:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، يونيو 11، 2025

تاريخ متفائل للبشرية


يعتقد الكثيرون أن الحضارة الإنسانية هي مجرّد قشرة تُخفي تحتها مزيجا غامضا وكريها من المشاعر والعواطف والرغبات العدوانية المكبوتة، وأن في داخل كلّ إنسان شرّا يجب الحذر من إيقاظه كي يبقى الجنّي في القمقم.
المؤرّخ الهولندي روتغر بريغمان يحاول في كتابه "تاريخ متفائل للبشرية" نقض هذه الفكرة ونفي الافتراض القائل بأن البشر أشرار بطبيعتهم، مؤكّدا أن العالم ما يزال بخير، فعندما تحلّ كارثة، فإن الناس "يهرعون لمساعدة بعضهم بعضا حتى لو خاطروا بحياتهم".
وبرأيه حدث مثل هذا الشيء بعد أن غمر إعصار كاترينا مدينة نيو أورلينز بالمياه، إذ نشرت الصحف وقوع بعض حوادث العنف، ولكن الأهم من ذلك أن المدينة اكتسحتها موجات غامرة من الشهامة والإحسان والانسانية. وهذا دليل آخر على أن الأزمات تُظهر أفضل ما لدى البشر من صفات وخصال. "عندما تقع أزمة، كأن تسقط القنابل أو ترتفع مياه الفيضان، نصبح نحن البشر في أفضل حالاتنا."
ويشير المؤلّف الى خرافة سائدة مفادها أن البشر بطبيعتهم أنانيّون وعدوانيون وسريعو الذعر. وهذا ما يُطلق عليه أحيانا "نظرية القشرة الخارجية"، وملخّصها أن الحضارة ليست سوى قشرة رقيقة تتشقّق عند أدنى استفزاز. ويعلّق بقوله: العكس هو الصحيح، إختر طريق التعاطف وستدرك أن خيطا رقيقا هو ما يفصلك عن الغرباء. التعاطف يأخذك إلى ما هو أبعد من ذاتك، حتى لا يصبح القريب أكثر أهمية من بقيّة العالم. وإلا لماذا تخلّى بوذا عن عائلته؟ ولماذا أوصى يسوع تلاميذه بترك آبائهم وأمّهاتهم وزوجاتهم وأطفالهم وإخوتهم وأخواتهم؟!
ويشير الكاتب إلى أن أوّل ما يجب فهمه عن الجنس البشري هو أننا، من الناحية التطوّرية، ما زلنا أطفالا. فنحن كنوع، لم نظهر إلا للتوّ. تخيّل لو اختزلنا تاريخ الحياة على الأرض لعام واحد فقط قياسا للأربعة مليارات عام. بحلول منتصف أكتوبر تقريبا من العام، كانت البكتيريا تحتفظ بالمكان لنفسها. ولم تظهر الحياة كما نعرفها ببراعمها وأغصانها وعظامها وأدمغتها إلا في نوفمبر. أما نحن البشر فقد دخلنا إلى الوجود في 31 ديسمبر من العام، حوالي الساعة 11 مساءً. ثم قضينا حوالي ساعة نتجوّل كصيّادين وجامعين للغذاء، ولم نخترع الزراعة إلا في الساعة 11:58 مساءً. وكلّ ما نسمّيه "تاريخاً" حدث في الثواني الستّين الأخيرة قبل منتصف الليل: الأهرامات والقلاع والمحرّكات البخارية والسفن الصاروخية وما الى ذلك.
وخلافا لداروين، يذكر بريغمان أن البشر لم يتطوّروا على مبدأ البقاء للأصلح، بل على مبدأ البقاء للأكثر تعاطفا وودّا. ويضيف: لقد أصبحنا جرواً بشريّا (Homo Puppy)، فأدمغتنا صارت أصغر من أدمغة بعض أسلافنا، وأسناننا وفكوكنا أكثر طفولية. ويعود ذلك جزئيّا إلى أننا أصبحنا بارعين في التعاون. لقد بتنا آلات تعلُّم اجتماعية للغاية. وقد ولدنا لنتعلّم ونتواصل ونلعب، وهذا ما يجعلنا أقوياء كنوع.
وبحسب الكاتب، كان التكديس والاكتناز من المحرّمات في مرحلة الصيّادين وجامعي الثمار. وعلى مدار معظم تاريخنا، لم نكن نجمع الأشياء لأنفسنا، بل نتشاركها مع الآخرين. وقد أثار هذا دهشة المستكشفين الأوروبّيين الذين أبدوا استغرابهم من كرم الشعوب التي قابلوها. كولومبوس مثلا قال عن بعض الأمم التي قابلها في رحلته الى العالم الجديد: عندما تطلب شيئا ممّا عندهم، فإنهم لا يرفضون أبدا، بل يعرضون مشاركته مع أيّ شخص".
ثم يشير الكاتب الى أن "الجرو البشري" يمتلك هوائيّا موجَّها باستمرار الى الآخرين. فنحن بارعون في التواصل مع الغير ونستمتع بذلك، بوعي وبلا وعي على حدّ سواء، وتتسرّب المشاعر من أجسادنا طوال الوقت بانتظار أن تلتقطها الجِراء الأخرى. وتحتاج عقولنا إلى التواصل بنفس الطريقة التي تحتاج بها أجسادنا إلى الطعام.


ولا يتّفق المؤلّف مع نظرية غوستاف لوبون في كتابه "علم نفس الجماهير" التي تقول إن سلوك الإنسان المتحضّر ينهار أثناء الكوارث ويتحوّل الى لصّ وخارج عن القانون، مثل اعتقاد هتلر أن قصف مدن انغلترا بكثافة سيُضعف الروح المعنوية البريطانية بسهولة.
ومع ذلك، فإن تعاطي سكّان لندن مع بعضهم البعض أثبت عكس ذلك، واتّسم بالشجاعة والاهتمام المتبادل في مواجهة خطر مروّع. وكان تشرشل وآيزنهاور قد اقتنعا بحجّة لوبون، مع أن قصفهما المكثّف للمدن الألمانية أسفر عن النتيجة نفسها، وهي تعميق الروابط المجتمعية وتعزيز الروح المعنوية والتضامن بين الألمان.
ويذكر بريغمان أنه في السنوات التي كان روسّو يؤلّف فيها كتبه، أقرّ بنجامين فرانكلين بأنه "لا يمكن لأيّ أوروبّي ذاق طعم الحياة الوحشية أن يتحمّل العيش في مجتمعاتنا بعد ذلك". ووصف كيف أن الرجال والنساء البيض "المتحضرّين" الذين أسرهم الهنود وأطلقوا سراحهم فيما بعد كانوا دائما ينتهزون أوّل فرصة سانحة للهروب مرّة أخرى إلى الغابات.
لقد هرب المستعمرون إلى البرّية بالمئات، بينما نادرا ما حدث العكس. ومن يلومهم؟! فبعيشهم كهنود، تمتّعوا بحرّيات أكثر مما كانوا يتمتّعون به كمزارعين ودافعي ضرائب. أما بالنسبة للنساء، فكانت الجاذبية أكبر. قالت امرأة مستعمِرة اختبأت من مواطنيها الذين أُرسلوا "لإنقاذها": هنا، ليس لي سيّد. سأتزوّج إن شئت وأعود عزباء متى شئت. هل توجد امرأة عزباء مستقلّة مثلي في مدنكم"؟"
ويقول الكاتب إن البشر كائنات جماعية، فنحن ننجذب بشدّة لمن يشبهوننا، ولا نحبّ، بل قد نشعر بالاشمئزاز من الغرباء. حتى الأطفال يظهرون هذا السلوك. ومن هنا تبدأ كراهية الأجانب. ويضيف أن افتراضاتنا عن بعضنا البعض لها تأثير. فإذا اعتقدنا أن معظم الناس طيّبون، فسنعامل بعضنا البعض بشكل أفضل ممّا لو اعتقدنا أن هناك مشكلة ما في معظمهم. كما أن افتراضاتنا تحدّد أفعالنا، ويتجلّى ذلك فيما يُعرف بتأثير بيغماليون، وخلاصته أنه إذا عاملَ المعلّم الأطفال كما لو أنهم أذكياء، فسيصبحون أذكياء فعلا. والعكس صحيح.
ويشير المؤلّف إلى حنّة آرندت باعتبارها واحدة من الفلاسفة النادرين الذين اعتقدوا أن معظم الناس في أعماقهم طيّبون، وأكّدت أن حاجتنا كبشر إلى الحبّ والصداقة أكثر من أيّ ميل نحو الكراهية والعنف.
ويضيف: عندما ننعزل في خنادقنا، نفقد رؤية الواقع. ويغرينا الاعتقاد بأن أقليّة صغيرة محرِّضة على الكراهية تمثّل البشرية جمعاء، مثل حفنة من متصيّدي الإنترنت المجهولين المسؤولين عن معظم الإساءات على تويتر والفيسبوك".
ومع ذلك، يدرك بريغمان أن البشر ليسوا ملائكة، وهم لا يتصرّفون بخبث إلا إذا غُسلت أدمغتهم. وحتى في معسكر أوشفيتز، اعتقد النازيّون أن التاريخ يقف الى جانبهم. وكان أدولف آيخمان، وهو أحد أبرز مخطّطي الهولوكوست، قد أقنع نفسه بأنه قام بأعمال عظيمة ستعجب بها الأجيال. لقد تصرّف النازيّون بفظاعة، لكنهم ظنّوا أنهم يفعلون الخير. والشرّ المتخفّي في صورة الخير كثيرا ما يغوي البشر. "وهذا ليس عذرا، ولكنّه تفسير".
ويتضمّن الكتاب أيضا بعض الأجزاء المتعلّقة بالقيادة. فيذكر الكاتب أنه غالبا ما يعتقد أصحاب السلطة أن الناس أنانيّون، لأنهم هم أنفسهم أنانيون. ويستشهد بأبحاث تُظهر أن بعض أصحاب السلطة يتصرّفون كما لو كانوا يعانون من تلف دماغي. إنهم "أكثر اندفاعا وأنانية وتهوّرا ووقاحة وغرورا ونرجسية ووقاحة من الأشخاص العاديّين، وهم يغشّون أكثر ويستمعون أقلّ ولا يهتمّون كثيرا بوجهات نظر الآخرين".
علماء النفس لديهم مصطلح يُسمَّى "متلازمة العالم اللئيم"، وهو يشير الى أن الأشخاص الذين شاهدوا الكثير من الأخبار أصبحوا أكثر تشاؤما وأكثر قلقا، بل وأكثر اكتئابا. وعاما بعد عام، يصوغ الساسة أكداسا هائلة من التشريعات، مفترضين أن معظم الناس ليسوا صالحين. وعواقب هذه السياسة هي عدم المساواة والشعور بالوحدة وانعدام الثقة.
والحلّ الذي يقترحه بريغمان يتمثّل في التخلّص من التسلسلات الهرمية. فمن الخطأ الفادح، برأيه، أن يشرف المديرون على الموظّفين، لأنهم لن يقوموا بعملهم إذا تُركوا لوحدهم. والناس يجب أن يُتركوا أحرارا في التصرّف بناءً على دوافعهم الذاتية.
قد يبدو عنوان الكتاب "تاريخ متفائل للبشرية" مبالغا فيه بعض الشيء، لكنه متقن الأسلوب والبحث ويستحقّ القراءة على نطاق واسع، لأنه يدفع الناس إلى إعادة النظر في افتراضاتهم الشخصية عن رفاقهم من البشر. وقد تعمّق المؤلّف في الأرشيفات الأصلية للتجارب النفسية التاريخية، مثل تجارب ستانلي ميلغرام وفيليب زيمباردو، ووجد أن العديد من استنتاجات هذين وغيرهما في علم النفس خاطئة. ويتساءل: ماذا لو عاملتَ كلّ شخص تقابله كما لو أنه إنسان صالح؟!

Credits
rutgerbregman.com
thephilosopher1923.org