:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات بليك. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات بليك. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، يوليو 29، 2015

أغاني جياكومو ليوباردي


يقال أن الأرواح القلقة لا يناسبها التأمّل، والأرواح الهادئة لا تنجذب نحو التعصّب، والأشخاص الحسّاسين والميّالين للفنون يجدون ضالّتهم في الطقوس الصوفية، والأشخاص العقلانيين والفلاسفة يجدون متعتهم في العصف الذهني أو العقلي.
ومع ذلك اعتقد أن الأشخاص المتأمّلين هم أكثر الناس عرضة للحزن والاكتئاب، ربّما لأنهم يفكّرون أكثر ويعملون أقل. وعلى رأس هؤلاء يأتي الفنّانون والشعراء على وجه الخصوص. لكنْ هناك طبعا أسباب مهمّة أخرى تستحقّ أن يُفرد لها موضوع مستقلّ.
من أشهر المتشائمين في تاريخ الأدب العالمي الشاعر الايطاليّ الكبير جياكومو ليوباردي (1798-1837) الذي ظلّ ولفترة طويلة يحتلّ مكانة رفيعة في تاريخ التشاؤم الأوربّي. نظرة ليوباردي العدمية إلى الوجود لا يمكن أن نجد لها مثيلا إلا عند فلاسفة من أمثال شوبنهاور ونيتشه اللذين كانا معجبين به.
منظور ليوباردي المتشائم والكئيب عن الحياة عبّر عنه في العديد من قصائده. في عام 1826 كتب يقول: كلّ شيء شرّ. أعني، كلّ شيء موجود لغاية شرّيرة. هذا الوجود معيب وشاذّ ومتوحّش. والشرّ هو الغاية والغرض النهائي من الكون. والشيء الوحيد الجيّد حقّا هو العدم".
وفي خريف العام 1821، ألّف قصيدة يحتفي فيها بزواج شقيقته الصغرى باولينا. وفي حقيقة الأمر كانت تلك القصيدة نشيدا جنائزيّا أكثر منها ترنيمة فرح على شرف العروس. وعلى الأرجح لم تكن أخته تتوقّع أن تسمع قصيدة ابتهاج من شقيقها الكئيب والحزين دائما.
لكن ليوباردي كان شاعرا يحترم الحقيقة كثيرا مهما كانت جارحة. وكان طوال حياته القصيرة يشعر انه لم يكن فقط محبوسا في منزل تحت سلطة أمّه المتعصّبة دينيّا ووالده العاجز، وإنما أيضا معزولا في المياه الخلفية المتهرّئة لـ ريكاناتي، وهي بلدة متواضعة لم يكن يحدث فيها شيء غير عاديّ.
والأسوأ من هذا كلّه أن وطنه الحبيب ايطاليا كان قد أصبح خرابة. كان الناس قد نسوا مجد روما القديم، بل وأصبحوا يحتقرونه. فأيّ مستقبل يمكن أن يحلم به طفل لأخته "في بلد مهزوم ومنكسر لا يجد فيه السعادة غير الجبناء"، بحسب ما كتبه ليوباردي في إحدى قصائده؟
الوجود نفسه بالنسبة للشاعر بدا مسموما. والأمل بتغيير الأحوال كان مجرّد وهم. لكن قلّة الأمل كانت لا تُحتمل. والطبيعة، مع كلّ جمالها، كانت متوحّشة ومستبدّة.
مثل هذه الأفكار المظلمة يبدو أنها شكّلت وعي وعقل ليوباردي منذ سنواته المبكّرة. كان عبقريّا عندما كان ما يزال طفلا. ففي العاشرة من عمره استوعب المناهج الأكاديمية، ثم علّم نفسه العبرية واليونانية لدرجة انه أصبح يصوغ قصائد على النمط القديم، ثم يقدّمها إلى معلّميه الذين كانوا يظنّون أنها أشعار أصلية. وقبل أن يكمل سنوات المراهقة كان قد استهلك معظم مكتبة عائلته.
الميزة الوحيدة لوالده هي انه كان جامع كتب، وكان يقرأ الأدب الكلاسيكي اليوناني والروماني وكذلك أعمال آباء الكنيسة.
وعند بلوغ ليوباردي سنّ الخامسة عشرة كان قد كتب تاريخا للفلك. وليس من المدهش، بالنظر إلى قراءاته المكثّفة، أن نظره بدأ يضعف. كما عانى من انحناء في عموده الفقري، وهو تشوّه وجد انه مُذلّ وجعل من الصعب عليه أن يقترب من النساء.
لكنه كثيرا ما كان يقع في الحبّ من مسافة. وقد أحبّ نساءً متزوّجات ظللن يجهلن حقيقة مشاعره. ومن ثمّ أصبح خبيرا بارعا في أكثر أشكال الحبّ عذابا وإحباطا. ولطالما غذّى خياله لسنوات صوت امرأة هنا أو نظرة عجلى من أخرى هناك.
وديوانه الموسوم "كانتي" أو الأغاني ، هو تحفته التي تتألّف من إحدى وأربعين قصيدة كتبها على مدى عشرين عاما. وأشهر قصائد الديوان هي "اللانهائية" والتي تحمل بصمته الخاصّة.


وقد لاحظ النقّاد أن معظم قصائد الشاعر تحدث ليلا على ضوء القمر الذي يذكره في كتاباته أكثر من خمسمائة مرّة. وظهور القمر يأتي إمّا على هيئة جرم سماويّ، أو كنظير للشاعر يقيم معه حوارا، أو كأنثى خالدة. "على النقيض من اللغة العربية، فإن القمر في اللغات اللاتينية مؤنّث والشمس مذكّر".
وقبل ليوباردي بقرنين، كتب باسكال الذي كثيرا ما يُقارَن بـ ليوباردي، يقول إن الصمت الأبدي لتلك الفراغات اللانهائية يرعبني". (يقصد البقع الرمادية التي تظهر على سطح القمر).
وليام بليك، هو الآخر، بحث وتأمّل الأمر كثيرا، ثمّ وجد أن صمت الأبدية كامن "وراء الصوت الرفيع لرياح التلال".
احد الجوانب الأدبيّة المهمّة في ليوباردي هو انه رفض الأساليب المنمّقة والصيغ الطنّانة في الشعر الايطالي. وهذا بلا شكّ كان جزءا من تميّزه العظيم، فمفرداته بسيطة، وهو يتجنّب الايهامات والاستعارات. كما انه دقيق وبارع في وضع الكلمات في مكانها وسياقها الصحيحين.
ومن عدّة وجوه، يمكن مقارنة حياة ليوباردي بحياة الشاعر جون كيتس. فالشاعر الإيطالي مولود عام 1798، بينما وُلد الشاعر الإنجليزي عام 1795. وقد عانى الأوّل من انحناء في العمود الفقري ربّما كان سبب وفاته مبكّرا وهو في سنّ الثامنة والثلاثين، بينما عانى كيتس من السلّ الذي قتله وهو بعدُ في سنّ السادسة والعشرين. والاثنان كانا قلقين باستمرار وكانا دائمي التنقّل بلا راحة من مكان لآخر.
لكن كيتس استخدم لغة تشبه أغنية العندليب، تسحر الموت وتحوّله إلى نشوة، إذ يقول: الآن أكثر من أيّ وقت مضى، يبدو من الجيّد أن أموت، أن أتوقّف عن الحياة عند منتصف الليل بلا ألم".
وعلى النقيض من كيتس، لا ينظر ليوباردي إلى الموت إلا باعتباره مجرّد فصل أخير في تعاسة بلا معنى، وهذا هو جوهر وجودنا على الأرض، كما يعكسه مضمون قصيدته "أغنية الراعي المتجوّل في آسيا".
بالإضافة إلى إعاقته، عاني ليوباردي من ضعف البصر ومن مرض عصبيّ غامض. احد أصدقائه الذي رآه في أيّامه الأخيرة لاحظ أن كلّ شيء كان يؤذيه: الرياح والضوء والهواء وكلّ أنواع الطعام، والراحة والحركة، والعمل والسكون.
وثمّة اعتقاد بأن إعاقة الشاعر منعته من إقامة أيّ نوع من العلاقات العاطفية، عدا عن بعض قصص الحبّ الفاشلة التي سجّلها في أشعاره. ومن الواضح انه مات دون أن يجرّب النساء.
في قصيدته "أغنية سافو الأخيرة"، يستذكر النموذج القديم عن "قبح الشاعر" لكي يعبّر عن إحساسه بالنبذ. وإذ يفعل هذا فإنما يتذكّر دانتي الذي كتب يقول إن أسوأ أشكال المعاناة أن تتذكّر الأوقات السعيدة أثناء إحساسك بالتعاسة. لكن بالنسبة لليوباردي، فإن تذكّر الأوقات التعيسة يُشعره بنوع من السعادة، على ما يبدو.
في نهايات حياته، أصبحت تأمّلات ليوباردي أكثر قتامة وحزنا. وإذا كان من عادة الشعراء أن يصفوا فترة الشباب بشروق الشمس، فإن ليوباردي، وخلافا لكلّ توقّع، يشبّهها بأفول القمر، وهذا هو عنوان إحدى آخر قصائده.
وحتى عندما كان الشاعر في ريعان شبابه، لم يكن هناك أيّ حضور لضوء الشمس في أشعاره، فقط تلك الظلال الشبحية المحبّبة التي يعكسها ضوء القمر.
في آخر قصيدة له، يشرح ليوباردي نظرته عن مصير الإنسان، فيشبّهه بالشجيرات الدبقة التي تبرز من بين الرماد البركاني حول جبل فيزوف. ثم يقارن سكّان بومبي الذين أبادهم البركان بمستعمرة من النمل سحقتهم تفّاحة ساقطة. الموت، بالنسبة للشاعر، لا ينهي الحياة فحسب، وإنما يلغيها.
عندما توفّي جياكومو ليوباردي عام 1837 كان قد أصبح يوُصف بأنه أعظم شعراء الحداثة في ايطاليا. النقش المكتوب على قبره خارج نابولي التي قضى فيه سنواته الأخيرة يصفه بأنه "احد ارفع الشعراء والفلاسفة ولا يمكن مقارنته سوى بكتّاب الإغريق الكبار".

Credits
poetryfoundation.org
newrepublic.com

الأربعاء، مايو 29، 2013

قابيل وهابيل

تُصوّر هذه اللوحة المصير البائس الذي انتهى إليه قابيل، الابن الأكبر لآدم وحوّاء، والذي بعد أن قتل شقيقه الأصغر هابيل، حُكم عليه بالتيه الدائم.
قابيل المنهك والسائر على غير هُدى يظهر في أقصى يمين الصورة وهو يقود قبيلته عبر الصحراء استباقا لغضب الربّ. وعلى محفّة خشبيّة يحملها أبناؤه، تجلس امرأة حائرة مع طفليها النائمين. بينما تظهر حيوانات وقطع من لحم نازف وهي معلقّة على طرف المحفّة.
الرجال الآخرون، وبينهم صيّادون، يمشون جنبا إلى جنب. الخوف من غضب الربّ مرتسم على الوجوه. أحد الأشخاص يحمل بين ذراعيه امرأة شابّة يبدو على ملامحها الإنهاك والمرض، بينما تظهر بعض الكلاب الضالّة في الخلف.
الرسّام الفرنسي فرناند كورمون جعل الظلال طويلة كما لو أن ضوء الحقيقة يلاحق المذنب في هذا السهل المجدب والكئيب. وقد استخدم الألوان الترابيّة وضربات الفرشاة القويّة كي يضيف توتّرا إلى الصورة. كما انه ركّز على دقّة التشريح بأن جلب إلى محترفه أشخاصا حقيقيين لتمثيل كلّ شخصيّة.
هذه اللوحة تمثل إعادة بناء انثروبولوجية للقصّة المشهورة التي وردت في العديد من الكتب السماوية. كما أنها تقدّم ميدانا جديدا، أي عصور ما قبل التاريخ، وبالتحديد الوقت الذي بدأ فيه الإنسان بالرسم على الصخور في العصر الحجريّ القديم.
وفي غياب أيّة وثائق أو أسانيد مؤكّدة، خمّن الرسّام طبيعة الحياة في تلك الأزمنة البعيدة، عندما كان البشر البدائيّون يكافحون من أجل البقاء ويتنقّلون بأقدام حافية وشعر مجعّد وجلد خشن. وقد اختار الرسّام عنوانا فرعيّا للوحة اقتبسه من استهلال قصيدة لـ فيكتور هوغو بعنوان "الضمير" يقول فيه: عندما فرّ قابيل من غضب ربّه أشعث الشعر مغبرّا كان يصحبه أبناؤه. كانوا يرتدون جلود الحيوانات وتتقاذفهم العواصف. وعندما تلاشى الضوء، وصل الرجل الكالح إلى سفح جبل في سهل واسع".
تقول القصّة إن قابيل، بعد ارتكابه جريمة قتل شقيقه، رحل وهو وزوجته عن منزل والديه ليعيشا في مكان بعيد. وقد أنجبا في ذلك المكان أطفالا. ثمّ أسّس أبناؤه في ما بعد مدينة أطلق عليها قابيل هانوك أو إدريس، على اسم طفله الأوّل.

❉ ❉ ❉

حملت حوّاء من آدم بطفلهما الأوّل وأسمياه قابيل. وبعد فترة أنجبت طفلا ثانيا أسمياه هابيل. وفي ما بعد أصبح هابيل راعيا للغنم، بينما كان قابيل يعكف على استزراع الأرض. تقول القصّة إن قابيل قدّم بعضا من نتاج الأرض التي كان يزرعها قربانا للربّ، بينما قدّم هابيل قربانا بعضا من أبكار غنمه. وقد تقبّل الربّ قربان هابيل، لكنّه لم يتقبّل قربان قابيل. لذا غضب الأخير وأحسّ بالنبذ. وذات يوم دعا قابيل شقيقه كي يذهبا معا إلى الحقل بعد أن أسرّ في نفسه أمرا. وهناك هاجم قابيل هابيل وقتله.
محور هذه القصّة هو الأنانيّة المتأصّلة عند قابيل وعدوانيّته وغيرته الشديدة. الرواية القرآنية عن القصّة تماثل تلك التي وردت في التوراة، وهي توحي بأن دافع قابيل لارتكاب الجريمة كان رفض الربّ أن يتقبّل منه قربانه.

❉ ❉ ❉

قصّة قابيل وهابيل تتضمّن طبقات متعدّدة من المعاني. فالقصّة تقول لنا أن الله يفضّل قرابين اللحم على قرابين الخبز والفاكهة. كما أنها توضّح تفوّق ثقافة الرعي والترحال على ثقافة الزراعة والاستقرار. وهذه الفكرة تتكرّر في قصص العهد القديم، حيث يثور الأنبياء ضدّ شرور أهل المدن، بينما يمتدحون الرعي والعيش في الأرياف. وهناك في العالم المعاصر اليوم من لا يزالون يفضّلون الحياة في البوادي والقرى باعتبارها أكثر طهرانية ونقاءً.
لكن القصّة تتضمّن مجموعة أخرى من الأفكار التي أسهمت في تغيير تاريخ البشر وفي تحوّل الوعي الإنساني. تذكر القصّة، مثلا، أن الله وضع وصمة على قابيل بعد ارتكابه للجريمة وذلك بأن جعل بشرته سوداء وشعره مجعّدا. والغريب أن انتشار الرقّ في القرنين الماضيين في أمريكا وفي غيرها من مناطق العالم كان يُبرّر دائما بأن الأفارقة ينحدرون من سلالة قابيل، ولذا حلّت عليهم تلك اللعنة وأصبح قدرهم أن يعيشوا مستعبدين في الحياة.
وليس البيض وحدهم هم من يؤمنون بهذا الشيء، بل إن رجال الدين السود يشاطرونهم هذا الرأي أيضا ويعتقدون بأن الحال ستظلّ هكذا إلى أن يعود المسيح إلى الأرض ثانية فيرفع عنهم تلك اللعنة بعد أن يتأكّد من أنهم أصبحوا أتقياء صالحين!

بعد طرد آدم وحوّاء من جنّات عدن، اشتغلت ذرّيتهما في الأعمال البدائيّة البسيطة. إبناهما، أي قابيل وهابيل، يوصفان كأوّل مزارع وراعٍ في سلالة البشر. غير أن الاثنين مارسا أيضا شيئا لم يعرفه أبواهما في الجنّة، أي الدين.
وعلى الرغم من أن القصّة لا توحي أبدا بأن الربّ طلب منهما هذا الأمر، إلا أن الاثنين قدّما إلى الله قرابين دينيّة على هيئة جزء من غلّتهما. وعلى ما يبدو، كان الله مستاءً من قابيل لأنه قدّم قربانا من الحبوب والفاكهة، في حين انه كان يفضّل أضحية من دم كتلك التي قدّمها هابيل. هذا على الأقل ما افترضه قابيل وهابيل. يمكننا فقط أن نخلص إلى أن هابيل أصاب ثروة أفضل من تلك التي جمعها قابيل، وهذا ما انتهى إليه فهمهما.
وأيّا ما كان الأمر، فقد شعر قابيل بالغيرة من هابيل وقام بقتله. وكانت تلك أوّل جريمة قتل تُرتكب في تاريخ البشرية وأوّل حادثة عنف دينيّ.
طوال فترة مكوثهما في الجنّة، لم يقدّم آدم وحوّاء أيّ قربان لله. لكن لم يمض وقت طويل حتى قرّر ابناهما أن تلك هي الطريقة المثلى لنيل رضا الخالق. وما أن بدءا هذه الممارسة حتى انكشف شرّها المتأصّل بطريقة مأساويّة.
يذهب بعض مؤرّخي الأديان إلى انه من الصعب أن نتصوّر أن الله يمكن أن يروّج لمثل هذه العادة المشكوك فيها. وحتى الآن، ما يزال جزء كبير من اللاهوت المسيحيّ الغربيّ يرتكز على فكرة أن الله يطلب الاضحيات والقرابين لكي يتمّ استرضاؤه وتجنّب غضبه. لكن هناك من الأنبياء من قالوا صراحة بخلاف ذلك، أي أن الله ليس مهتمّا بقرابين البشر، وأن كلّ ما يطلبه منهم هو أن يعملوا بعدل ومحبّة ورحمة.

❉ ❉ ❉

ترى كيف كانت طبيعة العالم الذي وجده آدم وحوّاء بعد طردهما من الجنّة؟ هل كان هناك بشر بدائيّون يعيشون خارج عدن؟ ومَن كان الطغاة العمالقة الذين تذكر بعض المصادر الدينية أنهم كانوا يعيشون على الأرض ويعيثون فيها الخراب إلى أن انقرضوا قبيل حادثة الطوفان؟ هل الله هو الذي خلقهم أم أنهم كانوا تمظهرات وتحوّلات للشيطان؟ ومن كانت زوجتا قابيل وهابيل؟
الكتب المقدّسة لا تتطرّق إلى مثل هذه الأمور. لكن يمكننا أن نفترض أن العالم خارج عدن لم يكن عالما مثاليّا. ومع ذلك كان هناك شكل من أشكال الحضارة الإنسانيّة، بل وربّما أنواع أخرى من البشر شبيهة بالإنسان. وكانت هناك مزروعات وقطعان من الحيوانات المفترسة والمستأنسة تتعايش مع الإنسان في أجواء من الصراع والخطر والموت.

❉ ❉ ❉

في الفنّ المسيحيّ الذي يعود إلى القرون الوسطى، ولا سيّما فنّ القرن السادس عشر، كان قابيل يُرسم بشكل نمطيّ على هيئة يهوديّ ملتحٍ وذي شعر أشعث. وهو يقتل هابيل الذي يظهر بملامح أوربّية وشعر أشقر ويرمز للمسيح.
وقد استمرّ هذا التصوير التقليدي لعدّة قرون. وأقرب مثال عليه هو لوحة جيمس تيسو بعنوان قابيل يقود هابيل إلى الموت والمرسومة في القرن التاسع عشر. لكن في ما بعد أصبح قابيل يُصوّر كأب للمجموعات السرّية وعصابات الجريمة المنظّمة.
وكثيرا ما شكلّت قصّة قابيل وهابيل موضوعا للأعمال الدرامية المأساوية. كان قابيل يُصوّر غالبا بشعر احمر ولحية ملوّنة، كما في مسرحيّة شكسبير "سيّدات وندسور المرحات". شكسبير أيضا يذكر قابيل وهابيل على لسان كلوديوس في مسرحيّة هاملت. كما يرد ذكر الاثنين في مسرحية "بانتظار غودو" لـ سامويل بيكيت.
وفي روايته شرقي عدن ، يستدعي جون شتاينبك قصّة قابيل وهابيل ليسقطها على وقائع هجرة الأوربّيين إلى كاليفورنيا في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
اللورد بايرون أعاد كتابة القصّة في قصيدة له بعنوان "قابيل". وهو ينظر إلى قابيل كرمز للمزاج الدمويّ الذي أثاره نفاق هابيل وتظاهره الزائف بالتقوى. وفي الكوميديا الإلهية، يواجه قابيل العقوبة التي فرضها الله عليه لارتكابه خطيئة الحسد بعبارته المشهورة: سأصبح مطاردا وهائما على وجهي في الأرض، ومن يجدني سيقتلني".
وفي أعمال أدبيّة أخرى، أصبح اسم قابيل مرادفا للعنة المتوارثة. فالوحش في قصّة بيوولف ينحدر من سلالة قابيل. غير أن بودلير كان الكاتب الأكثر تعاطفا مع قابيل في قصيدته "هابيل وقابيل" من مجموعة أزهار الشرّ ، حيث يصوّر قابيل كممثّل لكلّ الشعوب المضطهدة في العالم.
في الرسم، كانت قصّة قابيل وهابيل احد المواضيع المفضّلة للفنّانين منذ القدم. ومن أشهر من رسمها كلّ من تيشيان وغوستاف دوري وتينتوريتو وروبنز ووليام بليك وغيرهم.
بعض من كتبوا عن قابيل وهابيل في ما بعد حلّلوا قصّتهما من منظور معاصر مع بعد دياليكتيكيّ، فأشاروا إلى أن الموت العنيف لهابيل كان نتيجة لحالة من حالات الصراع الطبقيّ المبكّرة، وأن العنف هو نتيجة حتميّة طالما أن المجتمع يصنّف الناس على أساس الثروة والسلطة، بدلا من توحيدهم على أساس التعاطف المتبادل والأخوّة الإنسانيّة.

Credits
en.wikipedia.org

الاثنين، فبراير 11، 2013

بين الإبداع والجنون

الإبداع يتناقض مع كلّ ما هو طبيعيّ ومألوف. البعض يراه ثورة، رحلة إلى أرض مجهولة، لذا يجب أن يكون نوعا من الانحراف والغرائبية، ولا يمكن أن يكون شيئا آخر.
هل هذا يعني انك، لكي تكون مبدعا، يجب أن لا تعيش حياة طبيعية؟ هذا السؤال صعب وخطير. وربّما كانت أفضل إجابة عليه هي ما حدث للشاعر الرومانسي الانجليزي سامويل تيلر كولريدج الذي أنهى قصيدته المشهورة قُبلاي خان بطريقة مفاجئة بعد أن أغلق عينيه برهبة مقدّسة:
أريد أن أبني تلك القبّةَ في الهواء
تلك القبّة المُشمسة
تلك الكهوف الثلجية
وكلُّ من سمع يجب أنْ يراها هناك
والكلّ يجب أن يصرخ: حذارِ من عينيه المتوهّجتين
ومن شعره العائم في الهواء
خُطّوا حوله ثلاث دوائر
وأغمِضوا أعينكم برَهبة مُقَدَّسة
فقد كان طعامه المَنّ
وشرابه حليب الفردوس..
كان كولريدج شاعرا مشهورا وعضوا في جماعة كانت تُعرف بالشعراء الرومانسيين. وقد كتب هذه القصيدة الغريبة عام 1797، بعد أن استيقظ من حلم. كان قد تناول قبل نومه جرعة من عقار مخدّر كان يُستخدم في القرن التاسع عشر كمخفّف للألم.
رأى الشاعر في المنام قصرا عظيما بناه الإمبراطور المغولي قبلاي خان في زانادو التي أصبحت عاصمة للمغول بعد استيلائهم على شمال غرب الصين. ويصف في القصيدة ما رآه من أنهار وينابيع مقدّسة، وقباب فخمة، وأسوار وبروج عالية، وجوارٍ يعزفن على الآلات الوترية، وأشجار بخور، وغابات قديمة، ونوافير ضخمة، وكهوف ثلجية مظلمة لا يُدرك مداها.
كولريدج كان يحلم انه كان يكتب قصيدة بالفعل أثناء النوم. وعندما استيقظ بعد ساعات قليلة، جلس كي يدوّنها. وقد تحوّلت تلك القصيدة، بقافيتها الفريدة وتفاوت أطوال أبياتها وتركيزها المكثّف على الطبيعة، إلى واحدة من أكثر القصائد شهرة وخلودا في تاريخ الأدب الانجليزي كلّه. والقصيدة مثال ممتاز على الشعر الرومانسي وبرهان على أن أحلامك، مهما بدت غريبة وشاطحة، يمكن أن تتحوّل إلى تُحف إبداعية.
الإبداع ضرورة وحاجة. لكن عندما يخطو الإنسان إلى الخارج، إلى حيث تلك الطرق الجانبية غير المتوقّعة التي تتقاطع مع السائد والنمطيّ، فإنه يصبح منبوذا. التغيير تهديد للعالم من حولنا. إعمل بشكل خلاق لتكتشف أن محيطك المباشر بدأ يرسم حولك دائرة ثلاث مرّات.
الانجليز استخدموا ذات مرّة عبارة رائعة لوصف الشخص المبدع، عندما تحدّثوا عن "الجنون الجميل". والحقيقة أن لا احد يعرف حقّا ما هو العقل وإلى أين ينتهي. لكن الشذوذ الذي نسمّيه الإبداع يمتدّ إلى ما وراء خطّ المقبول والمتعارف عليه.
ريتشارد داد كان رسّاما انجليزيا، وكان مجنونا. صحيح أن هذه الكلمة أصبحت خارج التداول في وقتنا الحاضر، لكن داد كان شخصا مجنونا فعلا، حتى بأكثر المقاييس تسامحاً هذه الأيّام.
ولد هذا الفنّان في عام 1817م. وعندما بلغ السادسة والعشرين، كان قد أصبح رسّاما معروفا. ثمّ شرع في رحلة طويلة أخذته إلى أوروبّا والشرق الأوسط. وعاد من رحلته تلك مضطربا مشوّشا. كانت لديه أوهام بأنه مضطهد، وكان يزعم تلقّيه رسائل من أوزيريس إلهة المصريين القدماء. فعرضته عائلته على طبيب متخصّص في الأمراض العقلية وآثارها القانونية. وقرّر الطبيب أن داد إنسان خطير وأنه لم يعد مسئولا عن تصرّفاته.
وبعد بضعة أيّام، أقدم الرجل على قتل والده. ثم هرب إلى باريس، وهناك قام بقتل احد الغرباء، فقُبض عليه واُرسل إلى انجلترا ليقضي بقيّة حياته في المصحّات العقلية. وقد توفّي في إحدى تلك المصحّات وكان عمره 69 عاما.
قبل أن يُقْدم ريتشارد داد على ارتكاب جريمتي القتل، كان قد شارك بلوحتين في منافسة لرسم جدارية تاريخية اُريد لها أن تزيّن مبنى البرلمان البريطاني. وكانت اللوحتان معلّقتين هناك عندما ارتكب الجريمة. إحداهما كانت تصويرا حالما لمنظر في الصحراء يتضمّن جِمالا وبدواًًً ملتحين. كان عنوان اللوحة قافلة متوقّفة عند شاطئ البحر . وقد سبقت هذه اللوحة فنّ الصالون الذي أصبح بعد فترة قصيرة يحظى بشعبية كبيرة في كلّ من انجلترا وفرنسا.
وجاءت أعداد كبيرة من الزوّار لرؤية لوحتيه بعد الجريمة. وحاول الصحفيّون والكتّاب تشخيص جنونه اعتمادا على رسوماته. وطوال السنوات الأربع والثلاثين التالية، ظلّ ريتشارد داد يرسم بلا انقطاع. وبطبيعة الحال، كانت هناك علاقة ما بين بعض رسوماته وبين الجنون. والغريب أن الرسّام وضع دراسات تحليلية عن الجنون وأسماها "رسومات لتوضيح المشاعر".
مصحّات القرن التاسع عشر كان الغرض منها الحفاظ على المرضى وإبعادهم عن حساسيّات المجتمع الفيكتوري. ولكن، بطريقة أو بأخرى، تسرّبت لوحات داد ووصلت إلى المعارض. واستمتع الناس آنذاك بما رأوه، بمثل ما استمتعوا بالجنون المفترض للشاعر والرسّام الرومانسي وليام بليك. وكتب أحد الصحفيين واصفاً حالة هذين الرسّامََين بقوله: يمكن أن نصنّفهما معا بأنهما مثالان لفنّانين ساعدهما خلل في الدماغ، بدل أن يعيق ذلك الخلل نشاط خيالهما الأصيل والخصب".
ربّما لم يكن بليك يسمع أصوات الشياطين وهي تأمره بالقتل، مثلما حدث مع داد. لكنّ عقله الخصب، مثل عقل داد، ارتاد أرضا جديدة. والفيكتوريون، بالتأكيد، كانوا يرون أن الإبداع صنو للجنون.
العمل الأكثر نجاحا لـ ريتشارد داد كان صورة ودودة رسمها للطبيب الكسندر موريسون الذي كان يرعاه ويعتني به في المصحّة ويحثّه على العودة إلى الرسم بعد ارتكابه للجريمة.
في عام 1974، نظّم تيت غاليري معرضا هامّا لرسومات داد، ليس لأنه كان مجنونا، وإنما لأن أعماله كانت جيّدة. وإذا صحّ أن الرسّام كان مجنونا في الحياة، فإن ممّا لا شكّ فيه أن تركيزه الفنّي كان صافيا وأن مشاعره قادته إلى مهمّة واضحة، وهي مساعدتنا على أن نرى العالم من حولنا بشكل أوضح.
بالمناسبة، نجا ريتشارد داد من حكم الإعدام لأن إنجلترا كانت قد سنّت قانونا للدفاع عن الجنون قبل وقت قصير من ارتكابه جريمتيه. كما مُنح الحرّية لأن يرسم، بسبب الإصلاحات التي استُحدثت في ذلك الوقت والتي تدعو إلى رعاية المجانين. ولو أن هذا حدث في وقت مبكّر من ذلك القرن، لكان مصيره أسوأ بكثير. لكنّ هذا حدث في عام 1843، أي في الوقت الذي كانت فيه الأفكار الرومانسية تمجّد الجنون وتخلع عليه رداءً من القداسة.
قد يقول قائل إن ريتشارد داد يوفّر مثالا متطرّفا. وهذا صحيح. لكن يتعيّن في كلّ الأحوال أن نخاف ونحذر من شيطان الإبداع وأن نتعامل معه دائما بشيء من "الرهبة المقدّسة".

Credits
theguardian.com
tate.org.uk

الخميس، يناير 06، 2011

الفنّ ما قبل الرافائيلي

تأسّست جماعة الفنّانين ما قبل الرافائيليين في خريف عام 1848 على يد مجموعة من الرسّامين والشعراء والنقّاد الانجليز. وكان ظهور الحركة ردّ فعل على النزعة الفيكتورية نحو المادّية وعلى الأفكار النيوكلاسيكية التي كان يتبنّاها الفنّ الأكاديمي.
وقد تقرّر اختيار هذا الاسم بالنظر إلى سعي الجماعة إلى إعادة اكتشاف أساليب الرسم التي كانت شائعة قبل زمن الرسّام الايطالي رافائيل.
ووصل الفنّ ما قبل الرافائيلي إلى ذروته مع ظهور لوحة اوفيليا لـ جون ميليه التي حقّقت شهرة عظيمة عند عرضها لأوّل مرّة عام 1852م.
كان الرسّامون الثلاثة المؤسّسون لمدرسة الفنّ ما قبل الرافائيلي هم جون ايفرت ميليه ودانتي غابرييل روزيتي ووليام هولمان هانت.
وكان هدفهم المعلن من وراء تأسيس الحركة هو البحث عن مواضيع وأفكار جادّة وحقيقية للرسم. وقد استمدّوا مواضيع لوحاتهم من الكتب الدينية والأفكار الاجتماعية السائدة في زمنهم. كما حرصوا على تصوير الطبيعة بعناية ودقّة دون تمجيدها أو رسمها بصورة مثالية ودون مراعاة للقواعد الأكاديمية المتّبعة في التصميم والتلوين.
وقد بدأ الفنّانون ما قبل الرافائيليين في رسم موضوعات مستوحاة من الشعر والقصص الرومانسية ومن التاريخ وخيالات القرون الوسطى. ووجدوا بهجة في الألوان الحسّية الرائعة وضمّنوا لوحاتهم رسومات لشخصيّات في أوضاع عاطفية ومنمّقة مع رمزية غامضة.
وكان تمردّهم في البداية هدفا لهجوم من الروائي تشارلز ديكنز وغيره من الكتّاب الذين وصفوا نتاجهم بالفنّ الهابط. لكنّهم وجدوا نصيرا قويّا في شخص الناقد جون راسكين الذي وفّر لهم علاقات صحفية قويّة وتوجيها مهنيا، على الرغم من انه كان يفسّر أعمالهم بطريقة محرّفة وكثيرا ما كان يثير امتعاضهم بنصائحه المتفذلكة.

كان الفنّانون ما قبل الرافائيليين في أغراضهم وأساليبهم النقيض الكامل للانطباعيين. فقد كانوا يلجئون إلى الكتب والشعر ويبشّرون بالأخلاق ويستخدمون الضوء بطريقة خطابية. بينما كان الانطباعيون يُعنون بتصوير المتع اليومية واستكشاف وتحليل الخواصّ العلمية والجمالية للضوء.
ورغم أن الما قبل الرافائيليين ارتادوا آفاقا جديدة في الواقعية المادّية والألوان البرّاقة، إلا أنهم حاربوا الفنّ الأكاديمي المبتذل والمتكرّر بفنّ متخم ووعظيّ خاصّ بهم. صحيح أن ابتكاراتهم التقنية كانت واضحة. لكنّ المتلقّي لا يستطيع أن يهضم أعمالهم إلا إذا حاول التغافل عن درجة العاطفة المفرطة فيها.
كان الشخص الأكثر شعبية ونجاحا بين فريق مؤسّسي الفنّ ما قبل الرافائيلي هو الطفل المعجزة جون ايفرت ميليه (1829-1896)، الذي أصبح في نهاية المطاف رئيسا للأكاديمية الملكية. وقد كافأ ميليه الناقد جون راسكين على دعمه للمجموعة بالهرب مع زوجته الجائعة عاطفيا ايفي غراي في عام 1853م.
والحقيقة انه ليس بالإمكان تجاهل لوحات ميليه المنفّذة بشكل أنيق لفتيات جميلات ولمشاهد مستوحاة من كتب الأدب، عندما كان يتعامل مع الألوان الزيتية حصرا.
الشخص الثاني في الجماعة من حيث الأهمية كان دانتي غابرييل روزيتي (1828-1882) الذي كان ابنا لثائر إيطالي. كان روزيتي الزعيم الفكري للجماعة. كما كان مسئولا عن دعمهم ومساندتهم باعتبارهم "جماعة سرّية". وقد درس الرسم في كنغز كوليج في لندن. لكنه كان يقضي وقتا أطول في كتابة الشعر. وكان يعتبر نفسه رسّاما شاعرا ويتّخذ من وليام بليك نموذجه المفضّل.
كان روزيتي يعرض في لوحاته الارتباطات الأدبية القويّة التي رافقت الحركة منذ بداياتها. وقد درج على تجنّب المواضيع الدينية لصالح الأساطير الشعرية. ويُعزى إليه الفضل في انه مهّد الطريق لحالة الهوس بالمواضيع المستلهمة من قصص القرون الوسطى والتي كرّستها الموجة الثانية من الفنّانين ما قبل الرافائيليين.
ومثل معظم أقرانه، أصبح روزيتي على علاقة سيّئة بـ جون راسكين الذي كلّفه برسم لوحة ثم أمره بأن يعيد رسمها مرّة تلو أخرى إلى أن نالت رضاه.

في العام 1850 قابل روزيتياليزابيث سيدال التي أصبحت "أميرته العذراء" وموديله المفضّلة. وقد تزوّجا بعد عشر سنوات من العيش معا. لكنّ سيدال لم تلبث أن توفّيت بعد الزواج بعامين إثر تناولها جرعة زائدة من صبغة الأفيون.
وفي عام 1871 هوجم روزيتي بضراوة في مقال كتبه شخص مجهول واصفا إيّاه بأنه "شاعر شهواني وعديم الأخلاق".
وبعدها أصبح روزيتي شخصا انطوائيا ومتشكّكا وبدأ في تعاطي الأدوية المهدّئة. ورغم ذلك، تضاعف نجاحه في نهاية حياته ورسم العديد من اللوحات الزيتية التي تصوّر نساءً جميلات، في ما بدا وكأنّه محاولة حزينة لتذكّر سيدال.
ثالث الأعضاء المؤسّسين لجماعة الفنّ ما قبل الرافائيلي كان وليام هولمان هانت (1827-1910). وربّما كان هانت الشخص الأكثر إثارة للاهتمام من بين أعضائها. وقد تمسّك بمبادئ الجماعة طوال حياته.
ويقال إن هانت كان يحتفظ بآراء جنسية مشوّهة كان يخفيها من خلال هجومه المصطنع على الابتذال الأخلاقي. وقد وقع ذات مرّة في حبّ عاهرة تدعى آني ميلر. وحاول أن "يخلّصها" مقابل الزواج ولكي يستخدمها كـ موديل في لوحاته الوعظية.
كان بحث وليام هانت عن الطبيعة مقترنا ببحثه عن طبيعة الأخلاق والحقيقة الإلهية. والمفارقة أن ملاحظته للطبيعة أنتجت متعا حسّية صوّرها بألوان زاهية. لكن عندما ينزل عن منبر الوعظ الديني فإن لوحاته تصبح مثيرة للغاية بتفاصيلها الدقيقة وبأسلوب استخدام الألوان فيها.
وعندما رأى الرسّام الفرنسي اوجين ديلاكروا إحدى لوحات هانت الزيتية عام 1856 ذُهل من لمعان الألوان الحمراء والصفراء والزرقاء التي نسجها هانت في صوف الخراف البيضاء. وبعض لوحاته هي مشاهد ليلية تحت ضوء القمر أو أنوار الشموع. وعندما زار هانت مصر والأراضي المقدّسة بعد عام 1854 رسم طبيعة ذات تفاصيل دقيقة مع سموات صفراء وجبال بنفسجية.

وعلى خطى الآباء المؤسّسين لحركة الفنّ ما قبل الرافائيلي جاء عدد من الرسّامين الذين شاركوهم بعض أهدافهم وأساليبهم.
ومن بين أهمّ هؤلاء السير ادوارد بيرن جونز (1833-1898). ومثل روزيتي، كان بيرن جونز مهتمّا بالمواضيع المتعلّقة بالعصور الوسطى والقصص الأسطورية. لكنّه فضّل في ما بعد رسم شخصيات كلاسيكية على غرار بوتيشيللي الذي رأى بعض أعماله أثناء زيارتيه إلى ايطاليا.
ورسوماته المبكّرة تتضمّن أنماطا متفرّدة وشخوصا يشبهون شخوص روزيتي. ولوحته سيدونيا فون بورك يمكن اعتبارها مثالا على رؤيته الفريدة للمؤثّرات البصرية والتصميم القويّ. كما أن اللوحة تنطق بالتوق والفخامة اللذين اتّسمت بهما المائة عام التي فصلت بين عصر النهضة وعصر الباروك.
وحدث بعد ذلك أن عرض بيرن جونز إحدى لوحاته شبه العارية في لندن. كانت اللوحة مستوحاة من إحدى الأساطير الإغريقية. وعندما رأى الجمهور اللوحة انتابهم الغضب واتهموا بيرن جونز روزيتي وبقيّة رموز الفنّ ما قبل الرافائيلي بالتهتّك والفجور.
وخوفا من أن تأخذ التهمة منحى خطيرا، سافر بيرن جونز إلى ايطاليا وحقّق هناك سمعة طيّبة بفضل مهارته في تصاميم الزجاج الملون والتطريز والنسيج.
وعندما عاد إلى بريطانيا، ظلّ يعرض رسوماته في الرويال أكاديمي حتى وفاته. وتظهر لوحاته المتأخّرة مهارة واضحة في توظيف الألوان والنقوش والأنماط. كما تركت رسوماته الشاعرية عن شخصيّات ميثيّة أثرا كبيرا في نفوس الناس التوّاقين إلى الحبّ.
الموجة الثانية من الفنّانين ما قبل الرافائيليين ضمّت أيضا أسماء مثل ايفلين دي مورغان التي اشتهرت بلوحاتها الديكورية المستوحاة من أجواء القرون الوسطى والبيرت مور الذي كان يتبنّى أسلوبا شبه كلاسيكي.
وبعد أن تمّ حلّ الجماعة، شكّل كلّ من روزيتي وبيرن جونز جماعة بديلة تخصّصت في رسم نساء ذوات جمال شاحب. بينما ذهب كلّ من هانت وميليه في طريق مختلف، لكنهما استمرّا يعملان وفق الأفكار الأصلية للحركة. .

Credits
artrenewal.org

الاثنين، يوليو 12، 2010

جماليّات الحزن


أحد الملامح القديمة في الفنّ الغربي هو تحويل الحزن والكآبة إلى فرح وطاقة للانطلاق والإبداع. والهيئة الأكثر شيوعا في الحالات التي تتناول موضوع الكآبة والحزن هي صورة إنسان، رجل أو امرأة، يضع يده على خدّه وهو مستغرق في التفكير والتأمّل الحزين.
الفلاسفة والأدباء منذ القدم ينظرون إلى الحزن على انه دعوة خلاقة للإنسان كي يرتفع فوق ذاته ويستغلّ إمكانياته. وهناك من يعتقد أن الحزن يجعل الشخص أكثر إنسانية وشفافية وأكثر إحساسا بإيقاعات الحياة المختلفة من فرح وترح ورجاء ويأس وحياة وموت.. إلى آخره. وهناك أيضا من يرى أن الإنسان لا يصبح مكتمل الإنسانية إلا من خلال المعاناة والحزن. الحزن يمكن أن يلهم الإنسان ويقوّي مخيّلته ويجعله أكثر ارتباطا بالعالم من حوله.
الشاعر البريطاني جون كيتس تحدّث كثيرا عن فائدة الألم. قال ذات مرّة: الحزن لا يمكن تجنّبه، وهو ليس ضعف إرادة ولا مرضا نفسيا بحاجة إلى علاج". كيتس اكتشف أيضا أن الحزن يلهم الأفكار العظيمة. "ما يجعلنا نحزن هو معرفتنا بأن كلّ شيء مصيره إلى زوال. لكن عندما نحسّ بدنوّ الموت فإننا ندرك كم هو جميل هذا العالم".
الموسيقي الألماني فريدريك هاندل كان يعاني في نهايات حياته من حالة من الحزن وذبول الصحة ووهن الجسد بعد أمجاده الموسيقية الكثيرة. وفجأة أحسّ بالنشاط والحيوية عندما كُلف بتأليف موسيقى المسيح التي أصبحت أعظم أعماله الموسيقية والتي ولدت من رحم الحزن والمعاناة.
الرسّامة الأمريكية جورجيا اوكيف كانت دائما تقاوم الإحساس بالكآبة والحزن. غير أن الحزن هو الذي أشعل روحها وجعلها ترسم أفضل لوحاتها عن الأشياء المظلمة في وهج الصحراء وتحت الغيوم الثقيلة والداكنة. تنظر إلى لوحاتها المشهورة فتحسّ بأن فيها شيئا غريبا يشبه صمت وقدسيّة العظام التي كانت ترسمها.
وهناك من يميّز بين الحزن والكآبة. الحزن قد يُشعِر الإنسان باليأس والإحباط. والكآبة نوع من الحزن لكنّه يخلو من التشاؤم واليأس. كما أن لا علاقة لها بالاكتئاب.
أرسطو ناقش الكآبة كثيرا عندما درس مشاكل الإبداع الفنّي. وفرويد قرنها بالنرجسية والهوَس. الكآبة فيها مساحة كبيرة للتأمّل. وهي تتعلق بالناس والأمكنة، من قبيل حبّ صديق أو الاشتياق لمكان ما قريب من نفوسنا أو مكان سبق وأن عشنا فيه وما زلنا نحتفظ له بذكريات عزيزة. الكآبة تتضمّن متعة وفيها حبّ وشوق وتطلّع. كما أن فيها نوستالجيا، لأنها تثير الحنين إلى الذكريات القديمة والأفكار والتخيّلات عن الفقد والغياب.
بعض مشاهد أفلام سكورسيزي وطبيعة الرسّام الألماني كاسبار ديفيد فريدريش وألحان شوبان فيها نوع من الحزن المتسامي الذي يخلو من اليأس أو الإحباط.
عندما تستمع إلى بعض مقطوعات شوبان تستطيع أن تلمس فيها حزنا ومعاناة. وغالبا ما تعبّر الموسيقى الحزينة عن نفسها من خلال الإيقاع البطيء الذي يثير حالة من التوق والاستبطان الحزين. وهو انفعال معقّد جدّا يستثير بدوره صراعا داخليا يستعصي على التوصيف البسيط.


مرأى الأطلال أو الآثار القديمة قد يستدعي، هو أيضا، في نفوسنا شعورا بالحزن والكآبة. ربّما يكون السبب هو حقيقة أن الأطلال تعبّر عن مرور الزمن وعدم ثبات وديمومة الحياة والإحساس بالعبور والتحوّل من مرحلة لأخرى وما يثيره ذلك في النفس من مخاوف وهواجس. وكلّ هذه الحالات تكون مصحوبة بإحساس قليل أو كثير بالكآبة. رؤية الآثار الدارسة والقديمة تستثير حالات من التفكير التأمّلي والوجداني ترافقها صور لأحداث وحيوات من العصور الماضية. الصروح المهدّمة والأبنية المهجورة كثيرا ما تثير خيالنا وتدفعنا لإعادة بناء قصص متخيّلة في أذهاننا عن شكل الحياة في الماضي وعن الارتباطات ما بين الآثار والأحداث التي ترويها. هنا أيضا نجد ظلالا من المشاعر السلبية والايجابية للنوستالجيا والحنين لأزمنة وأمكنة لم تعد موجودة سوى في الذهن بعد أن انتهى وزال وجودها الفيزيائي أو المادّي.
في لوحته بعنوان الحالم، يرسم كاسبار فريدريش شخصا جالسا في نافذة دير قوطي قديم، أو بالأصحّ في أطلال ما تبقّى من ذلك الدير. داخل الدير ألوان حمراء داكنة. لكن النور الذهبيّ الساطع يفيض من وسط الصورة ليملأ الفراغ. المشهد عبارة عن تأمّل صامت والتباين ما بين الضوء والعتمة يوحي بالوحدة. لكن بنفس الوقت ما يزال هناك ثمّة إحساس بالأمل وربّما التوق.
الكآبة التي يشعر بها الإنسان أثناء لقائه بالطبيعة ليست بالأمر الطارئ أو الجديد. تخيّل نفسك، مثلا، وأنت تمشي في طبيعة مقفرة. الأرض التي تمتدّ أمامك تبدو فارغة وفسيحة تلوّنها ظلال باهتة من الرمادي مقابل سماء بنّية. الهواء ساكن وخفيف. وإذ تجد نفسك متوحّدا مع إيقاعات الفراغ الهادئ الذي أمامك، قد ينتابك فجأة مزاج تأمّلي يستثير في نفسك ذكريات وأفكارا معيّنة من زمن بعيد. تشعر بشيء من المتعة عندما تتذكّر الأوقات الجميلة من الماضي. لكنها متعة يخالطها حزن وتوق غامض.
في منتصف القرن السادس عشر، كانت الكآبة ترتبط بالإنسان المتفوّق والناضج والقادر على المشاعر العميقة. الموسيقيّ البريطاني جون دولاند عاش في ذلك الوقت وكان معاصرا لـ شكسبير. وقد عُرف ببراعته في العزف على آلة العود "أو اللوت". تستمع إلى ألحانه اليوم فتحسّ فيها بقدر غير قليل من الحزن والحنين. ومثل شكسبير، فإن موسيقى دولاند ما تزال تتحدّث إلينا من وراء أربعمائة عام.
في ألمانيا، ارتبط الفنّ والأدب والفلسفة في العصر الرومانسي بالكآبة. وقد كتب عنها ايمانويل كانت قائلا: إن المشاعر المتسامية تثير المتعة والخوف معا".
البريخت ديورر، الفنّان الألماني، رسم لوحة بعنوان كآبة يظهر فيها رجل متعطّش للمعرفة وحريص على إثراء عقله. ثم لهذا السبب، يشعر بالغربة ويعيش معزولا ومنبوذا من بقيّة البشر. هذه اللوحة وجد فيها الكاتب الأمريكي دان براون ما أثار اهتمامه عندما أشار إليها في روايته الأخيرة الرمز المفقود.
الشاعر الألماني هاينريش هايني اخذ الفكرة واستخدمها في إحدى قصائده عندما كتب يقول: لا أعرف ما الذي يؤرّقني ويثقل على عقلي طوال اليوم".
العلماء يقولون إن الكآبة ليست شيئا سيّئا أو سلبيا وأن قوّتها الايجابية هي التي منحت القوّة والعبقرية للفنّانين والفلاسفة العظام.
الكآبة والحزن كانتا وما تزالان فكرتين رائجتين في الرسم. ومن أشهر من رسموهما في أعمالهم كلّ من لوسيان فرويد ورودان وفان غوخ وغويا ووليام بليك ودي تشيريكو وإدوارد هوبر وبيتر بريغل وإدفارد مونك وإدغار ديغا وغيرهم.

Credits
contempaesthetics.org
quod.lib.umich.edu

الأحد، مارس 07، 2010

اللوحات العشر الأكثر ترويعاً وعُنفاً


اللوحات القاتمة والعنيفة في تاريخ الفنّ كثيرة، بل أكثر من أن تُعدّ أو تحصى.
هناك مثلا بعض لوحات بيتر بريغل وإيغون شيلا وتجيسلاف بيشينسكي وجون هنري فوزيلي، وكلّها جديرة بأن تحتلّ مكانا بارزا في قائمة تتناول مثل هذا النوع من الأعمال الفنّية.
في هذه القائمة يستعرض آرثر ويندرمير اللوحات العشر الأكثر ظلمةً ورعباً في تاريخ الرسم العالمي.


كان وليام بليك فنّانا وشاعرا رومانسيا ابتكر أساطير استند فيها إلى الإنجيل وضمّنها رؤى وأفكارا مخيفة كان يزعم انه تلقّاها منذ الصغر.
كان بليك يرسم أشعاره ويزيّنها بصور مائية رائعة حينا ومزعجة أحيانا. كما كُلّف برسم الصور الإيضاحية لكلّ من الإنجيل والكوميديا الإلهية.
من أشهر رسوماته التي وضعها للإنجيل السلسلة المسمّاة التنّين الأحمر العظيم.
في إحدى تلك اللوحات، واسمها التنّين الأحمر ووحش البحر، يرسم بليك تنّينا بملامح إنسان له جناحان هائلان منقوش عليهما نجوم، ربّما في إشارة إلى القوّة الكونية للشرّ.
التنّين الضخم ذو الرؤوس المتعدّدة التي يبرز منها قرون ينظر إلى أسفل حيث يظهر وحش آخر في البحر ممسكا بيد سيفا وبالأخرى ما يشبه الصولجان. هذا الوحش له، هو أيضا، رؤوس كثيرة لكن هيئته اقلّ بشرية من هيئة التنّين.


الفنّان الألماني البريخت ديورر عُرف بلوحاته المذهلة.
من بين أشهر أعماله سلسلة لوحاته عن القيامة والتي تتكوّن من خمسة عشر رسما صمّمها لسفر الرؤيا.
اللوحات تتحدّث عن بعض قيم وأفكار القرون الوسطى التي تتمحور حول الفضيلة وأبعادها الدينية والفكرية والأخلاقية.
من أكثر تلك اللوحات إثارة للخوف والرهبة اللوحة المسمّاة "الفارس والموت والشيطان".
فارس ديورر يمتطي حصانا شاحبا ويمرّ من أمام الموت الذي يأخذ شكل مخلوق متعفّن ومشوّه يمسك بساعة رملية، في إشارة إلى تسرّب وقصَر الحياة.
في اللوحة أيضا أشجار ميّتة وعلى طول الطريق مجموعة من الأهوال والعقبات التي تحاول إعاقة الفارس وإخراجه عن مساره.
الشيطان يتربّص وراء الرجل متّخذا هيئة مخلوق مشوّه، هو الآخر، له قرن طويل ويحمل رمحا ويبتسم ابتسامة ماكرة.
هناك أيضا في اللوحة جمجمة، وسحلية تسير في الاتجاه المعاكس للفارس. معاصرو ديورر ذهبوا إلى انه كان يحاول في اللوحة تصوير فكرة الراهب ايراسموس روتردام عن الفارس المسيحي الذي يجب أن لا يكتفي بتأدية الطقوس الدينية بل أن يلتزم أيضا بقيم الدين وأخلاقيّاته.


في روايته "رحلة إلى نهاية الليل" يصف الروائي الفرنسي لوي فرديناند سيلين بطنا مفتوحا وممزّقا لأحد القادة العسكريين بقوله: كلّ ذلك اللحم كان ينزف بغزارة".
شخصية القائد البديلة تهرع عائدة إلى المعسكر وتصف ما تراه عندما يتمّ تغذية الجنود باللحم. اللحم منتشر في كلّ مكان، في الأكياس وعلى فراش الخيمة وعلى العشب.
كانت هناك أمعاء وأحشاء كثيرة، قطع من الشحوم البيضاء والصفراء، أطراف في كلّ مكان. كان الجنود يتنافسون بضراوة على الظفر بالأجزاء الداخلية وكانت هناك أسراب كثيرة من الذباب تحوم حول المكان.
كانت تلك بعض الفظاعات الجديدة التي أتت بها الحرب. في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، حاول الفنانون والمثقفون أن يعثروا على وسيلة للتعامل مع صدمة الحرب.
وظهرت نتيجة لذلك الفلسفة الوجودية التي حاولت أن تجد للبشر مكانا في هذا الكون العبثي.
الرسّام الانجليزي فرانسيس بيكون ربّما يكون احد أفضل الأمثلة عن فنّ ما بعد الحرب. لوحاته تصوّر بشرا يتعذّبون ويصرخون. وقد حوّل كلّ الرعب الذي تمتلئ به رواية سيلين إلى صور. ورغم انه يستلهم مواضيع بعض لوحاته من أعمال كبار الرسّامين مثل فيلاسكيز، فإنه يلوي الشخصّيات ويلطّخ وجوهها ويترك عليها خطوطا كأنها آثار أنياب ومخالب كما لو أن الرسّام يريد أن يمزّق العالم نفسه.
إحدى أكثر لوحاته المذهلة هي هذه اللوحة "شخص مع لحم" التي يستعير فيها بورتريه الرسّام الاسباني الكبير فيلاسكيز عن البابا اينوسنت العاشر. البابا في لوحة بيكون يتخلّى عن عرشه المجيد وعن ملابسه المخملية الحمراء التي خلعها عليه فيلاسكيز ليبدو جالسا على كرسيّ من الخشب وبعينين فارغتين وفتحات مشوّهة وجلد متعفّن وفم يصرخ، بينما تبدو خلفه قطعتان كبيرتان من اللحم النيئ.


كان رودولف بريسدن فنّانا غير ناجح كما عُرف عنه غرابة أطواره.
في لوحاته بعض من نكهة بليك. وكان يعتبر اوديلون ريدون من بين تلاميذه، ومن هنا تأثيره على الحركة الرمزية.
وقد أعجب بلوحاته بعض أشهر معاصريه مثل شارل بودلير وفيكتور هيغو وغيرهما.
أكثر لوحات بريسدن ذات طابع بشع ومظلم. لوحته "كوميديا الموت" اعتُبرت تتويجا لانجازاته الفنّية.
وفيها يرسم ناسكا جالسا على باب كهفه ومنشغلا بالصلاة والتأمّل.
وعلى طرف المستنقع القريب منه يظهر رجل آخر يبدو في حالة احتضار.
الطبيعة في اللوحة تأخذ شكل شياطين وأشباح وطيور.
وكلّ تفصيل فيها تكتنفه الأهوال والكوابيس: جماجم، عظام متناثرة وهياكل عظمية في أفرع أغصان الأشجار الملتوية.
وفوق المشهد إلى اليسار يظهر المسيح طافيا في الهواء وغير بعيد منه تبدو طيور لها رؤوس أشبه ما تكون برؤوس الفئران.
الروائي الفرنسي شارل ماري هويسمان استوحى هذه اللوحة في روايته "ضدّ الطبيعة" ووصفها بقوله: اللوحة تشبه عمل شخص بدائي، كما أن فيها بعضا من البريخت ديورر. ولا بدّ وأن الفنان رسمها تحت تأثير الأفيون".


الفنّان الفرنسي وليام بوغرو، صاحب اللوحات الجميلة والبريئة غالبا، رسم لوحة مرعبة وحيدة.
كان رسّاما تقليديا ركّز اهتمامه على المواضيع الكلاسيكية.
من بين تلك المواضيع دانتي وكتابه الكوميديا الإلهية.
والغريب أن بوغرو اختار من بين جميع مشاهد الكوميديا الإلهية ذلك المكان من الجحيم الذي يُحكَم فيه على الغاضبين أن يتقاتلوا إلى الأبد على ضفاف نهر ستيكس الأسطوري.
في "دانتي وفرجيل في الجحيم" يرسم بوغرو هذه الحادثة بأدقّ تفاصيل يمكن تخيّلها.
السماء القرمزية للجحيم تتوهّج في الخلفية، بينما يبدو رجلان عاريان في مقدّمة اللوحة وهما مشتبكان في قتال شرّير فيما يقضم احدهما رقبة الآخر كما يفعل مصّاصو الدماء. والى يسار المنظر يبدو كلّ من دانتي وشبح الشاعر فرجيل وهما يتفرّجان على المتصارعَين وقد علت وجهيهما علامات تأفّف ورعب. وتحت السماء الحمراء في الخلفية يبدو شيطان مجنّح قبيح الملامح ومهلك النظرات وهو يراقب ما يحدث بابتسامة راضية وربّما يكون فخورا بنتيجة عمله.


كان اوديلون ريدون رسّاما فرنسيا رمزيا أنجز أفضل أعماله باستخدام الباستيل.
وفي نهايات حياته أبدع لوحات فاتنة بالألوان.
غير أن أعماله المبكّرة كانت الأكثر إثارة للاهتمام. ويصعب الحديث عن لوحة معيّنة من لوحاته، فأعماله كلّها، تقريبا، عبارة عن صور غريبة وأحيانا مخيفة: عنكبوت يبتسم، وآخر يأخذ ملامح وجه إنسان، وأسنان تظهر على مجموعة من الكتب، وعين عملاقة تطلّ على منظر ريفي، وشجرة صبّار لها وجه، ونباتات بأغصان كرؤوس البشر .. إلى غير ذلك.
"الأشباح" تعتبر واحدة من أكثر أعمال ريدون إثارة للرهبة.
وهي تُظهِر امرأة ترتدي ملابس بيضاء وتقف في مكان يسيطر عليه ظلام حالك.
وحول المرأة تظهر أرواح شيطانية وأفاعي وأقنعة تترصّد في الظلام.
ويُحتمل أن لوحة ريدون تصوّر كابوسا، ويمكن أن تكون تصويرا لتوجّس الإنسان من الظلمة وخوفه من المناطق الخفيّة والغامضة.


كانت الرمزية حركة أدبية وفنّية فرنسية. وكانت تركّز غالبا على الأشياء والظواهر المروّعة. الأدباء الرمزيون، مثلا، كانوا مفتونين بالشاعر الأمريكي ادغار الان بو. كما اظهروا اهتماما بلوحات الرسّام الفرنسي غوستاف مورو.
في إحدى لوحاته، واسمها الظهور أو التجلّي، يرسم مورو الرأس المقطوع لـ يوحنّا المعمدان وهو يتراءى لـ سالومي في قصر الملك هارود.
الدم يتدفّق من عنق المعمدان بينما تحدّق فيه سالومي بفم مفتوح ودموع منهمرة.
بقع الدم تغطّي الأرضية بينما يقف الجلاد إلى يمين اللوحة مستندا على سيفه. وسالومي، كما قد يتخيّل الإنسان، تقف وجلة مرعوبة.
الروائي جوريس هويسمان كتب باستفاضة عن هذه اللوحة في إحدى رواياته وقال واصفا إيّاها: في هذه الصورة الوحشية والمؤلمة تمتزج البراءة بالخطر والايروتيكية بالرعب. كانت زهرة اللوتس الطويلة قد اختفت والإلهة قد تلاشت. والآن ثمّة كابوس رهيب يمسك بخناق المرأة بعد أن أصابها الرقص بالدوار وأقضّ مضجعها الرعب.


الفنّان الهولندي يان لويكن يمثل حالة مثيرة. فقد كان شخصا مسيحيا متعصّبا بعد أن عايش تجربة دينية حدثت له في صغره.
كان معتادا على الصلاة والقراءة الدينية إلى حدّ الوسوسة.
ثم أصبح يكتب الشعر الأخلاقي وامتلأ عقله بقصص معاناة المسيح وشهداء المسيحية.
وقد كُلف بعمل الرسوم الإيضاحية لكتاب ديني بعنوان "مرآة الشهداء" يحكي عن حياة الشهداء وتضحياتهم.
بالنسبة لعقل لويكن التقيّ وربّما المشوّش، كان هذا يعني وابلا من صور التعذيب والرعب وأحداث الموت الرهيبة التي عاناها الشهداء على مرّ التاريخ: رجل نصف مطبوخ يُقذف به إلى الحيوانات كي تلتهمه، نار تأكل قدمي رجل، صَلب، طعن بالرماح.. إلى آخره. هذه المشاهد البغيضة والمليئة باللحم البشري المشوي الذي يتصبّب منه الدم، مع كثافة الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة، تجعل من صور لويكن بعض أكثر اللوحات ترويعا وقسوة في تاريخ الفنّ.


قد لا يحتاج هيرونيموس بوش إلى تعريف.
كان هذا الرسّام الهولندي شخصا فريدا من نوعه. كان احد السورياليين الكبار وقد رسم عدّة صور مخيفة لمشاهد مليئة بالبشر والرعب.
في لوحته "إغراء سانت انتوني" يرسم راهبة محبوسة داخل سمكة عملاقة ورجلا يقود كائنا من الزواحف.
وفي لوحته الأشهر حديقة المباهج الأرضية يصوّر بوش في يمين اللوحة تفاصيل من الجحيم يظهر في احدها وحش له رأس طائر وهو يفترس إنسانا بينما يجلس على كرسي مرتفع.
صور هيرونيموس بوش كانت دائما مصدر افتتان الكثيرين. وفي القرون المبكّرة كان الناس ينظرون إلى لوحاته على سبيل التسلية، بينما اسماه البعض رسّام الوحوش والغيلان. في القرن العشرين رأى بعض المؤرّخين والنقّاد في فنّه دلالات عميقة. والبعض يرى فيه رسّاما سورياليا حتى قبل ظهور السوريالية بصورتها الحديثة. وهناك اليوم محاولات كثيرة لتقصّي جذور ومعاني لوحاته الغريبة .


الرسّام الاسباني العظيم فرانشيسكو دي غويا صدَمه مرض فتاك جعله يخشى الموت. كما عانى من الإحساس بالمرارة نتيجة تدهور الأوضاع في بلده وفي العالم.
ونتيجة لذلك شرع في رسم لوحاته السوداء المشهورة على جدران منزله.
وقد أودع في لوحاته تلك العديد من مشاهد الشرّ والحروب وظواهر ما وراء الطبيعة.
لوحته "الماعز" تصوّر مجموعة من الساحرات يتجمّعن حول شيطان اسود له رأس ماعز.
لكن أشهر تلك اللوحات والتي يمكن اعتبارها اللوحة الأكثر رعبا في تاريخ الرسم هي لوحته المسمّاة "زحل يفترس ابنه".
في الأسطورة، يبدأ زحل بافتراس جميع أطفاله مدفوعا بخوفه من أن يُخلع عن عرشه.
هذا الفعل المزدوج، أي التهام الأطفال وأكل لحوم البشر، يصوّره غويا بأكثر الطرق ترويعا وعنفا. زحل العملاق بأطرافه العنكبوتية والبرونزية يقف في الظلام ممسكا بجسد ابنه. وبإمكان المرء أن يرى أصابعه وهي تحفر في الجزء الخلفي من جسد الابن. وقد أكل للتوّ الرأس وأحد الذراعين. فم زحل مفتوح على اتساعه بينما يفترس الذراع الثانية. عيناه تلتمعان بالوحشية والجنون.
هذه البدائية وهذا الرعب قد لا نجد لهما نظيرا في تاريخ الرسم كلّه.


Credits
barnebys.com

الأحد، يناير 31، 2010

مكان الإنسان في المنظر الطبيعي

ما هو دور الإنسان في المنظر الطبيعي؟
غينسبورو لم يكن يساوره شكّ في أن وظيفة الإنسان هي أن يملأ الفراغ في المنظر أو أن ينشئ عملا بسيطا يمكن أن يصرف انتباه العين عن الأشجار للحظات قبل أن تعود للتركيز عليها مجدّدا. أي أن وجود الشخص في المنظر الطبيعي هو وجود إضافي أو كمالي وليس أساسيّا.
لوحات المناظر الطبيعية هي موضوع بيئي، لأنها تصوّر العلاقة بين الطبيعة والبشر، بين الأرض وساكنيها. وبعض الرسّامين طبّقوا شعار وليام بليك الذي يقول: حيث لا يوجد إنسان، تصبح الطبيعة قاحلة". وبالنسبة لهم، فإن العالم الأخضر ليس سوى مكان أو خلفية تجري عليها القصص والأحداث الإنسانية. لكنْ بالنسبة لآخرين مثل غينسبورو فإن العكس هو الصحيح. فالأشجار هي العنصر الأهمّ. أما العنصر الإنساني فليس سوى علامة أو رقم لا وظيفة له سوى سدّ أو ملء الفراغ في اللوحة.
لكنّ هناك نوعا من المناظر الطبيعية التي تكون فيها علاقة الإنسان بالطبيعة أشدّ تعقيدا وأكثر دراماتيكية. تأمّل، مثلا، هذه اللوحة للرسّام الفرنسي كلود لورين. عُرف هذا الفنّان بمناظره المتوهّجة ذات الألوان الزرقاء والبنيّة والخضراء والتي تثير شعورا بالسكينة الممزوجة بقدر من الحنين والحزن. موضوع لوحته هذه مأخوذ من الأسطورة اليونانية "إسكينيوس والأيل". الطبيعة والأشخاص فيها يقفان على طرفي نقيض. والبشر هنا ليسوا مواطنين أصليين، كما أنهم ليسوا سادة المكان، بل هم غرباء عنه، غزاة ومدنّسون.
حفلة الصيد تصل إلى المكان من الطرف الأيسر من الصورة. وتحتاج لأن تعرف القصّة من فيرجيل كي تأخذ فكرة عن طبيعة التعدّي الذي تصوّره اللوحة عن قتل حيوان مقدّس. في القرون الوسطى شاع اعتقاد يصوّر الأيل كقوّة مقدّسة ومضادّة للشرّ بسبب ميل ذلك الحيوان لسحق الأفاعي بقدميه.
ومشهد لورين يتحدّث بشكل جيّد عن نفسه. ففيه نفحة من المغامرة والرومانسية. لكنّ فيه، أيضا، شيئا يذكّر بعادات المستعمرين. فالمستكشفون يشقّون طريقهم عبر الغابة، بينما تبدو خلفهم بقايا آثار ضخمة عن حضارة سادت ثم بادت. ومن الواضح أنهم دخلاء على الطبيعة، وعلى شيء ما فيها إنساني أقدم منهم وأعظم. ولأن لا أحد يردعهم، فإنهم يبدون عاقدي العزم على إتمام فعلهم المشين.


الفعل يغطّي نطاق الصورة كلّها من رامي السهام إلى الأيل. والطبيعة تضع هذا في طابع درامي، إذ تفصل ما بين الطرفين بنهر يقوم على أرض منحدرة. وبين رامي السهام والأيل منظر ضبابي واسع يفتح على الأفق. والأيل جاهز، على ما يبدو، لأن يُقتل.
لكنّ المكان يظلّ غريبا. وغرابته تتضمّن إحساسا بالزمن. فهذا عالم قديم؛ عالم يعود بآثاره إلى ماض سحيق كما يدلّ عليه المعبد الكلاسيكي الذي يؤطّر المنظر. هذا المعبد كان رائعا في زمانه البعيد. الآن تضخّم بفعل الأشجار التي نمت واستطالت وأصبحت تحتلّ معظم الجزء الأمامي. هذا العالم المهجور كان ذات مرّة مركزا للنشاط البشري. لكنه اليوم أصبح مكانا تنمو فيه النباتات والخضرة. ليست هذه طبيعة بكرا تعثّر بها المغامرون. إنه تاريخ قديم رائع وقد أصبح الآن امتدادا للحياة البرّية.
ولو تخيّلنا المشهد بدون الأشخاص وقصّتهم، فإن ما يبقى يمكن أن يكون من زمن الرسّام نفسه. الأنقاض الكلاسيكية الضخمة كانت هي الشيء الذي يمكن أن تصادفه في ايطاليا خلال القرن السابع عشر، حيث كان يعمل الرسّام. لكنّ حضور الأشخاص في اللوحة يضفي عليها غموضا أكبر. هذا المنظر يتضمّن حقبة زمنية وقصّة من العصور القديمة يجري إعادة تمثيلها بين بقايا الأطلال الدارسة.
النسَب في اللوحة هي عامل آخر مهم أيضا. الأشخاص برغم أنهم طوال القامة جدّا، فإنهم - مقارنة بالأعمدة - ما يزالون صغارا وضئيلي الحجم. بل إن المعبد يبدو أكثر طولا وضخامة كما لو أن من شيّدوه هم جماعة من العمالقة. هذه طريقة أخرى يحاول من خلالها لورين جعل الأشخاص في حالة عدم انسجام مع البيئة.
هؤلاء الأشخاص ليسوا أرقاما أو مجرّد علامات. كما أنهم لا يبدون ثابتين في أماكنهم في الصورة. العين تبتعد عنهم لتقع على طبيعة عظيمة وغير مضيافة. ثمّ تعود مرّة أخرى لتجد مجموعة من المتسلّلين الغرباء في الناحية الأخرى.
عُرف عن لورين تخصّصه في رسم المناظر الطبيعية المثالية والشاعرية ووضعه القصص الكلاسيكية بين الخرائب القديمة. براعته في تصوير أجواء الصباح والمساء والظلال الزاحفة والدخان اللامع أدهشت معاصريه ومن أتوا بعده. وكان أكثر من تأثّروا به رسّامو الطبيعة البريطانيون.

Credits
claudelorrain.org
artble.com

الخميس، ديسمبر 17، 2009

وليام بليك: الفوضوي الحالم

عندما ولدت، تأوّهت أمّي وبكى أبي
قفزت إلى هذا العالم الخطير
اعزل، عاريا، مزقزقا بأعلى صوتي
مثل شيطان مختبئ في غيمة!

بعد مرور قرنين ونصف على ولادته، ما يزال وليام بليك حيّا من خلال ميراثه البصري وقيمه الفكرية. عاش حياة ثريّة وكانت عين عقله مليئة بصور الأبطال من الرجال والنساء والقدّيسين ذوي اللحى الطويلة البيضاء والوحوش المجنّحة والمخيفة.
ومع ذلك كان أسلوب حياته اليومي متّسما بالكفاح والفاقة.
وخلال السنوات السبع الأخيرة من حياته، عندما كان يرسم الكوميديا الإلهية ويصوّر شخصيات شكسبيرية، كان هو وزوجته يمرّان بأوقات صعبة. كانت غرفة معيشتهما في شقّتهما بـ لندن هي أيضا غرفة نومهما ومطبخهما واستديو الرسّام في وقت وحد.
احد الجوانب المثيرة في سيرة حياة وليام بليك يتمثّل في حقيقة أن النقّاد والناس ما يزالون منقسمين بشدّة حول شخصيّته وقيمة أعماله.
البعض يرى انه كان شخصا غريب الأطوار. أو هذا على الأقلّ ما وصفه به بعض معاصريه. وبينما قد لا يرقى الوصف لمستوى المرض العقلي، فإنه كانت هناك دائما درجة من الشكّ عن هذا الرجل الذي قيل مرّة انه ادّعى انه كان يرى الملائكة في الأشجار.
عندما مات بليك سنة 1827 كان مفلسا، ثم لم يلبث أن أصبح نسيا منسيا.
لكن حدث أمر غريب خلال المائة والثمانين عاما الأخيرة. فـ بليك الهامشي والضئيل دخل إلى مؤسّسة الفنّ والأدب بقوّة وأصبح شخصية ثقافية لها مكانتها ووزنها.
ورغم أن بليك مات عام 1827 فقيرا في سنّ السبعين، فإنه استطاع بعد موته أن يكتسب شعبية بأكثر مما كان يحلم به.
وأكثر من ذلك فإن نجاحه كفنّان وشاعر يتجاوز النواحي المالية. فشعره يدرّس لتلاميذ الثانوية كما أن له تأثيرا واضحا في الثقافة الشعبية.
في فيلم التنّين الأحمر يستشهد بطل الفيلم بلوحة بليك التي تحمل نفس الاسم والموجودة اليوم في متحف بروكلين للفن الحديث. ويندر فعلا أن تجد لمعاصري بليك، مثل توماس لورانس وجوشوا رينولدز وبنجامين ويست، مثل هذا النفوذ في أوساط الثقافة الشعبية.
في العام 1789 كتب وليام بليك أغاني البراءة، وهي مجموعة من القصائد الغنائية القصيرة. في ذلك الوقت لم تعد رؤاه ساكنة، بل تحوّلت إلى كائنات بأجنحة تكشف عن رؤى مظلمة. كان العالم الذي يراه بليك يمرّ بتحوّلات دراماتيكية أيضا. الثورة الأمريكية، التي اندلعت عندما كان بليك ما يزال طالبا في الفن، تمكّنت من تحرير 13 مستعمرة واستقلّت عن ملك كان يسقط في وهدة الجنون. والثورة الفرنسية جاءت بالتنوير وبالأفكار الإنسانية عن العدالة والحرية والمساواة.
كان بليك يقوم بكلّ شيء. كان يكتب القصائد ويرسمها. وخلال أربعة عقود تقريبا تطوّرت لغته الصورية وشعره كثيرا.
سبب شعبية بليك يكمن، على الأقل جزئيا، في قصيدته عن القدس التي أصبحت نشيدا خلال الحرب العالمية الأولى. وقد جرت العادة أن يظهر كلّ سنتين شخص يقترح دمج تلك القصيدة في النشيد الوطني لانجلترا.
وبليك محبوب من اليساريين بسبب الإصلاح الاجتماعي الذي تحدّث عنه في إشارته إلى "الطواحين الشيطانية المظلمة". واليمينيون أيضا يحتفون به باعتباره نموذجا للوطنية المتّقدة. وعشّاق الرياضة أيضا يحبّونه لأن أوّل سطر في تلك القصيدة يشير إلى القدمين.
لكن لا توجد رسالة سياسية يمكن تمييزها بسهولة في القصيدة أو في معظم أعمال بليك، كما تقول شيرلي دنت مؤلفة كتاب "بليك الراديكالي". "إنها قصيدة رجعية وراديكالية بنفس الوقت. وهي تمنح أشياء كثيرة لأناس كثيرين. وهناك شيء ما في الشعر نفسه يجعله متناقضا".
الذين يدّعون أن بليك وطني بإفراط يجب أن يتذكّروا انه كتب القصيدة عندما كان ينتظر المحاكمة على ما قيل إنها ملاحظات مهينة منه تجاه الملك وعلى تغنّيه بنابليون.
أعمال بليك تتضمّن ميثولوجيا معقّدة وشخصيات غيبية ورؤى فانتازية عن الريف البريطاني وإشارات إلى الأساطير ونقدا للرقّ وثناءً على التصوّف المسيحي.
ويبدو أن صورته باعتباره غير منتمٍ إلى التيّار السائد أسهمت في تعزيز جاذبيّته الشعبية.

يقول الكاتب المسرحي جاك شيبرد: كان ذكاء بليك يجذب الانتباه فلم يتقيّد بالفكر الأكاديمي لذلك الزمن. كان واحدا من أولئك الناس النادرين الذين يتمتعون برؤية شاملة. بدأت قراءته عندما كنت طفلا وكانت لوحاته معلقة على جدران الكنيسة التي كنا نذهب إليها. وقد وجدت صوره كريهة وفاتنة، مريحة ومخيفة بنفس الوقت. كنت أحبّ كرهي لها. كان لها تأثير هائل. ومع الأيام انجذبت إلى فلسفة بليك الخطرة".
جون ويتيكر مؤلّف كتاب "بليك وأساطير بريطانيا" يقول: مكانة بليك كفنّان وشاعر لم تنشأ سوى منذ الحرب العالمية الثانية. والكثير من الناس يتحمّسون له حتّى دون أن يقرءوا شعره أو ينظروا في فنّه".
معتقدات بليك المسيحية القويّة وتصوّفه الذي يصعب فكّ طلاسمه يمكن أن يدفع المرء للاعتقاد بأن بليك يمكن أن يتواءم مع هذا العصر العلماني. غير أن هذا ليس هو واقع لحال.
الناقد فالديمار يانوتشاك لا يفهم ما يقال عن المكانة شبه الإلهية التي يبدو أن بليك استطاع تحقيقها. "الرجل لم يكن يستطيع أن يرسم جيّدا. وشخصياته متهاوية. إننا نحبّ كثيرا الأشخاص الغريبي الأطوار، خصوصا القدامى منهم. في هذا العصر اعتدنا على فكرة الفنّان الغريب الأطوار الذي لا يتمسّك بالقواعد. لقد اسقط الجمهور الحديث جزءا كبيرا من تسامحه على عصر آخر. لذا هناك من يعتبر بليك إنسانا فطريا ورائدا من روّاد الفن. ويضيف يانوتشاك: لقد كان الرجل مجنونا. كان يزعم انه يتحدّث إلى الملائكة. في عصرنا هذا، لو قال احد مثل هذه الكلام لانتهى به الأمر إلى السجن. ثم إن الكثير من أشياء بليك مملّة جدّا".
لكن جون ويتيكر يرى أن من الخطأ وصف بليك بالمرض النفسي، رغم ما يفترضه بعض الأكاديميين من أعراض الهوس والاكتئاب وغيرها من الحالات الطبية. إن رؤية الملائكة ما هي سوى أمور مجازية. أن تقول إن الرجل كان مجنونا، هذا تبسيط مخلّ للأمور. ربّما كان يعاني، مثل الكثير من الفنانين، من درجات من الحالات العقلية المتطرّفة نسبيا".
ويتيكر يصرّ أيضا على أن لا علاقة لـ بليك بعالم المخدّرات، ولا يوجد دليل أبدا على انه كان يتعاطى مخدّرات إطلاقا".
كان بليك متعاطفا مع الثورة الفرنسية التي أصبحت محورا لاهتمامه وموضوعا للعديد من قصائده. وقد وضعته دعوته ودفاعه عن الحرّيات السياسية والحقوق المدنية على طريق الصدام مع حكومة وليام بيت القمعية. وهناك من النقاد من ذهب إلى أن بليك حاول عمدا إخفاء آرائه السياسية والفكرية خلف قناع التصوّف كي يتجنّب رقابة الحكومة وغضبها.
كان الشاعر يرى أن الطبيعة هي خيال بذاتها وأن الخيال بدوره يقود إلى الرؤيا والحكمة. وكان يفضّل الخيال على عالم المادّة، كما اعتبر أن مهمّته الشخصية تتمثّل في توظيف الخيال لإضفاء طبيعة تنبؤية على أعماله.
هل كان بليك إنسانا مجنونا أم عبقريا؟
يقول الشاعر وليام ووردزوورث محاولا الإجابة عن هذا السؤال: لا يوجد شكّ في أن هذا الإنسان المسكين كان مجنونا. لكن هناك شيئا ما في جنونه يشدّني أكثر من عقلانية بايرون ووالتر سكوت".
اليوم يمكن العثور على بليك الرسّام في العروض الدائمة في تيت غاليري. وليس صعبا أن تقرأ اسمه في قائمة تتحدّث أيضا عن كونستابل وتيرنر وغينسبورو.
كما أن شعره يعلّم في المدارس. وكثير من التلاميذ ظلّوا يشتكون من صعوبة وغرابة قصائده.
وحتّى بالنسبة إلى أولئك الذين لا تربطهم علاقة مباشرة بالشعر والفنّ، ما يزال بليك بالنسبة لهم شخصية شاهقة. وقد احتلّ مؤخّرا المرتبة الثامنة والثلاثين في الاستفتاء الذي أجرته إذاعة البي بي سي عن أعظم مائة شاعر بريطاني.
الغريب في الأمر أن شعراء ورسّامين مثل ووردزوورث وكولريدج وكونستابل وتيرنر لم تشملهم تلك القائمة.

Credits
blakearchive.org
thetimes.co.uk