:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات كلي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات كلي. إظهار كافة الرسائل

السبت، يوليو 19، 2025

وقت للقطط


○ الوقت الذي نقضيه مع القطط لا يُعتبر وقتاً مُهدراً أبداً. سيغموند فرويد

يذهب بعض النقّاد الى أن اللوحة التي فوق هي أشهر لوحة في تاريخ الفن رُسمت لقطط. وهي للفنّان الأمريكي كارل كاهلر الذي رسمها عام ١٨٩١ وضمّنها ٤٢ قطّة معظمها من سلالة أنغورا التركية. وجاء رسم اللوحة بطلب من مليونيرة من سان فرانسيسكو كانت تُلقّب بملكة القطط، وأرادت من خلالها تكريم أصدقائها من القطط التي كانت تعيش معها.
ولأجل إنجاز هذه المهمّة، أقام الرسّام في قصر المرأة الذي كان يضمّ 300 قطّة وعددا من الكلاب الحائزة على جوائز وخيولا وماشية وطيورا مختلفة. وأمضى ثلاث سنوات وسط هذه المجموعة من الحيوانات والطيور بغرض رسم القطط والتعرّف على شخصياتها الفريدة.
وتظهر القطط في اللوحة بأمزجة وأنشطة مختلفة، فبعضها يستريح وبعضها يلعب وبعضها الآخر متجمّع حول فراشة. وفي منتصف اللوحة يظهر "سلطان"، وهو اسم قطّ جميل وضخم له عينان خضراوان وفرو أبيض وأسود، وهو يحدّق في الناظر. ويُقال إن المليونيرة اشترت هذا القطّ من باريس بمبلغ ثلاثة آلاف دولار.
بعد الشهرة الكبيرة التي اكتسبتها هذه اللوحة، تخصّص كاهلر، المولود في النمسا عام ١٨٥٦، برسم القطط طوال حياته. وقد دفعت له المرأة خمسة آلاف دولار أمريكي ثمناً للوحة، أي حوالي مائتي ألف دولار بسعر هذه الأيّام. وتردّد أنها تركت حوالي نصف مليون دولار في وصيّتها لرعاية القطط.
كثيرا ما يقال على سبيل الدعابة أن لهذه اللوحة "تسع أرواح"، فقد نجت من الزلزال الكبير الذي ضرب سان فرانسيسكو عام ١٩٠٦ وتسبّب في تدمير المدينة وفي مقتل الرسّام نفسه عن عمر لا يتجاوز الخمسين عاما. وهناك سبب آخر لهذا الوصف الطريف يتمثّل في كثرة الأشخاص الذين تعاقبوا على امتلاك اللوحة بعد موت صاحبتها الأصلية.
كارل كاهلر لم يكن أوّل ولا آخر فنّان يحبّ القطط، فقائمة عشّاق القطط من الفنّانين طويلة، من كليمت وماتيس وبيكاسو الى دالي واوكيف ورينوار وغيرهم. وربّما يعود سبب هذه الشعبية الكبيرة للقطط إلى أن كلّ قطّة هي بحدّ ذاتها عمل فنّي جميل ونابض بالحياة. وكلّ من يعيش مع قطّة يعلم أن كلّ حركة لها هي تعبير رشيق عن فطرتها الفنّية. لذا تتمتّع القطط بتلك الجاذبية الخفيّة التي تنسجم تماما مع طبيعتها الغامضة. ولا عجب أن العديد من الفنّانين والكتّاب البارزين يعتبرون القطط وسيطاً عابرا لأبعاد وعوالم متنوّعة.
وأكثر من هذا، فإن بعض الثقافات أدرجت القطط ضمن آلهتها. وأشهرها بالطبع الإلهة المصرية القديمة المسمّاة "باستت". وهناك العديد من الرسومات والنقوش الفرعونية على التوابيت والجدران تصوّر قططا أو آلهة برؤوس قطط. كما توجد مقابر مزيّنة لدفن القطط، ما يدلّ على ان القطط في مصر القديمة كانت تُرفع فوق مستوى المخلوقات الأخرى، وعند وفاتها كانت تُحنّط وتُدفن لتنتقل هي أيضا إلى الدار الآخرة.
وفي مصر أيضا، كان إيذاء قطّة يُعتبَر خيانة. وفي ذروة شعبية الإلهة القطّة باستت، كان قتل قطّة، حتى عن طريق الخطأ، جرماً يعاقَب عليه بالإعدام! وبصفتها "رسولة وخادمة للإلهة"، كانت القطط تُصوّر كثيرا في الفنّ المصري. ومن أمثلة ذلك تمثال قطّة من البرونز المصبوب والمزيّن بالمجوهرات موجود في المتحف البريطاني.


يقال إن أقدم قطّة أليفة معروفة في التاريخ عاشت في جزيرة قبرص قبل حوالي عشرة آلاف سنة. وكان تدجين القطّط مرتبطا بالتغيّرات الزراعية في المجتمع البشري. وقد كرّمت العديد من الثقافات القطّة باعتبارها صيّادا قويّا ومفيدا. متحف الإرميتاج الروسي في سانت بطرسبورغ ما يزال يوظّف الى اليوم أكثر من سبعين قطّة. ولهذا قصّة، إذ يقال إنه في عام 1795، كانت قاعات المتحف، الذي كان آنذاك قصرا، موبوءة بالجرذان، فوقّعت الإمبراطورة مرسوما بإرسال قطط الى القصر لتصيد الجرذان. ومُنحت تلك القطط صفة "صائدين رسميين" وأصبحت حيوانات أليفة مفضّلة لدى الروس.
وعلى الرغم من أن اليابان لم تشهد عمليات مطاردة للساحرات كتلك التي حدثت في أوروبّا في العصور الوسطى، إلا أنها تبنّت وجهتي نظر متباينتين عن القطط. فبعض الأساطير اليابانية تصوّرها كأرواح مسالمة، ولكن البعض الآخر يرى فيها كائنات شيطانية. وإحدى تلك الأساطير تحكي قصّة رجل قتل خادمه، ثم أسرّت والدة القاتل بأحزانها لقطّة قبل أن تنتحر. وهنا تلعق القطّة دم الأم وتصبح روحا شرّيرة تطارد ابنها القاتل.
ومن المثير للاهتمام أن نفس الصفات التي أدّت إلى تدجين القطط، وأحيانا تأليهها، كانت هي أيضا التي تسبّبت في شيطنتها. ومع هذه التناقضات الكبيرة في تمثيلاتها، من السهل معرفة سبب استمرار القطط في جذب انتباهنا وتخليدها في الفن.
مثلا، تركّز لوحة "طبيعة صامتة مع قطّة وجراد بحر" لبابلو بيكاسو على طبيعة القطّة المفترسة. بينما تقدّم لوحة "القطّ الأزرق" لآندي وارهول جانبها المرح. أما عن استخدام القطّة كرمز، فقد اشتهر ألكسندر شتاينلين بملصقه المشهور الذي رسمه لملهى "القطّ الأسود". وقيل ان اسم الملهى الباريسي مستوحى من قصّة لإدغار آلان بو بنفس الاسم.
وجود القطط حول الفنّانين هو بحدّ ذاته عنصر إلهام، حيث رسم رينوار وميري كاسات القطط الصغيرة، وربط مانيه الحداثة بالقط الأسود، وأعجب بيكاسو، عاشق الكلاب، بوحشية القطط البرّية. والفنّانون يقدّرون عادةً القطط لأنها تتطلّب اهتماما أقلّ وتتميّز باستقلالية أكبر. وأحيانا قد يكون استوديو الفنّان مكانا منعزلا ووجود قطّ فيه يُضفي عليه حيوية ما. ومثال هذا وارهول الذي بدأ حياته في شقّة مع والدته بصحبة 25 قطّة، وهو ما ألهمه رسم عدد من المطبوعات الحجرية الملوّنة لقطط.
كان بول كلي أيضا يربّي عددا من القطط التي أثّرت بشكل مباشر في أعماله. وكانت قطّته الأولى نموذجا للوحاته في عشرينات القرن الماضي. وقد رسم لوحة بعنوان "القطّ والطائر" توحي بأن من رسمها طفل، إذ كان كلي يعتقد أن الأطفال أقرب إلى مصدر الإبداع. وهناك أيضا الياباني تسوغوهارو فوجيتا الذي تظهر القطط كثيرا في فنّه. ومن أسباب حبّ اليابان الحديثة للقطط، أن مدنها كانت وما تزال موبوءة بالفئران، ومعروف أنه لا يخيف الفئران أفضل من القطط.
هذه مجرّد أمثلة قليلة عن الفنّانين الذين ألهمتهم قططهم بعض أعمالهم.
لكن لماذا يستمرّ هذا الانبهار والاهتمام بالقطط حتى اليوم كما يتّضح في الثقافة الشعبية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي وما سرّ جاذبيتها؟
يشير البعض الى أن مضاهاة وجوه القطط لوجوه الأطفال الصغار تثير حاجة بيولوجية فينا للرعاية والاحتضان. كما انه بسبب وجود القطط في الأساطير وكونها جزءا من بيئة سرد القصص الجماعية، فإننا ننجذب إلى تمثيلاتها العديدة. ومثل أسلافنا القدماء، فإن وجود القطّة كعضو ثمين في بيوتنا يدفعنا لتقديرها وتخليدها.

Credits
dornsife.usc.edu
Artnet.com

الاثنين، يونيو 23، 2025

خواطر في الأدب والفن


  • كان بيتهوڤن يضع على مكتبه دائما كتباً لبلوتارك وهوميروس وأوفيد وأبيكتيتوس ويقضي وقتا في قراءتها. واستمرّ يفعل هذا حتى عندما كان على فراش مرضه الأخير. في عصره، كانت ڤيينا تعيش حالة من "الحضارة اليونانية". وكان من عادته عندما يكون لوحده أن يسلّي نفسه بقراءة اليونانيين القدماء. وكان مُلِمّا بالأدب والفلسفة الإغريقية منذ صباه، كما كان على علم بالفلسفة الرواقية القديمة، وبخاصّة كتابات أبيكتيتوس. وكان هذا الأخير يرى أن الأهواء لا تنشأ إلا من عدم تحقّق رغباتنا، ما يفسح المجال للاضطرابات والأمراض النفسية ويتسبّب في حزن الإنسان وشعوره بالاستياء من الغير، وبالتالي عجزه عن الاستماع إلى العقل.
    وكان حلّ بيتهوفن لمشكلة الأهواء يشكل تحديّا. وقد أدرك أن ضبط النفس هو أحد الجوانب التي يجب عليه تحسينها. كما رفض هوس الرغبات المادّية ونأى بنفسه عن الترف والبذخ. ذات مرّة ذهب مع بعض أصدقائه لتناول الغداء في مطعم. ولما لاحظ كثرة الطعام على المائدة قال: لماذا كلّ هذه الأطباق؟ هذا طعام كثير، من سيأكله؟! إن الإنسان لا يرتقي فوق مستوى الحيوانات الأخرى إذا كانت ملذّاته الرئيسية تنحصر في الطعام والشراب فقط".
  • ❉ ❉ ❉

  • أثناء محاضرة عن الغرب الأمريكي والأمريكيين الأصليين، ذكر الأستاذ أن الأوربّيين كانوا يصفون السكّان الأصليين "بالهمج" لأساليبهم "البدائية" في القتال وسرقتهم فروة الرأس. وتساءل: كيف يكون الاوربّيون أقلّ همجية وهم قادرون على قتل إنسان بإحداث ثقب صغير في جسده وإنهاء حياته؟!" في ذلك الوقت، كان رصاص البنادق يسبّب أضرارا داخلية مروّعة وتسمّماً للجسم.
    واستعاد الأستاذ كلاما بليغا للزعيم الهندي پونتياك عندما قال عن المستعمرين الأوربيين: لقد جاؤوا ومعهم الكتاب المقدّس، فسرقوا أرضنا وسحقوا أرواحنا. والآن يقولون لنا إنه يجب علينا أن نشكر الربّ على خلاصنا!".
    وشبيه بكلام پونتياك قول الزعيم الافريقي جومو كينياتا: عندما وصل المبشّرون الاوربيون الى بلادنا، كنّا نملك الأرض وكان لدى المبشّرين الكتاب المقدّس. وقد علّمونا كيف نصلّي وأعيننا مغمضة. وعندما فتحناها، وجدناهم تركوا لنا الكتاب المقدّس وأخذوا الأرض!". وفي كلا الحالتين، كان الاوربّيون يحملون الإنجيل بيد وبالأخرى البندقية. وحيث فشل الأوّل، أثبت الثاني فعاليته.
    وما يثير الفضول حقّا هو طريقة تعامل الڤايكنغ مع السكّان الأصليين عندما وصلوا الى القارّة لأوّل مرّة. يقول بعض هنود أمريكا الشمالية الذين تواصلوا مع الڤايكنغ لأوّل مرّة أن كلّ ما فعلوه هو مقايضة الأسلحة بلُباب الخشب، ثم رحلوا بسلام. كانوا أكثر سلميةً من الأوربيين الآخرين برغم ما يقال عن توحشّهم، أما من يُفترض أنهم متحضّرون فقد كانوا الأكثر قتلا وتدميرا.
  • ❉ ❉ ❉

  • الملاك الجديد "أو أنجيلوس نوڤوس" هو اسم هذه اللوحة التي رسمها الفنّان السويسري الألماني بول كلي عام 1920. وقد اشتراها صديق الفنّان، الناقد والفيلسوف الألماني ڤالتر بنيامين. وعندما اضطرّ الأخير للفرار من ألمانيا عام ١٩٣٣، أخذ اللوحة معه إلى المنفى في باريس. وعندما غزا النازيون فرنسا، قرّر بنيامين الهرب من هناك مجدّدا وعهد باللوحة، مع أوراق مهمّة أخرى، إلى الكاتب جورج باتاي الذي أخفاها في المكتبة الوطنية في باريس حيث كان يعمل. وقد قُبض على بنيامين على الحدود الإسبانية، وانتحر في سبتمبر 1940.
    وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، سلّم باتاي الصورة طبقا لوصيّة بنيامين الأخيرة إلى باحث بارز في التصوّف اليهودي كان قد هاجر من ألمانيا إلى فلسطين عام 1923. وتُظهر اللوحة ما يُفترض أنه ملاك يحدّق بفم مفتوح في شيء مزعج محاولا الابتعاد عنه. وكان ڤالتر بنيامين قد استشهد باللوحة في مقالة فلسفية له، واصفا التاريخ باعتباره "دورة لا تتوقّف من اليأس والحطام".
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • لكلّ كاتب مسرحيّ رؤيته الخاصّة عن أوديسيوس بطل ملحمة "الأوديسّا". البعض يرونه بطلاً ذكيّاً فحسب. لكن يوريپيديس يقدّم عنه نسخة أكثر قتامة وتعقيداً ويميل إلى تصويره كشخصية ميكاڤيللية بدائية، بينما يميل سوفوكليس أكثر إلى ذكر عيوبه المأساوية.
    يبدو أن يوريپيديس كان أكثر تشكّكا في الطبيعة البشرية. وهو يرى المأساة شيئا إلهيّا تقريبا، بينما يراها سوفوكليس نتيجة ضعف بشريّ وأنظمة معيبة. سوفوكليس كتب في ذروة قوّة أثينا، بينما شهد يوريپيديس بداية انهيارها. وفي اليونان وحتى اليوم، تُدرّس الأوديسّا في الصف السابع، على يسار الكتاب النصّ الأصلي لهوميروس وعلى يمينه النسخة اليونانية الحديثة. دائما هناك شيء خالد في إعادة سرد الأساطير وإعادة صياغتها.
  • ❉ ❉ ❉

  • بعض المجتمعات تعتبر تمجيد الأسلاف طقسا قبوريّاً ووثنيّاً، ومع ذلك فهي مهووسة بعلم الأنساب والأصل والفصل، ويمكن لبعض العائلات في تلك المجتمعات أن تتعقّب تاريخ أسلافها إلى ما قبل مئات الأعوام، لكنها لا تستطيع أن تخبرك أين كان أطفالها الليلة الماضية! هذه المجتمعات تنكر تكريم الموتى وتأنف من كلّ ما يذكّر بهم، وفي المقابل هناك من يرى أن تذكُّر الأسلاف عمل مشرّف وواجب، وهو ممارسة قائمة منذ فجر التاريخ. لذا عندما تضع بعض المجتمعات الأزهار على قبور موتاها، لا غرابة أنها تشعر بالارتباط، ليس بهم فحسب، بل بأجيال من البشر الذين رحلوا عن هذه الحياة وعانوا من التجاهل والنسيان. يقول حكيم صيني قديم إن نسيان الأسلاف هو بمثابة "أن تكون جدولا بلا منبع وشجرة بلا جذور".
  • ❉ ❉ ❉

  • النقطة الأساسية في رواية "المحاكمة" لكافكا هي أنه لا يوجد سبب لاعتقال بطلها جوزيف ك، ولا سبب لمحاكمته، باستثناء جعله يذعن ويعاني. والرواية نفسها تبدأ بهذه العبارة: لا بدّ أن شخصا ما كان يلفّق الأكاذيب عن جوزيف ك، لأنه -دون أن يرتكب أيّ خطأ- قُبض عليه في صباح يوم جميل".
    وفكرة الكتاب هي أنه حتى لو لم تشعر بأنك مذنب، فربّما تصبح مذنبا حتى لو ثبتت براءتك في محكمة قانونية. فهذا لا يؤكّد إدانتك فحسب، بل يؤكّد أيضا إدانة النظام القانوني الذي وجدك بريئاً! كتابات كافكا تشير إلى الطبيعة التعسّفية لإساءة استخدام السلطة. فإن كنت تشعر بأنك مضطهد من قبل سلطة تكرهك ولا يقلقها أنها شرّيرة، فأنت تنتمي إلى عالم كافكا.
  • ❉ ❉ ❉

  • يشير الكاتب الإيطالي جيانلوكا ديدينو الى أن الرومانسية المبكّرة كانت فلسفة متطرّفة قامت على تمسّك شبه متعصّب بقيم الفرد وولاء لعالمه الخاص، وهو ما كان غالبا يودي بحياة أتباعها. وقد مات العديد من الرومانسيين الأوائل في سنّ مبكّرة، أو أظهروا ميلاً لتدمير الذات لم يشاهَد في حركات ثقافية مماثلة في أوروبّا. أمّا من نجوا، فقد عاشوا حياة صعبة. حتى الحبّ، كما اعتقدَ الرومانسيون الأوائل، لا بدّ أن يكون مؤلما كي يكون حقيقيّا.
    ويضيف أنه من أجل إضفاء طابع رومانسيّ على العالم، آمن الرومانسيون بأنه يجب أن تبقى الآفاق البعيدة بعيدة إلى الأبد، والرغبات غير المشبعة كذلك إلى الأبد. ولم يكن الموت في سنّ مبكّرة مجرّد حادث أو نتيجة حياة عاشها الإنسان بسرعة وشقاء، بل كان جزءا أساسيا من المشروع الرومانسي. فقد مات كيتس وبوليدوري في الخامسة والعشرين من عمرهما، ونوڤاليس في الثامنة والعشرين، وشيلي في التاسعة والعشرين، واللورد بايرون في السادسة والثلاثين.
    كان الرومانسيون، بحسب الكاتب، يؤمنون بأنه ما من سبيل أفضل ولا أسمى من الموت عندما تفشل في تحقيق آمالك أو تطلّعاتك البعيدة. وليس من قبيل الصدفة أن يضِلّ أولئك الذين لم يموتوا في شبابهم طريقهم وينتهي بهم الأمر إلى الجنون أو الفقر أو التعصّب أو انعدام الأهمية.

  • Credits
    beethoven.de
    paulklee.net

    الخميس، فبراير 27، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • "المعمار" هو اسم اللوحة التي فوق، والتي رسمها بول كلي في عام 1923 كجزء من سلسلة لوحات "المربّعات السحرية" التي تتناول الأنماط والأشكال البسيطة والتضاريس. وتتكوّن اللوحة من نمط منتظم لمربّعات ذات ألوان مختلفة ومتمايزة.
    ويُنظر إلى هذا العمل على نطاق واسع باعتباره انعكاسا لطبيعة الإيقاع والتكرار والتشابه كما يراها الفنّان. في ذلك الوقت، كان الموسيقيّ النمساوي أرنولد شوينبيرغ قد وضع نظاما ثوريا جديدا في الموسيقى يتألّف من 12 نغمة. والكثير من النقّاد يعتبرون "المعمار" انعكاسا لفكرة شوينبيرغ الكميّة والمنطقية للموسيقى باعتبارها كيانا هندسيّا ورياضيّا وليست فقط مشاعر وتأمّلات. وقد نُظر الى عمل الرجلين في ذلك الوقت على أنه مبتكر للغاية ومختلف تماما.
    ويقال إنه لم يستكشف فنّان آخر مجال الأشكال الهندسية الأوّلية بمثل ما فعل كلي. فقد استخدم الهندسة، ليس فقط من أجل خلق حقائق تصويرية نقيّة، ولكن أيضا لشرح الحياة العضوية. وفي عام 1930، كتب ناقد يُدعى رينيه كريفيل قائلا: إن أبسط الموادّ والكلمات أو الألوان تعمل كوسيط بين العالم الخارجي والمتلقّي. والشعر هو اكتشاف العلاقات غير المتوقّعة بين عنصر وآخر. والرسّام الذي يجد الشعر في أكثر أشكال الهندسة جفافاً يستطيع أن يعرف كيف يصعد الى السطح بعد أن يغوص".
    وهناك من رأى في سلسلة "المربّعات السحرية" انعكاسا للنهج الفلسفي الرومانسي الذي كان كلي يتبنّاه تجاه الحياة. فقد كان يعتقد أن الكون الذي نراه ما هو الا مظهر وانعكاس لشيء آخر. ويمكن أن تكون المربّعات في اللوحات رمزا للكون ككل، فهي كتل بِناء تبدو ذات قيمة وأهمية جوهرية.
    ناقد آخر يُدعى وِل غرومان قارن سلسلة المربّعات السحرية بالبحث الموسيقي المعاصر، وخاصّة نظام النغمات الاثنتي عشرة الذي ابتكره شونبيرغ، فقال: وجدت بين أوراق كلي ورقة صغيرة عليها مخطّط لإحدى لوحاته. كانت الأرقام مكتوبة في المربّعات، وسلسلة من الأرقام تسير أوّلاً في اتجاه واحد ثم في الاتجاه الآخر متقاطعةً مع بعضها البعض. وعندما تُجمع الأرقام على طول الخطوط الأفقية والرأسية، يصبح المجموع متساويا، كما هو الحال في المربّع السحري الشهير".
    في بحثه النفسي عن الأشكال الهندسية الأكثر بدائية والبنية الداخلية للمادّة ومصفوفاتها وأشكالها الإيقاعية، يجد كلي مبدأ فعّالاً للتنظيم يقوم على نفس الأساس الذي ينهض عليه الكائن الخلاق والكون المخلوق. إنه يعمل بجد على اكتشاف إيقاع "الطبيعة العظيمة" ثم يضعه كحركات غريزية أو مراكز حضرية.
    وكان كلي قد قال مرّة ان الفنّ البصري لا يبدأ بمزاج أو فكرة شعرية، بل ببناء شكل أو أشكال متعدّدة أو بتناغم عدد قليل من الألوان أو الظلال، أو بحساب للعلاقات المكانية. وكانت لوحاته المربّعة قد بدأت بمربّعات من الألوان المتناثرة في أشعّة الشمس. ثم أصبح بعضها مصحوبة بمثلثّات توحي بالأسقف وبأنصاف دوائر تلمّح إلى قباب المنازل أو المساجد التي رآها أثناء زيارته للمغرب.
    وقد أصبحت لوحاته هذه أكثر تعقيداً، حيث تكرّرت كأشكال هندسية صغيرة على القماش بما يشبه الهيروغليفية، مع تلاعب بدرجات الألوان. وبينما كان يبحث عمّا أسماه "الإيقاع البصري"، أصبحت رسوماته الخطّية أكثر تجريبية، أحياناً على خلفية بيضاء، وأحياناً أخرى على قماش ملوّن. وأصبحت الخطوط المعقّدة والمتكرّرة، مثل النوتات الموسيقية، تقترن بعناوين مثل "عمارة الغابات" و"منظر لمحمية جبلية" و"معبد منحوت في الصخر" أو "أسماك في سيل".
    في أوائل عام 1921، انضمّ كلي إلى مدرسة باوهاوس، وهي المدرسة الحكومية الجديدة للفنون والتصميم في فايمر بألمانيا والتي سرعان ما ضمّت كاندنسكي إلى هيئة تدريسها. وغطّت دورات كلي جميع الفنون والحرف اليدوية، من الرسم والتلوين إلى تجليد الكتب والزجاج الملوّن وتصميم المنسوجات. وكانت تلك فترة خصوبة غير عادية في حياته حيث تمكّن من اختبار نظرياته من خلال فنّه وتدريسه.
    ومع تنامي شهرة بول كلي على المستوى العالمي، بدأ صعود النازيّة بانتخاب هتلر مستشارا لألمانيا في مارس 1933، فعُطّلت مدرسة باوهاوس وطُرد كلي من عمله في أبريل 1933. ثم عُرض 17 من أعماله في معرض "الفنّ المنحطّ" النازيّ في ميونيخ. وفي ديسمبر من ذلك العام، فرّ هو وعائلته من ألمانيا إلى مسقط رأسه في بيرن بسويسرا. وكانت السنوات التي تلت ذلك صعبة. ففي عام 1935، أصيب الرسّام بمرض جلدي مميت يُسمّى تصلّب الجلد.
    وفي عام 1940، وهو عام وفاة كلي، رسم شخصا مركّبا من عيدان ثقاب على خلفية حمراء وداخل إطار أسود. ثم كتب خطاب وداعه للعالم وهو عبارة عن بضع كلمات نُقشت على شاهد قبره يقول فيها: لم أعد مقيّدا الآن، لأنني أعيش أيضا مع الموتى، كما هو حال الجنين، أقرب إلى قلب الخلق من المعتاد".
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • يرى تيم برينكوف أن "الهوبيت" مثال واضح على ما يسمّيه جوزيف كامبل "الأسطورة الواحدة" أو "رحلة البطل". وهذا المفهوم، الذي تستند إليه دراسته التي استمرّت طيلة حياته للأساطير والحكايات من مختلف أنحاء العالم، هو مخطّط سردي مشترك بين العديد من القصص المعروفة. أي أن كلّ الأساطير تقريبا يمكن اختصارها في رحلة البطل.
    ويمكن تقسيم الرحلة التي صاغها كامبل في كتابه "البطل ذو الألف وجه" الصادر عام 1949، إلى مراحل: يتلقّى البطل دعوة للمغامرة، يلتقي مرشدا ملهِما، يترك وطنه ويواجه العقبات والأعداء والحلفاء، يفشل في تحقيق الهدف، يحاول مرّة أخرى وينجح، وأخيرا يعود إلى أرض الوطن بالمكافأة.
    في رواية الهوبيت لـ توكين (1937)، تنقلب حياة بيلبو باغينز الهادئة الخالية من الأحداث رأسا على عقب بسبب وصول الساحر غندالف المفاجئ، الذي يسأله ما إذا كان يرغب في الذهاب في مغامرة. ولأنه غير راغب في استبدال محيطه المريح بالمجهول العظيم، يرفض بيلبو عرض غندالف.
    ولا يقرّر الهوبيت المتكبّر مرافقتهم ومساعدتهم في استعادة وطنهم المهجور إلا بعد أن يشكّك الأقزام في فائدته. ورغم عدم تأكّده في البداية من قدراته، يثبت بيلبو أنه أهمّ أفراد المجموعة، حيث ينقذهم من الخطر مرارا. وبعد المساعدة في هزيمة التنّين سموغ، يعود بيلبو إلى شاير وهو أكثر حكمةً وسعادةً وثقة.
    لم يغيّر كامبل الطريقة التي ينظر بها الناس إلى القصص القديمة فحسب، بل غيّر أيضا كيفية سرد القصص الجديدة. لكن انتشار اسمه في كلّ مكان كان سبباً في حجب الانتقادات المهمّة التي وُجّهت إلى رحلة البطل. فقد نُشر كتاب "البطل ذو الألف وجه" قبل أكثر من 75 عاماً، في وقت كانت فيه المواقف والظروف الثقافية مختلفة.
    فهل الأسطورة الأحادية حقّاً متجانسة وعالمية كما ادّعى كامبل؟ تشير قائمة من رواة القصص القدامى والمعاصرين الذين انحرفوا عن رحلة البطل إلى أن الأمر ليس كذلك.
    لا شكّ أن جزءاً من جاذبية الأسطورة الواحدة ينبع من التأثيرات المتنوّعة التي تأثّر بها كامبل. فأثناء دراسته في باريس وميونيخ، رأى بعض لوحات بابلو بيكاسو وهنري ماتيس، الفنّانين اللذين نظرا إلى ما هو أبعد من موضوعاتهما لفهم كيفية إدراك الناس للعالم. كما أهتمّ بالمحلّلين النفسيين سيغموند فرويد وكارل يونغ، اللذين كتبا عن العمليات العقلية التي تقع غالبا خارج نطاق فهمنا وسيطرتنا كأفراد.
    وبعد أن تعرّف كامبل على الفلسفة والأساطير الهندوسية، لاحظ بسرعة أوجه التشابه السردية والموضوعية بين التقاليد الأوروبية والآسيوية. وكان الأمر اللافت للنظر بنفس القدر هو الصلة الدائمة التي اكتسبتها هذه الحكايات القديمة بالنسبة لرواة القصص المعاصرين مثل جيمس جويس، الذي تُعتبر روايته المشهورة "يوليسيس" إعادة تصوّر حديثة لرواية هوميروس التي نالت استحسانا مماثلاً.
    هذه التأثيرات المتنوّعة وذات الصلة أقنعت الباحث الشابّ كامبل وبطريقة ما أن "جميع الأساطير والملاحم مرتبطة في النفس البشرية، وأنها مظاهر ثقافية للحاجة إلى تفسير الحقائق الاجتماعية والكونية والروحية".
    شعبية الأسطورة الأحادية في الغرب يمكن تفسيرها أيضاً من خلال تأكيدها على الفردية، أو فكرة أن الناس قادرون على تحويل أنفسهم وإعادة تشكيل العالم على صورتهم نتيجة للتطوّر الشخصي.
    وكان كامبل - والكلام لبرينكوف - يعتقد أن عناصر الأسطورة الأحادية تتحدّث مباشرة إلى اللاوعي الجماعي، أي إلى الصور والقيم التطوّرية المدفونة في أعماق النفس البشرية، وبالتالي فهي مشتركة بين البشر كلّهم، بغضّ النظر عن الفترة التاريخية التي يولدون فيها أو الثقافة التي ينتمون إليها. ولهذا السبب، أشار كامبل إلى الأحلام باعتبارها "أساطير شخصية" والأساطير باعتبارها "أحلاماً شخصية". وكان يعتقد أن الأسطورة الأحادية تجسيد تجريدي للنموّ، فالبطل الذي يقتل التنّين هو استعارة لمواجهة انعدام الأمن والعيوب التي نعاني منها والتغلّب عليها.
    وفي حين يمكن تلخيص سرديات مثل قصّة موسى في سفر الخروج والمعركة بين موردوك وتيامات في أساطير الرافدين على أنها رحلات أبطال، فإن العديد من الحكايات القديمة الأخرى، مثل أوديب والحكايات الشعبية، بل ومعظم أساطير الخلق لا يمكن اعتبارها كذلك.
    لم تكن ثقافات العالم القديم تمتلك آلهة ووحوشاً فريدة فحسب، بل كانت تمتلك أيضاً تقاليد سردية متميّزة. فأشكال السرد الهندية مثلا تختلف كليّا عن الأشكال الغربية. ولو شاهدتَ فيلماً من إنتاج بوليوود، فستلاحظ أنه في لحظة ما قد يتحوّل الفيلم إلى قصّة رومانسية، ثم يتحوّل إلى فيلم إثارة، ثم إلى فيلم موسيقي، ثم يتحوّل إلى فيلم فنون قتالية، وهو ما قد يربك الجمهور الغربي، ولكنه طبيعي تماماً بالنسبة للجمهور الهندي.
    وتزعم بعض الباحثات النسويات أن العديد من الشخصيات البطولية في الأساطير والأدب ليست مثيرة للإعجاب كما كانت في السابق، وأن الاهتمام الذي يُبديه باحثون مثل كامبل لهذه الشخصيات يعادل تمجيد العنف والعدوان والهياكل الاجتماعية الأبوية. وهذا انتقاد قاسٍ، رغم أن له ما يبرّره. فكتاب "البطل ذو الألف وجه" يركّز على الأبطال الذكور الذين يسعى العديد منهم إلى إنقاذ أميرة.
    وبصرف النظر عمّا تعتقده بشأن كامبل وعمله، لا يمكن إنكار أن رواة القصص المعاصرين يبتعدون تدريجيّا عن الأسطورة الأحادية. فبدلاً من قبول رحلة البطل بشكل أعمى، يفضّل العديد من صنّاع الأفلام الآن تفكيكها وإنشاء قصص عن شخصيات تبدو وكأنها أبطال، لكنها تتحوّل إلى أشرار أو تنانين وما الى ذلك.

  • Credits
    paulklee.net
    bigthink.com

    الأربعاء، يوليو 16، 2014

    بورتريه لـ كارل يونغ

    ما تزال الإشادة بكارل يونغ مستمرّة إلى اليوم باعتباره عالما ثوريّا استطاع أن يغيّر أفكارنا عن علم النفس وقدّم للغرب الروحانية الشرقية وعرّف الناس بعدد من المفاهيم المهمّة.
    الكاتبة والمؤلّفة كلير دون تتحدّث في هذا الكتاب بعنوان "مُداوي الأرواح العليل: بورتريه لكارل يونغ" عن رحلة يونغ لاكتشاف الذات، منذ طفولته إلى بدايات مراهقته وحتى بلوغه ورجولته، بما في ذلك إعادة اكتشافه للروحانية في منتصف عمره.
    كما تتناول المؤلّفة العلاقة الصاخبة التي ربطت يونغ بمعلّمه في احد الأوقات، أي سيغموند فرويد، والدور الهام لتلميذه توني وولف، والرؤى الكاشفة التي خَبِرها يونغ بعد مواجهة عن قرب مع الموت.
    ويضمّ الكتاب أيضا مجموعة من الصور ليونغ وزملائه والبيئات التي عاش وعمل فيها، بالإضافة إلى عدد من اللوحات الفنّية القديمة والمعاصرة التي تعكس تعاليم وأفكار يونغ.
    الفكرة التي تتردّد في أكثر من مكان من الكتاب هي أن مهارة كارل يونغ كمداوٍ ومعالج كان من أهمّ أسبابها اهتمامه المباشر بجروح الآخرين وبجروحه هو.
    وفكرة عنوان الكتاب، "أي المداوي العليل"، اقتبسته المؤلّفة من الأسطورة اليونانية القديمة التي تحكي عن شيرون الذي كان طبيبا يُضرب به المثل في براعته. وقد تعرّض لسهم مسموم أطلقه عليه هرقل. لكن لأنه لم يستطع أن يداوي نفسه، فقد عانى بعد ذلك من جرح لم يندمل أبدا. والعنوان يشير أيضا إلى أن الأذى الذي يتعرّض له الطبيب نتيجة معايشته لمعاناة الناس هو الذي يمنحه جزءا من قدرته على مشافاة جراح الآخرين.
    تقول المؤلّفة في مقدّمة الكتاب إن أمنية حياتها كانت أن تكتب سيرة لحياة كارل يونغ لأنه كان وما يزال بالنسبة لها صديقا قديما وكثيرا ما تلتقي به في الأحلام.
    وتضيف أن رسائله أداة مهمّة للكشف عن شخصيّته. وبعض تلك الرسائل مباشرة ومرحة وغنيّة ومحلّقة. كما أنها تحتوي على خلاصة أفكاره وتكشف عن شخصيّة رجل روحانيّ ومتجذّر في الأرض. ويمكن أن يقال نفس الشيء عن سيرته الذاتية وعن كتاباته العلمية. ومن كلّ هذه الكتابات تستطيع أن تتعرّف على كفاح يونغ وكيف وصل إلى ما وصل إليه.
    كان كارل يونغ يحبّ الطبيعة ورحلات القوارب والنحت والرسم. وجميع هذه الاهتمامات كانت تتعايش جنبا إلى جنب مع المداوي الروحاني الرائد والمفكّر والعالم.
    في الثلاثينات من عمره، بدا كما لو أن يونغ جمع الامتيازات كلّها: وظيفة مرموقة، وصداقة مع فرويد تشبه علاقة الأب بابنه، ورئاسته لرابطة علماء النفس العالمية، وأيضا تمتّعه بحياة زوجية هادئة ومستقرّة.
    وفي سنّ الأربعين، أي بعد انفصاله المؤلم عن فرويد، بدأ استكشافاته ودراساته عن الأحلام ومستويات الروح والحدس.

    كان كارل يونغ يقول عن نفسه: أنا صراع المتضادّات". فقد كان متزوّجا من امرأتين بنفس الوقت وعاش معهما على الملأ لأربعين عاما. وقد وصفه احد الكتّاب في أوقات ضعفه وقوّته بأنه كان الإنسان العظيم الوحيد الذي عرفه.
    وتشير المؤلّفة إلى أن يونغ كتب كثيرا عن الظلّ والشخص النقيض وعن تحليل الأحلام وعملية الخيال النشط. وهي كلّها محطّات على الطريق إلى قبول أنفسنا كما هي. وقد استمدّ أفكاره من تجاربه ومن مرضاه ومن اكتشافه للثقافات والكتابات القديمة.
    أسفاره إلى أفريقيا والهند وأمريكا كانت مهمّة بالنسبة له. وقد استفاد منها، كما استفاد من دراساته للغنوصيّة "أو اللاأدرية" والخيمياء وسخّرها لتأليف كتاب عن اليوغا الصينية.
    كان يونغ يرى في الكبت الروحي مرض العصر والمشكلة الكبيرة لمرضاه الذين هم في منتصف العمر. وكان يعتقد أن لا احد يمكن أن يُشفى حقّا ما لم يستعد موقفه الديني، الذي لا علاقة له بالعقائد أو الانتماء إلى الكنيسة. كما ناقش قضايا فلسفية، مثل الخير والشرّ والمسيحية والجانب المظلم من فكرة الإله والانصهار الصوفيّ.
    وقد أثارت أفكاره جدلا واسعا ونقاشا مع العديد من رجال الدين والمفكّرين من الشرق والغرب. والكاتبة تورد أمثلة عن تلك السجالات، وتنقل عن يونغ قوله ذات مرّة بحنق: هؤلاء يريدون أن يحرقوني كزنديق من القرون الوسطى".
    كان يونغ يردّد أن الربّ هو سرّ الأسرار وأن الحضور الإلهي محسوس في كلّ شيء. وذات مرّة سأله صحفيّ بريطاني: هل تؤمن بالله؟ فأجاب: لا احتاج لأن أؤمن وأنا اعرف". شاهد الرخام على قبره صمّمه هو بنفسه ونقش عليه هذه العبارة: الربّ حاضر سواءً نودي أم لم يُنادى".
    تقول المؤلّفة كلير دون إنها ترى في يونغ نموذجا لإنسان صيغ من اجل زماننا هذا. وتعيد إلى الأذهان قوله انه لا يريد من احد أن يتخذه مثالا. "أريد من كلّ إنسان أن يكون هو نفسه. ولو أراد إنسان في يوم من الأيّام أن يصنع لي مدرسة أو نهجا، فمعنى هذا أنني فشلت في كلّ ما حاولت أن أفعله".
    بالقرب من نهاية حياته، لم يكن كارل يونغ مجرّد عالم نفس ولا فنّان رؤيوي، ولكنه كان إنسانا حكيما فهم ارفع وأسمى ما فينا كبشر.
    ومن عباراته المشهورة قوله إن الوحدة لا تعني عدم وجود أشخاص حول الإنسان، بل تعني عجزك عن إيصال الأشياء التي تعتبرها مهمّة، وعدم قدرتك على المجاهرة بوجهات نظر معيّنة يعتبرها الآخرون غير مقبولة.
    المؤلّفة كلير دون ولدت في ايرلندا وتقيم في سيدني بأستراليا منذ عدّة سنوات. وقد ألقت محاضرات عدّة عن يونغ، كما أشرفت على عدد من البرامج الوثائقية عن فرويد.
    وكتابها هذا عن سيرة حياة كارل يونغ ضروريّ لأيّ شخص مهتمّ بعلم النفس وبالروحانية وتطوير الذات. وهو يتضمّن حوالي 150 صورة قديمة وحديثة ليونغ، بالإضافة إلى لوحات لرينيه ماغريت وبول كلي ويونغ نفسه وبعض الأعمال الفنّية من الثقافات القديمة.

    Credits
    watkinsbooks.com
    shiftfrequency.com

    الجمعة، نوفمبر 05، 2010

    نافذة على عالم بول كْلِي

    تمتلئ لوحات بول كْلي بالرموز الخفيّة التي قد تبدو للوهلة الأولى معقّدة أو خالية من أيّ معنى. لكن عندما نقترب من تلك الرموز محاولين تفسيرها في سياق الأسلوب الذي كان الفنّان يستخدمه في لوحاته، فإن فهم فنّه يصبح مهمّة سهلة وبسيطة.
    جينيفر شيبون تتحدّث في المقال المترجم التالي عن الزمن والأسماك والمربّعات السحرية في فنّ الرسّام السويسري المشهور.
    لكي نفهم لوحات بول كْلِي والمعاني والرموز الكامنة في صوره، علينا أوّلا أن نعرف شيئا عن حياته وشخصيّته. كان كْلِي رسّاما تعبيريا سويسريا عاش من عام 1879 إلى عام 1941م. وقد نشأ في كنف عائلة تهتمّ بالموسيقى وكان يعزف الكمان في شبابه.
    في الجامعة لقي كْلِي صعوبة في الاختيار بين أن يتخصّص في الموسيقى أو الفنّ. لكنّه في النهاية قرّر أن يختار الفنّ. ولهذا السبب كان يميل إلى وصف لوحاته بتعابير ومفردات موسيقية. كما كان، بوعي، يرسم لوحاته بطريقة تثير شعورا بالأنغام والإيقاعات الموسيقية.
    وقد مات بول كْلِي في عام 1940، أي عند بداية الحرب العالمية الثانية متأثّرا بمضاعفات إصابته بمرض تيبّس الجلد الذي عانى منه طويلا وشوّه ملامحه وشلّ أطرافه.
    وفنّه يحتوي على مزيج من التأثيرات السوريالية والتكعيبية والبدائية.
    "سحر السمك" اسم لوحة رسمها بول كْلِي عام 1925 مستخدما ألوانا زيتية ومائية. وقد رسم في اللوحة ما يبدو وكأنه ساعة وكواكب ومهرّج وشخص يشير بيده. وفي منتصف اللوحة يظهر مربّع كبير من مادّة إضافية تمّ إلصاقها برقعة الرسم باستخدام الغراء.
    وليس من الواضح ما إذا كان كْلِي وضع المربّع هناك كي يخفي خطئاً ما أو انه وضعه على الرقعة متعمّدا من اجل إنتاج تأثير فنّي من نوع ما.
    وفي كلا الحالتين، فإن وجود انعكاس معتم من الستائر إلى أعلى يسار المربّع يكشف عن نيّة الرسّام في أن تكون هذه صورة ضمن صورة.
    رسم بول كْلِي لوحات كثيرة تُظهِر أسماكا. غير أن هذه اللوحة تختلف عن لوحات الفنّان الأخرى عن الأسماك في أنها الوحيدة التي تتضمّن صورا لأشياء لا توجد عادة في البحر. مثلا، في منتصف اللوحة هناك شكل لساعة، وغير بعيد عنها دائرة أخرى تضمّ بداخلها ما يشبه الكوكب. هاتان الدائرتان ترمزان على الأرجح للقمر والشمس اللذين يتكرّران كثيرا في لوحات الرسّام. وبعض النقّاد يقولون إن كْلِي إنما كان يقارن بين زمن الأرض المحدود وزمن السماء اللانهائي، وهو احد مواضيعه المفضّلة.
    وعند تفحّص هذه اللوحة عن قرب، سنكتشف أن وجه الساعة لا يتضمّن الأرقام المألوفة الموجودة على كلّ ساعة، بل يحتوي على أربعة أرقام فقط هي واحد واثنان وخمسة وتسعة. وعند إعادة ترتيب هذه الأرقام وفق نسق معين فإنها تشير إلى 1952، أي السنة التي رسم فيها الفنّان اللوحة.
    موضوع الزمن يتكرّر كثيرا في أعمال بول كْلِي. وهو كان يرى أن جميع البشر وإبداعاتهم منصاعة لقوانين الزمن. وفي لوحاته، فإن الزمن أعظم من مجرّد اتّحاد روحين أو دينين أو أيّ فكرتين أو بنائين من صنع الإنسان. الزمن اكبر حتّى من نفسه لأنه يخضع لقوانينه الخاصّة.
    الساعات والأسماك موتيفات مفضّلة عند بول كْلِي. أحيانا، تمثّل السمكة التي يرسمها نفسها، أي أنها سمكة فحسب. إلا أنها غالبا تعني ما هو أكثر. في الثقافات الشرقية القديمة يرمز السمك للثروة والوفرة والسعادة والخصب والرخاء. واللون الأرجواني يرمز تقليديا إلى الغموض والسحر وسعة الخيال. دراسات كْلِي في التاريخ الطبيعي أثارت في نفسه حبّا عظيما للأسماك بوصفها مجموعة من المخلوقات التي تتميّز بكثرتها وتنوّعها. وكان مفتونا كذلك بحياة الأسماك الغامضة والخفيّة والعابرة التي تعيشها تحت سطح المحيط دون أن يلاحظها احد.
    كان يعتبر الأسماك حلقة وصل بين أقدم وأبسط أنواع الكائنات الحيّة وبين الأنواع الأحدث والأكثر تعقيدا وتنوّعا.
    وبالتالي فإن الأسماك التي تظهر في لوحاته تتألّف غالبا من نفس الأنماط المتكرّرة. والأزهار تتألّف، هي أيضا، من نفس البتلات والأوراق والأغصان. وكلّها أدلّة على الوحدة العضوية وغير المتطوّرة التي يمثّلها السمك، من وجهة نظر كْلِي.
    بول كْلِي معروف أيضا بصوره التوأمية وذات الوجهين. وهذه اللوحة يغلب عليها مزاج الحماس والمرح. السمك يعوم ببراءة وهو يبدو راضيا باستمراريّة نوعه بالرغم من زواله وفنائه السريع.
    في عام 1932م رسم بول كْلِي لوحته بارناسوم التي تعتبر مثالا محكما على تقنية مربّعه السحري. وقد تأثّر في هذه اللوحة ومثيلاتها بدراسته للتشريح المقارن والانثروبولوجيا والتاريخ الطبيعي.
    وأراد كْلِي أن يعكس في تلك اللوحات نظريّته الشخصية عن الطبيعة واستخدم في رسمها ما اسماه بالمربّعات السحرية. كما وظّف فيها الألوان الأساسية الثلاثة التي تأخذ دائما مركز الصدارة عنده، أي الأحمر والأصفر والأزرق.
    فكرة المربّعات السحرية استوحاها الرسّام من زيارته إلى تونس عام 1914م والتي رأى خلالها الموازييك الملوّن الذي أقنعه بنظريته عن نقاء اللون. كما رسم في تلك الفترة لوحته بعنوان قباب حمراء وبيضاء.
    المربّعات السحرية في لوحة بارناسوم تشكّل صورة قد ترمز إلى واحد أو أكثر من عدّة مفاهيم. اسم اللوحة ربّما يحيل إلى جبل بارناسوس حيث كان يعيش أبوللو والملهمات، أو إلى الأهرام التي رآها كْلِي أثناء زيارته لمصر عام 1928م.

    الجمعة، يونيو 25، 2010

    اللون الأسود: الإشارات والرموز


    اللون الأسود لون غريب ومحيّر. الرسّامون يتجنّبون استخدامه إلا نادرا. معاني ودلالات هذا اللون في الثقافة واللغة سلبيّة في معظمها: السحر الأسود، السوق السوداء، الموت الأسود، الثقوب السوداء، التاريخ الأسود.. إلى آخره. في الثقافة الشعبية يقال "هذا يوم اسود" في إشارة إلى كارثة أو مأساة. ويقال أيضا "فلان قلبه اسود" للتدليل على حقده وحبّه للشر. وهناك أيضا القائمة السوداء التي تتضمّن أسماء أشخاص أو منظّمات تستحق المقاطعة أو العقوبة.
    غير أن بعض النساء يفضّلن الأسود لأنه كلاسيكي ويُظهرهنّ بقوام أكثر نحافة. مع أن بعض علماء النفس يقولون إن المرأة التي تفضّل الأسود ذات شخصية انقيادية وتميل إلى الخضوع للرجل. الأسود أيضا لون يدلّ على السلطة والهيبة. ربّما لهذا السبب يرتديه القضاة في المحاكم. وهو أحيانا يعطي معنى الخضوع والاستسلام، لذا يستخدمه الرهبان ورجال الدين.
    في الموسيقى الكلاسيكية يرتدي العازفون لباسا موحّدا من الأسود.
    وكثيرا ما يرمز الأسود للتكتّم والسرّية. وهناك مصطلح الخروف الأسود الذي يشير إلى الشخص الرديء أو غير المحترم في عائلة أو جماعة.
    هناك أيضا مصطلح الكوميديا السوداء التي يعبّر عنها القول الشائع "شرّ المصيبة ما يضحك". وفي عالم الطبيعة هناك الأرملة السوداء أو أنثى العنكبوت التي تقتل ذكرها.
    الرسّامون أيضا منقسمون في نظرتهم للون الأسود. التجريديون، مثلا، استخدموه كثيرا في أشكالهم ورسوماتهم. ومانيه قال عنه مرّة : الأسود ليس لونا. ورينوار اكتشف بعد سنوات طويلة أن الأسود ملك الألوان. وجورجيا اوكيف، الرسّامة الأمريكية، كانت تعتقد أن اللون الأسود يخفي في أعماقه سرّا دفينا وغامضا. كما أن لوحات غويا السوداء أصبحت ترمز لليأس والتشاؤم والموت.
    غير أن أشهر لوحة اقترنت بهذا اللون هي المربّع الأسود للرسّام الروسي كاسيمير ماليفيتش والتي أصبحت في ما بعد إحدى أيقونات الفنّ الحديث.
    الموضوع المترجم التالي يستعرض الممرّات والدروب المظلمة التي سلكها اللون الأسود عبر تاريخه الطويل وكذلك الإشارات والرموز التي أصبح مرتبطا بها.

    نتحدّث كثيرا عن الألوان كما لو أنها أشياء مادّية ثابتة في حياتنا اليومية. نقول أحيانا هذا اللون بارد وذاك دافئ، مع أننا من خلال هذه التوصيفات نخلع على الألوان تلقائيا استعارات وتشبيهات غامضة. في كتابه عن نظرية الألوان، درس الفيلسوف والشاعر الألماني غوته التأثيرات السايكولوجية للألوان. وقال إن اللون ما هو إلا "ضوء مضطرب". غير انه ليس هناك من الألوان ما هو أكثر إثارة للاضطراب والفتنة من اللون الأسود. لكن هل يمكن أن نطلق على الأسود وصف لون؟ غوته نفسه لم يكن متأكّدا من هذا.
    إننا نرى الأسود كسطح يمتصّ جميع ألوان الطيف المرئي. وهو دائما يحتفظ بهالة خاصّة وغامضة. كما كان له تأثيره الكبير على الرسّامين.
    بِيت موندريان الذي كان معجبا بنظريات غوته استخدم الأسود بطريقة مؤثّرة جدّا في أشكاله التجريدية ذات الخطوط الأفقية والعمودية. بالنسبة له لم يكن الأسود لونا. آد راينهارت الذي درس لوحات موندريان نقل الموضوع خطوة ابعد عندما قال إن الأسود هو لون نفي. انه ينفي جميع الألوان الأخرى. الجانب الغامض من الأسود كان يروق كثيرا للرسّامين.
    بول كْلِي قال انه لا يمكن عقلنة الأسود وليس مطلوبا أن نفهمه. بالنسبة له، الأسود هو تعبير عن البدائية. تعليقات كْلي تشير إلى الأصول القديمة للون الأسود، أي إلى الزمن الذي لم يكن الإنسان بعد قد روّض النار أو استخدمها لإضاءة ساعات الظلام.
    في فيلم اوديسّا الفضاء لـ ستانلي كوبريك، يظهر بشكل غير متوقّع عمود اسود غامض في الأيّام الأولى لوجود البشر على كوكب الأرض. وعندما يهبط الليل، يبعث مرأى ذلك العمود الغامض الشكّ والهلع في نفوس القِرَدَة.


    ترى هل يكون الأسود منزرعا في أعمق أعماق دماغ الإنسان؟ هل هو جزء من تجربة التطوّر التي مرّ بها البشر عبر آلاف السنين؟ ليس ثمّة إجابة واضحة عن هذا السؤال بالرغم من التقدّم الكبير الذي ُانجز في مجال البحوث والدراسات العصبيّة. وكلّ ما نعرفه على وجه اليقين هو أن هذا اللون يمكن أن يثير في وعينا الجماعي إحساسا بالضعف والعجز. كما انه يرتبط بالأمور غير العقلانية أو تلك التي ترفض الخضوع لمنظومة المسلّمات الثقافية.
    لذا يمكن القول إن الأسود لون مخرّب، من حيث انه يقوّض الواقع الراهن. ادموند بورك يقول إن الأسود مرتبط بالأشياء الرهيبة والمتسامية معا. كما أن له علاقة دائمة تقريبا بالأشكال الصلبة والهندسية. وبالنسبة للبعض، هو يرتبط باللانهائية وإلى بدايات خلق الكون والحياة على الأرض.
    الرسّام الروسي كاسيمير ماليفيتش رسم لوحته المشهورة المربّع الأسود عام 1915 والتي أصبحت احد أهمّ الأعمال الفنية في روسيا. في هذه اللوحة أزاح الرسّام الفراغ الصوري والمنظور تاركا فقط مربّعا اسود نقيّا على خلفية بيضاء. هذه اللوحة أصبحت في ما بعد رمزا لفنّ الحداثة كما كانت مصدر إلهام للعديد من الفنّانين.
    في معظم اللوحات التجريدية نلمس إحساسا بالحزن والكآبة. هذا الإحساس الغامض له ارتباط باللون الأسود يعود إلى زمن أرسطو في اليونان القديمة. وفي اللغة اليونانية، فإن مفردة الأسود تعني حرفيا الحزن. وعلى خطى أرسطو وبعد وقرون طويلة، ألّف روبرت بيرتون كتابه المشهور تشريح الحزن عام 1621م. هذا الكتاب عبارة عن دراسة معمّقة لظاهرة الحزن، تاريخها وأسبابها وعلاجها.
    في القرن التاسع عشر، ظهر اللون الأسود في العديد من السياقات. بالنسبة إلى غويا، كان الأسود يرمز لحالة النفي الاجتماعي، وهو ما تؤكّده صوره الكثيرة عن الموت والكوارث.
    الرسّام الفرنسي هنري ماتيس كان يعتمد على الأسود لتبسيط بناء اللوحة. في لوحته نافذة فرنسية يحوّل ماتيس نظر المتفرّج بعيدا عن ألوان ديكور رمادية وبنّية وخضراء كي يركّز اهتمامه على مشهد لشرفة مظلمة.
    كان ماتيس سيّد الألوان المستقلّة الذي قاد تحوّلا تاريخيا مهمّا في الفنّ من خلال دراسته التي كتبها بعنوان "الأسود كلون". وقد بذل الفنّان جهده من اجل تحرير الأسود من هوّيته الشائعة والمتعارف عليها كلون يمتصّ الألوان الأخرى وجعل منه لونا مشعّا وذا خاصّية لامعة. أي انه تصرّف بعكس الانطباعيين الذين كانوا يهتمّون بالضوء، ولذا تجاهلوا اللون الأسود كلّيا تقريبا.
    كاندينسكي الذي استخدم الأسود كثيرا في لوحاته كان يعتبره لونا يقود وجودا خاصّا به في مكان بعيد عن حياة الألوان البسيطة. كان كاندينسكي يصف الأسود إما كبُنية دائرية وإمّا تبعا لاستقطابه الألوان الأخرى مثل الأصفر والأزرق أو الأحمر والأخضر أو البنفسجي والبرتقالي.
    في الفترة الأخيرة كان هناك اهتمام متزايد وانتقائي بالأسود. وفي بعض الحالات، أصبح هذا اللون يشير إلى التغييرات السياسية والاجتماعية. في لوحتها الحديقة السوداء ترسم جيني هولزر نباتات سوداء أو حمراء قاتمة، يمكن تفسيرها على أنها رمز لموت النظرة الطوباوية إلى العالم. كما يصحّ اعتبارها إعادة صياغة عصرية للوحة نيكولا بُوسان المشهورة رُعاة أركاديا.
    ريتشارد سيرا حاول هو أيضا أن يجعل الأسود لونا دنيويا، وذلك من خلال تحويل طبيعته من لون ميثولوجي إلى لون متجسّد ومادّي بحيث تبدو سماته البصرية اقلّ أهمية من خصائصه اللمسية.
    في كتابه بعنوان حلقات زحل، يشير دبليو جي سيبالد إلى عُرف كان سائدا في هولندا في القرن السابع عشر. حيث كان من عادة الناس الذين يتوفّى لهم قريب أن يغطّوا بأشرطة الحداد السوداء جميع المرايا في البيت وكذلك جميع اللوحات التي تصوّر طبيعة أو أشخاصا أو فاكهة في الحقول. كانوا يعتقدون أن من شأن ذلك أن يعين الروح وهي تفارق الجسد على أن لا تتشتّت أو تنشغل في رحلتها الأخيرة بانعكاس نفسها أو بإلقاء نظرة أخيرة على الأرض التي يُفترض أنها ستغادرها إلى الأبد.