:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات هيرونيموس بوش. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات هيرونيموس بوش. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، ديسمبر 23، 2016

! قصّة رسّام مسّه الشيطان


سيرة حياة هذا الرسّام عبارة عن أحجية احتار الناس طويلا في فكّ طلاسمها. هو لم يسافر أبدا في حياته، لكن لوحاته سافرت كثيرا بعد موته ووصلت إلى أبعد الأماكن في العالم. وهو لم يمشِ كثيرا في هذا العالم، لكنه بالتأكيد مشى طويلا في عالم العقل والخيال.
اسمه الأصلي جيرون فان آكن، لكن الاسم الذي أصبح يُعرف به هو هيرونيموس بوش. والمؤرّخون لا يعرفون ماذا يفعلون به أو بفنّه. مواطنه الرسّام البيرت ديورر زاره في بلدته في الأراضي المنخفضة، لكنه لم يقل عن الرجل شيئا، ربّما لأنه هو نفسه لم يعرف ماذا يقول.
وإلى اليوم، لا أحد استطاع تفسير فنّ هيرونيموس بوش. ولو تمعّنت في لوحاته عن قرب لوجدتها مزدحمة بصور وتفاصيل صغيرة وكثيرة كأنها آتية من عالم آخر: سمكة تفترس رجلا عاريا له ساقا ضفدع ويرتدي حذاءين مدبّبين، رأس يمشي على ذراعين، وحش يغتصب إنسانا، جسد عارٍ وملطّخ بالدم فوق حافّة سكّين ضخمة، طائر له أذنا كلب ويرتدي قبّعة على شكل علبة، سمك يسبح في الهواء، وبشر لهم رؤوس كالفاكهة.
يُلقّب بوش أحيانا بـ "دانتي الفنّانين" ويوصف بالناقد الذي يفضح فساد وطمع وخداع المجتمع. وقد استخدم العديد من الرموز والأيقونات، لدرجة انه أصبح بالنسبة للبعض متصوّفا أو زعيم طائفة أو ساحرا يمزج رسوماته بشفرات غامضة. وبعض النقّاد يصفه بأنه الشعلة التي أطلقت الحركة السوريالية في القرن العشرين والتي أنجبت عظماء مثل سلفادور دالي الذي تأثّر به. كما تأثّر به بيتر بريغل الأب الذي رسم عددا من اللوحات بنفس أسلوبه، مثل انتصار الموت و"سقوط الملائكة المتمرّدين".
كان ليوناردو دافنشي قد فرغ من رسم الموناليزا بالقرب من نهاية حياة بوش. وقد أصبحت هذه اللوحة مشهورة جدّا، ليس لأنها أجمل لوحة، وإنما بسبب ابتسامتها الأسطورية ولأنها أصبحت إعلانا عن فجر علم النفس الحديث في الفنّ وربّما في الحياة نفسها.
بعض المؤرّخين يقولون إن الطبيعة التي كان يرسمها هيرونيموس بوش هي لرجل مجنون أو شخص واقع تحت تأثير المخدّرات. وهناك من يرجّح أن تلك الرسومات أنتجها خيال رجل نقل نفسه إلى واقع آخر ألهمه رسم شرور البشر والعالم.
ترى هل كان بوش رمزا لفنّ القرون الوسطى، أم كان أوّل فنّان في عصر النهضة الشمالية؟ أيّا كان الحال، فإنه كان رسّاما نادرا. وهو لم يترك سوى عشرين لوحة، معظمها اليوم في مجموعات خاصّة. ويقال أن بعض صوره أكملها أفراد عائلته أو مساعدوه بعد موته.
هناك شفرة معقّدة للصور والإشارات الدينية للجنّة والنار والعنف الايروتيكي في لوحات بوش، ما يجعل من فنّه مجالا للخطيئة والتسامي. صوره المذهلة لمبانٍ تلتهمها النيران تبدو مثل مناظر قصف مدينة زمن الحرب. وهو يصوّر ما بعد الحياة على هيئة أنبوب اسطوانيّ ضخم. هذه هي الجنّة كما يمكن أن يتخيّلها كاتب قصص خيال علميّ.
كان من بين معجبيه الكبار الملك الاسباني فيليب الثاني الذي اشترى بعض رسوماته لتزيّن قصر الاسكوريال في مدريد. وأشهر أعماله، أي حديقة المباهج الأرضية ، يبدو أن فيليب كان يفضّلها وقد سجّلها ضمن مقتنياته عام 1593 هي وأربع لوحات أخرى للرسّام.
"حديقة المباهج الأرضية" تتألّف من ثلاثة أجزاء، وهي اليوم من مقتنيات متحف برادو الاسباني. والمتحف يعتبرها، عن حقّ، المعادل الآخر للموناليزا. والمؤرّخون الهولنديون يأتون لزيارتها كأكاديميين عديمي الفاعلية وكمحاربين مهزومين يحاولون أن يلقوا نظرة على الغنائم التي خسروها.
واللوحة تحكي قصّة خلق العالم وخلق البشر، ثم الخطيئة الأرضية فالطرد من الجنّة. اللوح الأيمن يصوّر الجحيم وفيه نرى نموذجا واضحا لرسومات الفنّان التي تنتمي لعالم آخر، واللوح الأوسط يصوّر البرزخ وهو عبارة عن طبيعة وضع فيها الرسّام أشياءه، بينما الأيسر يصوّر جنّات عدن وفيه نرى حيوانات تعيش جنبا إلى جنب مع البشر. والغريب أن الموت يوجد في الجنّة أيضا، ويُرمز إليه بصورة قطّ يحمل فارا وأسد يفترس غزالا.
كان هيرونيموس بوش بارعا في قدرته على التصوير والتخيّل؛ تخيُّل ما لا يستطيع احد تخيّله، مثل طبيعة الناس الذين يعيشون في الجنّة والنار وكيف يبدون هناك. تصويره للنار ضمّنه الخطايا السبع المميتة، حيث نرى امرأة واقعة في براثن وحش يحدّق في مرآة. السبب هو أنها ارتكبت خطيئة التباهي والخيلاء.


كان بوش شخصا أخلاقيّا بطريقة عنيفة، وقد اجتهد في تصوير كيف أن "الجنس البشريّ الملعون" يستحقّ الجحيم. ومثل معظم الأخلاقيين الثوريين، كان يصوّر العقاب والنار بطريقة أفضل من تصويره للجنّة، مع أن هذه اللوحات تتضمّن دعابة مبالغا فيها.
استخدامه لصور الشياطين وأنصاف البشر والآلات قد يكون الغرض منه إثارة الخوف والرهبة في محاولاته لتصوير شرور البشر. ويبدو انه كان يعتقد أن الشرّ يحصل في العقول وليس في العالم الواقعي.
لكن بوش في الرسم غير محظوظ لأنه لا يحتلّ سوى مكان صغير بين نظرائه من الفنّانين، ربّما لأن قليلين فقط هم من تناولوا أو رغبوا في تناول لوحاته.
وحتى اليوم ليس معروفا من أين استمدّ عناصر أو أفكار لوحاته. كما انه لا يُعرف عن حياته الشخصية سوى القليل. لكن معروف أنّه ينحدر من عائلة من الرسّامين الهولنديين من أصول ألمانية. ونعرف أيضا أنه توفّي في عام 1516 عن 65 عاما. وكان هو وزوجته منتميين لطائفة دينية محافظة تُدعى "التوّابين".
وتاريخ هذه الطائفة يشير إلى انه كان لأفرادها طقوسهم الخاصّة التي تُؤدّى في العلن أو خلف أبواب موصدة. وبعض المصادر التاريخية من تلك الفترة تذكر أن أفراد هذه الطائفة كانوا يجلدون ويعذّبون أنفسهم لأنهم كانوا يشعرون أن هذا العالم شرّير وفاسد ومن خلق الشيطان.
وأعضاء الحركات التائبة كانوا كثيرا ما يُخضِعون أجسادهم، التي يرونها كسجن شيّده الشيطان، لأقصى درجات التعذيب في محاولة لتكييف العقل لرفض ملذّات الجسد. والكثير من تلك الممارسات هي نتاج تجارب الخروج من الجسد التي يتبرّأ فيها العقل من الجسد.
وسنجد صدى لبعض هذه الأفكار والممارسات في الخطايا السبع التي رسمها بوش في لوحاته كثيرا. ولهذا السبب وغيره ذهب البعض للقول انه كان عضوا في جمعية تُدعى "الأرواح الحرّة" أو "أبناء آدم"، وهي طائفة مهرطقة وسرّية أخرى كانت تمارس العري والإباحية في محاولة لإعادة خلق براءة الجنّة.
إذن قد لا يكون بوش مجرّد ناقد اجتماعيّ، لكنه ناقد للعالم وللبشر ككلّ. ونحن جميعا برأيه شياطين، وهذه هي بالضبط الطريقة التي رسمنا بها.
ترى هل كان مسيحيّا تقيّا يستخدم سورياليّته كوسيلة لإخفاء نقده للمجتمع، أم انه كان يستخدم النقد لإيصال رسالة أعمق؟
خذ مثلا لوحته "زواج في قانا" التي يراها البعض دليلا على أفكاره الغامضة. في هذه اللوحة هناك مذبح وثنيّ في خلفية الغرفة، لكن لا علامة على وجود أتباع للمسيح، فقط هناك الطعام الذي يُقدّم في الزفاف والذي يتضمّن إوزّة!
هل رَسَم الإوزّة كي يشير إلى شعار الطائفة التي ينتمي إليها؟ الشخص الذي يقف أمام المذبح هو ساحر يشير بعصا إلى الأطباق التي يحملها خادمان إلى الحفل. والإوزّة التي في الطبق تنفث النار ورأس الغزال ينزّ سُمّاً.
كلّما رسم بوش أكثر، كلّما أصبحت الشفرات على وجوه شخصياته أكثر غرابة. المسيح وفيرونيكا هما الشخصان الوحيدان اللذان يبدوان بملامح إنسانية في لوحة "حمل الصليب". ولا أحد ممّن هم حولهما يمكن أن يكون إنسانا حقيقيّا.
ترى هل كان هيرونيموس بوش من خلال رسوماته الغريبة يرتاد أرضا جديدة لوحده؟ أم هل أصابه مسّ من الشيطان جعله يشطح بأفكاره بعيدا عن عالم الواقع والعقل؟
بعض مناظره لا يمكنك وصفها إلا بأنها عنيفة ومذهلة، ويمكن أن تجعل عينيك تتقافزان دهشة وانزعاجا. لكن أكثر شيء مدهش فيها هو أن تعرف متى رُسمت. إنها لا تأتي من القرن العشرين أو التاسع عشر أو حتى الثامن عشر، بل إن عمرها خمسمائة عام.
لذا يصحّ أن يقال أن هذا الرسّام جاء، وأكثر من أيّ فنّان آخر، عبر عملية شبيهة بطيّ الزمن، بمعنى أن لوحاته تبدو حديثة وسوريالية حتى قبل ظهور دالي بخمسة قرون. ومثل دالي ودافنشي، يمكن أن يقال عن بوش انه احد مبتكري العالم الحديث.

Credits
museodelprado.es
tuinderlusten-jheronimusbosch.ntr.nl/en

الأحد، فبراير 28، 2016

عشاء مع بريغل

هناك بعض الرسّامين ممّن يتمنّى المرء لو رآهم وعرفهم عن قرب. وهؤلاء عندما تتأمّل رسوماتهم، تحسّ أن فيها فكرا وعمقا وفنّا وسعة خيال.
والأمر يشبه ذلك الشعور الذي يساورك عند انتهائك من قراءة كتاب شيّق ومفيد بأنك ترغب في الحديث مع مؤلّفه لبضع دقائق، كي تعبّر له عن شكرك وامتنانك على أفكاره الممتعة والمفيدة، ثمّ لكي تسأله عن بعض التفاصيل التي استوقفتك في كتابه أو تلك التي استشكل عليك فهمها.
وشخصيّا هناك أكثر من رسّام ممّن يثيرون اهتمامي وتستوقفني أعمالهم كثيرا، ويأتي في طليعة هؤلاء الرسّام الهولنديّ الجميل بيتر بريغل الأب.
وبداية، هناك ملاحظة جانبية، وهي أن لا مشكلة في أن يُكتب اسمه بريغل أو برويغل، فكلا النطقين صحيح بحسب من أرّخوا لسيرة حياته.
لكن لماذا بريغل فنّان خاصّ ومختلف ومثير للاهتمام؟
هناك عديد من الأسباب، بعضها شكلانيّ والبعض الآخر جوهريّ. فبريغل، أوّلا، كان احد أشهر شخصيّات عصر النهضة الشمالية. وفنّه يذكّرنا بالحداثة وبالتأثير والقيمة العالمية للفنّ.
ثم انه كان فنّانا مبتكِرا، وهذا واضح من طريقة تصويره لحياة الفلاحين بطريقة هزلية وساخرة أحيانا، لكنها تشي بوعيه وإدراكه للظروف الاجتماعية التي كانت سائدة في عصره.
في زمن بريغل، أي في القرن السادس عشر، كانت هولندا أو الأراضي المنخفضة واقعة تحت الاحتلال الاسباني. ويبدو أن الرسّام رأى في حياة الفلاحين المتّسمة بالصخب والشدّة والعزيمة نوعا من الوعد بالحرّية والانعتاق.
وبريغل أيضا كان معروفا عنه مهارته في الرسم بالزيت وتعامله مع الألوان وأيضا مهارته في التوليف.
لكن ما هو أهمّ من هذا كلّه انه كان بارعا كثيرا في رسم التفاصيل. يكفي أن تتمعّن في تفاصيل بعض لوحاته كي يتشكّل لديك تصوّر عام عن طبيعة الحياة في قرى وبلدات الشمال الأوربيّ في منتصف القرن السادس عشر.
وقد يكون احد الأسباب المهمّة في افتتان الكثيرين ببريغل وانجذابهم لأعماله، بحسب احد النقّاد، هو روحه الكوميدية الساخرة، بالإضافة إلى حقيقة أن لوحاته لا تتحدّث إلى عصرنا أو تتنبّأ بما قد يحدث لاحقا، بل في كونها متجذّرة عميقا في سياقيها الزمانيّ والمكانيّ.
في لوحاته، هناك دائما شعور ما بالارتياح، فالحياة مستمرّة بوتيرة مطمئنة ودون مبالاة بالدراما العظيمة للتاريخ، وكلّ شيء يتحرّك بعيدا عن الكارثة. وهذا ما يبدو انه يقوله لنا.
كما أن كلّ لوحاته مليئة بالنشاط الإنسانيّ. لكن كثيرا ما نرى فيها شخصيّات تبذل جهدا مؤذيا وعبثيا وضارّا، سواءً كان لأنفسهم أو للآخرين.
وبريغل يركّز في رسوماته على غباء البشر وميلهم لارتكاب الشرّ وعلى ضعفهم أمام الخطيئة. وهو يرسم بعضهم بعيون جاحظة ونظرات بلهاء، علامة الغباء والحماقة. لكن بعض رسوماته تتضمّن معاني خفيّة وغامضة.
ومن الملاحظ أنه يميل إلى تفضيل ألوان محدّدة على أخرى. فهو، مثلا، يفضّل استخدام الأزرق مع الأحمر القرمزيّ. وفي أيّامه كان الأزرق يرمز للخداع والغباء، والأحمر للخطيئة وقلّة الاحترام.
لوحته فوق اسمها "زفاف فلاحين"، وفي فراغها يكدّس أكثر من أربعين شخصا. وكلّ هؤلاء تقريبا جلوس في غرفة مفردة، ومعظمهم حول مائدة واحدة يتناولون معا طعام العشاء.
ومع ذلك، ورغم هذا العدد الكبير من الأشخاص، إلا أن الفنّان يحفظ لكلّ شخص قيمته وتميّزه عن الباقين من خلال طريقته في استخدام الألوان والأشكال.


وفي نفس هذه اللوحة لا ينسى بريغل أن يرسم عروسه وسط ذلك الحشد. ويقال انه، هو أيضا، موجود ضمن المدعوّين، لكن من الصعب التعرّف عليه أو تمييزه. والغريب أن كتّابا كثيرين تنافسوا في محاولة تحديد شخصيّته في اللوحة، مرشّحين لذلك عدّة أشخاص.
تَخَصُّص ومهارة بيتر بريغل الأب في رسم هذا النوع من اللوحات قد يكون هو ما دفع الناس لأن يطلقوا عليه لقب "بريغل الفلاح"، رغم انه كان في الواقع واحدا من حلقة المثقّفين الانسانويين في مدينة انتويرب. في ذلك الوقت كان الأفراد ذوو النزعة الإنسانية يهتمّون بالأفكار الدينية أكثر من الدنيوية.
ومن الواضح أن أسلوب بريغل كان يروق للذوق المدنيّ، أي ذوق سكّان الحواضر في تلك الفترة، بسبب طريقة مزجه بين الواقعية والدراما السردية وبين الحقيقة والإيهام.
وأعماله تخلو عادة من مشاهد العنف أو الدماء. حتى في لوحته مذبحة الأبرياء والتي تصوّر تلك الحادثة التاريخية التي تفنّن الرسّامون منذ القدم في تصوير دمويّتها وعنفها، لن ترى في لوحة بريغل هذه نقطة دم واحدة، فقط جنود وكلاب وخيول ونساء وأطفال، لدرجة انك قد تظنّ أن اللوحة إنما تصوّر مشهدا لنهب قرية.
ومعظم لوحات بريغل التي رسمها للطبيعة كان يتّبع فيها تقليد مواطنه الرسّام هيرونيموس بوش. ولهذا السبب لا تخلو أيّ من لوحاته من دلالة دينية ما.
مثلا لوحته صيّادون في الثلج لها معنى دينيّ مؤدّاه أن الإنسان لا حول ولا قوّة له وهو دائما ما يكون تحت رحمة الطبيعة والعناصر. وبناءً عليه، لا شيء يمكنه أن يجلب لحياة الإنسان راحة أو معنى سوى الإيمان بالله. يجدر بالذكر أن المخرج الروسيّ اندريه تاركوفيسكي وظّف هذه اللوحة في فيلمه بعنوان "سولاريس".
ولد بيتر بريغل الأب عام 1525 لعائلة ظهر منها على امتداد القرنين السادس عشر والسابع عشر أربعة أجيال من الرسّامين. وأشهر هؤلاء هما ابناه بيتر و يان اللذان حملا تراث أبيهما من بعده.
ويقال أنه عند وفاته في العام 1569، أمر زوجته بأن تُحرق عددا من رسوماته التي قدّر أنها ناقدة ومستفزّة أكثر مما ينبغي، كي يحمي عائلته من الاضطهاد السياسيّ والدينيّ.
أبناء بريغل الأب وتلاميذه الكثر اخذوا ماركته أو علامته الخاصّة في الرسم وجعلوها سمة للرسم الهولنديّ في ما بعد.
في لوحة "الراعي الرديء" لابنه بيتر بريغل، نرى فلاحا شابّا وهو يتخلّى عن قطيعه من الأغنام للذئاب كي ينفذ بجلده. لكنّه يهرب وعلى وجهه ابتسامة ساخرة. ربّما كان الراعي رديئا، لكنه آثر السلامة ونجح أخيرا في النجاة بنفسه. هذا هو الدرس الطريف الذي تقدّمه اللوحة.
المعروف أن بريغل الأب أتى إلى الرسم وهو في سنّ متأخّرة. وقد توفّي وهو شابّ نسبيّا، أي في سنّ الرابعة والأربعين. ولذا فإن لوحاته قليلة ونادرة جدّا ومن الصعب اقتراضها حتى من قبل مؤسّسات ومتاحف الفنّ العريقة.
لكن إن أردت أن ترى نماذج من أعماله، فما عليك إلا أن تزور موقع متحف فيينا الوطنيّ الذي يضمّ اكبر عدد من لوحاته التي بقيت حتى اليوم، وذلك بفضل رعاية أسرة هابسبيرغ الملكية للرسّام واهتمامها بأعماله. وأيضا هناك متحف الناشيونال غاليري في لندن الذي يضمّ لوحتين من أهمّ أعماله، الأولى تقديس الملوك والثانية منظر طبيعي في الرحلة إلى مصر .

  • موضوع ذو صلة: الطريق إلى كالفاري
  • الأربعاء، يوليو 31، 2013

    قصّة عائلتين

    عندما التقيت ماركو روث للمرّة الأولى في جامعة ييل، بدا لي وجهه مألوفا بشكل غامض. وخُيّل إليّ انه لم يأت من الولايات المتّحدة، وإنما من موسكو أو فيلنيوس أو براغ أو أيّ مكان آخر ذي تاريخ مضنٍ ومشرّب بالشعور بالذنب. وبدا لي وهو يمشي كما لو انه محبوس في فضائه الخاصّ أو في كرة شفّافة من الجليد كتلك التي تظهر في لوحة هيرونيموس بوش عن الجنّة (أم ترى هل كانت الجحيم)؟!
    أتذكّر لقائي مع ماركو وصديقه في احد شوارع نيوهيفن وبحثي عن شيء ما أقوله له أكثر من مجرّد التحيّة التقليدية. وبقدر ما أردت أن أبدأ معهما حديثا، لم يأت إلى ذهني شيء. كنت محرجة وكانت لغتي الإنجليزية ضعيفة. وبدا لي أن ماركو وصديقه لا يمكن الاقتراب منهما. لم يكن لديّ أيّة فكرة عن واقع حياتهما. وتذكّرت كلمة صاغتها آنا اخماتوفا: اللا لقاء.
    بعد مرور حوالي خمسة عشر عاما على ذلك "اللا لقاء"، قرأت في إحدى الصحف أن ماركو روث بدأ في نشر مذكّراته بعنوان "العلماء: قصّة حبّ عائلية"، والتي يصف فيها كيف، وهو ما يزال في سنّ المراهقة، كان يراقب والده، وهو خبير في أمراض الدم كان قد أصيب بعدوى الايدز إثر خطأ طبّي فادح، وهو يموت. كان ماركو يحلم بأن يقتفي خطى والده فيصبح عالما ويجد علاجا لمرض والده، على الرغم من انه يعرف أن هذا كان مستحيلا.
    ولأنني نشأت في روسيا، لم أكن قد عرفت أيّ شخص مصاب بفيروس الإيدز. في الواقع، عندما علمنا عن الايدز في أواخر الثمانينات، كان هناك شيء أسطوريّ تقريبا يحيط بهذا الموضوع بالنسبة لنا. فبالتأكيد هو فيروس غربي يدلّ على الانحلال، ومن المستبعد جدّا أن يوجد أو يحدث في بيئة مثل بيئتنا.
    ومع ذلك عندما بدأت قراءة كتاب ماركو، ساورني شعور بأنني كنت أقرأ مذكّرات أحد أفراد أسرتنا. وتساءلت: ترى ما هو هذا الجسر الذي يربط صبيّا نشأ على الجانب الغربي من مانهاتن وشاهَدَ والده وهو يموت نتيجة مرض مع فتاة نشأت في عاصمة الاتحاد السوفياتي السابق؟ ولماذا بدا لي وجهه مألوفا عندما رأيته لأوّل مرّة في نيوهيفن؟ لو أنني تكلّمت معه في ذلك الوقت لكنت قد عرفت أننا كنّا معا واقعين تحت هاجس الموت.
    عندما علمت لأوّل مرّة عن احتمال وجود حياة بعد الموت، تحدّثت عن ذلك بحماس مع والدي. سألته: من الذي لا يريد أن يؤمن بالحياة بعد الموت؟ فأجاب: من الممكن أيضا أن يعيش الإنسان دون أن يؤمن بفكرة الحياة السعيدة بعد الموت". وأضاف: هذا يعني أن تعيش حياتك كما لو أنها مأساة".
    بالنسبة لفتاة مرحة لا يتجاوز عمرها التسع سنوات، بدت لي هذه النظرة حزينة بشكل لا يُصدّق. وفي مناسبة أخرى تساءلت متعجّبة: من يمكن أن يكون غبيّا بما يكفي لأن يقتل نفسه؟ فقاطعني أبي مرّة أخرى وقال: من المؤكّد أن هناك حالات يكون فيها الموت أفضل من الحياة".
    ومع ذلك، كان والدي واسطة العقد في حلقة من الأصدقاء. كان يرتاد الحفلات بانتظام وكانت عنده دائما حكاية أو نكتة يرويها. وكان من عادته أن يتباهى انه استطاع أن يدمّر صحّته القويّة بكثرة الشراب. وفي أحاديثه مع والدته، أي جدّتي، اعتاد أن يمازحها بالقول أنها ستعيش أطول منه. وبالفعل عاش والده ووالدته معا بعد رحيله. فقد توفّي عندما كنت في العشرين من عمري.
    كان ماركو في المدرسة عندما أصيب والده بفيروس نقص المناعة المكتسبة. ويفترض انه أصيب بالعدوى عن طريق حقنة ملوّثة. ذكرى تلك اللحظة التي اخبره فيها والده عن مرضه أفلتت منه. لكن قد يكون ذلك حدث عندما كان في الرابعة عشرة من عمره. ولمّا كانت تلك هي الأيّام الأولى للوباء، فقد تمّ إرسال ماركو إلى طبيب نفسيّ لتعريفه بكيفية التعامل مع مرض والده. وقد نصحه الطبيب بأن يُبقي على الأمر سرّا.
    ولكوني الطفل الوحيد لعائلتي، مثل ماركو، أتذكّر انه انتابني يوما نفس الشعور الغامض. كان عمري ثلاث أو أربع سنوات، إن لم تخنّي الذاكرة، عندما تشاجر والداي حول كيفية تعليمي الحروف. وساورني وقتها شعور بأن هناك شيئا ما خطأ، وأنني لم اعد في مركز الكون بالنسبة لهما، وأن هناك قوى أخرى، لا استطيع تسميتها، في حالة اشتباك وتفاعل.
    ومع ذلك، بمجرّد أن أحسست بهذه القوى وهي تسحب من أحببتهم بعيدا عنّي، أصبحت على قناعة أنه يمكنني التغلّب عليها. تمنّيت لو أصبحت أكثر علما أو ذكاءً أو مراعاة أو اهتماما أو محبّة، فحديثهما معي كان سيكون بالتأكيد أكثر تسلية من الشجار أو السباب. وقلت: عليّ فقط أن احتفظ بكفاحي سرّا لفترة من الوقت فقط طالما أنني لم انتصر بعد.
    وكان سرّ ماركو روث أكثر فظاعة من ذلك بكثير. لو عرف الناس أن والده كان يحمل فيروس نقص المناعة، لربّما فقد والده مختبره ولأصبحت الأسرة تعاني الإقصاء والنبذ. ولأنه كان بحاجة لأن يحتفظ بالسرّ، مرّ ماركو بأوّل إحساس له بالاغتراب. كان يقف بجانب جسر أفينيون المكسور وينظر إلى الناس أسفل الجسر وهم يستحمّون في سعادة والى الصيّادين وهم منهمكون في عملهم.
    كان ماركو يحمل سرّه معه مثل المسيح. وفي وقت لاحق، سأله صديق في الجامعة: لماذا تريد أن تعذّب نفسك بهذا القرف الاوديبي الاستبدادي؟ فقال: ربّما كان ذلك نتيجة الشعور بالذنب. لا أستطيع الهروب من رغبة الخربشة في هامش وعيي لأكتب أنني فشلت في إنقاذ والدي".
    كانت تخالجه رغبة في الاختفاء من العالم. وبدلا من الذهاب إلى الكلّية أصبح يفضّل الانتقال إلى نوع من المجتمع الزراعي. وفي رحلة إلى المكسيك، فاجأه نوع من الإحساس بالعدم. "أحسست كما لو أنني سبّورة بيضاء مُحيت خطوطها لكنها ما تزال تحمل لطخات غير مقروءة لكثرة ما كُتب عليها".
    وأنا اعرف تماما تلك الرغبة وذلك الشعور. كنت أحمله معي من روسيا إلى ألمانيا فالولايات المتحدة فالصين وتايلاند وهولندا وسويسرا، ومرّة أخرى إلى الولايات المتحدة. جدّتي، الفلاحة الروسية البسيطة، علّمتني أن الحبّ بلا مقابل هو الوسيلة الأفضل لندرك أن هناك دائما أملا، بل وحتى أملا بإنقاذ من نحبّ من الدمار.

    وفي محاولتي إنقاذ والدي، لم أكن بأفضل من ماركو وهو يسعى لإنقاذ والده. أبي لم يكن أبدا يعتني بصحّته ولم يتوقّف مطلقا عن الشراب. وعندما توفّي فجأة، كنت خارج البلاد. لا أحد كان يملك الشجاعة ليقول لي انه مات بالفعل عندما اتصلوا بي هاتفيّا. أخذت الطائرة وذهبت إلى موسكو على أمل أن أصل إلى هناك وقد تعافى. وأتذكّر صلواتي في الطائرة، كما أتذكّر إخبارهم إيّاي، بعد الهبوط، أنه كان قد مات منذ يومين.
    إحدى المرّات النادرة التي رأى فيها ماركو والده وهو يبكي كانت عندما دخل إلى غرفته ووجده يستمع إلى مقطع من إحدى أوبرات هنري بورسيل: عندما أوضع في التراب، أصلّي أن لا تتسبّب خطاياي في أيّ متاعب لكم. تذكّروني لكن لا تنشغلوا بمصيري". يقول روث: كانت هذه أوامره أيضا. وأنا أيضا سأطيعه".
    "هذا مجرّد حلم مزعج". قلت لنفسي وأنا اشهد جنازة والدي. "يجب أن تستمرّ حياتي". لم اعش في روسيا أبدا ثانية. بعد بضعة أشهر من فقدان والدي، وقعت في الحبّ، وكان حبّا بلا مقابل.
    بعد النهاية المرعبة لحياة والده، سيتعيّن على ماركو روث أن يبحث عن آباء جدد وعن أماكن جديدة. سوف يدرس ماركو مع جاك دريدا في باريس وسيُكلّف بتقديم عرض عن كتاب جوناه المقدّس. سيكون هناك أيضا أحاديث عن إمكانيات لم تتحقق، تلك الاحتمالات التي تطاردنا طوال حياتنا ولا تتحقّق أبدا.
    عندما أتذكّر لقاءنا في ذلك الشارع في نيوهيفن، يتولّد لديّ شعور غامض: كان يمكن أن نتوقّف ونجري حديثا. كان يمكننا أن نتحدّث عن بروست وفرويد. كان يمكنني تقديم ماركو وصديقه لأصدقائي.
    في مذكّراتها بعنوان بارك أفنيو 1185 ، والتي نشرتها بعد بضع سنوات من وفاة شقيقها، أشارت عمّة ماركو الكاتبة آن ريتشاردسون روفي إلى أن والده ربّما كان يخفي ميولا مثلية وأن حكاية الحقنة الملوّثة لم تكن سوى ضرب من الخيال. وتحت تأثير إصابته بالصدمة والاضطراب ممّا كتبته عمّته، ولأنه كان يتمنّى أن يكون والده أصيب بمرض الإيدز بطريقة أكثر مثاليّة، قرّر ماركو أن يعيد قراءة الكتب التي سبق لوالده أن أعطاها له، بحثا عن أيّ "رسائل مشفّرة".
    وكانت تلك فكرة محفوفة بالمخاطر، إذ قد لا يكون هناك رسائل أبدا. من بين تلك الكتب التي اقترح عليه والده قراءتها تونيو كروغر لـ توماس مان ومصير الأجساد لـ سامويل بتلر، بالإضافة إلى كتابين روسيّين: الأوّل آباء وأبناء والثاني اوبلوموف لـ ايفان غونتشاروف. وأذكر أنني قرأت الكتابين الأخيرين وأنا طفلة. كما أتذكّر الشفقة التي أحسست بها تجاه بطليهما المنكوبَين: بازاروف الضعيف والفخور، وأوبلوموف المعطاء الذي كان يشعر بالخزي من العيش في هذا العالم.
    ماركو يفكّر في احتمال أن يكون والده قد رأى نفسه في اوبلوموف، بالنظر إلى انه كان يحمل معه نفس الشعور "بعدم كفاية العالم" وبأنه "ابن غير محبوب من زواج كريه"، على نحو ما صوّرته عمّته عن طفولة شقيقها.
    وبينما كان ماركو يستعدّ لمواجهة مزاعم عمّته، بدأ في مقابلة أصدقاء والده كي يعرف منهم الحقيقة حول حياته الجنسية. وبهذا أصبح هو نفسه عالما من نوع مختلف. أصبح مخبرا وكاتب سيرة وطبيبا نفسانيّا لحالات ما بعد الوفاة.
    أتذكّر أنا كيف كان والدي يجلس على حافّة سريري ويشتكي مازحا من والده، أي جدّي. قلت له يوما: أنت لا تحبّه؟ فأجاب: أنا أحبّه. هو الذي لم يكن يحبّني، وتلك كانت المشكلة".
    الطفل الذي لم ينعم بالحبّ يظلّ طفلا حتّى عندما يكبر. وإذا تصادف انه أبوك فأنت ملزم بأن تحبّه كما لو انه ابنك. كان أبي مفتونا بالنكات عن الموت وبحضور الجنازات وبرغبة لا هوادة فيها في تدمير نفسه بالشراب على الرغم من كبده المريضة. كان ذلك أمرا مخيفا وغير مفهوم. وربّما أنني، وعلى عكس ماركو روث، لم يكن لديّ الشجاعة لأن أحاول أن افهم ذلك.
    اضطرّ ماركو، تحت تأثير كتاب عمّته، وبكلماته هو، أن "ينظر في إمكانية أنه، أيّا ما كان والده يسعى إليه أو يطلبه، فإنه أراد أن يموت وأن يصيبه مكروه". كان يرغب رغبة ملحّة في المعاناة التي لا يشفيها مجّرد تغيير في الحالات أو المواقف الاجتماعية. سألت نفسي وأنا اقرأ كتابه: هل كان أبي يريد في سرّه أن يموت؟ وإذا كان حبّي لم يكن كافيا لمنعه، فما قيمة ذلك الحبّ إذن؟!
    أفتح كتاب آن روفي وألقي نظرة على الصور. الصغير يوجين روث "والد ماركو" بعينين واسعتين وشفتين ناعمتين. الصبيّ عند البحيرة. في بركة السباحة. الصبيّ ذو المشابك. الصبيّ الذي أعطي نفس اسم والده الأنانيّ. "سرقوا منه هويّته حتى قبل أن تكون له هويّة". الرجل الذي تبتسم عيناه وراء نظارات كبيرة. الرجل المريض الذي يختفي وجهه في الظلّ، لكن ما يزال هناك على شفتيه اثر ابتسامة رقيقة. هل هي تعبير عن اعتكاف، أو ربّما احتقار؟
    جدّتي، التي عاشت بعد ابنها عشر سنوات، صنعت له في غرفتها مذبحا صغيرا مع زهور طازجة. كانت تجلس دائما أمام صورته. وعندما ماتت قال لي صديق لم يكن يعرفها: حسنا، كانت لها حياتها الجميلة". في الواقع، كانت حياتها أتعس حياة. كان من باب الإنصاف بعد كلّ هذه الحَيَوات المرهقة والوحيدة والبائسة أن نتلقّى شيئا أفضل من الموت".
    قبيل موته، طلب والد ماركو أن لا تقام له صلاة وأن لا يُتلى على قبره دعاء. "الربّ الذي لا وجود له لم يكن رحوما كما انه لا يستحقّ التقديس ولا الثناء".
    "العلماء" قصّة مليئة بالاعترافات والحكايات العاطفية عن الصراع والمظالم القديمة. وهي تشرح كيف نتعلّم من والدينا وكيف نفهم رغباتنا ورغبات الآخرين وكيف أن التربية، بتركيزها المكثّف على حياة العقل، يمكن أن تحرّر الإنسان وأن تعيقه في نفس الوقت. كما تعلّمنا القصّة أن كلّ الأطفال باحثون، وهم ينجحون عندما يتمكّنون من تبديد أوهام وخيالات الطفولة عن آبائهم ويبدءون في النظر إليهم كبشر لهم عيوبهم ونقائصهم. "مترجم".

    الأحد، مارس 04، 2012

    رسالة حبّ إلى لوحة

    بعض اللوحات ترفض أن تبقى ساكنة على الحائط. الأشخاص فيها ينزلقون إلى خارج الإطار، يلغون اللحظة الثابتة في الصورة ويدفعوننا إلى تخيّل أحوالهم وقصص حياتهم.
    وعلى غرار رواية ايريس موردوك عن لوحة تيشيان الحبّ المقدس والحبّ الدنيوي، ورواية تريسي شيفالييه عن لوحة فيرمير الفتاة ذات القرط اللؤلؤي، تتتبّع مؤرّخة الفنّ كارولا هيكس في كتابها فتاة بفستان اخضر، تاريخ إحدى أكثر اللوحات في العالم شهرة وغموضا.
    وهيكس تستخدم مهارتها في الطبّ الشرعي في محاولة لفكّ غموض هذه اللوحة وتروي كيف أنها نجت، طوال أكثر من أربعة قرون، من الحرائق والمعارك والرحلات البحرية الخطرة. كما تتحدّث عن دور اللوحة بوصفها مرآة تعكس ثقافة وتاريخ الزمن الذي ظهرت فيه.
    بورتريه الزوجين ارنولفيني للرسّام الهولندي يان فان آيك يحيّر كلّ من يراه. الخبراء والعامّة، على حدّ سواء، يتساءلون عن معنى هذا الجوهرة المؤرّقة من فنّ القرون الوسطى. الزوجان الغامضان في اللوحة يبدو أنهما ينقلان لنا رسالة من وراء القرون. لكن ما هي؟ هل اللوحة احتفال بالزواج أو الحمل؟ محاولة لإحياء ذكرى زوجة شابّة توفّيت أثناء ولادتها لطفلها؟ بيان عن الموضة في ذلك الزمان؟ أم أنها رمز للمكانة أو الوجاهة الاجتماعية للرجل والمرأة الظاهرين فيها؟
    الزوجان ارنولفيني كان لهما حياة أخرى حافلة بالأحداث في الخيال. فقد كانا دائما موضوعا لسجالات النقّاد وسخرية رسّامي الكاريكاتير. احد الكتّاب افترض أن الفتاة ذات المظهر الرقيق تخبّئ خلف طيّات ثوبها طفلا. وقال آخر إن اللوحة ربّما تتحدّث عن زواج بالإكراه. وكانت آخر مرّة ظهرت فيها اللوحة في المسلسل المعروف زوجات يائسات.
    كارولا هيكس تلخّص هذا التاريخ اللزج للوحة، ولكنها لا تضيف إليه الشيء الكثير. غرضها في الأساس هو أن تتحقّق من مضامين اللوحة، وتدقّق في ديكورها الذي رسمه الفنّان بدقّة فائقة. كما ترصد المؤلّفة مسار اللوحة خلال أربعمائة عام انتقلت خلالها بين عدد من البيوت المالكة الأوروبية ونُهبت كغنيمة حرب، قبل أن تصل أخيرا إلى ملاذها الآمن بالقرب من ساحة الطرف الأغرّ في لندن.
    تقول هيكس: الفنّ بحاجة إلى مال. كما انه يتبع السلطة. ولهذا السبب سرعان ما أصبحت لوحة فان آيك لعبة ملكية. في البداية، كانت اللوحة جزءا من تراث عائلة هابسبيرغ. ثم وقعت في يد فيليب الثاني ملك اسبانيا الذي كان يفضّل هيرونيموس بوش على فان آيك.
    سليل فيليب، أي كارلوس الثالث، وضع اللوحة في مخزن مهجور. لكنّها انتُشلت في ما بعد، أو على الأصح اشتُريت من قبل أحد جنود ويلينغتون بعد معركة فيتوريا عام 1813.
    وبهذه الطريقة جُلبت اللوحة إلى لندن. وقد ابتاعها الناشيونال غاليري، الوليد آنذاك؛ أي عام 1842م، بمبلغ ستّمائة جنيه، وهو سعر زهيد نسبيّا.
    ومن هناك ترسّخت شهرة اللوحة بعد أن احتفى بها الرسّامون ما قبل الرافائيليين. ولم يمضِ وقت كثير حتى دخلت اللوحة حيّز الوعي الفنّي الأوسع.
    الكاتبة تنقل الحقائق المعروفة كما هي. لكنّها لا تقدّم كشوفا أو تفسيرات جديدة. كما أنها لا تشير إلى السبب الذي جعلها تختار هذه اللوحة بالذات لكتابها، ولا ما الذي تعنيه لها اللوحة وما الذي يجعلها عملا أيقونيّا.
    ماذا عن الزوجين ارنولفيني؟ ما هو سرّ تقطيب الرجل الذي تشبه ملامحه ملامح فلاديمير بوتين؟ من هم ضيوف الزوجين الذين نلمح صورهم منعكسة في المرآة على الحائط الخلفي؟ وما سرّ وجود سرير في غرفة الاستقبال؟
    من الواضح أن كارولا هيكس تعشق هذه اللوحة كثيرا. ويصحّ اعتبار كتابها هذا رسالة حبّ إلى اللوحة. لكنّ المؤسف أن المؤلّفة رحلت عنّا في سنّ صغيرة نسبيّا وقبل أن تكمل كتابها الذي يبدو انه لم يُطبخ تماما.
    وهذا الكتاب، في النهاية، هو تذكير لنا بأننا لا نعيش داخل بيت هذا التاجر، أي ارنولفيني، الذي يشبه عالم بيت الدمية الذي لا يمكن بلوغه أو سبر أسراره.
    صحيح أن الكتاب يتضمّن الكثير عن التاريخ اللاحق للوحة. لكنه لا يتحدّث سوى عن القليل جدّا من أسرارها الداخلية. "مترجم".

    الاثنين، أكتوبر 10، 2011

    عالَم مارك شاغال


    في لوحات مارك شاغال كائنات خرافية وحيوانات طائرة ومخلوقات هجينة نصفها إنسان ونصفها الآخر وحش. ويُفترض أن الرسّام رأى هذه المخلوقات أو تَمثّلها في صور الشياطين المرسومة في الأيقونات والتماثيل العائدة للعصور الوسطى والتي كان معجبا بها كثيرا في بلده الأم روسيا. ولا بدّ وأن شاغال رأى أيضا وهو طفل سلسلة لوحات النزوات التي رسمها الفنّان الاسباني الكبير فرانشيسكو دي غويا.
    منذ صغره، كان شاغال مفتونا بهذه النوعية من الصور الخليطة أو المهجّنة التي تمزج صورة الإنسان والحيوان معا، وهي سمة رافقت تاريخ الرسم منذ بداياته الأولى.
    وهو في هذا يقتفي خطى العديد من الرسّامين الذين كانوا منجذبين لهذا النوع من الرسومات، مثل هنري فوسيلي وهيرونيموس بوش.
    بعض معاصريه من الرسّامين كانوا، هم أيضا، يتبنّون هذا التقليد في الرسم، من بيكاسو إلى برانكوزي إلى جان "هانز" آرب إلى فيكتور برونر وآخرين.
    والأمر الثابت هو أن مثل هذه الرسومات التي تصوّر البشر بهيئة وحوش أو طيور خرافية ظهرت بكثرة في فنّ القرن العشرين.
    تكرار الأشكال الهجينة هو من ابرز خصائص لوحات شاغال. فهو كثيرا ما يستبدل رأس الإنسان برأس حيوان. كما انه يرسم الوحوش أو الحيوانات بأطراف تشبه أطراف البشر، كي تستخدمها في الرسم أو عزف الموسيقى. وفي بعض لوحاته، قد تندهش عندما ترى رؤوسا أو أيادي تبرز من الآلات الموسيقية كي تعزف لنفسها.
    ما المعنى الذي يمكن أن نعزوه لهذه الكائنات؟
    الحقيقة أن لهذه الصور رمزية دينية وشعبية ترتبط بالتقاليد اليهودية التي كانت سائدة في فيتبسك، بلدة الفنّان ومسقط رأسه.
    الحيوانات المنزلية الحاضرة دوما في لوحات شاغال، كالأبقار والماعز والدجاج، كانت تستثير ذكريات من زمن طفولته التي قضاها في تواصل حميم مع تلك الحيوانات.
    عمّه كان جزّارا. وكان يضحّي بالبقر بينما يهمس لها بكلمات مهدّئة. العنزة التي تعزف على الكمان في لوحاته تحلّ مكان عازف الكمان المتجوّل الذي كان يراه وهو طفل في احتفالات القرية السحرية.
    السمك، هو الآخر، يذكّره بوالده الذي كان يعمل في مستودع للأسماك.
    وإذا كانت الطيور، أيضا، تعزف الكمان أو البوق، فلأن أغنياتها تشبه في خيال الرسّام أنغام الموسيقى السماوية.





    لوحات شاغال لا تخلو من روح النكتة والدعابة. فهو لا يتردّد أحيانا في تصوير نفسه على هيئة ديك أو بملامح عنز؛ وهو الحيوان الذي كان شاغال يعبّر دائما عن تعاطفه معه وحبّه له.
    الجحش أيضا تظهر صوره كثيرا في لوحات شاغال. الحمار بطبيعته حيوان مطيع ومتواضع. لكنه بنفس الوقت حيوان يهودي ومسيحي. وذات مرّة، رسم الفنّان بورتريها لنفسه بصحبة حمار بالإضافة إلى ساعة جدّه القديمة.
    في العام 1941، قال أندريه بريتون إن الفضل يعود لـ شاغال في إدخال المجاز والاستعارة بطريقة مظفّرة إلى الرسم الحديث. كما أشار إلى قدرة الرسّام في تحرير الأشياء والكائنات من اسر قوانين الجاذبية كي يكسر قوانين الطبيعة ويمنح تعبيرا بصريا للأحلام الخفيّة كجوهر للكائنات والأشياء.
    ولد مارك شاغال في العام 1887 لعائلة يهودية فقيرة في روسيا. وكان أكبر أشقائه التسعة. وقد ظهرت بوادر موهبته الفنّية أثناء دراسته في المدرسة الروسية. وعلى الرغم من رفض والده، إلا انه بدأ عام 1907 دراسة الفنّ على يد ليون باكست في سانت بطرسبرغ. وفي هذا الوقت اتضحت ملامح أسلوبه المميّز الذي نعرفه به اليوم.
    في عام 1910، انتقل مارك شاغال إلى باريس ومكث فيها أربع سنوات. وخلال هذه الفترة، رسم بعضا من أشهر لوحاته عن قريته وطوّر السمات التي أصبحت علامة فارقة على فنّه.
    ألوان شاغال القويّة والساطعة تصوّر العالم في حالة أشبه ما تكون بالحلم. الفانتازيا، الحنين والدين، كلّ هذه العناصر تمتزج معا لتخلق صورا عن عالم آخر.
    في عام 1914، أي قبل نشوب الحرب العالمية الأولى، أقام شاغال معرضا مفردا للوحاته في برلين. وأثناء سنوات تلك الحرب، اختار أن يبتعد عن باريس ويقيم في روسيا.
    وفي عام 1922، غادر روسيا ليستقرّ في فرنسا بعد ذلك بعام. وقد عاش في باريس بشكل دائم، باستثناء الفترة من 1941 إلى 1948، عندما هرب من فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية ليقيم في الولايات المتحدة.
    وقد عبّر شاغال عن رعبه من صعود النازية إلى السلطة في العديد من اللوحات التي تصوّر مآسي النزوح والتشريد والموت.
    ويمكن القول إن مواضيع لوحاته موزّعة بين قصص التراث الديني وعناصر الفولكلور والقصص الشعبية ومن تفاصيل الحياة الدينية في روسيا.
    وقد نال شاغال العديد من الجوائز اعترافا بفنّه. كما كان احد الرسّامين القلائل الذين عُرضت أعمالهم في متحف اللوفر أثناء حياتهم.

    Credits
    theartstory.org

    الأحد، مارس 07، 2010

    اللوحات العشر الأكثر ترويعاً وعُنفاً


    اللوحات القاتمة والعنيفة في تاريخ الفنّ كثيرة، بل أكثر من أن تُعدّ أو تحصى.
    هناك مثلا بعض لوحات بيتر بريغل وإيغون شيلا وتجيسلاف بيشينسكي وجون هنري فوزيلي، وكلّها جديرة بأن تحتلّ مكانا بارزا في قائمة تتناول مثل هذا النوع من الأعمال الفنّية.
    في هذه القائمة يستعرض آرثر ويندرمير اللوحات العشر الأكثر ظلمةً ورعباً في تاريخ الرسم العالمي.


    كان وليام بليك فنّانا وشاعرا رومانسيا ابتكر أساطير استند فيها إلى الإنجيل وضمّنها رؤى وأفكارا مخيفة كان يزعم انه تلقّاها منذ الصغر.
    كان بليك يرسم أشعاره ويزيّنها بصور مائية رائعة حينا ومزعجة أحيانا. كما كُلّف برسم الصور الإيضاحية لكلّ من الإنجيل والكوميديا الإلهية.
    من أشهر رسوماته التي وضعها للإنجيل السلسلة المسمّاة التنّين الأحمر العظيم.
    في إحدى تلك اللوحات، واسمها التنّين الأحمر ووحش البحر، يرسم بليك تنّينا بملامح إنسان له جناحان هائلان منقوش عليهما نجوم، ربّما في إشارة إلى القوّة الكونية للشرّ.
    التنّين الضخم ذو الرؤوس المتعدّدة التي يبرز منها قرون ينظر إلى أسفل حيث يظهر وحش آخر في البحر ممسكا بيد سيفا وبالأخرى ما يشبه الصولجان. هذا الوحش له، هو أيضا، رؤوس كثيرة لكن هيئته اقلّ بشرية من هيئة التنّين.


    الفنّان الألماني البريخت ديورر عُرف بلوحاته المذهلة.
    من بين أشهر أعماله سلسلة لوحاته عن القيامة والتي تتكوّن من خمسة عشر رسما صمّمها لسفر الرؤيا.
    اللوحات تتحدّث عن بعض قيم وأفكار القرون الوسطى التي تتمحور حول الفضيلة وأبعادها الدينية والفكرية والأخلاقية.
    من أكثر تلك اللوحات إثارة للخوف والرهبة اللوحة المسمّاة "الفارس والموت والشيطان".
    فارس ديورر يمتطي حصانا شاحبا ويمرّ من أمام الموت الذي يأخذ شكل مخلوق متعفّن ومشوّه يمسك بساعة رملية، في إشارة إلى تسرّب وقصَر الحياة.
    في اللوحة أيضا أشجار ميّتة وعلى طول الطريق مجموعة من الأهوال والعقبات التي تحاول إعاقة الفارس وإخراجه عن مساره.
    الشيطان يتربّص وراء الرجل متّخذا هيئة مخلوق مشوّه، هو الآخر، له قرن طويل ويحمل رمحا ويبتسم ابتسامة ماكرة.
    هناك أيضا في اللوحة جمجمة، وسحلية تسير في الاتجاه المعاكس للفارس. معاصرو ديورر ذهبوا إلى انه كان يحاول في اللوحة تصوير فكرة الراهب ايراسموس روتردام عن الفارس المسيحي الذي يجب أن لا يكتفي بتأدية الطقوس الدينية بل أن يلتزم أيضا بقيم الدين وأخلاقيّاته.


    في روايته "رحلة إلى نهاية الليل" يصف الروائي الفرنسي لوي فرديناند سيلين بطنا مفتوحا وممزّقا لأحد القادة العسكريين بقوله: كلّ ذلك اللحم كان ينزف بغزارة".
    شخصية القائد البديلة تهرع عائدة إلى المعسكر وتصف ما تراه عندما يتمّ تغذية الجنود باللحم. اللحم منتشر في كلّ مكان، في الأكياس وعلى فراش الخيمة وعلى العشب.
    كانت هناك أمعاء وأحشاء كثيرة، قطع من الشحوم البيضاء والصفراء، أطراف في كلّ مكان. كان الجنود يتنافسون بضراوة على الظفر بالأجزاء الداخلية وكانت هناك أسراب كثيرة من الذباب تحوم حول المكان.
    كانت تلك بعض الفظاعات الجديدة التي أتت بها الحرب. في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، حاول الفنانون والمثقفون أن يعثروا على وسيلة للتعامل مع صدمة الحرب.
    وظهرت نتيجة لذلك الفلسفة الوجودية التي حاولت أن تجد للبشر مكانا في هذا الكون العبثي.
    الرسّام الانجليزي فرانسيس بيكون ربّما يكون احد أفضل الأمثلة عن فنّ ما بعد الحرب. لوحاته تصوّر بشرا يتعذّبون ويصرخون. وقد حوّل كلّ الرعب الذي تمتلئ به رواية سيلين إلى صور. ورغم انه يستلهم مواضيع بعض لوحاته من أعمال كبار الرسّامين مثل فيلاسكيز، فإنه يلوي الشخصّيات ويلطّخ وجوهها ويترك عليها خطوطا كأنها آثار أنياب ومخالب كما لو أن الرسّام يريد أن يمزّق العالم نفسه.
    إحدى أكثر لوحاته المذهلة هي هذه اللوحة "شخص مع لحم" التي يستعير فيها بورتريه الرسّام الاسباني الكبير فيلاسكيز عن البابا اينوسنت العاشر. البابا في لوحة بيكون يتخلّى عن عرشه المجيد وعن ملابسه المخملية الحمراء التي خلعها عليه فيلاسكيز ليبدو جالسا على كرسيّ من الخشب وبعينين فارغتين وفتحات مشوّهة وجلد متعفّن وفم يصرخ، بينما تبدو خلفه قطعتان كبيرتان من اللحم النيئ.


    كان رودولف بريسدن فنّانا غير ناجح كما عُرف عنه غرابة أطواره.
    في لوحاته بعض من نكهة بليك. وكان يعتبر اوديلون ريدون من بين تلاميذه، ومن هنا تأثيره على الحركة الرمزية.
    وقد أعجب بلوحاته بعض أشهر معاصريه مثل شارل بودلير وفيكتور هيغو وغيرهما.
    أكثر لوحات بريسدن ذات طابع بشع ومظلم. لوحته "كوميديا الموت" اعتُبرت تتويجا لانجازاته الفنّية.
    وفيها يرسم ناسكا جالسا على باب كهفه ومنشغلا بالصلاة والتأمّل.
    وعلى طرف المستنقع القريب منه يظهر رجل آخر يبدو في حالة احتضار.
    الطبيعة في اللوحة تأخذ شكل شياطين وأشباح وطيور.
    وكلّ تفصيل فيها تكتنفه الأهوال والكوابيس: جماجم، عظام متناثرة وهياكل عظمية في أفرع أغصان الأشجار الملتوية.
    وفوق المشهد إلى اليسار يظهر المسيح طافيا في الهواء وغير بعيد منه تبدو طيور لها رؤوس أشبه ما تكون برؤوس الفئران.
    الروائي الفرنسي شارل ماري هويسمان استوحى هذه اللوحة في روايته "ضدّ الطبيعة" ووصفها بقوله: اللوحة تشبه عمل شخص بدائي، كما أن فيها بعضا من البريخت ديورر. ولا بدّ وأن الفنان رسمها تحت تأثير الأفيون".


    الفنّان الفرنسي وليام بوغرو، صاحب اللوحات الجميلة والبريئة غالبا، رسم لوحة مرعبة وحيدة.
    كان رسّاما تقليديا ركّز اهتمامه على المواضيع الكلاسيكية.
    من بين تلك المواضيع دانتي وكتابه الكوميديا الإلهية.
    والغريب أن بوغرو اختار من بين جميع مشاهد الكوميديا الإلهية ذلك المكان من الجحيم الذي يُحكَم فيه على الغاضبين أن يتقاتلوا إلى الأبد على ضفاف نهر ستيكس الأسطوري.
    في "دانتي وفرجيل في الجحيم" يرسم بوغرو هذه الحادثة بأدقّ تفاصيل يمكن تخيّلها.
    السماء القرمزية للجحيم تتوهّج في الخلفية، بينما يبدو رجلان عاريان في مقدّمة اللوحة وهما مشتبكان في قتال شرّير فيما يقضم احدهما رقبة الآخر كما يفعل مصّاصو الدماء. والى يسار المنظر يبدو كلّ من دانتي وشبح الشاعر فرجيل وهما يتفرّجان على المتصارعَين وقد علت وجهيهما علامات تأفّف ورعب. وتحت السماء الحمراء في الخلفية يبدو شيطان مجنّح قبيح الملامح ومهلك النظرات وهو يراقب ما يحدث بابتسامة راضية وربّما يكون فخورا بنتيجة عمله.


    كان اوديلون ريدون رسّاما فرنسيا رمزيا أنجز أفضل أعماله باستخدام الباستيل.
    وفي نهايات حياته أبدع لوحات فاتنة بالألوان.
    غير أن أعماله المبكّرة كانت الأكثر إثارة للاهتمام. ويصعب الحديث عن لوحة معيّنة من لوحاته، فأعماله كلّها، تقريبا، عبارة عن صور غريبة وأحيانا مخيفة: عنكبوت يبتسم، وآخر يأخذ ملامح وجه إنسان، وأسنان تظهر على مجموعة من الكتب، وعين عملاقة تطلّ على منظر ريفي، وشجرة صبّار لها وجه، ونباتات بأغصان كرؤوس البشر .. إلى غير ذلك.
    "الأشباح" تعتبر واحدة من أكثر أعمال ريدون إثارة للرهبة.
    وهي تُظهِر امرأة ترتدي ملابس بيضاء وتقف في مكان يسيطر عليه ظلام حالك.
    وحول المرأة تظهر أرواح شيطانية وأفاعي وأقنعة تترصّد في الظلام.
    ويُحتمل أن لوحة ريدون تصوّر كابوسا، ويمكن أن تكون تصويرا لتوجّس الإنسان من الظلمة وخوفه من المناطق الخفيّة والغامضة.


    كانت الرمزية حركة أدبية وفنّية فرنسية. وكانت تركّز غالبا على الأشياء والظواهر المروّعة. الأدباء الرمزيون، مثلا، كانوا مفتونين بالشاعر الأمريكي ادغار الان بو. كما اظهروا اهتماما بلوحات الرسّام الفرنسي غوستاف مورو.
    في إحدى لوحاته، واسمها الظهور أو التجلّي، يرسم مورو الرأس المقطوع لـ يوحنّا المعمدان وهو يتراءى لـ سالومي في قصر الملك هارود.
    الدم يتدفّق من عنق المعمدان بينما تحدّق فيه سالومي بفم مفتوح ودموع منهمرة.
    بقع الدم تغطّي الأرضية بينما يقف الجلاد إلى يمين اللوحة مستندا على سيفه. وسالومي، كما قد يتخيّل الإنسان، تقف وجلة مرعوبة.
    الروائي جوريس هويسمان كتب باستفاضة عن هذه اللوحة في إحدى رواياته وقال واصفا إيّاها: في هذه الصورة الوحشية والمؤلمة تمتزج البراءة بالخطر والايروتيكية بالرعب. كانت زهرة اللوتس الطويلة قد اختفت والإلهة قد تلاشت. والآن ثمّة كابوس رهيب يمسك بخناق المرأة بعد أن أصابها الرقص بالدوار وأقضّ مضجعها الرعب.


    الفنّان الهولندي يان لويكن يمثل حالة مثيرة. فقد كان شخصا مسيحيا متعصّبا بعد أن عايش تجربة دينية حدثت له في صغره.
    كان معتادا على الصلاة والقراءة الدينية إلى حدّ الوسوسة.
    ثم أصبح يكتب الشعر الأخلاقي وامتلأ عقله بقصص معاناة المسيح وشهداء المسيحية.
    وقد كُلف بعمل الرسوم الإيضاحية لكتاب ديني بعنوان "مرآة الشهداء" يحكي عن حياة الشهداء وتضحياتهم.
    بالنسبة لعقل لويكن التقيّ وربّما المشوّش، كان هذا يعني وابلا من صور التعذيب والرعب وأحداث الموت الرهيبة التي عاناها الشهداء على مرّ التاريخ: رجل نصف مطبوخ يُقذف به إلى الحيوانات كي تلتهمه، نار تأكل قدمي رجل، صَلب، طعن بالرماح.. إلى آخره. هذه المشاهد البغيضة والمليئة باللحم البشري المشوي الذي يتصبّب منه الدم، مع كثافة الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة، تجعل من صور لويكن بعض أكثر اللوحات ترويعا وقسوة في تاريخ الفنّ.


    قد لا يحتاج هيرونيموس بوش إلى تعريف.
    كان هذا الرسّام الهولندي شخصا فريدا من نوعه. كان احد السورياليين الكبار وقد رسم عدّة صور مخيفة لمشاهد مليئة بالبشر والرعب.
    في لوحته "إغراء سانت انتوني" يرسم راهبة محبوسة داخل سمكة عملاقة ورجلا يقود كائنا من الزواحف.
    وفي لوحته الأشهر حديقة المباهج الأرضية يصوّر بوش في يمين اللوحة تفاصيل من الجحيم يظهر في احدها وحش له رأس طائر وهو يفترس إنسانا بينما يجلس على كرسي مرتفع.
    صور هيرونيموس بوش كانت دائما مصدر افتتان الكثيرين. وفي القرون المبكّرة كان الناس ينظرون إلى لوحاته على سبيل التسلية، بينما اسماه البعض رسّام الوحوش والغيلان. في القرن العشرين رأى بعض المؤرّخين والنقّاد في فنّه دلالات عميقة. والبعض يرى فيه رسّاما سورياليا حتى قبل ظهور السوريالية بصورتها الحديثة. وهناك اليوم محاولات كثيرة لتقصّي جذور ومعاني لوحاته الغريبة .


    الرسّام الاسباني العظيم فرانشيسكو دي غويا صدَمه مرض فتاك جعله يخشى الموت. كما عانى من الإحساس بالمرارة نتيجة تدهور الأوضاع في بلده وفي العالم.
    ونتيجة لذلك شرع في رسم لوحاته السوداء المشهورة على جدران منزله.
    وقد أودع في لوحاته تلك العديد من مشاهد الشرّ والحروب وظواهر ما وراء الطبيعة.
    لوحته "الماعز" تصوّر مجموعة من الساحرات يتجمّعن حول شيطان اسود له رأس ماعز.
    لكن أشهر تلك اللوحات والتي يمكن اعتبارها اللوحة الأكثر رعبا في تاريخ الرسم هي لوحته المسمّاة "زحل يفترس ابنه".
    في الأسطورة، يبدأ زحل بافتراس جميع أطفاله مدفوعا بخوفه من أن يُخلع عن عرشه.
    هذا الفعل المزدوج، أي التهام الأطفال وأكل لحوم البشر، يصوّره غويا بأكثر الطرق ترويعا وعنفا. زحل العملاق بأطرافه العنكبوتية والبرونزية يقف في الظلام ممسكا بجسد ابنه. وبإمكان المرء أن يرى أصابعه وهي تحفر في الجزء الخلفي من جسد الابن. وقد أكل للتوّ الرأس وأحد الذراعين. فم زحل مفتوح على اتساعه بينما يفترس الذراع الثانية. عيناه تلتمعان بالوحشية والجنون.
    هذه البدائية وهذا الرعب قد لا نجد لهما نظيرا في تاريخ الرسم كلّه.


    Credits
    barnebys.com