:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات تاركوفيسكي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات تاركوفيسكي. إظهار كافة الرسائل

الخميس، فبراير 08، 2024

محطّات


  • يبدأ فيلم "نوستالجيا أو الحنين" لأندريه تاركوفسكي (1983) بلقطة ضبابية بالأبيض والأسود للريف الروسي، حيث يتحّرك صبيّ وثلاث نساء باتجاه الماء. ثم ينتقل الفيلم إلى مشهد ضبابيّ آخر في إيطاليا، حيث تسافر سيارة فولكس فاغن عبر الريف الجبلي. ثم يعتاد المشاهدون على هذه الانتقالات بين ذكريات أندريه غورتشاكوف عن منزله الروسي وإقامته الحالية في إيطاليا حيث يعاني من شعور بالضيق والحنين.
    وقد جاء أندريه إلى إيطاليا برفقة مترجمته للبحث في حياة المؤلّف الموسيقي الروسي بافيل سوسنوفسكي. وكان سوسنوفسكي يشعر باليأس والإحباط في منفاه الإيطالي، لذا أقدم على الانتحار عند عودته الى الوطن. كانت فكرة الاختيار بين المنفى والحنين الى الوطن رغم القمع الذي كان يعانيه مصدر قلق رئيسي أيضا لتاركوفسكي نفسه عندما كان يفكّر في مغادرة الاتحاد السوفيتي.
    يقول أحد النقّاد: لا يوجد شيء أكثر ترابيةً وجسدية من عمل تاركوفسكي، هذا المخرج الصوفيّ المشهور". ويعزو هذه الجسدانية الترابية إلى الاحترام الأرثوذكسي الروسي للطبيعة كمكان يتمّ فيه تقديس الخالق من خلال خلقه. كان تاركوفسكي ينظر للمعنى من جانبه العاطفي أكثر من العقلاني، لذا كان أسلوبه البصري يميل نحو الشوق والحزن.
    وكثيرا ما كان يمزج في أفلامه النموّ الترابيّ الرطب للطبيعة في مشاهد من الأماكن المقدّسة والذكريات. في فيلم "نوستالجيا"، يمثّل الصدع في نفسية أندريه الانحلال المعماري، حيث تكون المساحات الداخلية مساميّة ومفتوحة لعناصر الطبيعة.
    ويستخدم تاركوفسكي لقطات طويلة وبطيئة تحدث فيها حركة قليلة أو لا حركة على الإطلاق، ما يشير إلى أفكار بطل الرواية التي تتحرّك وتنتقل إلى الوراء. وإيقاع الفيلم وصوره غير العاديّة تتجنّب التقاليد السينمائية المألوفة ومفاهيم الجمال القديمة.

  • كان أحد الحكماء يحاول توضيح نقطة ما. وكان محدّثه غير مقتنع بكلامه. لذلك حاول اتباع طريقة أخرى معه. فقال للمجادل: حسنا، لنرَ الآن. كم رجلا لدى البقرة؟" وجاء الردّ: أربع بالطبع". قال الحكيم: هذا صحيح. والآن، لنفترض أنك تسمّي ذيل البقرة رجلا؛ كم رجلا لدى البقرة؟ فأجاب الرجل بثقة: خمس طبعا». فردّ الحكيم: الآن هذا هو المكان الذي أخطأت فيه. إن تسمية ذيل البقرة بالرجل لا يجعل منه رجلا!

  • كيف يستمرّ الأحياء في العيش
    وكيف يستمرّ الموتى في العيش معهم
    بحيث في الغابة
    حتى الشجرة الميّتة تعكس ظلّها
    وتتساقط أوراقها واحدة تلو الأخرى
    وتتكسّر أغصانها في الريح
    ويتقشّر لحاؤها ببطء
    ويتشقّق جذعها
    ويتسرّب المطر عبر شقوقها
    ويسقط الجذع على الأرض
    ويغطّيه الطحلب
    وفي الربيع تجده الأرانب
    وتبني مسكنها بداخله
    مع صغارها
    ويعيشون بأمان
    داخل الشجرة الميّتة
    في الطبيعة،
    كما في الحبّ،
    لا يضيع شيء.
    -لارا غيلبِن


  • عندما نشر بيير كورنيه مسرحيّته "السِيد" لأوّل مرّة عام 1636، لاقت استحسانا كبيرا من الجمهور والنقّاد على حدّ سواء. وقد فُتن الفرنسيون بالمسرحية واُعجبوا بالقصّة المثيرة للدون رودريغ وحبيبته تشيمين.
    واليوم تُعتبر "السِيد" أفضل اعمال كورنيه وواحدة من أفضل مسرحيّات القرن السابع عشر.
    وقد تحوّلت هذه المسرحية قبل سنوات الى فيلم تاريخي مشهور. واشتهرت أيضا الموسيقى الفخمة التي وضعها للفيلم الموسيقي البلغاري ميكلوش روشا.
    تعتمد قصّة السِيد على حياة رودريغ دياز دي فيفار الذي عاش في القرن العاشر وحارب في وقت ما ضدّ المسيحيين أحيانا، وأحيانا ضدّ المسلمين. لكنّه في المسرحية يصوّر كمسيحي. واسمه، أي السِيد، هو الاسم الإسباني المشتقّ من كلمة عربية هي "السيّد" التي تعني الشيخ او الزعيم.
    تبدأ قصّة السيد عندما تعلَم تشيمين ابنة دون غوميز من خادمتها إلفيرا أن والدها وافق على زواجها من دون رودريغ، فتشعر بسعادة غامرة لأنها تحبّ رودريغ كثيرا. لكنّها تحاول كتمان فرحها بسبب عدم قدرتها على التنبّؤ بمزاج والدها.
    وفي ما بعد يغضب والد تشيمين، أي دون غوميز، عندما يكتشف أن الملك قد منح شرف تعليم ابنه أمير قشتالة لوالد رودريغ، أي دون دييغو. كان غوميز يعتقد بأنه أحقّ بهذه الوظيفة من دييغو، لذا يقرّر أن يواجهه. دييغو، العجوز العاقل المعتدل المزاج، يحاول تهدئة غوميز ويعرض عليه صداقته. لكن غوميز الغاضب يقوم بصفع العجوز. وردّا على ذلك يسحب دييغو سيفه للدفاع عن شرفه. لكنّه أكبر سنّا من أن يكون ندّاً لدون غوميز الأصغر منه بكثير. وهنا يجرّد غوميز العجوز من سلاحه ويهينه أكثر قبل ان يغادر المكان.
    يشعر دون دييغو بالحرج من تلك المواجهة، ويطلب من ابنه رودريغ الدفاع عن اسمه وقتال غوميز. لكن رودريغ الذي يحبّ ابنة غوميز بجنون يرفض طلب والده في البداية. ولكن عندما يصرّ والده على أن يضع شرف عائلته فوق كلّ شيء، يقبل مبارزة دون غوميز.
    وعندما يصل خبر هذا الخلاف إلى بلاط الملك يقرّر منع المبارزة. لكن غوميز يتحدّى الأمر ويصرّ بغطرسة على قتال الشاب رودريغ. وعندما يحين وقت المبارزة، رغم أمر الملك بمنعها، وبسبب الاستفزازات المستمرّة من دون غوميز، يتواجه الرجلان لوضع حدّ للشجار بينهما نهائيّاً.
    وفي البلاط، يسمع الملك عن المبارزة وينتقد دون غوميز بسبب سلوكه الطفولي وقسوته تجاه الشابّ رودريغ. ثم يعبّر عن قلقه بشأن هجوم محتمل للبحرية المغاربية التي تقترب من شواطئ بلاده. وفي هذه اللحظة يصل أحد النبلاء ويبلغ الملك أن الشابّ رودريغ قتل دون غوميز.
    في المشهد التالي، يأتي رودريغ إلى منزل تشيمين، وعندما تواجهه خادمتها يبلغها انه ما يزال يضمر الحبّ لتشيمين. فتطلب منه الخادمة الهرب لأن الفتاة لا تريد سوى الانتقام منه على قتله والدها. فيجيب أنه إذا كان الانتقام هو ما تريده تشيمين فإنه مستعدّ بكلّ سرور لأن يُقتل على يدها.
    ثم تقترب تشيمين منهما فيختبئ رودريغ في الزاوية. وتخبر تشيمين إلفيرا عن مشاعرها المتضاربة. فهي من ناحية تلوم غطرسة والدها على كلّ شيء. ومن ناحية أخرى فإن الشرف يملي عليها قتل رودريغ. ثم يظهر رودريغ من مخبئه ويطلب من تشيمين أن تقتله بنفس السيف الذي قتل به والدها. لكنها لا تفعل ذلك.
    وهنا يهاجم المغاربة المملكة الاسبانية ويخوض رودريغ الحرب للدفاع عن وطنه ويُظهر شجاعة في المعركة ويحظى بشعبية كبيرة بين مواطنيه. حتى المأسورين من المغاربة يحبّونه ويطلقون عليه لقب "السِيد" أي الزعيم.
    لكن تشيمين لا تستطيع التخلّي عن سعيها لقتل رودريغ. ويوافق شابّ يُدعى دون سانشي على مبارزة وقتل رودريغ من أجل تشيمين، بينما تعده هي في المقابل بأن تتزوّج ممّن سينتصر في المبارزة. وقبل المواجهة يخبر رودريغ تشيمين بأنه لن يدافع عن نفسه ضدّ دون سانشي وأنه إذا كان الانتقام هو ما تريده حبيبته فينبغي أن تحصل عليه. وبعد ذلك، يأتي دون سانشي إلى تشيمين وسيفه يقطر دماً. فتعتقد أن رودريغ قد قُتل، فتبكي وتعترف بأنها كانت تحبّه وتقرّر دخول دير وتعلن الحزن عليه الى أن تموت.
    وفي نهاية المسرحية، يخبر الملك تشيمين أنه أثناء المبارزة قام رودريغ بتجريد دون سانشي من سلاحه، ثم قرّر أن يعفو عنه، وأخبرها أيضا أن رودريغ ما يزال على قيد الحياة. ثم يبلغها الملك بأنها خدمت والدها بما فيه الكفاية من خلال مطالبة دون سانشي بالانتقام له وأنها لم تعد بحاجة لأن تثأر من رودريغ. ثم يأمر الملك أن يتزوّج الاثنان خلال عام يتفرغ خلاله رودريغ للدفاع عن بلاده ضدّ المغاربة كي يصبح أكثر جدارة بحبّ تشيمين.


  • Credits
    andrei-tarkovsky.com

    الأحد، فبراير 28، 2016

    عشاء مع بريغل

    هناك بعض الرسّامين ممّن يتمنّى المرء لو رآهم وعرفهم عن قرب. وهؤلاء عندما تتأمّل رسوماتهم، تحسّ أن فيها فكرا وعمقا وفنّا وسعة خيال.
    والأمر يشبه ذلك الشعور الذي يساورك عند انتهائك من قراءة كتاب شيّق ومفيد بأنك ترغب في الحديث مع مؤلّفه لبضع دقائق، كي تعبّر له عن شكرك وامتنانك على أفكاره الممتعة والمفيدة، ثمّ لكي تسأله عن بعض التفاصيل التي استوقفتك في كتابه أو تلك التي استشكل عليك فهمها.
    وشخصيّا هناك أكثر من رسّام ممّن يثيرون اهتمامي وتستوقفني أعمالهم كثيرا، ويأتي في طليعة هؤلاء الرسّام الهولنديّ الجميل بيتر بريغل الأب.
    وبداية، هناك ملاحظة جانبية، وهي أن لا مشكلة في أن يُكتب اسمه بريغل أو برويغل، فكلا النطقين صحيح بحسب من أرّخوا لسيرة حياته.
    لكن لماذا بريغل فنّان خاصّ ومختلف ومثير للاهتمام؟
    هناك عديد من الأسباب، بعضها شكلانيّ والبعض الآخر جوهريّ. فبريغل، أوّلا، كان احد أشهر شخصيّات عصر النهضة الشمالية. وفنّه يذكّرنا بالحداثة وبالتأثير والقيمة العالمية للفنّ.
    ثم انه كان فنّانا مبتكِرا، وهذا واضح من طريقة تصويره لحياة الفلاحين بطريقة هزلية وساخرة أحيانا، لكنها تشي بوعيه وإدراكه للظروف الاجتماعية التي كانت سائدة في عصره.
    في زمن بريغل، أي في القرن السادس عشر، كانت هولندا أو الأراضي المنخفضة واقعة تحت الاحتلال الاسباني. ويبدو أن الرسّام رأى في حياة الفلاحين المتّسمة بالصخب والشدّة والعزيمة نوعا من الوعد بالحرّية والانعتاق.
    وبريغل أيضا كان معروفا عنه مهارته في الرسم بالزيت وتعامله مع الألوان وأيضا مهارته في التوليف.
    لكن ما هو أهمّ من هذا كلّه انه كان بارعا كثيرا في رسم التفاصيل. يكفي أن تتمعّن في تفاصيل بعض لوحاته كي يتشكّل لديك تصوّر عام عن طبيعة الحياة في قرى وبلدات الشمال الأوربيّ في منتصف القرن السادس عشر.
    وقد يكون احد الأسباب المهمّة في افتتان الكثيرين ببريغل وانجذابهم لأعماله، بحسب احد النقّاد، هو روحه الكوميدية الساخرة، بالإضافة إلى حقيقة أن لوحاته لا تتحدّث إلى عصرنا أو تتنبّأ بما قد يحدث لاحقا، بل في كونها متجذّرة عميقا في سياقيها الزمانيّ والمكانيّ.
    في لوحاته، هناك دائما شعور ما بالارتياح، فالحياة مستمرّة بوتيرة مطمئنة ودون مبالاة بالدراما العظيمة للتاريخ، وكلّ شيء يتحرّك بعيدا عن الكارثة. وهذا ما يبدو انه يقوله لنا.
    كما أن كلّ لوحاته مليئة بالنشاط الإنسانيّ. لكن كثيرا ما نرى فيها شخصيّات تبذل جهدا مؤذيا وعبثيا وضارّا، سواءً كان لأنفسهم أو للآخرين.
    وبريغل يركّز في رسوماته على غباء البشر وميلهم لارتكاب الشرّ وعلى ضعفهم أمام الخطيئة. وهو يرسم بعضهم بعيون جاحظة ونظرات بلهاء، علامة الغباء والحماقة. لكن بعض رسوماته تتضمّن معاني خفيّة وغامضة.
    ومن الملاحظ أنه يميل إلى تفضيل ألوان محدّدة على أخرى. فهو، مثلا، يفضّل استخدام الأزرق مع الأحمر القرمزيّ. وفي أيّامه كان الأزرق يرمز للخداع والغباء، والأحمر للخطيئة وقلّة الاحترام.
    لوحته فوق اسمها "زفاف فلاحين"، وفي فراغها يكدّس أكثر من أربعين شخصا. وكلّ هؤلاء تقريبا جلوس في غرفة مفردة، ومعظمهم حول مائدة واحدة يتناولون معا طعام العشاء.
    ومع ذلك، ورغم هذا العدد الكبير من الأشخاص، إلا أن الفنّان يحفظ لكلّ شخص قيمته وتميّزه عن الباقين من خلال طريقته في استخدام الألوان والأشكال.


    وفي نفس هذه اللوحة لا ينسى بريغل أن يرسم عروسه وسط ذلك الحشد. ويقال انه، هو أيضا، موجود ضمن المدعوّين، لكن من الصعب التعرّف عليه أو تمييزه. والغريب أن كتّابا كثيرين تنافسوا في محاولة تحديد شخصيّته في اللوحة، مرشّحين لذلك عدّة أشخاص.
    تَخَصُّص ومهارة بيتر بريغل الأب في رسم هذا النوع من اللوحات قد يكون هو ما دفع الناس لأن يطلقوا عليه لقب "بريغل الفلاح"، رغم انه كان في الواقع واحدا من حلقة المثقّفين الانسانويين في مدينة انتويرب. في ذلك الوقت كان الأفراد ذوو النزعة الإنسانية يهتمّون بالأفكار الدينية أكثر من الدنيوية.
    ومن الواضح أن أسلوب بريغل كان يروق للذوق المدنيّ، أي ذوق سكّان الحواضر في تلك الفترة، بسبب طريقة مزجه بين الواقعية والدراما السردية وبين الحقيقة والإيهام.
    وأعماله تخلو عادة من مشاهد العنف أو الدماء. حتى في لوحته مذبحة الأبرياء والتي تصوّر تلك الحادثة التاريخية التي تفنّن الرسّامون منذ القدم في تصوير دمويّتها وعنفها، لن ترى في لوحة بريغل هذه نقطة دم واحدة، فقط جنود وكلاب وخيول ونساء وأطفال، لدرجة انك قد تظنّ أن اللوحة إنما تصوّر مشهدا لنهب قرية.
    ومعظم لوحات بريغل التي رسمها للطبيعة كان يتّبع فيها تقليد مواطنه الرسّام هيرونيموس بوش. ولهذا السبب لا تخلو أيّ من لوحاته من دلالة دينية ما.
    مثلا لوحته صيّادون في الثلج لها معنى دينيّ مؤدّاه أن الإنسان لا حول ولا قوّة له وهو دائما ما يكون تحت رحمة الطبيعة والعناصر. وبناءً عليه، لا شيء يمكنه أن يجلب لحياة الإنسان راحة أو معنى سوى الإيمان بالله. يجدر بالذكر أن المخرج الروسيّ اندريه تاركوفيسكي وظّف هذه اللوحة في فيلمه بعنوان "سولاريس".
    ولد بيتر بريغل الأب عام 1525 لعائلة ظهر منها على امتداد القرنين السادس عشر والسابع عشر أربعة أجيال من الرسّامين. وأشهر هؤلاء هما ابناه بيتر و يان اللذان حملا تراث أبيهما من بعده.
    ويقال أنه عند وفاته في العام 1569، أمر زوجته بأن تُحرق عددا من رسوماته التي قدّر أنها ناقدة ومستفزّة أكثر مما ينبغي، كي يحمي عائلته من الاضطهاد السياسيّ والدينيّ.
    أبناء بريغل الأب وتلاميذه الكثر اخذوا ماركته أو علامته الخاصّة في الرسم وجعلوها سمة للرسم الهولنديّ في ما بعد.
    في لوحة "الراعي الرديء" لابنه بيتر بريغل، نرى فلاحا شابّا وهو يتخلّى عن قطيعه من الأغنام للذئاب كي ينفذ بجلده. لكنّه يهرب وعلى وجهه ابتسامة ساخرة. ربّما كان الراعي رديئا، لكنه آثر السلامة ونجح أخيرا في النجاة بنفسه. هذا هو الدرس الطريف الذي تقدّمه اللوحة.
    المعروف أن بريغل الأب أتى إلى الرسم وهو في سنّ متأخّرة. وقد توفّي وهو شابّ نسبيّا، أي في سنّ الرابعة والأربعين. ولذا فإن لوحاته قليلة ونادرة جدّا ومن الصعب اقتراضها حتى من قبل مؤسّسات ومتاحف الفنّ العريقة.
    لكن إن أردت أن ترى نماذج من أعماله، فما عليك إلا أن تزور موقع متحف فيينا الوطنيّ الذي يضمّ اكبر عدد من لوحاته التي بقيت حتى اليوم، وذلك بفضل رعاية أسرة هابسبيرغ الملكية للرسّام واهتمامها بأعماله. وأيضا هناك متحف الناشيونال غاليري في لندن الذي يضمّ لوحتين من أهمّ أعماله، الأولى تقديس الملوك والثانية منظر طبيعي في الرحلة إلى مصر .

  • موضوع ذو صلة: الطريق إلى كالفاري
  • الثلاثاء، سبتمبر 07، 2010

    تاركوفيسكي: نحت في الذاكرة

    كتب المخرج السينمائي الروسي اندريه تاركوفيسكي مطوّلا عن رسّاميه المفضّلين في كتابه النحت في الزمن. ليوناردو دافنشي كان أكثر الرسّامين الذين أشار إليهم في كتابه وأفلامه، ويأتي بعده مباشرة بيتر بريغل الأب.
    كان تاركوفيسكي مفتونا، على وجه الخصوص، بما يمكن أن يُسمّى "الخاصّية السينمائية" للوحات بريغل. في لوحات هذا الرسّام، تبدو الحركة المتباينة للأشياء كما لو أنها تسير باتجاه قدرها النهائي والمحتوم. وهو كان ميّالا لملء لوحاته بعشرات الناس المنهمكين في أعمالهم وأنشطتهم اليومية ويبدون كما لو أنهم لا يعرفون شيئا ولا يكترثون بشيء.
    في فيلم سولاريس، يركّز تاركوفيسكي على مضمون المكتبة على متن المحطّة الفضائية المعلّقة فوق محيط لا متناه وزاخر بالمخلوقات الغريبة.
    البشر الذين يكافحون كي يبقوا عقلاء، فيما بحر سولاريس يعبث بذكرياتهم وبوعيهم، ينظرون إلى لوحة بيتر بريغل "صيّادون على الثلج" المثبّتة على حائط مكتبتهم الخشبية. هذه الصورة الدافئة والمريحة تصوّر صيّادين يعودون خاليي الوفاض وهم يهبطون إحدى التلال مع كلابهم المتعبة، بينما يلهو الفلاحون على برك المياه المثلجة أسفل منهم.
    مكتبة المحطّة الفضائية تحتوي أيضا على تمثال نصفي للحكيم الأثيني سقراط ونسخة قديمة من رواية دونكيشوت يقتبس منها البطل في مشهد معبّر بعض الحكم الأرضية لـ سانشوبانزا.
    أي أن تاركوفيسكي يضع الصورة الأكثر ارتباطا بالأرض في الفنّ في أعماق الفضاء البعيد ويحتفل بالنوستالجيا وبمستقبل الأرض، وليس الفضاء، وبالإنسانية بكلّ غرابتها البريغلية.
    فيلم سولاريس يُعتبر أعظم أفلام تاركوفيسكي وأفضل أفلام الخيال العلمي على الإطلاق. وهو يتحدّث عن اكتشاف أنفسنا في مرآة عقل مخلوقات غريبة. ويستند الفيلم إلى رواية للمؤلف ستانيسلاف ليم كتبها عام 1961م. إننا نتحدّث عن خيال علمي حقيقي من النوع الفلسفي والتأمّلي من منتصف القرن العشرين.
    يبدأ فيلم سولاريس بمشهد لبطله "كريس كالفين" الذي يراوده حلم يقظة وهو واقف عند الفجر في طبيعة من المروج التي غمرها الضباب. هذه هي طبيعة الأرض التي تؤرّقك طوال الفيلم. المناظر من خارج المحطّة الفضائية تُظهِر سحبا في دوّامات وبحراً يغلي. لكن هناك أيضا اللوحة عن الصيّادين في المكتبة. إنها بالضبط اللوحة التي تريد أن تكون معك على متن سفينة فضائية تبعد عن الأرض عدّة سنوات ضوئية. و"صيّادون على الثلج" ليست اللوحة الوحيدة على متن المحطّة. هناك أيضا أيقونة للرسّام الروسي القروسطي اندريه روبليف. هذا واحد من ارتباطات عديدة يخلقها تاركوفيسكي بين رؤيته الخيالية العلمية وبين رؤيته التاريخية، بين فيلم سولاريس والفيلم الذي أخرجه قبل ذلك عن رسّام الايقونات الروسي الكبير.
    وكلا الفيلمين يجعلانك ترى الأرض كما لو انك تراها للمرّة الأولى.
    في بداية سولاريس تظهر صور مطبوعة من القرن الثامن عشر تصوّر بالونات، بينما نلمح اندريه روبليف وهو يقف مع رجل آخر يحاول أن يطير في بالون مصنوع من جلود الحيوانات. هذه هي روسيا قبل ستمائة عام: عالم من غزاة التتار والرهبان الحمقى المقدّسين. يهرع الناس لمشاهدة الآلة الطائرة وهي ترتفع إلى السماء بينما ينسحب منظر الأرض إلى أسفل شيئا فشيئا. لكن البالون ينخفض مثل ملاك متمرّد وساقط. وآخر ما نراه منه هو رئة متبخّرة تنهار على الأطراف القذرة لأحد الأنهار.
    ليس هناك فيلم آخر متجذّر في الأرض مثل هذا. كما لا تظهر فيه أيّ لمحة عن السماء. وتاركوفيسكي يجد باستمرار مناظر تبدو الأرض فيها وهي ترتفع وتملأ الشاشة. الكشف البطيء للغاية عن هذا المكان الأرضي في بداية سولاريس هو الذي يجعل منه فيلما عظيما.
    إن تاركوفيسكي يجد متعة كبيرة في خلق أرضه المستقبلية. وبينما يقف كالفين في المروج صباحا، يرى من بعيد سيّارة تصل إلى سكّة خرسانية وذات مسار واحد. الطبيعة التي يصوّرها تاركوفيسكي حقيقية. وقيمتها تكمن في ذاتها، وليس فقط في كونها خلفية. لذا عندما يذكّرك بأن هذه هي الأرض المستقبلية حيث يتكلّم الناس الروسية لكنهم يتَسَمّون بأسماء أمريكية، فستقبل هذا وتقتنع به كرؤيا عن المستقبل.


    في فيلمه الآخر المتسلّل وهو آخر فيلم صوّره في بلده، ينفذ تاركوفيسكي بشكل أعمق إلى لا وعي العمارة السوفياتية. والمتسلّل صُوّر في محطّة كهرباء مهجورة تصبح هي "المنطقة". والمنطقة هي عبارة عن طبيعة متمنّعة يقود عبرها المتسلّل كاتبا وعالما في رحلة بحث عن حقيقة مخفيّة. الأنفاق الخرسانية المتحلّلة والبرك النتنة والجدران المقشّرة والمتداعية ومخابئ المجتمع الاشتراكي المحتضر توفّر صورة أيقونية عن مستقبل مروّع.
    الصورة الأكثر إثارة هي الأخيرة. المتسلّل وعائلته يمشون على شاطئ موحل أمام محطّة لتوليد الطاقة النووية، في ما يبدو وكأنه إشارة غير مباشرة إلى كارثة تشيرنوبل التي ستحدث بعد ذلك بستّ سنوات.
    مستقبل الغرباء هو هنا. لكنّ الناس ما يزالون هم الناس وما يزالون بحاجة لبعضهم البعض.
    في سولاريس يلتقي كالفين العاقل والمتشكّك عشيقته أو زوجته هاري التي كانت قد قتلت نفسها منذ زمن طويل بعد أن اقتنعت بأن هذا العالِم المهنيّ والبارد لم يعد يحبّها. ردّ فعل كالفين يوحي بأنه لا يفقه كثيرا في العلاقات الإنسانية، فهو يضع هاري في صاروخ ويرسلها إلى الفضاء. غير أنها تتجسّد في غرفة نومه في تلك الليلة، فيمارسان الحبّ معا ويصبح هو جزءا لا ينفصل عن شريكه الخيالي.
    وبينما تنظر هاري إلى لوحة بريغل، تتركّز الكاميرا على الصورة وتمرّ فوقها ببطء مظهرة تفاصيلها: طائر يطفو على غصن اسود يبدو الثلج عالقا بأطرافه، رجال بظهور منحنية يمشون إلى منازلهم، ومتزلّجون على الثلج.
    لا يمكن أن يفعل مخرج آخر مثل هذا، أي يترك أحداث فيلمه كي يزور معرضا فنّيا كما لو أن هذا ليس فيلما خياليا وإنما برنامج وثائقي.
    كان تاركوفيسكي يقدّر بحقّ صور بريغل لجلائها وواقعيّتها. لكنه مع ذلك يظلّ احد المخرجين القلائل الذين بقيت أعمالهم غامضة وحتى محيّرة في بعض معانيها.
    شخصيّاته المغلقة تعكس الرموز والتجارب التي كانت تشكّل عالمه الخاصّ.
    يمكن القول إن فنّ تاركوفيسكي يعمل على مستويات متعدّدة. فأعماله تربط السينما بفنون أخرى أقدم كالرسم والرواية والموسيقى. وهو يستخدم هذا الربط لتقديم تعليقات أخلاقية واجتماعية عن الماضي والحاضر.
    كما أن في أفلامه إشارات كثيرة إلى الأدب، كما في فيلم المرآة الذي يتضمّن اقتباسات من تشيكوف وتولستوي وبوشكين ودانتي ودستويفكسي.
    ومن الواضح أن تاركوفيسكي يتعامل مع اللوحات الفنّية بمثل ما كان يفعل دستويفسكي الذي كان يلمّح باستمرار إلى اللوحات في رواياته. سيستينا مادونا لـ رافائيل هي مثار حديث في الجريمة والعقاب. والمسيح الميّت لـ هولبين ترد في ثنايا احد الحوارات في روايته الأخرى الأبله. تاركوفيسكي يُظهر في أفلامه تماهياً مع دستويفسكي ومع نضاله ومصادر عذابه الروحي، ومع العذاب الجسدي الذي يحطّم أبطاله ويعصف بمصائرهم.
    ومثل دستويفسكي، كان عند تاركوفيسكي قناعة عميقة بغموض الوعي البشري. وأبسط كشف عن هذه الرؤية هو مضمون فيلم سولاريس نفسه. فالبشر يصبحون موضع تساؤل وافتتان المخلوقات الغريبة، وليس العكس.
    البشر هم الأعجوبة والمعجزة الحقيقية، وليس المخلوقات الغريبة.
    ليس من قبيل المبالغة إذن أن يُطلق على تاركوفيسكي "دستويفسكي السينما" أو مخرج الأفلام الدستويفسكية.


    Credits
    andrei-tarkovsky.com
    hcl.harvard.edu

    السبت، أغسطس 23، 2008

    تأمّلات وأفكار


    تأمّل صامت


    في ذلك الصباح، كان البحر هادئا جدّا لدرجة انك كنت تستطيع رؤية انعكاسات النجوم المتلألئة فوق صفحة الماء الساكنة. لم يكن الفجر قد بزغ بعد. وعندما لاحت الشمس فوق الأفق، تسلّلت أشعّتها الذهبية عبر سماء صافية إلا من بضع غيمات متناثرة هنا وهناك.
    وأنت تتأمّل المكان يغمرك سكون عظيم. من الغريب حقّا أن تشعر بمثل بهذا الهدوء الهائل. "تشعر" ليست الكلمة المناسبة هنا. إن نوعية ذلك الصمت، السكون، لا يشعر بها الدماغ. إنها ابعد منه. يمكن للدماغ أن يتصوّر، أن يخطّط، أن يفكّر.
    لكنّ هذا السكون خارج نطاق العقل ويتجاوز كلّ خيال ويسمو فوق كلّ رغبة. أنت ساكن جدّا لدرجة أن جسدك يصبح جزءا من الأرض، جزءا من كلّ شيء ساكن.
    وعندما هبّت نسمات عليلة من جهة التلال، أثارت بعض أوراق الشجر. لكنّها لم تبدّد السكون أو تخفّفه.
    وأنت تشاهد هذا البحر الساكن اللانهائي، تصبح جزءا من كلّ شيء، تصبح كلّ شيء. ومرّة أخرى، "أنت" ليست كلمة مناسبة، لأنك في الواقع لم تكن هناك، لم يكن لك وجود. لم يكن هناك سوى ذلك السكون، الجمال، الصفاء، والإحساس غير العاديّ بالحبّ.
    كلمات "أنا وأنت" تباعد بين الأشياء. إنها بلا معنى وليس لها وجود في مثل ذلك الصمت والسكون الجميل.
    وعندما تطلّ من النافذة، تحسّ أن الزمن والفراغ وصلا إلى نهايتهما، وأن الفراغ الذي يفصل الأشياء عن بعضها ليس حقيقة، وأن الورقة ونبات الاوكاليبتوس والماء الأزرق لم تكن مختلفة عنك في شيء.
    إن للعزلة والتأمّل نشوة لا تتحقّق إلا عندما لا تعود تخشى أن تكون لوحدك، وانك لم تعد منتميا إلى العالم أو مرتبطا بشيء.
    لوقت طويل، ظللت ساكنا بلا حراك. واستسلمت لذلك المزيج الذي لا يوصف من المشاعر وسمحت لها بأن تخترقني في هدوء؛ هدوء السماء وعمق اللحظة. لا اعرف ما الذي كان يدور في ذهني لحظتها. ولا أستطيع أن اعبّر عنه بالكلمات. كانت لحظة من تلك اللحظات التي يحسّ فيها الإنسان بأن شيئا ما في نفسه ينام، وشيئا آخر يستيقظ.


    سحر الماء



    عُرف عن المخرج السينمائي الروسي اندريه تاركوفيسكي حبّه الجارف للماء. ولا يخلو أيّ من أفلامه من عنصر ماء. تاركوفيسكي يشرح علاقته الحميمة بالماء بقوله: أحبّ الماء، خاصّة الجداول والغدران الصغيرة.
    البحر واسع جدّا، عادة لا أهابه بسبب رتابته.
    في الطبيعة أحبّ الأشياء الصغيرة. وأحبّ موقف اليابانيين من الطبيعة. إنهم يركّزون على فراغ محدود لكنّه بنفس الوقت يعكس اللانهائية.
    إن الماء عنصر غامض بسبب تركيبته. لذا يصلح للسينما كثيرا. لأنه ينقل الحركة والتغيير والعمق.
    في الحقيقة لا شيء في الطبيعة يفوق جماله جمال الماء.


    الجوقة الكونية


    الفيلسوف والمفكّر الاسباني ميغيل اونامونو اشتهر بعشقه للطبيعة. وكثيرا ما كان يمزج أفكاره الفلسفية بلمسات شاعرية. يقول واصفا إحدى تجاربه مع الطبيعة:
    وأنت تصعد أرضا أعلى أو ترقى الجبال، ستلاحظ أن الشاطئ قد تلاشى تماما وأن النجوم أصبحت قريبة جدّا من مجال البصر.
    انك لا ترى النجوم وتلمسها فحسب، وإنما تسمعها أيضا. تماما مثلما يمكنك سماع غناء الشمس على هيئة ذبذبات كهرومغناطيسية يصفها بعض العلماء بأنها أشبه ما تكون بقرع الطبول.
    إن النغمات الشمسية تشبه نظام السلّم الموسيقي، تتراوح ما بين البطء والسرعة، الارتفاع والانخفاض، بحسب ساعات اليوم.
    إذا كان هذا ما يمكن أن نسمعه من الشمس، أقرب النجوم إلينا، فماذا عن الجوقة الكونية العظيمة؟
    ماذا عن أغاني المجالات والمجرّات والأجرام الأخرى. وماذا عن أغاني القمر التي يصفها شاعر اسباني بقوله: إن القمر يغنّي في صمت. ويتعيّن على الإنسان أن يسمعه بعينيه، وأن يصغي بعمق إلى أغنياته المهدهدة البيضاء".


    رحلة اكتشاف


    أفكّر أحيانا أنني لو خُيّرت بين أن أكون أصمّ أو أكون أعمى لفضّلت الخيار الأول. ليس الأمر سهلا كما قد يتصوّر البعض. لكنّي منذ أن انتقلت من سماع ما يقوله الناس إلى رؤية ما يفعلونه، تغيّر العالم في نظري إلى الأفضل.
    شيئا فشيئا، تعوّدت على أن اكرّر ببطء نفس الشكاوى القديمة المحزنة التي تبتلعها هذه الطاحونة اليومية الثقيلة التي نسمّيها "الحياة".
    إن الأمر لا يتعلّق بالآخر بقدر ما يتعلّق بأنفسنا. فنحن نهتمّ كثيرا بما نفكّر فيه أو نقوله. لكنّنا لا نميل إلى إبداء نفس الاهتمام بما نفعله.
    هل تدرك ما تقوله؟ هنا يكمن أساس المشكلة. ومن هنا أيضا تبدأ الطريق نحو بوّابة الحرّية. أي عندما تنتقل من القول إلى الفعل، ومن الانطباع إلى الجوهر، ومن التفكير إلى النتائج.
    هذا التحدّي ماثل بوضوح في وجودنا الحالي المتخم بهذا الكم الهائل من المعلومات والبيانات التي تحاصرنا من كل جانب.
    إننا نجمع المعلومات كما لو أنها البلسم الذي سيمنحنا الخلود. المراهقون، مثلا، يحملون مئات الأغاني في أجهزتهم الاليكترونية لكي يشغّلوا اثنتين أو ثلاثا منها فقط. كما أننا نحفظ ايميلات لا نقرؤها مرّة ثانية أبدا. ونشتري مجلات وكتبا تتضمّن المزيد من الكلمات التي تريحنا، لكنّها تصرفنا عن مواجهة القضايا الحقيقية التي نعرف أننا يجب أن نناقشها ونجد لها حلولا.
    اعترافات، وعود، حلول، علاقات، التزامات يتعيّن الوفاء بها، تعديل سلوكيات وتغيير أنماط وعادات.. إلى آخره.
    رجال الدين يَعِظون، إنهم يفعلون هذا منذ ألف عام وسيستمرّون في ذلك لآلاف السنين القادمة. ومع هذا، لا يهمّ كثيرا ما الذي يقولونه أو ما الذي نسمعه. إن كلماتنا عندما تتكامل مع أفعالنا، عندها يحدث الترابط ويتحقّق الانجاز الذي لا يمكن حيازته أو شراؤه بالمال.
    يقول مارسيل بروست: إن رحلة الاكتشاف الحقيقية لا تعني البحث عن ارض جديدة. وإنّما أن يكون للشخص عينان جديدتان".
    يجب أن نستيقظ كلّ يوم وكلّ دقيقة وكلّ ثانية لنُسكِت الضجيج في رؤوسنا ونتوقّف عن قول الكلمات الرخيصة وننظر إلى ما هو ابعد من التظاهر والتلهّي بما لا طائل من ورائه. أي أن نركّز على الأفعال فحسب لأن الكلمات تدفن الحقيقة.
    إن أفعالنا هي من صنعنا وهي في النهاية كلّ ما نتركه وراءنا.
    ترى لماذا تطلّب الأمر هذه الكلمات الكثيرة لقول شيء هو في الأساس معلوم لمعظم الناس؟!


    غياب


    كلّنا معرّضون من وقت لآخر لأن نفقد أناسا نحبّهم. أقارب، أصدقاء، معارف، زملاء .. إلى آخره.
    لكن هل للفقد شكل؟ هل للغياب هيئة ما؟ هل يمكن الوقوف والتحديق في "غياب" من كان له بالأمس حضور ملموس، صلب ومتجسّد؟
    أحدهم قال لي مؤخّرا: نعم، إن الأمر أشبه ما يكون بيد تنسحب فجأة من إناء مملوء بالماء. عندما نفقد شخصا ما عزيزا، شيئا ما حميما، فإن العالم يُطبق من حولنا مثل الماء. لكن بالتأكيد، يظلّ ذلك الإحساس القويّ بأن شيئا ما يبقى، يقاوم الغياب، مثل بقعة في العين لا تبرح مكانها إلى الأبد.


    الورقة والسحابة


    إن كنت شاعرا، سترى بوضوح أن هناك سحابة تطفو على هذه الورقة.
    من دون سحابة، لا يوجد ماء.
    ومن دون ماء، لا يمكن للأشجار أن تنمو.
    وبدون أشجار، لا تستطيع أن تصنع ورقة.
    لذا فالسحابة هنا.
    إن وجود هذه الصفحة معتمد على وجود سحابة.
    لذا فالورقة والسحابة قريبتان جدّا من بعضهما.
    - نات هان، معلّم صيني


    سؤال


    لا أحد منّا يتذكّر حاله قبل ولادته. ولم أقابل أيّ شخص قال إنه أحسّ بالصدمة أو الألم قبل أن يأتي إلى هذه الدنيا.
    وإذا كان الوجود أرفع وأسمى منزلة من العدم، فقد كان يجب أن تكون ردّة الفعل على العدم سلبية، بصرف النظر إن كان يحدث قبل الحياة أو بعدها.
    إنني أتساءل أحيانا إن كان لهذا علاقة بالسبب في أننا نثمّن الحياة عاليا عندما نكون أحياء.
    إن قتل إنسان ما جريمة بشعة. أما أن ننكر على إنسان حقه في أن يولد، ابتداءً، فمسألة تافهة!
    إن النقاش حول الإجهاض يتركّز أساسا حول ما إذا كان يمثّل جريمة، وليس حول الاعتبارات الأخلاقية المتعلقة بحرمان الإنسان من حقّه في أن يولد.
    والامتناع عن إبداء رأي في المسألة هو شكل من أشكال رفض ذلك الحق، وإنْ ضِمناً.
    وهذا يثير سؤالا مهمّا: هل تفضّل أن تموت غدا، أو ألا تكون قد ولدت على الإطلاق؟
    ليست الإجابة هي ما يثير العقل ويشحذ الفكر، بل السؤال نفسه!


    تحوّلات اوفيد


    كان سرب من طيور البحر ما يزال يواصل تحليقه وانقضاضه في الفضاء البعيد.
    تطلّع هو إلى فوق وثبّت نظره على أحدها.
    في تلك اللحظة، كان جناحا الطائر قد اقتربا كثيرا من بعضهما.
    حدّق فيه مليّاً. لم يعجبه شكل منقاره.
    كان يتابعه بعينيه وهو يصعد من جديد، شيئا فشيئا، باتجاه قبّة السماء.
    وبدأ الجناحان يرسمان دوائر كبيرة ومتّصلة تأخذ شكل حرف O على خلفية من أفق ازرق غائم.
    وعندما وصل إلى أعماق الفضاء، تحوّل الطائر إلى نقطة صغيرة نائية.
    كان ما يزال يراقب المشهد. وفجأة داهمه شعور لا يُقاوَم بالأنا والرغبة الجامحة.
    إعتقد اوفيد أن الدوائر ترمز لأوّل حرف من اسمه.
    إنه حرف أساسي، متعلّق بالجوهر، مهيب، مرن وبيضاوي الشكل.
    وهو علامة، أو لعله إشارة، تؤكّد أن حلمه الذي طالما داعب مخيّلته يوشك أن يتحقّق.
    كان يتوق دائما لأن يُحمل عاليا إلى أعماق الفضاء وأن يحلّق بحرّية مثل الطيور وأن يمارس هناك "تحوّلاته" إلى الأبد.
    - جين أليسون


    Credits
    everydaypower.com