:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات ديورر. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ديورر. إظهار كافة الرسائل

الخميس، نوفمبر 10، 2011

ألف لوحة ولوحة


"ألف لوحة ولوحة يجب أن تراها قبل أن تموت" هو عنوان الكتاب الذي أحضرته معي بعد زيارتي الأخيرة إلى لندن. الكتاب يقع في حوالي ألف صفحة. وكلّ صفحة مخصّصة للوحة، مع شرح موجز عن الرسّام والعصر الذي عاش فيه.
المؤلّف ستيفن فارذينغ يعمل أستاذا في جامعة الفنون في لندن. كما انه في الوقت نفسه رسّام. وقد ساعده في اختيار اللوحات وكتابة الشروحات مجموعة من تسعين كاتبا، بينهم أساتذة في الفنّ وموسيقيّون ومصمّمو مواقع اليكترونية.
اللوحات المختارة تغطّي الفترة من عام 1420 قبل الميلاد وحتى العام 2006م. وتضمّ نماذج من الفنّ الفرعوني والإسلامي وفنّ عصر النهضة وصولا إلى فنّ القرن العشرين. وقد روعي في اختيار هذه الأعمال أن تكون ممثّلة لمختلف التيّارات والمدارس الفنّية في الرسم.
ويحوي الكتاب أعمالا لفنّانين مشهورين مثل دافنشي وبيكاسو والبريخت ديورر وكلود مونيه وهيرونيموس بوش وكاندينسكي ورافائيل ودي غويا وميكيل أنجيلو وغوستاف كليمت وروبنز وغيرهم.
والملاحظ أن المؤلّف لم يقدّم لكتابه بشرح عن بدايات الرسم. كما أن الكتاب لا يتطرّق إلى ماهيّة الرسم ولا إلى وظيفته.
والملاحظة الأخرى تتعلّق بالعنوان. فالإشارة إلى الموت في عنوان كتاب يتحدّث عن الفنّ لم تكن موفّقة. لكن ربّما استوحى المؤلف العنوان من اسم كتاب شهير ورائج للكاتبة باتريشيا شولتز بعنوان "ألف مكان يجب أن تراها قبل أن تموت".
المقال المترجم التالي يلقي المزيد من الضوء على مضمون هذا الكتاب. وهو خلاصة لآراء مجموعة من الكتّاب ونقّاد الفن.

قد يكون من السهل على شخص ما أن يضع قائمة بلوحاته العشر المفضّلة من تاريخ الفنّ. لكن كيف يمكن لشخص واحد أن يتعاون مع عشرات الكتّاب الآخرين لتأليف كتاب شامل يتضمّن أهمّ وأشهر ألف لوحة في تاريخ الرسم؟
الشيء المحيّر في هذا الكتاب هو انه خفيف جدّا رغم حجمه. وقارئه المستهدف هو بالتأكيد شخص ما يشبه المرأة التي تظهر على غلافه. وهي تبدو واقفة بينما تعطينا ظهرها وقد ارتدت ثوبا أسود أنيقا وغير مبهرج.
في وقت ما من منتصف القرن التاسع عشر، حدثت انعطافة في تاريخ الرسم. فقد توقّف الرسّامون عن فعل ما كانوا يفعلونه من قبل، وبدءوا يطرحون أسئلة تتناول ماهيّة الرسم وغاياته.
وكان هذا مؤشّرا على التحوّلات الهائلة التي مهّدت لدخول العصر الحديث. كان التغيير الأكبر يتمثّل في تخلّي الرسّامين عن تمثيل الأشياء بطريقة واقعية وإهمالهم للمسائل المتعلّقة بالمنظور.
لكن، لسبب ما، كان الناس ما يزالون يشعرون بالرغبة في الرسم. ولا احد يدري لماذا. ربّما كان السبب هو محاولة الإبقاء على تقليد قديم على أمل أن يعيد إنتاج نفسه في عالم جديد.
وأيّا ما كان الأمر، فإن الرسم تمكّن فعلا من إعادة تصنيع نفسه. واندفع الرسّامون إلى القرن العشرين بأفكار وأدوات جديدة. وبدأ بعضهم يتحدّث عن الرسم من داخل لوحاتهم.
لوحة ماليفيتش المشهورة "ابيض على ابيض" يمكن أخذها كمثال. واللوحة هي عبارة عن مربّع ابيض مرسوم بطريقة مائلة على خلفية من اللون الزهري الخفيف. ويمكن اعتبار اللوحة دراسة في الشكل واللون.
هذه اللوحة لن تعثر لها على اثر في كتاب "ألف لوحة ولوحة يجب أن تراها قبل أن تموت". وستجد عوضا عنها لوحة ماليفيتش الأخرى "الدائرة السوداء" والتي تحاول، هي أيضا، إيصال نفس الفكرة تقريبا.
غير أن لوحة الدائرة السوداء تظهر في إحدى صفحات هذا الكتاب بمواجهة بورتريه الكونتيسة آنا دي نوي للفنّان الاسباني إغناثيو ثولواغا.
من المؤكّد أن لوحة ثولواغا قويّة، وإن بطريقة مختلفة. تتمنّى لو انك عرفت هذه الكونتيسة عن قرب. تتأمّل في ملامح وجهها وتتخيّل كما لو أنها تقول: أحضر لي كأسا من النبيذ أيها الأحمق! النصّ تحت صورة الكونتيسة يتحدّث عن ألوان أغطية السرير الداكنة التي تحاكي لون شعر المرأة الفاحم وفستانها.
وإذا ما حوّلت نظرك إلى الصفحة اليسرى من الكتاب، ستجد بضعة أسطر عن ماليفيتش تشير إلى أن الرسّام اختار للوحته توليفاً تجريديا بالكامل.
الفرق بين هاتين اللوحتين كبير جدّا. السواد النقيّ في لوحة ماليفيتش يهدّد بمحو كل العناصر التمثيلية في لوحة الكونتيسة. هنا تقف الألوان الثريّة للباس التقليدي والمظاهر الأندلسية في مواجهة العالم الصامت للتجريد.
ومن بين الأعمال العظيمة التي يتوقّع القارئ أن يجدها في هذا الكتاب رسومات ميكيل انجيلو في سقف كنيسة سيستينا، والغجرية النائمة لـ هنري روسو، والصرخة لـ إدوارد مونك، وظهيرة يوم احد لـ جورج سورا.
لكن هناك مفاجآت أخرى ولوحات غامضة لا يبدو أنها جديرة بأن تُدرج في الكتاب، مثل في الصباح الباكر لـ موريتز لودفيغ فون شوند وأغنية من بعيد لـ فرديناند هولدر.
في هذا الكتاب أيضا، ثمّة لوحات يُفترض أن لا تستطيع رؤيتها قبل الموت لسبب بسيط، هو أنها موجودة ضمن مجموعات فنّية خاصّة.
على أن أفضل ما في الكتاب هو مجموعة اللوحات المختارة. وبطبيعة الحال لن تجد نفسك متّفقا مع جميع الاختيارات. لكنها تغطّي مجموعة كبيرة من الأساليب والتيّارات الفنّية والفترات الزمنية والرسّامين.
من بين الأعمال المختارة لوحة رحلة المجوس إلى بيت لحم للفنّان الايطالي بينوتسو غوتسولي. هذا لوحة غريبة بالفعل. لكنّ منتصف القرن الخامس عشر، أي زمن رسم اللوحة، كان فترة غريبة. ومن الصعب جدّا فهم المشهد الفكري في أوروبّا من بدايات العصور الوسطى وحتى بداية عصر النهضة. كانت هناك قواعد مختلفة. الله كان ما يزال موجودا. وكانت الحياة تُفسّر من خلال شبكة معقّدة من الرموز والاستعارات التي لا يمكننا فهمها اليوم. لكن يمكن للمرء على الأقلّ أن يقدّر ثراء اللون وجمال التصميم في هذه اللوحة. فهي تنقل المتلقّي عبر فضاء حالم. والنصّ المكتوب تحتها يقول: التوليف يبدو غير محسوم. كما أن المنظور غير مقنع". وهذا استنتاج صحيح. فاللوحة عبارة عن محاولة تجريبية في أسلوب تناول التوليف والمنظور.
الربع الأوّل من الكتاب تهيمن عليه الايقونات واللوحات الدينية من ايطاليا. والربع الأخير منه تغلب عليه لوحات فنّاني الحداثة مثل غوردون بينيت وداميان هيرست، بالإضافة إلى فنّان الشوارع البريطاني المشهور بانكسي.
من المعلومات الغريبة التي يوردها الكتاب عن الموناليزا هي أن اللوحة لم تكتسب اسمها المعروف اليوم إلا بعد حوالي نصف قرن من رسمها، عندما كشف المؤرّخ الايطالي جورجيو فاساري هويّة المرأة زاعما أن اسمها الأصلي ليزا جيرارديني.
من أوجه النقص في هذا الكتاب انه لا يتحدّث عن الأسباب التي تجعل من لوحة ما مهمّة وتستحقّ أن تراها. لكنّ المؤلّف يقول في المقدّمة إن كلّ عمل في هذا الكتاب لا يمكن أن يرقى إلى المستوى الممتاز الذي تتبوّأه لوحة مثل لاس مينيناس لـ فيلاسكيز. غير انه يؤكّد لنا أن كلّ لوحة اختيرت، إما لأنها مهمّة أو لأنها مثيرة للاهتمام، أو للأمرين معا. لكن متى تكون اللوحة مهمّة أو مثيرة للاهتمام؟ المؤلّف لا يكلّف نفسه عناء طرح مثل هذا السؤال رغم أهمّيته. كما انه لا يقدّم شرحا مقنعا وكافيا عن سبب اختيار هذه اللوحات بالذات، وكأنه ينصح القارئ بأن يتوقّف عن الكلام وينشغل فقط بالنظر. أي أن هذا الكتاب في النهاية إنما يعرض الصور أو اللوحات، لكنّه لا يتحدّث عنها.

الجمعة، يوليو 08، 2011

فان دايك في انجلترا


لا بدّ وأن تتحرّك مشاعرك وأنت ترى لوحة الليدي ديغبي لـ انطوني فان دايك. تبدو المرأة نائمة، رأسها يستريح برفق فوق يدها. لكن بعد ذلك، ستلاحظ أن إحدى عينيها مفتوحة بطريقة غير طبيعية، وتدرك أنها ميّتة. فان دايك يستحضر في هذه اللوحة صورة خالدة من صور الصفاء والجمال ضمن فكرة الموت.
وهناك لوحات حزينة أخرى لهذا الرسّام. وهي تعكس أجواء القرن السابع عشر: الطاعون، الحرب والموت المبكّر. ومع ذلك، ثمّة لوحات أخرى لـ فان دايك تصوّر مواضيع دينية وأسطورية، بالإضافة إلى بورتريهات للعديد من الأشخاص بملابسهم الرائعة الألوان. وهذه الأخيرة هي التي اشتُهر بها أكثر من غيرها.
كان فان دايك في لوحاته يحتفظ بالحدّ الأدنى من الرمزية بحيث يمكنك تركيز الاهتمام على الفرد، لا سيّما تعابير وجهه وحركات يديه. لوحته التي رسمها لـ ماريا لويزا دي تاسيس لا بدّ وأن تغريك بابتسامتها التي تشبه كثيرا ابتسامة الموناليزا.
المؤرّخ كريستوفر هيل وصف ذات مرّة فان دايك بأنه كان يروّج للحكم المطلق بتزييفه لحقيقة المظهر في لوحاته". لكن الردّ على هذا الكلام قد يكون شديد التعقيد.
ولد انطوني فان دايك في انتويرب في بلجيكا عام 1599، وهي مدينة تقع على خطّ المعركة بين الإصلاح البروتستانتي والكاثوليكية المضادّة للإصلاح. وقد بُنيت المدينة كي تكون مركزا تجاريّا. وكان والد فان دايك تاجر أقمشة. والكثير من رعاته كانوا من التجّار أيضا.
في ذلك الزمان، شهدت الفنون والثقافة طفرة كبيرة، وبخاصّة في إيطاليا التي ازدهرت فيها دراسة الثقافة اليونانية والرومانية الكلاسيكية خلال عصر النهضة. الفنّ في تلك الفترة، بحسب ما يقوله الناقد الماركسي الروسي البارز بليخانوف، كان يمرّ بتحوّل مهم تمثّل في حقيقة أن الفكرة المسيحية المثالية عن الشكل البشري كانت في تراجع بفعل الأفكار الدنيوية التي كان ظهورها محتّما مع بداية النضال الحضري من أجل التحرّر.
صور المادونات، على سبيل المثال، أصبحت مشبعة بملامح الوجود الأرضي البحت، لدرجة أنه لم يعد يجمعها شيء مع العذراوات التقيّات في العصور الوسطى.
كان ذلك العصر عصر دافنشي ومايكل أنجيلو ورافائيل وتيشيان وعلم دراسة المنظور والتشريح البشري.
الأساليب الفنّية الجديدة كانت تغزو جميع أرجاء أوربّا. والتجارة والسفر والطباعة سهّلت التفاعل بين الأشكال والأساليب الفنّية المختلفة. ولوحات المناظر الطبيعية الضخمة التي نشأت في هولندا عادت إلى الظهور مجدّدا في لوحات عصر النهضة في فينيسيا، والتي استفاد منها فان دايك خلال إقامته في انجلترا.
الفنّان الألماني البريخت ديورر (1471-1528) زار فينيسيا في وقت لاحق، وساعد في إدخال أساليب عصر النهضة الإيطالي إلى بلده. و هولبين (1497-1543) قام بتزيين الكنائس الألمانية متأثّرا بأسلوب عصر النهضة. ثم هاجر بعد ذلك إلى انجلترا البروتستانتية.
ولد فان دايك في خضمّ هذه العاصفة السياسية والاجتماعية والثقافية. كانت عائلته كاثوليكية ملتزمة. فاثنتان من شقيقاته انضمّتا إلى احد الأديرة بينما أصبح شقيقه كاهنا. وهو نفسه، أي الرسّام، انضمّ إلى جماعة يسوعية.
تتلمذ أنطوني فان دايك على احد رسّامي انتويرب الكبار، وهو هندريك فان بيلين عندما كان عمره عشر سنوات. وبعد بضع سنوات أخرى، أصبح يدرس على يد بيتر بول روبنز.
كان روبنز الرسّام الأوّل في العالم الكاثوليكي. وكان يتبع التقاليد الفلمنكية التي بدأها رسّامون مثل بريغل الذي كان يحاكي الطبيعة ويرسم مشاهد ريفية. لكن بعد أسفاره في ايطاليا، أصبح فان دايك متأثّرا بجمال وبساطة أعمال انيبالي كاراتشي وكارافاجيو.
وعندما عاد إلى بلجيكا، أصبح أوّل فنّان يرسم الصور الكبيرة. وأعماله في ذلك الوقت مليئة بالحركة والناس، لكن ما يزال فيها إحساس بالضوء والمكان. ومقارنة مع صوره، كانت لوحات الرسّامين من مواطنيه صغيرة ورسمية ومتيبّسة.
استوعب فان دايك بسرعة أسلوب وتقنيات روبنز. وكان الأخير يعتبره أفضل تلاميذه. لكن على الرغم من تأثير روبنز الكبير عليه، إلا انه كان قد بدأ بالفعل أسلوبه الخاصّ به.
وكان أفراد الطبقة البرجوازية الصاعدة في انتويرب يرعونه ويقدّرونه. وفي لوحاته العديدة التي رسمها لهم، يظهر هؤلاء بملابسهم السوداء وياقاتهم البيضاء وعلى وجوههم علامات الفخر والزهو بوضعهم الجديد.



في ايطاليا، رسم فان دايك العديد من الصور الجميلة واللوحات الدينية. كما عمّق دراسته لفنّ عصر النهضة في فينيسيا، وخاصّة تيشيان. وقبيل وفاته، كان قد جمع سبع عشرة لوحة من أعمال هذا الأخير.
كان تيشيان الأكثر شهرة بين معاصريه بسبب بورتريهاته. وكان للوحاته نوعية حالمة، مقارنة بـ فان دايك الذي كان يضع البشر بقوّة على الأرض.
وقد أمضى فان دايك سنواته الأخيرة في لندن كرسّام للبلاط. وأقام هناك ورشة فنّية كانت تنتج لوحة كلّ أسبوع. ومثل روبنز، كان غالبا ما يترك العمل الأساسي لمساعديه ويكتفي فقط بإضافة اللمسات الأخيرة.
وجوده في لندن تزامن مع فترة حكم الملك تشارلز الأوّل الذي كان يمارس حكما فرديّا. فالبرلمان لم ينعقد من 1628 إلى 1640م. وتشارلز، البروتستانتي، كان يعتمد على الطبقة الأرستقراطية. وكان خصومه من التجّار ومُلاك الأراضي الذين كانوا يخشون عودة الكاثوليكية لأن ذلك كان يعني ضياع أراضيهم. وقد ركّز هؤلاء كراهيتهم على الملكة هنرييتا ماريّا التي كانت فرنسية وكاثوليكية. وكان فان دايك، بحكم وظيفته، مقرّبا من البلاط.
تصوير فان دايك للسلطة ربّما يغضب بعض الناس. ومع ذلك، فإن لوحاته تُعتبر سجلا رائعا لـ انجلترا التي كانت وقتها تتّجه إلى الحرب الأهلية. وقد وجد رعاته أنفسهم على كلا الجانبين في هذا الصراع.
كان ايرل سترافورد عضوا في مجلس العموم ونائبا في البرلمان. ثمّ عُيّن كبيرا لمستشاري الملك تشارلز. وقد حوكم من قبل البرلمان المنصّب حديثا في العام 1641 وأعدم بعد أن وقّع تشارلز نفسه على الحكم بقتله.
في اللوحة التي رسمها له فان دايك، يقف ايرل سترافورد بشعره القصير وبدلته السوداء اللامعة بينما يقف إلى جانبه كلب صيد ايرلندي. ملامح وجه الرجل كما يظهر في اللوحة تكتسي بتعابير هي مزيج من التوتّر والخوف.
بعد فترة وجيزة من وصوله إلى انجلترا في 1632، تلقّى فان دايك تكليفا من الملك بأن يرسم له لوحة بمعيّة الملكة.
وفي اللوحة قلّل فان دايك من أهمّية الجانب الاحتفالي ورسم الزوجين، الملك والملكة، بملابس زاهية فيما تشارلز ينظر بمحبّة نحو هنرييتا الجميلة.
هل زوّر فان دايك مظهر الحقيقة هنا؟ الزوجان الملكيان لم يكونا قد رأيا بعضهما لمدّة ثلاث سنوات بعد زواجهما المرتّب. ابنة أخت هنرييتا وصفتها آنذاك بأنها "امرأة صغيرة بذراعين نحيفتين طويلتين وكتفين ملتويين وأسنان بارزة من فمها مثل بنادق في حصن".
تشارلز كان ينظر إلى الفنّ كوسيلة للترويج لنفسه كملك لبريطانيا. لكن حتى هذه الصورة لها جانبها التخريبي. إذ لم يحدث من قبل أن ظهر ملك بهذا الشكل الإنساني والمتحرّر من جبروت السلطة.
وفي بعض لوحاته العائلية، حطّم فان دايك التقليد القديم الذي كان يقضي بأن يكون الرجل إلى اليمين والمرأة إلى اليسار.
كما كان يعامل الأطفال كأفراد لهم شخصيّاتهم الخاصّة، ما أضاف لمسة من الشقاوة والخفّة إلى لوحاته.
توفي فان دايك في السادس من ديسمبر 1641 عن اثنين وأربعين عاما. وخلال حياته القصيرة أنتج ما يقرب من ألف لوحة. وقد عاش كما يعيش الارستقراطيون وكان متعاطفا مع اليسوعيين والملكيين. غير أن هذا لا ينتقص من جاذبية فنّه.
ويبدو انه كان قادرا على المزج بين مختلف التيّارات في الفنّ الأوروبّي كي ينتج صورا جميلة وقويّة ومملوءة بالشعور بالألفة والفردانية والبعد عن الرسمية.
قبل وفاته بثمان سنوات، رسم فان دايك لنفسه بورتريها شخصيا يظهر فيه مرتديا قميصا من الحرير الأحمر اللامع وحول كتفه سلسلة ذهبية بينما ينظر إلى الوراء. يده اليمنى تشير إلى زهرة كبيرة ومتفتّحة من أزهار عبّاد الشمس، رمزا لولائه للملك، وخلفها زهرة أخرى ذوَت وذهبت نضارتها.
هذه اللوحة رسمها وهو في أوج شهرته وثرائه. والمعنى الكامن فيها ما يزال يثير إعجاب الناس إلى اليوم. كأن الرسّام يقول: أنا هنا مثل عبّاد الشمس. عشت هذه الحياة واكتشفت جوهرها. لقد جعلتْ منّي إنسانا ثريّا ومشهورا. ولكن، ما قيمة كلّ هذه الثروة والشهرة عندما يموت عبّاد الشمس"؟!

Credits
nationalgallery.org.uk
historytoday.com

الاثنين، يوليو 12، 2010

جماليّات الحزن


أحد الملامح القديمة في الفنّ الغربي هو تحويل الحزن والكآبة إلى فرح وطاقة للانطلاق والإبداع. والهيئة الأكثر شيوعا في الحالات التي تتناول موضوع الكآبة والحزن هي صورة إنسان، رجل أو امرأة، يضع يده على خدّه وهو مستغرق في التفكير والتأمّل الحزين.
الفلاسفة والأدباء منذ القدم ينظرون إلى الحزن على انه دعوة خلاقة للإنسان كي يرتفع فوق ذاته ويستغلّ إمكانياته. وهناك من يعتقد أن الحزن يجعل الشخص أكثر إنسانية وشفافية وأكثر إحساسا بإيقاعات الحياة المختلفة من فرح وترح ورجاء ويأس وحياة وموت.. إلى آخره. وهناك أيضا من يرى أن الإنسان لا يصبح مكتمل الإنسانية إلا من خلال المعاناة والحزن. الحزن يمكن أن يلهم الإنسان ويقوّي مخيّلته ويجعله أكثر ارتباطا بالعالم من حوله.
الشاعر البريطاني جون كيتس تحدّث كثيرا عن فائدة الألم. قال ذات مرّة: الحزن لا يمكن تجنّبه، وهو ليس ضعف إرادة ولا مرضا نفسيا بحاجة إلى علاج". كيتس اكتشف أيضا أن الحزن يلهم الأفكار العظيمة. "ما يجعلنا نحزن هو معرفتنا بأن كلّ شيء مصيره إلى زوال. لكن عندما نحسّ بدنوّ الموت فإننا ندرك كم هو جميل هذا العالم".
الموسيقي الألماني فريدريك هاندل كان يعاني في نهايات حياته من حالة من الحزن وذبول الصحة ووهن الجسد بعد أمجاده الموسيقية الكثيرة. وفجأة أحسّ بالنشاط والحيوية عندما كُلف بتأليف موسيقى المسيح التي أصبحت أعظم أعماله الموسيقية والتي ولدت من رحم الحزن والمعاناة.
الرسّامة الأمريكية جورجيا اوكيف كانت دائما تقاوم الإحساس بالكآبة والحزن. غير أن الحزن هو الذي أشعل روحها وجعلها ترسم أفضل لوحاتها عن الأشياء المظلمة في وهج الصحراء وتحت الغيوم الثقيلة والداكنة. تنظر إلى لوحاتها المشهورة فتحسّ بأن فيها شيئا غريبا يشبه صمت وقدسيّة العظام التي كانت ترسمها.
وهناك من يميّز بين الحزن والكآبة. الحزن قد يُشعِر الإنسان باليأس والإحباط. والكآبة نوع من الحزن لكنّه يخلو من التشاؤم واليأس. كما أن لا علاقة لها بالاكتئاب.
أرسطو ناقش الكآبة كثيرا عندما درس مشاكل الإبداع الفنّي. وفرويد قرنها بالنرجسية والهوَس. الكآبة فيها مساحة كبيرة للتأمّل. وهي تتعلق بالناس والأمكنة، من قبيل حبّ صديق أو الاشتياق لمكان ما قريب من نفوسنا أو مكان سبق وأن عشنا فيه وما زلنا نحتفظ له بذكريات عزيزة. الكآبة تتضمّن متعة وفيها حبّ وشوق وتطلّع. كما أن فيها نوستالجيا، لأنها تثير الحنين إلى الذكريات القديمة والأفكار والتخيّلات عن الفقد والغياب.
بعض مشاهد أفلام سكورسيزي وطبيعة الرسّام الألماني كاسبار ديفيد فريدريش وألحان شوبان فيها نوع من الحزن المتسامي الذي يخلو من اليأس أو الإحباط.
عندما تستمع إلى بعض مقطوعات شوبان تستطيع أن تلمس فيها حزنا ومعاناة. وغالبا ما تعبّر الموسيقى الحزينة عن نفسها من خلال الإيقاع البطيء الذي يثير حالة من التوق والاستبطان الحزين. وهو انفعال معقّد جدّا يستثير بدوره صراعا داخليا يستعصي على التوصيف البسيط.


مرأى الأطلال أو الآثار القديمة قد يستدعي، هو أيضا، في نفوسنا شعورا بالحزن والكآبة. ربّما يكون السبب هو حقيقة أن الأطلال تعبّر عن مرور الزمن وعدم ثبات وديمومة الحياة والإحساس بالعبور والتحوّل من مرحلة لأخرى وما يثيره ذلك في النفس من مخاوف وهواجس. وكلّ هذه الحالات تكون مصحوبة بإحساس قليل أو كثير بالكآبة. رؤية الآثار الدارسة والقديمة تستثير حالات من التفكير التأمّلي والوجداني ترافقها صور لأحداث وحيوات من العصور الماضية. الصروح المهدّمة والأبنية المهجورة كثيرا ما تثير خيالنا وتدفعنا لإعادة بناء قصص متخيّلة في أذهاننا عن شكل الحياة في الماضي وعن الارتباطات ما بين الآثار والأحداث التي ترويها. هنا أيضا نجد ظلالا من المشاعر السلبية والايجابية للنوستالجيا والحنين لأزمنة وأمكنة لم تعد موجودة سوى في الذهن بعد أن انتهى وزال وجودها الفيزيائي أو المادّي.
في لوحته بعنوان الحالم، يرسم كاسبار فريدريش شخصا جالسا في نافذة دير قوطي قديم، أو بالأصحّ في أطلال ما تبقّى من ذلك الدير. داخل الدير ألوان حمراء داكنة. لكن النور الذهبيّ الساطع يفيض من وسط الصورة ليملأ الفراغ. المشهد عبارة عن تأمّل صامت والتباين ما بين الضوء والعتمة يوحي بالوحدة. لكن بنفس الوقت ما يزال هناك ثمّة إحساس بالأمل وربّما التوق.
الكآبة التي يشعر بها الإنسان أثناء لقائه بالطبيعة ليست بالأمر الطارئ أو الجديد. تخيّل نفسك، مثلا، وأنت تمشي في طبيعة مقفرة. الأرض التي تمتدّ أمامك تبدو فارغة وفسيحة تلوّنها ظلال باهتة من الرمادي مقابل سماء بنّية. الهواء ساكن وخفيف. وإذ تجد نفسك متوحّدا مع إيقاعات الفراغ الهادئ الذي أمامك، قد ينتابك فجأة مزاج تأمّلي يستثير في نفسك ذكريات وأفكارا معيّنة من زمن بعيد. تشعر بشيء من المتعة عندما تتذكّر الأوقات الجميلة من الماضي. لكنها متعة يخالطها حزن وتوق غامض.
في منتصف القرن السادس عشر، كانت الكآبة ترتبط بالإنسان المتفوّق والناضج والقادر على المشاعر العميقة. الموسيقيّ البريطاني جون دولاند عاش في ذلك الوقت وكان معاصرا لـ شكسبير. وقد عُرف ببراعته في العزف على آلة العود "أو اللوت". تستمع إلى ألحانه اليوم فتحسّ فيها بقدر غير قليل من الحزن والحنين. ومثل شكسبير، فإن موسيقى دولاند ما تزال تتحدّث إلينا من وراء أربعمائة عام.
في ألمانيا، ارتبط الفنّ والأدب والفلسفة في العصر الرومانسي بالكآبة. وقد كتب عنها ايمانويل كانت قائلا: إن المشاعر المتسامية تثير المتعة والخوف معا".
البريخت ديورر، الفنّان الألماني، رسم لوحة بعنوان كآبة يظهر فيها رجل متعطّش للمعرفة وحريص على إثراء عقله. ثم لهذا السبب، يشعر بالغربة ويعيش معزولا ومنبوذا من بقيّة البشر. هذه اللوحة وجد فيها الكاتب الأمريكي دان براون ما أثار اهتمامه عندما أشار إليها في روايته الأخيرة الرمز المفقود.
الشاعر الألماني هاينريش هايني اخذ الفكرة واستخدمها في إحدى قصائده عندما كتب يقول: لا أعرف ما الذي يؤرّقني ويثقل على عقلي طوال اليوم".
العلماء يقولون إن الكآبة ليست شيئا سيّئا أو سلبيا وأن قوّتها الايجابية هي التي منحت القوّة والعبقرية للفنّانين والفلاسفة العظام.
الكآبة والحزن كانتا وما تزالان فكرتين رائجتين في الرسم. ومن أشهر من رسموهما في أعمالهم كلّ من لوسيان فرويد ورودان وفان غوخ وغويا ووليام بليك ودي تشيريكو وإدوارد هوبر وبيتر بريغل وإدفارد مونك وإدغار ديغا وغيرهم.

Credits
contempaesthetics.org
quod.lib.umich.edu

الأحد، مارس 07، 2010

اللوحات العشر الأكثر ترويعاً وعُنفاً


اللوحات القاتمة والعنيفة في تاريخ الفنّ كثيرة، بل أكثر من أن تُعدّ أو تحصى.
هناك مثلا بعض لوحات بيتر بريغل وإيغون شيلا وتجيسلاف بيشينسكي وجون هنري فوزيلي، وكلّها جديرة بأن تحتلّ مكانا بارزا في قائمة تتناول مثل هذا النوع من الأعمال الفنّية.
في هذه القائمة يستعرض آرثر ويندرمير اللوحات العشر الأكثر ظلمةً ورعباً في تاريخ الرسم العالمي.


كان وليام بليك فنّانا وشاعرا رومانسيا ابتكر أساطير استند فيها إلى الإنجيل وضمّنها رؤى وأفكارا مخيفة كان يزعم انه تلقّاها منذ الصغر.
كان بليك يرسم أشعاره ويزيّنها بصور مائية رائعة حينا ومزعجة أحيانا. كما كُلّف برسم الصور الإيضاحية لكلّ من الإنجيل والكوميديا الإلهية.
من أشهر رسوماته التي وضعها للإنجيل السلسلة المسمّاة التنّين الأحمر العظيم.
في إحدى تلك اللوحات، واسمها التنّين الأحمر ووحش البحر، يرسم بليك تنّينا بملامح إنسان له جناحان هائلان منقوش عليهما نجوم، ربّما في إشارة إلى القوّة الكونية للشرّ.
التنّين الضخم ذو الرؤوس المتعدّدة التي يبرز منها قرون ينظر إلى أسفل حيث يظهر وحش آخر في البحر ممسكا بيد سيفا وبالأخرى ما يشبه الصولجان. هذا الوحش له، هو أيضا، رؤوس كثيرة لكن هيئته اقلّ بشرية من هيئة التنّين.


الفنّان الألماني البريخت ديورر عُرف بلوحاته المذهلة.
من بين أشهر أعماله سلسلة لوحاته عن القيامة والتي تتكوّن من خمسة عشر رسما صمّمها لسفر الرؤيا.
اللوحات تتحدّث عن بعض قيم وأفكار القرون الوسطى التي تتمحور حول الفضيلة وأبعادها الدينية والفكرية والأخلاقية.
من أكثر تلك اللوحات إثارة للخوف والرهبة اللوحة المسمّاة "الفارس والموت والشيطان".
فارس ديورر يمتطي حصانا شاحبا ويمرّ من أمام الموت الذي يأخذ شكل مخلوق متعفّن ومشوّه يمسك بساعة رملية، في إشارة إلى تسرّب وقصَر الحياة.
في اللوحة أيضا أشجار ميّتة وعلى طول الطريق مجموعة من الأهوال والعقبات التي تحاول إعاقة الفارس وإخراجه عن مساره.
الشيطان يتربّص وراء الرجل متّخذا هيئة مخلوق مشوّه، هو الآخر، له قرن طويل ويحمل رمحا ويبتسم ابتسامة ماكرة.
هناك أيضا في اللوحة جمجمة، وسحلية تسير في الاتجاه المعاكس للفارس. معاصرو ديورر ذهبوا إلى انه كان يحاول في اللوحة تصوير فكرة الراهب ايراسموس روتردام عن الفارس المسيحي الذي يجب أن لا يكتفي بتأدية الطقوس الدينية بل أن يلتزم أيضا بقيم الدين وأخلاقيّاته.


في روايته "رحلة إلى نهاية الليل" يصف الروائي الفرنسي لوي فرديناند سيلين بطنا مفتوحا وممزّقا لأحد القادة العسكريين بقوله: كلّ ذلك اللحم كان ينزف بغزارة".
شخصية القائد البديلة تهرع عائدة إلى المعسكر وتصف ما تراه عندما يتمّ تغذية الجنود باللحم. اللحم منتشر في كلّ مكان، في الأكياس وعلى فراش الخيمة وعلى العشب.
كانت هناك أمعاء وأحشاء كثيرة، قطع من الشحوم البيضاء والصفراء، أطراف في كلّ مكان. كان الجنود يتنافسون بضراوة على الظفر بالأجزاء الداخلية وكانت هناك أسراب كثيرة من الذباب تحوم حول المكان.
كانت تلك بعض الفظاعات الجديدة التي أتت بها الحرب. في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، حاول الفنانون والمثقفون أن يعثروا على وسيلة للتعامل مع صدمة الحرب.
وظهرت نتيجة لذلك الفلسفة الوجودية التي حاولت أن تجد للبشر مكانا في هذا الكون العبثي.
الرسّام الانجليزي فرانسيس بيكون ربّما يكون احد أفضل الأمثلة عن فنّ ما بعد الحرب. لوحاته تصوّر بشرا يتعذّبون ويصرخون. وقد حوّل كلّ الرعب الذي تمتلئ به رواية سيلين إلى صور. ورغم انه يستلهم مواضيع بعض لوحاته من أعمال كبار الرسّامين مثل فيلاسكيز، فإنه يلوي الشخصّيات ويلطّخ وجوهها ويترك عليها خطوطا كأنها آثار أنياب ومخالب كما لو أن الرسّام يريد أن يمزّق العالم نفسه.
إحدى أكثر لوحاته المذهلة هي هذه اللوحة "شخص مع لحم" التي يستعير فيها بورتريه الرسّام الاسباني الكبير فيلاسكيز عن البابا اينوسنت العاشر. البابا في لوحة بيكون يتخلّى عن عرشه المجيد وعن ملابسه المخملية الحمراء التي خلعها عليه فيلاسكيز ليبدو جالسا على كرسيّ من الخشب وبعينين فارغتين وفتحات مشوّهة وجلد متعفّن وفم يصرخ، بينما تبدو خلفه قطعتان كبيرتان من اللحم النيئ.


كان رودولف بريسدن فنّانا غير ناجح كما عُرف عنه غرابة أطواره.
في لوحاته بعض من نكهة بليك. وكان يعتبر اوديلون ريدون من بين تلاميذه، ومن هنا تأثيره على الحركة الرمزية.
وقد أعجب بلوحاته بعض أشهر معاصريه مثل شارل بودلير وفيكتور هيغو وغيرهما.
أكثر لوحات بريسدن ذات طابع بشع ومظلم. لوحته "كوميديا الموت" اعتُبرت تتويجا لانجازاته الفنّية.
وفيها يرسم ناسكا جالسا على باب كهفه ومنشغلا بالصلاة والتأمّل.
وعلى طرف المستنقع القريب منه يظهر رجل آخر يبدو في حالة احتضار.
الطبيعة في اللوحة تأخذ شكل شياطين وأشباح وطيور.
وكلّ تفصيل فيها تكتنفه الأهوال والكوابيس: جماجم، عظام متناثرة وهياكل عظمية في أفرع أغصان الأشجار الملتوية.
وفوق المشهد إلى اليسار يظهر المسيح طافيا في الهواء وغير بعيد منه تبدو طيور لها رؤوس أشبه ما تكون برؤوس الفئران.
الروائي الفرنسي شارل ماري هويسمان استوحى هذه اللوحة في روايته "ضدّ الطبيعة" ووصفها بقوله: اللوحة تشبه عمل شخص بدائي، كما أن فيها بعضا من البريخت ديورر. ولا بدّ وأن الفنان رسمها تحت تأثير الأفيون".


الفنّان الفرنسي وليام بوغرو، صاحب اللوحات الجميلة والبريئة غالبا، رسم لوحة مرعبة وحيدة.
كان رسّاما تقليديا ركّز اهتمامه على المواضيع الكلاسيكية.
من بين تلك المواضيع دانتي وكتابه الكوميديا الإلهية.
والغريب أن بوغرو اختار من بين جميع مشاهد الكوميديا الإلهية ذلك المكان من الجحيم الذي يُحكَم فيه على الغاضبين أن يتقاتلوا إلى الأبد على ضفاف نهر ستيكس الأسطوري.
في "دانتي وفرجيل في الجحيم" يرسم بوغرو هذه الحادثة بأدقّ تفاصيل يمكن تخيّلها.
السماء القرمزية للجحيم تتوهّج في الخلفية، بينما يبدو رجلان عاريان في مقدّمة اللوحة وهما مشتبكان في قتال شرّير فيما يقضم احدهما رقبة الآخر كما يفعل مصّاصو الدماء. والى يسار المنظر يبدو كلّ من دانتي وشبح الشاعر فرجيل وهما يتفرّجان على المتصارعَين وقد علت وجهيهما علامات تأفّف ورعب. وتحت السماء الحمراء في الخلفية يبدو شيطان مجنّح قبيح الملامح ومهلك النظرات وهو يراقب ما يحدث بابتسامة راضية وربّما يكون فخورا بنتيجة عمله.


كان اوديلون ريدون رسّاما فرنسيا رمزيا أنجز أفضل أعماله باستخدام الباستيل.
وفي نهايات حياته أبدع لوحات فاتنة بالألوان.
غير أن أعماله المبكّرة كانت الأكثر إثارة للاهتمام. ويصعب الحديث عن لوحة معيّنة من لوحاته، فأعماله كلّها، تقريبا، عبارة عن صور غريبة وأحيانا مخيفة: عنكبوت يبتسم، وآخر يأخذ ملامح وجه إنسان، وأسنان تظهر على مجموعة من الكتب، وعين عملاقة تطلّ على منظر ريفي، وشجرة صبّار لها وجه، ونباتات بأغصان كرؤوس البشر .. إلى غير ذلك.
"الأشباح" تعتبر واحدة من أكثر أعمال ريدون إثارة للرهبة.
وهي تُظهِر امرأة ترتدي ملابس بيضاء وتقف في مكان يسيطر عليه ظلام حالك.
وحول المرأة تظهر أرواح شيطانية وأفاعي وأقنعة تترصّد في الظلام.
ويُحتمل أن لوحة ريدون تصوّر كابوسا، ويمكن أن تكون تصويرا لتوجّس الإنسان من الظلمة وخوفه من المناطق الخفيّة والغامضة.


كانت الرمزية حركة أدبية وفنّية فرنسية. وكانت تركّز غالبا على الأشياء والظواهر المروّعة. الأدباء الرمزيون، مثلا، كانوا مفتونين بالشاعر الأمريكي ادغار الان بو. كما اظهروا اهتماما بلوحات الرسّام الفرنسي غوستاف مورو.
في إحدى لوحاته، واسمها الظهور أو التجلّي، يرسم مورو الرأس المقطوع لـ يوحنّا المعمدان وهو يتراءى لـ سالومي في قصر الملك هارود.
الدم يتدفّق من عنق المعمدان بينما تحدّق فيه سالومي بفم مفتوح ودموع منهمرة.
بقع الدم تغطّي الأرضية بينما يقف الجلاد إلى يمين اللوحة مستندا على سيفه. وسالومي، كما قد يتخيّل الإنسان، تقف وجلة مرعوبة.
الروائي جوريس هويسمان كتب باستفاضة عن هذه اللوحة في إحدى رواياته وقال واصفا إيّاها: في هذه الصورة الوحشية والمؤلمة تمتزج البراءة بالخطر والايروتيكية بالرعب. كانت زهرة اللوتس الطويلة قد اختفت والإلهة قد تلاشت. والآن ثمّة كابوس رهيب يمسك بخناق المرأة بعد أن أصابها الرقص بالدوار وأقضّ مضجعها الرعب.


الفنّان الهولندي يان لويكن يمثل حالة مثيرة. فقد كان شخصا مسيحيا متعصّبا بعد أن عايش تجربة دينية حدثت له في صغره.
كان معتادا على الصلاة والقراءة الدينية إلى حدّ الوسوسة.
ثم أصبح يكتب الشعر الأخلاقي وامتلأ عقله بقصص معاناة المسيح وشهداء المسيحية.
وقد كُلف بعمل الرسوم الإيضاحية لكتاب ديني بعنوان "مرآة الشهداء" يحكي عن حياة الشهداء وتضحياتهم.
بالنسبة لعقل لويكن التقيّ وربّما المشوّش، كان هذا يعني وابلا من صور التعذيب والرعب وأحداث الموت الرهيبة التي عاناها الشهداء على مرّ التاريخ: رجل نصف مطبوخ يُقذف به إلى الحيوانات كي تلتهمه، نار تأكل قدمي رجل، صَلب، طعن بالرماح.. إلى آخره. هذه المشاهد البغيضة والمليئة باللحم البشري المشوي الذي يتصبّب منه الدم، مع كثافة الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة، تجعل من صور لويكن بعض أكثر اللوحات ترويعا وقسوة في تاريخ الفنّ.


قد لا يحتاج هيرونيموس بوش إلى تعريف.
كان هذا الرسّام الهولندي شخصا فريدا من نوعه. كان احد السورياليين الكبار وقد رسم عدّة صور مخيفة لمشاهد مليئة بالبشر والرعب.
في لوحته "إغراء سانت انتوني" يرسم راهبة محبوسة داخل سمكة عملاقة ورجلا يقود كائنا من الزواحف.
وفي لوحته الأشهر حديقة المباهج الأرضية يصوّر بوش في يمين اللوحة تفاصيل من الجحيم يظهر في احدها وحش له رأس طائر وهو يفترس إنسانا بينما يجلس على كرسي مرتفع.
صور هيرونيموس بوش كانت دائما مصدر افتتان الكثيرين. وفي القرون المبكّرة كان الناس ينظرون إلى لوحاته على سبيل التسلية، بينما اسماه البعض رسّام الوحوش والغيلان. في القرن العشرين رأى بعض المؤرّخين والنقّاد في فنّه دلالات عميقة. والبعض يرى فيه رسّاما سورياليا حتى قبل ظهور السوريالية بصورتها الحديثة. وهناك اليوم محاولات كثيرة لتقصّي جذور ومعاني لوحاته الغريبة .


الرسّام الاسباني العظيم فرانشيسكو دي غويا صدَمه مرض فتاك جعله يخشى الموت. كما عانى من الإحساس بالمرارة نتيجة تدهور الأوضاع في بلده وفي العالم.
ونتيجة لذلك شرع في رسم لوحاته السوداء المشهورة على جدران منزله.
وقد أودع في لوحاته تلك العديد من مشاهد الشرّ والحروب وظواهر ما وراء الطبيعة.
لوحته "الماعز" تصوّر مجموعة من الساحرات يتجمّعن حول شيطان اسود له رأس ماعز.
لكن أشهر تلك اللوحات والتي يمكن اعتبارها اللوحة الأكثر رعبا في تاريخ الرسم هي لوحته المسمّاة "زحل يفترس ابنه".
في الأسطورة، يبدأ زحل بافتراس جميع أطفاله مدفوعا بخوفه من أن يُخلع عن عرشه.
هذا الفعل المزدوج، أي التهام الأطفال وأكل لحوم البشر، يصوّره غويا بأكثر الطرق ترويعا وعنفا. زحل العملاق بأطرافه العنكبوتية والبرونزية يقف في الظلام ممسكا بجسد ابنه. وبإمكان المرء أن يرى أصابعه وهي تحفر في الجزء الخلفي من جسد الابن. وقد أكل للتوّ الرأس وأحد الذراعين. فم زحل مفتوح على اتساعه بينما يفترس الذراع الثانية. عيناه تلتمعان بالوحشية والجنون.
هذه البدائية وهذا الرعب قد لا نجد لهما نظيرا في تاريخ الرسم كلّه.


Credits
barnebys.com

الاثنين، سبتمبر 21، 2009

صورة الفنان عن نفسه

ليوناردو دافنشي، غوغان، فيلاسكيز، دافيد، بيكاسو، سيزان، كارافاجيو، ديغا، ايغون شيلا، مونك، بيكون، لوسيان فرويد، فيجي لابران، روبنز، انجيليكا كوفمان، بيتر بريغل، جوشوا رينولدز، غويا، رافائيل، جيمس ويسلر، اوجين ديلاكروا، ماتيس، جون سارجنت، دانتي غابرييل روزيتي، سلفادور دالي، وارهول، رينوار، ديورر .. إلى آخره. كلّ هؤلاء وغيرهم رسموا صورا لأنفسهم. ومن دون تلك الصور ما كان بالإمكان اليوم تصوّر ملامحهم أو سماتهم الشخصية.
إن البورتريه الذي يرسمه الفنان لنفسه، سواءً كان واقعيا أو تجريديا أو غامضا، يمكن أن يوفر أفكارا ومعلومات مثيرة عن صاحبه.
وقبل ظهور التصوير الضوئي كان البورتريه الشخصي ضروريا لأنه يظهر للناس كيف كان يبدو هذا الرسّام أو ذاك. كان رسم البورتريهات الشخصية يشير أيضا إلى رغبة الفنان في إثبات الدليل على براعته وأصالة موهبته.
والبورتريهات الشخصية كانت وما تزال جزءا من التعليم الرسمي للفنّ، رغم أن هذا المفهوم أصبح اليوم أكثر اهتماما بإبراز تعبيرات الرسّام أكثر من ملامحه الشخصية.
رمبراندت وفان غوخ رسما لنفسيهما العديد من البورتريهات الشخصية. في الحقيقة، كان رمبراندت من خلال بورتريهاته الشخصية يسجّل مراحل نضجه الفنّي مرحلة بعد أخرى.
في حين أن فان غوخ كان في بورتريهاته يطرح التساؤلات عن هويّته ويحاول استكشاف المزيد من الأساليب الفنية الجديدة.
فنّانة عصر النهضة ارتيميزيا جينتيليسكي رسمت نفسها وبيدها الفرشاة وأمامها رقعة الرسم.
الفنانة المكسيكية فريدا كالو رسمت هي الأخرى العديد من البورتريهات الشخصية التي حاولت فيها النفاذ إلى مشاعرها الداخلية وطرح بعض الأسئلة المتعلقة بالثقافة والحبّ والجنس.
وفي بعض الحالات فإن الفنان عندما لا يضمّن البورتريه ملامحه بوضوح، فإنه يكشف فيه عن بعض سمات شخصّيته بطريقته الخاصّة.


لوحة مارسيل دُوشان بعنوان "شابّ حزين في قطار" قيل انه صوّر فيها نفسه. وهي من اللوحات التي تستعصي على التفسير، شأنها شأن العديد من لوحات دوشان الأخرى.
بينما يظهر تشارلز شيلر في لوحته "الفنان" وهو ينظر إلى الطبيعة بينما يعطي ظهره للناظر وأمامه متاهة من العناصر التي جلبها من بعض لوحاته السابقة. وفي الحقيقة لا احد يعلم كيف كان شيلر يبدو، لكن ثمّة احتمال انه أراد أن يقول إنه يفضّل أن يتعرّف الناس على هويّته من خلال فنّه.
الرسّام الألماني البيرت ديورر رسم لنفسه بورتريها أصبح مشهورا جدا في ما بعد. ومن الواضح انه اعطى وجهه في البورتريه بعض ملامح وجه المسيح.
مايكل انجيلو رسم نفسه ايضا في سقف كنيسة سيستين عندما اعار ملامحه الشخصية لوجه القديس بارثولوميو.
الرسّام الانطباعي الأمريكي ويلارد ميتكالف رسم لنفسه بورتريها نصف مظلّل. وهناك من يظنّ أن ميتكالف لم يرد إظهار وجهه بالكامل، تعبيرا عن شكوكه بشأن مستقبله الفنّي والمالي. لكن آخرين يرون أن ميتكالف ربّما كان يشير ضمنا إلى جانب مظلم من شخصيّته يختفي خلف مظهره الهادئ.
الرسام الايطالي رافائيل اختار هو أيضا أن يرسم نفسه ضمن شخصّيات لوحته المشهورة "مدرسة أثينا".
مارك روثكو رسم هو أيضا لنفسه بورتريها تبدو فيه نظراته محجوبة بما يشبه العدسات الزرقاء والسوداء، ما يثير إحساسا بالهشاشة أو الانفصال.
وعلى النقيض من ذلك، رسم ادوارد هوبر لنفسه صورة واقعية إلى حدّ كبير. غير أن من المثير للانتباه أن وجه هوبر هنا يبدو أكثر تفصيلا وشخصيّته أكثر وضوحا من الشخصيات التي كان يرسمها.
اليس نيل رسمت لنفسها صورة عارية وهي في سنّ الثمانين. الصورة تُظهر آثار الزمن على وجهها وجسدها.
ستانلي سبنسر رسم هو أيضا بورتريها لنفسه في بدايات اشتغاله بالرسم يبدو فيه بهيئة شابّة وبشرة صافية.
لكن قبيل وفاته في العام 1959 رسم سبنسر لنفسه بورتريها ثانيا يظهر فيه بملامح شبحية كما لو انه تصالح مع فكرة موته الوشيك.



الرسّام الفرنسي غوستاف كوربيه كان احد أشهر من رسموا البورتريه الشخصي. وقد رسم لنفسه عدّة لوحات في أوضاع وحالات شتّى.
كوربيه، الذي اتسمت حياته بالمجون والاحتجاج والسجن، كان يعرف أن شخصيّته هي رصيده الأكبر وأن الابتكار هو المفتاح الذي من خلاله يستطيع أن يفاجئ جمهوره دائما وأن يثير اهتمامهم.
البورتريه الذي رسمه لنفسه عام 1844 بعنوان "الرجل اليائس" يُظهر كوربيه بأجلى درجات حيويّته ووسامته. يداه تحاولان ترتيب شعره الأشعث وعيناه تحدّقان مثل حيوان جريح وتومضان بالذهول أو الخوف.
لكنه في المراحل الأخيرة من حياته صوّر نفسه تصويرا رمزيا وغريبا، أي على هيئة سمكة ميّتة. في اللوحة تبدو السمكة وقد علقت في سنّارة الصياد. وقد أراد كوربيه من خلال هذا المنظر التعبير بطريقة مؤلمة عن إحساسه بالهزيمة بعد أن تضافرت ضدّه قوى لم يكن بمستطاعه التصدّي لها أو الوقوف في وجهها. كان في ذلك الوقت يستشعر دنوّ الموت وكان أخوف ما يخافه أن يذهب في غياهب التجاهل والنسيان بعد موته.
كان كوربيه يحاول على ما يبدو من خلال بورتريهاته الشخصية أن يحافظ على ذاته. فالإنسان قد يمرّ في حياته بالكثير من التقلبّات ولحظات الفرح والحزن ومع ذلك لا يستطيع أن يأخذ نفسه بعيدا عن محيطه.
ومثل صفحة الرسم البيضاء يمكن أن يكون الفنان الشخص الذي يريد.


Credits
theartstory.org