:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات شجريان. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات شجريان. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، فبراير 08، 2017

شجريان: طائر السَّحَر


ليس من المستغرب أن يحتفل بلد ما بأحد موسيقيّيه المبدعين. لكن ما يميّز الموسيقيّ الإيرانيّ محمّد رضا شجريان عن غيره من الفنّانين الكبار في العالم انه يواجه حظرا في بلده ويعامَل على انه فناّن منشقّ، رغم أن موسيقاه لا تنتقد الحكومة مباشرة.
ورغم أن الحظر المفروض على شجريان مستمرّ منذ سبع سنوات، أي عندما قرّرت شبكة البثّ الوطنية منع صورته وصوته وحتى اسمه من الظهور في محطّات الإذاعة والتلفزة الرسمية، إلا أن ذلك لم يمنع كثيرا من المسئولين الكبار من إعلان دعمهم للمغنّي وتعاطفهم معه وإعجابهم بفنّه.
الرئيس الإيراني الأسبق علي اكبر هاشمي رفسنجاني أرسل قبل شهر من وفاته إلى شجريان هديّة ثمينة عبارة عن خاتمين قيل إنهما مصنوعان من حجر مقدّس.
وفي سبتمبر الماضي، أحيت الصحف عيد ميلاد الفنّان السادس والسبعين، كما وضعت الصحيفة الرسمية صورة له في صدر صفحتها الأولى.
وكان الرئيس الحالي حسن روحاني قد صرّح في وقت سابق بأن شجريان هو مغنّيه المفضّل، مشيرا إلى انه استخدم إحدى أغانيه في حملته الانتخابية.
وكان الحظر قد فُرض على شجريان عقابا له على دعمه "الجانب الخطأ" في انتخابات عام 2009 المشكوك في نزاهتها. إذ عندما احتجّت قطاعات عريضة من الإيرانيين على النتائج الرسمية لتلك الانتخابات والتي منحت الرئيس السابق محمود احمدي نجاد فترة رئاسة ثانية، انضمّ شجريان للحركة الخضراء الداعمة للديمقراطية وأطلق أغنية بعنوان لغة النار دعم من خلالها المتظاهرين ثم وضعها على الانترنت .
تقول كلمات الأغنية: أنا اكره سفك الدماء، والمسدّس الذي بيدك يتحدّث لغة النار والحديد. ألقِ سلاحك جانبا، تعال واجلس، تحدّث واسمع، فربّما يصل نور الإنسانية إلى قلبك ". ويقال أن كلمات الأغنية كانت تخاطب ميليشيا الباسيج التي تصدّت وقتها للمتظاهرين بعنف.
شبكة البثّ الرسمية اعتادت على أن تذيع الكثير من أغاني شجريان التي تتحدّث عن حبّ الوطن. لكن بعد ظهور نتائج الانتخابات وما أعقبها من قمع للمتظاهرين، بعث شجريان برسالة إلى رئيس الشبكة يطالبه فيها بأن يتوقّفوا عن بثّ أغانيه. وقال في الرسالة إن أغانيه الوطنية تنتمي إلى سنوات ما قبل ثورة عام 1979 ولا علاقة لها بأيّ حال بما يحدث في البلاد الآن".
وعندما سأله تلفزيون البي بي سي الفارسي عن أمر تلك الرسالة قال شجريان: كان صوتي وسيظلّ صوت الحثالة (في إشارة إلى وصف احمدي نجاد للمتظاهرين بأنهم حثالة). وأضاف: كلّما سمعت أغنياتي في الإذاعة والتلفزيون أحسست بالخجل، فأنا لا أريد أن تُستغلّ موسيقاي لتبرير القمع". وبعد تلك المقابلة قرّر رئيس الشبكة أن يحظره نهائيا.
الناطق باسم وزارة الثقافة قال عندما سُئل عن قصّة الحظر: لقد خلق شجريان فجوة بينه وبين المؤسّسة ويتعيّن عليه أن يكون وفيّا لمبادئ الجمهورية الإسلامية".


على مدى ثلاثين عاما كان ملايين الإيرانيين يلتفّون حول التلفزيون طوال شهر رمضان وقبيل الإفطار مباشرة ليستمعوا إلى شجريان وهو يتلو بصوته دعاءً من القرآن الكريم. يقول عبّاس ميلاني الأكاديميّ الأمريكيّ من أصل إيرانيّ: كان ذلك الدعاء بمثابة احتفال دينيّ ودعوة لتجمّع العائلات، كانت له قوّة هائلة، وكنت كلّما سمعته تذكّرت زمن الشباب في إيران. لكن الدعاء اختفى من التلفزيون الرسميّ منذ عام 2009 على خلفية دعم الفنّان للحركة الخضراء".
ولد محمد رضا شجريان عام 1940 في مدينة مشهد التي تضمّ مرقدا لأحد أئمّة الشيعة البارزين. وكان في صغره يتلو آيات القرآن الكريم، إلا انه كان يُمنع من سماع الموسيقى التراثية التي جعلته في ما بعد مغنيّا مشهورا.
يقول شجريان: اعتاد والدي أن يقول لي إن الموسيقى حرام، لكنّي كنت أواظب على سماعها في بيت عمّي وكنت اعزف التار وأستمتع بالموسيقى".
كان معجبا منذ صغره بأساليب المغنّين الكبار الذين أتوا قبله مثل قمر الملوك وزيري وتاج اصفهاني وجليل شاهناز وغيرهم. ثم بدأ صوته يجد طريقه إلى الإذاعة، وشيئا فشيئا أصبح محبوبا من غالبية الناس.
المفارقة أن شجريان بعد أن كبر، منح حياة جديدة للاغاني التراثية القديمة بعد أن تهيّأت له دراسة الموسيقى على يد عدد من المعلّمين القدامى، كما صمّم آلات موسيقية جديدة صنعها بيديه.
في ما بعد، عُيّن أستاذا للفنون الجميلة في جامعة طهران وموظّفا في هيئة الإذاعة الرسمية. لكن بعد ثورة عام 1979 استقال نهائيا من وظيفته الأخيرة.
مع مرور الوقت، تحوّل شجريان إلى أسطورة في بلده بسبب غنائه وتلحينه لأشهر القصائد الكلاسيكية. وعلى يديه تخرّج جيل كامل من الموسيقيين، مثل ايراج بسطامي وشهرام ناظري وسينا سارلاك، بالإضافة إلى ابنه همايون وابنته موجان شجريان، وغيرهم.
قدرته على اختيار الكلمات وعمله الدؤوب وأداؤه المبهر للاغاني التراثية جعل منه شخصية استثنائية في عالم الموسيقى الفارسية وأكسبه حبّ الكثير من الناس داخل إيران وخارجها.
وعلى المستوى العالمي، يوصف شجريان بأنه أعظم مغنّ إيراني حيّ. وقد كرّمته اليونيسكو بمنحه جائزة بيكاسو عام 1999، وفي عام 2006 مُنح جائزة موزارت للإبداع الموسيقيّ.
كان من عادة شجريان أن يختار لأغانيه قصائد من شعر الخيّام والرومي وحافظ وسعدي وغيرهم. لكن، بحسب عبّاس ميلاني، أخذت أغانيه منحى جديدا في السنوات الأخيرة، وأصبح ينهي كلّ حفل من حفلاته الموسيقية بأغنية طائر السَّحَر التي كثيرا ما تفعل فعلها في نفوس جمهوره.
وقد استلهم المطرب كلمات الأغنية من شاعر فارسيّ قديم يُدعى ملك الشعراء بهار وحوّلها إلى بيان يدعم الحركة السلمية. تبدأ الأغنية بنداء للطائر بأن يبدأ تغريده الحزين كي ينزاح ليل الظلمة ويشرق نور الحرّية.
هذه الأغنية، يقول ميلاني، تستخدم كافة أشكال اللغة المجازية المعروفة اليوم. والأدب الفارسيّ هو في الأساس شعر. وشجريان هو احد سادة هذا الأدب ويعرف بالضبط الأشعار التي يستطيع توظيفها في اللحظات المناسبة من التاريخ. وقد قال ذات مرّة: لو تابعتم أغانيّ لأمكنكم تقريبا معرفة تاريخ هذا البلد على مرّ السنوات الأربعين الأخيرة".


طائر السحر هي أغنية تراثية في الأساس. وهي تعود إلى السنوات الأخيرة من حكم السلالة القاجارية، وكلماتها تتحدّث عن الرغبة في قهر الطغيان واستعادة الحرّية. وقد رأى فيها البعض إسقاطا على أوضاع البلاد اليوم، وبالتالي سببا إضافيا في إثارة حنق المؤسّسة الحاكمة على الموسيقيّ.
كلمات إحدى أغاني شجريان الأخرى المعروفة تتحدّث عن مكان رائع يتحوّل إلى خرابة ودماء. وفي مقطع من الأغنية يتساءل المغنّي بحزن: ماذا حدث؟ وعندما سُئل المطرب في ما بعد عن كلمات تلك الأغنية قال إنها تتحدّث عمّا حصل في إيران بعد عام 1979م.
لكن اعنف انتقاد وجّهه شجريان للسلطة جاء في حديث أدلى به عام 2011 لموقع دانماركي وقال فيه: لقد ظلّ الإيرانيون يقاتلون من اجل حرّيتهم لأكثر من مائة عام. وكانت آخر محاولاتهم عام 1979م. في الأساس لم تكن الثورة دينية، ثم دخل رجال الدين إلى المسرح واقترحوا جمهورية إسلامية. كان هناك استفتاء، ولأن معظم الناس يثقون بالمتديّنين فقد صوّتوا لجمهورية إسلامية. أنا لم أثق بهم منذ البداية، لم أصوّت لهم ولن افعل".
وأضاف: إنني لا أرى أيّ مستقبل لهذا البلد. التدهور مستمرّ والأمور تسير من سيّئ إلى أسوأ يوما بعد يوم. انه طريق صعب ومحفوف بالمخاطر. إن شعبنا يختلف تماما عن حكومتنا، وإيران ليست هي ما تزعمه الحكومة. والناس لا علاقة لهم بالإرهاب أو القتل أو العراك النووي. هذه السنوات الثلاثون يجب أن نحذفها من تاريخنا، إذ لا علاقة لها بثقافتنا".
ورغم كثرة انتقادات شجريان، إلا أن السلطات لم تعتقله ولا يبدو أنها ستفعل. وقد تصادف أنه يعرف شخصا مهمّا جدّا، وهذا الشخص ليس سوى مرشد الثورة علي خامنئي، فالاثنان ينتميان إلى نفس المدينة وتربطهما علاقة معقّدة.
وقد قيل انه لم يُعتقل لأنه شخصية عالمية، والسلطة تعرف أنها ستدفع ثمنا غاليا لو فعلت. ويبدو أن شعبيّته الهائلة بين الإيرانيين منحته حصانة إضافية من انتقام الدولة.
ولأنه لا يستطيع الحصول على إذن بالغناء داخل إيران، فقد قرّر أن يقيم حفلاته الموسيقية في البلدان المجاورة. وعندما ألغى بعض حفلاته المجدولة في تركيا وأرمينيا، ظهرت شائعات عن اعتلال صحّته.
ثم لم يلبث أن ظهر في فيديو بمناسبة السنة الجديدة وكشف فيه انه يعاني من مرض السرطان منذ خمسة عشر عاما، واصفا المرض بالضيف الثقيل.
وبعد انتشار الفيديو حادثه وزير الصحّة على الهاتف وابلغه انه مستعدّ لعمل أيّ شيء من اجل أن يتماثل للشفاء. لكن الحظر عليه استمرّ، بل لقد تمّ حذف كلمات زميل له ظهر على التلفاز وتمنّى له الشفاء.
وعلى الرغم من هذا كلّه، لم يتوقّف الكثيرون عن الاحتفال بشجريان على وسائل التواصل الاجتماعي، وكان من بين هؤلاء ساسة كبار وفنّانون وكتّاب معروفون.

Credits
npr.org

الخميس، يونيو 10، 2010

بوّابات الفجر

في إحدى اللوحات التي رُسمت لتزيّن ديوان الرباعيات، يظهر عمر الخيّام مرتقيا ربوة شاهقة وقت السحَر بينما يحدّق في السماء متأمّلا منظر النجوم المتلألئة من بعيد. الذي يتأمّل الصورة لا بدّ وان يتخيّل أن الخيّام من موضعه المرتفع ذاك، وهو الذي درس علم الفلك وبرع فيه، كان يحاول اكتشاف بوّابات أو ممرّات يمكن أن تشفّ عمّا وراء السماء القريبة من عوالم وأكوان. ذلك ما كان يشغله دائما. كان دائم البحث عن إجابات ترضي فضوله وتروّض جموح نفسه الحائرة.
كلّما رأيت هذه اللوحة تذكّرت مقاطع بعينها من الرباعيّات وبخاصّة تلك التي يقول فيها الخيّام:
أطال أهل الأنفس الباصرةْ، تفكيرهم في ذاتك القادرةْ. ولم تزل يا ربّ أفهامهم، حيرى كهذي الأنجم الحائرةْ.
أفنيت عمري في اكتناه القضاءْ، وكشف ما يحجبه في الخفاءْ. فلم أجد أسراره وانقضى، عمري وأحسست دبيب الفناءْ.
لكنّ الشاعر، في غمرة أفكاره وتساؤلاته الكثيرة، لا يلبث أن يقتنع باستحالة أن يعرف الإنسان شيئا ابعد من وجوده المباشر. وعليه فإن الحكمة تقتضي أن يفكّر الإنسان بيومه وأن يستمتع باللحظة التي هو فيها:
لا توحش النفس بخوف الظنونْ، واغنم من الحاضر أمن اليقينْ. فقد تساوى في الثرى راحل غداً وماض من ألوف السنينْ.
أولى بهذا القلب أن يخفقا، وفي ضرام الحبّ أن يُحرقا. ما أضيع اليوم الذي مرّ بي، من غير أن أهوى وأن أعشقا.
الخيّام شخصية نادرة وغريبة لا ينفع معها أنصاف المواقف أو الحلول. إما أن تحبّه كثيرا وتأنس له وإما أن تكرهه وتنفر منه وتمقت شعره. وأنا انتمي إلى الصنف الأوّل. حدث هذا منذ أن سمعت الرباعيات لأوّل مرّة بصوت أم كلثوم وترجمة احمد رامي. وإلى اليوم، ما زلت افضّل ترجمة الأخير للرباعيات على ترجمة الصافي النجفي. هذا الموقف عفوي ولا علاقة له بشروط وقواعد النقد الأدبي أو معايير المفاضلة بين ترجمة وأخرى. غاية ما في الأمر أنني ألفت الرباعيات بصوت أم كلثوم وترجمة رامي وتعوّدت على سماعها بل وحفظت معظم مقاطعها عن ظهر قلب بحكم التعوّد والتكرار.
رامي وأم كلثوم يعود إليهما الفضل الأوّل في تعريف الجمهور العربي بالخيّام وبالرباعيات. وأغلب الظنّ انه ما كان بوسع أكثر الناس أن يعرفوا عن الخيّام وشعره شيئا لولا أن غنّت أم كلثوم الرباعيات بموسيقى ملحّن عظيم مرهف الحسّ ومتذوّق للشعر مثل رياض السنباطي.
وجزء مهم من جمال الرباعيات، القصيدة والأغنية، يكمن في أبياتها الأوّلى التي تتسلّل إلى أعماق النفس برقّة وعذوبة:
سمعتُ صوتا هاتفا في السحَرْ، نادى من الغيب غُفاة البشرْ. هُبّوا املئوا كاس المنى، قبل أن تملأ كأسَ العمر كفّ القدَرْ.
أفق خفيف الظلّ هذا السَحَرْ، نادى دع النوم وناغي الوترْ. فما أطال النوم عمرا، ولا قصّر في الأعمار طول السَهَرْ.
لبست ثوب العيش لم اُستشرْ، وحرتُ فيه بين شتّى الفِكَرْ. وسوف أنضو الثوب عنّي، ولم أدرك لماذا جئت وأين المفرّ.
وكم توالى الليل بعد النهارْ، وطال بالأنجم هذا المدارْ. فامشِِ الهوينا إن هذا الثرى، من أعين ساحرة الاحورارْ.
أطفئ لظى القلب بشهد الرضابْ، فإنّما الأيّام مثل السحابْ. وعيشنا طيف خيال فَنَل حظّك منه قبل فوت الشبابْ.
وتلك التي يقول فيها:
لا تشغل النفس بماضي الزمانْ، ولا بآتي العيش قبل الأوانْ. واغنم من الحاضر لذّاته، فليس في طبع الليالي الأمانْ.
القلب قد أضناه عشق الجمالْ، والصدر قد ضاق بما لا يُقالْ. يا ربّي هل يرضيك هذا الظمأ، والماء ينساب من أمامي زُلالْ.
لكنّ في الرباعيات مقاطع أخرى لا تقلّ جمالا ممّا لم تغنّه أم كلثوم. وهي امتداد لفلسفة الخيام وحيرته وقلقه الوجودي الممضّ:
عش راضيا واهجر دواعي الألمْ، واعدل مع الظالم مهما ظلمْ. نهاية الدنيا فناء فعش، فيها طليقا واعتبرها عَدَمْ.
الخمر كالورد وكأس الشرابْ، شفّت فكانت مثل ورد مُذابْ. كأنّما البدر نثا ضوءه، فكان حول الشمس منه نقابْ.
كنّا فصرنا قطرة في عُبابْ، عشنا وعدنا ذرّة في الترابْ. جئنا إلى الأرض ورحنا كما، دبّ عليها النمل حينا وغابْ.
خلقتني يا ربّ ماءاً وطينْ، وصُغتني ما شئت عزّا وهَونْ. فما احتيالي والذي قد جرى، كتبته يا ربّي فوق الجبينْ.
قبل أسابيع شاهدت برنامجا وثائقيا رائعا أعدّته إحدى محطّات البي بي سي عن حياة وشعر الخيّام. معدّ ومقدّم البرنامج، وهو أديب إيراني يعمل في القسم الفارسي بالإذاعة البريطانية، ظهر في بداية البرنامج وهو يحتسي كأسا من النبيذ في إشارة إلى إحدى السمات الفارقة التي تميّز الخيام وشعره. ثم تحدّث المذيع عن أهمّية مدينة نيسابور، أو نيشابور كما ينطقها الإيرانيون، مسقط رأس الخيّام التي كانت زمن الشاعر تضاهي القسطنطينية في مكانتها السياسية والثقافية. بعد ذلك انتقلت الكاميرا إلى كيمبريدج وظهر في الصورة عدد من الأكاديميين الانجليز والإيرانيين الذين تحدّثوا عن أهميّة الخيّام وبراعته في تصوير الروح الإنسانية والتعبير عن هشاشة الحياة وحيرة الإنسان.


وعلى خلفية من موسيقى الملحّن الإيراني محمّد رضا شجريان الذي وضع موسيقى الرباعيات بالفارسية، ظهرت صورة ادوارد فيتزجيرالد أوّل من ترجم الرباعيات إلى الانجليزية والرجل الذي جعل اسم الخيّام مشهورا في الغرب. ثم تحدّث شاعر إيراني عن الملامح المميّزة للرباعيات مشيرا إلى أنها تتّسم بالبناء النغمي الأخّاذ وقوّة التعبير والجرس الموسيقي وبكثرة الصور الخيالية والبلاغية والروحية. وهناك فكرة تتكرّر باستمرار في شعر الخيّام وتتمثّل في شعور الإنسان باليأس أمام القوى الغيبية والخفيّة التي يصعب على الإنسان كبحها أو التحكّم بها مثل الزمن والمصير أو القدر. وأضاف أن إشارات الخيّام المتواترة عن الموت الذي يحصد الأرواح بلا تمييز تثير في النفس قدرا غير قليل من الأسى والحزن. ثم تحدّث عن ترجمة فيتزجيرالد للرباعيات مذكّرا بحقيقة أنها ظهرت في نفس السنة التي نشر فيها تشارلز داروين كتابه الشهير أصل الأنواع، وهو ما يعتبر مفارقة لافتة. ثم قال الشاعر مخاطبا المذيع: تأمّل هذه الأبيات من الرباعيات، وقرأ:
هات اسقني كأس الطِلا السلسلِ، وغنّني لحنا مع البلبلِ. فإنما الإبريق في صَبّهِ، يحكي خرير الماء في الجدولِ.
كان الذي صوّرني يعلمُ، في الغيب ما أجني وما آثمُ. فكيف يجزيني على أنني، أجرمت والجرم قضا مبرمُ.
لم يجنِ شيئا من حياتي الوجودْ، ولن يضير الكون أنّي أبيد. وا حَيرتي ما قال لي قائل، ماذا اشتعال الروح كيف الخمودْ.
لو أنّني خُيّرت أو كان لي، مفتاح باب القدَر المقفلِ. لاخترت عن دنيا الأسى أنني، لم أهبط الدنيا ولم أرحلِ.
يا طالب الدنيا وُقيتَ العثارْ، دع أمل الربح وخوف الخَسَارْ. واشرب عتيق الخمر فهي التي، تفكّ عن نفسك قيد الإسارْ.
وقال الشاعر معلّقا: الذي استطاع ترجمة هذه الأبيات بروحها ومضمونها الفلسفي والوجودي لا بدّ وأن يكون هو نفسه شاعرا مبدعا ومترجما متميّزا. ثم استمرّ يقرأ مقاطع أخرى من الرباعيات وهو يبتسم ويهزّ رأسه تأثّرا وطرباً:
حار الورى ما بين كفر ودينْ، وأمعنوا في الشكّ أو في اليقينْ. وسوف يدعوهم منادي الردى، يقول ليس الحقّ ما تسلكونْ.
الخمر توليك نعيم الخلودْ، ولذّة الدنيا وأنس الوجودْ. تحرق مثل النار لكنّها، تجعل نار الحزن ماءاً برودْ.
قالوا امتنع عن شرب بنت الكرومْ، فإنها تورث نار الجحيمْ. ولذّتي في شربها ساعة، تعدل في عيني جنان النعيمْ.
لو كان لي قدرة ربّ مجيدْ، خلقتُ هذا الكون خلقا جديدْ. يكون فيه غير دنيا الأسى، دنيا يعيش الحرّ فيها سعيدْ.
خير لي العشق وكأس المدامْ، من ادّعاء الزهد والاحتشامْ. لو كانت النار لمثلي خلتْ، جنّات عدن من جميع الأنامْ.
ثم استضاف البرنامج فيلسوفا إيرانيا قال إن ما حبّب الغرب في شعر الخيّام هو فهمه للروح الإنسانية والنفس الداخلية من قبيل حديثه عن الألم والموت والحبّ والسعادة والمصير والشكّ واللا يقين. وأضاف: الانجليز من جهتهم وجدوا في الرباعيات أشياء من شكسبير والإنجيل وكارلايل وتينيسون. وكانت الرباعيات تتحدّث إلى انجلترا الفيكتورية في العديد من أجزائها. وأضاف: إن من الخطأ أن نحصر الخيّام في الصور واللوحات التي تصوّره مع الخمر والنساء. فالنبيذ في الرباعيات يرمز للمتع الجمالية والفكرية وليس مقتصرا على المتعة الحسّية فحسب. وختم حديثه بالقول: انتشار الخيّام وشهرته المدويّة يصعب أحيانا تفسيرها أو فهمها. لقد غطّت شهرته على شعراء إيرانيين كبار ولا يقلّون أهمّية، مثل نظامي والرومي وسعدي وحافظ الشيرازي والعطّار وسواهم.
ثم استضاف البرنامج رسّاما تحدّث عن الرسوم التصويرية التي صاحبت الطبعات المختلفة من الرباعيات بدءاً من لوحات ادموند ديولاك الساحرة ومرورا برسومات ايليو فيدر واتش جي فورد وانتهاءا برسومات العديد من الفنانين الإيرانيين.
وظهر بعد ذلك أكاديمي بريطاني تحدّث عن بعض خصائص شخصية الخيّام فقال: الخيّام التاريخي لا يُعرف عنه الشيء الكثير، ومن الصعوبة بمكان إعادة بناء ملامح شخصيّته بدقّة. هو حينا شاعر وحينا آخر متصوّف، في حين يعتبره آخرون لا أدرياً أو لا دينياً. لكن الثابت انه كان شخصا متعدّد الاهتمامات، وكانت له إسهاماته البارزة في الرياضيات وعلم الفلك. وقد أطلق اسمه على احد الكواكب البعيدة تكريما له وتقديرا لاكتشافاته المهمّة في ميدان الفلك. وأضاف: كانت الرباعيات تُعطى دائما تفسيرات رمزية ومجازية تناسب الظروف السياسية والاجتماعية لكلّ عصر. وقد أحبّ الناس هذه القصائد لأنهم كانوا يرون فيها مصدرا من مصادر الحكمة القديمة، بالإضافة إلى تصويرها الساحر لبعض متع ومباهج الحياة مثل الإشارات المتكّررة فيها إلى الحدائق الغنّاء والنساء الغامضات، وهو ما أسهم في تشكيل نظرة الغربيين لطبيعة الثقافة الإسلامية عموما.
ثم انتقلت الكاميرا إلى مدينة نيسابور، وبالتحديد إلى المقبرة التي يقوم فيها ضريح عمر الخيّام. المناسبة كانت الاحتفال بإقامة تمثال لـ فيتزجيرالد إلى جوار ضريح الخيّام بمناسبة مرور 150 عاما على ترجمة الرباعيات إلى الانجليزية. الملفت للنظر أن أكثر من حضروا المناسبة كانوا من النساء. وقد صاح الجميع لحظة رفع الستار عن التمثال مردّدين: لا اله إلا الله.
المفارقة هي أن إيران الرسمية لم تتصالح بعد مع الخيّام، مع انه يمثل جزءا لا يتجزّأ من هويّة إيران التاريخية والأدبية والثقافية. غير أن نفوذ الشاعر في المجتمع الإيراني كبير بما لا يوصف. وقد ظهرت في البرنامج صور لفتيات محجّبات وهنّ يضعن الزهور على ضريحه ويحملن كراريس ملوّنة تضم أشعاره.
على موسيقى النهاية لاح لي طيف الخيّام مرّة أخرى. كان ما يزال يرنو ببصره نحو الأفق البعيد وقد أحاطته غلالة من نور بينما كانت النجوم ترسل بريقها الشاحب الأخير قبل أن تختفي خلف بوّابات الفجر. كان يردّد بصوت خاشع متبتّل آخر أبيات الرباعيات:
يا من يحار الفهم في قدرتكْ، وتطلب النفس حمى طاعتكْ. أسكرني الإثم ولكنّني، صحوت بالآمال في رحمتكْ.
إن لم أكن أخلصت في طاعتكْ، فإنّني اطمع في رحمتكْ. وإنّ ما يشفع لي أنني قد عشت لا أشرك في وحدتكْ.
يا عالِم الأسرار علم اليقينْ، يا كاشف الضرّ عن البائسينْ. يا قابل الأعذار عدنا إلى ظلّك، فاقبل توبة التائبينْ.

الجمعة، أكتوبر 20، 2006

أحزان جبلية

في هذه المحطّة، نستمع الى لحنين..
الأول للمطربة الكردية اينور دوغان.
و اينور اسم لمع بقوّة في سماء الأغنية التركية ولقيت أغانيها وموسيقاها إشادة وتقديراً من أوساط الموسيقى العالمية، خاصةً بعد أن رفعت الحكومة التركية الحظر الذي كانت تفرضه على الغناء باللغة الكرديّة.
ومثل بقيّة المغنين الأكراد، تستمدّ اينور موضوعات وألحان أغانيها من أجواء كردستان ومن الفولكلور والقصص والأساطير الكثيرة التي تزخر بها التقاليد والثقافة الكردية عموما.

أما اللحن الثاني فهو للموسيقار الإيراني همايون شجريان.
شجريان، بالاضافة إلى كونه مغنيا، يجيد العزف على آلتي التومباك والكمان "الكمنجة بالفارسية".
وهو سليل عائلة من الموسيقيين والمغنّين، فوالده هو الموسيقي الكبير محمد رضا شجريان وشقيقته عازفة ومؤلفة موسيقية بارزة.
صوت همايون شجريان، المولود عام 1975، يبدو أكبر من سنّه، ومن الواضح أنه تعلّم من والده تقنيات تطويع الصوت والتحكّم في الأداء.
وهو في النهاية امتداد لجيل كامل من الموسيقيّين الذين حافظوا على التقاليد الصوتية العريقة في الموسيقى الفارسية.
الموسيقى الكردية والفارسية تنتميان إلى عائلة موسيقية واحدة، وما يجمع بينهما أيضا هو هذا الوجد والحزن الشفيف الذي تشيعه في نفس السامع.
قد لا يكون هذا مستغربا، خاصةً إذا لاحظنا تركيز الموسيقى الكردية والفارسية على مواضيع معيّنة مثل الهجرة والاغتراب والعيش في المنافي وما يرتبط بذلك من مشاعر الحزن والحنين..

الأحد، يناير 29، 2006

إطلالة على الموسيقى الإيرانية

التعرّف على ملامح وسمات الموسيقى الفارسية يقتضي أولا إلقاء نظرة على موسيقى الدول المجاورة لايران، بالنظر إلى أن البلدان التي أثّرت في تلك الموسيقى أو تأثرت بها كانت جزءا من إيران في الأزمنة القديمة، أو بحكم القرب الجغرافي منها.
وبالإضافة إلى العلاقة مع البلدان المجاورة، هناك عاملان آخران يؤكّدان التأثير الموسيقي المتبادل، وأولهما موقع إيران الكائن في منتصف المسافة تقريبا بين الشرق والغرب. والثاني يتمثل في العبور المتكرّر لأراضي فارس من طرف قبائل متعدّدة تنتمي إلى ثقافات وخلفيات حضارية مختلفة. وكل ذلك ترك أثرا مهما على الثقافة الفارسية بشكل عام.
يشير الباحث الموسيقي الإيراني فتح الله ناصح بور إلى أن السجلات التاريخية القديمة تؤكّد وجود موسيقى ذات سمات مختلفة، ولكن متكاملة، في فارس القديمة. وأقدم تلك السجّلات ختم قديم يعود إلى الألفية الخامسة قبل الميلاد ُعثر عليه عن طريق الحفر في بلدة شوغاميش القريبة من ديزفول. ويظهر الختم اقدم أدوات موسيقية في العالم وتتكوّن من آلتي الهارب والطبل الموسيقيتين.
ومن ناحية أخرى، هناك ما يشير إلى تأثّر الموسيقى الفارسية بالموسيقى الهندية التي يعتقد أن لها صلة وثيقة بموسيقى سيلان وباكستان وبنغلاديش.
وهذا ليس بالاكتشاف الجديد إذ أتى على ذكره المؤرّخ المعروف ابو الريحان البيروني.
والتأثير الذي تركته الهند على الموسيقى الإيرانية واضح تماما من موسيقى اريان التقليدية التي تشكّل قصّة الغجر الهنود اشهر سماتها.
ويتحدث ناصح بور عن بهرام الذي طلب من زوج والدته الذي كان ملكا على الهند أن يرسل 1200 موسيقي إلى إيران لكي يمتّعوا الإيرانيين بموسيقى الهنود.
ويمكن تعقّب الأثر الذي لعبه الهنود في الموسيقى الإيرانية من خلال الآلات الموسيقية الهندية الشائعة في الموسيقى الإيرانية مثل الفان والداراي.
لكن تأثير الموسيقى الإيرانية على موسيقى الهند يعدّ اكثر وضوحا، ويعزى ذلك إلى وجود موسيقيّين إيرانيين في بلاط الملك الهندي اكبر شاه، واشهر أولئك الموسيقيين أمير خسرو دهلوي الشاعر والموسيقي والمغني الشهير.
والموسيقى الهندية اليوم تعتمد على أسلوبين أحدهما يسمى الهندوستاني وهو شائع في شمال الهند وتعود جذوره إلى الموسيقى الإيرانية.
ولا يمكن إغفال الدور الحاسم الذي لعبته الصين في التبادل الثقافي والموسيقي مع الأمم المجاورة ومن بينها إيران. فهناك أدوات موسيقية إيرانية عديدة تم نقلها إلى الصين ومن ثم تأثرت هناك ببعض خصائص الموسيقى الصينية. ومنها آلة السورنا وآلة الباربات أو العود الإيراني الذي انتقل في فترة لاحقة إلى اليابان.




ومن المثير للاهتمام أن نلاحظ أن ثقافة الاوغور الأتراك تأثرت هي الأخرى بالثقافة الإيرانية وبالآلات الموسيقية الفارسية مثل الطار والكوشتار والداب الخ..
ويعتقد على نطاق واسع – يقول الناقد الموسيقي الإيراني - أن الشرق هو مصدر الآلات الموسيقية الغربية المعروفة اليوم.
فقد اخذ المسلمون معهم إلى أوربا معظم تلك الآلات عبر جنوب شرق بيزنطة وشمال أفريقيا خلال القرون الوسطى.
وعندما وصلت آلة الباربات الموسيقية الإيرانية والمعروفة عند العرب بالعود، عندما وصلت إلى أوربا أصبحت تسمى اللوت Lute ، وبعد أن أجريت عليها بعض التعديلات تحوّلت إلى آلتي الغيتار والماندولين.
بل لقد ثبت أن الكلمة الفرنسية التابور مشتقة من كلمة التابيرا الإيرانية. والتابور كان آلة موسيقية استخدمت في أوربا خلال القرون الوسطى.
لكن ما هو التأثير الذي تركه الأوربيون على الموسيقى الإيرانية خلال القرنين الأخيرين؟
يقول ناصح بور: يمكن القول أن هذا التأثير يعود إلى الحقبة القاجارية في إيران، عندما تمّ إدخال الآلات الموسيقية العسكرية الأوربية إلى إيران مع البنادق والمدافع وأنظمة الجيوش الأوربية.
وفي ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية عندما كانت إيران على علاقة وئام مع روسيا القيصرية ، وصل وفد روسي إلى تبريز بصحبة أوركسترا من 30 عازفا أدّوا حفلا موسيقيا على شرف وليّ العهد آنذاك عبّاس ميرزا الذي اعجب بالعزف وقرّر على الفور تشكيل فرقة اوركسترالية متخصّصة في عزف الموسيقى العسكرية.
وتلك كانت بداية تأثر الموسيقى الإيرانية بالأنساق الموسيقية الأوربية. وبعدها أضيف قسم جديد لمدرسة دار الفنون حيث أصبحت تدرّس الموسيقى العسكرية لاول مرة.
واصبح الفيولين أو الكمان أحد الآلات الموسيقية الأوربية التي أصبحت شائعة في عهد ناصر الدين شاه بعد تأسيس دار الفنون.
وفي مرحلة لاحقة دخلت الأوبرا خريطة الموسيقى الإيرانية للمرة الأولى على يد الموسيقيين القوقاز المقيمين في إيران في ذلك الوقت.
وقد كشفت الدراسات الحديثة النقاب عن أن اصل الموسيقى اليونانية يعود إلى الشرق.
أما الموسيقى التركية فيجمعها بالموسيقى الفارسية الكثير من السمات المشتركة لدرجة يصعب معها أن نضع فاصلا أو حاجزا بينهما. ويمكن القول إن الموسيقى الإيرانية تشكّل أحد الأسس المهمة للموسيقى التركية.
وعقب انهيار الدولتين الآشورية والبابلية في القرن السادس قبل الميلاد حصل اندماج ما بين حضارتي فارس والهلال الخصيب لتكوّنا حضارة اكثر قوّة وثراءً.
وقد تأثرت الموسيقى المصرية بالموسيقى الفارسية، ومن مظاهر ذلك التأثر حضور آلات موسيقية فارسية في الموسيقى المصرية مثل الكمان "الكمنجة بالفارسية" والسانتور "وهو آلة قريبة الشبه من القانون"، بالإضافة إلى شيوع المقامات الموسيقية الإيرانية المشهورة في موسيقى مصر مثل مقامات الشاهراجا والسيكا والاصفهاني والنهاوند والسوزناك والرست والباستينيجار.

هامش:
موسيقى إيرانية: حسين عليزاده ، عزف على السانتور ، سيما بينا ، فارامارز بيفار ، هايدي ، محمّد رضا شجريان ، شاكيلا ، شهرام ناظري ، آزام علي