذهب إلى موته بالهدوء الذي كان يغادر به المنتدى عند الفجر، وأصبح المثل الأعلى الجديد لشباب أثينا من النبلاء".
❉ ❉ ❉
❉ ❉ ❉
لم يكن الرسّام الروسي كازيمير ماليفيتش ملتزما بالمعايير الفنّية السائدة في زمانه، بل ابتكر تقنيات ثورية ألهمت أجيالا متعاقبة من الفنّانين في جميع أنحاء العالم. وما تزال أعماله تحظى بتقدير كبير حتى بعد مرور سنوات عديدة على رحيله.
ومن لوحات ماليفيتش المعروفة "رجل إنغليزي في موسكو" التي رسمها عام 1914. ورغم أنها ليست لوحة تجريدية بحتة كأعمال ماليفيتش اللاحقة ذات الملمح "التفوّقي"، إلا أنها تتميّز بتركيز واضح على التجريد والأشكال الهندسية وتمتليء بالنصوص والرموز. فهناك، مثلا، سمكة وسيف معقوف وشمعة وسلّم وسهم أحمر وملعقة حمراء. كما تتضمّن اللوحة أجزاءً من كلمات روسية مثل "جزئي" و"كسوف الشمس".
وبعض النقّاد يرون أنه قد لا يكون هذا المزيج من الأشياء والكلمات مترابطا، وقد تعني جميعها شيئا ما أو يفترض أنها توحي بشيء. المعروف أن ماليفيتش تأثّر بالأدباء الروس الطليعيين، وقد ضمّن نصوصا روسية ومقاطع نصّية واستعارات في لوحتين له على الأقلّ غير هذه.
لكن من هو "الرجل الإنغليزي" الذي يظهر في اللوحة مرتديا قبّعة عالية ومعطفا، ونصف وجهه مغطّى بسمكة بيضاء؟! أحد النقّاد يشير الى أن ماليفيتش يروي قصّة رحلة إنغليزي ذهب في زيارة الى موسكو. وفي هذه الحالة، فإن التفاصيل في الصورة تشير إلى ما قد يكون لاحظه هذا الرجل هناك، أي عام 1914، وبالتحديد قبل ثلاث سنوات من الثورة الروسية.
ويضيف أن العنوان يشير إلى قصاصات بصرية للأشياء التي لاحظتها عين هذا الأجنبي أثناء زيارته. والكلمات المجزّأة والمختلطة تصبح منطقية عندما يلاحظها شخص لا يفهم اللغة.
والسيف المعقوف يبدو روسيّ الطراز، وهو شيء يمكن أن يلاحظه أجنبي ويعتبره غريبا.
لكن هناك أشياء أخرى في اللوحة لا يمكن تفسيرها بسهولة. مثلا لماذا يلفت انتباه رجل إنغليزي في موسكو مرأى سمكة بيضاء أو شمعة مضاءة مثلا؟! يبدو ان الصورة تشير الى عناصر لغز معقّد ومن الصعب تفسيره.
بالإضافة إلى استلهام ماليفيتش الكولاج التكعيبي، ربّما استوحى أيضا شيئا من أسلوب جورجيو دي تشيريكو الذي كان معاصرا له. لكن هناك من يقول إن الإنغليزي ليس إنغليزيا بالضرورة، بل يمكن أن يكون مجرّد استعارة تجمع الشرق بالغرب والمدينة بالريف.
وأيّا ما كان معنى اللوحة، وسواءً كانت الأشياء غير ذات صلة على الإطلاق أو تحمل نوعا من المعنى الرمزي، يبدو أن "الإنغليزي" في العنوان هو بريطانيّ بلا اسم ويرتدي ملابس أنيقة، وقد جاء إلى موسكو ليراقبها بعيون أجنبي.
ومع أن المعنى الكامن وراء اللوحة غير مؤكّد ومثير للجدل، إلا أن البعض يعتقد أنها ربّما كانت تعكس شغف ماليفيتش بثقافات أوروبّا الغربية.
❉ ❉ ❉
سنموت وهذا ما يجعلنا محظوظين. فمعظم الناس لن يموتوا أبدا لأنهم لن يولدوا أبدا. الأشخاص الذين كان من الممكن أن يكونوا هنا في مكاني لكنهم في الواقع لن يروا نور النهار، يفوقون عدد رمال شبه الجزيرة العربية. ولا شكّ أن هؤلاء الأشباح الذين لم يولدوا يضمّون شعراء أعظم من كيتس وعلماء أعظم من نيوتن.
نعرف هذا لأن مجموع الأشخاص المحتملين الذي يسمح به حمضنا النووي يفوق بكثير مجموع الأشخاص الحقيقيين. وفي مواجهة هذه الاحتمالات المذهلة، أنا وأنت، في طبيعتنا العادية، نحن هنا. نحن القلّة المتميّزة الذين ربحنا يانصيب الميلاد رغم كلّ الصعاب، كيف نجرؤ على التذمّر من عودتنا الحتمية إلى تلك الحالة السابقة التي لم تنهض منها الغالبية العظمى أبدا؟ ريتشارد دوكينز
❉ ❉ ❉
لأنني كسول جدّا وأبعد ما أكون عن الطموح
تركتُ العالم يدبّر أموره.
في حقيبتي أرزّ يكفيني عشرة أيّام
وحزمة أغصان بجانب المدفأة.
لماذا أتحدّث عن الوهم والتنوير؟!
أجلسُ مسترخيا
منصتاً إلى مطر الليل على سطح منزلي
وساقاي ممدودتان. ريوكان
من الغريب أن التنّين هو الحيوان الوحيد، من بين اثني عشر كائنا في الأبراج الصينية، الذي لا وجود له. ولطالما حيّرت هذه الحقيقة العلماء الصينيين الذين تساءلوا دائما عن مصدر استلهام التنّين في الأدب والحياة.
في عهد أسرة هان الصينية، ارتبطت العديد من الآلهة وأنصاف الآلهة بالتنانين. وأحد أشهرها يقال له "التنّين المستجيب" الذي يقال أنه ساعد الإمبراطور الأصفر على هزم ملك آخر! كما يأتي ذكر العديد من الأبطال الأسطوريين الذين حُمل بهم بعد أن تزاوجت أمّهاتهم مع التنانين الإلهية.
كان يُعتقد أن التنّين له سلطة على المطر. والصلوات التي تستدعي التنانين لجلب المطر شائعة في النصوص الصينية. وأحد الكتب القديمة يصف صُنع تماثيل طينية للتنانين خلال فترة الجفاف وجَعْل الشباب والفتيان يسيرون ويرقصون بين التماثيل من أجل تشجيع التنانين على جلب المطر.
إحدى النظريات تقول إن التنّين تطوّر من الثعابين. ففي عام ١٩٤٦، تكهّن شاعر صيني بأن التنّين بدأ كنوع من الثعابين التي استخدمتها قبيلة قديمة كـ "طوطم". وبعد انتصار تلك القبيلة على قبائل أخرى في المعارك، كانت تدمج الطواطم الحيوانية للقبيلة المهزومة في طواطمها الخاصّة، ليتكوّن بعد ذلك مخلوق بأربع أرجل له رأس حصان وقرون غزال ومخالب كلب وحراشيف سمكة .
وقد دعمت السجلات الأثرية هذه النظرية، لا سيّما في موقع يقع بإحدى مقاطعات شمال الصين ويعود تاريخه إلى حوالي 4000 عام ويضمّ جدرانا ومرصدا فلكيّا ومقبرة. وقد اكتشف علماء الآثار في العديد من القبور الكبيرة ألواحا فخّارية على بعضها رسوم لمخلوقات ذات جباه بارزة وأنوف طويلة وألسنة وأنماط مخطّطة تشبه التنّين.
وفكرة أن التنّين مستوحى من الثعابين مقبولة على نطاق واسع بين عامّة الناس، بسبب جسمه الملتوي ولسانه الذي يشبه لسان الثعبان وافتقاره لأقدام. ومع ذلك، يفضّل عدد من المؤرّخين وعلماء الآثار البارزين مصدرا بديلا للثعابين، هو التماسيح. ففي عام ١٩٥٧، خصّص عالم حفريات صيني رائد فصلاً من أحد كتبه عن تطوّر التنّين..
وتعزّز نتائج في مجال علم آثار الحيوانات هذه النظرية، إذ تُظهِر أن سكّان الصين القديمة تفاعلوا مع التماسيح في مناطق جغرافية واسعة منذ أكثر من 8000 عام. وفي السنوات الأخيرة، عُثر على بقايا تماسيح في أكثر من 20 موقعا في الصين. وغالبا ما تكون عظام تماسيح نهر اليانغتسي المكتشفة في المواقع الأثرية مكسورة، ما يشير إلى أن الناس كانوا يأكلون لحومها. وفي بعض المناطق، استُخدمت جلودها لصنع الطبول.
بالإضافة إلى فرضيتي الثعبان والتمساح، هناك نظرية أخرى حول أصول التنّين، وهي هجين بين الاثنين. وتذهب هذه الفرضية الى أن صورة التنّين قد تشكّلت من خلال دمج سمات زواحف مختلفة كالتماسيح والسحالي والثعابين. كما تشير الى أن التنانين المبكّرة اكتسبت أجسامها وأنماطها من الثعبان، بينما اكتسبت رؤوسها وقرونها وحراشيفها ومخالبها من التمساح.
وهناك من يرى أن مفهوم التنانين ربّما نشأ من اكتشاف أحافير الديناصورات أو عظام الحيوانات الكبيرة التي عجز القدماء عن تفسيرها.
عالم الأنثروبولوجيا ديفيد جونز افترض أن البشر ورثوا، كالقرود، ردود أفعال غريزية تجاه الثعابين والقطط الكبيرة والطيور الجارحة. واستشهد بدراسة وجدت أن ما يقرب من 39 شخصا من بين كلّ مائة يخافون من الثعابين، وأن التنانين تظهر في جميع الثقافات تقريبا بسبب خوف الإنسان الفطري من الثعابين والحيوانات الأخرى التي كانت تفترس أسلاف البشر.
وسواءً كانت الإجابة ثعابين أم تماسيح أم ديناصورات، فكلّ هذه ليست ما نعتبره اليوم تنّينا. وعلى الأرجح، استُلهم هذا المخلوق من مجموعة متنوّعة من الزواحف، لكن صورته تغيّرت مع مرور الوقت، إذ منحه الفنّانون سمات جديدة وقدرات غامضة وخارقة للطبيعة. وبذا أصبح التنّين طوطماً هجينا ودليلا على قدرة البشر على خلق معنى لأبسط الأشياء.
في القرن الخامس قبل الميلاد، ذكر المؤرّخ اليوناني هيرودوت في كتاب "التواريخ" أن غرب ليبيا كانت تسكنه ثعابين وحشية وأن الجزيرة العربية كانت موطنا للعديد من الثعابين الصغيرة المجنّحة التي تجتذبها الأشجار التي تنتج اللبان. كما أشار الى أن أجنحة الثعبان تشبه أجنحة الخفّاش، وأنه على عكس الأفاعي التي توجد في كلّ أرض، فإن الثعابين المجنّحة لا توجد إلا في الجزيرة العربية.
يقال إن التنانين كانت تسكن الكهوف المظلمة والبرك العميقة والبراري الجبلية وقيعان البحار والغابات المسكونة، وكلّها أماكن كانت محفوفة بالمخاطر بالنسبة لأسلاف البشر الأوائل.
وفي أدب بلاد ما بين النهرين، هناك إشارات إلى التنانين ذات الشخصيات الخيّرة والشريرة. وفي الشعر السومري كثيرا ما يُقارن الملوك العظماء بالوحوش الافعوانية العلاقة.
وفي الأدب الصوفي كتب جلال الدين الرومي في إحدى مثنوياته أن التنّين يرمز إلى الروح الحسّية والجشع والشهوة التي تحتاج إلى الإذلال في المعركة الروحية.
في الأدب الحديث تنتشر التنانين بوفرة، كما في رواية "الهوبيت" لتوكين ورواية "صراع العروش: أغنية الجليد والنار" لجورج مارتن. وقد أثّرت هذه الأعمال على المفاهيم الحديثة عن التنانين. وبشكل عام، لا يرتبط أصل التنانين بحدث أو ثقافة واحدة، بل هو مزيج غني منسوج من خيوط تاريخية وطبيعية وثقافية متنوّعة.
في كتابه "ليفيثان"، بدأ توماس هوبز بتخيّل عالم بلا حكومات وصاغ مصطلح "حالة الطبيعة" لوصف حالة من الفوضى تغيب فيها السلطة السيادية. وقد افترض أنه في حالة الطبيعة، يكون الجميع متساوين في قدرتهم على قتل بعضهم البعض وأن حياتنا هذه "منعزلة وفقيرة وشرّيرة ووحشية وقصيرة". إنها "حرب كلّ إنسان ضدّ الآخرين"، كما قال.
وعلى الرغم من مساهماته المهمّة في الفلسفة السياسية، فإن عدم ثقة هوبز في الطبيعة البشرية وآرائه المؤيّدة للمِلكية محلّ نزاع واسع. كما أن فكرته القائلة بأن البشر أشرار بطبيعتهم تتجاهل تعقيد الطبيعة البشرية. فحتى الأطفال حديثي الولادة لوحظ أنهم يتمتّعون بحس التعاطف والمعاملة بالمثل. كما يتجاهل هوبز إمكانية تطوّر الأخلاق البشرية على أساس البيئة التي ينشأ فيها الناس.
لكن فلسفة جون لوك تتبنّى وجهة نظر متفائلة بشأن الطبيعة البشرية. فهو مثلا يعتقد أن البشر يتمتّعون بالأخلاق والحقوق في حالات الطبيعة، ولكن الصراعات تنشأ عندما تنتهك تصرّفات شخص ما حقوق شخص آخر. وبالتالي، يحتاج الناس إلى الحكومات لحماية حقوقهم، وليس لحماية أنفسهم من بعضهم البعض. وغالبا ما تتمّ دراسة هوبز ولوك بالمقارنة، لأنهما وضعا الأساس لفهمنا الحديث للعقد الاجتماعي والمجتمع المدني.
ونظرية العقد الاجتماعي التي طرحها هوبز، وخاصّة فكرة حالة الطبيعة، تشكّل حجر الزاوية في الفلسفة الغربية. فهي تمثّل تحوّلاً فلسفياً من الحقّ الإلهي للملوك إلى الإجماع الاجتماعي كقوّة شرعية وراء سلطة الدولة.
وعلى الرغم من الانتقادات الموجّهة إلى تشاؤم هوبز، فإن الفلاسفة السياسيين ما زالوا يعتمدون على رؤاه العميقة في تفسير الاتجاهات السائدة في مجال الحكم وشؤون الدول. وتساعد فلسفته العلماء على طرح أسئلة مهمّة حول السلطة وحدودها والمخاطر المحتملة المترتّبة على الديمقراطية.
❉ ❉ ❉
من حِكَم "الجبلي الحالم"، أحد زعماء الهنود الحمر:
لا يهمّني ما تفعله. أريد أن أعرف ما الذي تتوق إليه، وهل تحلم بتحقيق ما يصبو إليه قلبك؟
لا يهمّني عمرك. أريد أن أعرف إن كنت ستخاطر بالظهور بمظهر الأحمق من أجل الحب، من أجل أحلامك، من أجل مغامرة الحياة.
لا يهمّني في أيّ كوكب يتربّع قمرك. أريد أن أعرف إن كنت قد لمست جوهر حزنك، إن كانت خيانات الحياة قد فتحت عينيك، أو إن كنت قد ذبلت وانغلقت خوفا من المزيد من الألم!
أريد أن أعرف هل تستطيع الجلوس مع الألم، سواءً كان ألمي أو ألمك، دون أن تتحرّك لإخفائه أو التخلّص منه أو إصلاحه؟
أريد أن أعرف هل تستطيع أن تكون سعيدا، سواءً كان فرحي أو فرحك، هل تستطيع أن ترقص بجنون وتترك النشوة تملؤك حتى أطراف أصابعك وأصابع قدميك دون أن تحذّرنا من أن نكون حذرين أو أن نكون واقعيين أو أن نتذكّر حدود كوننا بشرا؟
لا يهمّني إن كانت القصّة التي ترويها لي حقيقية. أريد أن أعرف إن كنتَ قادرا على خداع الآخرين لتكون صادقا مع نفسك، وإن كنتَ قادرا على تحمّل تهمة الخيانة وعدم خيانة نفسك.
أريد أن أعرف إن كنتَ وفيّا، وبالتالي جديرا بالثقة. أريد أن أعرف إن كنتَ ترى الجمال حتى وإن لم يكن جميلا وإن كنتَ تستمدّ حياتك من حضور الله.
أريد أن أعرف هل تستطيع أن تتعايش مع الفشل، فشلك وفشلي، وتظلّ واقفا على حافّة البحيرة وتصرخ في وجه ضوء القمر الفضّي: نعم?!
لا يهمّني مكان سكنك أو مقدار ما تملكه من مال. أريد أن أعرف إن كنت تستطيع النهوض بعد ليلة من الحزن واليأس، منهكا متعبا حتى النخاع، والقيام بما يجب فعله من أجل الأطفال .
لا يهمّني من أنت، ولا كيف أتيت إلى هنا. أريد أن أعرف إن كنت ستقف في وسط النار معي ولا تتراجع.
لا يهمّني أين أو ماذا أو مع من درستَ. أريد أن أعرف ما الذي يساندك من الداخل حين ينهار كلّ شيء آخر؟
أريد أن أعرف هل تستطيع أن تكون وحدك مع نفسك، وهل تحب حقّا الصحبة التي تحافظ عليها في لحظات الفراغ؟
❉ ❉ ❉
❉ ❉ ❉
استغرق الأمر وقتا طويلا لأتعلّم ما أعرفه الآن عن الحبّ والقدَر والخيارات التي نتّخذها. لكنّي فهمت جوهر الأمر في لحظة، بينما كنتُ مقيّدا إلى جدار أتعرّض للتعذيب. أدركتُ بطريقة ما، من خلال صراخ عقلي، أنه حتى وأنا بذلك العجز المطبق، كنتُ ما أزال حرّا؛ حرّا في أن أكره الأشخاص الذين كانوا يعذّبونني أو أن أسامحهم. أعلم أن الأمر لا يبدو ذا أهميّة. لكن في اهتزاز السلسلة وإطباقها، تكون تلك الحرّية، على ضآلتها، عالما من الاحتمالات. والاختيار الذي تصنعه ما بين الكراهية والمسامحة يمكن أن يصبح قصّة حياتك نفسها.
إن الغفران هو ما يجعلنا بشرا. لولا الغفران، لكان جنسنا البشريّ قد اندثر في عذابات لا نهاية لها. ولولاه لما كان هناك تاريخ. ولولا ذلك الأمل ما كان فنّ، فكلّ عمل فنّي هو بطريقة ما فِعل مغفرة. ولولا ذلك الحلم ما كان هناك حبّ، فكلّ فِعل حبّ هو بطريقة ما وعد بالمغفرة. نحيا لأننا نستطيع أن نحبّ ونحبّ لأننا نستطيع أن نغفر. غريغوري روبرتس
يقول الناس أحيانا إن شفاء القلب المجروح أصعب من شفاء الجسد المجروح. وأقول إن العكس هو الصحيح، فالجسد المجروح يستغرق وقتا أطول بكثير للشفاء. القلب المجروح ليس سوى رماد الذكريات. لكن الجسد هو كلّ شيء. الجسد دمٌ وأوردة وخلايا وأعصاب. الجسد المجروح هو عندما تتّكئ على جانبك من السرير بعد مفارقة شخص عشت معه سنوات، كما لو أن شخصا ما لا يزال بجانبك. هذا هو الجسد المجروح: جسد يشعر بالارتباط بشخص لم يعد موجودا. تشياولو غو
كان الظلام دامسا. لم أسمع سوى صوت آلة الكمان، وكأن روحه هي القوس. كان يعزف حياته. حياته كلّها كانت تنزلق على الأوتار: آماله الأخيرة، ماضيه المحترق، مستقبله المنطفيء. عزَف كما لو أنه لن يعزف ثانيةً. وعندما استيقظت في وضح النهار، رأيته أمامي منثنياً وميّتاً. وبالقرب منه يرقد كمانه محطّما، جثّة صغيرة غريبة ومهيبة. إيلي ويزِل
أعظم أمنياتي للبشرية ليست السلام أو الراحة أو الفرح، بل أن نتألّم جميعا من أعماقنا كلّما شهدنا موت شخص بريء آخر. فألم التعاطف وحده هو ما يبقينا بشرا. لا يوجد إله قادر على مساعدتنا إذا فقدنا ذلك يوما ما. نيل شسترمان
❉ ❉ ❉
التقطتُ أنفاسي عندما استقرّيت أخيرا على مقعدي على متن الطائرة. ولم أستطع تحمّل المرطبات التي قدّمها لي المضيفون. لكن ما لفت انتباهي كان اللوحة الآسرة التي تغلّف زجاجة الماء التي أُعطيت لي.
بجفون ثقيلة راقبتُ منظر الجبال الطبيعي المرسوم على الزجاجة قبل أن أغمض عينيّ. وبقيت الصورة التي رأيتها عالقة في ذهني. تخيّلت أنني بداخل ذلك المنظر وشعرت أنه مألوف جدّا، وظننت أنني رأيته من قبل في مكان ما. واصلتُ تذكّر لوحات مناظر طبيعية مماثلة في مخيّلتي.
وبينما كنت أتجوّل ببطء في صفحات ذاكرتي، عدت إلى غرفة الرسم في المدرسة وإلى حلقات معلّم الرسم القديم وهو يُرينا لوحات مشابهة. ثم تذكّرت أخيرا أين رأيت اللوحة. كانت من أعمال الرسّام الروسي نيكولاس رويريك.
شعرت بالفخر لتعرّفي على اللوحة، ليس لأنها تبدو فنيّة، بل لأنني أحسست وكأنني أُكرّم إرث هذا الفنّان من الأعمال العظيمة التي خلّفها. من المؤكّد أننا نستطيع تمييز أعمال رسّامين عظام مثل مونيه وفان غوخ، لكن رؤية أعمال فنّان غير مألوف هي ما يجعلها مثيرة.
اشتهر رويريك برحلاته في الهند وبتأمّلاته في الفنّ والروحانية. كان يسعى لاكتشاف شانغريلا الخاصّة به. ومن أعماله المشهورة "الطريق إلى شامبالا"، وهو مكان أسطوري يمثّل مفهوما، وكذلك لوحته " كايلاش"، وهو اسم لجبل مقدّس لا يستطيع البشر تسلّقه.
في النهاية، قيل إن رويريك وجد مدخل شامبالا وعاش ليروي قصّتها في لوحاته. وقد توفّي في ناغار بولاية براديش. كان مكانا عزيزا على قلبه، وموقعه مناسب تماما. وفيما بعد حُوّلت ممتلكاته إلى متحف.
استيقظت على ضوء برتقاليّ ساطع من خارج نافذة الطائرة. في الرابعة صباحا عندما صعدت إلى الطائرة كان الصباح شتويا مظلما. والآن يمكنني رؤية شروق الشمس فوق الجبال الخافتة المغطّاة بالثلوج والتي تحوّلت ببطء إلى اللون البرتقالي الوردي، ما خلق وهما مثل ذلك الموجود في لوحات نيكولاس رويريك.
هل كنت أعاني من قلّة التركيز؟ غير قادر على التمييز بين الأحلام والواقع؟ ونظرا لكوني مصابا باضطراب النوم، كان من الصعب معرفة ذلك ولكنني أحببت التأثير الذي أحدثه المنظر عليّ والذي بدا وكأنه حلم يقظة.
لا شك أن البشر يميلون إلى تحويل كلّ شيء إلى فن: اللوحات والأزياء والمعمار الخ. سيكون من المحزن أن يمرّ كلّ يوم دون أن نعيشه. قد يبدأ هذا من قلّة التقدير. لكن من خلال الاستعانة بأعماق الطبيعة، فإن التعبيرات الفنّية هي هدايا وتجلّيات. ولكي نجعلها ملكا لنا، نحتاج لأن ننخرط في الفن بعناية ومسئولية. وهذا يتطلّب القدرة على تقدير ما حولنا وأخذ وقت للتنفّس والتوقّف.
إن السعي وراء أشياء أعظم وبريق أكبر يتغلّب علينا دائما. ومع ذلك، فإن تقدير لوحة لـ رويريك على زجاجة ماء أثناء الطيران في السماء مع الغيوم والألوان كان تجربة ثريّة وقيّمة بالنسبة لي. ومن أجل الاستمتاع بالفن، كلّ ما نحتاجه هو عين ثاقبة وإحساس بالتعبيرات الإبداعية الموجودة في كلّ مكان، حتى على زجاجة ماء.
في 26 سبتمبر من عام 1575، وقع ميغيل دي ثيرڤانتِس، الذي سيصبح فيما بعد روائيّا مشهورا، أسيرا بيد جماعة من القراصنة. كان ابنا لرجل ميسور الحال من قشتالة بأسبانيا. وقد خدم بامتياز كبير تحت قيادة دون جون النمساوي في معركة ليبانتو قبل ذلك بأربع سنوات حيث فقد يده اليسرى، وهو الآن عائد مع شقيقه رودريغو إلى إسبانيا في إجازة.
لكنهما لم يصلا ومن معهما إلى ڤالنسيا، إذ قامت مجموعة من القراصنة البربر الذين كانوا يجوبون غرب البحر المتوسّط، بتمويل من العثمانيين، بالاستيلاء على سفينة الأخوين قبل ثلاثة أيّام من عيد ميلاد ميغيل التاسع والعشرين، ونُقلوا كعبيد إلى الجزائر.
في تلك الفترة، كان كلّ من الأوروبيّين المسيحيين من ناحية والمسلمين من ناحية أخرى يخوضون حروبا مقدّسة ضدّ بعضهم البعض. وكانت القرصنة أحد مظاهر ذلك الصراع. وقد وفّرت روايات اضطهاد مسلمي الأندلس من قِبل محاكم التفتيش الإسبانية سيّئة السمعة، بتحريض ممّا يُسمّون بملوك اسبانيا الكاثوليك، مبرّرا كافيا في نظر المسلمين لمحاربة الإسبان في البحر.
وكان المغاربة المنفيّون من إسبانيا نشطين كقراصنة في شمال إفريقيا. كانت الجزائر وتونس وطرابلس وقتها تحت سيادة الدولة العثمانية، إما كمحافظات تُدار مباشرة من قبل الترك أو كتابعات مستقلّة تُعرف باسم دول البربر. وكان وصول القراصنة العثمانيين الى المغرب في نهاية القرن الخامس عشر مبشّرا بالأيّام العظيمة لقراصنة البربر.
عند وقوع ميغيل دي ثيرڤانتِس ومن معه في قبضة القراصنة، كان أوّل ما قاموا به فحص كلّ أسير لمعرفة مكانته ومقدار الفدية التي يُتوقّع أن يجلبها. وقد تركت الرسائل التي عُثر عليها مع ثيرڤانتِس انطباعا لدى الخاطفين بأنه شخص مهم وقادر على تأمين مبلغ كبير من المال. لذلك اتخذوا كلّ الوسائل لضمان سلامته وقيّدوه بالسلاسل وعيّنوا له حرّاسا وراقبوه ليلا ونهارا. لكنه لم ييأس لحظة واحدة، بل بدأ على الفور في التخطيط لهروبه هو ورفاقه الأسرى.
وفي العام التالي أرسل والد ثيرڤانتِس العجوز ما استطاع جمعه من مال من ممتلكاته ومن حصيلة زواج بناته لفدية ابنيه المحتجزين. لكن عندما عُرض المبلغ على الخاطفين أعلنوا أنه غير كافٍ على الإطلاق لشراء حريّة ميغيل، لكنه كاف كفدية لأخيه الأصغر رودريغو. وبناءً على ذلك، أُطلق سراح رودريغو وأبحر إلى إسبانيا حاملاً أمرا سرّيا من شقيقه ميغيل لتجهيز بارجة مسلّحة وإرسالها عن طريق ڤالنسيا ومايوركا لإنقاذهم من الأسر.
ظلّ ثيرفانتس تحت حراسة مشدّدة، لكن عقله كان نشطاً دوماً ومشغولا بالتفكير في خطّة للهرب. وفي النهاية تمكّن من الدخول في علاقة مع مسئول من وهران تعهّد بنقل رسائل يطلب فيها المساعدة للأسرى الإسبان. ولكن سوء حظّه لم يفارقه بعد. فقد وقع الرسول في أيدي أشخاص آخرين.
كان الخاطفون قد أصبحوا أكثر جشعا وطالبوا والد ثيرفانتِس الذي وصل الى الجزائر بضعف الثمن الذي كان قد دفعه، وهدّدوا إن لم يدفع بنقل ابنه على متن سفينة خاصّة إلى القسطنطينية. وبالفعل وُضع ثيرفانتِس مقيّدا بالسلاسل في سفينة متّجهة إلى المياه التركية.
وشعر أبوه أنه بمجرّد وصوله إلى القسطنطينية، من المحتمل أن يظلّ ابنه سجينا حتى نهاية حياته. فبذل جهودا مضاعفة لتأمين إطلاق سراحه واقترض بعض المال من بعض التجّار الجزائريين، بل واستخدم ذلك المال لافتداء أسرى آخرين. ثم أخيرا أُطلق سراح ثيرڤانتِس وسُمح له بالعودة إلى موطنه بعد خمس سنوات في الأسر.
لم يكن ثيرفانتِس يفتقر إلى المغامرة، لأنه كان من النوع الذي تأتي إليه المغامرات طائعة، لذا عاد إلى مهنته القديمة وانضمّ إلى الجيش الذي كان الملك فيليب يحشده لفرض مطالبته بتاج البرتغال. وفي هذا البلد، كما في كلّ البلدان الأخرى التي قادته إليها حياته المتجوّلة، كوّن ثيرفانتِس العديد من الأصدقاء ولاحظ ما يجري حوله.
كان في جميع النواحي رجلاً عمليّا وقويّا، وأحيانا كان على النقيض تماما من "دون كيشوت" بطل روايته، الذي كان يرى كلّ شيء مضخّما وعلى غير صورته الحقيقية. لكنه من ناحية أخرى كان النظير الحقيقي لبطله في رغبته تقديم المساعدة والراحة عندما يحتاجهما أحد، وتَرْك العالم أفضل ممّا وجده.
وبعد سنوات، عندما نشر ثيرڤانتِس رواية "دون كيشوت"، حقق الكتاب نجاحا غير مسبوق في تاريخ الأدب، إذ انتشر بسرعة هائلة، وفي أقلّ من عقد من الزمان تُرجم إلى جميع اللغات الرئيسية في أوروبا، وحقّق نجاحا مُدويّا في جميع أنحاء القارّة. واليوم، تُعدّ هذه الرواية ثاني أكثر الكتب نشراً ودراسة بعد الانجيل وأنجح كتاب غير ديني أُلّف على الإطلاق.
بعض المؤرّخين يصفون تجربة أسر ثيرڤانتِس في الجزائر بأنها الحدث الأكثر سموّا في مسيرته الروحية والذي ينتظم بقوّة حياته بأكملها. في تلك الفترة العصيبة، يبدو أنه وجد الإلهام والدافع لتغيير مساره من حياة الجندية الى عالم الأدب.
الشاعر والروائي الإسباني خوان غويتيسولو يصف ما حدث بقوله: كان السجن بمثابة إعصار في النواة المركزية لموهبة ثيرڤانتِس الأدبية العظيمة. فالسنوات الخمس التي قضاها في الجزائر غيّرت حياته جذريّا، وقد صاغ ثيرفانتِس رؤيته المعقّدة والمثيرة للإعجاب عن إسبانيا خلال سجنه في الأرض الجزائرية، في معارضة للنموذج المنافس الذي اصطدم به هناك".
وترى الاكاديمية الاسبانية ماريّا غارثيز أن ثيرڤانتِس أدرج في "دون كيشوت" مجموعات مهمّشة وغامضة ثقافيّا، كالموريسكيين، أي المسلمين السابقين الذين اعتنقوا المسيحية أو أُجبروا عليها، والغجر وغيرهم. وتضيف: ما من شك في أن تجربته كأسير في الجزائر وعلاقاته الشخصية مع المسلمين والمنشقّين ولقاءاته مع ثقافات وأديان مختلفة هناك أتاحت له فرصة دراسة هذه القضايا من منظور فريد".
في الجزائر ما تزال ذكرى ثيرڤانتِس حيّة الى اليوم، فهناك شارع يحمل اسمه، وهناك مغارة قيل انه أقام فيها وعدد من رفاقه الأسرى بعد محاولتهم الهرب من السجن. ويقال انه في تلك المغارة التي تحمل اسمه بدأ التفكير في كتابة روايته.
ذات مرّة كتب نيل غيمَن يقول:
أؤمن بأن البشر قابلون للتطوّر وأن المعرفة لا حدود لها وأن العالم تديره عصابات مصرفية سرّية، وتزوره كائنات فضائية بانتظام منهم طيّبون ومنهم أشرار.
وأعتقد أن المستقبل سّيء ومشرق معا، وأن امرأة الجاموس البيضاء ستعود يوما لتسحق الجميع. وأعتقد أن جميع الرجال مجرّد فتيان ناضجين يعانون من مشاكل عميقة في التواصل.
وأعتقد أن جميع الساسة محتالون بلا مبادئ، وما زلت أعتقد أنهم أفضل من البديل. وأعتقد أن كاليفورنيا ستغرق في البحر عندما يحين وقت الكارثة الكبرى، بينما ستذوب فلوريدا في جنون وتماسيح ونفايات سامّة.
وأعتقد أن الصابون المضادّ للبكتيريا يدمّر مقاومتنا للأوساخ والأمراض، لذلك في يوم ما سنتعرّض جميعا للبرد الشائع مثل سكّان المرّيخ في فيلم حرب العوالم.
وأعتقد أن أعظم شعراء القرن الماضي كانوا إديث سِتويل ودون ماركيز، وأن اليشَم هو سائل منوي مجفّف من التنّين، وأنني قبل آلاف السنين في حياتي السابقة كنت شاماناً سيبيريّاً بذراع واحدة.
أؤمن بأن مصير البشرية يكمن في النجوم. وأؤمن بأن الحلوى كانت ألذّ طعما في صغري، وأن طيران النحلة الطنّانة مستحيل هوائيّا، وأن الضوء موجة وجسيم، وأن هناك قطّة في صندوق ما حيّة وميّتة في آن، وأن هناك نجوما في الكون أقدم من الكون نفسه بمليارات السنين.
أؤمن بإله شخصي يهتمّ بي ويرعاني ويشرف على كلّ ما أفعله. وأؤمن بكون فارغٍ بلا إله، فوضى سببية، وضجيج في الخلفية، وحظّ أعمى.
أؤمن بالصدق المطلق والأكاذيب الاجتماعية المعقولة. وأؤمن بحقّ المرأة في الاختيار وحقّ الطفل في الحياة، وأنه – رغم أن حياة الإنسان كلّها مقدّسة- لا حرج في عقوبة الإعدام إذا كان بالإمكان الوثوق بالقانون ثقةً تامّة، وأؤمن بأن لا أحد سوى الأحمق يثق بالنظام القانوني.
وأؤمن أن الحياة لعبة، وأن الحياة مزحة قاسية، وأن الحياة هي ما يحدث عندما تكون على قيد الحياة، وأنك يمكن أن تستلقي وتستمتع بها."
❉ ❉ ❉
تأثرت المُثُل الجمالية اليابانية بشكل كبير بالبوذية المحليّة. ففي التقاليد البوذية، يُعتبر كلّ شيء إما متطوّرا من العدم أو متحلّلا منه. وهذا "العدم" ليس فراغا، بل هو فضاء من الإمكانات.
فإذا كانت البحار تمثّل الإمكانات، فكلّ شيء أشبه بموجة تنبع منها وتعود إليها. فلا توجد أمواج دائمة، ولا توجد أمواج مثالية. ولا تكتمل الموجة في أيّ لحظة، حتى في ذروتها. والطبيعة تُعتبر كُلاًّ ديناميكيّا جديرا بالإعجاب والتقدير. وهذا التقدير للطبيعة ظلّ عنصرا جوهريا في العديد من المُثُل الجمالية اليابانية والفنون وغيرها من العناصر الثقافية.
وفي هذا الصدد، يختلف مفهوم "الفن" اختلافا كبيرا عنه في التقاليد الغربية. فبينما يُعتبر مفهوم الجماليات فلسفةً في المجتمعات الغربية، يُعتبر في اليابان جزءا لا يتجزّأ من الحياة اليومية.
فوشيكادن، (أو "الروح المُزهرة" في ترجمته الانغليزية) هو عنوان كتاب مشهور ألّفه فنّان ومسرحيّ ياباني يُدعى زيامي موتوكيو في القرن الرابع عشر. ولم يُنشر الكتاب في حينه، بل حُفظ بعيدا عن الأنظار حتى عام ١٩٠٩، لأن مؤلّفه رأى أن إبقاءه سرّا يجعله ذا قيمة.
ويتضمّن الكتاب نصّا مشهورا يقول "الزهور توجد في الخفاء". ويُستشهد بهذه العبارة كثيرا لجمالها الشعريّ الصوفي، لكنها في الواقع تحمل معنى عمليّا للغاية. إذ تشير إلى أن أعظم الأثر يتحقّق بإخفاء الأمور. قد لا تكون الأسرار نفسها عميقة عند كشفها، لكن ندرتها وعنصر المفاجأة فيها يمكن أن يتحوّلا إلى فنّ مؤثّر أو حتى استراتيجية للنجاح. وإخفاء الأسرار بحدّ ذاته تقنية بارعة لخلق "الزهرة" أو القيمة الأسمى في الفن.
فمثلا، في عالم الأعمال، نُفّذ مشروع صنع أوّل هاتف "آيفون" بسرّية تامّة، وحافظ المشاركون فيه على سرّية وجوده، ما أحدث مفاجأة كبيرة عند الإعلان عنه وساهم في رواجه الكبير في السوق.
وبالمثل، هناك فنّان انغليزي مشهور يُدعى بانكسي اكتسبت أعماله جاذبيةً إضافيةً لأن هويّته ظلّت مجهولة، ما أضفى عليه ستارا من السرّية والغموض وأكسب أعماله الجدارية التي يرسمها خلسةً في الليل شهرة عالمية.
ويذهب زيامي موتوكيو أبعد من ذلك بالقول إنه لا ينبغي لأحد أن يخبر الآخرين حتى بسرٍّ ما. كان الرجل أشبه ما يكون باستراتيجيّ وأمير حرب منه إلى مجرّد فنّان. ففي وقتٍ كانت العديد من الفرق والممثّلين يتنافسون على الشهرة، كان موتوكيو يتأمّل في كيفية التفوّق كمُؤدٍّ وإسعاد الجمهور ورفع مكانة فرقته.
❉ ❉ ❉
❉ ❉ ❉
في محاولة لمساعدة البيئة وخلق مفهوم جديد للجنازة، اقترحت جماعة بيئية أرجنتينية منذ فترة إزالة الشواهد من على القبور واستبدالها بالأشجار بغرض تحويل المقابر إلى غابات حضرية تغذّي المدن بالأكسجين.
"دعونا نكن أشجارا" هو اسم المشروع الذي يشجّع كلّ شخص على التحوّل إلى شجرة عندما يموت. وقال أصحاب الفكرة إن أفضل طريقة لتكريم الشخص المتوفّى هي منحه الحياة، مضيفين أن الموت والحياة متضادّان، لكنهما بحاجة إلى بعضهما البعض للبقاء وضمان أن كلّ موت يُولّد حياة جديدة.
المشروع يهدف الى كسر نموذج الجنازة التقليدي و"تحقيق تغيير جذري في كيفية تعاملنا مع وفاة أحد أفراد الأسرة، وفي الوقت نفسه العمل معا لتعزيز التشجير وإدراك أهمية إعطاء الحياة معنى حقيقيّا وتذكّر الراحلين وهم منغمسون في الطبيعة، وإعادة تعريف الموارد الطبيعية واستخدامها بطريقة أفضل".
وبالإضافة الى التغيير البصري والجمالي، تهدف مراسم الغرس إلى إظهار أهمية دورة الحياة الطبيعية، ومساعدة الناس على عيش حاضرهم دون التفكير في الغد، ليتمكّنوا من الاستمتاع بالحياة والاحتفال بها. كما أنها تساعد على تذكّر الانسان أحبّاءه الراحلين بطريقة أكثر بهجة وذلك بالتوحّد مع الطبيعة.
ويقول القائمون على الفكرة أنه عندما تُزرع شجرة تمثّل كلّ شخص متوفّى، فإن المقابر لن تُملأ بشواهد القبور بعد الآن، بل بالأشجار التي ستصبح رئة جديدة للعالم. وبما أن الشجرة تُمثّل ذلك الشخص الذي رحل، فإن زيارة أحد الأقارب ستصبح أكثر متعةً، إذ سيجد نفسه في مساحة خضراء يشارك في تطويرها، تجفّ أوراق أشجارها شتاءً وتنمو لها أوراق جديدة في الربيع وهكذا.
نادراً ما كانت لوحات المناظر الطبيعية التي رسمها إيغون شيلا (1890 - 1918) جميلة، ولكن كثيرا ما كانت مذهلة. وقد تحوّل الفنّان من رسم صور الطبيعة الرعوية ومناظر القرى الخلّابة إلى رسم مناظر خريفية لأشجار رفيعة وأزهار ذابلة ومدن خالية من البشر في أغلب الأحيان.
وهذه اللوحات ليست هي التي اشتهر بها شيلا، بل ولا حتى التي حظي بسببها بالاحترام والتقدير. غير أنها مع ذلك كانت مفعمة بروح الحياة.
الارتباط بين صور شيلا للناس وصوره للأماكن ليس مجرّد حساسية تعبيرية. بل إن النوعين رمزيان بعمق ويشتركان في لغة مشحونة بالرموز الشخصية ذات المعنى المكثّف. فالزهور الحيّة والميّتة، وخاصّة عبّاد الشمس، توجد في نفس المساحة، ما قد يشير إلى شيء أموميّ أو متجدّد في الحياة. أما أشجار الخريف فربّما تلمّح إلى الفناء والتهديد والعزلة، وهي الأشياء التي توحي بها صور العديد من الأشخاص الذين خلّدهم هذا الرسّام النمساوي.
والرسّام يضفي لمسة روحانية على الوسط المسيحي الذي نشأ فيه. إذ تظهر الأضرحة في الغابة كالفطر، وتتمتّع أبراج الكنائس بطاقة أوّلية ذكورية. وقد كتب عام 1910 يقول: لكلّ شجرة وجهها. ولديّ القدرة على التعرّف على نوع عينيها ونوع ذراعيها ومكوّناتها وعلى كائنها الحيّ".
كان الوسط الفكري لمدينة ڤيينا في نهاية القرن التاسع عشر، حيث نشأ وعاش شيلا، مزيجا نيتشويّاً بنكهة ڤاغنرية من الرغبة في التواصل والتسامي. وكان لدى شيلا مزيج جنوني من الثقة والازدراء وهوس بالحقيقة الداخلية والأقنعة الزائفة والخداع الاجتماعي.
وقد كتب مرّة يقول: الجميع يحسدونني، وكلّهم مخادعون. زملائي السابقون ينظرون إليّ بعيون منافقة. وفي ڤيينا لا يوجد سوى الظلّ، والمدينة سوداء، وكلّ شيء يحدث وفقا لوصفة".
ورغم أن شيلا يتحدّث بلغة أهل ڤيينا، إلا أنه فضّل أن يعيش ويعمل خارجها. وهذا قاده إلى مدن مثل شتاين وكروماو حيث وُلدت أمّه. وقد اكتسب إلهاما من هذه الأماكن وصوّر غرابتها، لكنها لم تسحره.
في صورة رسمها لنفسه عام 1911، نشعر بقوّة ثقته بنفسه، حيث أحاط شعره الداكن بهالة من الضوء الأبيض ورسم يديه بزاوية تجعلهما تبدوان كسلاحين، بينما ارتدى زيّ رجل أنيق وسترة طاووس. وعلى عكس صوره لأشخاص آخرين، يقف هو منتصباً.
لكن شيلا نادرا ما يمنح أشجاره نفس الثقة بالنفس. وإحدى أقوى صوره عنوانها "منظر لنهر مع شجرتين" من عام 1913، رسمها ضمن منظر طبيعي قاحل، باستثناء بضع زهور صغيرة ذات ألوان زاهية.
ذات مرّة كتب شيلا قائلا: ينمو البشر والحياة النباتية بوسائل وآليّات مختلفة. نحن حيوانات وأجسادنا تُطهى بشكل كامل في الرحم، متذبذبة في البدء والمنتهى. ولكن عقولنا أكثر شجريةً، فتَنبت كبراعم خضراء حسّاسة للصقيع والرياح. بعض الأغصان تبقى وكثير منها لا يدوم. وبعض المشاعر نحيلة وهشّة وبعضها الآخر مغطّى بقشرة من اللحاء القديم".
الشجرتان في تلك اللوحة تشتركان في مشهد النهر وتمتلكان كلّ ما تحتاجانه للنمو: أرض مفتوحة وشمس وماء على مسافة. وعلى النقيض ممّا تبدو عليه المباني في مناظر مدينة الرسّام، فإن الشجرتين ليستا مكتظّتين أو ملتحمتين ولا تقاومان تعدّي الأعشاب الضارّة أو حافّة الغابة. لكنهما تبدوان بائستين تماما، مثل الكثير من الأشخاص الذين يعيشون في عزلة.
أحيانا كان شيلا يركّز انتباهه على نباتات وأشجار مفردة. وكانت أزهار عبّاد الشمس من بين زخارفه المُفضّلة. وقد رسمها في جميع مراحل حياتها، من الإزهار الكامل إلى اللون البنّي ثم الذبول. ومن السهل تخيّل أن نيّته كانت إضفاء سمات بشرية على هذه الزهور. وربّما استلهم مثال ڤان غوخ الذي عُرضت أعماله في ڤيينا أثناء حياته "أي شيلا"، وبالتحديد ما بين عامي ١٩٠٦ و١٩٠٩.
مناظر شيلا الطبيعية تتخلّلها رسائل وجودية عن الظرف الإنساني. فآمال الربيع والصيف ووعودهما تتلاشى أمام الاضمحلال والموت قبل أن تتجدّد دورة الفصول من جديد. لذا، ترمز لوحات الطبيعة هذه إلى الحياة نفسها وتحمل دلالات عالمية. وقد شرح شيلا انطباعه الشخصي عن هذا التحوّل بين الفصول بقوله: كثيرا ما كنت أبكي وعيناي نصف مفتوحتين عند حلول الخريف".
كرسّام للبورتريه، كان شيلا يتمتّع بقدرة فائقة على اختراق شخصياته. وهو مكتشف بارع لدواخل النفوس وكاشف لأعمق الأسرار. وأعماله التي رسمها لأشخاص تستثير أفكارا كالموت والعوز واليأس والوحدة. وفيها نستشعر العجز والخوف والقلق من عدم اليقين والموت، وهو موضوع أزلي وقديم. وقد كتب عنه ناقد في زمانه يقول: يعيش شيلا في عالم مظلم بشخصياته المشوّهة بشكل مرعب".
فنّ شيلا يتضمّن بشكل عام استكشافا لافتا للنفس البشرية بطريقة مفعمة بالعاطفة الصادقة والرمزية العميقة. ولا تزال أعماله تثير الجدل والاستفزاز وتلقى صدى لدى الجمهور بعد قرن من وفاته. كما لا يزال فنّه يحظى بالاحتفاء والدراسة بسبب تأثيره العميق على عالم الفنّ الحديث.
ولعلّ أفضل وصف للتأثير العميق لفنّه هو ما لخّصته مؤرّخة فنّ تُدعى جين كالير بقولها: إن أهميّة أعمال شيلا لا تكمن في كونها صادمة، بل في كونها إنسانية بامتياز. إن فنّه عالمي في أهميّته وقدرته على التأثير في المتلقّي".
توفّي إيغون شيلا بسبب الأنفلونزا عام 1918 عن عمر لا يتجاوز الـ 28 عاماً.
وهناك صورة فوتوغرافية له تعود الى عام 1918 وتصوّره وهو على فراش الموت. كان فنّانا غير عادي، وكان بداخله على الأقل بضع ثورات لم تتحقّق. وهو لم يتقدّم في العمر قطّ، ومع ذلك كان عجوزا دائما، أو ربّما لم يعش طويلا بما يكفي ليصبح شابّا.
تنقل الكاتبة الصينية "سان ماو" عن بوذا قوله: يجب على شخصين أن يعيشا مائة حياة ليلتقيا في نفس القارب، وعليهما أن يعيشا ألف حياة لينتهي بهما الأمر إلى أن يصبحا زوجا وزوجة".
كتاب سان ماو "حكايات من الصحراء" يشبّهه بعض النقّاد بكتاب" ألف ليلة وليلة" بسبب تأثيره على آلاف القرّاء في أماكن كثيرة من العالم. وهو عبارة عن مجموعة من الانطباعات الشخصية لامرأة صينية تتناول فيها قصّة زواجها من رجل إسباني ومغامراتهما في الصحراء الكبرى أو ما كان يُعرف في السبعينات بالصحراء الإسبانية.
تقول الكاتبة في مستهلّ الكتاب أنها قرأت ذات يوم في أوائل سبعينات القرن الماضي مقالاً مصوّرا عن الصحراء الكبرى، وأدركت أنها يجب أن تذهب إلى هناك. وكتبت: لم أستطع أن أفهم الشعور بالحنين الذي أحسست به والذي لا يمكن تفسيره تجاه تلك الأرض الشاسعة وغير المألوفة. بدت لي كصدى من حياة سابقة".
وفي عام 1973، في سنّ الثلاثين، سافرت سان ماو بالفعل لتحطّ الرحال أخيرا في "العيون" عاصمة الصحراء التي طالما حلمت بها. وبعد وقت قصير، التقت شخصا اسبانيّاً يُدعى خوسيه. وعندما اكتشف خوسيه، الذي سيصبح زوجها المستقبلي، أن سان ماو أحضرت معها رزمة من المال هديّة من والدها، رمقها بنظرة طويلة ثم قال لها: لقد أردتِ أن تأتي إلى الصحراء لأنك رومانسية عنيدة، ولكنك سوف تملّين منها قريباً". ثم عرض عليها حلّاً وسطا: بمجرّد أن تري كل ما تريدين رؤيته وتنتهي من رحلتك هنا سنعود معا إلى إسبانيا".
كان خوسيه يعرف أن الصحراء هي حلم سان ماو وهوسها الكبير. لذا وافقت على وضع المال في البنك والعيش فقط على ما يمكن أن يجلبه خوسيه. ففي النهاية هي ليست هنا فقط لتنظر وتشاهد، بل أيضا لتعيش.
القصص التي ترويها سان ماو في كتابها تشكّل تضاريس نفسية لرحلة داخلية: الجدل مع الجيران، بيع الأسماك في الشوارع، الهروب من أيدي عصابة، المعاناة من حجر ملعون، مطاردة أجسام طائرة مجهولة. شهادة ثنائية لا تنفصل بين الحبّ والقسوة، بين المرأة والصحراء.
❉ ❉ ❉
بعض الناس ينكرون أن لنا -كبشر- جانبا وحشيّا أو فطريّا، ويفضّلون بدلاً من ذلك نعمة الوظيفة والراحة. إذن، ما الذي يدفع الانسان الى هذه الرغبة في التجوال ورفض الاستقرار في مكان واحد كما فعلت سان ماو؟
قدماء البدو الصينيين كانوا يترحّلون بحثا عن شيء ما، الانسجام والتسامي ربّما. ومع ذلك تصف سان ماو شغفها بالترحال، لا كمحاولة للعثور على شيء ما، بل "للعودة إلى الوطن".
يقول الفيلسوف الصيني تشوانغ تشو واصفا القلق: إنه طائر يمتدّ جناحاه إلى مسافات مستحيلة، ينظر إلى السماء الزرقاء اللانهائية، ويتساءل ما إذا كانت النهاية موجودة حقاًّ. الوحشية او الفطرية هي رفض للحدود ورفض للنهايات". في هذه الحياة لا يوجد شيء اسمه فرح خالص، ولكن لا يوجد أيضا الكثير من الحزن. والحياة التي لا تتغيّر تشبه خيوط المغزل، حيث تُنسج الأيّام والسنوات سطرا تلو آخر في نمط رتيب إلى الأبد.
❉ ❉ ❉
تجارب سان ماو ملهمة ومحزنة في الوقت نفسه. فقد تقبّلها المجتمع الصحراوي في العيون، أحيانا بحماس وأحيانا بعدم ثقة. لقد فتنتها الصحراء باتساعها وقسوتها وعنادها. وهي تصف لحظات العزلة والوحدة، وكذلك لحظات الحبّ والحنان مع زوجها وأصدقائها الإسبان المغتربين وجيرانهم الصحراويين. ونثرُها في الكتاب وصفيّ للغاية، وغالبا ما يكون حزينا، مع إشارات عن الأساطير والأشباح.
تكتب: أحبّ الوحدة بالقدر المناسب. إنها اللحظات الأكثر تحرّرا للروح، ودائما ما أجد صعوبة في الاستمتاع بها مع الآخرين. في الحقيقة من الصعب مشاركة مثل هذا الكنز الشخصي مع أحد. إن الاستمتاع بليالٍ صافية وهادئة يجب أن يكون أمرا شخصيّا، على عكس تناول الطعام الذي يكون أكثر إمتاعا عند مشاركته مع الآخرين."
وتضيف: عندما نستيقظ في الصباح نكون مثقلين بعبء كلّ ما ينتظرنا خلال النهار. إن معرفة أننا يجب أن نواجه يوما مجهولاً يجعلنا نشعر بالتوتّر والحذر. الغروب مختلف، فهو مقدّمة لليلة دافئة، لحظة تحرّرية ومريحة تعلّمنا الاستمتاع بأجمل ما في الحياة."
وسان ماو تجد الجمال في كلّ شيء تقريبا: في قطع الخشب الطافي وأشجار البونساي الثمينة وفي الصحراء المضاءة بنور القمر ليلا. وفي غياب الزهور، تأخذ غصن كزبرة من المطبخ وتثبّته على قبّعتها، وتنطلق وزوجها عبر الكثبان الرملية.
كان خوسيه مثلها عرضة للأهواء، وكانت أهواؤه أحيانا أكثر خطورة. ذات يوم أحضر لها هديّة. تقول: مزّقت المغلّف بحماس وفتحت العلبة. وفوجئت بجمجمة تحدّق فيّ. كانت جمجمة جمل، عظامها بيضاء متناسقة مع صفّ ضخم من الأسنان المرعبة وثقبين أسودين كبيرين مكان العينين. وغمرتني السعادة. وضعت الجمجمة على رفّ الكتب وأنا أتنهّد فرحا وإعجابا".
وفي أحد أجزاء الكتاب تتساءل: ما الذي يجذبني إلى هذا المكان؟! اتّساع الأرض والسماء أم حرارة الشمس أم هبوب العواصف؟ هناك فرح ما في هذه الحياة المنعزلة وحزن في آنٍ واحد، لدرجة أنني أحبّ هؤلاء الجهلة وأكرههم بنفس الوقت، وهذا أمر مربك للغاية".
وتضيف: لقد وجدت الصحراء ساحرة جدّا، لكنها لم تعِرني أيّ اهتمام، وهذا ما ينبغي أن يكون. كلّ يوم مع غروب الشمس كنت أجلس على سطح البيت حتى تظلم السماء تماما فأشعر بوحدة هائلة في أعماق قلبي".
القصص القصيرة التي ترويها سان ماو في الكتاب تضع الحياة المنزلية والدنيوية على خلفية الصحراء الكبرى القاسية والخارقة للطبيعة. وبصفتها راوية وبطلة، تعمل بجدّ في المطبخ وتهتمّ بغسيل الملابس والأعمال المنزلية وتتنافس للحصول على رخصة سياقة.
وتتعامل الكاتبة مع الحوادث والعقبات على نحو هادئ، وتنظر الى الوحدة السائدة في الصحراء باعتبارها قوّة يجب أخذها في الحسبان بدلاً من التنازل عنها. ومع ذلك، هناك ومضات غريبة وتوقّعات مذهلة في بعض فصول الكتاب؛ لحظات تشير إلى حزن أعظم.
ورغم حبّها للثقافة المحلية، إلا أنها تشتكي بعبارات صريحة من بعض العادات المحلية وتستنكر ما تعتبره جهلا وقمعا في المجتمع الصحراوي، من قبيل الزواج القسري للفتيات في سنّ البلوغ أو ما قبله.
❉ ❉ ❉
بالنسبة لجيل القرّاء الصينيين الذين خرجوا للتوّ من الثورة الثقافية ولديهم شغف جامح بالتجوال والهروب من الأعراف الاجتماعية الصارمة، كان لكتاب سان ماو أثر عميق.
وفي تايوان، صنعت المؤلّفة لنفسها اسماً ككاتبة تتمتّع بصراحة ملحوظة وبفهم بارع للسرد، إلى جانب شخصية أكبر من الحياة. كانت تُعرف باسم المرأة المتجوّلة في الصحراء، القادرة على سحر الغرباء أو التفوّق عليهم في كلّ منعطف.
والكاتبة تقدّم نموذجا مختلفا تماما من المرأة الصينية والصور النمطية الشائعة عنها في ذلك الوقت. فهي بلا شكّ روح حرّة تتبع مسارها الخاص، سواءً كان في الحبّ أو السفر أو أسلوب العيش. وقد ألهمت جيلًا كاملاً من النساء الصينيات، اللاتي نشأن في ظلّ حالة من عدم اليقين السياسي والمعايير المحافظة.
أحد النقّاد يصفها بقوله: كانت سان ماو امرأة متحرّرة خالفت كلّ القواعد وفعلت ذلك بابتسامة مرحة ومشاكسة. وعند قراءة قصصها كان أكثر ما أغراني هو الجمع بين صوتها وروحها التي لا تُقهر، وهي الروح التي تمكّنت من التوفيق بين حلمها بأن تكون أوّل مستكشفة أنثى تعبر الصحراء الكبرى وواقع المشقّة المؤلمة لعيشها في أرض قاحلة."
وسان ماو تكتب بأسلوب يلامس جوهر الموضوع. لا تهدر الكلمات في تفاصيل غير ضرورية أو أوصاف مضخّمة، وتسرد الأحداث بإيجاز دون أن تؤثّر على فهم القارئ لما حدث.
ورغم أن نثرها وشخصيّتها العامّة عرضة للانتقاد، فإن جاذبيتها أثبتت أنها دائمة. فقد عاش قراؤها في الصين في سبعينات وثمانينات القرن الماضي من خلال حكاياتها خلال حقبة سياسية لم يكن بوسع سوى قلّة من الناس السفر إلى أماكن بعيدة وواسعة.
كانت تمثّل قيم "الحرّية والفضول والإيمان باللطف الإنساني" بالنسبة لمعاصريها.
وكانت الكتابة بمثابة البلسم لوحدتها ووسيلة لنقش المنطق والنظام على واقع مربك ومهين للإنسانية في بعض الأحيان.
❉ ❉ ❉
كانت سان ماو في الـ 31 من عمرها عندما قرّرت الانتقال إلى الصحراء وتبنّت اسمها المستعار الذي أصبحت تُعرف به كواحدة من أكثر الشخصيات أهمية في الأدب الصيني الحديث. ومما يُحسب لها أنها رغم استمتاعها بالاختلاف و"الآخر" في الصحراء، إلا أنها لم تغفل عن الفقر والقمع الاستعماري وعاصفة الاستقلال التي توشك أن تهبّ بقوّة.
تصف الكاتبة الأيّام الأخيرة لها ولزوجها في الصحراء بقولها: كان الجميع يتحدّثون عن الوضع السياسي بوعي أو من غير وعي. وعلى الطريق رأينا الكثير من القوافل العسكرية تتجه نحو المدينة. وكانت المباني الحكومية محاطة بالأسلاك الشائكة، بينما كان حشد من الناس يصطفّون بصبر أمام مكتب صغير للخطوط الجويّة. وفجأة أحدثت مجموعة من الصحفيين الذين لا أعرفهم ضجيجا باندفاعهم إلى الأمام مثل حفنة من المشاغبين. وألقى الضجيج المتوتّر بظلاله المشؤومة على هذه المدينة التي كانت مسالمة ذات يوم. وكانت هناك نذر عاصفة تلوح في الأفق".
وتضيف: عندما أعلن الإسبان رحيلهم عن الصحراء رسميا، احتفل الصحراويون باقتراب أملهم في تقرير المصير. لكن المغرب سرعان ما أعلن نيّته ضمّ الصحراء الغربية وزحَف نحو العيون بجيش قوامه مليونا جندي".
وبينما كانت سان ماو تراقب المقاتلين الصحراويين أزواج صديقاتها وهم يندفعون نحو حتفهم دفاعا عن حلم الاستقلال، اقتبست بضعة أسطر من كتاب صيني كلاسيكي تقول: المحبطون يهربون إلى أديرة رهبانهم، والمخدوعون يموتون بتعاسة كالطيور التي تلجأ إلى الغابة، تاركين الأرض خرابا".
وفي نهاية فترة وجودها هناك، وبينما كانت تشاهد الوضع يتدهور ويتحوّل إلى سفك دماء، كتبت: لا مكان في العالم يضاهي الصحراء. هذه الأرض لا تُظهِر عظمتها وحنانها إلا لمن يُحبّها".
وعندما ساءت الأمور أكثر، اضطرّت سان ماو وخوسيه للهرب إلى جزر الكناري التي تبعد حوالي ساعة بالطائرة عن البرّ الرئيسي الأفريقي. واستقرّا هناك لبعض الوقت. لكن حياتهما الهادئة على الجزيرة لم تستمرّ سوى بضع سنوات. فقد توفّي خوسيه في حادث غرق غريب في عام 1979، وعادت سان ماو في نهاية المطاف إلى بلدها تايوان وانهمكت في عملها بالتدريس الجامعي والترجمة من الإسبانية إلى الصينية.
لم يكن يدور بخلد سان ماو أن القدر يخبّئ لها أكثر من مفاجأة غير سارّة، وأن خوسيه الذي كان زوجا محبّا ومنبهرا بمواهبها سيغرق في البحر وأنها ستعيش بعده 12 عاماً أخرى في وطنها، تكتب وتحاضر، وأنها هي أيضاً ستغرق، ليس في البحر، بل في الهواء البارد المعقّم في جناح مستشفى.
ففي عام 1991 انتحرت الكاتبة في مستشفى في تايوان عن عمر يناهز 41 عاما فقط. وقيل ان السبب الذي دفعها لإنهاء حياتها شنقاً قد يكون الاكتئاب الناجم عن وفاة زوجها أو إصابتها بالسرطان في ذلك الوقت.
والغريب أن وفاة الزوج قبل ذلك كانت سبباً في ميلاد أسطورة سان ماو وخوسيه. إذ أصبح قبر الزوج في جزر الكناري والمزيّن دائما بالأزهار النضرة مزارا لقرّاء سان ماو والمعجبين بقصّتهما.
في اللغة الصينية، الكلمة الأكثر شيوعاً للموت هي "مغادرة هذا العالم". وفي تايوان، يستخدمون للموت مصطلحا بوذيّا يعني "نحو حياة أخرى". ومن الغريب والمؤلم أن سان ماو التي كانت تؤمن بالاختلافات الثقافية كانت امرأة مختلفة حتى في موتها.
وكتابها "حكايات من الصحراء" قصّة حميمية عن امرأة استثنائية وفترة مهمّة من تاريخ منطقة أثارت اهتمام العالم عديدا من السنوات. والكتاب مهم لمن يريد التعرّف على جزء من تاريخ وثقافة الصحراء الكبرى من خلال عيون كاتبة صينية استطاعت أن تكون جزءا من المكان بطريقتها الخاصّة.