:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات سينما. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات سينما. إظهار كافة الرسائل

الخميس، أغسطس 28، 2025

نهاية العالم والحلم الأمريكي


تعجّ الثقافة الشعبية الأمريكية بنبوءات عن يوم القيامة وسيناريوهات نهاية العالم وكأننا نعيش في أواخر العصور الوسطى. ووفقا للسينما والتلفزيون، فإن مصّاصي الدماء والمستذئبين والزومبي والكويكبات والغزاة القادمين من الفضاء سيقتحمون الأراضي الأمريكية يوماً ما.
في المسلسل التلفزيوني "ثورة"، يتسبّب حدث غامض في توقّف جميع الأجهزة الكهربائية حول العالم عن العمل. ويؤدّي هذا الى نتائج كارثية تتضمّن خسائر فادحة في الأرواح، مثل تحطّم الطائرات على الأرض، وتفكّك جميع المؤسّسات الاجتماعية، وإجبار الناس على الاعتماد فقط على مهاراتهم الشخصية للبقاء على قيد الحياة، وانهيار الحكومات في جميع أنحاء العالم.
كما يؤدّي الحادث الى انقسام الولايات المتحدة إلى عدد من الوحدات السياسية الأصغر، في تعارض واضح مع كلّ ما تعلّمه الأمريكيون عن "أمّة واحدة غير قابلة للتفكّك". وجوهر سيناريوهات نهاية العالم هذه هو أن تتقلّص الحكومة أو تختفي تماما. ويبدو أن تلك المسلسلات تعكس شعورا بأن الحكومة الأمريكية قد تضخّمت أكثر من اللازم وباتت بعيدة جدّا عن هموم المواطنين العاديين ولم تعد تستجيب لاحتياجاتهم ومطالبهم.
وفي الحالات التي يتسبّب فيها الحدث المروّع المتخيَّل حدوثه بحلّ الحكومات، فإن هذه المسلسلات تعيد الناس فعليّا إلى ما يسمّيه المنظّرون السياسيون حالة الطبيعة. وكما لو كنّا نقرأ توماس هوبز أو جون لوك أو جان جاك روسو، نرى كيف يشكّل الناس عقدا اجتماعيا. ولا يعود الجمهور محصورا في المؤسّسات القائمة بالفعل، بل إنه يتمكّن من إعادة تقييمها ومعرفة ما إذا كان يحتاج إليها حقّا، بل قد يرى نفسه أفضل حالا في ظلّ ترتيبات أخرى أو ربّما بدون حكومة على الإطلاق.
في المسلسل التلفزيوني "السماوات المتساقطة"، تدمّر كائنات فضائية غازية الحضارة كما نعرفها، وتقضي على الحكومات في جميع أنحاء العالم. تدور أحداث المسلسل في بوسطن وما حولها، ويُعقد اجتماع في بلدة نيو إنغلاند، حيث تتاح للشخصيات فرصة مناقشة شؤونهم الخاصّة ومسارات العمل في غياب أيّ سلطة سياسية عليا. وقد تُركت الشخصيات لوحدها، إذ دمّرت الكائنات الفضائية، في ضربة قاصمة للحضارة، دوائر الاتصال، وخاصّة الإنترنت الذي يُعدّ مثالا واضحا على التقدّم التكنولوجي الذي طالما لعب دورا مهمّا في صياغة الحلم الأمريكي.
وبطبيعة الحال تفتقد شخصيات "السماوات المتساقطة" شبكة الإنترنت، لكنها تتعلّم العيش بدونها وتستحدث أساليب اتصال أكثر حميمية، وربّما أكثر إرضاءً. ويعدّ فقدان التكنولوجيا الحديثة سمة مميّزة لجميع هذه السيناريوهات الدرامية المروّعة، تعكس علاقة الحبّ والكراهية التي تربط الأمريكيين بآلاتهم وأجهزتهم. وجميع هذه المسلسلات تتبنّى موقفا مناقضا للحداثة بشكل عام، وربّما خيبة أمل حقيقية منها، وإحساسا بأن كلّ التقدّم التكنولوجي الذي يفخر به الامريكيون لم يجعلهم أكثر سعادةً، بل على العكس من ذلك، جعلتهم التكنولوجيا بائسين بنزعها الصفة الشخصية عن علاقاتهم وبتقييدها لحرّياتهم.
ومن الواضح أن شخصيات هذا المسلسل نادمة على فقدان مزايا الحضارة الحديثة. ويتمنّى الكثير منهم لو كان ما يزال بإمكانهم الوصول إلى التكنولوجيا الطبّية المتقدّمة التي كانت متاحة في المستشفيات الكبيرة والرئيسية.
وفي المسلسل تفقد الشخصيات كلّ ما كان يشكّل الحلم الأمريكي، مثل جميع ممتلكاتهم الماديّة ووضعهم الاجتماعي ووظائفهم، وبالطبع منازلهم المرفّهة. ولكن هذا يعني أنه يمكنهم الآن التركيز على بعضهم البعض. فلم تعد الوظائف تشتّت انتباههم وتلهيهم عن التزاماتهم العائلية. وبالنسبة للكبار، أصبحت الأبوّة والأمومة وظيفتهم بدوام كامل. وبعد أن كانوا في الماضي معتادين على أن يضعوا حياتهم المهنية قبل حياتهم العائلية، أصبحوا الآن مستعدّين للتضحية بأيّ شيء من أجل أطفالهم.
لقد فقدت الشخصيات كلّ ما كان يجعل حياتهم تبدو جديرة بالاهتمام، لكنهم اكتشفوا أن عناصر الحلم الأمريكي تلك كانت مُلهيات، وفي أسوأ الأحوال عقبات أمام سعادتهم الحقيقية وشعورهم بالإنجاز. وبعد تحرّرهم من الهموم الماديّة والمؤسّسات الرسمية، أُتيحت لهم الآن فرصة البحث عمّا يجعل الحياة ذات معنى حقيقي، وهو التفاني للأصدقاء وخاصّة للعائلة.
وفي المسلسل التلفزيوني "الموتى السائرون"، ينتشر وباء الزومبي بسرعة في جميع أنحاء العالم، ما يؤدّي إلى إبادة جميع السكّان، باستثناء بقايا من البشر. وفي كلّ سيناريوهات نهاية العالم هذه، فإن أيّ شيء يؤدّي إلى نهاية العالم يؤثر على الأرض بأكملها بشكل أو بآخر في وقت واحد. وما يزعج الناس هو الشعور بأنهم يفقدون السيطرة على حياتهم في عالم من المؤسّسات التي لا تتفاعل مع الناس ولا تهتمّ بأحد. وحقيقة أن كلّ هذا يحدث على نطاق عالمي هو أمر مثير للقلق بشكل خاص.
في هذا المسلسل أيضا يصبح الزومبي رمزا لقوّة العولمة التي تُذيب جميع الفروق الثقافية. ويفقد الزومبي فرديّتهم وحرّية إرادتهم وكلّ ما يجعلهم بشرا. ومن خلال عقلية القطيع التي يتّصفون بها، يصبحون تحديدا نوع البشر الذين تسعى المؤسّسات لإنتاجهم ويمثّلون الرعايا المستسلمين الذين ترغب بهم الحكومات سرّا. وتحويل الناس إلى زومبي هو صورة قويّة لما تحاول الحكومات فعله بمواطنيها، وهو خلق مجتمع متجانس وموحّد عاجز عن التصرّف باستقلالية.
ومن خلال تجريد كلّ المؤسّسات التي تشكّل الحضارة الحديثة، يقدّم لنا مسلسل "الموتى السائرون" ما كان الغرب يقدّمه في الثقافة الشعبية الأميركية: صورة للعيش على الحافّة، ورؤية لما يكون عليه الحال بدون حكومة مستقرّة، ومواجهة تحدّي حماية النفس والأسرة بلا معين، وتعلُّم معنى الاستقلال والاعتماد على الذات.
ويلعب الزومبي الدور المسند تقليديّا للهنود الحمر في أفلام الغرب الأمريكي: جحافل من البرابرة المتربّصين على حدود المجتمع المتحضّر والمهدَّد بالإبادة. ومثل الهنود في العديد من أفلام الغرب، فإن الزومبي مجهولو الهويّة والاسم تقريبا، لا يتكلّمون أبدا، وقد يقتلون عشوائيا، والهدف الواضح هو تبرير إبادتهم جماعيّا. وتشبه رحلة شخصيات هذا المسلسل عبر أراضي جورجيا المدمّرة قوافل عربات أفلام الغرب الأمريكي، فهم يتنقّلون من خطر لآخر ويقاتلون أو يتفاوضون مع الجماعات المتنافسة ويعانون من نقص الإمدادات ويبحثون عبثا عن ملجأ ويؤخّرهم البحث عن رفاق مفقودين ويمزّقهم الخلاف على تحديد وجهتهم.


يشير بعض الكتّاب إلى أن من أسباب وفرة أفلام نهاية العالم حقيقة أن البشر يشعرون بانزعاج عميق من فكرة أن حياتنا لا تشكّل سوى فترة زمنية قصيرة للغاية من تاريخ العالم وأننا نشعر بأننا عالقون في المنتصف. فالكثير حدث قبل ولادتنا، وسيحدث الكثير بعد موتنا. ولفهم هذه الحقيقة المربكة، نبحث عن "نمط متماسك" ونستثمر في فكرة أننا نجد أنفسنا في قلب قصّة.
ويجادل كتّاب آخرون بأننا تبنّينا الاعتقاد بأن بداية الإنسانية كانت فترة ازدهار وتقدّم. أما الفترة الوسطى، وهي العصر الذي نعيش فيه الآن، فتتميّز بـ"الانحطاط"، حيث تراجعَ ما كان جيّدا وأصبح بحاجة إلى "تجديد". وللدخول في عصر جديد، لا بدّ من تحمّل عملية تطهير مؤلمة "أو مرعبة"، ما يتيح لنا تفسير الفوضى و"الأزمة" التي نراها تتكشّف من حولنا. كما تتيح قصص النهاية للأفراد التأمّل في موتهم وفهم حياتهم ومكانهم في الزمن وعلاقتهم بالبداية والنهاية. أيضا هذه الأفلام تسمح للمشاهدين "بالتغلّب على مشاعر الفوضى والارتباك" من خلال تعريضهم لأساليب سردية وسينمائية تغيّر تجاربهم الطبيعية عن الزمان والمكان.
والأفلام، التي تتناول أحداث دمار عالمي، مثالية لرسائل "البقاء على قيد الحياة". ففيها تحاول الشخصيات إما منع وقوع كارثة وشيكة أو الاستعداد للنجاة من كارثة حتمية. ويضطرّ الناجون الى الكفاح من أجل البقاء في عالم ديستوبي أو شرّير. ويتجلّى هذا الكفاح في تصوير الناجين وهم يبحثون عن الطعام ويتجنّبون العصابات المتجوّلة في عالم ما بعد نهاية العالم ويُظهِرون مهارات خارقة في البقاء والقتال، كمطاردة الحيوانات البرّية وهزم مجموعات قطّاع الطرق الصحراويين.
لكن أحيانا قد تؤدّي هذه الأفلام إلى تدريب المشاهدين على العجز. إذ يبدؤون في التقليل من شأن مشاكلهم عند مقارنة نضالاتهم بأحداث الحياة والموت التي يرونها على الشاشة، ويصبحون أقلّ تحفيزا لإجراء التغييرات اللازمة في حياتهم.
من جهة أخرى، فإن هذه التصوّرات عن نهاية العالم كما تعبّر عنها السينما هي نتاج التركيبة النفسية والاجتماعية والسياسية والأيديولوجية للمجتمع الأمريكي. وهي تنتقد الهياكل الاجتماعية القائمة، في محاولة للاستجابة للأزمات الاجتماعية الحالية، وتنظر إلى النظام القائم على أنه فاسد وأناني وجشع ولا يستحقّ الحفاظ عليه أو الاستمرار فيه.
الكاتبة إ. روزن ترى أن قصص نهاية العالم ليست سردا متفائلا حيث يتدخّل الله لتصحيح الأمر وإعادة النظام إلى عالم مضطرب ومكافأة المؤمنين، بل هي قصص تحذيرية تتنبّأ بالاحتمالات القاتمة وتعكس غضب الربّ العقابي والجماعي على عالم منحط. أي أن هذه القصص تفترض أن لا أحد يستحقّ الإنقاذ وأن الجميع يجب أن يعاقَبوا.
النسَخ الجديدة من قصص نهاية العالم تتضمّن انهيار النظام الاجتماعي ومعاقبة خطايا البشر والتشاؤم بشأن قدرة البشرية على إعادة تأهيل نفسها. وعلى عكس قصص نهاية العالم القديمة، لا تفترض القصص الجديدة نهاية سعيدة ولا توجد فيها "معجزة إلهية" ولا أمل في إعادة تأهيل البشر. فالانحطاط كامل لدرجة أن النهاية لا يمكن أن تكون إلا كذلك ولا يوجد شيء بعد هذه النهاية ولا أمل في جنّة جديدة على الأرض، لأنه لا يوجد شيء يستحقّ الإنقاذ". ورسالة هذه الأفلام واضحة: إذا لم يغيّر البشر أساليبهم، فستقع الأحداث التي يرونها على الشاشة وستتسبّب في انقراض الجنس البشري.
وفي بعض هذه الأفلام، لا يقع الحدث المروّع بسبب خطأ بشري أو لامبالاة أو عيب. مثلا، فيلم "حزن" من عام 2011 ينتهي باصطدام كوكب مارق بالأرض على أنغام مقدّمة ريكارد فاغنر لأوبرا تريستان وإيزولدا. هذا الفيلم جريء وغير منضبط ومتشائم. ورسالته هي أن الأرض شرّيرة ولا داعي للحزن عليها ويجب أن تُترك لمصيرها فلن يفتقدها أحد".
الملاحَظ أن جميع التنبّؤات عن نهاية العالم، وعلى مدى آلاف السنين الماضية، يجمعها شيء واحد مشترك، هو أنه لم يتحقّق أيّ منها على الإطلاق. وقائمة هذه التنبّؤات الفاشلة تُعزى إلى الكثير من الأسماء المهمّة، مثل الفيلسوف الروماني سينيكا والمسيحيين الأوروبيين والمورمون والمذنّب هالي وشهود يهوه وبوّابة السماء ونوستراداموس وآخرين.
لكن كلّ هذه النبوءات تحمل أيضا رسالة أعمق، وهي أنه على الرغم من أن نهاية العالم أمر لا مفرّ منه، بعد أن يتجاوز عمر الأرض خمسة مليارات سنة وتموت الشمس، إلا أنه لا يوجد أساس عقلاني أو علمي للاعتقاد بأن تلك النهاية المفترضة أصبحت وشيكة.

Credits
scene360.com
spu.edu

الاثنين، أغسطس 18، 2025

نصوص مترجمة


  • تقول أسطورة إن الشاعر العظيم لي باي لقي حتفه غرقا في سنّ الثانية والستّين، بينما كان يحاول وهو ثمل لمسَ انعكاس القمر في نهر اليانغتسي. لي هونغ بين، المحاسب السابق ذو الوجه الحزين، يعرف حقائق كثيرة عن لي باي، ويعتقد أنه هو نفسه مستنسَخ حيّ وحقيقيّ من الشاعر المشهور.
    يقول وهو ينحني في كشك تذكاري مهجور رمّمه ككوخ ناسك في مركز لي باي الثقافي، في تشينغليان، مسقط رأس الشاعر الكبير في مقاطعة سيتشوان غرب الصين: أنا واثق من ذلك. بعد 1300 عام، أنا الشاعر الوحيد الذي يعيش في مسقط رأس لي باي ولا يزال يكتب الشعر. بل إنني أوقع أعمالي باسم لي باي".
    بعض الدول، مثل جورجيا، محظوظة ببناء تماثيل لشعرائها أكثر من الملوك أو المحاربين. وفي قيرغيزيا، يقضي الشعراء المتدرّبون سنوات في حفظ قصيدة واحدة من ملحمة ماناس الوطنية المكوّنة من نصف مليون سطر. ومع ذلك، لم أجد الشعر منغمسا في الحياة العامّة أكثر ممّا هو في الصين. إذ تُعدّ الولادات والزيجات والوفيات مناسبات للعائلات لتأليف الشعر. ويتعلّم الأطفال القوافي القديمة في مناهجهم الدراسية الأساسية. وتزيِّن أبوابَ منازل المدن والقرى أبيات شعرية منقوشة على ورق أحمر لجلب الفأل والحظ السعيد.
    ماو تسي تونغ نفسه قيل إنه خاض غمار كتابة الشعر ذات مرّة. ومع ذلك، يُعدّ وجود شاعر حقيقي متفرّغ لكتابة الشعر اكتشافا نادرا في أيّ مكان.
    ولد لي باي في القرن الثامن الميلادي في آسيا الوسطى ونشأ في سيتشوان الحالية. وقد عاصرَ تمرّدا وحربا أهلية وفقداناً للأمن في امبراطورية تانغ. ثم طُرد الشاعر من البلاط الإمبراطوري لتجرّؤه على خلع حذائه المتّسخ أمام الملك. وفيما بعد أُلقي القبض عليه بتهمة الخيانة، وحُكم على هذا الرجل البدائي بالمنفى، وإن كان أُعيد لاحقا الى وطنه.
    للوصول إلى تشينغليان، سافرت شمالا من مدينة تشانغدو العملاقة، مرورا بقرى دُمّرت وأُعيد بناؤها منذ زلزال عام ٢٠٠٨ المروّع. عبرتُ أنهارا خضراء دافئة على جسور المشاة. كان ذلك في نهاية الصيف. كانت الأيّام جليدية، وكان المزارعون قد نشروا محصولهم من الذرة ليجفّ على جوانب الطرق.
    كانت تلك هي الصين التي تخيّلت فيها لي باي البدائي مرتاحا، وليست "صين" الصورة النمطية العالمية لأرضيات المصانع الآلية. أما الشاعر لي هونغ بين فقد رأيت فيه فنّانا كسر الصور النمطية البالية للطائفية الشرقية والتمرّد الفردي الغربي. بول سالوبيك
  • ❉ ❉ ❉

  • نظرا لحجم خطره، ينبغي أن يكون الذكاء الاصطناعي موضع اهتمام كلّ البشر. صحيح أن الجميع لا يمكن أن يصبحوا خبراء في الذكاء الاصطناعي، لكن يجب أن نتذكّر كلّنا أنه أوّل تقنية في التاريخ قادرة على اتخاذ القرارات وابتكار أفكار جديدة بنفسها. فيمكن له مثلا توليد أفكار جديدة بشكل مستقلّ، وفي مجالات تبدأ بالموسيقى ولا تنتهي بالطبّ.
    الغراموفون عزفَ موسيقانا والمايكروسكوب كشفَ أسرار خلايانا. لكن الغراموفون لم يستطع تأليف سيمفونيات جديدة، ولم يستطع المايكروسكوب تصنيع أدوية جديدة. الذكاء الاصطناعي قادر بالفعل على إنتاج الفن وتحقيق اكتشافات علمية بمفرده.
    وفي العقود القليلة القادمة، من المرجّح أن يكتسب القدرة على خلق أشكال حياة جديدة، إما بكتابة شيفرة جينية أو باختراع شيفرة غير عضوية. الذكاء الاصطناعي قد يغيّر مسار تاريخ جنسنا البشري، بل مسار تطوّر جميع أشكال الحياة. يوفال هاراري
  • ❉ ❉ ❉


  • شاهدت مؤخّرا فيلم "إلى البرّية" بعد أن سمعت عنه منذ سنوات. الفيلم مقتبس من رواية لكاتب يُدعى جون كراكوير، وتدور أحداثه حول شابّ إسمه "كريس" يتخلّى عن حياته العصرية وعن كلّ شيء، ويذهب للعيش في البرّية. وعندما انتهيت من مشاهدة الفيلم، لم أصنّفه ذهنيّا بين الجيّد أو السيّئ. ولم أفكّر فيما إذا كنت سأوصي به، أو فيما سأقوله عنه إذا سألني أحد.
    كان قرار بطل الفيلم بالاختفاء لفترة وترْك كلّ التوقّعات والراحة أشدّ وقعا عليّ مما توقّعت. ليس لأنني فعلت شيئا كهذا من قبل، بل لأنني أعرف الشعور الذي يحرّكه. فقد ساورني نفس هذا الشعور وأنا أخرج من مكتبي كلّ يوم في الساعة الخامسة مساء. وشعرت به في صباحات الأحد عندما تكون المدينة ما تزال نصف نائمة. وشعرت به وأنا أحجز رحلة "هروب" لعطلة نهاية الأسبوع، ثم أقضي معظم الوقت مستلقيا على سرير في الفندق أتصفّح هاتفي الجوّال!
    كان كريس يمضي أيّامه في جمع التوت البرّي وصيد السناجب والأرانب. كما يخصّص وقتا لقراءة مؤلّفيه المفضّلين والأكثر تأثيرا: جاك لندن وليو تولستوي وهنري ديفيد ثورو وسواهم. وداخل أعمال هؤلاء الكتّاب كان يجد شخصيّته الحقيقية. يقول نقلا عن ثورو: ذهبت إلى الغابة لأني أردت أن أعيش حياة مدروسة، وأن أتجنّب كلّ ما ليس حياة، فلا أكتشف عندما أموت أنني لم أعِش".
    بحلول الوقت الذي وصل فيه كريس إلى ألاسكا وحيدا في حافلة مهجورة في أعماق البرّية، كان شيء ما قد تغيّر. في البداية، كانت الوحدة جميلة وهادئة، بل رومانسية. كان يعيش الحلم الذي سعى إليه لسنوات. لكنْ شيئا فشيئا، أصبح ذلك الصمت مختلفا. وما كان يوما حرّية بدأ يتحوّل إلى وحدة. وهذا ما جعلني أتساءل: ماذا لو تبيّن أن ما كنتَ تسعى إليه لا تريده حقّا؟ ماذا لو وصلتَ إليه ولم يكن العلاج الذي توقّعته؟!
    الفيلم لا يعطيك إجابة، بل يترك هذا السؤال عالقاً في ذهنك، ينتظر أن تلاحظه. وهو يذكّرك بهذه الأشياء الصغيرة على طول الطريق: ليس من الخطأ ألا تعرف بالضبط ما تريده وأن ترغب في الاختفاء في بعض الأحيان. لكن كن حذرا، أحيانا الشيء الذي تبحث عنه ليس هو الشيء الذي تحتاجه.
    أثناء الفيلم، يلتقي الشابّ في طريقه ببعض الأشخاص: زوجان في منتصف العمر يفتحان له قلبيهما دون أحكام مسبقة، مزارع لا يراه مجرّد متجوّل، بل شخصا ذكيّا وكفؤا ويستحقّ السعادة، ورجل مسنّ يعيش وحيدا بعد أن فقد زوجته قبل عقود، فيعرض عليه أن يتبنّاه.
    وهؤلاء يذكّرونك بأن المعنى ليس "في الخارج" فقط، أي في البرّية البكر، بل هو في الناس أيضا. ربّما كان كريس يسعى نحو شيء نقيّ، لكنه في الطريق ظلّ يكتشف أن التواصل الإنساني ليس بالسمّ الذي كان يظنّه. أحيانا كان هو الدواء الذي يحتاجه.
    تلك المشاهد في الفيلم جعلتني أفكّر في حياتي، في الصداقات التي تلاشت لانشغالنا، والأحاديث العائلية التي تقلّصت إلى رسائل نصّية سريعة. في الماضي، كنّا أنا وعمّي نتحدّث لساعات خلال زيارات العطلات عن الموسيقى والسياسة وغيرهما. الآن نتبادل رسائل صوتية قصيرة لا تتجاوز الدقيقتين بضع مرّات في السنة.
    وبعض المَشاهد الأخرى في الفيلم فتحت لي آفاقا من الذكريات القديمة عن أمسيات هادئة بعد المطر وأنا مستلقٍ على سريري أستمع إلى أيّ أغنية يتصادف أن الراديو يبثّها. كان نوعا من الهدوء الذي اخترته، لا النوع الذي فُرض عليّ. ذكّرني وقت كريس في الحافلة وهو يدوّن يومياته بينما يتراكم الثلج في الخارج، بذلك الشعور؛ ذلك الهدوء الاختياري.
    الكثيرون ممّن شاهدوا فيلم "إلى البرّية" شعروا برغبة في فعل ما فعله كريس، أي التخلّي عن كلّ شيء، ثم السفر والهروب. أما أنا فكان الأمر عكس ذلك تماما. لقد دفعني هذا الفيلم إلى الاهتمام أكثر بالحياة التي أعيشها، بالأشياء الصغيرة: محادثة دافئة مع أمّي على الهاتف، طبق طعام سريع التحضير في منتصف الليل، العثور على مقعد في القطار خلال ساعة الذروة.
    كان كريس في الماضي مستاءً من المجتمع ومن محيطه، لكنه آمنَ لاحقا بأن "بهجة الحياة تحيط بنا من كلّ جانب، وكلّ ما نحتاجه هو تغيير نظرتنا للأمور". وفي النهاية أصبح مدفوعا بفكرة أن السعادة لا تتحقّق إلا بالمشاركة، فقرّر العودة إلى منزله لأنه لم يجد من يشاركه إيّاها في البرّية.
    وقصّة كريس تذكّرنا بأن التخلّص من مشاكل الحياة لا يحلّها هروب المرء من نفسه. فالهروب لا يمحو ما تحمله في داخلك، بل قد يزيده صخبا. وأعتقد أن سبب تعلّقي بالفيلم هو ما تركه وراءه بعد انتهائه: لحظة هدوء، وتذكير بأنه لا بأس أحيانا من ألا نمتلك جميع الإجابات. نيد فيرن

  • Credits
    Tldrmoviereviews.com
    learn.outofedenwalk.com

    الأحد، يوليو 13، 2025

    حكايات المصارعين والأباطرة


    الكولوسيوم هو المدرّج الروماني الذي كانت تُقام على أرضه مباريات المصارعة الدامية بين البشر والوحوش "من أجل متعة الشعب والامبراطور!". وأبلغ وصف أدبي قرأته عن هذا المَعلم المشهور كان وصفا لكاتب معاصر زار المكان فجرا وقال انه خُيّل إليه أنه سمع هدير آلاف الرومان المتحمّسين وصرخات آلاف القتلى وتأوّهاتهم أثناء لحظات احتضارهم في ذلك المحشر الضيّق والمروّع.
    الغريب أن المصارعين المحكومين بالإعدام، قبل أن يقاتل بعضهم بعضا أو يُلقى بهم الى الحيوانات المفترسة والمجوَّعة، كان يُطلب منهم أن يقفوا أمام المنصّة الإمبراطورية ويردّدوا عبارة: السلام عليك أيها الإمبراطور! نحن الذين على وشك الموت نحيّيك!"
    كان الرومان يحبّون تلك المباريات الدامية. وفي حال ما إذا خسر مصارع، فإن من حقّ الجمهور المستمتع بالقتل وسفك الدماء أن يقرّر بقاءه أو موته، وذلك بخفض إبهامه أو رفعه وسط الهتافات والتصفيق.
    الكولوسيوم عبارة عن تاريخ مظلم ووحشيّ وغارق في القسوة والعنف. وما بدأ كألعاب رياضية تحوّل إلى وحشية مفرطة ارتُكبت ضدّ ضحايا كثيرين، بينهم أسرى حرب ومواطنون منفيّون ومجرمون ونساء.
    وعلى مدى خمسة قرون طويلة، أنفق الأباطرة ببذخ على تلك العروض التي شملت مئات الآلاف من مسابقات المصارعة ومبارزة الحيوانات، والمسرحيات الكلاسيكية، والإعدامات الحيّة والانتحارات. وكان بعض أباطرة روما يشاركون شخصيّا في تلك الفعاليات.
    كانت الحيوانات تُحشر عمدا في غرف وأقفاص صغيرة لكي يزداد عنفها ووحشيّتها. وكانت النمور والأسود والفهود والأفيال والتماسيح تُجلب حيّةً من شمال أفريقيا والبحر المتوسّط لاستخدامها في تلك المباريات الوحشية. وقد أدّى صيد الرومان لتلك الحيوانات من أجل المتعة إلى تدمير الحياة البرّية في مواطنها وانقراض الكثير منها.
    كان الكولوسيوم فضاءً مجوّفا عملاقا ومليئا بالدماء والجثث. ومن الغريب أن غالبية الرومان القدماء لم يكونوا يشعرون بأيّ أسف أو تأنيب للضمير وهم يتابعون أنشطته اللاإنسانية. بل إن الأباطرة، باستثناء ماركوس أوريليوس، والمثقّفين كانوا حريصين على استمرار عمليات التعذيب تلك، باعتبارها وسيلة سهلة للسيطرة على الجماهير وإلهائها.
    عندما تقرأ عن الفظائع التي كانت تحدث آنذاك في حلبات روما، وفي الكولوسيوم خصوصا، لا بدّ أن تتساءل كيف تسنّى للرواقيين من أمثال اوريليوس وسينيكا أن يمتلكوا مثل تلك العقليات المتحضّرة وأن يكتبوا أفكارهم الإنسانية الجميلة، على الرغم من أنهم عاشوا في مثل تلك البيئة المجنونة التي تحتفي بقتل وتعذيب البشر والحيوانات، بالإضافة الى ما شهده سينيكا نفسه من جرائم الدائرة القريبة من نيرون؟!


    في أحد كتبه، يشير سينيكا إلى مناسبة شهيرة، عندما أُجبر أشخاص محكوم عليهم بالإعدام على قتال مجموعة من الأفيال في الساحة. كان عدد الأفيال عشرين، وكان مبارزوها من البشر مسلّحين بالرماح. وقد قاتل أحد هذه الحيوانات ببسالة نادرةً، وعندما شُلّت قوائمه بفعل ضربات الرماح، زحف على جحافل الأعداء وانتزع دروعهم من أيديهم وألقاها في الهواء. وقد أسعدت هذه الحيوانات المتفرّجين بمناوراتها التي لا يتقنها سوى سحرة بارعون.
    كما وقعت حادثة عجيبة أخرى، بحسب سينيكا، فقد قُتل فيل بضربة واحدة ووصل الرمح الذي أصابه تحت عينه إلى الأجزاء المهمّة من رأسه. وحاولت مجموعة الأفيال كلّها اختراق السياج الحديدي الذي يحاصرها، ما تسبّب في إحداث اضطراب شديد بين الناس. لكن الأفيال عندما فقدت كلّ أمل في الهروب، حاولت كسب عطف الجمهور من خلال لفتات متوسّلة، وندبت مصيرها بنوع من العويل، ما أثار حزن الناس، فانفجروا في البكاء ونهضوا في هبّة واحدة واستمطروا اللعنات على رؤوس منظّمي تلك المقتلة الرهيبة.
    يقول أحد الكتّاب المعاصرين: لقد قطعت البشرية شوطا طويلا منذ أيّام الكولوسيوم. ومع ذلك لا نهاية للأهوال التي يُلحقها البشر ببشر آخرين. والنسخة العالمية الحالية من "الألعاب" الرومانية القديمة هي سلسلة الحروب الغاشمة التي نشهدها اليوم، وآخرها حرب الإبادة في غزّة.
    كنت أتوقّع أن يكون امبيرتو ايكو قد كتب وصفا او انطباعا ما بلغته الساخرة والبليغة عن تاريخ الكولوسيوم، لكن لم أجد شيئا باستثناء إشارة عابرة عن المكان وردت في رواية "اسم الوردة"، حيث ذكره باعتباره "أحد رموز الماضي".
    لكن فولتير كتب جملة طريفة عن هذا المعلَم يقول فيها: لقد بنى الرومان القدماء أعظم روائعهم المعمارية لتتقاتل فيها الوحوش البرّية". وعندما زار غوته المكان لم يلاحظ فيه سوى ضخامته "لدرجة أن المرء لا يستطيع أن يحفظ صورته في ذاكرته"، كما قال.
    المخرج الإنغليزي الشهير ريدلي سكوت أراد تصوير فيلمه Gladiator أو المصارع في داخل الكولوسيوم، لكنه أُبلغ بأن التصوير ممنوع في الداخل. فاضطرّ لبناء نسخة مصغّرة من المبنى في مالطا. كما أنشأ حديقة حيوانات حقيقية جلبَ لها مجموعة من الأسود والنمور والدببة والذئاب والفيلة والفهود، أي الحيوانات التي كان الرومان يزجّون بها لمقاتلة البشر في الكولوسيوم.
    أما المخرج السينمائي فيديريكو فيليني فكتب يقول: في فيلم "روما" أردت أن أجسّد فكرة أن روما القديمة تقع تحت روما اليوم. وهذا ما يثير حماسي. تخيّل نفسك في ازدحام مروري في الكولوسيوم!".
    الكولوسيوم قديم جدّا، أقدم حتى من سور الصين العظيم. لكن الأكروبوليس وستونهنج وهرم الجيزة أقدم منه بكثير. وهناك جهود حثيثة تبذل الآن وأعمال ترميم مكثفة تجري لإعادته الى الحياة وجعله مكانا لاستضافة الأنشطة الثقافية، من مسرحية وموسيقية، بعيدا عن مباريات الموت وسفك الدماء.

    Credits
    thecolosseum.org

    الاثنين، يوليو 07، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • كانت الآلهة عند الاغريق تشبه البشر في مظهرها، إلا أنها تفوقهم جمالا وعظمة وقوّة. وكانت تشبههم في مشاعرهم وعاداتهم، فتتزاوج وتنجب أطفالا وتحتاج إلى غذاء يومي لتجديد قوّتها وإلى نوم منعش لاستعادة طاقتها. كما أن دمها سائل أثيريّ لامع لا يسبّب الأمراض وعند إراقته ينتج حياة جديدة.
    ويذكر الكاتب ي. م. بيرنز أن الإغريق كانوا يعتقدون أن مؤهّلات آلهتهم العقلية أعلى بكثير من مؤهّلات البشر. ومع ذلك، لم يُنظر إليها على أنها معصومة من الأهواء البشرية، بل هي مدفوعة بالانتقام والخداع والغيرة. فهي دائما تعاقب المذنب وتُنزل المصائب على أيّ بَشريّ يجرؤ على إهمال عبادتها أو احتقار طقوسها. وكثيرا ما نسمع عن زيارات الآلهة للبشر ومشاركتها ضيافتهم.
    وآلهة الاغريق ترتبط بالبشر وتتزاوج معهم، ويُطلَق على ذريّة هذه الزيجات اسم أبطال أو أنصاف آلهة، ويشتهرون عادةً بقوّتهم وشجاعتهم العظيمة. ومع وجود العديد من أوجه التشابه بين الآلهة والبشر، إلا أن الآلهة تميّزت دائما بالخلود. لكنها لم تكن محصّنة من الهزيمة، فكثيرا ما سمعنا عن إصابتها بجروح وتعرّضها للعذاب.
    ولم تكن الآلهة تعرف حدودا للزمان أو المكان، فكانت قادرة على نقل نفسها لمسافات هائلة بسرعة الفكر. كما امتلكت القدرة على إخفاء نفسها وعلى اتخاذ أشكال بشر أو حيوانات بما يناسبها. كما كان لديها القدرة على تحويل البشر إلى أشجار أو أحجار أو حيوانات وغير ذلك، إمّا عقابا لهم على آثامهم أو كوسيلة لحمايتهم من خطر وشيك. وكانت ملابس الآلهة تشبه تلك التي للبشر، لكنها أفخم وأرقّ ملمساً. وكانت أسلحتها تشبه تلك التي يستخدمها البشر، فنسمع عن الرماح والدروع والأقواس والسهام وغيرها ممّا تستخدمه الآلهة.
    وكان لكلّ إلهة عربة جميلة تجرّها الخيول أو غيرها من الحيوانات السماوية، وتنقلها بسرعة عبر البرّ والبحر حسب رغبتها. وقد عاشت معظم هذه الآلهة على قمّة جبل الأوليمب، وكان لكلّ منها مسكنها الخاص، وكانت تجتمع كلّها في مناسبات احتفالية في قاعة واحدة، حيث كانت تحيي ولائمها على أنغام القيثارة. وشُيّدت معابد فخمة لتكريمها، حيث كانت تُعبد بجلال بالغ. وقُدّمت لها هدايا سخيّة، كما قُدّمت على مذابحها الحيوانات بل والبشر أحيانا.
    ويشير بيرنز الى انه في بعض الأساطير اليونانية نلتقي ببعض الظواهر العصيّة على التفسير. فنسمع مثلا عن عمالقة مخيفين يقذفون الصخور ويقلبون الجبال ويثيرون الزلازل التي تبتلع جيوشا بأكملها. ويمكن تفسير هذه الأفكار برأيه بالتشنّجات المروّعة والمفاجئة للطبيعة التي كانت تحدث في عصور ما قبل التاريخ.
    ومثل هذه الظواهر اليومية المتكرّرة، التي نعلم اليوم أنها نتيجة لقوانين طبيعية مألوفة، كانت بالنسبة لليونانيين الأوائل موضوعا للتكهّنات الخطيرة، وكثيرا ما كانت تثير الفزع. فعندما كانوا يسمعون هدير الرعد ويرون ومضات برق قويّة مصحوبة بسحب سوداء وسيول مطرية، كانوا يعتقدون أن إله السماء العظيم غاضب فيرتجفون من غضبه. وإذا ثار البحر الهادئ فجأة وارتفعت الأمواج كالجبال العالية واصطدمت بالصخور بعنف وهدّدت البشر بالدمار، فالتفسير الوحيد لما حصل هو أن يكون إله البحر في حالة غضب عارم. وعندما كانوا يرون السماء تتوهّج بألوان النهار التالي كانوا يظنّون أن إلهة الفجر، بأصابعها الوردية، كانت تزيح حجاب الليل المظلم جانبا، لتسمح لأخيها إله الشمس، بالبدء في مسيرته الرائعة.
    ومع كلّ تجسّدات الطبيعة هذه، كانت هذه الأمّة ذات الخيال الثريّ والشاعرية الرفيعة ترى إلها في كلّ شجرة تنمو وفي كلّ جدول يتدفّق وفي أشعّة الشمس الساطعة وفي أشعّة القمر الفضّية الصافية والباردة. فمن أجل هذه الآلهة عاش الكون بأكمله وتنفّس، مأهولاً بألف شكل من أشكال النعمة والجمال.
    وهذه الآلهة كانت أكثر من مجرّد إبداع خيال شاعري. كانت على الأرجح بشرا من لحم ودم تميّزوا في حياتهم بتفوّقهم على إخوانهم البشر الآخرين في مواهب معيّنة، وبعد أن ماتوا صاروا مؤلّهين من قِبَل من عرفوهم وعاشوا بينهم. ويحتمل أن تكون الأفعال المزعومة لتلك الكائنات المؤلّهة قد تمّ إحياؤها وتضخيمها من قبل الشعراء الذين كانوا يسافرون من ولاية إلى أخرى ويحتفلون بمدحها في أغانيهم، وبالتالي أصبح من الصعب للغاية فصل الحقائق المجرّدة عن المبالغات التي تصاحب التقاليد الشفوية عادةً.
    ولتوضيح الصورة، يضرب الكاتب مثلا بأورفيوس، ابن أبوللو، المشهور بمهاراته الموسيقية الاستثنائية. ويقول: لو كان أورفيوس موجودا في عصرنا اليوم، فسنعتبره ولا شكّ من أعظم موسيقيّينا ونكرّمه على هذا الأساس. لكن الإغريق، بخيالهم الواسع وطلاقتهم الشعرية، بالغوا في تقدير مواهبه الغير عاديّة ونسبوا إلى موسيقاه تأثيرا خارقا على الطبيعة، الحيّة منها والجامدة. وهكذا سمعنا عن وحوش برّية روّضتها موسيقاه، وأنهار عاتية توقّفت عن الجرَيان وجبال تحرّكت من مكانها، متأثّرة بنغمات صوته العذب.
  • ❉ ❉ ❉


  • يتناول الفيلم الكازاخي "توميريس ملكة السهوب" قصّة الملكة الأسطورية التي اصبحت محاربة بارعة وتجاوزت مأساة مقتل عائلتها، ثم وحّدت قبائل السكيثيين تحت سلطتها. ويستند الفيلم الى قصّة المؤرّخ اليوناني هيرودوت عن مقتل الملك الفارسي كوروش الكبير خلال الحرب التي قادها ضدّ توميريس.
    كان كوروش مؤسّس الإمبراطورية الأخمينية. وفي عهده، ضمّت الإمبراطورية جميع الدول في الشرق الأدنى القديم وتوسّعت بشكل كبير. وفي النهاية غزت جزءا كبيرا من آسيا الوسطى. ومن البحر المتوسّط ومضيق الدردنيل غربا إلى نهر السند شرقا، أسّس كوروش أكبر إمبراطورية شهدها العالم حتى ذلك الحين.
    وكان السكيثيون يقطنون الأراضي الشمالية، وهم اتحاد قبائل رعوية بدوية عاشت في القرن السادس قبل الميلاد في آسيا الوسطى وشرق بحر قزوين، في أجزاء من تركمانستان وأفغانستان وغرب أوزبكستان وجنوب كازاخستان.
    بعث كوروش رسولا من عنده حمّله هدايا سخيّة الى توميريس ليقترح عليها ارسال زوجها وابنها إلى عاصمته بابل لمناقشة القضايا السياسية التي نشأت بين مملكته وقبيلتها وإبرام معاهدة سلام وتجارة بين الطرفين. وفي الحقيقة كان كوروش يريد إخضاع المرأة وقبيلتها وتحويلهم إلى تابعين له والاستعانة بفرسان القبيلة الرحّل والمعروفين ببسالتهم في الحرب لمساعدته في خطّته لغزو مصر.
    من الناحية التاريخية، لا يُعرف الكثير عن توميريس، لكن الفراغات الكثيرة في قصّتها مُلئت على ما يبدو بالكثير من الخيال والقصص الشاطحة. وبعد وفاة والدها، مارست السياسة بمهارة من أجل الحفاظ على سيطرتها على زعماء القبائل الطموحين والماكرين، بينما خاضت حروبا مع القبائل المجاورة، ومنها مملكة خوارزم.
    وفي الفيلم تصوّر توميريس على أنها زعيمة قويّة وداهية، ولكنها رحيمة، حيث أنشأت وحدة عسكرية قوية مكوّنة من آلاف النساء، ساعدت في ترجيح كفّة المعركة النهائية ضدّ الفرس.
    شخصيات الفيلم من قبيلة "الماساجيتاي" تتحدّث اللغة التركية القديمة، بينما يتحدّث الفرس اللغة الفارسية الجديدة، على الرغم من أن بعض المؤرّخين المعاصرين يعتبرون أن الماساجيتاي كانوا شعبا إيرانيا بدويّا.
    وقد راعى صنّاع الفيلم العديد من سمات ثقافة وحياة تلك القبائل، ولا سيّما قبّعاتهم المدبّبة واجتماعاتهم القبلية التي كانت تُحلّ فيها أهمّ القضايا. واختيرت ألميرا تورسين، وهي عالمة نفس، من بين 15 ألف شخص لأداء دور توميريس، بعد أن تلقّت دروسا احترافية في ركوب الخيل والرماية وتعلّمت استخدام السيوف والسكاكين. أما دور كوروش فقد اختير للعبه الممثّل السوري غسّان مسعود.
    ومن الملاحظ أن المؤرّخ الذي يظهر من وقت لآخر في الفيلم وهو يروي الاحداث ليس هيرودوت، بل مؤرّخ ذو مظهر عربي تقريبا، مع أنه ليس من المؤكّد ما إذا كان مؤرّخون عرب قد سمعوا أو كتبوا شيئا عن توميريس.
    الجدير بالذكر أن الفيلم حقّق نجاحا كبيرا عند عرضه، لدرجة أن اسم توميريس اُطلق على الكثير من الفتيات اللاتي وُلدنَ مؤخّرا في كازاخستان.
    خلال عصر النهضة، أصبحت توميريس شخصية شائعة في الفنّ والأدب الأوروبّي. وقد رسمها، من بين آخرين، روبنز وغوستاف مورو. كما ورد ذكرها في أقدم مسرحيات شكسبير، الملك هنري السادس، باعتبارها "ملكة السكيثيين".
  • ❉ ❉ ❉

  • يُوصف فريتس تاولو بأنه أهم فنّان انطباعي نرويجي. وهو ابن عمّ الرسّام ادفارد مونك وصهر بول غوغان وصديق أوغست رودان وبيير بوفي دي شافان وإميل دوران. كما كان أيضا صديقا مقرّبا لكلود مونيه. وقد شجّع تاولو مونيه على السفر معه إلى النرويج لرسم بعض مشاهدها الثلجية في عام 1895.
    ولد تاولو عام 1847 في كريستيانيا "أوسلو اليوم" لأب ثريّ كان يعمل كيميائيّا. وتلقّى تعليمه في أكاديمية الفنون في كوبنهاغن لمدّة عامين، ثم ذهب الى المانيا لدراسة الرسم حيث بقي هناك عاماً. كان دائم الترحال كما توحي لوحاته. فقد سافر بعيدا عن موطنه الإسكندينافي وتجوّل في ألمانيا وانغلترا وأمريكا وفرنسا وإيطاليا. وأمضى صيف عام ١٨٨٥ يرسم ضواحي فينيسا، وفي السنة التالية عَرض في أوسلو خمسة أعمال فينيسية لاقت استحسانا كبيرا. ومن الواضح انه انجذب الى هذه المدينة بشدّة بدليل عودته اليها مرّتين بعد ذلك.
    وقبل ذلك، أي في مستهلّ سبعينات القرن التاسع عشر، ذهب إلى باريس التي كانت وقتها مركزا للفن العالمي ومقصدا لطلاب الفنون من جميع الجنسيات. وكانت تحتضن عددا كبيرا من الفنّانين النرويجيين المغتربين. وفيها اتقن تاولو مهارة الرسم في الهواء الطلق.
    ومن الملاحظ أن أسلوبه كان أقرب إلى أسلوب الرسّامين الواقعيين الفرنسيين منه إلى أسلوب الانطباعيين، مع أنه كان مهتمّا مثلهم بالألوان والضوء. وفي باريس عرضَ بعض لوحاته عن سواحل البحر والحياة البحرية ولقيت استقبالا متباينا، لكن كانت تلك فرصته لاكتساب معرفة جيّدة بالرسم.
    لطالما كان تاولو رجلا واثقا من نفسه ومتفائلا. وكانت إحدى نقاط قوّته كرسّام قدرته الفائقة على تصوير جوهر المياه الجارية، في الأنهار أو الجداول. كما كان بارعا في رسم مشاهد الشتاء. وقد صوّر انطباعاته الشخصية عن مناظر الطبيعة النرويجية وابتكر شكلا جديدا من الرسم الانطباعي. وحظيت أعماله بتقدير كبير من الجمهور النرويجي ومن الصحافة التي أشادت ببراعته وشاعرية لوحاته.
    ولو دقّقت في صوره المائية فسيلفت انتباهك إحساسه الرائع بالحركة والتدفّق. وبحسب بعض النقّاد، كان يتمتّع بفهم عميق وفطريّ للماء وكيفية تموضعه في المشهد الطبيعي. كما كان بارعا في التلاعب بحالات وخصائص الماء المختلفة. ولهذا تبدو المياه في صوره واقعية وديناميكية.
    كان تاولو أيضا من أوائل الفنّانين الذين رسموا في مستوطنة سكاين للفنّانين في النرويج. وقد أقام هناك أشهرا مع صديقه الرسّام كريستيان كروغ. وأثناء إقامته في سكاين رسم عددا من اللوحات للصيّادين والقوارب الراسية على الشاطئ.
    ومن الغريب أن تاولو غير معروف كثيرا اليوم. ولوحاته، رغم جمالها، تباع عادةً بأسعار لا تتجاوز المائة ألف دولار أمريكي، وهو سعر لا يقارَن بما يجنيه زملاؤه الأكثر شهرةً من العصر الانطباعي.
    توفّي الرسّام عام ١٩٠٦ بسبب مضاعفات مرض السكّري عن عمر يناهز التاسعة والخمسين، وذلك أثناء رحلة له إلى هولندا لرسم المدن والمناظر الطبيعية الهولندية. وتُعرض لوحاته اليوم في أهمّ المتاحف في الولايات المتحدة وفرنسا والدول الاسكندينافية.

  • Credits
    greek.mythologyworldwide.com

    الجمعة، مايو 16، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • لم يكن المصوّر الفوتوغرافي جون بلاكمور (1955 - 2010) يهتمّ بتصوير تضاريس المنظر الطبيعي، بل سعى بدلا من ذلك إلى نقل الإحساس بالطاقة والديناميكية الكامنة في المشهد الطبيعي وتأثيراته والشعور الروحي بالمكان. وكان يفضّل أن يُنظَر إليه كصانع صور وليس كمصوّر فوتوغرافي، ولهذا السبب أصبح أستاذا بارعا في حرفة التصوير الفوتوغرافي أحاديّ اللون.
    في صور بلاكمور هناك دائما شعور بالاستكشاف وعلاقة معمّقة مع الموضوع. وبالنسبة له فإن أيّ شيء قد يُثير الدهشة ويُحفّز على البحث، من الأشواك في حديقة مهملة إلى آنية من أزهار الزنبق أو النرجس الخ.
    وقبل أن يلتقط صورة، كان يجلس مغمض العينين لعشرين دقيقة تقريبا، يسمح لنفسه أثناءها بالشعور بملامسة الأرض وسماع أصوات الطبيعة التي لا تُحصى والإحساس بحركة الهواء والنموّ الطفيلي للطحالب والتحام الأشجار والصخور. وكان لهذا هدفان: التناغم مع المكان وتبديد أيّ تصوّرات مسبقة عن الصور التي يمكن التقاطها.
    صُوَر بلاكمور شخصية ومكثّفة مع صدى شعري وجمال خاص، كمثل تصويره جروح الأشجار على اللحاء المثقوب والمشوّه والأغصان المتشابكة والمعقّدة والأشجار العارية التي تحتضر بين أوراق الشجر المحيطة. وفي مناظره للبحر وشروق الشمس، ينقل المصوّر حزنا غريبا وساكنا وحادّا. ولطالما كان التصوير بالنسبة له شغفا بالاستكشاف، وقد التقط بعضا من أشهر صور المناطق البرّية في إنغلترا وويلز. ولكن مع تآكل الأرض بفعل الإنسان، لم يعد يشعر بالحرّية في البرّية، وصار يفضّل رسم مناظره الطبيعية من الحطام الذي يجده في الحدائق.
    قال ذات مرّة: قضيتُ وقتا طويلا أتأمّل الزهور، والكاميرا بعيدة عن أفكاري. واستمتعتُ بحضور الزنبق الأخّاذ. ولاحظت أن النرجس، برغم جماله الأخّاذ، يتّسم بجمود عنيد في الشكل. أما الزنبق ففي تحوّل دائم، إذ يمتدّ نحو النور ويشير إلى احتلال المكان. هذه الفترات من التأمّل والمتعة البصرية، تُعدّ دائما جزءا لا يتجزّأ من عملي، إذ تُعمِّق تجربتي وعلاقتي بالموضوع".
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • تأليف موسيقى لفيلم سينمائي مهمّة صعبة وتتطلّب كثيرا من الجهد والإبداع. يقول الموسيقيّ الألماني هانز زيمر أحد أشهر مؤلّفي موسيقى الأفلام اليوم: أوّل خطوة في مشروع تأليف موسيقى لفيلم هي أن أطلب الخروج لتناول العشاء مع المخرج، وبعد ذلك أساله عن قصّة الفيلم. وطبعا لن يقرأ عليّ النص، بل سيخبرني بالقصّة مع التركيز على الأجزاء التي يعتبرها مهمّة. من هنا، تبدأ الموسيقى بالتشكّل ونبدأ بالحديث عن الأنغام والألوان.
    وبعض الناس يظنّون أن المقطوعات الموسيقية يجب أن تكون قصيرة، لأن لا وقت للموسيقى الطويلة. وهذا كلام غير صحيح. فالناس يشاهدون البرامج التلفزيونية الطويلة. كما أن موسيقى الأفلام متفاوتة في طولها، فلحن فيلم "قراصنة الكاريبي" كاملا كان حوالي 14 دقيقة، بينما لحن فيلم "فارس الظلام" كان 22 دقيقة.
    ويضيف: كثيرا ما أستمتع بتقديم كلّ ما هو غير متوقّع. خذ "الأسد الملك" مثلا، هذا الفيلم لم يحقّق نجاحا كبيرا في شبّاك التذاكر فحسب، بل ضَمِن لي أوّل جائزة أوسكار لأفضل موسيقى تصويرية. وفيلم "المصارع" واجه عددا هائلا من المشاكل، لكن العمل عليه كان ممتعا، ولم أتوقّع أن يحقّق نجاحا باهرا. وعند كتابتي موسيقى فيلم "شيرلوك هولمز" عام ٢٠٠٩، استندتُ إلى فوضى لندن الفيكتورية وملأت الموسيقى التصويرية بإيقاعات البانجو والكمان، ما أثار قلق الاستوديو. ومع ذلك حقّق الفيلم نجاحا معتبرا.
    ويختم زيمر كلامه بالقول: يمكنك أن تقول الكثير من الأشياء السيّئة عن صناعة السينما، وكلّها صحيحة، لكنها المكان الوحيد على وجه الأرض الذي لا يزال يكلّف الملحّنين بتأليف موسيقى أوركسترالية. وإذا اختفت الأوركسترا، فسنخسر جزءا كبيرا ممّا يجعلنا بشرا، أي الإنجاز الإنساني المتمثّل في قدرتنا على الابداع. وأحد الأشياء التي أسعى إليها هو جعل أمريكا تنظر إلى نفسها من جديد، أحيانا بدهشة وأحيانا برعب".
  • ❉ ❉ ❉

  • أحيانا نسمع بعض الناس يقولون: بعد كذا سنة من الآن، سأجد الوظيفة المناسبة وستصبح ظروفي على أفضل ما يُرام. وبعدها سأتزوّج وأنجب أطفالاً. وعندما أتقاعد، سأفعل كلّ ما أريد وأعيش الحياة التي كنت أحلم بها، أسافر وأرفّه عن نفسي وآخذ الحياة بجدّية أقلّ".
    لكن مع مرور السنوات، يفقد الإنسان قوّته وصحّته والأشخاص الذين كانوا حوله. ونتيجةً لذلك، تصبح حياته كلّها انتظارا لا نهاية له. يقول أحدهم: كنت مشغولاً جدّاً بعملي لدرجة أنني كنتُ أضطرّ لتناول وجباتي بسرعة. كان كلّ همّي جمع المال والحصول على الترقية والزيادة في الراتب. الآن، غالباً لا أجد ما أفعله، لكنّني أجد السعادة عندما أحلم أو أقرأ أو أكتب أو أتحدّث مع عائلتي. قلّة المال لا تُنقِص من سعادتي، لأنني بدأتُ أعيش كلّ لحظة بمتعة وحماس".
    ذات مرّة طلب طفل من أمّه أن تقطف له بعض العنب من على شجرة. لكن الأم تردّدت في قطف العنب الأخضر وأرادت الانتظار حتى ينضج. وعندما نضج جاء الطفل ليطلبه مرّة أخرى. لكن الأم كانت قد قرّرت أن تترك العنب على الشجرة بانتظار أن تصنع منه حلوى ومربّيات.
    وعندما بدا أن كلّ شيء صار جاهزا لقطف الثمار، جاءت الطيور باحثةً عن طعامها، وهبّت عاصفة قويّة وغير متوقّعة، وأتت الشمس المحرقة على البقيّة، ولم يبقَ على الأغصان سوى القليل من العنب.
    في الواقع، ليس لدينا سوى الحاضر، أما المستقبل فبعيد المنال وفي علم الغيب.
    الحياة مثل الفصول الأربعة. الربيع له جماله الدافئ الخاص، والصيف له جماله الساخن الخاص، والخريف له جماله الناضج الخاص، والشتاء له جماله البارد الخاص. أزهار الربيع تجعل الناس يشعرون بالسعادة، والقمر في الخريف يجعلهم يشعرون بالاسترخاء، ونسمات الصيف تجعلهم يتخّففون من الحرارة، وثلوج الشتاء تجعلهم يشعرون بالانتعاش. وكلّ هذا يخلقه العقل. فإذا كنت في مزاج سيئ، فإن ما تراه وتشعر به يكون مختلفا. وكلّ مرحلة في الحياة جميلة طالما أنك تدرك كلّ ما لديك الآن.
    هناك صنف من الناس الذين يعلّقون كلّ متعهم الجيّدة على المستقبل. فهم يعتقدون أنهم يجب أن يعانوا أكثر الآن لكي يستمتعوا بالأيام الجميلة القادمة، لكنهم لا يعرفون كيف يستمتعون بالحاضر وينسون أن القلق المستمرّ بشأن المستقبل يمكن أن يؤدّي إلى فقدان الصحّة أو حتى الحياة، وأن الحاضر هو كلّ ما لدينا.
    الأشياء في هذا العالم لا يمكن التنبّؤ بها. فنحن لا نعلم إن كنّا سنستيقظ غدا بعد أن نمنا، ولا نعلم ما إذا كنّا سنعود إلى المنزل بأمان بعد خروجنا منه، ونعتقد أن لدينا عمراً كاملاً لنضيّعه. لكن في الحقيقة كلّ ما لدينا هو اليوم فقط. والشيء الذي نحتاج إلى التفكير فيه أكثر من أيّ شيء آخر هو كيف نعيش حياتنا بشكل جيّد في هذه اللحظة.
    أن تجعل كلّ لحظة من حياتك رائعة وذات معنى هو أسلوب الحياة الذي ينبغي أن يتمتّع به كلّ واحد منّا. لذا لا تعش حياتك في حالة انتظار إلى ما لا نهاية!

  • Credits
    dewilewis.com
    hans-zimmer.com

    الأربعاء، نوفمبر 13، 2024

    أيّام في حياة دوستويفسكي


    كثيرا ما نميل الى رسم صور ذهنية للكتّاب الذين نقرأ لهم. وأظنّ أن الصورة التي يقدّمها فيلم "26 يوما في حياة دوستويڤسكي" هي أقرب ما تكون لصورة الكاتب كما انطبعت في ذهني عن شخصه وكتاباته. وليس من المبالغة القول إن هذا الفيلم يُعتبر هديّة مثالية للذين يقدّرون الكاتب الروسي الكبير وفنّه.
    المعروف أن سيرة حياة دوستويڤسكي كانت موضوعا للعديد من الأفلام، خاصّة الروسية. لكن ما يميّز هذا الفيلم بالذات أن المخرج، واسمه ألكسندر زاركي، تعمّد فعل شيء مختلف عندما قدّم دوستويڤسكي على سجيّته ودون تضخيم أو توقير مبالغ فيه، لكن بمراعاة واحترام.
    أما أداء الممثّل الذي جسّد شخصية دوستويفسكي، واسمه أناتولي سولونيتسين، فيقصر عنه الوصف بالكلمات، وهو في الحقيقة لم يكن يمثّل بل تقمّص الشخصية بعمق وإتقان.
    أفلام السيرة تتناول عادةً حياة الشخص من ميلاده وحتى وفاته. لكن مخرج هذا الفيلم اختار أن يركّز على تلك الفترة القصيرة المذكورة في عنوان الفيلم، والتي كانت أكثر فترات حياة دوستويڤسكي صعوبةً وقتامةً.
    في ذلك الوقت من عام 1866، كان ما يزال كاتبا غير معروف نسبيّا. وكان على وشك إكمال روايته "المقامر". كما كان مثقلا بالديون التي لم يتمكّن من سدادها. كان أيضا يعاني من الاكتئاب الذي هاجمه بعد فقدان زوجته وموت شقيقه الذي كان مقرّبا منه كثيرا.
    والفيلم يعيد بناء الرواية لإظهار أوجه التشابه بين وقائعها وحياة الكاتب نفسه. فبطل "المقامر" شخص مهووس بالقمار ومستعدّ للمخاطرة بكلّ شيء من أجل علاقة حبّ استغلالية ولإشباع إدمانه القهري للعبة الروليت.
    ودوستويڤسكي المهووس بالمقامرة والذي خسر كلّ أمواله في رحلة إلى كازينو ومنتجع في ألمانيا، يقامر بعمله في عقد يوقّعه مع ناشر محتال. وقد وضع هذا الناشر دوستويڤسكي أمام خيار صعب، فإمّا أن يسلّمه مخطوطة روايته قبل نهاية شهر نوفمبر من ذلك العام أو سيكون من حقّ الناشر أن يحصل على حقوق نشر الرواية بشكل قانوني.
    ودوستويڤسكي لا يستسلم لذلك الشرط التعاقدي المجحف ويرى فيه محاولة ابتزاز واضحة. ويقرّر أن عليه أن يكتب بجدّ ونشاط ليكمل الرواية ويسلّمها قبل الموعد النهائي. ولتسريع وتيرة عمله، يبادر للاستعانة بكاتبة اختزال. ومع مرور الوقت، يكتشف أنه يحتاج إلى صحبة المرأة أكثر من خدماتها الفنّية. وفي الوقت القليل المعطى له، ينجح فعلا في إنهاء الرواية قبل الموعد المحدّد، وتنشأ بينه وبين مساعدته علاقة حبّ، وسرعان ما تصبح زوجته وصديقته المخلصة.


    الممثّل سولونيتسين نجح كثيرا في تقديم شخصية دوستويڤسكي ببراعة متناهية. فهو لا يشبهه بالملامح فقط، بل يجسّد أيضا بعضاً من سمات الكاتب الكبير كما يتخيّلها قرّاء رواياته، أي الشخص العصابي والعاطفي والكئيب والمتواضع والغاضب والساخر والعفوي والعطوف والمتقلّب.. الخ.
    وقد فاز سولونيتسين بجائزة الدبّ الفضّي لأفضل ممثّل من مهرجان برلين السينمائي الدولي الحادي والثلاثين عام 1981 عن لعبه دور دوستويڤسكي. وتَصادفَ ذلك مع مناسبة الذكرى المئوية الأولى لوفاة الكاتب الكبير في فبراير 1881.
    كان أداء سولونيتسين لدور دوستويڤسكي هو دوره ما قبل الأخير قبل وفاته. وقد اشتهر في الغرب بأدواره في العديد من أفلام اندريه تاركوڤسكي، مثل "سولاريس" و"ستوكر" و"المرآة"، بالإضافة الى لعبه الدور الرئيسي في فيلم "أندريه روبليڤ".
    في كتابه "النحت في الزمن"، يذكر تاركوڤسكي أن سولونيتسين هو ممثّله المفضّل ويمتدح قدرته على تنفيذ أفكاره كمخرج بأفضل صورة. كان لدى الاثنين كيمياء مشتركة وشكّلا ثنائيّا فريدا من نوعه، وأنتج تعاونهما بعض أهم روائع السينما الروسية. وكان يشعر بالغيرة عندما يضطرّ ممثّله المفضّل للعمل مع مخرجين آخرين. لكن كلّما فكّر في إخراج فيلم جديد، كان يصرّ على أن يكون سولونيتسين جزءا منه.
    وعندما فكّر تاركوڤسكي في صنع فيلم مقتبس من رواية دوستويڤسكي المشهورة "الأبله"، أبدى سولونيتسين استعداده لإجراء جراحة تجميلية كي يبدو أكثر شبهاً بالكاتب الكبير. وكان يُفترض أن يلعب سولونيتسين الدورين الرئيسيين في كلّ من فيلمي "نوستالجيا" و"التضحية". لكنه توفّي قبل إنتاجهما متأثّرا بسرطان الرئة في عام 1982 عن عمر يناهز 47 عاما. وكان قد أُصيب هو وتاركوفسكي بالمرض بعد تعرّضهما لموادّ كيميائية سامّة في موقع تصوير فيلم "ستوكر".
    الكثير من روايات دوستويڤسكي تحوّلت الى أفلام سينمائية، مثل "الجريمة والعقاب"، و"الاخوة كارامازوف"، و"رسائل من تحت الأرض"، و"الليالي البيضاء"، و"المقامر" وغيرها.
    كما كان لفلسفته وأفكاره الوجودية تأثير كبير على أعمال بعض أبرز صنّاع السينما المعاصرة. ويظهر هذا التأثير بوضوح في أفلام مثل "حافّة السكّين" لإدموند غولدنغ، و"لصوص الدرّاجات" لفيتوريو دي سيكا، و"المترصّد" لأندريه تاركوفسكي، و"الختم السابع" لإنغمار بيرغمان، و"الأبله" لأكيرا كوروساوا وغيرها.

    Credits
    dostoevsky.org
    theseventhart.info

    الأحد، نوفمبر 03، 2024

    سينما ياسوجيرو أوزو


    فلسفة التسامي حاضرة في الفنّ منذ زمن بعيد. وتعبيراتها تشمل الكتب المقدّسة والأيقونات الرومانية والمنحوتات الإغريقية وحدائق الزِن وغيرها. ومع ذلك، قد يبدو تعبير التسامي في السينما مستغربا الى حدّ ما، على أساس أن السينما فنّ دنيويّ في الاساس.
    مفردة التسامي نفسها ملتبسة. لكنها، في معناها العام، تشير الى الارتقاء إلى أفق أبعد، كالارتباط العميق بالآخرين أو بالطبيعة. ويمكن أن تعني الاقتراب من الله أو من أيّ نوع من القوى الخارقة. وهناك من يرى ان الأسلوب المتسامي يمكن أن يعبّر عن حالة روحية من خلال السرد المثير للذكريات والارتباطات والتصرّفات الخالية من الوعي الذاتي.
    بعد الحرب العالمية الثانية، بدأ صنّاع الأفلام يدركون الإمكانات الحقيقية للفيلم الزمني. فقد افترضوا أنه مثلما يمكن لفيلم الحركة أن يخلق تشويقا، فإن السينما الزمنية "أو المتسامية" يمكن أن تُلهم حالة من الاستبطان والتأمّل الذاتي، باستخدام بعض الجماليات كالموسيقى التصويرية البسيطة واللقطات الطويلة والبطيئة والإطارات الثابتة ونسَب الشاشة والألوان المعدّلة والزوايا الواسعة وخلافها.
    والفيلم المتسامي، بتصويره للحياة اليومية، قد يخدع المشاهد بدفعه للاعتقاد أن الفيلم لا يتعامل مع أيّ شيء خارج عن المألوف، وفي الوقت نفسه بتلميحه إلى أنه قد يكون هناك معنى أعمق وراء تصوير الأشياء. وبينما في الواقعية الجديدة تصبح الحياة اليومية هي غاية في حدّ ذاتها، فإنها في الأسلوب المتسامي خطوة نحو شيء أعظم.
    وبحسب بعض النقّاد، فإن أوّل مخرج للأفلام الزمنية "أو المتسامية" كان الياباني ياسوجيرو أوزو (1903-1963) الذي ضمّن أفلامه تأمّلات ذاتية من خلال استخدام الصور المتكرّرة والبطيئة.
    و أوزو يُعتبر واحدا من كبار صنّاع الأفلام اليابانيين في جيله. وطوال حياته المهنية، تخصّص في سرد قصص عن عائلات الطبقة المتوسّطة اليابانية. وقد نشأ هذا المخرج في أسرة يابانية تقليدية، تحيطه قيم وتقاليد ثقافة الزِن التي ترى انه من خلال التركيز على الأمور الدنيوية يمكن للمرء بلوغ التنوير. وظَهر هذا المفهوم في جميع أفلام أوزو التي تغلِب عليها الوتيرة البطيئة والنبرة القاتمة.
    وقد أخرج أكثر من خمسين فيلما بنفس الرؤية الصعبة والنادرة. وأفلامه متشابهة فهي لا تحتوي على أيّ حبكة تقريبا، وجميعها تصوّر الحياة البسيطة التي تُعلّمها فلسفة الزِن وتتناول الصراع بين الأجيال والزواج والعلاقات وما الى ذلك.
    كانت أفلام أوزو دقيقًة ومفصّلة، ولا غرابة انه ما يزال لغزا حتى اليوم. ويقال ان أحد الأسباب التي تجعل الغربيين يميلون إلى النظر اليه كمخرج غرائبي هو أن الثقافة اليابانية نفسها غريبة بالنسبة لهم. وأوزو نفسه يوصف أحيانا بأنه "المخرج الأكثر يابانيةً في كلّ العصور".
    كان أوزو يأمر ممثّليه بتقديم أداء متواضع، على أساس أن البساطة والدقّة يمكن أن تنقل المشاعر العميقة بشكل أكثر فاعلية من الدراما الصريحة أو المتكلّفة. وتركيزه على البساطة والدقّة والعمق في الحياة اليومية يجعل من أفلامه مصدرا مستمرّا للإلهام والتعلّم.
    اليابانيون يستخدمون مفردة "ما" التي تعني الفراغ، لكن هذا الفراغ ليس خواءً، بل فراغ له معنى الامتلاء. وفي ثقافة الزِن، لا يمثل الفراغ غياب شيء ما، بل يُعتبر جزءا من الكمال. وفي أفلام أوزو، هذا الفراغ واضح في الحوار واللقطات والصوت. والمساحات الفارغة في أعماله تتحدّث كثيرا وتعلمّنا عن قوّة ما لا يُعرض وتشجّع المشاهد على التفاعل بشكل أعمق مع المشهد.
    وفي أفلامه، لا توجد أشباح ولا ماضٍ، فقط الحاضر. وحتى عندما تُبدي الشخصيات حنيناً إلى الماضي، فإنها لا تتوق إلى الماضي نفسه، وإنما تعمل بطريقة ما على توسيع الحاضر.
    من أشهر أفلام ياسوجيرو أوزو وأكثرها احتفاءً فيلم "أواخر الربيع" من عام 1949. وتدور أحداث الفيلم حول حياة أب وابنته. الأب يعمل باستمرار ويعيش بسلام مع ابنته التي تستمتع بالتجوّل في المدينة وطهي الوجبات ورعاية والدها. وعندما تقرّر شقيقة الأب ترتيب زواج لابنته الشابّة، تبدأ المشاكل. فهي في منتصف العشرينات، والزواج كما تراه هو موت لهويّتها كابنة وكإنسانة. ومع ذلك، لا يكون أمامها من خيار سوى الموافقة على طلب عمّتها بالزواج.


    وإذا كانت هذه الحبكة تبدو لك مملّة، فذلك لأنها مملّة بالفعل. ووفقاً للنقّاد، فإن غياب الحبكة يشكل عنصراً أساسياً في أفلام أوزو. وبسبب هذا الغياب، يتمتّع المشاهد بالمساحة الكافية للاستمتاع بالصور البصرية الواسعة والتأمّل فيها. وربّما تكون لقطات أوزو المتجمّدة هي الأكثر غموضاً في تاريخ السينما. فهي تجهّز المشاهد لشيء ما على وشك الحدوث، كما تُظهِر مرور الوقت ووحدة الإنسان والطبيعة وعالمية التجربة الإنسانية.
    وفي هذا الفيلم أيضا، تظهر لقطة لمزهرية في لحظة حاسمة عندما تبدأ الإبنة في قبول حتمية زواجها. وبدلاً من التركيز على تعبيرات وجهها أثناء هذا التحوّل، يعطّل أوزو رحلة السرد ويستبدلها بصورة المزهرية الموضوعة أمام نافذة شبكية مع ظلال متمايلة لأشجار خيزران. وقد أراد المخرج بهذه الحركة غير المألوفة حثّ المشاهد على تخيّل مشاعر الفتاة بوضع نفسه مكانها. وعندما تعود الكاميرا إلى وجهها وهي على وشك البكاء، يختبر المتلقّي طبيعة هذه العاطفة بنفسه.
    نقّاد السينما تنافسوا في تقديم تفسيرات أخرى لظهور المزهرية في هذا الفيلم. بعضهم رأى أنها تثير تأمّلا أعمق في زوال الحياة، بينما قال آخرون إن المزهرية تمثّل تأمّل الزِن في التغيير وعدم الثبات. وهناك من قال إن المزهرية عنصر تعسّفي أراد به المخرج منع المشاهد من هدر عواطفه في المشهد بشكل مبالغ فيه.
    وبشكل عام، يمكن أن تحمل المزهرية في هذا الفيلم معاني مختلفة ومتفاوتة. ووجودها في الفيلم يوضّح براعة أوزو في التقاط المشاعر والعلاقات الإنسانية المعقّدة. ومن خلال هذا التفصيل البسيط، يدعونا إلى التأمّل في حتمية التغيير والطبيعة الزائلة للحياة. وبينما يجتهد المتلقّون في تفسيراتهم، يتعرّفون أكثر على أسلوب أوزو المتفرّد في صناعة الأفلام وقدرته الكبيرة على إشراك المشاهدين بل وحتى استفزازهم وإرباكهم.
    وقد لاحظ بعض السينمائيين أن بُنية أيّ فيلم لأوزو هي بنية دائرية، بمعنى أنه إذا ظهرت شخصية في بداية الفيلم فستظهر أيضا في نهايته. وهذا البناء الدائري هو أحد الأسباب العديدة التي تجعل أفلامه "مقنعة شعورياً". وعندما يحدث "الفعل"، حتى لو كان مجرّد حديث بين شخصين، فإنه يحدث عادةً في منتصف المشهد وتظلّ الكاميرا في الغرفة حتى بعد مغادرة الشخصيات لها.
    والصراع الكبير في أفلام أوزو هو صراع بين البيئات أو الأجيال. ففي البيئة الجديدة لا يستطيع الآباء قضاء وقت كافٍ مع أطفالهم، ولا ترغب الإبنة في تكوين أسرة وعيش حياة مستقلّة. وكلّ هذه تجليّات لمشكلة واحدة تتمثّل في أن اليابانيين المعاصرين لا يستطيعون التعايش مع محيطهم وطبيعتهم.
    سينما أوزو معروفة بعالميّتها وبقدرتها على جذب الجمهور الأجنبي بطريقة لا توصف. وبفضل توظيف أسلوبه المتسامي أو المتأمّل، يمكن للقطة بسيطة لآنية أزهار أن تجعل شخصا يشعر بالحزن، وللقطة لجبل أن تجلب الهدوء، وللقطة داخل غرفة أن تشرح المزيد عن ثنائية الأجيال التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية.
    وفي جميع أفلام أوزو، يبدو المجتمع الياباني في حالة صراع بين ثقافة الزِن والقيم الغربية. وهذا أمر طبيعي إذا ما أخذنا في الاعتبار الحياة الشخصية لأوزو وتأثيرات الزِن على أفكاره.
    وخلال مسيرته كمخرج والتي التي امتدّت لأكثر من ستّة عقود، عاش أوزو حياة طبيعية نسبيّا، لكنه لم يتزوّج أو ينجب أطفالا. وقد خدم في جيش بلاده أثناء الحرب العالمية الثانية وعاش مع والدته حتى وفاتها. وعلاقته بوالدته وذكرياته عن الحرب واضحة في أفلامه.
    يقول أحد النقّاد: إن مشاهدة أفلام أوزو أشبه بحضور معرض لفنّان عظيم. فكلّ لوحة مختلفة، ولكن كلّ واحدة منها هي بوضوح نتاج نفس اليد. كان يتعمّق في قلوب وعقول شخصياته حتى نشعر أننا نعرفهم عن قرب. وكلّما شاهدت له فيلماً، شعرت بالهدوء وبأن كلّ شيء في هذا العالم سيكون على ما يرام بطريقة أو بأخرى ومهما كانت الظروف. ويضيف: إن أسلوب أوزو المتسامي لا يقرّبني من الله أو الدين بالضرورة، بل يجعلني أدرك استمرارية الحياة والتدفّق الأبدي للكون، وهذا أفضل ما يمكن أن يقدّمه فيلم على الإطلاق".
    في الفترة الأخيرة من حياته صقل أوزو فنّه كثيرا لدرجة أنه لم يعد يبدو فنّا على الإطلاق. ويمكنك أن تجد صدى لأعماله وفلسفته في أعمال مخرجين آخرين مثل اندريه تاركوفسكي وبريسون وأنجيلوبولوس وشريدر وعبّاس كياروستامي وغيرهم.

    Credits
    nippon.com
    sensesofcinema.com

    الأحد، سبتمبر 08، 2024

    الشعر الأسود


    "الشعر الأسود" واحدة من أربع قصص منفصلة يتضمّنها الفيلم الياباني "كايدان" من إخراج ماساكي كوباياشي (1964). وتبدأ القصّة بمشهد لمحارب ساموراي يمرّ بوقت عصيب، إذ يجد نفسه فجأة بلا عمل في كيوتو، العاصمة القديمة لليابان. ونرى زوجته المحبّة والوفيّة وهي تعمل بجدّ في النسج على نول في منزلهما من أجل تحسين معيشتهما.
    لكن الساموراي الزوج لديه خطط أخرى، ويريد أن يترك زوجته بحثا عن مراعٍ أكثر خضرة. ويرفض بقسوة توسّلات الزوجة له بأن يبقى الى جوارها. ويبحث الساموراي عن امرأة أخرى ثريّة توفّر له المكانة ووظيفة مرموقة مع الحاكم. وفعلا يجد الزوجة الثريّة التي يبحث عنها. لكن زوجته الجديدة لا تشبه زوجته السابقة. فهي أنانية وقاسية ولامبالية ومتغطرسة.
    وتمرّ سنوات، يتذكّر خلالها بحنين زوجته الأولى التي اعتادت العمل باستمرار حتى يتمكّنا من العيش بسعادة. وبعد أن أدرك أنه ما يزال يحبّها وعرف مدى ظلمه لها ونكرانه لجميلها، أصبح يملؤه الأسى والندم وهجَرَته راحة البال. وفي بعض الأحيان كانت زوجته السابقة تظهر له في أحلامه وهي جالسة وحدها في الغرفة الصغيرة من المنزل المتهالك الذي تركه وراءه وهي تخيط الملابس، بينما تكفكف دموعها بأكمامها الممزّقة.
    وتغضب الزوجة الثانية عندما تعلم أن زواج الساموراي منها كان من أجل ثروتها وتلاحظ بحنق شوقه المستمرّ لزوجته السابقة. وذات يوم، تشعر بالملل وتجده نائما وتحاول تقبيله، لكنه يبعدها عنه، فتصفعه مستاءة من أنانيّته وتَذكّره المستمرّ لزوجته الأولى.
    وتطالبه وصيفات الزوجة الثانية بالتصالح معها، لكنه يرفض ويؤكّد على نيّته العودة الى زوجته القديمة وإصلاح علاقته بها. وتمرّ سنوات أخرى قليلة قبل أن يتمكّن الساموراي من إعفاء نفسه من خدمته للحاكم المحلي.
    ثم يقرّر أن عليه الآن أن يسرع للذهاب إلى كيوتو للبحث عن زوجته الأولى. وفي وقت متأخّر من الليل، يصل إلى حيث كان يعيش مع زوجته. كانت المدينة صامتة كالقبور، لكن القمر كان ساطعا ومشرقا، ما سهّل العثور على المنزل الذي بدا متهالكا ومهجورا، لدرجة أن العشب الطويل نبت في كلّ مكان ولم يوفّر حتى سطح البيت. وطرق الساموراي الباب، لكن لم يكن هناك أي ردّ، فدفع الباب لفتحه ودخل.
    كانت الرياح الباردة تهبّ بقوّة وضوء القمر يسطع في الغرفة الأمامية من البيت، ولم يكن هناك أيّ علامة على وجود أيّ شخص بالداخل. لكن عندما اقترب الساموراي من الغرفة الخلفية التي كانت زوجته تستخدمها عادةً كغرفة معيشة، رأى ضوءا ينبعث من داخلها. ولمّا فتح الباب، رأى زوجته تجلس هناك وهي تخيط على ضوء شمعة. كانت ما تزال شابّة وجميلة، ولم تتغيّر كثيرا عن اليوم الذي تركها فيه.
    ولما رأته، هبّت واقفة ورحبّت به وتصرّفت معه كما كانت تتصرّف في الماضي. وبدت متسامحة وغير مبالية بخيانته لها وهجره إيّاها. كان يعرف أن قلبها كبير كما في الماضي، بدليل أنها تجاهلت اعتذاره ووعدت بإصلاح الأمور. وذكرت له أن كيوتو تغيّرت وأنهما "لن يمضيا معاً سوى لحظة"، لكنها لم تشرح ما قصدته. ثم أكّدت له أنها تتفهّم سبب تركه لها وأنه إنما كان يسعى لجلب دخل إضافي للبيت.
    ثم يتحدّثان عن حياتهما ويخبرها الساموراي عن حاله في سنوات غيابه، ويطلب منها المغفرة ويتعهّد لها بأن يعيشا معا طوال ما تبقّى لهما من عمر. ثم يقتربان من بعضهما البعض، وعندما تُريح وجهها على صدره، يداعب شعرها الطويل برفق ويلاحظ أنه نفس الشعر الأسود اللامع وأن رائحته لا تزال كما كانت من قبل.
    ثم يرتّبان معا فراشهما في الغرفة التي ناما فيها معا أوّل مرّة بعد الزواج، وتقوم هي بتجهيز السرير وتغطيته بالكيمونو الأحمر. وبعد ذلك تنطفئ الأضواء ويبدو الساموراي وكأنه لا يزال منعّما بحظّه السعيد الحالم المتمثّل في اجتماع شمله مرّة أخرى بزوجته الطيّبة والوفيّة دون أن يضطرّ لبذل الكثير من الجهد.


    وفي الصباح يستيقظ راضيا مبتسماً، لكنه سرعان ما يشعر بالصدمة والارتباك عندما يجد نفسه مستلقيا على أرضية خشبية مهترئة في خرابة مهجورة وموحشة تغطّيها الأعشاب الضارّة. وفي غمرة إحساسه بالحيرة والذهول، يتّجه نحو زوجته التي ترقد مغطّاة بالكيمونو الأحمر.
    وبينما يسحب الكيمونو، يصاب بالصدمة عندما يدرك أنه كان نائما طوال الليل مع جثّة زوجته التي لم يبقَ منها سوى هيكلها العظمي وبقايا شعرها الطويل. كانت مجرّد جثّة امرأة ذات شعر أسود طويل ملفوفة في ثيابها.
    وهنا يشعر الساموراي بالهلع ويركض عبر غرف وفناء المنزل المهجور على غير هدى ويحاول الاختباء خلف جدار. وفي هذه الأثناء، ينفصل الشعر الأسود الطويل عن الهيكل العظمي ويطارده للانتقام منه. كان يجري بسرعة بين الأعشاب الضارّة والمتضخّمة وجدران البيت المتشقّقة، يتبعه الشعر الأسود الذي يهاجمه بلا هوادة. ويبحث الرجل يائساً عن منفذ للهروب، لكن الشعر يطارده ويلتفّ عليه ويلقيه أرضا.
    وعندما يبلغ الشارع المجاور وهو على تلك الحالة من الخوف والصدمة، ينظر داخل بركة ماء على الطريق ليجد أنه كبُر فجأة وشاب قبل الأوان وأصبحت ملامحه مخيفة. ثم يلتقي رجلا غريبا في الطريق ويسأله إن كان يعرف أحدا من ساكني ذلك البيت. فيجيب: لا يوجد أحد في هذا المنزل. كان في الأصل ملكا لساموراي وقد غادر المدينة قبل سنوات بعد أن طلّق زوجته من أجل أن يتزوّج أخرى. وبعد سفره، عانت زوجته كثيراً ومرضت. ولم يكن لها أقارب في كيوتو ليعتنوا بها. وتوفّيت في خريف ذلك العام الذي رحل فيه زوجها، في العاشر من سبتمبر".

    ❉ ❉ ❉

    في قصص الأشباح في الشرق، وخاصّة في اليابان، هناك خصوصية ثقافية للشبح ذي الشعر الأسود، إذ يرمز الى انتشار الظلم الذي تتعرّض له النساء في البيئات الأبوية والمحافظة. وفي الشرق أيضا، يمثّل الشعر الطويل جمال المرأة وشرف كلّ من النساء والرجال، وأحيانا يحمل بعدا آخر هو الانتقام.
    وغالبا ما يكون الدافع وراء الأشباح الأنثوية هو الغضب وسعي النساء للانتقام لموتهن غير المستحقّ وغير المبرّر. والمخرج كوباياشي في هذا الفيلم يكرّس تلك الصورة، بتناوله الطبيعة الانتقامية لروح الزوجة التي يتحوّل شعرها الأسود الطويل الذي أحبّه زوجها كثيرا إلى روح شيطانية تطارده وتلتفّ حول وجهه ورقبته وتدفعه إلى الجنون.
    المخرج الياباني الآخر أكيرا كوروساوا له فيلم عنوانه "أحلام" من عام 1990، ويتكوّن من قصص لثمانية أحلام. في أحد تلك الأحلام، وعنوانه "النفَق"، يظهر قائد سريّة يابانية وهو يسير على طريق مهجور عند الغسق، في طريقه إلى منزله بعد مشاركته في الحرب العالمية الثانية. ويصل القائد إلى نفق كبير ومظلم ويعبره متبوعا بشبح أحد جنوده الذي توفّي بين ذراعيه متأثّرا بجراحه.
    ويبدو الجندي القتيل وكأنه غير مصدّق أنه مات. ثم يشير إلى ضوء منبعث من منزل على سفح جبل قريب على أنه منزل والديه. ويشعر الجنديّ بالحزن الشديد لأنه يعلم أنه لا يستطيع رؤية أهله مرّة أخرى. لكن القائد يقنعه بأن يعود الى النفق ويتقبّل مصيره.
    ثم يخرج من النفق مجموعة من الجند التابعين للقائد يقودهم ملازم شابّ. ويتوقّفون وهم يرفعون أسلحتهم لتحيّته بأعين زائغة ووجوه تعلوها زُرقة. ويحاول القائد أن يقنعهم أنهم ماتوا بعد أن قُتلوا جميعا في الحرب، معترفا أنه هو نفسه المسؤول عن إرسالهم إلى معركة عبثية، بينما يقفون هم صامتين. وينهار القائد حزنا وأسى على مصيرهم. ثم يأمرهم بالاستدارة والعودة الى النفق والرضا بقدَرهم، فيفعلون.
    وفي الكثير من الأفلام اليابانية، عندما تظهر أشباح لأشخاص قُتلوا ظلما، فإنهم يكونون مليئين بالكراهية وروح الانتقام، لأن إرادتهم في الحياة سُحقت دون وجه حقّ وماتوا دون أن يختاروا ذلك المصير.

    Credits
    journals.kpu.ca

    الاثنين، مايو 27، 2024

    الفانتازيا وسيكولوجيا الهروب


    في عالم مليء بالضغوط اليومية والمسؤوليات والشكوك، يلجأ الكثير من الناس إلى عالم الخيال كوسيلة للهروب من انشغالات الحياة. وسواءً كان ذلك من خلال الأدب أو الأفلام أو ألعاب الفيديو أو غيرها من أشكال الترفيه، فإن جاذبية الدخول إلى عالم مختلف، حتى لو كان ذلك مؤقّتا، لا يمكن إنكارها أو التقليل منها.
    هذه الظاهرة المعروفة باسم الهروبية escapism، هي جزء متأصّل من علم النفس البشري. ولكن ماذا يحدث عندما نغوص في هذه العوالم الخيالية؟ كيف يؤثّر التعامل مع الخيال على إدراكنا للواقع وقدرتنا على مواجهة تحدّيات العالم الحقيقي؟
    يوفّر الهروب ملاذاً آمناً من تجارب ومحن العالم الحقيقي. فهو يسمح للأفراد بالانفصال مؤقّتا عن مشاكلهم وهمومهم، ما يوفّر لهم فترة راحة هم في أمسّ الحاجة إليها. هذا الهروب المؤقت إلى عالم الخيال يمكن أن يكون بمثابة شكل من أشكال الرعاية الذاتية أو الإجازة الذهنية.
    وعندما نغمر أنفسنا في هذه الحقائق البديلة، فإننا غالبا ما نكتسب شعورا بالدهشة والإثارة والفضول الذي يمكن أن يساعدنا على إعادة ضبط أنفسنا وتجديد حياتنا. وبهذا المعنى، فإن التعامل مع عوالم الخيال يمكن أن يكون له تأثير علاجيّ مفيد لصحّتنا النفسية والعقلية.
    وأحد الجوانب الرائعة للهروب هو قدرته على إثارة استجابات عاطفية عميقة. فعندما نتابع رحلات الشخصيات المعقّدة في أماكن خيالية، نصبح منغمسين عاطفيّا في صراعاتهم وانتصاراتهم وعلاقاتهم. ويمكن أن يؤدّي هذا الارتباط العاطفي إلى التنفيس والتطهّر، ما يسمح لنا بمعالجة وتحرير المشاعر المكبوتة من حياتنا.
    وعلاوة على ذلك، يمكن للهروب من الواقع أن يعزّز التعاطف من خلال غمرنا في حياة وتجارب شخصيات من خلفيات وظروف متنوّعة. ويمكن لهذا التعاطف أن يمتدّ إلى ما هو أبعد من عالم الخيال، ما يؤثّر على تفاعلاتنا ومواقفنا في العالم الحقيقي.
    ومع ذلك، هناك خيط رفيع بين الهروب الصحّي والانفصال المفرط عن الواقع. فالإفراط في الانغماس في الخيال يمكن أن يؤدّي إلى سلوك التجنّب، حيث يهمل الأفراد مسؤولياتهم وعلاقاتهم في العالم الحقيقي. ومن الضروري تحقيق التوازن بين الهروب إلى الخيال ومواجهة تحدّيات الحياة بشكل مباشر.
    علاوة على ذلك، لا يمكن الاستهانة بتأثير الخيال على تصوّراتنا للواقع. ويمكنه تشكيل معتقداتنا وقيمنا وتطلّعاتنا وإلهامنا الدروس المستفادة من هذه العوالم الخيالية على حياتنا. وهكذا فإن فهم سيكولوجية الهروب ليس أمرا محبّذا فحسب، بل إنه أمر بالغ الأهميّة أيضا للحفاظ على وجود متوازن ومُرضٍ.
    إن سيكولوجية الهروب هي شهادة على قدرة الإنسان على الإبداع والتعاطف والمرونة. ومن خلال الخوض في عوالم الخيال، فإننا نتنقّل في العلاقة المعقّدة بين أنفسنا الداخلية والعالم الخارجي. وعندما يتمّ التعامل مع الهروب من الواقع بشكل مدروس وباعتدال، فإنه يمكن أن يوفّر العزاء الذي نحتاج إليه والتحرّر العاطفي والنموّ الشخصي.
    إنه يذكّرنا أنه على الرغم من أن الواقع قد يكون مليئا بالتحدّيات، إلا أن الخيال يمكن أن يوفّر ملاذا قيّما يرشدنا إلى الخروج من مغامراتنا الخيالية بحكمة مكتشفة حديثا ومنظور متجدّد للعالم من حولنا.
    إن الناس يحبّون روايات وأفلام الفانتازيا لعدّة أسباب. فهي أوّلا تقدّم عوالم غنيّة ومفصّلة وشخصيات مقنعة وقصصا ملحمية عن الخير والشرّ. كما ان لها صورها المذهلة وموسيقاها ومؤثّراتها الخاصّة والرائعة. وبالإضافة إلى ذلك، يقدّر العديد من المعجبين بها موضوعات الصداقة والشجاعة والتضحية التي تتضمّنها. كما أن الأفلام تبثّ الحياة في كتب الكتّاب المفضّلين بجلبها إلى الشاشة الكبيرة.


    القصّة الفانتازية ليست مجرّد بحث او كشف، فلها بعد روحيّ أيضا. قصّة غلادريل في "سيّد الخواتم"، مثلا، هي إشارة إلى القصّة الدينية عن الابن الضّال. والابنة الضالّة ستعود أخيرا إلى المنزل وتلتقي بأبيها فينارفين بعد سبعة آلاف عام من المنفى. وماذا يكون سورون غير الشيطان مجسّدا؟
    قصّة "سيّد الخواتم" تقدّم للجمهور هروبا من كلّ ما قد يحدث لهم في حياتهم. وهذا هو السبب الأوّل لشعبية القصّة. والسبب الثاني هو الاحتمالات التي يقترحها. وسواءً كان أراغورن الذي يصبح ملكا ويتزوّج من حبيبته أروين، أو سام الذي يجد الثقة والسعادة أخيرا، فإن هذه القصّة تشير إلى أن هناك طريقة أفضل ليعيش المرء حياته.
    والأمر لا يتعلّق فقط بخوض مغامرات خيالية، على الرغم من أنها محبّبة، بل بمن تذهب معه في تلك المغامرات وما الذي يمكن أن تتعلّمه منهم.
    هناك فكرة مؤدّاها أن البشر لا يشعرون أبدا بالرضا عمّا يمكنهم الحصول عليه. فنحن نريد المزيد. وعالم الخيال، كونه بلا حدود، يمنحنا ما هو أبعد من الواقع وأحيانا يتجاوز خيالنا. إننا ننبهر وتثير فضولنا الأشياء الجديدة ونعيش للحظة في الوهم الذي يجعلنا سعداء.
    إننا كبشر نستطيع أن نفعل الكثير، لكننا لا ندرك ذلك، لأنه في العالم الحقيقي لدينا حدودنا الجسدية والعقلية. لكن عالم الفانتازيا يحرضنا على دفع تلك الحدود وتوسيعها.
    لكن هناك من ينفر من الروايات الخيالية باعتبارها هروبا غير أخلاقيّ أو تراجعا كسولا أو إلهاءً ضارّا، بدلا من مواجهة تحدّيات العالم الحقيقي. لكن الحقيقة هي عكس هذا، فالناس يحتاجون إلى الهروب إلى أحلام اليقظة بين الحين والآخر. ومن الصحّي أن نأخذ استراحة قصيرة من الواقع لاستكشاف شيء آخر.
    إن الروايات الخيالية هي رحلة قصيرة بعيدا عن سجن النماذج الضريبية والتسوّق من البقالة وإصلاح السيّارة وآلاف الأمور التافهة المملّة الأخرى. إنها تنعش القارئ لبضع ساعات وتعزّزه حتى يتمكّن بعد ذلك من الاستمرار في العالم المملّ.
    ويمكن لأدب وأفلام الفانتازيا أن تقدّم إحساسا بالدهشة وأن تُلهم الإبداع وتثير الخيال، وأيضا أن تستكشف موضوعات عالمية، مثل الخير مقابل الشرّ ورحلة البطل وقوّة الخيال، والتي يمكن أن يتردّد صداها لدى الجمهور على مستوى عاطفي عميق. كما يمكن أن تكون مشاهدة أفلام الفانتازيا وسيلة للناس لتجربة الرهبة والإثارة والشعور بإمكانية تجاوز قيود الحياة اليومية.
    ومن المآخذ الأخرى لمنتقدي هذا النوع من الأدب والأفلام أن الانغماس في قصصه يمكن أن يحوّل تركيز الشخص إلى أمور أقلّ إنتاجية. كما أنه يُغري المتلقّين بتجنّب حقائق الحياة من خلال تأجيل مسؤوليات العالم الحقيقي والتهرّب من القضايا الشخصية المهمّة. وبالنسبة لهؤلاء المنتقدين، فإن الخيال يعادل أحلام اليقظة والحنين عديمة الفائدة.
    وبينما يقرّ آخرون بأن الخيال قد يشجّع على التهرّب من مشاكل الحياة الحقيقية، فإنهم يرون أن الهروب أو الانفصال عن متطلّبات الواقع يمكن أن يسهم في بناء مهارات لحلّ المشكلات، ويشجّع القراء على تخيّل أنفسهم في أدوار وسيناريوهات مختلفة ومتابعة قرارات وإجراءات بديلة. كما يرى هؤلاء أن القدرة على التخيّل هي آلية للبقاء، وأن التخيّل نفسه هو نشاط إنساني ضروري لخلق التوازن في حياة الفرد.
    ويقول بعض العلماء إن التناقض والقطبية متأصّلان في بنية الدماغ الإنساني، فأحد نصفي الدماغ عقلاني معرفي تحليلي، بينما الآخر غير عقلاني وغير لفظي وحدسي. ونحن بحاجة إلى كلا الجزأين للحفاظ على التوازن داخل رؤوسنا. وقراءة ومشاهدة قصص الفانتازيا يمكن أن تُنتج هذا التوازن العقليّ المطلوب.
    إن الحلم، واستطرادا الخيال، هو آلية أخرى لبقاء الإنسان على قيد الحياة. وقد أثبتت الدراسات العلمية أهميّته للصحّة العقلية. والدخول في حالة الحلم بشكل منتظم ينعش العقل ليتمكّن من التكيّف مع متطلّبات يوم جديد.
    وفي تجارب الحرمان من الأحلام، حيث يتمّ حرمان الأشخاص من نوم مرحلة الأحلام، يحدث التدهور العقليّ بسرعة. ولذلك فإن الخيال مهمّ للصحّة العقلية، وخاصّة بالنسبة للقارئ الشاب. إنه يوفّر له هروبا مؤقتا وإطلاق سراح. كما يساعد على زيادة القدرة على حلّ مشاكل الحياة والصراعات العاطفية.
    ونختم بكلام منسوب الى الكاتب جون توكين. يقول: الخيال مزيج مثالي من الإلهام المستمدّ من الواقع الممزوج بالخيال. إن فكرة تشغيل عقلي في كلّ اتجاه تعجبني، فهي تتيح لي معرفة حدودي ورغباتي. وحتى لو تحقّقت تلك الرغبات في الخيال، فإن ذلك يجعلني أشعر بالسعادة والرضا."

    Credits
    tolkiensociety.org
    sparknotes.com

    الثلاثاء، مايو 21، 2024

    خواطر في الأدب والفن


  • قرأت رواية "الشيخ والبحر" لإرنست همنغوي منذ سنوات عديدة، وللأسف لم أستطع إكمالها. بدت لي طويلة جدّا ومملّة الى حدّ ما. وقلت ربّما أعود إليها في وقت مؤاتٍ أكثر. ثم شاهدت فيلمين مقتبسين عن روايتين من روايات الكاتب هما "وداعا للسلاح" و"لمن تُقرع الأجراس". وقد أعجبني الفيلمان كثيرا لجمال القصّتين وبراعة الإخراج والتمثيل.
    طوال حياة همنغوي، تعرّض للإيذاء والصدمات وشاهد الناس من حوله وهم يقتلون أنفسهم ويعذّبون بعضهم بعضا. ولم يكن مستغربا أن ينقل الكثير مما رآه في الحروب والصراعات التي غطّاها كصحفي الى رواياته.
    ومع مرور الوقت أصبح الكاتب مهجوسا بالموت والانتحار، وجرّب أيضا الألم المزمن وإدمان الكحول الذي لم يتمكّن من السيطرة عليه أبدا. كما عانى من اضطراب ما بعد الصدمة بعد تحطّم الطائرة التي كان على متنها في أفريقيا وإصابته بكسر في الجمجمة مع إصابات أخرى.
    كان همنغوي كاتبا عظيما، لكن لم تُتح له الفرصة ليكون سعيدا أو ليعيش حياة طبيعية. نوع الألم الذي عاشه كان يحتاج لأجيال حتى يُشفى منه أو تخفّ آثاره. وكان سلوك همنغوي خلال سنواته الأخيرة مشابها لسلوك والده قبل أن يقتل هو الآخر نفسه.
    قيل إن والده كان يعاني من داء الصبغات الدموية الوراثي، حيث يؤدّي تراكم الحديد بشكل مفرط في الأنسجة إلى التدهور العقلي والجسدي. وقد أكّدت السجلات الطبّية أن همنغوي الابن قد شُخّصت إصابته بنفس المرض في أوائل عام 1961.
    ويقال أيضا أن شقيقه وشقيقته انتحرا لنفس السبب. وقد ازدادت صحّة همنغوي سوءا بسبب شكواه الدائمة من مضايقات المباحث الفيدرالية ومراقبتهم له باستمرار.
    كان همنغوي يلعب لعبة الحياة طوال فترة وجوده. لكنه لم يحصل على حياة سعيدة ومستقرّة. لم يفز وأسقط معه الكثير من الناس. وليس من الانصاف أن يلام على كل ما حدث له في حياته. ولنتذكّر دائما أن هذه الحياة ليست عادلة.
  • عندما نتحدّث عن الانفجار الكبير أو عن نسيج الفضاء، فإن ما نقوم به ليس استمرارا للقصص الرائعة التي كان البشر يروونها لبعضهم البعض ليلاً حول نيران المخيّم لمئات آلاف السنين. إنه استمرار لشيء آخر، نظرة هؤلاء الرجال أنفسهم في أوّل ضوء النهار وهم يتأمّلون في المسارات والآثار التي خلّفتها الظباء في غبار السافانا.
    هذا التدقيق في تفاصيل الواقع من أجل متابعة شيء لا يمكننا رؤيته مباشرة، لكن بالإمكان متابعة آثاره. وفي نفس الوقت إدراك أننا يمكن أن نكون مخطئين دائما، وبالتالي مستعدّين في أيّ لحظة لتغيير الاتجاه إذا ظهر مسار جديد. ولكن مع علمنا أيضا أنه إذا كنّا جيدين بما يكفي، فسنقوم بذلك بشكل صحيح وسنجد ما نسعى إليه. وهذه هي طبيعة العلم.
    -كارلو روڤيللي
  • كان ألفارو مونيرو أحد أشهر مصارعي الثيران في اسبانيا. وفي عام 2012، وفي خضمّ إحدى معاركه مع ثور، تاب هذا المصارع فجأة عن ممارسة هذه الرياضة العنيفة وجلس على حافّة الحلبة. وقال في إحدى المقابلات فيما بعد واصفا ما حدث له: جلست قليلا أحدّق في الثور. وفجأة لم أرَ قرونا، بل عيون حيوان. وقف الثور أمامي وبدأ ينظر إليّ. ثم وقفت لكنه لم يقم بأيّ محاولة للهجوم عليّ.
    ويضيف: البراءة التي في أعين جميع الحيوانات كانت تتطلّع إليّ في تلك اللحظة طالبةً العون. كان سلوك ذلك الثور بمثابة صرخة احتجاج واستغاثة من أجل العدالة. وفي مكان ما في أعماقي، أدركت فجأة أنه كان يخاطبني بنفس الطريقة التي نخاطب بها الله في الصلاة.
    كأنّه كان يقول: لا أريد أن أقاتلك، من فضلك اتركني، لأنني لم أفعل شيئا. اقتلني إذا أردت، لكنّي لا أريد أن أقاتلك. كنت أقرأ ذلك في عينيه، وشعرت بأنّني أسوأ وأتعس مخلوق على وجه الأرض".
    ومن تلك اللحظة قرّر مونيرو اعتزال عمله كمصارع للثيران الى الأبد. ثم توقّف عن أكل كافّة أنواع اللحوم وأصبح شخصا نباتيّا.


  • كانت نفرتيتي إحدى أكثر النساء غموضا وقوّة في مصر القديمة. وقد حكمت الى جانب زوجها الفرعون أخناتون من 1353 إلى 1336 قبل الميلاد. واتسم عهدها بالاضطرابات الثقافية الهائلة، حيث أعاد أخناتون توجيه مصر نحو عبادة إله الشمس آتون.
    نسبُ نفرتيتي غير معروف تماما. لكن اسمها مصري ويعني: لقد أتت امرأة جميلة". وبعض علماء المصريات يعتقدون أنها كانت أميرة من سوريا. لكن هناك أيضا أدلّة تشير إلى أنها كانت الابنة المصرية المولد لمسؤول في بلاط أخناتون.
    وتشتهر نفرتيتي بتمثالها النصفي الملوّن والمصنوع من الحجر الرملي، الذي يعود الى عام 1345 قبل الميلاد. وقد اكتُشف التمثال عام 1913 في بلدة تلّ العمارنة على يد فريق آثاري بقيادة عالم الآثار الألماني لودفيك بوركهارت.
    وأصبح التمثال منذ اكتشافه أحد أكثر الأعمال الفنّية استنساخا من مصر القديمة. وإلى اليوم ما يزال واحدا من أجمل الصور الأنثوية من العالم القديم. النحّاتون المصريون نادرا ما كانوا يعبّرون عن أيّ انفعال في وجوه أعمالهم الفنّية. لكن هذا الوجه يُعدّ تجسيدا للصفاء ورباطة الجأش. والمُشاهد لا ينظر إلى نموذج مثالي، بل إلى صورة منمّقة لشخص ذي مظهر ملفت وشخصية قويّة.
    وبحسب بوركهارت، تتميّز الشخصية المنحوتة برقبة نحيلة ووجه متناسق وغطاء رأس أسطواني أزرق. وقد صُمّمت عضلات القفا وجوانب الرقبة بشكل دقيق للغاية، لدرجة أن المرء يتخيّل رؤيتها وهي تنثني تحت الجلد الرقيق والألوان الطبيعية."
    كان الفريق الألماني قد اتفق مع الحكومة المصرية على تقاسم القطع الأثرية، لذلك شُحن التمثال النصفيّ كجزء من حصّة ألمانيا.
    وفي عام 1922، اكتشف عالم المصريات البريطاني هوارد كارتر مقبرة الملك توت. وتبع ذلك موجة من الاهتمام الدولي، وسرعان ما أصبحت صورة القناع الجنائزي المصنوع من الذهب الخالص لتوت رمزا عالميا للجمال والثروة والقوّة. وبعد مرور عام، عُرض تمثال نفرتيتي النصفي في برلين، في مواجهة توت عنخ آمون "الإنغليزي" لكي تستعيد ألمانيا لتمثالها بعضا من بريقه القديم.
    على جدران المقابر والمعابد التي شُيّدت في عهد أخناتون، كثيرا ما تُصوَّر نفرتيتي إلى جانب زوجها اخناتون. وفي كثير من الحالات تظهر في مواقع القوّة والسلطة وهي تترّأس طقوس عبادة آتون أو تقود عربة أو تهاجم عدوّا.
    قبل عام 2012، كان يُعتقد أن نفرتيتي اختفت من السجل التاريخي في العام الثاني عشر من حكم أخناتون الذي دام 17 عاما. وقيل إنها ربّما تكون قد ماتت بسبب إصابتها بالطاعون أو لسبب آخر. لكن في عام 2012، اكتُشف نقش من العام السادس عشر من حكم أخناتون يحمل اسم نفرتيتي ويثبت أنها كانت ما تزال على قيد الحياة. غير أن ظروف وفاتها لا تزال مجهولة وكذلك مكان قبرها.
    طوال الاضطرابات التي شهدها القرن العشرين، ظلّ تمثال نفرتيتي النصفي في أيدي الألمان. وكان هتلر يحبّ التمثال كثيرا، ونُقل عنه قوله: لن أتخلّى أبدا عن رأس الملكة". وفيما بعد أخفى الألمان التمثال في منجم للملح لإبعاده عن قنابل الحلفاء.


  • Credits
    hemingwayhome.com
    smb.museum/en

    الاثنين، أبريل 22، 2024

    رحلة في غابة العقل


    من أفضل الأفلام السينمائية التي تستحقّ المشاهدة فيلم راشومون "1950" للمخرج الياباني أكيرا كوروساوا (1910-1998). كان كوروساوا أحد أكثر المخرجين تأثيرا في تاريخ السينما وقدّم مساهمات كبيرة في تطوير السينما اليابانية والعالمية. ويمكن رؤية تأثيره في أعمال مخرجين كبار مثل سكورسيزي ولوكاس وكوبولا وغيرهم.
    امتدّت مسيرة كوروساوا المهنية لأكثر من خمسة عقود، أخرج خلالها وشارك في كتابة العديد من الأفلام الناجحة والتي نالت استحسان النقّاد والجمهور ونال عليها العديد من الجوائز المرموقة في المهرجانات السينمائية الدولية. وكان معروفا بقدرته على مزج عناصر القصص اليابانية التقليدية مع التقنيات الغربية، ما أدّى إلى ظهور أسلوب سينمائيّ فريد وقويّ ارتبط باسمه.
    "راشومون" يُعتبر بإجماع النقّاد من روائع السينما اليابانية والعالمية. وكان له تأثير كبير على تقنيات السرد القصصي والبنية السردية في السينما. عنوان الفيلم "راشومون" يشير إلى بوّابة في كيوتو باليابان، حيث تجري محاكمة ويقدّم الشهود رواياتهم المختلفة عن جريمة قتل.
    ومن خلال البناء السرديّ المبتكر، يثير الفيلم أسئلة فلسفية وسيكولوجية عميقة حول طبيعة الحقيقة والذاكرة وعدم موثوقية الإدراك وتعقيدات السلوك البشري. كما يتحدّى فكرة الواقع الموضوعي ويؤكّد على الطبيعة الذاتية والفردية لسرد القصص.
    تدور أحداث الفيلم في اليابان الإقطاعية، وتبدأ بالعثور على محارب ساموراي ميّتاً في بستان للخيزران. ثم يروي الشهود الأربعة على الجريمة إفاداتهم عمّا رأوه واحدا بعد الآخر. وبينما يسرد كلّ منهم قصّته المتعارضة مع قصص الآخرين، يتضح أن كلّ شهادة تبدو معقولة مع أنها مختلفة.
    وكوروساوا يستخدم الفيلم لإعطاء وزن متساوٍ لشهادة كلّ شخص، ويحوّل كلّ شاهد إلى راوٍ غير موثوق، من دون أيّ تلميحات حول من منهم يعطي الرواية الأكثر دقّة، وبذا لا يستطيع الجمهور معرفة الشخص الموثوق بشهادته ويُترك المتفرّج متشكّكا في قناعاته حول من أنهى حياة الساموراي.
    والبعض قد يجد هذا محبطاً لأن الفيلم يقلب التوقّعات ويرفض تقديم إجابة قاطعة أو مؤكّدة عمّا حدث. كما تفترض حبكة الفيلم ضمناً أنه عندما نتذكّر حدثا ما فإن تفسيرنا له يتأثّر بتجاربنا السابقة وتحيّزاتنا الداخلية.
    لكن أهمّ الأسئلة التي يثيرها "راشومون" هي: ما الحقيقة أصلا؟ وهل هناك حالات لا توجد فيها "حقيقة موضوعية"؟ وماذا يمكن أن تخبرنا إيّاه الروايات المختلفة لنفس الحدث؟ وكيف يمكننا اتخاذ قرارات جماعية عندما نعمل معا؟ هذه الأسئلة ليس لها إجابات محدّدة. وربّما تكون الفكرة الدائمة التي يطرحها الفيلم هي أن ترك مساحة للغموض تُعدّ قيمة مهمّة في حدّ ذاتها.
    بالإضافة إلى تجربته السردية المبتكرة، يتميّز "راشومون" أيضا بجمالياته البصرية المبهرة، إذ يساهم استخدام كوروساوا للضوء الطبيعي وحركات الكاميرا الديناميكية في إضفاء طابع دراميّ مكثّف على الأحداث.


    المعروف أن أثر هذا الفيلم قد امتدّ إلى ما هو أبعد من السينما، فاستُخدمت أداته السردية، أي تقديم وجهات نظر متعدّدة ومتباينة عن حدث ما، في الأدب والمسرح. ثم ما لبث أن ظهر مصطلح "تأثير راشومون"، الذي يصف ظاهرة التفسيرات المتناقضة لنفس الحدث وعدم موثوقية شهود العيان وقصور فهمنا للحقيقة والعدالة والذاكرة الإنسانية.
    بشكل عام، يمكن اعتبار فيلم راشومون رحلة في غابة العقل لتناوله موضوعات فلسفية عميقة واستكشافه لتعقيدات الطبيعة البشرية. كما يُعتبر عملا أساسيّا في تاريخ السينما، ليس لأنه يقدّم قصّة جذّابة ومثيرة للتفكير فحسب، وإنّما أيضا بسبب تركيبته البصرية المذهلة وسرده القويّ.
    وُلد أكيرا كوروساوا لعائلة من محاربي الساموراي، وكان لديه تقدير عميق للفنّ والثقافة اليابانية منذ شبابه. كما كان ميّالا للأدب والمسرح والفنون البصرية التي شكّلت خلفيّته الفنّية. وعُرف فيما بعد ببراعته في تصوير قصص من الحقبة الإقطاعية من تاريخ اليابان. لكنّه أيضا تعمّق في الموضوعات المعاصرة والحديثة واستكشف القضايا الاجتماعية والطبيعة البشرية وتأثير التحديث السريع على المجتمع الياباني.
    نهج كوروساوا في التعامل مع القضايا الاجتماعية وتأثير التحديث اتّسم بملاحظاته الدقيقة للسلوك البشري وقدرته على نسج روايات معقّدة. ومن خلال التفكير في المشهد الاجتماعي والثقافي المتغيّر في اليابان، التقط المعضلات والتوتّرات التي يواجهها الأفراد والمجتمع ككلّ خلال فترات التحوّل والتحديث.
    وكانت إحدى نقاط قوّة هذا المُخرج هي قدرته على خلق شخصيات غنيّة يمكن التماهي معها وتمثّل كفاح المواطنين العاديين. وكثيرا ما شَكّكت أفلامه في القيم التقليدية والأعراف المجتمعية لليابان. مثلا في فيلم "الساموراي السبعة"، تدور القصّة المحورية حول مجموعة من محاربي الساموراي الذين عُيّنوا لحماية قرية من خطر قطّاع الطرق. ويثير الفيلم تساؤلات حول أهمية ميثاق الشرف التقليدي الخاصّ بهؤلاء المحاربين.
    كما صوّر كوروساوا آثار الحرب العالمية الثانية والتحدّيات التي واجهها الشعب الياباني في فترة ما بعد الحرب. كانت اليابان وقتها مجتمعا منقسما على نفسه وفي حال من الفوضى وشيوع الفقر والجريمة وفقدان القيم التقليدية، بعد أن تركت آثار الحرب البلاد مدمّرة اجتماعيا واقتصاديا. وفي فيلم "عالي ومنخفض" يستكشف كوروساوا التناقض الصارخ بين الأثرياء والفقراء من خلال قضية اختطاف، ليعكس الفوارق الاجتماعية والاقتصادية في ذلك الوقت.
    وفي فيلم "إيكيرو"، يكتشف البطل، وهو شخص بيروقراطي، أنه مصاب بمرض عضال، ويتنقّل في النظام البيروقراطي، بينما يحاول العثور على هدف لحياته في سنوات عمره المتبقية. ويصوّر الفيلم الفوارق بين الطبقات الاجتماعية وتأثيرات عدم المساواة، بالإضافة الى التحدّيات التي يواجهها الأفراد المهمّشون في مجتمع ما بعد الحرب.
    وفي فيلم "عرش الدم" المقتبس من مسرحية "ماكبث"، ينقل كوروساوا مأساة شكسبير إلى اليابان الإقطاعية، مستكشفا التأثير المُفسد للسلطة والطموح في بيئة الساموراي التقليدية والصراعات بين القيم التقليدية والحديثة.
    ممّا يجدر ذكره أن فيلم "راشومون" تلقّى إشادة من النقّاد في اليابان وفي العالم، وفاز بجائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية السينمائي عام 1951. كما مهّد نجاح الفيلم الطريق لأعمال كوروساوا والسينما اليابانية ككلّ للحصول على التقدير العالمي.


    Credits
    akirakurosawa.info

    الجمعة، أبريل 05، 2024

    الأرض الوسطى


    إختار جون توكين ان تجري احداث ثلاثيّته "سيّد الخواتم" فيما أسماه بالأرض الوسطى Middle Earth التي تقع بين قارّتين ويحيط بها بحر ونهر. واختار الكاتب هذه الارض المتخيّلة لأنها تختلف عن أرض البشر كما يفهمها علماء الآثار والجيولوجيا والتاريخ المعاصرون.
    إذ يسكنها جنس يشبهون البشر من حيث أنهم يمرضون ويموتون. ويشارك هؤلاء في العيش في الأرض الوسطى أقوام يقال لهم الهوبيت والاوركس المعروفين بعنفهم، وكذلك مخلوقات من التنانين والنسور والسحالي الضخمة، وبعض قبائل الجان.
    والجان الذين ابتكرهم توكين في ثلاثيّته ليسوا بالجان المؤذين أو الحاقدين الذين نجدهم في الحكايات الشعبية. إنهم بشر، أو بالأحرى ما كان عليه البشر لو لم يُطرد آدم وحوّاء من الجنّة، فهم خالدون وشباب إلى الأبد ولا يصابون بالأمراض مطلقا. لكنهم ما يزالون عرضة للغباء.
    وثلاثية توكين تدور أحداثها في عالم الأرض الوسطى الخيالي، حيث تعيش مئات الأنواع المختلفة معا. والرواية نفسها قطعة من الخيال، وهناك العديد من أوجه التشابه بين الأرض الوسطى وعالمنا، ما يثير التساؤل عمّا إذا كان هذان الكونان مرتبطين بالفعل ببعضهما البعض بطريقة ما.
    قدّم توكين الأرض الوسطى لأوّل مرّة في روايته الهوبيت، وهي أقصر بكثير من سيّد الخواتم وتدور أحداثها قبل 60 عاما من أحداث الرواية الاخيرة. وتقدّم القصّة مناطق مثل ميركوود وريفنديل وجبال الضباب، وكلّها لها سمات مشابهة لبعض المناطق التي يمكن أن نجدها في عالمنا.
    فـ "ذا شاير" أو المقاطعة، مثلا، تحاكي أصداء الريف الإنغليزي، و"روهان" تشبه طبيعة الدول الاسكندنافية، و"نومينور" مستوحاة من امبراطوريات التاريخ القديمة. وقد لا يكون هذا من قبيل الصدفة.
    الاغريق أيضا عرفوا الأرض الوسطى وتخيّلوها في مكان فوق عالم العمالقة وأسفل عالم الآلهة. وربّما يكون التأثير اليوناني الوحيد في ثلاثيّة توكين هو "نومينور"، وهو اسم المنطقة التي يبدو مصيرها تكرارا لأسطورة أتلانتس. ومن الواضح أن رعونة وفجور وانعدام أخلاقية آلهة الاغريق والأبطال والشخصيات اليونانية الرومانية لم تكن تروق لتوكين ذي الروحانية العميقة.
    طوال فترة عمله ككاتب، نشر توكين عدّة رسائل كتبها حول مواضيع مختلفة، وكشف في بعضها أن الأرض الوسطى لا علاقة لها بالعالم الذي نعيش فيه، بل هي مصطلح مشتقّ من اللفظ الإنغليزي "ميدل إيردي" للإشارة إلى الأرض نفسها، ولكن في مرحلة سابقة وقديمة جدّا من تاريخ الكوكب.


    ويقول أيضا أن من المفترض أن احداث الرواية تقع في فترة من العالم القديم الفعلي لهذا الكوكب. وربّما كان يقصد أن أحداث الرواية تدور بالفعل على الأرض، ولكن قبل فترة طويلة جدّا من ظهور أيّ سجلات تاريخية، أي في وقت كانت فيه العفاريت والعمالقة تتعايش جنبا الى جنب مع البشر الأوائل، بحسب تصوّره الفانتازي.
    ومن خلال التأكيد على أن الأرض الوسطى هي في الواقع مجرّد أرض، جعل توكين سلسلته الخيالية أكثر ارتباطا وأقرب إلى كوكبنا، ما أدّى إلى إزالة المسافة بين عالمين ووضع الجمهور مباشرة في قلب هذه القصّة الخيالية.
    وواضح أن هناك سببا وراء رغبة توكين في جعل المناظر الطبيعية في الأرض الوسطى مألوفة جدّا من خلال كتابته عن الجبال العظيمة والوديان العميقة والمحيطات الواسعة، وذلك لأنها في الأساس بعض عناصر كوكب الأرض. وعلى الرغم من أن العالم قد تغيّر بشكل جذري منذ أيّامه الأولى، إلا أن التكوين العام للكوكب ظلّ متشابها إلى حدّ ما، لذلك من المنطقي أن يكون في الأرض الوسطى بعض تلك السمات نفسها.
    والأرض الوسطى مليئة بآثار العصور السابقة وعظمتها المفقودة منذ زمن طويل. وطوال حياته، كان يساور توكين كابوس متكرّر يتمثل في حدوث موجة بحرية هائلة تجرف كلّ شيء بعيدا. وكثيرا ما يذكر أتلانتس في رسائله. وفي الثلاثية، تكتسح مقاطعة نومينور موجة تسونامي مدمّرة كانتقام من الآلهة.
    كان للأرض الوسطى أساطيرها وقصصها عند العديد من الأمم السالفة أيضا. وورد ما يشبهها في بعض أعمال الأدب مثل رواية بيوولف "أو المستذئب" وغيرها من الحكايات البطولية الإنغليزية القديمة وفي العديد من أساطير الآلهة والأبطال القدماء والحكايات الشعبية، وخاصّة تلك الخاصّة بالفتيان العاديين الذين يقومون بمهام بطولية، وفي الحكايات الرومانسية واساطير الملك آرثر وغيرها.
    ربّما لا تتضمّن ثلاثية توكين أيّ صور رمزية او مجازية. لكنها بالتأكيد تعبّر عن قلق الكاتب بشأن عالمنا، بشأن فقدان براءة الريف وتلاشى الأساطير وتحوّلها الى مادّة. وإذا كنت تهتم بالنظر الى ما تحت السطح وتفحص توصيفات الكاتب للشرّ أو السلطة فستكتشف أن التعقيد الأخلاقي في هذا العمل أعمق بكثير من العبارات المبتذلة مثل أن الخير يهزم الشرّ أو أن السلطة تفسد الناس وما الى ذلك.
    عند تصوير ثلاثية سيّد الخواتم، قرّر المخرج بيتر جاكسون استخدام المناظر الطبيعية الخلابة في نيوزيلندا في غالبية عملية التصوير. ونيوزيلندا كما هو معروف بلد مليء بالخضرة الشاسعة والمسطّحات المائية الجميلة التي تتناسب تماما مع الأوصاف التي قدّمها توكين في رواياته عن الأرض الوسطى.

    Credits
    tolkiensociety.org

    الثلاثاء، مارس 12، 2024

    المحارب والتنّين


    كلّ عام وأنتم بخير. ورمضان كريم.
    في فيلم "فارس الظلام The Dark Knight" يرد هذا الاقتباس: إما أن تموت بطلاً أو تعيش طويلاً بما يكفي لترى نفسك وقد أصبحت الشرّير". وهذا الكلام ربّما يعكس فكرة مؤدّاها أن السلطة والنفوذ يمكن أن يغيّرا الشخص بمرور الوقت الى أن ينتهي به الأمر في أسفل طريق مظلم. وكثيرا ما يُستخدم هذا المفهوم لاستكشاف تعقيدات الأخلاق وعواقب أفعال وتصرّفات الفرد.
    وهناك مثال على هذا وهو حادثة غرق السفينة الشهيرة تايتانك الذي أودى بحياة الآلاف في ذلك اليوم المشؤوم. وكانت شجاعة المهندسين والقبطان والأمن وغيرهم ممّن كانوا في السفينة مضرب المثل لأنهم ضحّوا بحياتهم وتركوا النساء والأطفال يأخذون قوارب النجاة.
    وكان على متن تلك السفينة أيضا بروس إيزماي، صاحب شركة "وايت ستار لاين" التي صنعت التايتانك. وتردّدت شائعات عن هروبه من السفينة متنكّراً في ملابس امرأة. لكنه في الواقع لم يهرب ولم يتنكّر بزيّ امرأة ابدا، لكنه غادر السفينة في قارب النجاة الأخير. ومع هذا وُصف في جميع أنحاء العالم على أنه جبان القرن العشرين!
    ويقول عدد قليل من شهود العيان انه بقي في السفينة ورافق النساء والأطفال إلى قوارب النجاة ثم غادر في آخر قارب للنجاة خوفا على حياته. وربّما لو بقي في التايتانك وضحّى بنفسه لدخل التاريخ كبطل. لكنه لم يفعل. والآن يتذكّره الناس فقط على أنه جبان وهارب وشرّير. لذا "إمّا أن تموت بطلاً أو تعيش طويلاً بما يكفي لترى نفسك وقد أصبحت الشرّير!"
    وبما أن الشيء بالشيء يُذكر، يُحكى أن تنّينا كان يُرهب احدى القرى لسنوات. كان يأتي ليلاً ويُحدث فوضى ثم يطير مبتعدا بعد أن يأخذ معه فتاة صغيرة في كلّ مرّة. ثم أتى محارب شجاع وعرض على أهل القرية أن يذهب لقتل التنّين في مخبأه وإعادة الفتيات الصغيرات.
    ويغامر المحارب الشجاع بالذهاب إلى البريّة للعثور على التنّين، ليكتشف وجود عدد لا يُحصى من التنانين هناك. لكنه أصبح ماهرا في قتالها بسبب اتباعه أساليب وحشية ومدمّرة. وكان يطوّر أساليبه ويتعلّم كيف يصبح شرّيرا حتى يتمكّن من البقاء على قيد الحياة ويستمرّ في مهمّته.
    وأخيرًا، يتوصّل الفارس إلى مخبأ التنّين ويدمّره في معركة ملحمية ودموية خلّفت على جسده ندوبا كثيرة. ويعيد المحارب الشجاع الفتيات الصغيرات إلى القرية ويعيّن على الفور سلطانا ويمجدّه الشعب.
    ثم يقوم ببناء جدار حول القرية لمنع التنانين من دخولها، ويضع جميع الفتيات الصغيرات في برج حراسة حيث يمكن حمايتهنّ من هجمات تلك الوحوش. ويأمر بفرض حظر تجوّل وينشر الحرّاس ليتأكّدوا من عدم تجاوز الناس للجدران الآمنة أو الخروج ليلاً لئلا يفتك بهم تنّين.
    ولم يمضِ وقت طويل حتى شعر القرويون بأنهم في سجن وبدءوا في التعبير عن امتعاضهم. وهنا يذكّرهم المحارب الشجاع بالفظائع التي سبّبها لهم التنّين وكيف أن هذه الإجراءات الاحترازية هي من أجل سلامتهم.
    لكن القرويين يستاؤون أكثر فأكثر من المحارب ويتمرّدون على ما يجري. غير أن المحارب الخبير يعبّر لهم مرّة أخرى عن أسفه ويبلغهم أنه يتصرّف فقط لمصلحتهم. بالنسبة لهم كان المحارب قد تحوّل من بطل منقذ الى طاغية شرّير!
    وفي نهاية المطاف، يظهر محارب شابّ شجاع من داخل البلدة المسوّرة ويذهب لمقاتلة السلطان المستبدّ قاتل التنّين، فيهزمه ويخرج منتصرا ومصابا بالندوب. لكنّه يقرّر أن يضع قواعد لفرضها على أهل البلدة لكي يتجنّبوا أخطاء الماضي.
    إنه الموت والولادة المتكرّرة بلا نهاية التي يمرّ بها أيّ مجتمع، يُهزم الأعداء القدامى ويظهر أعداء جدد. والمحاربون الشجعان الذين يموتون أبطالا أثناء القتال ينجون من المستقبل المؤلم الذي يصبحون فيه أشرارا.


    Credits
    shmoop.com

    الخميس، فبراير 08، 2024

    محطّات


  • يبدأ فيلم "نوستالجيا أو الحنين" لأندريه تاركوفسكي (1983) بلقطة ضبابية بالأبيض والأسود للريف الروسي، حيث يتحّرك صبيّ وثلاث نساء باتجاه الماء. ثم ينتقل الفيلم إلى مشهد ضبابيّ آخر في إيطاليا، حيث تسافر سيارة فولكس فاغن عبر الريف الجبلي. ثم يعتاد المشاهدون على هذه الانتقالات بين ذكريات أندريه غورتشاكوف عن منزله الروسي وإقامته الحالية في إيطاليا حيث يعاني من شعور بالضيق والحنين.
    وقد جاء أندريه إلى إيطاليا برفقة مترجمته للبحث في حياة المؤلّف الموسيقي الروسي بافيل سوسنوفسكي. وكان سوسنوفسكي يشعر باليأس والإحباط في منفاه الإيطالي، لذا أقدم على الانتحار عند عودته الى الوطن. كانت فكرة الاختيار بين المنفى والحنين الى الوطن رغم القمع الذي كان يعانيه مصدر قلق رئيسي أيضا لتاركوفسكي نفسه عندما كان يفكّر في مغادرة الاتحاد السوفيتي.
    يقول أحد النقّاد: لا يوجد شيء أكثر ترابيةً وجسدية من عمل تاركوفسكي، هذا المخرج الصوفيّ المشهور". ويعزو هذه الجسدانية الترابية إلى الاحترام الأرثوذكسي الروسي للطبيعة كمكان يتمّ فيه تقديس الخالق من خلال خلقه. كان تاركوفسكي ينظر للمعنى من جانبه العاطفي أكثر من العقلاني، لذا كان أسلوبه البصري يميل نحو الشوق والحزن.
    وكثيرا ما كان يمزج في أفلامه النموّ الترابيّ الرطب للطبيعة في مشاهد من الأماكن المقدّسة والذكريات. في فيلم "نوستالجيا"، يمثّل الصدع في نفسية أندريه الانحلال المعماري، حيث تكون المساحات الداخلية مساميّة ومفتوحة لعناصر الطبيعة.
    ويستخدم تاركوفسكي لقطات طويلة وبطيئة تحدث فيها حركة قليلة أو لا حركة على الإطلاق، ما يشير إلى أفكار بطل الرواية التي تتحرّك وتنتقل إلى الوراء. وإيقاع الفيلم وصوره غير العاديّة تتجنّب التقاليد السينمائية المألوفة ومفاهيم الجمال القديمة.

  • كان أحد الحكماء يحاول توضيح نقطة ما. وكان محدّثه غير مقتنع بكلامه. لذلك حاول اتباع طريقة أخرى معه. فقال للمجادل: حسنا، لنرَ الآن. كم رجلا لدى البقرة؟" وجاء الردّ: أربع بالطبع". قال الحكيم: هذا صحيح. والآن، لنفترض أنك تسمّي ذيل البقرة رجلا؛ كم رجلا لدى البقرة؟ فأجاب الرجل بثقة: خمس طبعا». فردّ الحكيم: الآن هذا هو المكان الذي أخطأت فيه. إن تسمية ذيل البقرة بالرجل لا يجعل منه رجلا!

  • كيف يستمرّ الأحياء في العيش
    وكيف يستمرّ الموتى في العيش معهم
    بحيث في الغابة
    حتى الشجرة الميّتة تعكس ظلّها
    وتتساقط أوراقها واحدة تلو الأخرى
    وتتكسّر أغصانها في الريح
    ويتقشّر لحاؤها ببطء
    ويتشقّق جذعها
    ويتسرّب المطر عبر شقوقها
    ويسقط الجذع على الأرض
    ويغطّيه الطحلب
    وفي الربيع تجده الأرانب
    وتبني مسكنها بداخله
    مع صغارها
    ويعيشون بأمان
    داخل الشجرة الميّتة
    في الطبيعة،
    كما في الحبّ،
    لا يضيع شيء.
    -لارا غيلبِن


  • عندما نشر بيير كورنيه مسرحيّته "السِيد" لأوّل مرّة عام 1636، لاقت استحسانا كبيرا من الجمهور والنقّاد على حدّ سواء. وقد فُتن الفرنسيون بالمسرحية واُعجبوا بالقصّة المثيرة للدون رودريغ وحبيبته تشيمين.
    واليوم تُعتبر "السِيد" أفضل اعمال كورنيه وواحدة من أفضل مسرحيّات القرن السابع عشر.
    وقد تحوّلت هذه المسرحية قبل سنوات الى فيلم تاريخي مشهور. واشتهرت أيضا الموسيقى الفخمة التي وضعها للفيلم الموسيقي البلغاري ميكلوش روشا.
    تعتمد قصّة السِيد على حياة رودريغ دياز دي فيفار الذي عاش في القرن العاشر وحارب في وقت ما ضدّ المسيحيين أحيانا، وأحيانا ضدّ المسلمين. لكنّه في المسرحية يصوّر كمسيحي. واسمه، أي السِيد، هو الاسم الإسباني المشتقّ من كلمة عربية هي "السيّد" التي تعني الشيخ او الزعيم.
    تبدأ قصّة السيد عندما تعلَم تشيمين ابنة دون غوميز من خادمتها إلفيرا أن والدها وافق على زواجها من دون رودريغ، فتشعر بسعادة غامرة لأنها تحبّ رودريغ كثيرا. لكنّها تحاول كتمان فرحها بسبب عدم قدرتها على التنبّؤ بمزاج والدها.
    وفي ما بعد يغضب والد تشيمين، أي دون غوميز، عندما يكتشف أن الملك قد منح شرف تعليم ابنه أمير قشتالة لوالد رودريغ، أي دون دييغو. كان غوميز يعتقد بأنه أحقّ بهذه الوظيفة من دييغو، لذا يقرّر أن يواجهه. دييغو، العجوز العاقل المعتدل المزاج، يحاول تهدئة غوميز ويعرض عليه صداقته. لكن غوميز الغاضب يقوم بصفع العجوز. وردّا على ذلك يسحب دييغو سيفه للدفاع عن شرفه. لكنّه أكبر سنّا من أن يكون ندّاً لدون غوميز الأصغر منه بكثير. وهنا يجرّد غوميز العجوز من سلاحه ويهينه أكثر قبل ان يغادر المكان.
    يشعر دون دييغو بالحرج من تلك المواجهة، ويطلب من ابنه رودريغ الدفاع عن اسمه وقتال غوميز. لكن رودريغ الذي يحبّ ابنة غوميز بجنون يرفض طلب والده في البداية. ولكن عندما يصرّ والده على أن يضع شرف عائلته فوق كلّ شيء، يقبل مبارزة دون غوميز.
    وعندما يصل خبر هذا الخلاف إلى بلاط الملك يقرّر منع المبارزة. لكن غوميز يتحدّى الأمر ويصرّ بغطرسة على قتال الشاب رودريغ. وعندما يحين وقت المبارزة، رغم أمر الملك بمنعها، وبسبب الاستفزازات المستمرّة من دون غوميز، يتواجه الرجلان لوضع حدّ للشجار بينهما نهائيّاً.
    وفي البلاط، يسمع الملك عن المبارزة وينتقد دون غوميز بسبب سلوكه الطفولي وقسوته تجاه الشابّ رودريغ. ثم يعبّر عن قلقه بشأن هجوم محتمل للبحرية المغاربية التي تقترب من شواطئ بلاده. وفي هذه اللحظة يصل أحد النبلاء ويبلغ الملك أن الشابّ رودريغ قتل دون غوميز.
    في المشهد التالي، يأتي رودريغ إلى منزل تشيمين، وعندما تواجهه خادمتها يبلغها انه ما يزال يضمر الحبّ لتشيمين. فتطلب منه الخادمة الهرب لأن الفتاة لا تريد سوى الانتقام منه على قتله والدها. فيجيب أنه إذا كان الانتقام هو ما تريده تشيمين فإنه مستعدّ بكلّ سرور لأن يُقتل على يدها.
    ثم تقترب تشيمين منهما فيختبئ رودريغ في الزاوية. وتخبر تشيمين إلفيرا عن مشاعرها المتضاربة. فهي من ناحية تلوم غطرسة والدها على كلّ شيء. ومن ناحية أخرى فإن الشرف يملي عليها قتل رودريغ. ثم يظهر رودريغ من مخبئه ويطلب من تشيمين أن تقتله بنفس السيف الذي قتل به والدها. لكنها لا تفعل ذلك.
    وهنا يهاجم المغاربة المملكة الاسبانية ويخوض رودريغ الحرب للدفاع عن وطنه ويُظهر شجاعة في المعركة ويحظى بشعبية كبيرة بين مواطنيه. حتى المأسورين من المغاربة يحبّونه ويطلقون عليه لقب "السِيد" أي الزعيم.
    لكن تشيمين لا تستطيع التخلّي عن سعيها لقتل رودريغ. ويوافق شابّ يُدعى دون سانشي على مبارزة وقتل رودريغ من أجل تشيمين، بينما تعده هي في المقابل بأن تتزوّج ممّن سينتصر في المبارزة. وقبل المواجهة يخبر رودريغ تشيمين بأنه لن يدافع عن نفسه ضدّ دون سانشي وأنه إذا كان الانتقام هو ما تريده حبيبته فينبغي أن تحصل عليه. وبعد ذلك، يأتي دون سانشي إلى تشيمين وسيفه يقطر دماً. فتعتقد أن رودريغ قد قُتل، فتبكي وتعترف بأنها كانت تحبّه وتقرّر دخول دير وتعلن الحزن عليه الى أن تموت.
    وفي نهاية المسرحية، يخبر الملك تشيمين أنه أثناء المبارزة قام رودريغ بتجريد دون سانشي من سلاحه، ثم قرّر أن يعفو عنه، وأخبرها أيضا أن رودريغ ما يزال على قيد الحياة. ثم يبلغها الملك بأنها خدمت والدها بما فيه الكفاية من خلال مطالبة دون سانشي بالانتقام له وأنها لم تعد بحاجة لأن تثأر من رودريغ. ثم يأمر الملك أن يتزوّج الاثنان خلال عام يتفرغ خلاله رودريغ للدفاع عن بلاده ضدّ المغاربة كي يصبح أكثر جدارة بحبّ تشيمين.


  • Credits
    andrei-tarkovsky.com