:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات ريبين. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ريبين. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، يناير 24، 2024

محطّات


  • كان جورج كارلِن (1937 – 2008) ممثّلا كوميديا وناقدا اجتماعيّا أمريكيّا، وقد اشتهر بروح الدعابة السوداء وبأفكاره حول السياسة واللغة وعلم النفس والدين والعديد من الموضوعات المحظورة. كان مراقبا ماهرا وذكيّا للعالم من حوله، وخاصّة للبشر ونقاط ضعفهم. وتجلّت طبيعته العملية والمجتهدة في قدرته على التواصل مع الناس من خلال روح الدعابة الثاقبة والبارعة في كثير من الأحيان.
    ويقال أن الأشخاص الذين يستمعون إليه يبدؤون في كره أنفسهم بعد مرور بعض الوقت لأنه يصوّر أعماقهم بأقصى قدر من الدقة، وفي النهاية يشعرون بأنهم لا يختلفون عن أيّ شخص أحمق آخر على هذا الكوكب. كان يدخل غرفة مليئة بالناس ويلقي بأصعب الحقائق في وجوههم ويهدم كلّ معتقداتهم وتصوّراتهم، ثم يترك الغرفة وهو ما يزال حيّا بل ومحاطا بالتصفيق من الجميع.
    هنا بعض آراء جورج كارلِن المتضمّنة في لقاءاته وفي سيرته الذاتية:
    ○​ لا تقلّل أبدا من قوّة الأشخاص الأغبياء في مجموعات كبيرة.
    ○​ هناك ليال تصمت فيها الذئاب ولا يعوي إلا القمر.
    ○​ يعجبني أن أرى منظر زهرة أو بقعة صغيرة من العشب تنمو في صدع خرسانيّ. إنه عمل بطوليّ للغاية.
    ○​ نحن البشر مهمّون جدّا في نظر أنفسنا. والجميع سوف ينقذون شيئا الآن. "أنقذوا الأشجار، أنقذوا النحل، أنقذوا الحيتان، أنقذوا تلك القواقع." وأعظم غرورا من هذا كلّه: أنقذوا الكوكب! مع اننا لا نعرف حتى كيف نعتني بأنفسنا!
    ○​ لقد مرّ كوكب الأرض بما هو أسوأ بكثير منّا نحن البشر. مرّ بالزلازل والبراكين والصفائح التكتونية والانجراف القارّي والتوهّجات والبقع الشمسية والعواصف المغناطيسية والانعكاس المغناطيسي للقطبين. ومرّ بمئات آلاف السنين من القصف بالمذنّبات والكويكبات والنيازك، والفيضانات وموجات المدّ والجزر والحرائق والتآكل والأشعّة الكونية والعصور الجليدية المتكرّرة. فهل تعتقد ان بعض الأكياس البلاستيكية وبعض علب الألمنيوم ستُحدث فرقا؟ هذا الكوكب لن يذهب إلى أيّ مكان، بل نحن!
    نحن الذين سنذهب. لذا احزموا أمتعتكم. سنذهب بعيدا. ولن نترك الكثير من الأثر هنا. سيظلّ الكوكب هنا بعد ان نكون قد اختفينا منذ زمن طويل. وسوف يشفي وينظّف نفسه، لأن هذا عمله. إنه نظام تصحيح ذاتيّ. سوف يتعافى الهواء والماء وتتجدّد الأرض. نحن مجرّد طفرة فاشلة أخرى، خطأ بيولوجيّ مغلق آخر، طريق تطوّري مسدود. ولسوف يهزّنا الكوكب مثل مجموعة رديئة من البراغيث.
    ○​ الحياة تصبح بسيطة حقّا بمجرّد أن تخلّص نفسك من كلّ ذلك الهراء الذي علّموك إيّاه في المدرسة.
    ○​ من المهمّ في الحياة ألا تهتمّ بشيء. هذا سيساعدك كثيرا.
    ○​ أؤيّد تماما فصل الكنيسة عن الدولة. فهاتان المؤسّستان تفسداننا بما فيه الكفاية، لذا فكلاهما معا موت مؤكّد.
    ○​ لا تعلّموا أطفالكم القراءة فقط. علّموهم أن يتساءلوا عمّا قرأوه وأن يشكّكوا في كلّ شيء.
    ○​ لا يبدو أن الناس يدركون أنه لا يوجد أيّ شفاء أو راحة دائمة على الإطلاق في هذا العالم. لا يوجد سوى فترة توقّف قصيرة قبل الحدث المروّع التالي. وينسى الناس أن هناك شيئا اسمه الذاكرة، وأنه عندما "يُشفى" الجرح فإنه يترك ندبة لا تختفي أبداً.
    ○​ نحن أمّة من الأغنام، وهناك شخص آخر يملك العشب.
    ○​ أعتقد أنه من واجب الممثّل الكوميدي معرفة أين رُسم الخطّ ثم يتجاوزه.
    ○​ بداخل كل ساخر مثالي إنسان مُحبَط.
    ○​ لا أحبّ تقبيل المؤخّرات أو التلويح بالأعلام. أحبّ الأشخاص الذين يخالفون النظام والفردانيين. إعتنق الاستقلالية والفردية والنزاهة. وتجنّب المجموعات بأيّ ثمن. أبقِ دائرتك صغيرة. ولا تنضمّ أبدا إلى مجموعة تحمل اسما. وإذا توجّب عليك الانضمام بشكل لا مفرّ منه الى تجمّع، مثل نقابة أو جمعية تجارية، فلا بأس. لكن لا تشارك. وإذا أخبروك أنك لست لاعبا في الفريق، فهنّئهم على ملاحظتهم!
  • ❉ ❉ ❉

  • جاء الحصان، الذي كان مزيّنا بسرجه المبهرج وعاضّاً على لجامه الرغوي، بينما كان صهيله العالي والصاخب يتردّد عبر الجبال القريبة. لم يكن قد قطع مسافة طويلة قبل أن يتجاوز الحمار، الذي كان ينوء تحت عبء ثقيل ويتحرّك ببطء في نفس المسار. وعلى الفور نادى الحصان على الحمار بلهجة متعجرفة ومتغطرسة وهدّده بأن يدوسه ويدفنه في التراب إذا لم يفسح له الطريق. ولم يجرؤ الحمار المسكين الصبور على الاعتراض، فخرج بهدوء من طريقه بأسرع ما يمكن وتركه يمرّ.
    وبعد فترة وجيزة، أصيب الحصان نفسه برصاصة في عينه أثناء اشتباك صاحبه مع العدوّ، ما جعله غير صالح للاستعراض أو أيّ عمل آخر، فجُرّد من حليته الجميلة وبيع لشخص آخر. ثم التقى به الحمار وهو على تلك الحال البائسة وظنّ أن الوقت قد حان للتحدّث اليه فقال: مرحبا يا صديقي، هل هذا أنت؟ حسنا، لطالما اعتقدت دائما أنك ستتخلّى عن كبريائك في يوم من الأيام."
    الدرس المستفاد من هذه الحكاية هو أن الكبرياء والغطرسة أمران غريبان على العظماء حقّا. والذين يُظهرون الغطرسة، بدلاً من الصداقة والشفقة، عندما يتولّون مناصب عالية، لن يواجهوا سوى الازدراء بمجرّد أن تتغيّر حظوظهم في الحياة ويغادروا الجاه او المنصب.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • الرسائل المتبادلة بين الرسّام الروسي إيليا ريبين ومواطنه الروائي ليو تولستوي تلقي بعض الضوء على وجهات نظرهما الفنّية والفلسفية، بالإضافة الى علاقتهما الشخصية.
    كان ريبين وتولستوي معجبين كثيرا ببعضهما البعض. وقد تراسلا في مواضيع مختلفة، بما في ذلك الفنّ والأدب والروحانية والقضايا الاجتماعية. وغالبا ما تناولت رسائلهما دور الفنّ في المجتمع وطبيعة الإبداع والعمليات الفنّية الخاصّة بكلّ منهما.
    وقد رسم ريبين تولستوي في عدّة مناسبات. وأسفرت صداقتهما عن عدّة بورتريهات. وإحدى أبرز تلك اللوحات تعود الى عام 1887 وتصوّر تولستوي وهو يقرأ في ضيعته في ياسنايا بوليانا بموسكو. في هذه اللوحة يظهر تولستوي وهو جالس على كرسي وممسك بكتاب. وهو يظهر كرجل مسنّ ذي لحية بيضاء طويلة ويرتدي لباسا ريفيّا بسيطا يُعرف بالقفطان.
    وتجسّد اللوحة تركيز تولستوي العميق، كما تقدّم صورة للكاتب والفيلسوف المتفاني ذي المعرفة الواسعة والتأثير العالمي. ويضيف استخدام ريبين البارع للضوء والظلّ إلى الصورة عمقا وواقعية كما يسلّط الضوء على ملامح وجه تولستوي ويؤكّد على نظرته الثاقبة والذكيّة.
    واللوحة لا تُعتبر فقط تصويرا بارعا للكاتب، ولكنها أيضا تجسّد جوهر مساعي تولستوي الفكرية وارتباطه بالريف الروسي.
    وعندما عُرضت اللوحة لأوّل مرّة، حظيت باهتمام كبير وثناء من الجمهور ونقّاد الفن. وكان يُنظر إليها على أنها تصوير قويّ وحميم لتولستوي، حيث لم تلتقط مظهره الجسدي فحسب، بل أيضا عمقه الفكري وطبيعته التأمّلية. وحظي اهتمام ريبين الدقيق بالتفاصيل والاستخدام الماهر للضوء والظلّ والقدرة على نقل أجواء دراسة تولستوي بتقدير كبير من قبل النقّاد.
    كما لاقت اللوحة صدى لدى الجماهير بسبب تصويرها لتولستوي كشخصية موقّرة وأيقونة أدبية. كان تولستوي كاتبا مؤثرا للغاية في عصره وقد التقطت صورة ريبين له جوهر عبقريّته الأدبية، بالإضافة إلى دوره كفيلسوف.
    ولا يزال يُحتفل بهذه اللوحة باعتبارها تصويرا مبدعا لتولستوي وعملا مهمّا في تاريخ الفنّ الروسي. وكثيرا ما يعاد استنساخها والإشارة إليها في المناقشات حول حياة تولستوي وأعماله ومساهمات ريبين في فنّ البورتريه.
    المعروف أن ريبين رسم تولستوي في مناسبات أخرى أيضا وطوال فترة صداقتهما وأظهر جوانب مختلفة من مظهر الكاتب وشخصيّته.
    وقد حدث اوّل تبادل للرسائل بين الاثنين عام 1887 عندما بعث ريبين إلى تولستوي رسالة يعبّر فيها عن إعجابه برواية "آنا كارينينا". وردّاً على ذلك، كتب تولستوي رسالة شكر إلى ريبين، يشيد فيها بمواهبه الفنّية ويعبّر عن أفكاره حول الرواية.
    وعلى الرغم من أن المجموعة الكاملة من الرسائل بين الاثنين ليست متاحة على نطاق واسع، إلا أنه يمكن العثور على مقتطفات ومراسلات مختارة منها في السير الذاتية والمنشورات المختلفة لكلّ منهما. وتوفّر هذه الرسائل رؤى قيّمة حول النقاشات الفكرية والفنّية بين اثنين من عمالقة الثقافة الروسية في ذلك العصر.
    يقول ريبين واصفا أحد لقاءاته بتولستوي في أكتوبر عام 1880: في الحقيقة كنت اظنّ انني لن أتمكّن من زيارته. وكنت أخشى أن أشعر بخيبة أمل بطريقة ما، لأنني رأيت أكثر من مرّة في حياتي كيف أن الموهبة والعبقرية لا تتناغم مع الشخصية الحقيقية للكاتب.
    ويضيف: لكن ليو تولستوي كان مختلفا، فهو انسان رائع جدّا، وفي الحياة هو عميق وجدّي كما هو حال إبداعاته. وأمامه شعرت بأنني صبيّ تافه. كنت اريد أن أستمع إليه إلى ما لا نهاية. ولم يكن بخيلاً، فقد كان يتكلّم كثيراً ومن قلبه. وكم تمنّيت لو أستطيع أن اكتب كلّ ما قاله بأحرف ذهبية على ألواح من رخام وأعود لقراءة وصاياه كلّ يوم في الصباح وقبل الذهاب الى النوم.

  • Credits
    ilya-repin.ru

    الخميس، يونيو 02، 2016

    عصر تولستوي وتشايكوفسكي


    يزخر الرسم الروسي بالعديد من بورتريهات الكتّاب والموسيقيين والممثّلين ورعاة الفنّ في روسيا. وبعض تلك البورتريهات يعود تاريخها إلى زمن آخر القياصرة، ثمّ الثورة والعهود التي تلتها.
    أحد الكتّاب تأمّلَ في صور هذه الشخصيات الروسية واكتشف انه يندر أن ترى واحدا منها وهو يبتسم. ربّما كان هناك اعتقاد شائع بأن البورتريه مثل الحديث المتوتّر بين الرسّام وجليسه، يمكن أن يقرّبنا من الموضوع أكثر ممّا تفعله الصور الفوتوغرافية الحديثة. وهذا أحيانا صحيح.
    في البورتريه الذي رسمه فاسيلي بيروف لدستويفسكي نقف وجها لوجه مع الروائيّ الكبير. وهو في الصورة يبدو في حالة انحناء ويرتدي جاكيتا بنّيّ اللون، نظراته منسحبة وبعيدة، بينما أصابعه متشابكة. الضوء يلمع على جبينه الفتيّ. وعلى شعره ولحيته ونظراته المتحفّظة ثمّة إحساس بالإنهاك وتركيز داخليّ مثير للاهتمام.
    كان دستويفسكي في ذلك الوقت ما يزال يعيش ذكريات اعتقاله المريرة قبل ثلاثين عاما عندما كان في الثامنة والعشرين من عمره على خلفية انتسابه لجماعة بتراشيفسكي الراديكالية. وقد سيق إلى معسكرات العمل الشاقّ في سيبيريا واُجبر على الخدمة في الجيش، وهو ما أدّى إلى انهيار صحّته وجرح روحه.
    لكنه مع ذلك استمرّ يكتب ولم تنكسر إرادته أبدا. في هذه الصورة لا يمكنك أن ترى شيئا من آثار المعاناة على وجه وعيني دستويفسكي لأن بيروف منحه خصوصية كاملة. لكن بإمكانك أن ترى وتلمس إحساسه بالأسى وبالمرارة الداخلية. في ذلك الوقت، لم يكن دستويفسكي قد كتب "الجريمة والعقاب". لكن البورتريه ينبئ عن ذلك المستقبل.
    ومن أشهر الصور الروسية الأخرى ذلك البورتريه الذي رسمه نيكولاي جي لتولستوي عام 1884، ويبدو فيه الروائيّ المشهور منحنيا على طاولته ومنكبّا على الكتابة وكأنه لا يشعر بالرسّام الذي يجلس بالقرب منه.
    وهناك أيضا لوحة ايليا ريبين التي رسمها لتورغينيف الذي يبدو في الصورة عجوزا بأنف متورّمة وشعر أشيب. كانت علاقة تورغينيف بريبين مفعمة بالثقة. نظراته القاسية تفاجئنا كما لو أننا مذنبون بنفس درجة ذنب الرسّام المتطفّل. وهذا يثبت كيف أننا يمكن أن نحكم على الصور مدفوعين بأفكارنا المسبقة عن أصحابها. كما أن هذا يطرح سؤالا عن مدى كون هذه الصورة حقيقية.
    وهناك أيضا البورتريه الذي رسمه يوسف براس لأنطوان تشيكوف. وقد رسمه الفنّان عام 1898، أي عندما كان تشيكوف في ذروة عطائه ككاتب مسرحيّ. وفي السنة التالية مُثّلت مسرحيّته "العمّ فانيا" على المسرح لأوّل مرّة.
    تشيكوف يرتدي هنا ملابس مرتّبة، مع ياقة بيضاء وبذلة رمادية. وهو يجلس كما لو انه يريد أن يحكم علينا محاولا استنطاق ما بدواخلنا، بينما يصرّ على أن لا يكشف لنا عن شيء من دخيلته.
    تشيكوف هنا لا يبدو كاتبا بقدر ما يبدو طبيبا "وهي مهنته الأصلية" يصغي باهتمام إلى مرضاه ويشخّص عللهم ويصف لهم الدواء المناسب. كان وقتها في الثامنة والثلاثين، وأمامه فقط ستّ سنوات ليعيشها.


    والحقيقة أن معظم هذه الشخصيات توفّيت في سنّ مبكّرة. ومعظمها ملامحها أوربّية أكثر منها آسيوية.
    ومن أشهر البورتريهات الروسية الأخرى لوحة فالنتين سيروف للمؤلّف الموسيقيّ رمسكي كورساكوف. والموسيقيّ يبدو هنا جالسا وسط فوضى من عشرات الكتب.
    وهناك أيضا واحدة من أقوى الصور، وهي لوحة ريبين التي رسمها للموسيقيّ المعروف موديست موسورسكي عام 1881، وقبل وقت قصير من وفاة الأخير. موسورسكي يبدو في الصورة بأنف حمراء وعينين صافيتين.
    الرسّام ايليا ريبين، بمقاربته الحسّاسة والفائقة لكلّ جلسائه الذين رسمهم، هو بطل البورتريه الروسيّ بلا منازع. كان ريبين ابنا لجنديّ من اوكرانيا. وخلفيّته ليست ممّا يثير الاهتمام.
    لكنه صنع لنفسه سمعة طيّبة في سانت بطرسبورغ التي رسم فيها أعمالا مشهورة مثل تلك اللوحة التي يظهر فيها أشخاص يجرّون قاربا. ورغم أن من كلّفه برسم اللوحة كان رجلا من عائلة الإمبراطور، إلا أنها فُسّرت على أنها هجوم على سوء معاملة العمّال وعلى الظلم الاجتماعيّ ككلّ.
    وبعد ابتعاثه إلى فرنسا التي رسم فيها تورغينيف، عاد ريبين إلى روسيا واستمرّ يرسم بنفس الأسلوب الروسيّ المتميّز.
    في لوحات ايليا ريبين مرح وتعاطف وتفهّم. كما أنها تحتوي على الكثير من الدفء، مثل لوحته التي رسم فيها عازفة البيانو الجميلة صوفي مينتر، تلميذة فرانز ليست اللامعة.
    وبراعته أيضا تتجلّى في رسمه للبارونة فارفارا فون هيلدنباندت بخمارها وقبّعتها الغريبة. وقد رسمها باستمتاع يمكن أن تشعر به من طريقته في تصوير السلسلة المتدلّية حول ذراعها وفي طيّات بلوزتها القرمزية.
    كلّ هذه البورتريهات وغيرها من صور العباقرة الروس ليست سوى جزء من المجموعة الفنّية التي راكمها تاجر الأقمشة بافيل تريتيكوف والتي أصبحت من مقتنيات المتحف الذي يحمل اليوم اسمه.
    وهناك عنصر مهمّ يمكن إضافته إلى هذه القصّة، ويتمثّل في الصداقة التي ربطت تريتيكوف والرسّام ريبين الذي لم يكن يرسم له فحسب، وإنما كان ينصحه بالاستعانة بفنّانين آخرين.
    وقد رسمه ريبين أمام مجموعته كي يتذكّره الناس بعد وفاته. وفي تلك الصورة يظهر تريتيكوف كشخص مختلف ومتحفّظ ومعروف بعاطفته العائلية ومحبّته للأدب والموسيقى والمسرح والرسم.
    كان تريتيكوف حريصا على أن تضمّ الصور في متحفه كافّة نجوم روسيا. وقد بدا إصراره واضحا من خلال قصّته مع بورتريه الموسيقيّ موسورسكي.
    كان هذا الأخير قد وصل إلى ذروة شهرته في العام 1874 عندما انتهى من تأليف أوبرا بوريس غودونوف ومتتابعة البيانو بعنوان صور في معرض . لكن بعد فراغه من كتابة هذين العملين، أدمن موسورسكي على الشراب لأيّام.
    وفي عام 1881 اُدخل المشفى لعلاجه من الإدمان. وعندما سمع تريتيكوف بأن حالته خطيرة، أرسل إليه ريبين كي يرسمه. وكان على حقّ، فما أن انتهى الرسّام من آخر جلسة رسم حتى كان موسورسكي قد مات وهو في سنّ الثانية والأربعين.
    كان ريبين يصف موسورسكي بأنه موهوب بالفطرة ومحارب قروسطيّ، مع مظهر بحّار من البحر الأسود . وهو، أي ريبين، لم يتقاضَ أجرا على تلك اللوحة، بل فضّل أن يتبرّع بأجره لإقامة نصب تذكاريّ للمؤلّف الموسيقيّ.
    هناك أيضا بورتريهان آخران مهمّان في مجموعة تريتيكوف، الأوّل للشاعر نيكولاي غوميليف المقتول عام 1921 بسبب أنشطته الثورية، والثاني لزوجته الشاعرة المعروفة آنا أخماتوفا. وقد رسمت البورتريهين الفنّانة اولغا كاردوفسكايا بأسلوب رمزيّ يذكّر بأسلوب إدفارد مونك.
    وبورتريه الشاعرة يبدو أفضل لأننا نعرف من هي. وتبدو جالسة بكبرياء، بينما تظهر خلفها سماء لامعة. وقد رُسمت أخماتوفا عام 1914 بعد حياة حافلة تعرّضت خلالها للمراقبة والمطاردة. لكن هذا لم يقتل شعرها ولم يُخرس معارضتها الشجاعة للفظاعات التي رأتها.

    Credits
    theguardian.com
    ilyarepin.org

    الخميس، يوليو 03، 2014

    لوحات وروايات

    أحيانا قد تنظر إلى لوحة أو صورة ما فيساورك إحساس بأنها تحكي عن قصّة أو أنها يمكن أن توفّر أساسا لكتابة قصّة أو رواية. والصورة، أيّة صورة، حتى إن كانت ساكنة ظاهريا، ليست في النهاية سوى تعبير عن حركة وسيرورة الزمن.
    والمعنى أو الطابع السردي الذي نضفيه على صورة ما ليس سوى انعكاس لمخيّلتنا. كما أن الفنّ في نهاية الأمر ليس سوى رمز أو استعادة لشيء ما اكبر.
    وفي السنوات الأخيرة، راجت ظاهرة الروايات الأدبية التي تعتمد على أعمال تشكيلية. وأقرب مثال على ذلك يرد إلى الذهن هو رواية الفتاة ذات القرط اللؤلؤي للكاتبة تريسي شيفالييه. هذه الرواية تعتمد على لوحة بنفس الاسم للرسّام الهولنديّ يوهانس فيرمير.
    وكانت شيفالييه قد رأت اللوحة لأوّل مرّة في نيويورك وكان عمرها آنذاك لا يتجاوز التاسعة عشرة. وقد فُتنت بملامح الفتاة في اللوحة وبابتسامتها الغامضة. ثم اشترت نسخة من اللوحة وعلّقتها في بيتها، قبل أن تبدأ في كتابة روايتها. وقد حقّقت الرواية نجاحا كبيرا ثم تحوّلت إلى فيلم سينمائي حقّق هو الآخر نجاحا واسعا.
    وبالتأكيد عندما تنظر إلى لوحة فيرمير هذه لا بدّ وأن تحبّها. والحقيقة أن الملمح السردي، أي قابلية اللوحة لأن تتحوّل إلى قصّة أو رواية، لا يقتصر على هذه اللوحة فحسب، بل يمكن ملاحظته بوضوح في العديد من اللوحات الهولندية الأخرى التي تعود إلى القرن السابع عشر، أي إلى العصر الذهبي للرسم الهولندي.
    الكثير من اللوحات الهولندية من ذلك العصر، أي عصر رمبراندت وفيرمير ودي هوك وهولس وفان اوستيد، توفّر لحظات سلام وتستحضر تأمّلا وجدانيّا وروحيّا. ولا يمكن للإنسان إلا أن يُعجَب بها لجمالها وإلهامها وأصالتها وأسلوبها وألوانها والبراعة التي نُفّذت بها.
    أنظر مثلا إلى هذه اللوحة أو هذه . كلّ من هاتين اللوحتين يمكن أن تنبني عليها قصّة أو رواية متخيّلة.
    وكلّ أولئك الرسّامين كانوا من العباقرة. لكن فيرمير، على وجه الخصوص، ظلّ لغزا عصيّا على الفهم. وما كُتب عنه وعن حياته قليل. لكن مناظره، بنسائها المثيرات وأماكنها المتقشّفة وما تستدعيه من هدوء وسكينة، تسمح ببعض الشروحات عن سياقاتها الاجتماعية والتاريخية.
    والنقّاد والروائيون ما يزالون إلى اليوم يبحثون عن قصص ورموز ورسائل خفيّة قد تكون اُودعَت في تلك الصور التي رسمها فيرمير والتي تشبه الأفلام الصامتة أو اللحظات الدرامية في الحياة. وفي هذه الأيّام ترك فيرمير بصمته على كلّ شيء ووجدت لوحاته تعبيرا لها في كلّ اتجاه تقريبا، من الأوبرا إلى الطوابع البريدية والموسيقى والإعلانات.
    اللوحات الروسية هي الأخرى غنيّة بالخصائص السردية. تأمّل مثلا هذه اللوحة لايليا ريبين أو هذه لفالانتين سيروف. كلّ من هاتين اللوحتين تصلح موضوعا لقصّة أو رواية. ولوحتي المفضّلة من هذا النوع من الرسم السردي أو الذي يمكن تكييفه وتحويله إلى عمل أدبيّ هي هذه . أمّا الأسباب فقد أتحدّث عنها في ما بعد.
    بالإضافة إلى رواية تريسي شيفالييه المعتمدة على لوحة فيرمير، ألّف دان براون رواية بعنوان شيفرة دافنشي تبدأ أحداثها بمشهد العثور على شخص مقتول داخل متحف اللوفر بينما يشير وضع الجثة إلى لوحة إنسان فيتروفيوس لليوناردو دافنشي.
    كما كتبت جين كالوغريديس رواية بعنوان موناليزا تجري أحداثها في فلورنسا القرن الخامس عشر وتحكي عن حياة المرأة التي تظهر في اللوحة المشهورة وعن مشاكلها وخيباتها العاطفية.
    وكتبت اليزابيث هيكي رواية بعنوان القبلة المرسومة تحكي من خلالها قصّة الحبّ التي ربطت الرسّام النمساوي غوستاف كليمت بالعارضة ايميلي فلوغي التي ستصبح في ما بعد موديله المفضّلة والتي ستظهر في لوحته المشهورة القبلة.
    سوزان فريلاند الّفت، هي الأخرى، رواية بعنوان فتاة بفستان ازرق نيلي . الكاتبة تنطلق في روايتها من حقيقة معروفة وهي أن فيرمير لم يترك وراءه سوى 35 لوحة فقط. غير أنها تفترض وجود لوحة مفقودة للرسّام، ثم تبدأ بتعقّب اللوحة المزعومة أثناء انتقالها من مالك لآخر.
    وللحديث بقيّة غدا..

    الجمعة، يوليو 19، 2013

    ايفازوفسكي: شاعر البحر

    لم يكن ايفان ايفازوفسكي مجّرد رسّام محترف للمناظر البحريّة، بل كان أيضا يعرف البحر وكان يحبّه بصدق. وعلى الرغم من أنه تحوّل في بعض الأحيان إلى أشكال فنّية أخرى كالمناظر الطبيعية والبورتريه، إلا أنه كان يفعل ذلك لفترة وجيزة ثم ما يلبث أن يعود إلى النوع الذي اختاره والذي ظلّ مخلصا له طوال حياته.
    كان نجاح ايفازوفسكي مستحقّا بجدارة، إذ لا يوجد رسّام آخر تمكّن من الإمساك بالمزاج المتغيّّر للبحر بمثل هذا التألّق والإقناع والسهولة.
    عندما بدأ ايفازوفسكي مسيرته المهنيّة، كان الفنّ الروسي لا يزال يهيمن عليه الاتجاه الرومانسيّ. وكان المزاج الرومانسيّ هو الذي يحدّد معايير رسم المناظر الطبيعية الروسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ومن غير المثير للدهشة أن نكتشف وجود عناصر رومانسية، سواءً في أعمال ايفازوفسكي المبكّرة أو في معظم أعماله اللاحقة. فنجده مرارا وتكرارا يرسم المناظر التي تصوّر حطام السفن والعواصف والمعارك البحرية المحتدمة.

    تابع ايفازوفسكي السير على تقاليد رسّامي المناظر الطبيعية الروس الكبار في بدايات القرن التاسع عشر دون أن يلجأ إلى التقليد الحرفيّ. وقد خلق مدرسة جديدة في الرسم، ما جعله يفرض بصمته الخاصّة على رسم حياة البحر والتي تأثّرت بها أجيال عديدة لاحقة.
    وبالإضافة إلى عمله كفنّان، كان ايفازوفسكي شخصيّة عامّة ذات اهتمامات متنوّعة. فقد كان يولي اهتماما خاصّا بأحداث العالم، وكان متعاطفا بعمق مع البلدان الصغيرة التي تكافح من أجل استقلالها. وفي الوقت نفسه كان يعمل بتفانٍ من أجل خير بلده الأم، وفعل الكثير من اجل مساعدة الفنّانين الشباب.
    ولد ايفان ايفازوفسكي في يوليو من عام 1817 في مدينة فيودوسيا القديمة بشبه جزيرة القرم. والده، وهو من أصل أرمني، كان قد استقرّ هناك في بدايات القرن. كان الأب رجلا جيّد التعليم نسبيّا وكان يعرف العديد من اللغات الشرقية. ولكونه تاجرا، لعب دورا هامّا في الحياة التجارية للمدينة. غير أن الأب خسر تجارته بسبب وباء الطاعون الذي ضرب فيودوسيا في عام 1812. وعندما ولد ايفان، كانت العائلة تمرّ بأوقات عصيبة. وهناك بعض الأدلّة التي تشير إلى أن الفقر اضطرّ الصغير ايفازوفسكي للعمل في مقاهي فيودوسيا، حيث تعلّم هناك بعض كلمات من لغات شتّى كالإيطالية واليونانية والتركية والأرمنية والتتارية.

    وقد تشرّب عقل الصبيّ كلّ المشاهد والأصوات الملوّنة التي سمعها ورآها في فيودوسيا ذات الأعراق والثقافات المختلطة. كما كان يتمتّع بأذن موسيقية حسّاسة. وسرعان ما تعلّم عزف الألحان الشعبية على آلة الكمان. وفي وقت لاحق، ذكر ايفازوفسكي بعض تلك الألحان لصديقه المؤلّف الموسيقيّ ميخائيل غلينكا، الذي بادر إلى توظيفها في مؤلّفاته.
    ولكن كان الرسم هو الذي استولى على خيال الصبيّ الشابّ. ولأنه كان يفتقر إلى موادّ أخرى، فقد كان يرسم بالفحم على الجدران في فيودوسيا. وجذبت هذه الرسومات انتباه حاكم البلدة الذي ساعد ايفازوفسكي على دخول مدرسة سيمفيروبول الثانوية، ثمّ على دخول أكاديمية سانت بطرسبورغ للفنون في عام 1833.
    وقد تزامنت فترة دراسة ايفازوفسكي في سانت بطرسبورغ مع مرحلة متناقضة ومرتبكة من التاريخ الروسيّ. فمن ناحية، كانت تلك فترة الحكم الاستبدادي الصارم والركود السياسيّ تحت حكم القيصر نيكولا الأوّل. ومن ناحية أخرى، شهدت تلك الفترة ازدهارا كبيرا للثقافة الروسية في أعقاب ما عُرف بحرب نابليون عام 1812. كان هذا عصر بوشكين وغوغول وليرمونتوف وبيلينسكي وغلينكا وبريولوف. وداخل الأكاديمية، كانت قوانين الكلاسيكية المرتبطة ارتباطا وثيقا بأفكار الواجب المدنيّ والمشاعر الوطنية ما تزال قويّة. غير أن سمات الرومانسية الجديدة كانت أيضا ملحوظة.

    النجاح الكبير الذي حقّقته لوحة كارل بريولوف آخر أيّام بومبي ترك انطباعا دائما على ايفازوفسكي. وقد جسّدت تلك اللوحة انتصار المدرسة الرومانسية في الفنّ الروسي، كما لعبت دورا هامّا في تحفيز التطوّر الإبداعي لـ ايفازوفسكي. وعلاوة على ذلك، فإن ايفازوفسكي نشأ على الروح الرومانسية لأستاذه في الأكاديمية فوروبيوف.
    كان الفنّ الروسيّ في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر يجمع بين الرومانسية والواقعية. وكثيرا ما كان هذان الملمحان يجدان تعبيرا لهما في أعمال ايفازوفسكي. وكان هذا واضحا، بشكل خاصّ، في رسم المناظر الطبيعية، وهي شكل من أشكال الفنّ الواقعي الذي استمرّ يحمل ملامح رومانسية لفترة طويلة. وقد اكتسب ايفازوفسكي رؤية رومانسية في سنوات دراسته وحافظ عليها في مرحلة النضج. وظلّ حتى النهاية تابعا مخلصا للرومانسية، رغم أن هذا لم يمنعه من استنباط شكله الخاصّ من الواقعية.
    في عام 1836، اشترك ايفازوفسكي في تمارين أسطول بحر البلطيق بناءً على نصيحة من أستاذ مادّة رسم المعارك في الأكاديمية. كان الأستاذ يأمل في أن يسير الفنّان الشابّ على خطاه ويصبح متخصّصا في رسم معارك البحر. وفي خريف ذلك العام، ظهرت أعمال ايفازوفسكي في معرض الأكاديمية. وقد أظهرت تلك الرسومات علامات على الموهبة المتميّزة والإتقان الرائع لرسّام كان ما يزال وقتها في عامه الثاني من التدريب.

    جريدة "آرت غازيت" كتبت معلّقة على تلك الصور: إن لوحات ايفازوفسكي تكشف ولا شكّ أن موهبته ستقوده إلى ما هو أبعد وأن دراسته للطبيعة ستفتح له المزيد من الكنوز".
    إحدى صور ايفازوفسكي الأولى اسمها الطرق الكبيرة في كرونستات . ورغم أن مقدّمة هذه الصورة، مع شخصيّاتها البشرية المرسومة بسذاجة، تذكّر بالمعلّمين الهولنديّين القدماء، إلا أن المنظور فيه اتساع وعمق، مع منظر الغيوم التي تتراجع عن بعد. الأمواج تبدو ثابتة والحركة أقلّ. ومع ذلك فإن ايفازوفسكي تمكّن من الإمساك، بطريقة أو بأخرى، بالشخصيّة الخاصّة لبحر البلطيق البارد.
    في أكتوبر من عام 1837، أنهى ايفازوفسكي دراسته في الأكاديمية وحصل على الميدالية الذهبيّة الكبرى التي منحته الحقّ في الحصول على دورة دراسية طويلة في الخارج على حساب الأكاديمية. وأخذاً في الاعتبار موهبته الاستثنائية، فقد اتخذ مجلس الأكاديمية قرارا غير عاديّ قضى بإرساله أوّلا إلى شبه جزيرة القرم لمدّة عامين كي يتقن مهاراته في النوع الذي اختاره، أي رسم مناظر للمدن الساحلية. ثم بعد هذا يمكن إرساله إلى إيطاليا لمواصلة دراسته فيها.
    وعندما عاد إلى فيودوسيا، لم يضيّع ايفازوفسكي وقتا وشرع في العمل على الفور. تفانيه أدهش دائما أولئك الذين عرفوه. وسرعان ما أنتج سلسلة كاملة من المناظر الطبيعية عن جزيرة القرم، وكان حبّه لطبيعة وطنه واضحا في كلّ صورة.

    عندما كان ايفازوفسكي ما يزال طالبا، اجتذبته رومانسية المعارك البحرية وجمال السفن الشراعية. مشاركته في مناورات أسطول بحر البلطيق شجّعته على ما هو أكثر. في جزيرة القرم، أصبح لديه الآن فرصة للعودة إلى مواضيعه الأثيرة. وقد اقترح عليه احد قادة حرس السواحل في القوقاز أن يشارك في مناورات أسطول البحر الأسود. وخلال عام 1839، ذهب إلى البحر ثلاث مرّات ورسم عددا من مناظر الطبيعة وتعرّف إلى المزيد من قادة البحر الذين كانوا يعاملونه كفنّان ورجل بمنتهى الاحترام.
    في صيف عام 1840، عاد ايفازوفسكي إلى سانت بطرسبورغ قبل أن يباشر رحلته الدراسية إلى الخارج. وبحلول سبتمبر، كان قد وصل بالفعل إلى روما. وهناك، كما في بطرسبورغ، تعرّف على بعض الشخصيات البارزة في ذلك الوقت، فأصبح صديقا لـ نيكولاي غوغول واحتفظ بعلاقة ودّية مع الكسندر ايفانوف وغيره من الفنّانين الروس الآخرين الذين كانوا يعيشون آنذاك في روما. وكان لتلك الصداقات تأثير هائل على حياة الرسّام وأعماله.
    وفي الوقت نفسه، واصل ايفازوفسكي الرسم بغزارة. وظهرت لوحاته بانتظام في المعارض الإيطالية، محقّقة له شهرة غير عاديّة. وقد نشرت الصحف مقالات مهمّة عن نجاحه الكبير في إيطاليا وعن اختيار بعض صوره على أنها الأفضل. لوحتاه "خلق العالم" و"خليج نابولي في ليلة مقمرة" تسبّبتا في إحداث ضجّة كبيرة في عاصمة الفنون الجميلة. وأصبح "رسّام الطبيعة القادم من جنوب روسيا" موضوعا لأحاديث الناس في القصور وفي الأماكن العامّة. كما أجمعت الصحف بصوت عال على أن لا احد يتفوّق على ايفازوفسكي في تصويره الضوء والهواء والماء بشكل حقيقيّ ومقنع.

    مفهوم الضوء، على وجه الخصوص، كان مهمّا جدّا بالنسبة لـ ايفازوفسكي. والمُشاهِد المدرك سيلاحظ انه بينما يرسم الغيوم والسماء، فإن تركيزه كان دائما على الضوء الذي يضفي على مناظره إحساسا عاطفيا وحالما. في لوحات ايفازوفسكي، الضوء هو الرمز الخالد للحياة ورمز الأمل والإيمان.
    البابا غريغوري السادس عشر اشترى صورته "خلق العالم" وأمر بتعليقها في الفاتيكان، وهو المكان الذي لا توضع فيه سوى صور الرسّامين الأعظم في العالم. هذه اللوحة، أي خلق العالم، لا مثيل لها ولا تشبه أيّ شيء آخر رآه الناس من قبل، بل لقد قيل وقتها إنها معجزة من معجزات الفنّ.
    الفنّانون البارزون في ذلك الوقت اعترفوا بموهبة وإتقان ايفازوفسكي. وخلال رحلة له إلى إيطاليا عام 1842، أعجب رسّام المناظر الطبيعية الانجليزي الشهير جوزيف وليام تيرنر بلوحة "خليج نابولي في ليلة مقمرة"، لدرجة انه كتب قصيدة بالايطالية عن اللوحة وأهداها إلى ايفازوفسكي.
    وفي حين كان فنّانون كبار يمتدحون الرسّام، بدأ آخرون بتقليده. وفي إيطاليا التي لم تكن تعرف حتى ذلك الحين رسم المناظر البحريّة، بدأ هذا النوع من الرسم يشيع وينتشر شيئا فشيئا.
    وقد تمتّع ايفازوفسكي بنفس هذا القدر من النجاح عندما أحضر لوحاته إلى باريس في عام 1842. مجلس أكاديمية باريس منحه ميدالية ذهبية، ثمّ في عام 1857، مُنح وسام جوقة الشرف الذي نادرا ما يُمنح لرسّامين أجانب.

    ترى كيف تسنّى لـ ايفازوفسكي أن يدهش الخبراء ومحبّي الفنّ العاديّين على حدّ سواء؟ كانت أمانة الرسّام غير العاديّة في تعامله مع الطبيعة هي ما أذهلت معاصريه عندما نظروا في لوحاته. قدرته على نقل تأثير المياه المتحرّكة وانعكاسات الشمس والقمر كانت استثنائية. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن تصويره الدقيق، وفي نفس الوقت المشحون للغاية والدراماتيكي، للبحر. ومع ذلك، استغرق ايفازوفسكي بعض الوقت لاكتشاف سرّ خلق مثل هذه الصور المعبّرة والمثيرة للإعجاب. وقد كرّس كلّ سنوات دراسته وبدايات بعثته الخارجية لمتابعة وتجويد أسلوبه.
    من المثير للاهتمام أن يُشبّه ايفازوفسكي بالفنّان الروسي سيلفستر شيدرين الذي توفّي في إيطاليا قبل عشر سنوات من وصول ايفازوفسكي إليها. وقد احدث شيدرين قطيعة مع التقاليد الأكاديمية للمناظر الطبيعية التقليدية في عشرينات القرن التاسع عشر. وكان يرسم صوره مباشرة من الحياة الواقعية ويمزج فيها بين الواقعية الشديدة ومستوى معيّن من الشعر. كان شيدرين محبوبا من الفنّانين الشباب الذين كانوا يتوقون للوصول إلى الحقيقة في فنّهم. وكان ايفازوفسكي، هو الآخر، واقعا تحت سحر سلفه العظيم، وكان هدفه هو السير على خطاه. ولأنه كان راغبا في أن يكتشف سر فنّه، فقد حاول حتى رسم المناظر الطبيعية من نفس الأمكنة كما فعل شيدرين. ومع ذلك، ولأن ايفازوفسكي كان شخصا ذا مزاج مختلف ومنتميا لعصر آخر، فإنه لم يكن بإمكانه أن يصبح شيدرين آخر.

    قد تكون صورة ما دقيقة ومحكمة، ولكنها ستكون عقيمة ومملّة إذا انتفى بداخلها نبض الحياة. والمتلقّي قد يرى أماكن مألوفة وتفاصيل مستنسخة باهتمام وإحكام شديد، لكنّه يظلّ غير مكترث بما يراه. لذا، وبدلا من النسخ مباشرة من الطبيعة، حاول ايفازوفسكي أن يخلق في مرسمه صورة عن بحر متلألئ؛ بحر يقفز من الذاكرة. وحدثت معجزة. كان الأمر كما لو أن البحر قد بدأ حقّاً يتألّق ويومض، وهو مملوء بالحركة المستمرّة. كان الرسّام قد اكتشف طريقته الخاصّة في تصوير الطبيعة من الذاكرة، حتى من دون دراسات أوّلية ودون أن يقيّد نفسه باسكتشات سريعة بالقلم الرصاص.
    وقد برّر ايفازوفسكي طريقته نظريّا بقوله: إن حركة عناصر الطبيعة لا يمكن تسجيلها مباشرة من خلال الفرشاة. ولذا من المستحيل أن ترسم البرق أو الرياح أو الموج مباشرة من الطبيعة، بل يتعيّن على الرسّام أن يستدعي كلّ هذه التفاصيل من الذاكرة".
    قوّة ايفازوفسكي الهائلة على التذكّر ومخيّلته الرومانسية الواسعة هما العاملان اللذان مكّناه من توظيف هذا الأسلوب بروعة غير مسبوقة. وفي نفس الوقت، فإن السرعة والسهولة اللتين كان يرسم بهما جعلتاه يكرّر نفسه أحيانا، ما سمح لعناصر الابتذال وجمال الصالون أن تتسلّل إلى بعض أعماله.

    في عام 1844، طلب ايفازوفسكي إذنا للعودة إلى وطنه قبل الأوان من جولته الأوروبّية. وقرّر الذهاب إلى روسيا عبر هولندا. وفي أمستردام، نظّم معرضا للوحاته. كان المعرض ناجحا جدّا. وقد كرّمته أكاديمية أمستردام بمنحه لقب "أكاديمي". وعندما عاد إلى سانت بطرسبورغ، منحه مجلس الأكاديمية أيضا نفس اللقب. كما صدر مرسوم من القيصر يكافئه بلقب "رسّام البحرية".
    وفي ربيع العام 1845، بدأ ايفازوفسكي رحلة بحريّة حول سواحل آسيا الصغرى والأرخبيل اليونانيّ على متن سفينة بقيادة أدميرال يُدعى لوتكا، وهو باحث مشهور ومؤسّس الجمعية الجغرافية الروسية. ومرّة أخرى، انكبّ الفنّان على العمل المكثّف وسرعان ما امتلأت اسكتشاته بانطباعات جديدة.
    وفي طريق عودته، قرّر أن يمكث في شبه جزيرة القرم لبعض الوقت كي يرسم مشاهد لساحل البحر الأسود وللمدن التي زارها خلال رحلته الأخيرة. الصور من هذه الفترة تُعتبر من بين أفضل أعماله، خاصّة تلك التي صوّر فيها القسطنطينية وأوديسا. هنا، في الذهب المتلألئ للسماء والماء، وفي المباني التي ينيرها ضوء القمر، وفي الصور الظلّية ذات المسحة الرومانسية للتماثيل، بل وفي نظام الألوان كلّه، تشعر بنفس تلك الرؤية عن الجنوب الجميل والغرائبي الذي ألهم العديد من قصائد الكسندر بوشكين.

    كان الشابّ ايفازوفسكي قد قُدّم إلى بوشكين في معرض الأكاديمية عام 1836. وطوال حياته كان يبجّل الشاعر. وقد رسم بوشكين عديدا من المرّات وهو واقف على شاطئ البحر. وأفضل هذه الصور هي اللوحة التي رسمها للشاعر بالمشاركة مع زميله الرسّام ايليا ريبين عام 1887.
    بحلول منتصف أربعينات القرن، كان ايفازوفسكي يفكّر في الاستقرار بصفة نهائية ودائمة في فيودوسيا. كان يفضّل العمل على لوحاته في مدينة ساحلية هادئة ومسالمة. وهكذا مكث الرسّام في فيودوسيا بقيّة حياته. ومن وقت لآخر، كان يسافر إلى سانت بطرسبورغ ويزور موسكو. كما قام بعدّة رحلات إلى القوقاز عبر نهر الفولغا، وسافر إلى مصر بصحبة إحدى بناته بدعوة من الخديوي لحضور افتتاح قناة السويس بعد أن مُنح شرف أن يكون أوّل فنّان يرسم القنال. وأثناء إقامته في مصر، رسم عدّة لوحات للنيل والواحات الخارجة ولأهرامات الجيزة.
    في عام 1845، ذهب ايفازوفسكي إلى اسطنبول بدعوة من السلطان العثماني عبدالمجيد. وقد زار اسطنبول بعد ذلك ثمان مرّات متتالية ورسم هناك مناظر للمدينة وبورتريهات للسلاطين وحاشيتهم. وتوجد اليوم ثلاثون من لوحاته في القصر العثماني الكبير وفي عدد آخر من المتاحف التركية. وقد كافأته الدولة بميدالية ذهبية تقديرا لمكانته وموهبته، ولكنه رفضها في ما بعد احتجاجا على مذبحة الأرمن عام 1895. وبعض لوحاته التي رسمها في ما بعد يمكن اعتبارها انعكاسا لسخطه وغضبه من سوء معاملة الأتراك للأرمن، مثل لوحتي "طرد السفينة التركية" و"مذبحة الأرمن في ترابزون".

    بعد حوالي أربعين عاما من استقرار ايفازوفسكي في فيودوسيا، قام بتمويل إنشاء متحف هناك حمل في ما بعد اسمه. ويضمّ المتحف اليوم مائة وثلاثين من لوحاته بالإضافة إلى بعض أعمال لاغوريو وفولوشين وبوغيفسكي وغيرهم من رسّامي مناطق شرقي القرم التي اشتهرت بثقافتها العريقة وبطبيعتها القاسية والخلابة في آن.
    الأعوام من 1846- 1848 شهدت ظهور سلسلة من لوحات ايفازوفسكي المهمّة والمخصّصة للمعارك في عرض البحر. وجميع تلك اللوحات كانت تركّز على الماضي البطوليّ للأسطول الروسي، دون أن تتضمّن أيّ اثر للصيغ المبتذلة التي عادة ما يستخدمها فنّانو المعارك الرسميّون. وهي توصل أجواء الإثارة والرومانسية التي كان يشعر بها الفنّان عند رؤيته مشاهد الصراع البشريّ. وهذا واضح بشكل خاصّ في اللوحة المسمّاة "معركة شيسما" التي تصوّر معركة بحرية في الليل. الأسطول التركيّ المهزوم والذي تندلع في سفنه النار يوفّر مشهدا مثيرا بشكل غير عاديّ. وقد استطاع ايفازوفسكي أن يستخدم المؤثّرات الضوئية إلى أقصى حدّ. النيران المنعكسة في السحب تتنافس مع ضوء القمر وأعمدة الدخان المتصاعدة إلى السماء. الألوان القرمزية والسوداء تتمازج في ارتباك.
    حتى في أفضل صور ايفازوفسكي، فإن عناصر التقاليد الأكاديمية واضحة. وهي واضحة هنا أيضا، ليس فقط في العرض المذهل للمعركة، وإنّما كذلك في أوضاع البحّارة الأتراك وهم يحاولون البقاء طافين فوق أجزاء من سفينتهم المنكوبة.
    صورة أخرى من صور هذه السلسلة عنوانها معركة مضيق كيوس . هذه اللوحة مليئة بالتوتّر الداخلي. هنا حقّق ايفازوفسكي بمهارة شديدة تأثير العمق من خلال توظيف الصور الظلّية لرسم السفن القريبة والبعيدة.

    بحلول خمسينات ذلك القرن، كان العنصر الرومانسيّ في أعمال ايفازوفسكي قد أصبح أكثر وضوحا. ويمكن رؤية هذا بجلاء في واحدة من أفضل وأشهر صوره، وهي "الموجة التاسعة". وفيها نرى مجموعة من الناجين من سفينة غارقة وهم على وشك أن تجتاحهم موجة هائلة. خطر عناصر الطبيعة صوّره الرسّام هنا ببراعة. الأمواج تلتفّ وترتفع، ثم تهوي بكامل قوّتها لتحطّم وتدمّر. حركة الغيوم التي لا تهدأ والرذاذ المتطاير يعزّزان الانطباع عن إعصار هائج. وعلى الرغم من هذا، يبدو الأشخاص متشبّثين بالسارية المكسورة وهم يناضلون كي يبقوا على قيد الحياة. الناظر يفهم رعب العاصفة، لكن مشاعره تنشغل بجمال الصورة.
    هذه الثنائية هي ما يميّز لوحات ايفازوفسكي، لكنّها حاضرة أيضا في لوحة بريولوف المشهورة "آخر أيّام بومبي". هاتان اللوحتان يفصل بينهما حوالي سبعة عشر عاما. وهما مختلفتان جدّا في نوعهما، وكذلك في مكانهما في تاريخ الفنّ الروسي. لكن من الناحية الأسلوبية، فإنهما تقفان معا وتمثّلان صعود الرومانسية، سواءً في نموّ الرسّامَين أو في الفنّ الروسي ككلّ.

    في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أصبحت الاتجاهات الواقعية مهيمنة على الثقافة الروسية. ولم يفت هذا على ايفازوفسكي. الروح الجديدة للواقعية الواعية كان لها تأثيرها على أعماله وعلى أعمال العديد من الرسّامين الآخرين. ولكن ميوله الرومانسية استمرّت دون توقّف.
    أثناء حرب القرم (1853 - 1856) أمضى ايفازوفسكي بعض الوقت في مدينة سيفاستوبول المحاصرة، ورسم بعض الاسكتشات هناك. ومع ذلك، فإن هذه الحرب، التي كانت تجري غالبا على اليابسة، لم تجد منه سوى القليل من الاهتمام في عمله. وبعد فترة بسيطة، بدأت المواضيع التي تتناول "الأراضي الجافّة" في جذب انتباهه أكثر فأكثر.
    كان ايفازوفسكي يعرف جيّدا السهوب الأوكرانية الفسيحة، لأنه كثيرا ما كان يقطعها في رحلاته إلى سانت بطرسبورغ. كان ذلك الفراغ اللانهائي يشعل خياله. ومن الآن فصاعدا، ستأخذ عربات الفلاحين في حقول الذرة والمنازل الزراعية الأوكرانية مكانها في صور الرسّام. في تلك الفترة، أصبح العديد من الفنّانين الروس ذوي الميول الديمقراطية مهتمّين بفكرة الفلاحين. وربّما كانت هذه النزعة هي التي حوّلت عقل ايفازوفسكي في ذلك الاتجاه. غير أن التقاليد الأكاديمية في الرسم لم تسمح له بملء صوره بالمحتوى الاجتماعي الذي اتسمت به واقعية تلك الفترة. والصور التي رسمها في هذا الوقت ليست من بين أفضل أعماله.

    في عام 1860، زار ايفازوفسكي منطقة القوقاز. وقد تركت فخامة طبيعتها الجبلية في نفسه انطباعا لا يُمحى ورسم مجموعة كاملة من الصور عن المنطقة. كان ايفازوفسكي قد رسم الجبال من قبل، مع أمواج متكسّرة على منحدراتها الداكنة. لكن موضوع الجبل ظهر أكثر فأكثر في السنوات اللاحقة. ومرّة أخرى، وجد الرسّام رومانسيّة ودراما في الاشتباك ما بين عناصر الطبيعة، وخاصّة ما بين الجبل والبحر. في إحدى اللوحات بعنوان "قرية في داغستان" ، ترتفع جبال حمراء مثل موج متجمّد. كلّ شيء في هذه الصورة تمّ تركيبه ليمنحها نوعية رومانسية: عتمة الوديان، الخلفية الضبابية ورجال القبائل الذين يظهرون على الطريق مع دوابّهم وعتادهم. وفي نفس الوقت، فإن هذه الصورة وثائقية، من حيث أنها تسجّل الملامح الفعلية لبلدة حقيقية في القوقاز قبل حوالي مائة وأربعين عاما.

    في تلك الفترة تقريبا، تحوّل ايفازوفسكي إلى موضوع آخر محبّب إلى نفسه. ففي عام 1867، بدأ اليونانيون في جزيرة كريت تمرّدا ضدّ الحكم التركيّ. ومنذ طفولة الرسّام وهو يشعر بتعاطف خاصّ مع اليونانيين في نضالهم من أجل التحرّر. وقد ترجم تعاطفه ذاك في لوحة اسماها "فوق جزيرة كريت"، وفيها يصوّر لحظة دراماتيكية يبدو فيها الثوّار وهم يودّعون أهلهم وأحبّائهم الذين تمّ إجلاؤهم على متن سفينة روسية. مزاج الطبيعة يتوافق مع مشاعر الناس، ففوق البحر ثمّة سماء صافية بلا غيوم. لكن فوق الجزيرة، تتجمّع الغيوم العاصفة والثقيلة ملقية بظلالها الداكنة على الشعاب والوديان إلى أسفل، بينما تبدو الأشجار وقد انحنت بفعل الرياح القويّة. هذه الصورة تعكس، بطريقة ما، حالة الرسّام الذهنية. فقد كان وقتها يزحف نحو الخمسين وكان على شفا ثورة جديدة في تطورّه الفنّي.
    الثلث الأخير من القرن التاسع عشر شهد ازدهار الواقعية في كافّة أنواع الفنّ الروسي. في ذلك الوقت، برزت أسماء مشهورة مثل ريبين وكرامسكوي وسوريكوف وشيشكين وليفيتان، وكان هؤلاء آنذاك يرسمون أفضل أعمالهم.
    موهبة ايفازوفسكي أخذت، هي أيضا، اتجاها جديدا في سبعينات ذلك القرن. الصور "السكّرية" نوعا ما في أعماله المبكّرة أفسحت المجال لمزيد من الرؤية الواقعية للعالم. لكن التوتّر الرومانسي لم يفارق لوحاته، وإن بدأ يأخذ سمة أكثر صرامة وتحفّظا. في لوحة قوس قزح ، يستخدم الفنّان ألوانا أكثر رقّة كما لو انه بدأ ينظر إلى البحر بعينين جديدتين وأكثر قدرة على التمييز. الأمواج والهواء المشبع بالرذاذ مرسومة بطريقة أكثر ابتكارا من ذي قبل.

    للوهلة الأولى، لا يوجد شيء غير عاديّ في لوحة "منظر للبحر في ضوء القمر". القمر المكتمل يخترق غطاء من الغيوم الخفيفة بينما تلوح جبال على البعد. انعكاس ضوء القمر يمتدّ مثل طريق متعرّج. لكنّ كلّ هذا مرسوم بطريقة جديدة. فحركة الأمواج أكثر كثافة. وهناك شعور يفرض نفسه بالفراغ وبجمال ليالي الجنوب الذي نقله الرسّام ببراعة.
    غير أن أعظم إنجاز لـ ايفازوفسكي في هذه الفترة هو لوحته البحر الأسود . هنا خلق الفنّان صورة عامّة لعناصر البحر في تجليّاتها المتغيّرة باستمرار. الأفق البعيد هادئ. لكنْ في المقدّمة يصبح البحر أكثر اضطرابا، بينما الأمواج تكسر السطح الأملس للماء. حركة الأمواج المهتزّة واتّساع البحر رُسما بقوّة استثنائية.
    حتى الآن، يبدو الماء بحالة غضب خفيفة. لكنّ حركته مخيفة ولا هوادة فيها. الزرقة الجميلة للسماء يغالبها جدار رماديّ كثيف من السحب. والظلال الملوّنة تظهر على الماء مع بقع وأضواء مرقّطة، بعضها أزرق وبعضها الآخر فيروزيّ أو أخضر نقيّ.
    الرسّام ايفان كرامسكوي، الذي كان بنفس الوقت ناقدا مميّزا وحسّاسا، كتب عن هذه الصورة يقول: ليس بوسعك أن ترى هنا غير السماء والماء. لكنّ الماء محيط لا حدود له. ليس هائجا، ولكنه غير هادئ. كما انه لانهائي، تماما كالسماء التي فوقه. هذه هي إحدى أقوى الصور التي رأيتها في حياتي".

    الفنّان النادر هو الذي يقاوم الشيخوخة ويتجاوز أعماله السابقة. وايفازوفسكي حقّق ذلك مرّتين: مرّة عندما رسم لوحة البحر الأسود وهو في سنّ الرابعة والستين، ومرّة ثانية عندما رسم لوحته الأخرى الضخمة وسط الأمواج وهو يقترب من الثانية والثمانين. في اللوحة الأخيرة، رسم الفنّان شبكة معقّدة من الأمواج بمجموعة من الألوان الرمادية والخضراء والزرقاء وبضربات فرشاة شفّافة وخفيفة. وبمهارة لا تضاهى، خلق صورة لمحيط أثاره إعصار. الأمواج تزمجر وتتصادم وتتكسّر في دوّامات قبل أن تبتلعها الهاوية العميقة. هذا الجسم الواسع من الماء يبدو في حالة حركة محمومة ويمرّ بتحوّلات لا نهاية لها. هذا هو ما يحدث عندما تبلغ قوّة العناصر والحركة أقصى حدودها. هذه الصورة للبحر الغاضب، ولكن الجميل، تشكّل ذروة مناسبة لأعمال الفنّان العظيم.
    حافظ ايفازوفسكي على قدرته على العمل وعلى طاقته وذكائه الخلاق حتى اللحظات الأخيرة من حياته. وقد رسم أكثر من ستّة آلاف لوحة، بالإضافة إلى الكثير من الاسكتشات المنفّذة بمهارة. والعديد من أعماله أخذت مكانها بين أعظم إنجازات الفنّ البصري.

    في عام 1848، تزوّج ايفازوفسكي في سانت بطرسبورغ من مربّية أطفال انجليزية تُدعى جوليا غريفز وأنجب منها أربعة أطفال. لكن الزواج لم يكن سعيدا فانتهى بالطلاق. وفي سنّ الخامسة والستّين تزوّج مرّة أخرى من أرملة ارمنية من فيودوسيا تصغره بأربعين عاما اسمها آنّا بورنازيان. ورغم فارق السنّ الكبير بينهما، إلا أن الزوجين عاشا حياة سعيدة ومستقرّة. كانت آنّا معجبة بفنّ ايفازوفسكي وكان هو يقدّر جمالها وأخلاقها. وقد رسم لها بورتريها، كما أهداها قصيدة حبّ من نظمه.
    كان القدَر كريما مع ايفازوفسكي، فمنحه عقلا صافيا وروحا وثّابة. وقد عمل طوال حياته في بيئة متجانسة من اختياره، وكانت موهبته مشهودا لها عالميّا، وتلقّى كلّ أشكال الاعتراف الرسمي الذي يستحقّه.
    ومن منزله في فيودوسيا، ظلّ ايفازوفسكي يعمل لخير سكّان بلدته ولتنميتها وذلك حتى وفاته في التاسع عشر من أبريل عام 1900. وقد اخذ هذا الدور على محمل الجدّ، فقام بتزويد البلدة بالمياه من ماله الخاصّ، وافتتح بها مدرسة للفنّ، وشيّّد متحفا للتاريخ. وبفضل جهوده أيضا، تمّ إنشاء ميناء تجاريّ في فيودوسيا وشبكة لسكك الحديد. وبهذه الأفعال اكتسب ايفازوفسكي حبّ واحترام أهالي بلدته. وحتى هذا اليوم، فإن أهمّ معالم البلدة هو المتحف الذي يحمل اسمه، وقبره الكائن بالقرب من الكنيسة الأرمنية القديمة.
    في العصر السوفياتي، كان ايفازوفسكي يُقدّم على انه رسّام روسيّ، مع انه ينتمي أيضا إلى الثقافة الأوكرانية. وعلى الرغم من انه تلقّى معظم تعليمه وتدريبه في روسيا، إلا أنه أنجز أغلب أعماله في أوكرانيا، وبالتحديد في شبه جزيرة القرم. الأرمن، من جهتهم، يصرّون على اعتبار ايفازوفسكي فنّانا أرمنيّا، ويسمّونه "ايفازيان" للتأكيد على هويّته الأرمنية. وقبل سنوات، أقيم للرسّام في يريفان عاصمة أرمينيا تمثال من البرونز تخليدا لذكراه.

    Credits
    stpetersburg-guide.com
    totallyhistory.com

    الأحد، يوليو 14، 2013

    سوناتا كرويتزر

    سوناتا كرويتزر هو اسم لمعزوفة موسيقية ولرواية ولأكثر من لوحة تشكيلية. ظهر الاسم لأوّل مرّة عندما أطلقه بيتهوفن على إحدى مؤلّفاته الموسيقية. كان اسم المعزوفة في البداية "سوناتا الكمان رقم تسعة". وهي معروفة بطولها وبالجزء الخاصّ فيها الذي يتطلّب عزف الكمان. الحركة الأولى غاضبة إلى حدّ ما، والثانية تأمّلية، والثالثة مندفعة مع شيء من المرح.
    عندما فرغ بيتهوفن من تأليف هذه القطعة أهداها إلى صديقه عازف الكمان جورج بريدجتاور 1778)- 1860)، الذي عزفها مع بيتهوفن في العرض الأوّل لها في مايو من عام 1803 على مسرح إحدى الحدائق في برلين. لكن حدث بعد العزف أن عمد بريدجتاور إلى إهانة سيّدة كان بيتهوفن يحترمها كثيرا. لذا وتحت تأثير شعوره بالغضب، قام بيتهوفن بإزالة اسم بريدجتاور من المعزوفة ووضع بدلا منه اسم رودولف كرويتزر الذي كان واحدا من أشهر عازفي الكمان في ذلك الوقت.
    ومع ذلك، لم يعزف كرويتزر هذه السوناتا أبدا، بل اعتبرها "مزعجة وغير مفهومة". كما انه لم يكن مهتمّا بأيّ من مؤلّفات بيتهوفن، بالإضافة إلى أن الاثنين لم يلتقيا سوى مرّة واحدة فقط وكان لقاءً عابرا.
    ليو تولستوي كان معجبا على ما يبدو بـ سوناتا كرويتزر . فقد اختار الاسم عنوانا لإحدى رواياته التي نشرها في العام 1889م وسرعان ما منعتها السلطات الروسية. الرواية تقدّم حججا لفكرة التعفّف الجنسي، كما تتضمّن وصفا متعمّقا للغضب الناتج عن الغيرة العاطفية.
    مصدر الرواية كان عددا من الرسائل التي تلقّاها تولستوي من امرأة مجهولة كانت توقع رسائلها إليه باسم "سلافيانكا". وكانت تتبادل الأفكار مع الكاتب حول الوضع المروّع الذي وجدت النساء أنفسهنّ فيه في المجتمع الروسي آنذاك.

    وهناك مصدر آخر للرواية هو قصّة رواها لـ تولستوي أحد أصدقائه الذي كان قد سمع مسافرا يتحدّث في القطار عن خيانة زوجته له. وعندما أكمل تولستوي كتابة المسوّدة الأولى، كان صديق للعائلة يدرّس الموسيقى للأطفال في منزل الكاتب. وفي احد الأيّام، سمع الموسيقيّ وهو يعزف سوناتا بيتهوفن هذه. وبعد أدائها، اقترح تولستوي على الرسّام إيليا ريبين، الذي كان حاضرا، أن يساعده في التعبير عن المشاعر التي أثارتها تلك الموسيقى في نفسه.
    تتحدّث الرواية عن امرأة تعيش زواجا بلا حبّ. وهي تعزف سوناتا بيتهوفن مع عازف كمان مفعم بالحياة. وتبدو المرأة كما لو أن عاطفة الموسيقى تحملها بعيدا. تقول وهي تصف تأثير الموسيقى عليها: الموسيقى تجعلني أنسى نفسي وحالتي الحقيقية. إنها تحملني بعيدا إلى حالة أخرى من حالات الوجود، حالة ليست حالتي. تحت تأثير الموسيقى، يساورني إحساس واهم بأنني اشعر بأشياء لا اشعر بها حقّا وبأنني افهم أشياء لا افهمها وبأنني قادرة على فعل أشياء لست قادرة على القيام بها. هل من المسموح به حقّا لأيّ شخص يشعر بمثل هذا الشعور، خاصة إن كان عديم الضمير، أن ينوّم مغناطيسيّا شخصا آخر، ثم يفعل معه ما يشاء؟".
    زوج المرأة، الذي يعاني من الأوهام والغيرة، يقطع رحلة عمل له ويعود إلى المنزل بشكل غير متوقّع بعد منتصف الليل، ليجد زوجته جنبا إلى جنب مع عازف الكمان في غرفة الطعام بكامل ملابسهما، ولكنهما منهمكان في حديث حميم. واقتناعا منه أنها قد خانته، يقوم بقتلها في نوبة من نوبات الغضب.
    ولأن تولستوي يروي هذه القصّة من وجهة نظر الزوج الموسوس والغاضب، فإننا لا نعرف على وجه اليقين ما الذي حدث بين الزوجة البلا اسم وشريكها في عزف السوناتا.
    اللوحة فوق اسمها أيضا سوناتا كرويتزر، وهي لرسّام ايطالي اسمه ليونيللو باليسترييري. درس باليسترييري الرسم في روما على يد دومينيكو موريللي. ثمّ انتقل إلى باريس حيث أصبح جزءا من دائرة من الموسيقيين وربطته صداقة وثيقة مع مواطنه الموسيقيّ والشاعر البوهيمي جوسيبي فانيكولا. ومعظم لوحات الرسّام هي إمّا لموسيقيين أو عن أجواء موسيقية.
    في اللوحة، يتذكّر باليسترييري ليلة قضاها في باريس بصحبة عدد من أصدقائه الموسيقيين وهم يستمعون إلى فانيكولا الذي كان يعزف سوناتا كرويتزر لـ بيتهوفن. والرسّام يصوّر نفسه جانبيّا بينما هو جالس إلى جوار امرأة ويقرأ كتابا.

    الأربعاء، يونيو 13، 2012

    فيتشين: جسر بين ثقافتين

    "كان شتاء عام 1920 واحدا من أصعب الشتاءات في تاريخ الثورة الروسية. كان كلّ شيء يتّجه للأسوأ. وأصبح المواطنون المتحمّسون لرؤية روسيا جديدة وحرّة جائعين ونصف متجمّدين وجدّ مكتئبين.
    كان الوضع الاقتصادي في البلاد كلّها قد وصل إلى حالة يُرثى لها. أضف إلى ذلك أن الشتاء البارد بشكل غير عاديّ أنهك الناس أكثر وجعلهم فريسة للصقيع والظلام، وقبل كلّ شيء الجوع.
    وما بين الموجات المخيفة من فقدان التعاطف الإنساني وعدم اكتراث الطبيعة، كان يتعيّن علينا أن نتحوّل إلى الطبيعة وأن نصلّي من أجل الرحمة". - من مذكّرات الكسندرا فيتشين "مسيرة الماضي"

    في فترة عصيبة من التاريخ، كان نيكولاي فيتشين (1881-1955) يدرس في مدرسة الفنّ في كازان. كان يتنقّل جيئة وذهابا باستخدام القطار على خط موسكو - كازان في عطلة نهاية الأسبوع. وبالإضافة إلى مشاكل النقل ونقص الطعام والوقود، كان من الصعب عليه أيضا تدبير الألوان وقماش الرسم.
    في سيرته الذاتية، يقول فيتشين عن فترة دراسته آنذاك: كان البرد لا يطاق في الداخل. كنّا نرسم على معاطف الفرو والقفّازات والأحذية الثقيلة. كان من المستحيل خلع الملابس. كنت اشعر بعمق كيف أنني كنت افقد طاقتي الإبداعية بسرعة. كلّ أشكال الفنون في ذلك الوقت كانت تُستخدم من اجل الدعاية".
    وعندما وجد فيتشين نفسه مضطرّا لرسم اللجان البيروقراطية بقرار من الأنظمة السوفياتية لـ ماركس ولينين وغيرهما، بدأ الرسّام يفكّر في خطّة للهرب. وانتظر إلى أن أصبحت الحياة في منتهى البؤس. فقد مات والداه بالتيفوئيد، كما أصيب فيتشين نفسه بالتهاب رئوي ولم يعد بمقدوره مواصلة الدراسة.
    كان موظّفو فرق الإغاثة الأمريكية قد بدءوا يتوافدون على روسيا. ولم يكن فيتشين يخفي إعجابه بالحياة في أمريكا. وعندما وصل إليها برفقة زوجته الكسندرا وابنته آيا كتب يقول: يوجد سلام وحرّية في هذه البلاد. يمكن للمرء أن يعمل ويرسم ما يريد. ليس هناك مآسٍ ولا فوضى يائسة تمزّق أعصاب الناس. إن جذوري هناك. لكنّي فقدت رغبتي في العمل وإرادتي في الحياة والأمل".

    على الرغم من الاضطرابات ذات الأبعاد الملحمية التي عايشها، كان نيكولاي فيتشين يواصل إبداعه. ولا يُعرف مدى تأثير تجاربه المريرة في الحياة على أسلوبه الفنّي الجريء والمتفجّر والعاصف.
    لكن ما نعرفه من نظرة سريعة على حياته وعلى أعماله التي لا نظير لها، هو أن الحروب العالمية والثورات والصراعات الأهلية والمجاعات وانهيار الاقتصاد والمرض والهجرة القسرية والعوائق اللغوية وتجربة الطلاق في نهاية المطاف لم تستطع أن تسحق عزيمة فيتشين وإصراره على أن ينتج فنّا مختلفا. وبينما كانت الأرض تهتزّ تحت قدميه بطريقة خطيرة، كانت لوحاته تفوز بالعديد من الجوائز وتُعرض في أنحاء متفرّقة من العالم.
    واليوم، وبعد مرور أكثر من خمسين عاما على وفاته، ما تزال أعماله تحقّق أرقام بيع قياسية في المزادات العلنية.
    ولد نيكولاي فيتشين عام 1881 في كازان عاصمة جمهورية التتّار الواقعة على نهر الفولغا. كان والده يمتلك محلا للنجارة متخصّصا في نحت وتذهيب المناظر التي تذهب لتزيين الكنائس. وفي متجر والده، وقع الصغير نيكولاي في حبّ حفر الخشب. وفي الرابعة، أصيب بمرض التهاب السحايا المهلك ودخل في غيبوبة لمدّة أسبوعين. حتّى أفضل الأطبّاء لم يمكنهم فعل شيء من اجله وتوقّعوا أن يصاب بتخلّف عقلي إن كُتبت له الحياة. وكان على والديه أن يصلّيا من أجل حدوث معجزة. ثمّ لم يلبث الطفل أن شُفي من مرضه بما يشبه المعجزة.
    بدأ نيكولاي فيتشين دراسة الرسم عندما بلغ الرابعة عشرة. كان من بين أساتذته اييليا ريبين الذي يقول فيتشين عنه: كان يثمّن الأصالة في أعمال تلاميذه. ولم يكن يرى عمل الطالب في ما يرسم فحسب، بل روحه أيضا".
    لكن ريبين لم يلبث أن غادر الأكاديمية. "لقد تركنا لوحدنا. لم يعد هناك احد يمتدحنا أو يسخر منّا. لذا أصبحنا نعتمد على قدراتنا الذاتية. وبدأت أجرّب أساليب مختلفة في الرسم. وفي بدايات الشتاء تغيّر أسلوبي بشكل جذريّ".
    في ذلك الوقت، فازت إحدى لوحاته بجائزة في معرض أقيم بـ روما. ثمّ دُعي للمشاركة في معارض دولية مختلفة. واشترى أعماله بعض الأمريكيين الذين ساعدوه في ما بعد على تيسير هجرته إلى أمريكا.
    وبدأت جوائز عديدة أخرى تأخذ طريقها إليه. وأصبح جامعو الأعمال الفنّية في ايطاليا وفرنسا وألمانيا والولايات المتّحدة يطلبون أعماله.

    تخرّج فيتشين من الأكاديمية مع منحة للسفر إلى الخارج لدراسة الفنّ. وتجوّل في عواصم الفنّ في أوروبّا. واستوعب فنّ النمسا وايطاليا وألمانيا وفرنسا. واستكشف خلال رحلته تلك تقنيّات اللون والضوء والهواء التي كان يستخدمها رينوار وديغا ومانيه ومونيه وسورا. وترك كلّ واحد من هؤلاء تأثيرا ما عليه طوال حياته.
    في عام 1913، أصبحت الفتاة الأرستقراطية الجميلة الكسندرا بلكوفيتش ابنة مؤسّس أكاديمية كازان للفنون زوجة لـ نيكولاي فيتشين. وفي عام 1914، أي في بداية الحرب العالمية الأولى، رُزق الزوجان بطفلتهما الأولى وأسمياها آيا. وخلال الثورة البلشفية عام 1917، فرّت الكسندرا وآيا إلى منزل العائلة الريفي. وفي عام 1923، وبعد الحصول على مساعدة بعض الأصدقاء، غادرت العائلة روسيا إلى مدينة نيويورك التي وصلتها بالقارب واتخذتها مقرّا ووطنا بديلا.
    في نيويورك، استأنف فيتشين عمله في الرسم والتدريس على الفور. وبعد ثلاث سنوات، أصيب بمرض السلّ، ونصحه طبيبه بالبحث عن مكان يتوفّر فيه جوّ جافّ. وأوصاه احد أصدقائه بالذهاب إلى قرية تاوس في نيومكسيكو.
    وبحلول عام 1926، وصل فيتشين وعائلته إلى تاوس. كان وقتها في منتصف العمر تقريبا. وقد رحّب به الهنود الحمر والأمريكيون من أصول اسبانية. وألهمه ذلك أن يرسم كرم الطبيعة والناس.
    في ذلك الحين، بدأت لوحاته تكتسب جرأة ونضجا إضافيين. أصبحت مناظره أكثر حيوية وأخفّ وأكثر إشراقا بفعل الألوان النقيّة والساطعة.
    في مقال روسي عن فيتشين، كتبت غالينا تولوزاكوفا تقول: التغيير الجذريّ في نظرة فيتشين إلى العالم حدث في تاوس بـ نيومكسيكو. أصبحت لوحاته تضجّ بالألوان المبهجة والمشرقة والساخنة والشديدة الكثافة".
    في تاوس، اشترى الرسّام منزلا أعاد تشكيله وقام بتوسعته. ثم تحوّل المنزل في ما بعد إلى "متحف الفنّ في تاوس"، حيث يمكن للزوّار اليوم التجوّل على مهل بين الغرف والإعجاب بأعمال الرسّام، بدءاً بالخشب المحفور باليد، إلى ضربات فرشاته التي تبدو عشوائية على قماش لوحاته.

    كانت الكسندرا بلكوفيتش العازل الذي يفصل فيتشين عن العالم الخارجيّ. وكانت تقوم بالاتصالات نيابةً عنه وتدير العديد من أعماله. كما كانت تحرص على إبقاء الزوّار على مسافة منه وهو يرسم. ولم يكن يتسامح مع أيّ إلهاء أو تبديد لوقته. كانت الكسندرا تتحمّل قلقه وعصبيّته. غير أن تلك العلاقة كانت مليئة بالتوتّر والصراع أيضا. وبعد إحدى فورات غضبه الموجّهة نحو الكسندرا أمام بعض رعاته، طلبت منه الطلاق. وقالت في ما بعد: كان من الممكن أن أغفر له لو انه لم يفعل ذلك أمام الزوّار".
    وفي عام 1934، انتهى زواج فيتشين الصاخب من الكسندرا. وبعد أن قطع أواصره مع موطنه الأوّل، والآن مع الزوجة التي أحبّها، لم يكن أمام فيتشين إلا أن يعود مع آيا مجدّدا إلى نيويورك. وقرّر أخيرا أن يستقرّ في وادٍ قرب سانتا مونيكا حيث عاش بقيّة أيّامه. وخلال تلك الفترة، سافر مع طلابه للرسم في المكسيك وفي جزيرة بالي في أقاصي البحار الجنوبية.
    على النقيض من الانطباعيّين المعروفين بضربات فرشاتهم القصيرة لخلق توتّر سطحي مع طابع ليّن وأنثوي، فإن نيكولاي فيتشين كان يستخدم فرشاة جريئة وعريضة خالقا توتّرا انفعاليا مع مسحة ذكورية. ولسنوات طويلة، سواءً أثناء حياته أو بعد فترة طويلة من وفاته، استمرّ عشرات الرسّامين يشيدون به ويحاكون أعماله المشرقة والقويّة.

    Credits
    fechin.com
    taosartmuseum.org

    الجمعة، أبريل 20، 2012

    ديبلوماسية القوزاق

    إحدى أشهر لوحات ايليا ريبين هي لوحته المسمّاة القوزاق يكتبون رسالة إلى السلطان العثماني. وهي عبارة عن إعادة بناء لحادثة وقعت في القرن السابع عشر الميلادي.
    وقد رسمها الفنّان بعد أن قام ببحث مستفيض في أصل الحادثة التي تستند إليها اللوحة. ومن اجل ذلك سافر كثيرا في أنحاء اوكرانيا وروسيا للتحقّق من تفاصيلها.
    اللوحة ذات نبرة وطنية واضحة. وهي تصوّر الروح الميّالة للاستقلال والحرب لدى شعب القوزاق. كما أنها تتضمّن شيئا من روح النكتة والدعابة.
    ويظهر فيها جماعة من القوزاق "لا علاقة لهم بالقوقاز" وهم منهمكون في كتابة رسالة جوابية مهينة للسلطان العثماني محمود الرابع في جوّ من الهتاف والضحك.
    وكان السلطان قد كتب حوالي منتصف القرن السابع عشر إلى القوزاق رسالة يقول فيها: من السلطان محمود ابن محمّد، شقيق الشمس والقمر، حفيد وكيل الله، حاكم ممالك مقدونيا وبابل وأرمينيا والقدس ومصر العليا والسفلى، إمبراطور الأباطرة وسيّد الملوك الذي لا يُهزم، حارس قبر عيسى المسيح والوصيّ الذي اختاره الله، أمل المسلمين والمدافع عن المسيحيين. آمركم يا شعب القوزاق أن تخضعوا لنا طوعا ودون أيّ مقاومة، وأن تكفّوا عن إقلاقنا باعتداءاتكم وغاراتكم المستمرّة".
    وقد ردّ القوزاق على السلطان برسالة مليئة بالسباب والشتائم يقولون فيها: من قوزاق الدنيبر إلى الشيطان التركي صاحب إبليس اللعين. لا يليق بك أن تدّعي الوصاية على أبناء المسيح. فما أنت إلا طبّاخ بابل وتيس الاسكندرية وخنزير أرمينيا. ونحن لا نخشى جيشك وسنخوض المعارك ضدّك في البرّ والبحر".
    الذي يقرأ هذه الرسالة سيفاجأ ولا شكّ بالأسلوب العدائي وغير المبرّر الذي كُتبت به، مقارنة مع رسالة السلطان التي تخلو تقريبا من كلمات التهديد أو الإساءة. ولكن يبدو أن القوزاق لم يكونوا يفهمون سوى هذا النوع من "الديبلوماسية"، مدفوعين بحبّهم الفطري للحروب وميلهم للحياة القاسية والعنيفة.

    هذا الخطاب ما يزال يُعتبر لغزا حتى اليوم. ولا يُعرف إن كان قد كُتب كوثيقة تاريخية أم كقطعة من الأدب الساخر. المؤرّخون مختلفون حول هذه النقطة. كما لا يُعرف إن كان الخطاب قد أرسل فعلا إلى السلطان أم انه كُتب على سبيل السخرية والدعابة فحسب.
    الشخص الذي وقّع الرسالة هو ايفان سيركو وهو محارب من القوزاق عُرف بعنفه وشراسته. وهناك نسخ مختلفة من الرسالة ذُكرت في أكثر من مصدر. وواضح أن الهدف منها كان السخرية من ألقاب السلطان الكثيرة.
    كلمة القوزاق تعني المحاربين الأحرار. وقد عُرفوا بكونهم مقاتلين أشدّاء وبشغفهم بالخمر وحبّهم لروح المغامرة. لذا من الواضح أنهم لم يكونوا يقولون كلاما في الهواء عندما تفاخروا بمعاركهم في البرّ والبحر. وتروي بعض المصادر أنهم وصلوا إلى بوّابات القسطنطينية نفسها أكثر من مرّة. كما استعان بهم القياصرة في حماية حدود امبراطوريّتهم وفي بسط سيطرتهم على سيبيريا وأراضي آسيا الوسطى.
    عبقرية ريبين وتفانيه أنتجا صورة من العصر البطولي لتاريخ القوزاق الأوكرانيين. وقد لزم الرسّام ثلاثة عشر عاما كي ينجز اللوحة. وراعى في رسمها الدقّة التاريخية من خلال استقصاء آراء بعض المؤرّخين عن الحادثة.
    ولد ايليا ريبين في أوكرانيا عام 1844. وفي صغره، كان يكسب رزقه من رسم البورتريهات والايقونات الدينية. وعند بلوغه العشرين دخل أكاديمية سانت بطرسبيرج للفنون كي يدرس الرسم.
    لوحاته الأولى كانت تتناول مواضيع كلاسيكية. وكانت مقدرته في رسم البورتريه استثنائية. وقد ترّسخت شهرته في الرسم عندما بلغ الخامسة والعشرين. وصوره التي رسمها لأشهر شخصيات عصره مليئة بالتأثيرات السيكولوجية العميقة.
    المعروف أن ايليا ريبين لم يكن سعيدا بالثورة البلشفية. وقد رفض أن يواصل العيش في روسيا السوفياتية واختار فنلندا وطنا بديلا. وتوفّي فيها في سنّ السادسة والثمانين.

    الخميس، أبريل 05، 2012

    سيروف: فتاة مع ثمار خوخ

    نظرة واحدة إلى هذه اللوحة قد لا تكفي. تفاصيلها الجميلة وجوّها الحميم والعفوية التي رُسمت بها هي من العناصر التي تجذب العين وتبعث إحساسا بالصفاء والسكينة. وشخصيّا اعتبرها إحدى لوحاتي المفضّلة. اسم اللوحة "فتاة مع ثمار خوخ" أو "بورتريه فيرا مامونتوفا" للرسّام الروسي فالانتين سيروف. ولهذه اللوحة قصّة تستحقّ أن تُروى.
    في العام 1872، اشترى الثريّ الموسكوفي سافا مامونتوف ضيعة ابرامتسيفو من صاحبها القديم. كانت الضيعة عبارة عن مجموعة من البيوت الأنيقة يتفرّع عنها عدد من الجسور الخشبية التي تقود إلى غابة من الأشجار الوارفة الظلال.
    كان مامونتوف راعيا ومحبّا للآداب والفنون. وكانت تربطه علاقة صداقة مع أشهر الفنّانين والأدباء الروس آنذاك. وقد قرّر تحويل الضيعة إلى مركز ثقافي وفنّي. وأصبح المكان ملتقى للفنّانين والأدباء الذين كانوا يجتمعون فيه ويمارسون إبداعاتهم ويتدارسون أمور الفنّ والأدب. وكان مامونتوف يتكفّل بنفقاتهم هم وعائلاتهم. وقد لعب هذا المكان دورا مهمّا في تطوير الثقافة الروسية في القرن التاسع عشر.
    تورغينيف وغوغول كانا ضيفين دائمين على مستعمرة ابرامتسيفو. وفي هذا المكان كتب غوغول مسرحيته "الأرواح الميّتة". كما كان من ضيوفه الدائمين كلّ من ايليا ريبين وفاسنيتسوف وكوروفين وميخائيل فروبيل وغيرهم.
    الرسّام فالانتين سيروف كان هو أيضا من بين المتردّدين على المكان. وكان يحظى منذ صغره بحبّ عائلة مامونتوف الذين كانوا يعتبرونه واحدا منهم.
    في عام 1887، وصل سيروف بصحبة والدته إلى الضيعة في طريق عودتهما من أوربّا، حيث زار العديد من المتاحف في كلّ من باريس وميونيخ وروما.

    وقد خرج الرسّام ذات صباح من منزل صديقه قاصدا الغابة المجاورة. كان يبحث كعادته عن منظر طبيعي كي يرسمه. ثم توقّف للحظات متأمّلا منظر أشعّة الشمس وهي تنعكس على مجموعة من الأزهار، وحركة الغيوم البطيئة وهي تلقي بظلالها على العشب. ولاحظ كيف أن خصائص الأشياء تتغيّر بتغيّر حالات الضوء والظلال. المنظر الذي رآه غمره بالأفكار. ثم فكّر قليلا وقال لنفسه: يجب أن ارسم ما أراه وأنسى كلّ ما تعلّمته". ولأوّل مرة، قرّر أن يرسم بورتريها.
    وكان لصديقه سافا مامونتوف ولد وبنت. الولد يُدعى سيرغي. والبنت فيرا، وهو اسم يعني بالروسية "إيمان". كان سيروف يعرف فيرا منذ ولادتها. وكان معجبا بمرحها وحيويّتها. وكثيرا ما كان يأخذها معه في نزهة بالقارب أو على ظهر الحصان.
    وعندما عاد ذلك الصباح من جولته في الغابة رأى فيرا وهي تجلس عند الطاولة في غرفة يتخلّلها الضوء. وقد راقت له فكرة أن يرسمها في ذلك المكان. وعندما عرض عليها الفكرة وافقت. كان الرسّام يعرف أن مهمّته لا تخلو من صعوبة. كان عمر الفتاة وقتها اثني عشر عاما. وكان من الصعب إقناعها بأن تجلس أمام الطاولة لعدّة ساعات يوميا في حرارة الصيف. قالت له وهو يرسمها: أنت تعذّبني. الجلوس فترة طويلة يبعث على الملل".
    كان سيروف يعتقد بأن اللوحة لن تستغرق سوى سبع أو ثمان جلسات على الأكثر. لكن العمل امتدّ لحوالي الشهرين. ومع ذلك فإنك عندما تنظر إلى اللوحة قد تظنّ أنها رُسمت في لمحة واحدة من لمحات الإلهام. كان البورتريه ناجحا جدّا. فقد اجتذب اهتمام الجمهور والرسّامين. وأصبح احد أهم انجازات الرسّام. كما بات رمزا للجمال والشباب والحياة السعيدة.
    في اللوحة، ترتدي الفتاة قميصا ورديا فاتحا بينما تنظر باتجاه المتلقّي وتمدّ يدها إلى الطاولة لتلتقط ثمرة خوخ. هناك ضوء كثير في هذه الصورة يفيض من النافذة الجانبية وينعكس على قماش الطاولة وملابس الفتاة. والجوّ يثير إحساسا بالرحابة والاسترخاء.
    براعة الرسّام واضحة في خلق صورة رائعة وفي قدرته على تمثيل التفاعل ما بين الضوء والظلّ والألوان المتغيّرة للأشياء. لاحظ الرقّة والمهارة اللتين رسم بهما الملمس المخمليّ للفاكهة الناضجة والسكّين الفضّية اللامعة.
    التفاصيل الأخرى تتضمّن شمعة عند النافذة، وغير بعيد منها دمية لجندي وطبق من البورسلين معلّق على الجدار.
    الرسّام يأخذنا من خلال هذه الصورة البديعة إلى سنوات الطفولة بقلقها وشقاوتها ومرحها واكتشافاتها. النسيج الخفيف، الألوان المشعّة، انعكاسات الضوء، ووفرة التفاصيل، كلّها ملامح تشير إلى الانطباعية.

    في يناير من عام 1903، تزوّجت فيرا مامونتوفا من احد نبلاء موسكو، ويُدعى الكسندر سامارين. وقد رُزق الزوجان بولدين وبنت. وفي ديسمبر عام 1907، توفّيت فيرا فجأة بسبب التهاب حادّ في الجهاز التنفّسي ودُفنت في منزل عائلتها. كان عمرها لا يتجاوز الثانية والثلاثين. وانتقلت رعاية أطفالها إلى شقيقتها التي ضحّت بزواجها وكانت لهم بمثابة الصدر الحاني والأمّ الرءوم.
    زوج فيرا، الكسندر، عاش بعدها خمسة وعشرين عاما. ولم يتزوّج بعدها أبدا. وبعد موت فيرا ظلّت اللوحة معلقة فوق طاولة في غرفته. وإحياءً لذكراها، بنى كنيسة في مكان لا يبعد كثيرا عن منزلهما. وعند قيام الثورة البلشفية أقفلت الكنيسة بعد نهب محتوياتها، ثم حوّلت إلى مخزن للأسمدة الكيماوية.
    ولم يمض وقت طويل حتى قُبض على الكسندر نفسه وحُكم عليه بالنفي إلى احد معسكرات الغولاغ الذي كان عبارة عن سجن سياسي يُحكم فيه على المعارضين بالأعمال الشاقّة حتى الموت. وقد بقي هناك إلى أن أفرج عنه بموجب قرار عفو. كان الكسندر يواظب على زيارة قبر زوجته بانتظام إلى حين وفاته في يناير من عام 1932م.
    كان عمر سيروف عندما رسم فيرا اثنين وعشرين عاما. وموهبته تتبدّى في هذه اللوحة بأجلى صورة. وقد جلبت له شهرة واسعة وأصبحت أشبه ما تكون بالأسطورة. وفي ما بعد، أصبح معلّما لا نظير له في رسم البورتريه. ومن المعروف انه تعلّم على يد ايليا ريبين واخذ عنه حبّه للحياة وعشقه للفنّ.
    كان فالانتين سيروف إنسانا هادئا وشاعريّا بطبيعته. ومن الصعب أن نتذكّر رسّاما آخر من عصره، ربّما باستثناء ايساك ليفيتان، كان له أهمّية كبيرة وتأثير عميق على الفنّ الروسي بمثل ما كان لـ سيروف.

    الاثنين، فبراير 20، 2012

    خطوط وألوان

    خوليو روميرو دي توريس، قارئة الحظ، 1922

    كان دي توريس احد أشهر الرسّامين الإسبان في النصف الثاني من القرن العشرين. كان يركّز في لوحاته على رسم النساء الغجريات اللاتي طالما اعتُبرن رمزا للجمال التقليدي الاسباني. أي انه اخذ صورة ذات جذور شعبية وحوّلها إلى لوحات أصبحت تجسّد صورة اسبانيا الريفية والنقيّة.
    بعض النقّاد يأخذون على دي توريس الطابع الفولكلوري والرومانسي المفرط للوحاته وترويجه لصورة نمطية عن النساء الاسبانيات وانفصاله عن الاتجاهات الحديثة في الرسم في زمانه.
    أعماله المبكّرة ترافقت مع شيوع الأفكار الرمزية والحداثية التي اكتسحت أنحاء واسعة من أوربا خلال العقدين الأوّل والثاني من القرن العشرين.
    لكن لا يجب أن ننسى أن أكثر الرسّامين في ذلك الوقت كانوا يتبنّون أساليب تقليدية وزخرفية، لأن ذلك كان يروق للطبقة البورجوازية التي كان أفرادها يرعون الفنون ويدعمون الفنّانين.
    في هذه اللوحة بعنوان قارئة الحظ يرسم دي توريس امرأتين شابّتين تجلسان متناظرتين، وهي ثيمة تميّز لوحاته وترمز إلى ثنائية الأشياء.
    المرأة إلى اليمين تبدو سعيدة وهي تحاول أن تثير اهتمام المرأة الأخرى بورقة الحظ التي ترفعها أمامها. غير أن الفتاة الأخرى تبدو شاردة الذهن وغارقة في الحزن.
    السبب وراء هذا الحزن توحي به خلفية اللوحة التي يظهر فيها رمز ديني وبيوت قديمة ورجل يودّع امرأة.
    من الواضح أن اللوحة تحكي عن قصّة معاناة عاطفية وحبّ قديم أو ضائع. ودي توريس يحاول أن يقيم علاقة ما بين مقدّمة اللوحة وما يجري في خلفيّتها كي نفهم المعنى الرمزي للمشهد.



    أنديش سورن، تأثيرات الليل، 1859


    يُعتبر أنديش زورن (1860-1920) احد أشهر الرسّامين السويديين. وقد حقّق شهرة عالمية في مجال رسم البورتريه بسبب موهبته العالية وتقنياته المبتكرة. وكان يتمتّع بقدرة عالية في الإمساك بجوهر الأشخاص الذين كان يرسمهم. درس سورن في أكاديمية الفنون في استوكهولم. وبعد ذلك تبلور أسلوبه الخاص في التعامل مع الألوان المائية.
    ثم بدأ دراسة مظهر الماء والأحوال التي تطرأ على أسطحه من تقلّبات وتموّجات سجّلها في بعض لوحاته.
    وفي ما بعد زار مع زوجته "إيما لام" لندن ثم باريس. تشجيع زوجته له وتحليلاتها النقدية للوحاته عاملان لعبا دورا مهمّا في عملية تطوّره الفنّي.
    وقد زار الولايات المتحدة سبع مرّات ورسم بورتريهين لرئيسيها غروفر كليفلاند وويليام تافت.
    في باريس رسم سورن عددا من اللوحات التي أكسبته مكانا بارزا في عالم الفنّ الباريسي، كما نال عددا من الجوائز والأوسمة.
    هذه اللوحة رسمها الفنّان في فرنسا، وفيها يظهر افتتانه بالأضواء ومتع الحياة الليلية. تصوّر اللوحة امرأة باريسية ترتدي فستانا احمر لمّاعا وقبّعة من الفراء وهي تهمّ بمغادرة احد المقاهي الليلية.
    توفّي أنديش سورن في أغسطس من عام 1920 في مورا، البلدة التي ولد ونشأ فيها.
    وبعد وفاته أسّست زوجته متحفا يخلّد ذكراه ويضمّ بعضا من لوحاته، بينما يستقرّ البعض الآخر في المتحف الوطني للفنّ التشكيلي في استوكهولم.


    ايفان كرامسكوي، بورتريه الفيلسوف فلاديمير سولوفيوف، 1885


    كان فلاديمير سولوفيوف احد الشخصيات الثقافية الكبيرة في روسيا أواخر القرن التاسع عشر.
    كان فيلسوفا وشاعرا وناقدا أدبيا بارزا. من آرائه أن الحكمة والجمال هما تجسيد لوحدة العالم وأن الحكمة الإلهية تتجسّد في كيان اسماه صوفيا.
    وقد عمل على المزاوجة بين الأرثوذكسية وبين الأفكار الصوفية الشرقية. واعتبرت بطريركية موسكو بعض كتاباته من قبيل الزندقة.
    ارتبط سولوفيوف بعلاقة حميمة مع دستويفسكي رغم اختلافهما حول دور الكنيسة. وقد وظّف دستويفسكي شخصية صديقه الفيلسوف في بعض رواياته.
    سولوفيوف كان أيضا صديقا لكل من الرسّامين ايليا ريبين وايفان كرامسكوي. وقد رسم له الأخير هذا البورتريه الذي يصوّره وهو يجلس على كرسي ويمسك بكتاب مع خلفية مظلمة.
    في اللوحة يظهر سولوفيوف على جانب من الوسامة والنبل. نظراته متأمّلة وفي عينيه نظرة ساخرة ربّما تنمّ عن حزن أو خيبة أمل. شعره اسود طويل وأنفه جميل التقاطيع وعيناه عميقتان.
    الألوان الداكنة في اللوحة مبهرة. الوهج الغريب للأرجواني والأسود ممّا يلفت الاهتمام.
    كان كرامسكوي متفرّدا في رسم البورتريه وكان له تأثير كبير على رسّامين روس كثر.
    ايليا ريبين قال عن هذه اللوحة إنها أشبه ما تكون بقصيدة عن فنّ البورتريه.
    ممّا يُعرف عن فلاديمير سولوفيوف موقفه المعارض لحكم الإعدام ودعوته للعفو عن قتلة الكسندر الثاني، ما دفع السلطة إلى منعه من التدريس.
    وقبل وفاته بأربع سنوات أعلن عن تحولّه إلى الكاثوليكية.



    إيسوس إيلغيرا، أسطورة البراكين، 1940


    دييغو ريفيرا وديفيد الفارو سيكويروس هما أشهر رسّامي المكسيك من الرجال. لكن هناك فنّانا مكسيكيا آخر عُرف برواج لوحاته، وكانت شعبيته في أوساط العامة اكبر من تلك التي لنظيريه الأكثر شهرة.
    هذا الرسّام هو إيسوس إيلغيرا. ولد إيلغيرا في المكسيك عام 1910م ودرس الرسم في المكسيك واسبانيا. وأصبحت لوحاته سجلا لتاريخ وأساطير المكسيك وحياة شعبها في أربعينات القرن الماضي. وقد طبعت الحكومة المكسيكية أعماله ووّزعتها على نطاق واسع لأنها تصوّر المكسيك في قالب من العزّة الوطنية.
    من أشهر أعمال إيلغيرا لوحته أسطورة البراكين التي تصوّر أسطورة قديمة.
    تقول الأسطورة انه عند بداية التاريخ، وبالتحديد عندما وصل الازتيك إلى وادي اتاواك وُلدت لامبراطور المكسيك أميرة جميلة اسمها ميشتلي. في ذلك الوقت لم تكن الجبال قد أخذت بعد شكلها الدائم والنهائي.
    عندما أصبحت ميشتلي امرأة، تقدّم العديد من النبلاء لطلب يدها. وكان من بين هؤلاء رجل يُدعي اشوتشو اشتهر بقسوته وتعطّشه للدماء.
    لكن الفتاة كانت واقعة في حبّ فلاح بسيط يُدعى بوبوكا. وقد ذهب إلى إحدى المعارك ليكتسب لقب فارس. وكان عليه أن يبارز اشوتشو وينتصر عليه إن أراد أن يظفر بالفتاة.
    وذات يوم سمعت ميشتلي أن بوبوكا قُتل في المعركة فقرّرت أن تقتل نفسها بدلا من العيش بدونه. لكنّ الحقيقة هي انه عاد من الحرب منتصرا. وعندما وجدها ميّتة حمل جثمانها إلى الجبال. كان يأمل أن ينجح البرد والثلج في إيقاظها من نومها ومن ثمّ يتزوّجها. وظلّ جاثيا عند قدميها بانتظار أن تصحو. وبقي الاثنان هناك منذ ذلك الوقت. وأصبح جسد ميشتلي بركان اكستاكسيواتل الذي يعني المرأة النائمة. بينما أصبح بوبوكا بركان بوبوكاتيبيتل.
    ومنذ ذلك الوقت والبركانان يرتفعان فوق أراضي المكسيك. وانتقلت هذه الأسطورة من جيل إلى جيل وأصبح أهل المكسيك يعرفون اليوم أصل بركانيهم المشهورين.
    وقد تمّ استنساخ هذه اللوحة مرّات لا تُحصى وأصبحت ملمحا ثابتا في البيوت والمدارس والمحلات التجارية في المكسيك.
    توفّي إيسوس إيلغيرا في ديسمبر من عام 1971م. ويُنظر إليه اليوم باعتباره فنّانا معلّما بينما يعتبر الكثيرون لوحاته أيقونات وطنية.

    Credits
    en.wikipedia.org

    الأربعاء، أكتوبر 14، 2009

    فنّ البورتريه: صورة المبدع


    الهدف المشترك للكاتب والرسّام والموسيقي هو التقاط المَشاهد أو الحالات الانفعالية والمزاجية وتصويرها ومحاولة إبراز الرؤى المنفردة على الورق أو رقعة الرسم أو من خلال النغم.
    الكتّاب يكتبون غالبا عن الفنّانين والموسيقيين في الروايات والمقالات والسير الذاتية. بينما الرسّامون يصوّرون الكتّاب والموسيقيين الذين عرفوهم وأولئك الذين يجدون في حياتهم ما يدفعهم الفضول لرسمه.
    وكثيرا ما يرسم الرسّامون بوتريهات للكتّاب أو الموسيقيين لكي تراهم الأجيال القادمة. لكن أفضل اللوحات هي التي تأتي من تصوّر واضح أو علاقة خاصّة بالموضوع.
    ومثلما أن للموسيقى والرسم علاقة مشتركة باللون والنغم والشكل والإيقاع، فإن تصوير الملحّنين والموسيقيين يتطلب مهارة محدّدة لإيصال الموسيقى داخل روح الموضوع.

    غوته أديب وعالم وفيلسوف ألماني من زعماء حركة العاصفة والاندفاع الأدبية. تطوّر فنّه وزادت خبرته بعد زيارته لايطاليا وتأثّره بالثورة الفرنسية.
    في العام 1786 سافر غوته إلى ايطاليا. ومن هناك كتب إلى أصدقائه في ألمانيا يخبرهم بانطباعاته ومشاهداته عمّا أصبح يُعرف في ما بعد بالرحلة الايطالية.
    كان غوته مدفوعا بدراسة السمات الطبيعية لبيئة البحر المتوسّط وجيولوجيا مناطق جنوب أوربّا. وكان مهتمّا على وجه الخصوص ببقايا الآثار الكلاسيكية وبالفنّ المعاصر. وأثناء زيارته الايطالية زار المعابد القديمة واطلع على بعض جداريات الرسّام المشهور غيوتو، كما أبدى إعجابه بأسلوب حياة الايطاليين. وعندما وصل غوته إلى روما قادما من فينيسيا قابل عددا من الرسّامين الألمان الذين كانوا يقيمون في ايطاليا آنذاك. وكان من بين هؤلاء يوهان هاينريش تيشبين الذي اصطحب غوته إلى نابولي ورسم له احد أشهر بورتريهاته. واليوم لا يتذكّر احد هذا الرسّام إلا بسبب هذا البورتريه بالذات. وفيه يجلس غوته في منطقة أثرية في وسط ايطاليا محاطا بقلاع وأعمدة وبقايا من مبان قديمة. وعلى مقربة منه يقوم جدار اثري نُحتت عليه صور لرجال ونساء.
    كتب غوته في الفلسفة والشعر كما تناول المفاهيم الكلاسيكية للجمال وملامح العمارة الجيّدة. والعديد من قصائده وجدت في ما بعد طريقها إلى موسيقى كبار المؤلفين الموسيقيين مثل فرانز شوبيرت وغيره. ومن مؤلفاته "مأساة فاوست" و"نظرية الألوان".


    كان جيوسيبي فيردي احد أشهر من ألّفوا الموسيقى الاوبرالية. وقد كان فيردي صديقا لمواطنه الرسّام الايطالي جيوفاني بولديني. وتوطدت علاقتهما أكثر أثناء إقامة الاثنين في باريس. في ذلك الوقت، رسم بولديني لـ فيردي بورتريها كتذكار صداقة وإعجاب. وقد ذيّله بعبارة قال فيها: إلى المايسترو من صديقه المعجب بولديني". غير أن البورتريه لم يرق كثيرا لـ فيردي، الأمر الذي اضطرّ الفنان لرسم بورتريه آخر للموسيقي في العام 1886م.
    هذا البورتريه هو الذي أصبح مشهورا في ما بعد. وفيه يظهر فيردي مرتديا سترة سوداء ووشاحا ابيض وواضعا على رأسه قبّعة سوداء اسطوانية الشكل. وقد ذهب فيردي إلى محترف بولديني على مضض وجلس أمام الفنان ساعتين لكي يرسمه.
    فيردي كان سعيدا بالنتيجة هذه المرّة. وقد احتفظ بولديني بالبورتريه لسنوات وكان يطوف به على المعارض الفنية لكي يراه الناس. وقد رفض أن يبيعه حتى عندما عرض عليه أمير ويلز مبلغا مغريا نظير اقتنائه. في ما بعد أهدى بولديني البورتريه إلى متحف الفنّ الحديث في روما حيث ظلّ فيه إلى اليوم.
    من أشهر أعمال فيردي التي يتذكّرها الناس أوبرا عايدة. لكنه اشتهر أكثر بلحن لا دونا موبيليه La Donna Mobile الذي وضعه لأوبرا ريغوليتو والذي أصبح رمزا لايطاليا وللثقافة الايطالية.


    "سرّ الإنسان ليس في أن يحيا فقط، بل أن يكون هناك ما يحيا لأجله".
    عُرف فيودور دستويفسكي برواياته السيكولوجية التي تناول فيها ما يطرأ على نفس الإنسان من حالات وانفعالات متناقضة وطرح فيها الكثير من الأسئلة الأخلاقية والفلسفية.
    كما عالج في أعماله مسائل الخير والشرّ والإلحاد والحرّية والسعادة والشقاء والحبّ والكراهية.
    وقد سبق برواياته أفكار الكثيرين ممّن جاءوا بعده مثل نيتشه وفرويد.
    كان دستويفسكي يعوّل على التحوّلات الروحية للفرد كوسيلة لإحداث التغيير بأكثر مما يمكن أن تجلبه الثورات الاجتماعية. كان معاصرا لـ تولستوي ومعارضا لـ تورغينيف وكتاباته ذات الطابع التغريبي.
    رسم فاسيلي بيروف هذا البورتريه لـ دستويفسكي بعد أن فرغ الأخير من كتابة روايته المشهورة "الجريمة والعقاب". وقد رسمه بتكليف من بافيل تريتيكوف الذي كان حريصا على أن يتضمّن متحفه صورا لأهم الشخصيّات الروسية.
    في البورتريه يبدو دستويفسكي في حالة تأمّل عميق تعزّزه نظراته المفكّرة ولباسه ذو الألوان الداكنة وكذلك الخلفية السوداء. المعروف أن دستويفسكي كان يعاني طوال حياته من نوبات الصرع كما كان واقعا تحت هاجس ما أشيع من انه تسبّب في مقتل والده. من جهتهم، كان الروس يعتبرونه نبيّا ومصلحا فيما كان البعض الآخر يرون فيه ضمير الطبقات الفقيرة والمسحوقة.
    من أشهر رواياته "الأبله" و"بيت الموتى" و"الإخوة كارامازوف".


    من العبارات المشهورة المنسوبة إلى مارسيل بروست: السعادة مفيدة للجسد، لكن الحزن هو الذي يقوّي العقل".
    بروست كان احد أعظم الروائيين الفرنسيين الذين ظهروا في أواخر القرن التاسع عشر. وقد رسم له جاك بلانش هذا البورتريه القوي والمعبّر عندما كان الروائي في الحادية والعشرين من عمره.
    بلانش كان احد رسّامي البورتريه الفرنسيين المعروفين في نهاية القرن التاسع عشر.
    لكنه لم يكن رسّاما فحسب، بل كان بنفس الوقت كاتبا وناقدا أدبيا وموسيقيا. غير أن موهبته في الرسم طغت على ما سواها. وقد رسم بروست بعد أن قرأ كتبه وغاص في حياته الخاصّة وقرأ مذكّراته وأفكاره.
    بروست، الشابّ الوسيم، يظهر هنا بوجهه البيضاوي وعينيه الواسعتين وملابسه الأنيقة.
    وقد ظلّ هذا البورتريه الأكثر دقّة في تمثيل وجه وملامح صاحب الرواية المشهورة "البحث عن الزمن الضائع" التي كتبها على امتداد خمس عشرة سنة وأصبحت في ما بعد إحدى أضخم الروايات التي ظهرت في القرن العشرين.
    بروست احتفظ بالبورتريه حتى وفاته في أوائل عشرينات القرن الماضي.


    "كلّ شيء يمضي. كلّ شيء عابر".
    يعتبر الكسندر بوشكين أشهر شاعر روسي. ويُعزى إليه الفضل في تطوير الشعر الروسي واللغة الروسية. وممّا يميّز شعره مفرداته الثريّة وأسلوبه المعبّر وصوره المبتكرة. وكان يمزج في شعره الدراما بالرومانسية والسخرية.
    هذا البورتريه يعتبر أشهر صورة لـ بوشكين وقد ظهر مرارا على غلاف مجموعته الشعرية الكاملة.
    رسم اوريست كيبرينسكي البورتريه عام 1827م. وهو يعتبر احد اكبر رسّامي البورتريهات الروس في بداية القرن التاسع عشر.
    كانت رسومات كيبرينسكي تعبّر عن فكرة فردانية الإنسان التي روّجت لها المدرسة الرومانسية.
    عندما رأى بوشكين البورتريه لأوّل مرّة قال مازحا: اشكّ الآن في أن المرآة كانت تجاملني".
    وفيه يبدو الشاعر مرتديا سترة سوداء وفوقها وشاح منسدل تعلوه مربّعات حمراء وخضراء.
    في البورتريه يستوقف الناظر شكل اللحية وشعر الرأس الكثيف نوعا ما وملامح الوجه ونظرات العينين التي لا تخلو من تفكير وحزن.
    وفي خلفية اللوحة إلى اليمين هناك طاولة عليها منحوتة على شكل امرأة تعزف آلة وترية.
    في اللوحة أيضا مسحة بطولية تنسجم مع نظرة الوطنيين الروس لشاعرهم الأعظم الذي كانوا يلقبونه بـ شمس الشعر الروسي.
    في العام 1837 جرت مبارزة بالأسلحة النارية بين بوشكين وأحد خصومه أدّت إلى إصابته بجرح نافذ في صدره توفي بعده بيومين. هذا الموت الملحمي أضاف بعدا أسطوريا لشخصية بوشكين الذي أصبح في ما بعد معبّرا عن الضمير الوطني لروسيا.
    من أشهر قصائده "روسلان ولودميلا" و"سجين القوقاز" و"بوريس غودونوف".


    ولد المؤلف الموسيقي الفرنسي اريك ساتي في عام 1866م. كانت مؤلفاته الموسيقية متفرّدة بإيقاعاتها وأسمائها الغريبة مثل "ثلاث قطع على شكل كمّثرى" و"السمكة الحالمة".
    لكن أشهر مؤلفاته هي تلك المقطوعات المعروفة بـ جيمنوبيدي وهي عبارة عن مجموعة من المعزوفات ذات الإيقاع الحزين والبطيء والتي تستمدّ صورها من الشعر.
    كان ساتي على علاقة عاطفية مع الرسّامة وعارضة الأزياء سوزان فالادون التي التقاها عام 1893 في حيّ مونمارتر الباريسي.
    كان المؤلف الموسيقي مفتونا كثيرا بروح سوزان الحرّة وأفكارها المتمرّدة.
    لكن لسوء الحظ، كانت تلك العلاقة تعني لـ ساتي أكثر مما كانت تعني لـ فالادون.
    كان يعتبر أن سوزان حبّه الحقيقي حتى بعد أن دخلت في علاقات عاطفية مع رجال آخرين.
    ومع ذلك، رسمت فالادون بورتريها مثيرا لـ اريك ساتي ظلّ هو يعتزّ به كثيرا واحتفظ به في محترفه الخاصّ إلى أن توفي.
    الفنان بول سينياك رسم ساتي هو أيضا.
    لكن بورتريه فالادون ذو لمسة شخصية خاصّة تعكس روح العلاقة الحميمة التي كانت تربطها بالموسيقي.


    "لا تخافوا الله، بل أحبّوه"!
    ولد جلال الدين الرومي في إحدى قرى شمال شرق فارس قبل أكثر من 800 عام.
    وعندما كان عمره 12 سنة قابل المتصوّف والشاعر الفارسي المشهور "العطّار" الذي قال لوالده: إن الكلمات الحارّة والمحمومة التي تخرج من فم ابنك ستشعل أرواح وقلوب العشّاق في هذا العالم".
    كان الرومي فقيها ومعلّما وشاعرا وعارفا. وقد درج الكثيرون في فارس وأفغانستان والهند ووسط آسيا على مناداته بـ مولانا.
    كان لقاؤه بـ شمس التبريزي يمثل ولادته الثانية.
    "ليست كل عين ترى وليس كلّ بحر يحتوي لآليء". شعر الرومي غيبي يفتن بجماله وبكشوفاته الروحية العميقة.
    هذا البورتريه رسمه له فنان ظلّ اسمه مجهولا. وهو موجود، ضمن أشياء أخرى، في ضريحه في مدينة قونيه التركية التي عاش فيها معظم حياته.
    في البورتريه يبدو الرومي شيخا بلحية وعمامة بيضاء وقبّعة طويلة صفراء. انه ينظر إلى الأرض في تأمّل عميق وعلى وجهه علامات الوقار والسكينة.
    وبإمكان الإنسان أن يتخيّل أن البورتريه رُسم للرومي بينما كان يتلو إحدى قصائده.
    يقال انه كان يميل برأسه يمينا وشمالا عندما كان يقرأ أشعاره. ومن هنا ولدت فكرة الطريقة المولوية التي اشتهرت برقصها الدائري الذي يقال بأنه يوفّر للراقص الصوفي منفذا للعبور من عالم الأرض إلى عالم السماء.
    شعر الرومي واحة للروح إذ يمنح العزاء والراحة لأصحاب العقول القلقة والقلوب المتعبة.
    والدخول إلى عالمه يقتضي من الشخص أن يتخلّى عن الكثير من أفكاره وقناعاته المسبقة.
    في عالم الخفاء، يقول الرومي في إحدى قصائده، ثمّة خشب عود يحترق. وهذا الحبّ هو دخان ذلك العطر".
    وهذا البورتريه يقدّم صورة لإنسان كان دائم التجوال بحثا عن الله.


    كان اللورد بايرون ابرز الشعراء الانجليز الرومانسيين. كما كان أوّل شخصية مشهورة يركب موجة تقديس الجماهير التي حوّلته إلى إلهة شعرية.
    كانت رسائل بايرون إلى زوجته وخليلاته وأصدقائه مثار اهتمام النقاد والمؤرّخين. وعلى عكس الاعتقاد الشائع، لم يكن بايرون ذلك الشخص المنعزل والذي لم يكن يأبه كثيرا بآراء الناس. إذ كان يحتفظ بالكثير من الرسائل التي كانت ترده من المعجبين، وخاصّة من النساء، برغم جرأتها ولغتها الفاضحة أحيانا. وكانت تلك الرسائل تظهر كم كان بايرون يستمتع بهالة التقديس التي كان الناس يحيطونه بها.
    وبسبب صورة الشاعر كبطل رومانسي، كانت النساء مفتونات بمشاهدة صوره. ومن أشهرها هذا البورتريه الذي رسمه له توماس فيليبس عام 1835م والذي يظهر فيه بايرون مرتديا ملابس تقليدية البانية مطرّزة، تتكوّن من عمامة وعباءة وسترة بينما يمسك بخنجر مذهّب طويل.
    ويُرجّح أن البورتريه رُسم له في أثينا حيث كان بايرون يحارب في صفوف الجيش اليوناني ضد الأتراك.
    بايرون، برأي بعض المؤرّخين، كان أهمّ شخصية أوربية في النصف الأول من القرن التاسع عشر من حيث تأثيره على الفنون والأدب والموسيقى. وربّما لا يتفوّق عليه من هذه الناحية سوى نابليون.
    وقد توفي بالحمّى عام 1824 أثناء مشاركته في حرب استقلال اليونان ولم يكن وقتها قد أكمل عامه السادس والثلاثين. وكان لموته المفاجئ تأثير الصدمة في أنحاء كثيرة من أوربا، كما تحوّل إلى رمز للشاعر الثائر والمقاتل في سبيل الحرّية.
    من أشهر مؤلفاته "رحلة تشايلد هارولد" و"دون جوان".


    ولد فريدريك شوبان في وارسو عام 1810م. كان نصف فرنسي ونصف بولندي. وقد اظهر موهبة ملحوظة في العزف على البيانو وهو صبيّ. وفي النهاية انتقل إلى باريس بعد الاضطرابات السياسية التي شهدتها بولندا آنذاك.
    وبالإضافة إلى مقدرته الموسيقية العظيمة ومؤلفاته الرائعة على البيانو، كان لـ شوبان نصيبه من الرومانسية. كما كانت له متاعبه مع مرض السلّ الذي حصد حياة شقيقته وأبيه والذي سيقتل شوبان في ما بعد، أي في العام 1849م.
    الرسّام اوجين ديلاكروا كان صديقا لـ شوبان ورسم له بورتريها عام 1838م. أسلوب ديلاكروا الرومانسي كان متناسبا تماما مع وجنتي شوبان الغائرتين ومظهره الأثيري. البورتريه أصبح تصويرا مشهورا للملحّن في قمّة نجاحه وشهرته. في البداية، رسم ديلاكروا بورتريها ثنائيا يجمع بين شوبان والروائية الفرنسية جورج صاند. كانت صاند امرأة متحرّرة ومغرمة بلبس بناطيل الرجال. كما كانت تدخّن علنا، وهي عادة كانت مستهجنة في ذلك الوقت.
    ورغم أن علاقة الحبّ بين صاند وشوبان بدأت علاقة جسدية، فإن صاند ومع تدهور صحّة شوبان وجدت نفسها تقوم بدور الممرّضة أكثر من العشيقة.
    البورتريه المشترك لـ صاند وشوبان يصوّرهما وهما جالسان جنبا إلى جنب. لكن اللوحة في النهاية قُسمت إلى نصفين. والقسم الذي يصوّر شوبان موجود اليوم في متحف اللوفر.
    كان شوبان يعزو الفضل في صوغ أسلوبه الموسيقي إلى كلّ من موزارت وباخ. ومن أشهر مؤلفاته الموسيقية سلسلة البولونيز بالإضافة إلى معزوفتيه المسمّيتين فانتازي ونوكتيرن .


    ليو تولستوي، مؤلف الروايات الملحمية الكبيرة مثل "الحرب والسلام" و"آنا كارينينا" و"موت ايفان ايليش"، كان موضوعا لعدد من الرسومات.
    إيليا ريبين الرسّام الروسي المولود في اوكرانيا رسم للروائي الكبير عدّة بورتريهات.
    كان ريبين رسّاما موهوبا ودقيق الملاحظة.
    وبورتريهاته المشهورة تصوّر الشخصيات الروسية الكبيرة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
    وقد رسم ريبين بورتريها رسميا لـ تولستوي.
    غير انه أيضا رسم صورا أكثر حميمية للكاتب المشهور وهو يكتب فوق مكتبه، أو يستلقي على العشب وهو يقرأ، أو وهو يقف في الغابة.
    لوحة ريبين التي رسمها في العام 1890 لـ تولستوي وهو حافي القدمين تلفت النظر بشكل خاص لأنها تمزج مكانة تولستوي الأدبية بارتباطه الفطري بالإنسانية وبالأرض.


    الكاتبة الفرنسية كوليت اشتهرت بحياتها المتلوّنة وبمغامراتها العاطفية التي كانت تجري بموازاة أعمالها التي اتسمت بواقعيتها وحسّيتها. كانت كتاباتها تؤشّر على براعتها في تحليل مشاعر المرأة كما أبدعت في وصف الريف الذي نشأت فيه وأحبّته. ومن أشهر رواياتها "قمح وعشب" و"كلودين".
    كوليت كانت أوّل امرأة أديبة تنال جائزة غونكور في زمانها. وقد رسمها الفنان جاك اومبيرت عام 1896 م. في البورتريه تبدو الأديبة في ذروة شبابها وحيويّتها. وقد رسمها الفنان وهي في سنّ الثالثة والعشرين. وتظهر في الصورة وهي تجلس بوضع جانبي بينما تزيّن شعرها بوردة حمراء. في تلك السنّ كانت كوليت متزوّجة من زوجها الأوّل هنري فيلار. كان اكبر منها سنّا وكان يحتفظ بعلاقات أدبية كثيرة. ويقال انه حبس كوليت في غرفة وأرغمها على تذييل رواياتها باسمه.
    في ما بعد تمكّنت من تطليقه واستعادت حرّيتها وأصبحت اسما أدبيا معروفا وشخصية اجتماعية لامعة.


    كان نيكولاي ريمسكي كورساكوف أحد أشهر الشخصيات الروسية التي رسمها الفنان ايليا ريبين قبل ثورة 1917م.
    كورساكوف كان ينتمي إلى مجموعة من المؤلفين الموسيقيين الذين أثروا في المواهب الموسيقية التي ظهرت في ما بعد مثل ايغور سترافنسكي وسيرغي بروكوفييف.
    أسلوب كورساكوف اللحني كان يمزج بين الفولكلور الروسي والتأثيرات الموسيقية الغربية. ومن أشهر أعماله وأكثرها رواجا موسيقى شهرزاد .
    الفنان فالانتين سيروف رسم بورتريها لـ كورساكوف يظهر فيه بنظارات طبية ولحية طويلة وهو جالس إلى مكتبه بينما ينهمك في كتابة نوتة موسيقية لعمل جديد.
    وعلى النقيض من هذا البورتريه الجادّ، يقدّم ايليا ريبين كورساكوف في بيئة أكثر استرخاءً.
    في الصورة الأخيرة يجلس المؤلف الموسيقي على أريكة ويسند مرفقه على وسادة خضراء. ويبدو غارقا في التأمّل كأنّما يفكّر في تفاصيل معزوفة أو لحن موسيقي جديد بينما يحدّق في البعيد.


    "أنا أفكر إذن أنا موجود". لا تُذكر هذه الجملة إلا ويُستدعى اسم ديكارت. اشتهر ديكارت بآرائه عن المعرفة واليقين والشكّ والعلاقة بين الجسد والعقل. وهناك إجماع على أنه مؤسّس الفلسفة الحديثة التي قادت إلى التنوير. كان عقلانيا يؤمن بأن العقل، لا التجريب، هو المصدر الأساسي للمعرفة. ومن أقواله أن الأحاسيس غامضة دائما وانه لا يمكن الوثوق بها.
    في هولندا ألّف ديكارت كتابه "العالم". في تلك الأثناء كانت الكنيسة تحاكم غاليليو لتعليمه أفكار كوبرنيكوس.
    رسم فرانز هولس هذا البورتريه لـ ديكارت، على الأرجح أثناء زيارة الأخير لهولندا عام 1618. وفيه يظهر الفيلسوف بشعره الطويل وقد ارتدى ملابس سوداء وياقة كبيرة بيضاء على خلفية داكنة. شارباه خفيفان وعيناه الكبيرتان تشعّان بالذكاء.
    "عواطف الروح" كان آخر كتاب ألفه ديكارت وتناول فيه مسألة العلاقة بين الروح والجسد. وكان يردّ في الكتاب على تساؤلات اليزابيث أميرة بوهيميا التي كانت تحاوره في مسائل فلسفية وفكرية. والكتاب هو مزيج من علم النفس والأخلاق.
    ذهب ديكارت بعد ذلك إلى السويد بناءً على دعوة من الملكة كريستينا. كان مطلوبا منه أن يصحو في الصباح الباكر لإعطاء الملكة دروسا في الفلسفة. وبسبب أجواء السويد الباردة أصيب بالالتهاب الرئوي ولم يلبث أن توفي هناك في الحادي عشر من فبراير عام 1650م.


    كانت كلارا شومان طفلة عبقرية سحرت أوربّا بموهبتها الموسيقية في بداية القرن التاسع عشر. وقد امتدحها غوته وشوبان بينما أسَرَت عقل الملحّن وعازف البيانو روبرت شومان الذي تزوّجها عام 1840م.ورغم وجود الكثير من القواسم المشتركة بينهما، خاصّة شغفهما بالموسيقى، فإن روبرت كان يعاني من بعض المشاكل النفسية. فقد كانت تأتيه نوبات اكتئاب وحاول الانتحار مرارا إلى أن أودع في النهاية بإحدى دور الرعاية الطبية.
    عدم استقرار حالته دفع كلارا إلى تحمّل مسئولية رعاية أطفالهما السبعة. لكنها استمرّت في تأليف الموسيقى والعزف على البيانو.
    الرسّام يوهان شرام رسم كلارا شومان وهي شابّة في السنة التي تزوّجت فيها شومان.
    وجهها وقور وهادئ وملامحها واثقة. البورتريه ينطوي على مفارقة من حيث أن الزواج غيّر طريقها الإبداعي وجعلها تقدّم احتياجات زوجها على احتياجاتها هي.
    المعروف أن كلارا كانت تربطها علاقة عاطفية مع الموسيقي الألماني برامز. وبعد زواجها من شومان تحوّلت تلك العلاقة إلى حبّ أفلاطوني وأصبحت تقتصر على تبادل الرسائل.


    جان كوكتو شاعر وروائي وفنان وكاتب مسرحي فرنسي.
    كان صديقا للأديبة كوليت بالإضافة إلى شهرته كشخصية بوهيمية.
    كوكتو النحيل وذو الملامح الهادئة واليدين الجميلتين والأصابع الطويلة كان موضوعا جذّابا للرسّامين في زمانه.
    الرسّام اميديو موديلياني كان صديقا لـ كوكتو وقد رسم له في العام 1916 بورتريها أصبح مشهورا في ما بعد لأنه قدّم من خلاله رؤية فريدة لـ كوكتو، الكاتب المتعدّد المواهب والاهتمامات.
    كان كوكتو على الدوام مثقفا ثوريا ومشاكسا.
    وقد عُرف بعلاقته الحميمة بالمغنية الفرنسية المشهورة اديث بياف كما كان معاصرا لكلّ من مارسيل بروست واندريه جيد.
    كان كوكتو متعلقا كثيرا بصديقته بياف.
    وعندما توفيت نزل عليه الخبر نزول الصاعقة وغلبه الحزن والفجيعة وقال لمن حوله: هذا هو يومي الأخير على هذه الأرض".
    والغريب انه توفي بعد ساعات فقط من موتها، أي في الحادي عشر من أكتوبر عام 1963م عن 74 عاما.
    وكان قد أمر بأن يُكتب على شاهد قبره عبارة: سأظلّ بينكم".
    ومن أشهر كتب كوكتو "دم الشاعر" و"رقصة سوفوكليس" و"صوت الإنسان".


    ظهر هذا الرسم لـ شكسبير لأول مرّة على غلاف كتاب يتضمّن مجموعة من أعماله ونشر في العام 1623م. وهذه الصورة له هي الأقرب إلى الصحّة والأصالة.
    الطريقة التي رُسم بها البورتريه دفعت بعض المؤرّخين للاعتقاد أن شكسبير كان ينتمي إلى جماعة فلسفية غامضة تمزج التعاليم المسيحية بالسحر والأفكار الافلاطونية. وتحليل بعض أعماله يوحي بأنه لم يكن جزءا من تلك الجماعة فحسب بل شخصية محورية فيها.
    وقد رسم البورتريه مارتن دروشاوت، على الأرجح بعد وفاة شكسبير عام 1616 . وهناك العديد من الصور التي يعتقد أنها لـ شكسبير، لكن لا توجد أدلّة كافية تؤكّد نسبتها إليه.
    وقد عُثر مؤخّرا على بورتريه قيل انه لـ شكسبير ويظهر فيه رجل يبدو ذا مكانة اجتماعية رفيعة ويرتدي ملابس ايطالية أنيقة وباهظة الثمن تعود للقرن السابع عشر.
    وفي مارس من هذه السنة توصّل بعض الباحثين إلى أن اللوحة تخصّ شكسبير فعلا، ويُرجّح أنها رُسمت له أثناء حياته.


    يعتبر أبو عليّ ابن سينا احد أشهر أطبّاء وفلاسفة الإسلام. عُرف بالشيخ الرئيس وقد ولد قرب بخارى في ما يُعرف اليوم بأوزبكستان وتوفي في همذان بإيران. تعمّق ابن سينا في دراسة فلسفة أرسطو وقال بفيض العالم عن الله. له ميول صوفية عميقة برزت في كتابه "الحكمة المشرقية"، وهو عبارة عن فلسفته الشخصية. من مؤلّفاته المطبوعة "القانون في الطبّ" و"كتاب الشفاء". وله قصيدة مشهورة يقول فيها: هبطتْ إليك من المحلّ الأرفع ورقاء ذات تعزّز وتمنّع". كتب ابن سينا سيرة ذاتية لنفسه غير انه فضّل أن يتجنّب الحديث فيها عن نفسه ليركّز على أفكاره عن الوصول إلى الحقيقة المطلقة.
    هذا البورتريه رسمه لابن سينا فنان يُدعى علي قاري. وباستثناء اسمه، لا يُعرف عنه أو عن حياته شيء. في البورتريه يبدو ابن سينا بملابس فارسية تقليدية تعود للقرن الحادي عشر الميلادي. ملامحه جادّة على شيء من التفكير والتأمّل الذي يعمّقه الوضع الجانبي الذي رُسمت به الشخصية. ملامح الوجه تشي بقدر من الوسامة والوقار. هذا الملمح الهادئ في الصورة يتناقض مع طبيعة العصر الذي عاش فيه ابن سينا والذي اتسم بكثرة الصراعات السياسية بين الفرس السامانيين والأتراك على مناطق النفوذ في آسيا الوسطى.


    كان نيتشه وما يزال احد أكثر الفلاسفة غموضا وإثارة للجدل.
    قيل انه كان عدميا. وقد راعه أن يرى عالما لا يرمز إلى شيء وليس فيه معايير أو قواعد أخلاقية ثابتة.
    وقد سبّبت أفكاره صدمة للكثيرين بينما استقبلها آخرون بالكثير من الثناء والاستحسان.
    هذا البورتريه رسمه له هانز اولد الذي كان مديرا لمتحف الفنون في أكاديمية فيمر الألمانية.
    كان اولد احد أصدقاء نيتشه المقرّبين. وقد نشر الرسم في إحدى المجلات الألمانية آنذاك.
    البورتريه كاريكاتيري إلى حدّ ما. وفيه يبدو نيتشه بعينين غائرتين وحاجبين عريضين وشاربين كثيفين. نظراته الحادّة وملامحه المتمرّدة تذكّرنا بموت الإله وبإرادة القوّة وبالعداء للمسيح وبغيرها من أجزاء المنظومة الفكرية التي قامت عليها فلسفة نيتشه.
    وربّما تشي ملامح نيتشه في هذا البورتريه الغريب بقرب إصابته بالخرف الدماغي الذي عانى منه وأسلمه للعزلة في نهايات حياته.


    كانت هيباتيا أحد رموز الفكر والفلسفة من النساء في العالم القديم. والدها كان فيلسوفا وأديبا وعالم رياضيات. وهي عاشت زمن ازدهار مكتبة الاسكندرية التي كانت آخر من تولّى إدارتها. وقد تفوّقت على كثير من العلماء والفلاسفة في عصرها. كان أتباعها يأتون من أماكن بعيدة لسماع دروسها ومحاضراتها. وكان لـ هيباتيا حضور كبير في أوساط المفكّرين من الرجال الذين كانوا يحترمونها لسماحة أخلاقها ورصانة عقلها.
    كانت تتنقّل ما بين الإسكندرية وأثينا وتعلّم فلسفة أرسطو وأفلاطون. وقد عُرف عنها أنها كانت ذات جمال باهر يزيّنه التواضع والحكمة. غير أنها كانت عصيّة دائما على خاطبي ودّها والطامعين بقلبها.
    وتُروى قصص متضاربة عن الكيفية التي انتهت بها حياتها. تقول إحدى الروايات إن حشدا من المتعصّبين المسيحيين انتزعوها من عربتها ذات يوم وجرّدوها من ملابسها ثم مزّقوها إربا وجرجروها إلى الكنيسة قبل أن يضرموا في جثتها النار. كانت التهمة الترويج للوثنية على حساب المسيحية.
    ومن بين من تطرّقوا لقصّة مقتلها بتلك الطريقة الهمجية والمأساوية كلّ من العالم كارل ساغان وفولتير وسواهما.
    رُسم لـ هيباتيا العديد من البورتريهات المتخيّلة والتي تظهر في بعضها عارية.
    لكن هذا البورتريه لها يجذب العين بأناقة خطوطه ورقّة تفاصيله. وقد ظهر لأوّل مرّة في بدايات القرن الماضي ونُشر في كتاب يضمّ رسوما إيضاحية باللونين الأبيض والأسود وضعها فنّان مجهول.
    لا انفعالات محدّدة هنا عدا أن المرأة تبدو ساهمة وصامتة.
    وإجمالا، فإن الملامح في البورتريه لا تبتعد كثيرا عن ملامح المرأة كما تبدو في الصور التي رُسمت لها في العصور المتقدّمة.


    Credits
    crystalinks.com
    smithsonianmag.com