:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات أرسطو. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات أرسطو. إظهار كافة الرسائل

السبت، ديسمبر 16، 2017

صانع المطر


الصورة فوق هي إحدى الصور المألوفة والمنتشرة بكثرة في مواقع الانترنت. وهي في الوقت نفسه إحدى أكثر الأيقونات انتشارا واحتفاءً في ثقافة سكّان أمريكا الأصليين، أي الهنود الحمر.
اسم هذا الشخص الصغير الظاهر في الصورة هو كوكوبيللي. كوكو تعني الخشب وبيللي تعني ذا الظهر المنحني. لكنه أصبح يُعرف عموما بعازف الناي الأحدب.
وعمر الرجل يقارب الثلاثة آلاف عام، أي انه عاش حتى اليوم أكثر من مائة جيل. وقد وُجدت تصاويره الأولى منقوشة على الصخور في مناطق الجنوب الغربيّ الأمريكيّ، الذي يضمّ نيومكسيكو ويوتاه وأريزونا وكولورادو.
وأصل الكوكوبيللي ما يزال غامضا. لكن العديد من أساطير البيبلو والزوني والاناسازي وغيرهم من قبائل الهنود الحمر تزعم انه كان مخلوقا مقدّسا اُرسل من السماء وأن مهمّته كانت تحريض الناس على الحبّ والتعاطف.
ويقال أيضا انه كان إلها للخصوبة، ليس للبشر فقط وإنّما أيضا للنباتات والمحاصيل الزراعية التي يحتاجها سكّان أمريكا الأصليون في حياتهم ومعاشهم.
وقد اعتبروا وجوده نعمة، إذ بدونه لا تحلّ بركة ولا توجد حياة. لكنه في مراحل تالية أصبح ملهما للشعر والموسيقى والحرّية والإبداع. ومن مهامّه الأساسية تحريض فنّاني القبائل الهندية على خلق موسيقى عظيمة.
وهناك الكثير من الأساطير التي تُروى عنه. وإحداها تقول انه يسافر من قرية لأخرى فيحوّل الشتاء إلى ربيع ويذيب الثلج ويجلب المطر الذي تحتاجه الأرض والمخلوقات. أما لماذا يبدو ظهره محنيّا، فلأنه ينوء تحت ثقل أكياس البذور وكلمات الأغاني التي يحملها.



وهو يعزف الناي أثناء هبوب نسائم الربيع، فيجلب الدفء والحبور لساكني التلال. وعندما يسمع الناس عزفه فإنهم يباشرون الغناء والرقص طوال الليل. ولا يحلّ الصباح التالي إلا وقد ضمنت كلّ امرأة في القبيلة انه سيولد لها طفل.
الهنود الحمر شعب روحانيّ بامتياز. وقد نقلوا تاريخهم وأفكارهم وأحلامهم من جيل إلى جيل من خلال مثل هذه الرموز والعلامات.
والرمزية الخالدة والجذّابة للكوكوبيللي تتمثّل في افتتان الناس به حتى في عصر التكنولوجيا الحديثة. فصوره شائعة وحضوره واسع، ما يجعله شخصية مثيرة، لدرجة أن الإنسان الحديث لا يمكن أن يقاوم تقليد هذا الإنسان الضئيل والاحتفاظ بنسخ من صوره في البيوت والمكاتب.
الكوكوبيللي شخص غريب ووحيد. وهو دائم التحديق في الماضي، أي منذ اللحظة التي رسمه فيها فنّان مجهول على إحدى الصخور.
كما انه شخص كاريزماتيّ من حيث انه اُعيد ابتكاره مرّات كثيرة على أيدي الحكواتيين والفنّانين والحرفيين لآلاف السنين.
وصوره اليوم منقوشة على ألف صخرة، من مناطق الشرق إلى البحر الغربيّ العظيم، ومن بلاد الشمس الساخنة إلى سهول الأنهار الجليدية في أقاصي الشمال.
وطبيعة الكوكوبيللي التلقائية وأفعاله الخيّرة وروحه المتوثّبة هي بعض الأسباب التي حفظت له مكانة بارزة في أساطير الهنود الحمر حتى اليوم.

Credits
patheos.com

الأحد، سبتمبر 03، 2017

كهف أفلاطون


من طبيعة الكهوف أنها أماكن مظلمة وباردة، وأحيانا خطرة. وإذا وَجد إنسان نفسه محشورا داخل كهف يفتقر إلى مصدر للضوء، فإنه غالبا لا يستطيع أن يجد طريقا للخروج، وقد يتعرّض لخطر الموت إن لم يجد من يأخذ بيده وينقذه.
الفيلسوف اليونانيّ أفلاطون (427-347 قبل الميلاد) يورد في كتابه "الجمهورية" قصّة أراد من خلالها أن يوضح الفرق بين الحقيقة والوهم. والقصّة تتحدّث عن ثلاثة رجال عاشوا حياتهم كلّها، ومنذ أن ولدوا، داخل احد الكهوف.
كانوا مقيّدين إلى صخرة ولا يستطيعون رؤية شيء عدا الظلال المنعكسة على جدار الكهف من نار مشتعلة خلفه.
وكانوا مع ذلك يفاخرون بقوّة إبصارهم وبقدرتهم على تفسير الأشياء. لكنهم طوال الوقت كانوا ينظرون إلى الظلال التي لم تكن أكثر من نوع من الخداع البصريّ.
تخيّل انك احد هؤلاء الرجال الثلاثة. أنت مشدود الوثاق بحيث لا تستطيع أن تنظر خلفك أو إلى جوارك، فقط تنظر إلى الجدار الذي أمامك. وكلّ ما تستطيع أن تراه هو ظلال الأشياء التي يحملها الناس المارّون فوق باب الكهف المرتفع منعكسةً على الجدار. وإذا لم تكن قد رأيت أبدا الأشياء على حقيقتها فإنك ستظنّ أن ظلالها حقيقة.
تمضي القصّة فتقول إن احد الرجال الثلاثة، وبطريقة ما، تمكّن من الإفلات من قيده، ثم شقّ طريقه إلى خارج الكهف، وهناك اكتشف عالما جديدا بالمرّة.
السجين الهارب يُصدم من العالم الذي اكتشفه خارج الكهف. ولبعض الوقت، يعتقد بأن ما رآه غير حقيقيّ، لكنه عندما يعتاد عليه يدرك أن نظرته السابقة إلى الواقع كانت خاطئة. ثم يبدأ في فهم عالمه الجديد ويعرف بأن الشمس هي مصدر الحياة. ثم يباشر رحلة فكرية يدرك في نهايتها أن حياته الماضية كانت بلا جدوى أو غاية.
وعندما يعود إلى الكهف ليخبر زميليه عن العالم العجيب الذي رآه لأوّل مرّة خارج الكهف يرفضان كلامه بغضب. وعندما يحاول أن يحرّرهما من قيودهما يهدّدانه بالقتل.
كان أفلاطون يريد من خلال هذه القصّة المعبّرة أن يشير إلى حياة معلّمه سقراط الذي حكمت عليه أثينا بالموت سنة 399 قبل الميلاد لاعتراضه على أفكار اليونان القديمة. الرجل الذي خرج من الكهف ورأى الشمس لأوّل مرّة يرمز لسقراط. بينما الرجلان الآخران يرمزان لمجتمع أثينا في ذلك الوقت.
وعلى مستوى اشمل، فإن الكهف في القصّة يمثّل الأشخاص الذين يعتقدون أن المعرفة تأتي مما يرونه ويسمعونه في العالم، في حين أن ما يرونه أو يسمعونه قد لا يكون أكثر من ظلّ الحقيقة.
والسجين الهارب يمكن أن يمثّل الفيلسوف أو المفكّر الباحث عن المعرفة خارج الكهف أو خارج الحواسّ. بينما الشمس تمثّل الحقيقة والمعرفة الفلسفية. أما رحلة الرجل خارج الكهف فتمثّل رحلة الفيلسوف عندما يقرّر البحث عن الحكمة والحقيقة. وردّة فعل السجينين على زميلهما العائد تشير إلى أن الناس يخافون من معرفة الحقيقة ولا يثقون بالفلاسفة والمفكّرين.
هناك أيضا دروس إضافية يمكن استخلاصها من القصّة. فأفلاطون أراد الحديث عن قصور نظرتنا إلى العالم وحاجتنا لأن نتخيّل أكثر مما نراه. إذ أننا في الكثير من الأحيان ننظر فقط إلى ظلال الأشياء التي يتشكّل منها العالم. ورفيقا الرجل لم يصدّقاه لأنهما لم يكونا يتخيّلان عالما آخر وراء الظلال التي تخيّم على وجودهما. وهنا يمكن أن تكون القصّة استعارة قويّة عن أهميّة التفريق بين الجهل والاستنارة.
ويمكن أن تكون القصّة وصفا جيّدا للتلفزيون والإعلام. إذ نحتاج أيضا لأن نعرف سادة الظِّلال الذين يحرّكون الأشياء بخلق ظلال خادعة تُوهم المتلقّي بأن ما يراه أو يقرؤه هو حقيقة. لكن إذا ما شاهدنا أو قرأنا بحذر وفكّرنا بطريقة نقدية، فإن فهمنا للإعلام وأفكارنا عن العالم من حولنا ستزداد اتساعا، ومن ثم ستعتمد معرفتنا على الجوهر وليس على الظلّ أو ما نراه على السطح.
أيضا من الرسائل القويّة التي توصلها هذه القصّة أن من السهل على الإنسان تبنّي ايديولوجيا دينية أو سياسية معيّنة، خاصّة عندما لا يتحدّث إلا إلى الأشخاص الذين يتّفقون معه أو يوافقونه في أفكاره. لكن هذا يحرمه من الاستفادة ممّا لدى الآخرين من أفكار مختلفة ومغايرة.
لاحظ أن السجين الهارب ووجه بالرفض القاطع، بل والتهديد بقتله من قبل زميليه. وهذا يثبت أن الحوار المفتوح غير مُجدٍ، بل وغير وارد، عندما تكون العقول مغلقة. ويستتبع هذا ضرورة أن نحافظ على حياتنا وسلامتنا في ما نقوله أو نفعله، خاصّة إن كان لا يوافق السّلطة الأبويّة ونظرة العوامّ أو أفكار القطيع.
من الدروس الأخرى أيضا أن البشر يميلون بطبعهم إلى مقاومة التغيير ويرتاحون أكثر للأفكار الجاهزة والأعراف الراسخة. وأحيانا هم غير قادرين على معرفة الحقيقة، لأن العلاقات والأواصر القويّة تكبّلهم وتمنعهم من أن يديروا رؤوسهم ويلتفتوا حولهم.
وهناك درس آخر تُعلّمنا إيّاه القصّة وهو أن الناس، لكي يتعلّموا، ينبغي أوّلا أن يتحرّروا من أغلالهم وسجونهم الخاصّة، كالجهل وضيق الأفق والتحامل والمكابرة والعناد والتباهي الأجوف.
والدرس الأخير هو أن البحث عن الحقيقة يمكن أن يستمرّ حتى في البيئات المعادية أو غير المواتية. حتى في الكهوف المظلمة أو التي لا يتوفّر فيها سوى ضوء بسيط، يمكن أن يستمرّ التفكير رغم أن الناس هناك قد يتبنّون أفكارا دوغمائية أو مطلقة.
أمثولة كهف أفلاطون فتنت أجيالا من الفلاسفة والعلماء والروحانيين على مرّ العصور وحرّضتهم على تجاوز ما هو ظاهريّ وسطحيّ إلى البحث عن الجوهريّ والحقيقيّ. وواقع الحال هو أن كلّ واحد منّا يقضي وقتا طويلا داخل كهفه الخاصّ، لذا فإننا نحتاج من وقت لآخر لأن ننظر خارج الكهف وباتجاه الضوء.
لاحظ أيضا كيف أن أفلاطون يشير إلى أن الرجال الثلاثة مسجونون في الكهف منذ طفولتهم، وكأنه يوحي بأن الظرف الإنسانيّ نفسه هو عبارة عن ظلام دائم منذ الولادة، لأن المجتمع عادةً يقمع الفردانية ويصرّ على صهر الأفراد في قالب واحد ونسخ متطابقة.
صحيح أن بعض الناس يصعب عليهم العيش مع حالات الجدل والنقاش والمحاورة، غير أن أسلوب المحاججة وإثارة الأسئلة يظلّ أفضل بكثير من العيش داخل كهف مظلم إلى ما لا نهاية.

Credits
eduref.org

الأحد، ديسمبر 13، 2015

بورتريه لديكارت


عادة ما يكون الفلاسفة عرضة للاتهام بالكثير من الأخطاء والخطايا. أكثرهم نفوذا، أي أفلاطون وأرسطو وجون لوك وشركاءهم، ما يزالون يجتذبون حشدا من الأعداء الذين ينقّبون في أعمالهم، بحثا عن أخطاء أو لشجب تأثيرهم على الفكر الغربيّ.
وفي أيّامنا هذه، فإن رينيه ديكارت، المفكّر الفرنسي من القرن السابع عشر والذي كثيرا ما يوصف بأنه مؤسّس الفلسفة الحديثة، يُعتبر كيس اللكم المفضّل.
ومن علامات اتّساع نطاق تأثير هذا الرجل أنه صنع لنفسه الكثير من الأعداء، من بينهم علماء نفس ومدافعون عن حقوق النساء وعلماء أحياء ومدافعون عن حقوق الحيوان.
وكانت هناك ضربات أخرى وُجّهت له في الآونة الأخيرة أيضا. فطبيب الأعصاب أنطونيو داماسيو، في تقريره بعنوان "خطأ ديكارت"، هاجم فصل ديكارت العقل عن العاطفة. وفي تاريخ حقوق الحيوان، يوصف ديكارت باعتباره شخصا شرّيرا لادعائه أن الحيوانات ليست أكثر من مكائن متطوّرة وليس لها القدرة على الشعور بالألم. وقد كتب بمرح إلى صديق له عام 1638 يقول: فتحت صدر أرنب حيّ ثم أزلت الضلوع لأرى القلب وجذع الشريان الأورطي".
أمّا بالنسبة للبيئة، فإن التصوّر الديكارتي عن قصّة الإنسان "يسمح لنا بأن نعتقد بأننا منفصلون عن الأرض"، كما يقول آل غور في كتابه الصادر عام 1992 بعنوان "الأرض في الميزان". بل إن بعض المفكّرين الماركسيين يعزون اغتراب العامل في ظلّ الرأسمالية إلى تأثير ديكارت.
في كتابه الجديد والصغير بعنوان "الفيلسوف والكاهن والرسّام: بورتريه لديكارت"، يحاول الكاتب ستيفن نادلر أن يضع ديكارت في زمانه ومكانه الصحيحين ويوضّح الأسباب التي جعلت منه النجم والمفكّر الساطع في زمانه، أو بعبارته هو - أي المؤلّف - أعظم فيلسوف في قرن مليء بالفلاسفة.
عَرْض نادلر لحياة ديكارت يبدأ بلوحة. فأشهر صورة لهذا الفيلسوف تُعزى تاريخيّا للرسّام الهولندي العظيم فرانز هولس، مع انه لا يوجد دليل يُثبت أن الاثنين التقيا. كان هولس ملتزما بإنجاز لوحات لرعاته فقط. ولم يكن هؤلاء مفكّرين، بل رجال أعمال أثرياء في الغالب.
هل من رسم هذه الصورة هو هولس فعلا؟ وإذا كان هو من رسمها، فهل من يظهر فيها هو ديكارت حقّا؟ وإذا كان هو، فأين التقيا وكيف؟
المؤلّف يبحث عن إجابات لهذه الأسئلة وغيرها من خلال إعادة بناء حياة ديكارت في هولندا التي أقام فيها طويلا ونشر عددا من كتبه المهمّة. وبحسب نادلر، فإن ديكارت ينتمي للثقافة الفكرية للعصر الذهبيّ الهولنديّ بقدر ما ينتمي لتاريخ الفلسفة الغربية.
ولكي يتحقّق من قصّة البورتريه، يباشر بسرد ثلاث قصص: قصّة ديكارت، وقصّة الرسّام هولس، وقصّة الكاهن الكاثوليكي اوغستين بولمارت الذي كلّف الفنّان برسم اللوحة.
هولس في البورتريه رسم شيئا بسيطا وسريعا بضربات فرشاة واسعة وقصيرة، رسم رأس ومنكبي رجل في منتصف العمر بشعر طويل فاحم وشارب وذؤابة صغيرة تحت شفته. كما أضاف له ياقة بيضاء مطويّة فوق معطفه الأسود، على طريقة القرن السادس عشر.
ويقال إن فكرة البورتريه، الموجود اليوم في متحف بكوبنهاغن والذي تمّ استنساخه مرارا، جاءت بناءً على طلب الكاهن بولمارت الذي كان صديقا حميما لديكارت. وقد أراد الكاهن أن يحتفظ بتذكار للفيلسوف قبل أن يغادر "أي ديكارت" هولندا حيث كان يعيش، قاصدا استوكهولم كي يدرّس الفلسفة لكريستينا ملكة السويد. وكان ديكارت يقيم في هولندا ابتداءً من عام 1629، وقضى معظم حياته فيها بعيدا عن أعين الكنيسة.
ولد رينيه ديكارت عام 1596م. وفي سنّ العاشرة حضر دروسا في إحدى أفضل الكلّيات اليسوعية في فرنسا. ومنها حصل على أفضل تعليم في الفلسفة الارسطية. وبكلمات المؤلّف نادلر، أتاحت له تلك الدراسة "الاطلاع على نظريات بالية علميّا عن الكون، ولكنها مقبولة دينيّا". وهذه هي الأفكار التي سينقلب عليها ديكارت في ما بعد.
وبينما يتمّ تذكّره اليوم على انه الفيلسوف الذي قال "أنا أفكّر، إذن أنا موجود"، فإن أعمال ديكارت هي أوسع وأهمّ من ذلك بكثير.
كان عالم رياضيات لامعا، وكتب على نطاق واسع في علم الأحياء والبصريات وعلم الكونيات.
في العلم، كان مشروع ديكارت الكبير هو استبدال تجريدات أرسطو بصورة آليّة للكون لا يمكن أن تُفسّر إلا من منظور المادّة والحركة والتأثير. وفي الفلسفة، كان يبحث عن نقطة من اليقين المطلق أو الأساس المتين الذي يمكن أن يقيم عليه منظومة فكرية جديدة.
ثمّ يقدّم المؤلّف شرحا لفلسفة وعِلم ديكارت، ويعطي القاري لمحة عن طبيعة الحياة في العصر الذهبيّ الهولنديّ. كما يخصّص فصلا من الكتاب لتحفة ديكارت، أي كتاب "التأمّلات"، الذي يشبه كتاب "الحوارات" لأفلاطون وكتاب "ما وراء الخير والشرّ" لنيتشه.
تأمّلات ديكارت تتكشّف في وقت متأخّر من الليل، وتبدأ وهو يرسم لنفسه صورة بينما يجلس إلى جانب المدفأة ويرتدي ملابس شتوية. انه يضع مشهدا مألوفا يمكن لأيّ قارئ أن يتخيّل نفسه فيه أيضا. في التأمّل الأوّل يقرّر أن ينبذ كلّ معتقداته التي يمكن أن يخالطها أقلّ قدر من الشك. وهدفه هو أن يكتشف حقيقة لا يمكن دحضها ويمكن أن يبني عليها أساسا لفلسفته الجديدة.
ديكارت لم يكن مجرّد فيلسوف بالمعنى الحديث للكلمة، بل يمكن فهمه أفضل كعالِم. في هولندا نراه يتجوّل في الريف ويُجري تجارب على الدواجن ليرى كيف تتشكّل الفراخ الصغيرة، أو يشرف على عمل المزارعين المحليين وهم يذبحون الأبقار لكي يتمكّن من فحص نموّ صغارها.
الكنيسة لم تكن على وفاق مع ديكارت، بسبب حديثه عن الشكّ واليقين، ومن ثمّ اتهمته بأنه يريد تقويض الإيمان بالله. وبعد وفاته، وضعت السلطات الكنسية معظم كتاباته في خانة الكتابات الممنوعة. ومن الواضح أن رؤيته للأشياء لم تكن تتّفق مع تلك التي للاهوت.
بعد طول تفكير، قبِل ديكارت دعوة ملكة السويد بالذهاب إلى الشمال المتجمّد. كان يكره البرد دائما. ولطالما قضى ليالي الشتاء مع الكاهن بولمارت في الاستماع إلى الموسيقى المبهجة.
وفي السويد، كان من عادته أن يبقى في سريره الدافئ حتى ساعة متأخّرة من الصباح. وقد أصيب بالتهاب رئويّ وتوفّي بعد أشهر قليلة من وصوله إلى هناك.
صديقه بولمارت كان يستمتع بالنظر إلى البورتريه بعد أن فقد صاحبه. أما الملكة التي تعيش في قصر ثلجيّ، أي كريستينا، فقد اعتنقت أفكار معلّمها بعد موته. ومن جهتهم، قضى الفلاسفة ورجال الدين مئات السنين ودمّروا فدادين من الغابات ليكتبوا الكتب والمقالات الكثيرة التي تتحدّى فلسفة ديكارت وتهاجمه وتحاول دحض أقواله والتقليل من جهده.

Credits
slate.com
the-tls.co.uk

الثلاثاء، يوليو 07، 2015

عن الكتب والقراءة


صديقي، الذي يفاخر دائما "ومعه حقّ" بأنه قرأ كتبا أكثر بكثير ممّا قرأت، حدّثني منذ أيّام عن قائمة الكتب التي يقرؤها منذ بداية شهر رمضان. وقد اختار لقراءاته الرمضانية مجموعة من الكتب القديمة والمعروفة، وذكر في ما ذكر كتبا مثل الكامل في التاريخ لابن الأثير وكتاب الجمهورية لأفلاطون والقانون في الطبّ لابن سينا وكتاب التواريخ لهيرودوت، بالإضافة إلى كتاب العقد الاجتماعي لجان جاك روسو.
طبعا أعرف أن صديقي لا يبالغ، وهو بالتأكيد لا يدّعي شيئا ليس فيه، فأنا اعرف انه "دودة كُتُب" من النوع الذي لا يكلّ ولا يملّ من قرض والتهام كلّ ما تقع عليه يده. وهو يقرأ في جميع التخصّصات، ولهذا لا أبالغ إن وصفت ثقافته بأنها موسوعية على مستوى ما.
في اليوم التالي لحديثنا، جلست أفكّر في ما سمعته منه، ومرّت بذهني أسماء بعض الكتب القديمة والمشهورة التي ظللت احلم بقراءتها يوما ما، ولم يتسنّ لي تحقيق ذلك بسبب كثرة الأعمال والمشاغل. وكلّ تلك الكتب التي ذكرها لي صديقي هي من الكتب التي يبدو أنني اكتفيت بالسماع عنها دون أن يسعفني الحظّ والوقت لقراءتها.
ثم خطرت ببالي بعض الأسئلة عن جدوى قراءة مثل هذه النوعية من الكتب الآن، وبعضها قديم جدّا يعود إلى أكثر من ألفي عام، وكيف أن مضمون بعضها قد لا يكون ذا صلة بواقع العالم الذي نعيش فيه اليوم. وبطبيعة الحال فإن مشاكلنا الاجتماعية والسياسية والثقافية ملحّة جدّا بحيث أنها تتطلّب عمليّا كلّ الوقت والطاقة التي يمكن أن نكرّسها للقراءة المعاصرة والجادّة.
والسؤال ليس عن قيمة الكتب القديمة، إذ قد تكون لها قيمة عند المتخصّصين، ولكن عن جدوى قراءتها هذه الأيّام. مثلا، ما فائدة قراءة كتاب الجمهورية لأفلاطون أو كتاب العقد الاجتماعي أو كتاب هيرودوت في عالم تطوّرت فيه نظريات السياسة وتغيّرت جذريا طبيعة دراسة التاريخ والعلوم التي تتناول دراسة المجتمع والدولة وأنظمة الحكم؟
وما فائدة قراءة كتاب في الطبّ أو في الفلك ألّفه أناس عاشوا قبل أكثر من ألف عام وأصبحت مقولاتهم وآراؤهم متقادمة بعد أن عفا عليها الزمن ونسختها الطفرات المتسارعة من المعارف والنظريات والابتكارات المستجدّة التي نراها من حولنا كل يوم؟
وأيضا ما جدوى قراءة كتب ابن بطّوطة أو ماركو بولو عن عجائب وأساطير العالم القديم؟ أيّ فائدة معرفية يمكن أن تعود علينا الآن من قراءة مثل هذه النوعية من الكتب التي لا شكّ كانت عظيمة في وقتها، لكنها الآن تُعتبر بسيطة وساذجة بنظر البعض؟ وأليس من الأفضل قراءة كتب لها علاقة بالحاضر وبهموم وقضايا اليوم؟
من بين أهمّ من ناقشوا مثل هذه الأسئلة الكاتب الأمريكي مورتيمر ادلر الذي كان فيلسوفا ومنظّرا في التربية وفي طرق التعليم. تخيّل ادلر ذات مرّة جامعة تتألّف هيئة تدريسها من مشاهير الكتّاب والفلاسفة والمفكّرين. فمثلا هيرودوت وثوسيداديس يدرّسان في هذه الجامعة تاريخ اليونان. وغِيبون يحاضر في سقوط روما. وأفلاطون يعطي دورة في الميتافيزيقيا أو الغيبيات. وفرانسيس بيكون وجون ستيوارت ميل يناقشان منطق العلم. وأرسطو وسبينوزا وإيمانويل كانت يتناولون المسائل الأخلاقية. ومكيافيللي وتوماس هوبز وجون لوك يتحدّثون في السياسة.
وفي هذه الجامعة، يمكنك اخذ سلسلة من الدورات في الرياضيات والفلسفة من اقليدس وديكارت، وسيضاف إليهما كلّ من برتراند راسل ووايتهيد في نهاية المطاف. كما بإمكانك الاستماع إلى توما الاكويني ووليم جيمس وهما يتحدّثان عن طبيعة الإنسان والعقل البشري، وربّما يقوم بالتعليق على محاضراتهما جاك ماريتان.
وإن كنت متخصّصا في الاقتصاد فستستمع إلى محاضرات من كلّ من آدم سميث وريكاردو وكارل ماركس وماكلوهان مارشال. بينما يناقش جون ديوي المشاكل الاقتصادية والسياسية للديمقراطية الأمريكية ويحاضر لينين عن الشيوعية.
وإذا كان تخصّصك في الفنون، فستكون على موعد مع محاضرات في النحت والرسم يلقيها ميكيل انجيلو وليوناردو دا فينشي، ومحاضرات أخرى عن ليوناردو نفسه، حياته وفنّه، يلقيها فرويد!
ثم يتساءل ادلر: تُرى من منّا لا يرغب في الذهاب إلى هذه الجامعة التي تضمّ كلّ هذه الأسماء المفكّرة واللامعة؟


الشرط الوحيد للقبول في هذه الجامعة العظيمة أن تدفع رسما بسيطا. وهذا الرسم لا علاقة له بالمال من قريب أو بعيد، بل يتمثّل في شرط واحد فقط: أن تتوفّر لديك المقدرة والرغبة في القراءة والمناقشة.
والجامعة متاحة للجميع، أي لكلّ من يرغب في أن يتعلّم ويناقش، وهي متوفّرة لكلّ شخص راغب وقادر على أن يتعلّم على يد معلّمين من ارفع مستوى.
ثم ينتقل ادلر لمحاولة الإجابة على السؤال الذي طرحته آنفا وهو: هل ثمّة جدوى من قراءة "الكتب العظيمة" التي تتعامل مع مشاكل وهموم العصور الغابرة؟ وهل هناك أيّة قيمة، عدا الأهمية التاريخية، في قراءة الكتب التي كُتبت في ثقافات قديمة وبسيطة؟
ويجيب بقوله: الناس الذين يشكّكون، أو حتى يحتقرون دراسة الماضي وأعماله، عادة ما يفترضون أن الماضي مختلف تماما عن الحاضر، وأننا بالتالي لا يمكن أن نتعلّم شيئا مفيدا من الماضي. ولكن هذا غير صحيح، فبإمكاننا أن نتعلّم الكثير من تشابه واختلاف القيم الآن وفي الماضي.
لقد حدث تغيير هائل في ظروف حياة الإنسان وفي معرفتنا بالسيطرة على عالم الطبيعة منذ العصور القديمة. القدماء لم يكن لديهم العون ولا البصيرة التي تتوفّر في بيئتنا التقنية والاجتماعية الحالية، وبالتالي هم لا يملكون مشورة يقدّمونها لنا لتعيننا على حلّ المشاكل التي نواجهها اليوم.
ولكن على الرغم من أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية تختلف باختلاف الزمان والمكان، إلا أن الإنسان يظلّ هو الإنسان. ونحن والقدماء نشترك في نفس الطبيعة البشرية، وبالتالي في بعض التجارب والمشاكل الإنسانية المشتركة.
الإنسان القديم، تماما مثلنا اليوم، كان يرى شروق الشمس وغروبها ويشعر بهبوب الرياح وهطول المطر، وكانت تتملّكه مشاعر الحبّ والرغبة. كما جرّب النشوة والغبطة، فضلا عن الإحباط وخيبة الأمل وعرف الخير والشرّ.
القدماء يتحدّثون إلينا من وراء القرون، وأحيانا بشكل أكثر مباشرة ووضوحا من بعض كتّابنا المعاصرين. والأنبياء والفلاسفة القدامى، من خلال تعاملهم مع المشاكل الأساسية للبشر الذين عاشوا في تلك المجتمعات، ما يزال لديهم شيء يقولونه ويقدّمونه لنا.
ويضيف ادلر قائلا: صحيح أنه لم يحدث في أيّ عصر سابق أن تعرّضت الحياة على الأرض لخطر الإبادة بحرب نووية. غير أن العصور الماضية أيضا عرفت الحروب والإبادة واستعباد شعوب بأكملها. مفكّرو الماضي كانوا يتأمّلون مشاكل الحرب والسلام وقدّموا اقتراحات تستحقّ الاستماع إليها. شيشرون ولوك، مثلا، أثبتا أن الطريقة المثلى في تسوية النزاعات بين البشر هي من خلال المفاوضات والقانون، في حين اقترح دانتي إنشاء حكومة عالمية تسعى لتكريس السلام والوئام بين أمم الأرض.
وصحيح أيضا أن الناس الذين عاشوا في العصور السابقة لم يواجهوا أشكالا معيّنة من الديكتاتورية التي عرفناها في هذا القرن. ولكنهم مرّوا بتجارب مباشرة مع الاستبداد المطلق وقمع الحرّيات السياسية. وأطروحة أرسطو في السياسة تتضمّن تحليلا معمّقا عن الديكتاتوريات، وكذلك توصية بالتدابير التي يجب اتخاذها لتجنّب الأشكال المتطرّفة من الاستبداد والفوضى.
ونحن اليوم أيضا – يضيف ادلر - يمكننا أن نتعلّم من الماضي وذلك من خلال التمعّن في العناصر التي يختلف بها عن الزمن الحاضر. ويمكننا أن نكتشف ما نحن فيه اليوم من خلال ما أصبحنا نعرفه عن أنماط تفكير وتصرّف الشعوب والأمم التي سبقتنا. وجزء من الماضي، أي ماضينا نحن وأيضا ماضي الجنس البشري بأكمله، يعيش في داخلنا دائما.
ويخلص الكاتب إلى القول إن التفضيل الحصري، إمّا للماضي أو الحاضر، هو شكل من أشكال الغباء والتكبّر والإسراف، وأننا يجب أن نسعى لكلّ ما هو صالح ومفيد في أعمال المعاصرين والسالفين. وعندما نفعل ذلك، سنجد أن الشعراء والفلاسفة القدماء هم بقدر ما معاصرون في عالم العقل لأكثر كتّاب العصر الحاضر فطنة وقوّة ملاحظة.
بل ويمكن القول إن العديد من الكتابات القديمة تتحدّث بصورة أكثر مباشرة إلى تجربتنا وأحوالنا وظروفنا اليوم بأفضل ممّا تفعله بعض أكثر الكتب حداثة ورواجا هذه الأيّام.

الأربعاء، يونيو 25، 2014

تأمّلات ماركوس اوريليوس

تخيّل أن يصبح فيلسوف حاكما أو امبراطورا على بلد ما، ما الذي سيحدث؟!
ماركوس اوريليوس كان امبراطورا حكم روما من عام 161 إلى عام 180م. وكان يشاركه الحكم امبراطور آخر يقال له لوسيوس إلى حين وفاة الأخير عام 169م.
كان اوريليوس الأخير في سلسلة من الحكّام الذين كانوا يسمّون بالأباطرة الخمسة الطيّبين. والمؤرّخون يعتبرونه احد أهمّ الفلاسفة الرواقيين. وما أن يُذكر اسمه حتى يتبادر إلى الذهن كتابه المشهور "التأمّلات"، وهو مجموعة من التمارين الفلسفية التي تُعنى بتحليل أحكام الإنسان على الأشياء ومحاولة استنباط فكرة أو منظور شامل عن الكون.
وفي الكتاب أيضا يتحدّث اوريليوس عن الخدمة والواجب وكيف يمكن للإنسان أن يحتفظ بالاتزان ورباطة الجأش وسط الصراع وذلك باتّباع الطبيعة كمصدر هداية وإلهام.
من منظور حديث، لا يمكن تصنيف ماركوس اوريليوس ضمن الصفّ الأوّل من الفلاسفة القدماء. وبالتأكيد هو ليس بمنزلة أفلاطون ولا أرسطو أو سقراط. لكن هذا لا يقلّل من مكانته كفيلسوف ولا من قيمة وأهمّية كتابه.
والذين أرّخوا لحياته قديما قالوا انه كان رواقيّا وأنه تتلمذ على يد ايبيكتيتوس. لكن في "التأمّلات" لا توجد إشارة واضحة على كونه رواقيّا. وربّما يوحي هذا بأنه ألّف الكتاب لنفسه ولم تكن تلك محاولة منه لتعريف نفسه للجمهور. لكن من الواضح أن الرجل كان منفتحا على الأفكار والتقاليد الفلسفية المختلفة في زمانه.
كتاب "التأمّلات" لا يقدّم نظريات فلسفية مثل تلك التي كتبها أرسطو مثلا. كما لا يمكن مقارنته بنظريات هيروكليس الرواقي الذي يقال انه كان معاصرا لماركوس. لكن هذا الكتاب يحتوي على بعض الاضاءات والحكم الفلسفية العميقة.
يقول اوريليوس مثلا:
  • كم من الوقت يمكن أن يوفّر الإنسان لو انه لا يهتمّ بما يفعله جاره أو فيمَ يفكّر.
  • لا تنظر إلى شيء على انه ميزة لك إذا كان ثمنها أن تنكث بوعودك وتفقد احترامك لنفسك.
  • الإنسان النبيل يقارن نفسه بمن هم اكبر منه. والإنسان الوضيع يقارن نفسه بمن هم اقلّ منه.
  • الموت يحرّر الإنسان من متطلّبات الحواسّ ومن الرغبات التي تستعبدنا ومن تقلّبات العقل ونزوات الجسد.
  • انظر إلى الماضي وتأمّل كم من الامبراطوريات التي صعدت ثم سقطت. ويمكنك بعد ذلك أن تتنبّأ بالمستقبل أيضا.
  • عندما تستيقظ في الصباح، فكّر في معنى وقيمة أن تكون على قيد الحياة. أن تفكّر يعني أن تستمتع وأن تحبّ.
  • أفضل أنواع الانتقام هي أن لا تتصرّف مثل الشخص الذي أساء إليك أو ألحق بك أذى.
  • غاية الحياة ليست في أن تكون في صفّ الأغلبية، ولكن في أن تهرب لتجد نفسك في النهاية في صفوف المجانين.
  • حاول أن تستمتع بحياتك. إن كانت هناك آلهة وهي عادلة فلن تهتمّ بما إذا كنت تقيّا أم لا، ولكنها سترحّب بك وترضى عنك بسبب الفضائل التي تحوزها. وإن كانت هناك آلهة وهي ليست عادلة فلا يجب أن تقدّسها من الأساس.
  • ليس الموت ما يجب أن يخشاه الإنسان، بل الخوف من أن لا يعيش حياته أبدا.
    المؤسف أن عهد ماركوس اوريليوس الذي دام عقدين اتسم باستمرار الحروب والصراعات. ولأنه رجل مثقّف وصاحب فكر إنساني كما تشي بذلك كتاباته، فقد كان يكره الحروب وسفك الدماء ويؤمن بالحوار بديلا عن المواجهة والقتال.
    غير انه لم ينسَ أيضا انه رجل سياسة وانه مسئول عن مصير بلد وأن عليه أحيانا أن يتخذ قرارات حازمة ومؤلمة. لذا تحتّم عليه مواجهة سلسلة من الغزوات على يد القبائل الجرمانية. كما اُجبر على أن يواجه ثورات وتمرّدات داخلية من قبل بعض قوّاده. وخلال حكمه، ألحق الهزيمة بالإمبراطورية البارثينية في الشرق واستولى على المدائن عام 164م.
    ومن المفارقات الغريبة أن اوريليوس ألّف كتاب "التأمّلات" عندما كان منهمكا في تسيير إحدى حملاته العسكرية ما بين عامي 170 و180م. كان من عادته أن يفوّض الكثير من صلاحياته لقائد جيشه بينما يصرف هو معظم وقته في الكتابة والتأمّل.
    يقول ماركوس اوريليوس في نهاية كتابه: سعادتك في الحياة تعتمد على نوعيّة أفكارك".
    ويمكن القول بلا مبالغة أن هذه العبارة تختزل كلّ ما يقوله ويردّده منظّرو تطوير الذات في كتبهم ومحاضراتهم هذه الأيّام.
  • الثلاثاء، يونيو 17، 2014

    الأرض: 4 نظريات مخيفة


    قد يكون غاليليو تعرّض للتهديد من قبل محاكم التفتيش منذ ما يقرب من 400 سنة. ولكن ما حدث له لم يكن أمرا مرعبا كثيرا. وسواءً كانت الأرض تدور حول الشمس "كما كان يعتقد كوبرنيكوس وغاليليو ونيوتن"، أو العكس "كما في النموذج القديم لبطليموس أو أرسطو"، فإن الكون الذي تخيّله غاليليو ما يزال مكانا هادئا.
    لكن في هذه الأيّام، يواجه علماء الفلك تهديدات تقشعرّ لها الأبدان. وفي ما يلي بعض الأشياء التي تدعو الفلكيين للقلق والتي قد تتسبّب أيضا في إثارة قلق القارئ.
    معظمنا، نحن البشر، يعتقدون أننا ملوك الأرض وأننا نتصارع كي نمدّ ونوسّع هيمنتنا بفضل ما نملكه من أدمغة كبيرة. ولكنّ هذا هو بالضبط ما فعلته الديناصورات من قبل. ففي احد الأيّام، قبل ما يقرب من 65 مليون سنة، اعترض طريقها كويكب صغير واصطدم بالأرض مخلّفا وراءه سحابة من الغبار لم تلبث أن انتشرت في جميع أنحاء الكوكب. وبسبب الانخفاض الشديد في درجات الحرارة الذي أعقب ذلك، ماتت آلاف الأنواع والمخلوقات على الأرض. وانضمّت الديناصورات إلى عملية الانقراض الجماعي تلك. واليوم، وفي أيّ وقت، يمكن أن نتعرّض، نحن أيضا، لانقراض جماعيّ مماثل.

  • الأدلّة على احتمال حدوث اصطدام كويكب آخر بالأرض يمكن أن نجدها من خلال تحليل الاصطدامات التي حدثت في الماضي، مثل ذلك الذي أنهى عصر الديناصورات. لكن ما الذي نعرفه عن ذلك الاصطدام الذي وقع منذ زمن طويل؟ الأدلّة على الاصطدام بدأت تظهر تباعا عندما اكتشف عالم في جامعة كاليفورنيا يُدعى لويس ألفاريز عنصر الإيريديوم في طبقة تتوزّع على جميع أنحاء كوكبنا. وقد عرف أن الطبقة تحتوي على إشعاع يعود إلى 65 مليون سنة. ولأن الكويكبات تكون في بعض الأحيان غنيّة بالمعادن، فقد استنتج العالِم أن فكرة الاصطدام ممكنة ومعقولة.
    التحقّق من هذه النظرية تأكّد عندما وُجدت الحفرة الفعلية التي أنشأها الكويكب لدى ارتطامه بالأرض، وذلك في المحيط قبالة شبه جزيرة يوكاتان في المكسيك. والحفرة مغطّاة الآن بالرواسب. لكن الجيولوجيين ورسّامي خرائط الفضاء تتبّعوا بُنيتها، واكتشفوا مئات الحلقات العملاقة التي تمتدّ مئات الأميال عبر سطح الأرض.
    وبناءّ على هذه الأدلّة، يقدّر العلماء أن الكويكب الذي ضرب الأرض خلال عصر الديناصورات ربّما كان عرضه حوالي عشرة كيلومترات. وهذا خبر سيّئ، لأنه ثبت أن الكويكبات أو النيازك التي لها هذا الحجم تضرب الأرض مرّة كلّ 100 مليون سنة أو نحو ذلك. وبالتالي، قد لا نكون بعيدين زمنيّا عن حادث مماثل.
    وهناك الآن عدّة مشاريع فضائية تقوم بمسح السماء للكشف عن أيّة كويكبات قد تكون في مسار تصادميّ مع الأرض. ويأمل العلماء أنه إن كانت هناك كويكبات عملاقة قادرة على التسبّب بنهاية العالم في طريقها إلينا، أن تكون تلك الكويكبات الآن في مدار حول الشمس، ما يوفّر لسكّان الأرض إنذارا مسبقا لبضع سنوات بأن عليهم أن يفعلوا شيئا لتجنّب كارثة ممكنة.
    وتشير التقديرات إلى أن هناك حوالي 1000 كويكب قريب من الأرض، يبلغ قطر الواحد منها أكثر من كيلومتر "أي انه ما يزال يشكّل تهديدا لكوكبنا". ويذهب علماء الفلك إلى أن هناك فرصة 1% لأن يصطدم احدها بالأرض مرّة كلّ ألف عام. لذلك قد لا يكون الوقت قد حان لبناء مأوى ضخم مثل ذلك الذي صُمّم في أربعينات القرن الماضي. لكن ليس من الحكمة أيضا الركون إلى الهدوء وتصوّر أن لا شيء يدعو للقلق وأن كلّ شيء على ما يُرام.

  • مصدر الخطر الثاني على الأرض قد يأتي من الشمس. في ذروة أيّام الصيف، قد تظنّ أن أشعّة الشمس ساخنة للغاية. ولكنك في الواقع لم ترَ شيئا بعد حتى الآن. فالشمس ستصبح أكثر حرارة في المستقبل. سطح الشمس اليوم تبلغ حرارته حوالي 6000 درجة مئوية "أي حوالي 10000 درجة فهرنهايت". المشكلة هي أن الشمس ليست سوى نجم في منتصف العمر الآن. والنجوم، على عكس البشر، تصبح أكثر سخونة كلّما تقدّم بها العمر.
    العلماء يحدّدون شدّة حرارة الشمس من خلال قياس ضوئها بطريقتين مختلفتين: الأولى هي أن ننظر إلى لون الشمس، والثانية هي أن نجزّيء ضوءها نسبة إلى طيفها اللونيّ.
    الشمس الآن هي في منتصف عمرها الذي يُقدّر بـ 10 بلايين سنة. وفي غضون بضعة بلايين أخرى من السنين، ستبدأ الأجزاء الخارجية من الشمس بالانتفاخ، ما يجعل الأرض أكثر سخونة. وفي نهاية المطاف ستغلي المحيطات والبحار والأنهار وتتبخّر مياهها، ما يجعل بقاء البشر على قيد الحياة احتمالا مستحيلا. في ذلك الوقت، ربّما يكون البشر قد تمكّنوا من صنع صواريخ قادرة على حملهم إلى أماكن أبعد داخل النظام الشمسي، أو حتى إلى أماكن أخرى بالقرب منه.
  • وبعد حوالي 5 بلايين سنة، ستتضخّم الشمس للغاية بحيث تصبح "عملاقا أحمر"، بينما يتمدّد سطحها إلى ما وراء مدار عطارد اليوم. وبحلول ذلك الوقت، ستتفحّم الأرض، ولن يكون أحد موجودا وقتها ليرى الشمس وهي تتخلّى عن طبقاتها الخارجية. صحيح أن هذا الحدث مرعب، لكنّه يوفّر منظرا فلكيّا جميلا. إذ ستنتفخ الطبقات الخارجية للشمس وتتطاير بعيدا في الفضاء لتشكّل سديما ملوّنا مثل سديم الحلَقة المشهور. كما لن يكون احد موجودا على الأرض عندما ينكمش ما تبقّى من نواة الشمس لتصبح قزما ابيض شديد الحرارة جدّا.
    وقد يدهشك أن تعرف أن بعض أجزاء الشمس هي الآن أكثر سخونة بكثير من 6000 درجة مئوية. مركز الشمس نفسه تبلغ حرارته حوالي 15 مليون درجة. والطبقة الخارجية للشمس، أي الهالة الشمسية "أو الإكليل" التي نراها في الكسوف الكلّي، تبلغ حرارتها حوالي مليوني درجة مئوية "أي 4 ملايين درجة فهرنهايت". ولكن تلك الحرارة العالية لا تبيّن لنا سوى أن الجسيمات "أي الإلكترونات والبروتونات وغيرها" في الهالة تدور بسرعة كبيرة جدّا. لكن لحسن الحظ، ليس هناك ما يكفي من تلك الجسيمات لتمسك بكمّية خطيرة من الطاقة.

  • مصدر الخطر الثالث على الأرض هو السوبرنوفا أو النجوم المتفجّرة. صحيح أن شمسنا قد تتسبّب في "شوي" كوكبنا خلال بضع بلايين من السنين. ولكن هناك بعض النجوم الأخرى التي يمكن أن تنفجر، أو تتفجّر إلى الداخل على وجه الدقّة، في أيّ يوم. المعروف انه في نواة أيّ نجم، يحوّل الانصهار الهيدروجين إلى هيليوم والقليل من الهيليوم إلى كربون. يبدو الأمر مؤذيا بما فيه الكفاية، أليس كذلك؟
    لكن في نجم أكثر ضخامة، أي أكثر من كتلة الشمس بخمسة أضعاف أو أكثر، فإن داخل النجم يصبح حارّا جدّا لدرجة أن الكربون في النواة ينصهر ليتحوّل إلى عناصر أثقل كالأكسجين والمغنيسيوم. وتَشكُّل هذه العناصر الأثقل يولّد قدرا كبيرا من الطاقة. وفي نهاية المطاف تتحوّل العناصر إلى حديد، عندما تنفتح كلّ أبواب الجحيم. وعندما يستمرّ الاندماج في نواة النجم، فإن الحديد يأخذ طاقة بدلا من أن يعطيها. لذا عندما يتراكم الحديد في النواة، يتمّ امتصاص الطاقة من مركز النجم، ما يؤدّي إلى انهيار النجم إلى الداخل. وفي غضون ثوان، فإن الطبقات الخارجية تسقط إلى الداخل من ملايين الأميال ويصبح النجم سوبرنوفا أو نجما متفجّرا أو "مستعراً أعظم" كما يُسمّى بالعربية.
    علماء الفلك يعتقدون أن سوبرنوفا أو مستعراً أعظم يتفجّر في مجرّتنا كلّ 100 سنة أو قريبا من ذلك. ولكن لم نرَ أيّ شيء مثل هذا منذ أن رأى الفلكيّون الأوائل مثل تايكو برايي (عام 1572) ويوهانز كيبلر (في 1604) مثل هذا وكتبوا عنه. السبب قد يكون أن معظم النجوم المتفجّرة يُعتقد أنها تكون على الجانب الآخر من المجرّة، وهي مخبّأة عنّا بسبب الغبار في مركز مجرّتنا. وأقرب سوبرنوفا نعرفه اليوم تشكّل مؤخّرا في سحابة ماجلان ، وهي واحدة من المجرّات التابعة لدرب التبّانة، كما أنها اقرب إلينا على الأرض من بعض أجزاء مجرّتنا. وقد انفجرت السوبرنوفا في عام 1987 ووصلت إلى درجة سطوع يكفي لأن يُرى بالعين المجرّدة.
    لقد ظللنا حتى الآن بمأمن من هذه النجوم المتفجّرة بعيدا. ولكن تفجّر أيّ منها بالقرب من منطقتنا على المجرّة يمكن أن يمسحنا عن الخارطة تماما بالأشعّة السينية وبأشعّة غاما وجزيئات أخرى. ومثل هذا الاحتمال واقعيّ جدّا. وكان بعض العلماء قد صوّبوا تلسكوباتهم على جرم محدّد بدا كما لو انه نجم كبير. وعلى مدى السنوات المائة الماضية، أو نحو ذلك، سطع النجم وتغيّر إلى حدّ كبير. ربّما كان سوبرنوفا على وشك الانفجار. أو قد يكون نجما انفجر بالفعل. وربّما يكون الإشعاع الصادر عنه في طريقه إلينا الآن ويُنتظر وصوله في أيّ يوم!

  • مصدر الخطر الرابع على الأرض هو تسارع الكون. الفلكيّ ادوين هابل اكتشف في عشرينات القرن الماضي أن الكون يتوسّع باستمرار. وفي ذلك الوقت، قاس هابل التغيّرات في السماء من خلال جلوسه في العراء والبرد كلّ ليلة وباستخدام تلسكوبه الضخم. ولاحظ أن الطيف الضوئي في السماء أظهر جميع أنماط الألوان وكذلك تحوّلاتها. كما لاحظ من خلال الصور التي التقطها أن المجرّات الأبعد تتغيّر أطيافها أكثر. وفي قفزة عبقرية، استنتج هابل أن الكون آخذ في التوسّع بشكل مستمرّ.
    وفي السنوات القليلة الماضية، أي بعد أن أصبحت التلسكوبات أضخم وأكثر قوّة، تمّ اكتشاف ظاهرة ذات صلة وفاجأت الجميع. فقد تبيّن أن معظم المجرّات الأكثر بعدا كانت تتراجع إلى الخلف بوتيرة أسرع، ما جعلها تبدو أكثر خفوتا ممّا كان متوقّعا. وهذه هي الظاهرة التي أصبحت تُسمّى الآن بالكون المتسارع.
    ويبدو أن هذه النظرية تقول لنا إن مستقبل الكون سيكون باردا ومظلما. وكان بعض العلماء يظنّون أن الكون سيوقف تمدّده في نهاية المطاف ويبدأ في الانكماش. لكن يبدو الآن كما لو أن الكون سيتمدّد إلى الأبد وستبتعد المجرّات وتتباعد عن بعضها البعض وتختفي عن الأنظار. وفي نهاية المطاف، فإن نجوما ستموت وتصل إلى مراحلها النهائية كأقزام بيضاء أو نجوم نيوترونية أو ثقوب سوداء.
    وبعد 50 بليون سنة أو نحو ذلك، سيكون الكون مجرّد بقايا ميّتة لجلال وعظمة الكون كما نعرفه اليوم. ومن المثير للاهتمام أن نعرف أن كلّ التاريخ المدوّن، أي حوالي 5000 سنة، يمثّل فقط واحدا من عشرة في المليون من ذلك الرقم، أي من الـ 50 بليون سنة. ويتطلّب الوصول إلى تلك المرحلة البعيدة من عمر الكون تريليون دورة حياة، طول الدورة الواحدة 50 عاما. لذلك علينا في النهاية أن لا نقلق كثيرا.
    - مترجم بتصرّف عن مقال لـ جي باساتشوف، أستاذ علم الفلك في وليامز كوليج.

    Source
    mentalfloss.com
  • الثلاثاء، مايو 13، 2014

    آلة الزمن/2

    الضوء، بمعناه الواسع، سواءً كان أشعّة شمس أو شعاع قمر أو حتى ضوء شمعة أو مصباح، ظاهرة مثيرة للاهتمام. وستشعر بالدهشة من حقيقة انه وُجد شخص ما في هذا العالم عاش قبل أكثر من 2500 عام وخطر على باله مثل هذا السؤال الغريب والعبقريّ في آن: هل للضوء سرعة يمكن قياسها، أم أن سرعة الضوء لانهائية وبالتالي يستحيل قياسها؟
    اليوم أصبح من المتّفق عليه أن الضوء له بداية ونهاية، وأن سرعته في الفراغ تُقدّر بـ 300.000 كيلومتر في الثانية. وهذا رقم ثابت ومتّفق عليه عالميّا بعد أن تمّ قياسه بالليزر. والمعروف انه عندما تتضمّن أيّة تجربة عنصر ليزر فإن من الصعب التشكيك في نتائجها.
    لكن في القرن الخامس قبل الميلاد، عاش في اليونان فيلسوف يُدعى إمبيدوكليس. وكان هذا الرجل يجادل بأن للضوء سرعة، وبأن تلك السرعة نهائية ومحدودة، أي انه يمكن قياسها. وقد اختلف معه أرسطو الذي ذهب إلى أن الضوء يسافر بشكل فوريّ ولا يحتاج لزمن كي يقطع المسافة بين نقطتين. واستمرّ الجدل الذي ثار بين إمبيدوكليس وأرسطو حول سرعة الضوء طوال الألفي عام التالية.
    وكان من بين من تناولوا هذه المسألة من خلال نظرياتهم وتجاربهم العديد من العلماء الذين أتوا في ما بعد. ومن هؤلاء عالم هولنديّ اسمه ايساك بيكمان عاش في مطلع القرن السابع عشر. وبعد بيكمان بعشر سنوات، جاء غاليليو الذي كان، هو أيضا، يشكّك بأن سرعة الضوء ليست بلا نهاية.
    وبعد غاليليو، أتى عالم دنمركيّ يُدعى اولي رومر. وقد ركّز رومر ملاحظاته على حركة الكواكب نفسها وتوصّل في النهاية إلى أن الضوء يقطع مسافة 220,000 كيلومتر في الثانية. وهذا الرقم كان دقيقا بشكل يثير الدهشة، خاصّة إذا ما علمنا أن رومر أجرى تجاربه قبل 300 عام من ظهور الليزر.
    ورغم أن عالما آخر يُدعى جيمس برادلي أتى برقم أكثر دقّة في عام 1729، إلا أن اسم رومر دخل التاريخ باعتباره الشخص الذي أثبت لأوّل مرّة أن سرعة الضوء ليست لانهائية وتوصّل إلى رقم دقيق إلى حدّ معقول عن تلك السرعة.
    وبعد ذلك جرت محاولات أخرى لقياس سرعة الضوء من قبل العالمَين الفرنسيين ايبولايت فيزيو وليون فوكو والعالم البروسي البيرت مايكلسون والعالم الأمريكي البيرت اينشتاين.
    لقد استغرق الأمر 300 سنة من التجارب والحسابات لتحديد السرعة التي يقطعها الضوء في الفراغ. وأخيرا تمّ التوصّل إلى هذا الرقم الغريب والمثير للإعجاب، أي 300.000 كيلومتر في الثانية.
    وبالإضافة إلى الجدل الذي أثير حول ما إذا كانت سرعة الضوء لا نهائية أم لا، كان هناك نقاش جانبيّ آخر استمرّ على مدى قرون حول ما إذا كان مصدر الضوء العين نفسها أم جسم آخر.
    ومن بين مشاهير العلماء الذين نزلوا إلى حلبة هذا النقاش كلّ من بطليموس وإقليدس اللذين كانا يؤمنان بنظرية أن الضوء ينبعث من العين. ومعظم الذين اعتقدوا بصحّة هذه النظرية كانوا يرون أيضا بأن سرعة الضوء لا بدّ وأن تكون لا نهائية. وكانت حجّتهم في ذلك أننا بمجرّد أن نفتح أعيننا نرى عددا كبيرا من النجوم في السماء ليلا، وأن ذلك العدد لا يزيد عندما ننظر إلى السماء لوقت أطول.
    وفي ما بعد، اكتُشفت ظاهرة أخرى مثيرة للاهتمام تتمثّل في انه إذا تحرّك مصدر ضوء بعيدا عن الناظر، فإن طول الموجة يمتدّ أو يتّسع. وفي حالة الضوء المرئيّ، فإن الضوء يتحوّل إلى الأحمر في الطيف اللوني. ويُعرف هذا بـ "الانزياح الأحمر".
    إدوين هابل كان أوّل من لاحظ الانزياح الأحمر في المجرّة. كان رجلا متعدّد المواهب، كان ملاكما ومحاميا قبل أن يصبح فلكيّا. وقد لاحظ لأوّل مرّة الظاهرة الغامضة المتمثّلة في أن الضوء القادم من المجرّات يُظهر تحوّلات حمراء. وفي عام 1929، استنتج هابل، وكان مصيبا، أن جميع المجرّات تتحرّك بعيدا عن الأرض. كما لاحظ أيضا انه كلّما كانت المجرّات ابعد، كلّما كانت سرعتها في التحرّك بعيدا أكبر، ما يعني أن الكون آخذ دوما في التوسّع.
    الجزء الأكثر إثارة للاهتمام في قصّة الضوء هو ذلك المتعلّق بالسفر بسرعة الضوء. وهناك قانون يقول إن الزمن يتحرّك بشكل أبطأ كلّما ازدادت السرعة. وهذا هو ملخّص نظرية النسبية التي تقول إن الزمن نسبيّ وليس مطلقا.

    ترى هل شعرت ذات مرّة بأن الوقت يمضى بسرعة، وأحيانا أخرى ببطء شديد؟ في بعض الأحيان نشعر بأن الساعات تطير وتصبح كالدقائق عندما نكون بصحبة شخص نرتاح له أو نأنس إليه. وأحيانا نشعر بأن الثواني تطول وتتثاقل إلى ما لا نهاية عندما نعلق في زحمة مرور في يوم قائظ مثلا. ومع ذلك، لا يمكننا تسريع الزمن أو تبطئته لأنه يمضي دائما بنفس المعدّل والوتيرة.
    غير أن ألبيرت آينشتاين لم يفكّر بهذه الطريقة. كانت فكرته أنه، من الناحية النظرية، كلّما اقتربنا من السفر بسرعة الضوء "أي بمعدل 186000 ميل في الثانية"، كلّما بدا أن الزمن يتباطأ من منظور شخص هو بالنسبة لنا لا يتحرّك. وقد أسمى آينشتاين تباطؤ الزمن بسبب الحركة بتمدّد الزمن.
    تخيّل مثلا أن تكون واقفا على الأرض وممسكا بساعة، وأن صديقك يجلس في صاروخ يمرّ من أمامك بسرعة الضوء ويمسك بساعة هو أيضا. لو رأيت ساعة صديقك فستلاحظ أنها تبدو وكأنها تتحرّك بوتيرة أبطأ من ساعتك. صديقك، من جهته، يعتقد أن الساعة التي في الصاروخ تتحرّك بطريقة طبيعية، بينما ساعتك على الأرض تتحرّك بسرعة فائقة. يبدو الأمر محيّرا، أليس كذلك؟
    حسنا، تذكّر أن الأمر استغرق سنوات من آينشتاين ليكتشف هذه الحقيقة. وكان في الواقع ذكيّا جدّا.
    وقد ساق مثالا لإظهار آثار تمدّد الزمن في حكاية اسماها "مفارقة التوأم". قال آينشتاين: لنفترض وجود توأم عمر كلّ منهما عشر سنوات. اسم الأوّل (س) واسم الثاني (ص). ثمّ لنفترض أن والدهما قرّر إرسال (س) إلى مخيّم صيفيّ في نجم يُسمّى "ألفا 3" يبعد عن الأرض 25 سنة ضوئية. ولأن والد (س) يريده أن يصل إلى هناك بأسرع وقت ممكن، فقد دفع رسما إضافيّا وأرسله على متن مركبة فضائية تطير بمعدّل 99.99 في المائة من سرعة الضوء.
    الرحلة إلى النجم "ألفا 3" والعودة منه تستغرق 50 عاما. لكن ما الذي سيحدث عندما يعود (س) إلى الأرض؟ شقيقه التوأم (ص) الذي بقي على الأرض سيصبح عمره 60 عاما، أي انه سيكبر خمسين عاما. ولكن (س) سيعود من رحلته وعمره عشر سنوات ونصف السنة فقط، أي انه سيكبر نصف عام فقط. كيف يمكن أن يحدث هذا؟ (س) كان بعيدا لـ 50 عاما، ولكنه كبر نصف عام فقط. هل يمكن أن يكون قد اكتشف نافورة الشباب الأبدي؟!
    الجواب: لا، على الإطلاق. رحلة (س) إلى الفضاء لم تدم سوى نصف عام بالنسبة له. ولكن على الأرض مرّت 50 سنة. هل هذا يعني أن (س) يمكن له أن يعيش إلى الأبد؟ لا، قد يكون كبر فقط نصف عام خلال الـ 50 عاما التي استغرقها سفره حول الأرض. وبما أن الزمن يمكن أن يبطئ ولكن لا يعود أبدا إلى الوراء، فلا يمكن أو ليس هناك من طريقة يستطيع من خلالها (س) أن يصبح اصغر سنّا.
    ومع ذلك، فإن كلّ شيء نعرفه عن الفيزياء يقول لا شيء يمكن أن يتجاوز سرعة الضوء وأننا لا نستطيع أن نقفز إلى متن صاروخ ونسافر بمعدّل قريب من سرعة الضوء.
    وهناك شبه إجماع بين العلماء بأن سرعة الضوء هي رقم لا يمكن لإنسان أن يتحمّله في أيّة مركبة لفترة طويلة. بل انه حتى السفر بسرعة الضوء ليس كافيا لتغطية الأماكن البعيدة في الكون. وعلى سبيل المثال فإنه حتى مع توفّر سرعة الضوء فإن السفر من كوكبة إلى أخرى قد يستغرق مئات السنين. وتصميم مركبات أو سفن تطير بسرعة الضوء ستكون مكلّفة للغاية ومختلفة كثيرا عن تلك التي تظهر في أفلام ومسلسلات الخيال العلمي.
    والخيال العلمي يحبّ إثارة الاحتمالات والتكهّنات. ومع ذلك هناك الآن علماء يعملون ليل نهار في أماكن كثيرة من العالم وليس في أذهانهم سوى هذا السؤال: كيف يمكن كسر سرعة الضوء في الفضاء بحيث يتمكّن البشر من التعامل مع بقيّة الكون بنفس سهولة تعاملهم اليومي مع كونهم الصغير المسمّى الأرض؟
    وهناك من يتحدّث عن طيّ الفضاء ، أي السفر بأسرع من الضوء والذي يسمح للإنسان بالسفر بين النجوم في أطر زمنية. والفكرة تقوم على بناء سفينة فضاء يمكن أن تُثنى أو تُطوى داخل فقاعة زمكان "زمان-مكان" لكي تتجاوز سرعة الضوء. وهذا يبدو أمرا عظيما من الناحية النظرية. والعلماء أنفسهم يقولون إنها ليست بالفكرة المستحيلة.
    وربّما تتمكّن الأجيال القادمة من البشر من القفز بين النجوم بالطريقة التي نسافر بها هذه الأيّام ما بين المدن. غير أن التطبيق العملي لهذه الفكرة ما يزال أمرا بعيد المنال.

    Credits
    speed-light.info
    einsteinsworld.com

    السبت، فبراير 15، 2014

    أرسطو وتمثال هوميروس

    كان "رمبراندت فان رين" فنّانا شاملا لدرجة انه يصعب وضعه ضمن مدرسة أو اتّجاه فنّي معيّن. لكن الحركة التي تعكس موضوعاته وابتكاراته هي الباروك التي انتشرت في أماكن كثيرة من أوربّا طوال القرن السابع عشر. وقد تضاعفت سمعته باعتباره واحدا من أفضل رسّامي البورتريه في كلّ العصور.
    وعلى ما يبدو، كان رمبراندت مؤمنا إيمانا قويّا بالعبارة التي تقول "إعرف نفسك". وربّما لهذا السبب، لا يوجد فنّان آخر يمكن أن ينافس هذا الفنّان العظيم في عدد اللوحات التي رسمها لشخصه والتي تربو على التسعين.
    رمبراندت كان أمينا جدّا في تصويره لنفسه. ولم يكن دافعه لذلك شيئا من النرجسية أو الإعجاب بالذات. بل قد يكون اختار البورتريه لارتباطه بالرسم التاريخيّ الذي كان يوليه اهتماما خاصّا طيلة حياته.
    كان رسم البورتريهات يحظى بشعبية كبيرة في السوق التجارية في عصره. وكانت البورتريهات التي يرسمها مطلوبة كثيرا في هولندا.
    وأيّا ما كان الدافع وراء رسمها، فإن صور رمبراندت لنفسه كانت تمسك بأكثر من مجرّد السمات الجسدية الظاهرية التي كانت تتغيّر باستمرار مع انتقاله من مرحلة عمرية لأخرى. ويمكن القول أن تلك الصور هي عبارة عن سيرة ذاتية وروحية للرسّام. كما كانت أيضا بمثابة رحلة استكشاف داخلية، بالنظر إلى انه، وطول حياته، لم يبتعد عن بلدته الأمّ "ليدن" أكثر من بضعة أميال.
    حياة رمبراندت يلفّها الغموض لأنه لم يترك وراءه أيّة سجلات مكتوبة عن نفسه، باستثناء شهادات الميلاد والتعميد والزواج والموت. كما لم يترك وراءه أيّة مفكّرة أو مدوّنة شخصية. هناك فقط سبع رسائل تركها بعد وفاته وهي مكتوبة بخطّ يده ولها علاقة بالمعاملات اليومية الروتينية.
    ولكن عندما قام بجرد ممتلكاته قبيل وقت قصير من وفاته، أعلن رمبراندت نفسه معسرا. غير انه لم يترك سوى عدد قليل من الأدلّة حول شخصيّته. لكن على مستوى المهنة، خلّف هذا الفنّان الكبير وراءه تركة رائعة هي عبارة عن أكثر من 2300 لوحة، من بينها لوحتاه الرائعتان والمشهورتان درس في التشريح والحرس الليلي ، بالإضافة إلى بعض لوحاته عن نفسه وكذلك لوحته الأخرى أرسطو مع تمثال نصفيّ لهوميروس.
    اللوحة الأخيرة، أي أرسطو مع تمثال لهوميروس، هي موضوع هذا المقال. وقد كلّف رمبراندت برسمها الدون انطونيو روفو، النبيل الصقلّي وجامع القطع الفنّية. ولم يكن لدى الدون أيّة ملاحظات أو تعليمات محدّدة للرسّام، باستثناء أن يرسم فيلسوفا.
    أما اجتماع العقول الذي كشفت عنه اللوحة بعد ذلك فقد كان فكرة الرسّام نفسه. والمشهد هو عبارة عن مزيج من التاريخ والأسطورة، كما انه يتضمّن بصمات رمبراندت المألوفة: البساطة، الهدوء، الشخصيّة والتعاطف.
    وفي حين أن شخصيّتين حاضرتان في اللوحة بشكل واضح، إلا أن الشخصية الثالثة، أي الإسكندر الأكبر، يظهر بشكل غير مباشر، وبالتحديد على القلادة المزخرفة التي يرتديها أرسطو.
    الفيلسوف، أي أرسطو، يُصوَّر هنا كشخصية متميّزة. وهو يرتدي ملابس مزركشة وجميلة تذكّرنا بعصر النهضة. وهناك مرتبة اجتماعية معيّنة تظهر بعض علاماتها في أعمال رمبراندت الأخرى مثل بعض صوره الشخصية. وهذه العلامات حاضرة هنا أيضا في الملابس الأنيقة لأرسطو وفي يديه المزيّنتين بالخواتم.
    ورغم أن أرسطو لم يكن رجلا عسكريّا، إلا أنه يبدو هنا بكامل زينته. كما يمكن رؤية سلسلة وميدالية ذهبية يُفترض أن يكون الأمير المحارب، أي الاسكندر، قد انعم عليه بهما.
    أرسطو، الواثق من مكانته الخاصّة، يبدو مستغرقا في التفكير. وهو يضع يدا على التمثال، بينما يلقي نظرة متأمّلة على الشاعر المشهور من الأزمنة القديمة، أي هوميروس، وهو شخص كان محطّ إعجاب كبير من أرسطو وكان الكسندر أيضا يبجّله.
    هذا اللقاء المتخيّل بين ثلاث شخصيّات من العصور القديمة يُعتبر نوعا من لقاء العباقرة. وهو لا يُظهِر فقط ابتكارية الفنّان وتألّق تقنيته، ولكن أيضا أفكاره حول هذا الموضوع وافتتانه بفكرته.

    هوميروس نفسه أسطورة. الفترة التي عاش فيها كانت وما تزال محلّ نقاش بين المؤرّخين، بل إن وجوده في حدّ ذاته ظلّ محلّ شكّ من قبل الكثيرين. وقد قيل من باب الدعابة أنه لم يكتب الملحمة، ولكن كتبها شخص آخر يحمل نفس الاسم!
    لكن ما يزال الناس ينظرون لهوميروس على انه شاعر الإلياذة والأوديسّا. وهناك اعتقاد بأنه عاش قبل حوالي ثلاثة آلاف عام. وقد سبق زمنيّا ظهور البورتريه الواقعيّ. لكن صورته اختُرعت في وقت لاحق واستُنسخت بشكل متكرّر. وهو دائما ما يظهر على هيئة رجل أعمى وملتحٍ.
    ومن المرجّح أن رمبراندت اعتمد في "نمذجته" لهوميروس على تماثيل نصفية كانت في مجموعته الخاصّة يعود تاريخها إلى العصر الهلنستي.
    ظلمة وسكون الغرفة والوجود الخافت للكتب في خلفية اللوحة تُبرز الوجه المضاء والشخصيّة الوقورة للفيلسوف. كما أن تصويره كرجل من عصر النهضة، سواءً كان ذلك ترخيصا فنّيّا أو مفارقة تاريخيّة مقصودة، لا يمكن إلا أن يكون فكرة ملائمة كثيرا.
    كان أرسطو يعرف ويفهم في كلّ العلوم التي كانت سائدة في عصره والتي أسهم فيها، هو نفسه، بجهد أساسيّ. وكان يؤمن بأنه ما من علم لا يمكن بلوغه وأن كلّ العلوم مثيرة للاهتمام. كما كان يشعر بارتياح للفنون ويحتفي بها قدر احتفائه بالعلوم. وقد توقّف هذا الرجل الاستثنائيّ بتواضع أمام الشاعر المبجّل الذي تطرّق إلى أسرار الطبيعة الإنسانية.
    عالم هوميروس هو مكان للصراع والمحن والتحدّيات التي يُفترض بالبشر أن يُظهِروا أمامها القوّة والشجاعة والمثابرة. وكان عالمه أيضا مليئا بالدهشة والاكتشاف: نداءات غريبة، سفن محطّمة، كوارث طبيعية، آكلو لوتس وعمالقة وحوريّات بحر. كما تضمّنت ملحمتاه قصصا عن أشجع الرجال وأجمل النساء وأكثر الزوجات إخلاصا.
    وفي زمن أرسطو، كان هوميروس يرمز لخلود الفنّ. ورغم أنه تغنّى بالصراعات الأهلية القديمة، إلا أن كلماته تسمو على الموت بجمالها. ويمكننا أن نتخيّل انه كان شخصا فقيرا جدّا. كان يتجوّل في أرجاء اليونان مع قيثارته التي يعزف عليها في حفلات المساء مقابل مبلغ زهيد من المال. وكان هوميروس وفيّا لعبقريته، فلم يحقّق مالا من فنّه، وربّما لم يكن مهتمّا بشيء من ذلك.
    في صورة رمبراندت هذه، من الصعب سبر أغوار العينين المؤرّقتين اللتين تحاولان استكشاف مجمل المعرفة الإنسانية. لكن لأرسطو كتابا اسمه الأخلاق يتحدّث فيه عن التأمّل ويصفه بأنه أعلى أشكال السعادة والمتعة الأكثر ديمومة في الحياة.
    وعلى مرّ آلاف السنين، منذ هوميروس وألكسندر وأرسطو، فُُسّر التأمّل بطرق عديدة كدليل إلى الحياة، وكتب بعض الكتّاب نسخا حديثة من الأوديسّا. وبعد فترة طويلة من رسم رمبراندت لوحته هذه عن أرسطو وهوميروس، كتب نيكوس كازانتزاكيس نسخته الخاصّة من الأوديسّا.
    في ملحمة كازانتزاكيس، يدعو المؤلّف البشر المعاصرين للعمل معا ضدّ الشدائد وحتى ضدّ حتمية الموت. ثم لا يلبث أن يستغرق في لغة هوميروسية يقود من خلالها القارئ في تأمّل أرسطي. "لا أعرف ما إذا كنت سأرسو أخيرا. الآن أنجز عمل النهار. أجمع أدواتي: البصر والشمّ واللمس والذوق والسمع والعقل. ومع هبوط الليل، أعود مثل خُلد إلى بيتي الأرض، ليس لأني تعبت أو لا استطيع العمل، ولكن لأن الشمس شارفت على المغيب".
    إحدى أفضل الطرق في التفكير في تطوّر الثقافة بشكل عام، وفي تاريخ الحضارة الغربية بشكل خاصّ، هي المحادثة بين الأحياء والأموات. ومن الصعب أن نتخيّل تجسيدا أكثر شهرة واختصارا لهذه الفكرة من لوحة رمبراندت هذه غير العاديّة والمثيرة للإعجاب.
    و"أرسطو مع تمثال نصفيّ لهوميروس" هي واحدة من عدد قليل من الصور التي كُلف بها الرسّام من قبل زبون أجنبيّ. وقد أرسلت اللوحة من أمستردام إلى قصر روفو في ميسينا في صيف عام 1654. وكان السعر المتّفق عليه 500 غيلدر هولنديّ. وبعد مرور 300 عام، أي في عام 1961، ابتاع متحف المتروبوليتان للفنون في نيويورك اللوحة مقابل مليونين ونصف المليون دولار. ويقدّر خبراء السوق أن اللوحة، لو عُرضت للبيع اليوم، فستكسر حاجز الـ 100 مليون دولار بسهولة.

    Credits
    rembrandt-paintings.com
    popmatters.com

    الاثنين، ديسمبر 30، 2013

    علاقة الأشكال الفنّية بالحواسّ

    منذ القدم، كان يُنظر إلى حاسّة البصر على أنها النموذج في اكتساب المعرفة ومن ثمّ استيعابها من قبل العقل. أرسطو ركّز على هذا وقارن عملية التذكّر بالنظر إلى لوحة مرارا. وسان اوغستين قال إنه لا غنى عن البصر في التأمّل الروحي والفكري.
    ومع ذلك فالأساطير القديمة حافلة بأمثلة وصور عن القلق المتولّد من حاسّة البصر، مثل قصص نرسيس وميدوسا وأورفيوس. وفي أساطير أخرى، ترتبط حاسّة اللمس غالبا بالقوى الايجابية والواهبة للحياة، كما في أسطورة بيغماليون وبروميثيوس.
    أما أرسطو فقد حذّر من القوى الخطيرة المرتبطة بالوهم عند استخدام البصر. بينما أثنى، هو وتوما الاكويني، كثيرا على اللمس وقالا إن هذه الحاسّة هي أساس المعرفة التي يحصل عليها الإنسان من جميع الحواسّ.
    وهناك اليوم دراسات عديدة عن دور ووظيفة اللمس في أعمال فنّانين مثل سيزان وكاندنسكي والسورياليين.
    علماء الانثروبولوجيا وعلم النفس السلوكي والبيولوجيا بدءوا في تثمين حواسّ غير البصر في دراساتهم وتجاربهم. وبعض هؤلاء اقترحوا حاسّة الشمّ كبديل ممكن لما يرون انه مضامين أبوية لظاهرة التركيز على البصر في الثقافة المعاصرة.
    فولتير وديدرو ولوك قالوا إن اللمس حاسّة أساسية في اكتساب المعرفة التجريبية عن العالم وأن البصر ما هو إلا وسيلة ثانوية في تأكيد تلك المعرفة.
    في القرنين السادس عشر والسابع عشر ظهرت لوحات تصوّر انهماك أشخاص في لمس منحوتات، كما في لوحة الرسّام الاسباني جوسيبي دي ريبيرا (1591-1652) بعنوان "حاسّة اللمس" التي تصوّر رجلا أعمى يتفحّص بيديه تمثالا نصفيا بينما تستقرّ لوحة زيتية صغيرة بإهمال على طاولة بجانبه.
    وهناك لوحة أخرى لنفس هذا الرسّام بعنوان "النحّات الأعمى" تحمل نفس الفكرة، ويظهر فيها رجل أعمى وهو يتحسّس بيديه تمثالا نصفيّا.
    فكرة اللقاء بين رجل أعمى وعمل نحتي ظهرت أيضا في بعض الكتابات. في بداية القرن السابع عشر، مثلا، زعم كاتب ايطاليّ أن ميكيل انجيلو بعد أن تقدّمت به السنّ وضعف بصره كان يعتمد على اللمس وحده في الحكم على مزايا الأعمال النحتية القديمة أو المعاصرة. كما يقال أن الرسّام الفرنسي إدغار ديغا لجأ إلى النمذجة النحتية وأصبح يهتمّ بها أكثر من الرسم عندما بدأ بصره يضعف.
    لوحتا دي ريبيرا المشار إليهما آنفا كانتا ضمن سلسلة من اللوحات المشهورة التي خصّصها الفنّان لتناول الحواسّ الخمس. السلسلة تدفع المتلقّي للتفكير في دور الحواسّ وتأثيرها على الأفراد. وقد رسم اللوحات عندما كان يعيش في روما في وقت ما من القرن السابع عشر.
    في لوحة "حاسّة اللمس"، استدعى الرسّام مقارنة بين الصفات الوصفية واللمسية للرسم والنحت، أي بين الفرشاة والإزميل. وهو يبرهن على أنه من خلال حاسّة اللمس يمكن للرجل الأعمى أن يتعرّف على الأعمال النحتية.
    هذه اللوحة، من بين جميع لوحات السلسلة، مشهورة بشكل خاص بسبب سخريتها المزعجة. فالرجل الكفيف يقف وجها لوجه مع تمثال نصفي. وهو يريد أن يحسّ بالتمثال الرخامي ذي الأبعاد الثلاثة على الرغم من قربه منه، في حين أن اللوحة ذات السطح المستوي والموضوعة خلفه على الطاولة تذكّر الناظر أن هناك بعض المعلومات التي لا يمكن إيصالها حتى عن طريق اللمس.
    تذكّرنا هذه اللوحة مرّة أخرى بمحدودية الاتصال البشري وبالفجوة بين العالم الحقيقي وعالم الصور. الرأس المنحوتة قد تكون رأس ابوللو. أما الشخص الذي يتفحّصها فربّما يكون النحّات الايطالي الأعمى جيوفاني غونيللي، وقد يكون الفيلسوف الإغريقي كارنيديس الذي قيل انه كان يتعرّف على التماثيل النصفية من خلال تحسّسها ولمسها بيده وذلك بعد أن فقد حاسّة البصر. وقد كان من عادة الفنّانين آنذاك أن يربطوا صور الفلاسفة القدماء باستعارات عن الحوّاس.
    ترى هل أراد الرسّام أن يقول إن الإنسان الكفيف يمكن أن يتعرّف على النحت، بينما لا يمكن أن يتعرّف على الرسم سوى الإنسان المبصر؟ في ذلك الوقت كان يثور نقاش حول المنافسة بين الأشكال الفنّية من معمار ورسم ونحت وأدب وموسيقى. وبالتالي يبدو أن دي ريبيرا أراد من خلال اللوحة التأكيد على تفوّق الرسم على النحت.
    كان هذا الفنّان يرفض الرمز والاستعارة في أعماله ويتعامل مع ما يراه ويلمسه بنفسه. ويبدو أنه لم يخترع من مخيّلته أشخاصا يمثّلون كلّ حاسّة، بل فضّل أن يختارهم من الشارع ورسمهم من واقع الحياة.

    الفيلسوف الألماني يوهان هيردر (1744-1803) تحدّث مرّة عن فضائل النحت وخلع عليه هالة من الرومانسية عندما ميّز ما بين الرؤية واللمس. وقد روى هيردر عدّة قصص عن أشخاص مكفوفين ليبرهن على أننا نرى العمل النحتيّ كسطح ثلاثيّ الأبعاد لأننا كبرنا ونحن نستخدم حاسّتي اللمس والبصر في وقت واحد ومتزامن. ويضيف انه لولا حاسّة اللمس لكانت حاسّة البصر مجرّد حقل من الألوان والأشكال.
    وهو يرى بأن جوهر النحت شكل جميل ووجود فعليّ وحقيقة ملموسة. وعندما نفهم النحت على انه رؤية فقط، فإن هذا يُُعدّ تدنيسا للنحت واستهانة خطيرة بإمكانياته.
    وعلاوة على ذلك، دعا هيردر إلى الفصل ما بين الرسم والموسيقى، في ما بدا وكأنه اعتراض على أعمال فنّانين مثل كاندينسكي وموندريان اللذين قدّما لوحات "موسيقية"، وعلى أعمال بعض الملحّنين الرومانسيين الذين سعوا لرسم صور من خلال موسيقاهم.
    وهيردر يميّز ما بين الرسم والنحت. انه يربط الرسم بالرؤية وبعالم الأحلام، بينما يدّعي أن النحت هو مصدر الحقيقة. طبعا هو يقصد النحت الكلاسيكي الذي كان يعرفه في عصره. وبالتالي قد يتساءل المرء عمّا يمكن أن يقوله هيردر لو انه عاش إلى اليوم ورأى النحت التكعيبي الذي ابتعد كثيرا عن التمثيل الدقيق للأشكال في لحظة واحدة وأصبح ينظر إلى الأشياء ذات الحقائق المتعدّدة والمتحرّكة عبر الزمن، وكيف سيتعامل مع التقليلية مثلا ومع غيرها من الظواهر التي تؤكّد استحالة التنبّؤ باتجاهات ونزعات الفنّ.
    المعروف أن الرسّام جوسيبي دي ريبيرا كان تلميذا وتابعا لكارافاجيو. وقد قضى معظم حياته في روما وفي نابولي التي كانت في ذلك الوقت أعظم مدن ايطاليا ومركزا مهمّا للفنّ. وكان زملاؤه من الرسّامين الايطاليين يلقّبونه بالاسبانيّ الصغير.
    كانت مملكة نابولي وقتها جزءا من الإمبراطورية الإسبانية. وكانت تُحكم من قبل سلسلة من نوّاب الملك الإسباني. أصول دي ريبيرا الاسبانية أعطته الحقّ بأن يصبح مرتبطا بالطبقة الاسبانية الحاكمة في المدينة وبمجتمع التجّار الهولنديين فيها.
    كان الفنّان يرسم مثل معاصره وأستاذه كارافاجيو، وتحوّل بعيدا عن التقاليد والنماذج العتيقة والموضوعات المستوحاة من المثل الكلاسيكية العليا. ورسم بدلا من ذلك الحياة البشرية كما تبدو فعلا. وهي في كثير من الأحيان قبيحة وبشعة. وقد صوّر الفنّان كلّ هذا بواقعية كانت تصدم الجمهور وتروق له في الوقت نفسه.
    صور دي ريبيرا المروّعة عن التعذيب والمعاناة التي كانت تمارَس في زمانه كانت تحيّر الجمهور والنقّاد معا. وهو كان موهوبا في إظهار الرؤوس والوجوه والأيدي بطريقة اللمس. بنية الجلد والعظام في رسوماته واقعية بحيث أن العديد من مشاهده يمكن أن تؤذي مشاعر الأفراد ذوي الحساسية الشديدة.
    ومن الواضح أن دي ريبيرا لم يكن يقصد الإساءة لأحد. ولكن الوحشية لم تكن تصدّه عن تصوير مظاهرها وهو دائما ما كان يتبع مصادر إلهامه. وكان الجمهور قد أصبح معتادا على تصوير حزن الإنسان وبؤسه بتلك الطريقة.
    ولـ دي ريبيرا صورة أخرى مشهورة اسمها الشحّاذ العجوز الأعمى يظهر فيها رجل أعمى مسنّ مع مرشده الشابّ. وهذه اللوحة لها علاقة بفكرة التشرّد التي كانت رائجة في الأدب الإسباني آنذاك. لكن الرسّام أراد منها أساسا أن تكون موعظة عن الخيرية المسيحية.
    وقد استلهم موضوع اللوحة من رواية بعنوان حياة لازاريللو دي تورميس نُشرت لأوّل مرّة عام 1554 من قبل كاتب مجهول. بطلا الرواية هما رجل أعمى متسوّل وقاسي الطبع وصبيّ مراوغ يضطرّ باستمرار لأن يخدع سيّده كي يحصل على حصّة أكبر من الطعام والصدقات.
    وعلى الرغم من أن دي ريبيرا لم يعد أبدا إلى إسبانيا، إلا أن العديد من لوحاته أعيدت إلى هناك من قبل أعضاء الطبقة الحاكمة الإسبانية وعن طريق بعض التجّار. ويمكن رؤية تأثيره في فيلاسكيز وموريللو، بل وفي معظم الرسّامين الإسبان الآخرين من تلك الفترة.
    بعد وفاته، دخلت أعمال دي ريبيرا حيّز التجاهل والنسيان، ربّما بسبب سمعته التي كان يخالطها عنف وقسوة. فقد رسم أهوال الواقع ومظاهر توحّش البشر وأظهر انه يقدّر الحقيقة أكثر من المثالية.
    لكن بدأت إعادة تأهيل اسمه وفنّه من خلال معرضين أقيما لأعماله في لندن عام 1982 وفي نيويورك عام 1992. ومنذ ذلك الحين اكتسبت لوحاته المزيد من اهتمام النقّاد والدارسين.

    Credits
    archive.org
    artble.com

    الأربعاء، يناير 30، 2013

    غِلغامِش في العالم المعاصر

    غِلغامِش صوت شبَحيّ يتحدّث إلينا من العراق قبل أكثر من ستّة آلاف عام. ومع ذلك، ما تزال قصّته وثيقة الصلة بعالم القرن الحادي والعشرين. إنها قصّة حزينة عن رجل لم يتعلّم الدرس إلا بعد فوات الأوان وكان عناده مصدرا لأحزانه ومعاناته.
    هذه القصّة الموغلة في القِدم باتت احد النصوص الكلاسيكية التي تُدرّس في الجامعات. ولكن لماذا أصبحت حكاية تمتدّ أصولها إلى أزمنة غابرة تستدعي كلّ هذا الاهتمام في عصر الهندسة الوراثية والرسائل النصّية؟ ربّما كانت أفضل إجابة على هذا السؤال هي أن كلّ أشكال الفرح والحزن التي نواجهها في الحياة كشفت عنها ملحمة غِلغامِش قبل أن نولد بآلاف السنين.
    تبدأ القصّة مع راوٍ يحثّ القارئ على أن يدرس ويتأمّل أسوار أوروك، المدينة الرائعة الواقعة جنوب بلاد الرافدين حيث حَكَم غِلغامِش. فهناك، داخل الأسوار، كنز ينتظر من يكتشفه:
    "إبحث عن الصندوق النحاسيّ، فُكّ رتاجه البرونزي، وخذ اللوح اللازوردي، واتلُ ما فيه من نبأ غِلغامِش الذي عانى كثيرا وقهر جميع الصعاب".
    يُوصف غِلغامِش على أن لجسده هيئة ليس لها نظير، فثلثاه إله وثلثه الباقي بشَر. وهو يحكم مدينته بلا منافس: يأخذ الفتيان من أوروك لجيشه، ويأخذ الفتيات لسريره. لم يكن غِلغامِش ملكا محبوبا من قبل شعبه، إذ كانت له عادة سيّئة، فقد كان يدخل على كلّ عروس في ليلة زواجها وينام معها قبل أن يدخل عليها عريسها. أهل المدينة يصرخون مناشدين الآلهة كي تريحهم من هذه القوّة الغاشمة التي لا يمكن لجمها، ما يدفع حكّام السماء لأن يخلقوا إنكيدو، وهو رجل متوحّش يعيش في البرّية حياة بدائية مثل الحيوانات.
    كان من عادة إنكيدو أن يعمد إلى تحرير أصدقائه من الحيوانات من أفخاخ الصيّادين. وعندما تعب الصيّادون من تصرّفاته، ناشدوا شامات، وهي بغيّ في معبد أوروك، أن تحاول ترويض الرجل الجامح، أي إنكيدو، بأن تنام معه، وبذا تُبعده عن مصاحبة الحيوانات.
    وبعد سبع ليال ملحمية مع الكاهنة، يفقد إنكيدو قدرته على التواصل مع الحيوانات ويسعى بدلا من ذلك لأن يصاحب نظراءه من البشر في المدينة. وهناك، يلتقي غِلغامِش، ويتصارع الاثنان ثمّ سرعان ما يصبحان اقرب إلى بعضهما البعض من الإخوة. والواقع أن اللغة المستخدمة لوصف هذا الثنائي تشبه وصف العلاقة بين زوجين، رغم انتفاء وجود علاقة جنسية في ما بينهما.
    ويسافر غِلغامِش وإنكيدو معا إلى غابة الأرز في أقصى بلاد الشمال لمحاربة حارس الغابة الوحش هومبابا واكتساب المجد الأبديّ. وعندما يُهزم هومبابا ويتوسّل من اجل الإبقاء على حياته، يتدخّل إنكيدو ويحثّ غِلغامِش على قتله، ثم يأخذ رأسه معه إلى أوروك كغنيمة.
    هذه الأفعال البطولية تثير إعجاب عشتار، وهي التجسيد الإلهي للرغبة الجنسية والإنجاب. وتسعى المرأة لاتخاذ غِلغامِش زوجاً، لكنّ الملك يرفضها باعتبارها امرأة غير جديرة بالثقة. وهنا تثور ثائرة المرأة وتضطرم في نفسها الرغبة في الانتقام، فتذهب إلى والدها آنو، إله السماء، وتتوسّل إليه بأن ينتقم لكبريائها المجروح. ويرسل آنو ثور السماء العنيف ويأمره بأن ينكّل بـ أوروك وأهلها، عقاباً لـ غِلغامِش على رفضه لابنته.
    لكن غِلغامِش وإنكيدو يتمكّنان من قتل الوحش، ما يدفع مجلس الآلهة لعقد اجتماع لمعاقبة الاثنين على قتلهما مخلوقا مقدّسا. ولأنه لا يمكن قتل غِلغامِش بالنظر إلى أن جزءا منه إله، فقد قرّرت الآلهة أن إنكيدو هو من يجب أن يموت انتقاما لمقتل الثور المقدّس. ويراقب غِلغامِش إنكيدو وهو يموت، بينما يتمزّق هو غيظا وكمدا لعجزه عن فعل شيء لإنقاذ صديقه:
    "وألقى غِلغامِش على وجه إنكيدو رداءً كوشاح العروس، ثمّ دار حوله كنَسْر، وصار يروح ويغدو أمام سريره كلبؤة سُلبت أشبالها، وأخذ يقطّع بيديه شعر رأسه ويمزّق عنه ثيابه الفاخرة كما لو أنها دنَس".
    الملك الذي تمكّن من قهر الرجال ومصارعة الوحوش لا يستطيع إنقاذ صديقه من الهلاك. وفي غمرة شعوره بالحزن والعجز أمام موت صديقه وأمام حتمية موته هو، يقرّر غِلغامِش أخيرا الرحيل عن أوروك ويبدأ البحث عن أوتنابيشتيم، الرجل الذي نجا من الطوفان العظيم واستطاع بلوغ الخلود.
    لو يستطيع غِلغامِش أن يعلم سرّ اوتنابيشتيم، لربّما أصبح بإمكانه، هو أيضا، أن يعيش حياة أبدية. كان غِلغامِش خائفا من الموت، لأن البشر محكومون بالفناء، ولأنه، بسبب الجزء الفاني من دمه، يدرك حقيقة أنه لن يكون مخلّدا.
    وخلال رحلته الطويلة في البرّية، يلتقي غِلغامِش العديد من الشخصيّات التي تساعده في طريقه، من الكائنات العقربية التي تحرس مسار الشمس تحت الأرض، إلى حارسة الحانة شيدوري التي تعرض عليه أن يستعين بالملاح اورشنابي كي يساعده على عبور بحر الموت. لكنّ شيدوري تحثّه على التخلّي عن سعيه العقيم وراء الخلود بقولها:
    "يولد البشر ويعيشون ثمّ يموتون. هذه هي أوامر الآلهة. لكن إلى أن تحين النهاية، استمتع بحياتك واقضِها في سعادة ولا تيأس. هذا أفضل ما يمكن للإنسان أن يفعله طالما هو حيّ".
    لكنّ الملك لا يستمع لكلامها. وبعد بحث مُضنِ، يعثر غِلغامِش على اوتنابيشتيم، ويسمع منه قصّة الطوفان العظيم الذي أدّى إلى فناء جميع البشر، باستثناء اوتنابيشتيم وزوجته. وحكايته تبدو شبيهة كثيرا بقصّة نوح التي حدثت في وقت لاحق وتحدّثت عنها الكتب المقدّسة:
    "واستقرّت السفينة على الجبل. أمسك الجبل بالسفينة ولم يطلقها. أمسك بها لستّة أيّام وسبع ليالٍ. وعندما حلّ اليوم السابع أتيتُ بحمامة وأطلقتها".
    بعد سماعه قصّة الطوفان، يحاول غِلغامِش البقاء مستيقظا لسبعة أيّام بناءً على أوامر اوتنابيشتيم الذي أراد أن يختبر تحمّله ليرى إن كان يستحقّ العيش إلى الأبد. لكن غِلغامِش يفشل في الامتحان. ثمّ تشفق عليه زوجة اوتنابيشتيم وتدلّه على عشبة سحرية تنبت في أعماق البحر وتضمن لمن يتعاطاها نضارة الشباب الدائم. ويغوص غِلغامِش في قاع البحر ويجد النبتة ويقتلعها، ويقرّر أن يعود بها معه إلى أوروك ليجرّبها على شيخ مُسنّ.
    ولكن، وكما حصل مع آدم، تعترض طريق عودته أفعى ماكرة وتسرق منه العشبة بينما كان يغتسل في النهر. وفي النهاية، يعود الملك إلى أوروك خاليَ الوفاض. كان كلّ ما تبقّى له هو أن يستمتع بالنظر إلى الأسوار الرائعة التي كان قد بناها حول المدينة، رغم علمه بأن هذه الأسوار نفسها ستتحوّل يوما ما إلى غُبار.
    قصّة غِلغامِش تستند إلى سيرة ملك تاريخيّ بهذا الاسم عاش في مدينة أوروك السومرية في جنوب العراق حوالي العام 2700 قبل الميلاد. ولا بدّ وأنّ بطولات هذا الملك تركت انطباعا حسنا في نفوس السومريين، لأنه في غضون بضعة قرون كانوا يسجّلون قصصا عنه على ألواح الطين، مستخدمين كتابتهم المسمارية التي تأخذ شكل وتَد. وقد سجّل البابليون تحت حكم الملك حمورابي وحكّام آخرين حكايات أخرى عن غِلغامِش بلُغَتهم ونشروها في جميع أنحاء الشرق الأدنى.

    والنسخة التي بين أيدينا اليوم من الملحمة يُحتمل أن تكون من تأليف كاتب اسمه شين ليكي اونيني عاش في القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وتتضمّن النسخة قصّة الطوفان الشهيرة التي تتكرّر في العديد من الآداب الشرقية. وقد حُفظت الألواح في القصر الملكيّ في نينوى في الألفية الأولى قبل الميلاد، ولكنّ القصّة تلاشت من الذاكرة في القرون التالية.
    ومن الملاحظ أن ذكر غِلغامِش لم يرد في كتاب اليهود، كما انه لم يجد طريقه إلى الأساطير اليونانية، رغم وجود نقاط شبه كثيرة ومثيرة للاهتمام والفضول بين ملحمة غِلغامِش وملحمة الإلياذة لـ هوميروس.
    تمّ دفن الألواح الطينية في نينوى تحت الأنقاض، ولم تُكتشف، ومن ثمّ تُترجم، إلا في أواخر القرن التاسع عشر، عندما تسبّب ظهورها في إثارة ضجّة واسعة في جميع أنحاء العالم. وكان إعلان أمين المتحف البريطاني في ديسمبر من عام 1872 عن اكتشافه أدلّة مستقلّة عن الطوفان في ألواح غِلغامِش قد استُقبل بحماس جنونيّ.
    ومع استمرار الكشف عن ألواح جديدة، والتطوّر في قراءة اللغات الشرقية القديمة، أصبح لدينا اليوم نسخة أكثر اكتمالا وفهم أفضل لملحمة غِلغامِش، رغم وجود العديد من الثغرات والأسئلة حول المعاني الدقيقة للكلمات.
    الصدمة الأولى التي يتعرّض لها غِلغامِش تحدث في وقت مبكّر من الحكاية، عندما يدرك أنه على الرغم من قدراته ومن سيطرته على مصائر الآلاف، إلا انه يقف وحيدا في هذا العالم. سعيه اللاهث وراء المزيد من الثروة والسلطة والجنس قضى تماما على روابطه الإنسانية.
    إنكيدو، على النقيض من غِلغامِش، هو رجل الطبيعة. لكن لديه الكثير من القواسم المشتركة مع الملك. لقاؤه مع كاهنة المعبد، شامات، أيقظ في داخله الحاجة للتواصل مع الناس. ووعيه الذي اكتشفه متأخّرا منحه الشعور بالغضب الأخلاقي عندما يسمع عن أفعال غِلغامِش المستبدّة. وبمجرّد أن يحقّق إنكيدو اتصالا مع الآخرين، فإنه يصبح غير قادر على الوقوف مكتوف الأيدي عندما يرى ظلما يمكنه منعه.
    إنكيدو لم يذهب أبدا إلى أوروك، وهو لا يعرف أحدا في المدينة. لكن مجرّد سماعه عن تعرّض الرعيّة لسوء المعاملة وعجزهم عن الوقوف بوجه الظالم هو أمر لا يمكنه تحمّله أو السكوت عنه. وإنكيدو يدرك انه قادر لوحده على مواجهة غِلغامِش. وهو يفعل هذا، ليس لأنه مضطرّ لذلك، وإنما لأنه يعلم أن هذا يمكن أن يجعل الأمور أفضل.
    الصراع بين إنكيدو وغِلغامِش قاد كلا منهما، وبشكل غير متوقّع، لأن يجد في الآخر صديقا حقيقيّا. لم يكن احدهما كاملا دون الآخر. والآن يعترفان، كما يقول أرسطو، بأن الحياة من دون أصدقاء لا تستحقّ أن تُعاش.
    هذه الصداقة التي اكتشفاها أخيرا، فتحت أمام الاثنين عالما من الاحتمالات. ولأنهما شابّان مغامران وحريصان على إثبات نفسيهما واكتساب مجد أبديّ، فقد توحّدا لمقاتلة هومبابا الرهيب. الكوابيس المزعجة تؤرّق غِلغامِش أثناء الرحلة وتملأ نفسه بالخوف، وتدفعه لأن يتساءل ما إذا كان ينبغي عليهما التخلّي عن بحثهما. ولكن إنكيدو يشجّع صديقه على المثابرة ويذكّره مراراً بأنه حيث يمكن أن يفشل أحدهما، فإنهما، متوحّدين معاً، يمكن أن ينجحا.
    وعندما يهزم غِلغامِش الوحش ويمسك به فإنه يتردّد في قتله. فـ هومبابا يعده إن عفا عنه بأن يكون خادما مطيعا له مدى الحياة. ولكن إنكيدو هو من يشجّع غِلغامِش على إتمام المهمّة التي بدآها.
    مشهد إغواء عشتار لـ غِلغامِش هو احد المشاهد المفضّلة في الملحمة. تقف الإلهة أمام الملك وتقدّم له نفسها عن طيب خاطر، شرط أن يكون لها وحدها. لكنّ غِلغامِش المفعم بالرجولة والشهوة يرمق عشتار الجميلة بنظرة واحدة، ويتذكّر جميع الرجال الذين سبق أن وعدتهم بالسعادة، ثم دمّرتهم. كلمات رفضه لها بليغة ولاذعة:
    "لماذا أريد أن أكون عاشقا لموقدٍ مكسور لا يعمل في البرد، لبابٍ مهلهل تمرّ من خلاله الرياح، لقصرٍ يسقط فوق رأس أقوى المدافعين عنه"؟!
    ثمّ يمضي فيصفها بأنها "كالقطران وكالسِقاء الراشح وكالحذاء الذي يشوّه القدم". لقد نظر غِلغامِش تحت سطح عشتار المغري ووجد الأنانية التي كانت تحاول إخفاءها. ولم يكن لديه شيء ممّا تحتاجه. كان الأمر سينتهي به كما انتهى عشّاقها السابقون، إمّا منبوذاً أو ميّتاً عندما تملّ منه. الجنس ربّما يكون ممتعاً لبعض الوقت، لكنّه وحده لا يكفي.
    وعندما تُسلّط عشتار ثور السماء المدمّر على أوروك، يموت المئات في غمرة احتدام الوحش. لكنّ الصديقين يحميان المدينة ويهزمان الثور ويمزّقان قلبه. وفي تلك اللحظة بالذات، يَعبُر إنكيدو الخطّ الفاصل. فعندما يرى عشتار المهزومة واقفة على الأسوار، يقوم بتمزيق مؤخّرة الثور ويرميها في وجهها وهو يقول:
    "آه لو أمكنني الإمساك بك. كنت سأمزّقك إرَباً وأنثر أمعاء الثور فوقك".
    ثمّ يسقط إنكيدو مريضا ويقترب منه الموت، بينما يراقبه غِلغامِش وهو في حال من الصدمة والكرب. لماذا يتوجّب على صديقي أن يموت؟ هل سيحدث هذا لي أيضا؟ هذان هما السؤالان اللذان يؤرّقان عقل الملك الشابّ، بينما يواري إنكيدو في قبره. بعد الجنازة، يعبّر غِلغامِش عن ألمه قائلا:
    "كيف لي أن أتحمّل هذا الحزن الذي يكبّل روحي! هذا الخوف من الموت الذي يهدّني ويُثقل كياني"؟!
    بحْثُ غِلغامِش عن إجابات شافية على تساؤلاته يقوده إلى رحلة مضنية في البرّية، وهي استعارة لتجربة يمرّ بها كلّ شخص عندما يفقد إنسانا يحبّه. غِلغامِش الكسير القلب يسافر في العالم محاولا الحصول على إجابات. لكن يبدو أنه نسي كلّ شيء سبق أن تعلّمه عن قيمة الصداقة. الناس الذين يقابلونه على طول الطريق يحاولون التواصل معه. لكن الحزن يستولي عليه لدرجة انه يرفض اقتراب أيّ احد منه. إنه حتى لا يبدي اهتماما بمشورة شيدوري حارسة الحانة:
    "إجعل من كلّ يوم من أيّامك فرحاً. عد إلى الوطن، تزوّج امرأة مُحبّة، وابتهج باحتضان أطفالك بين ذراعيك. استمتع بالحياة التي لك هنا الآن".
    الدرس الكبير الذي تقدّمه ملحمة غِلغامِش هو أن الموت مسألة حتمية. والإنسان، أيّاً ما كان دينه أو قيََمُه، يمكن أن يوفّر على نفسه كثيرا من متاعب الحياة إذا أدرك انه سيشيخ يوما ما ثم يموت في نهاية المطاف. وغِلغامِش أهدر وقتا وجهدا كبيرين في محاولته العقيمة للعثور على الخلود. لقد أدار ظهره حتى لعائلته وأصدقائه كي يضرب في أرجاء الأرض بحثا عن شيء لا يمكنه بلوغه أبدا.
    ملحمة غِلغامِش تأخذ القارئ إلى عالم مختلف ومليء بالآلهة الكثيرة والقوى الخارقة. ومع ذلك فإن البشر فيها مألوفون بشكل مؤلم، فهم إمّا مُراعون أو أنانيّون، متعاطفون أو لا مبالون، متفائلون أو يائسون. وبإمكان كلّ من يقرأ غِلغامِش أن يتعلّم منها دروسه الخاصّة.
    والملحمة، بما تتضمّنه من تأمّلات فلسفية عميقة ورسائل أخلاقية، لا تعلّمنا فقط كيف نواجه التحدّيات التي تنتظرنا، ولكنّها أيضا تخبرنا أنه، بغضّ النظر عن مدى اختلاف عالمنا المعاصر عن الأزمنة القديمة، فإن جوهر التجربة الإنسانية واحد.

    Credits
    jasoncolavito.com
    metmuseum.org

    السبت، يوليو 07، 2012

    القوّة الخفيّة للأحلام

    ذات ليلة، حلم الاسكندر المقدوني أنه يراقص إله الغابات "ساتاير" الذي يأخذ شكل فرس جامح. وقد استدعى مفسّرا ليشرح له معنى الحلم. فقال له: هذه بشارة لك بأنك ستفتح مدينة صُوْر". وقد بنى المفسّر نبوءته على أساس أن المقطع الأخير من اسم إله الغابات يطابق اسم صُوْر باللاتينية. وفي نفس تلك السنة، فتح الاسكندر صُوْر بالفعل وضمّها إلى امبراطوريّته الواسعة.
    الرئيس الأمريكي ابراهام لينكولن داهمه في إحدى الليالي حلم غريب. رأى نفسه جالسا ليلا داخل قاعة فسيحة ومضاءة. وفجأة تناهت إليه أصوات رصاص، وشعر بأنه يسقط على الأرض فاقدا الوعي. وهُرع باتجاهه أشخاص كان بعضهم يصيح والبعض الآخر يبكي. وبعد ذلك بأيّام، أي في الخامس عشر من ابريل عام 1865م، اغتيل لينكولن برصاصة في الرأس أطلقها عليه احد الأشخاص بينما كان يحضر عرضا في احد مسارح ولاية إلينوي.
    الزعيم النازيّ ادولف هتلر رأى ذات مرّة حلما مزعجا جعله يقفز من سريره مرعوباً. وبعد لحظات، اخترقت قذيفة مدفع جناح المبنى الذي كان يستخدمه كمكتب وقتلت كلّ من كان فيه.
    كارل يونغ، المفكّر وعالم النفس السويسريّ المشهور، حلم في إحدى الليالي أن طوفانا عظيما غمر كافّة أرجاء أوربّا ووصلت مياهه إلى قمم جبال سويسرا، ثمّ تحوّلت المياه إلى دماء. وبعد أشهر من ذلك الحلم الغريب، انطلقت شرارة الحرب العالمية الأولى.
    الموسيقيّ الايطالي جيوسيبي تارتيني أمضى أشهرا عديدة وهو يبحث، دون جدوى، عن خاتمة مناسبة لتحفته المشهورة سوناتا الشيطان. وذات ليلة، حلم انه عثر على زجاجة على شاطئ البحر وبداخلها شيطان محبوس. وقد توسّل إليه الشيطان أن يطلق سراحه. وتوصّل الاثنان إلى صفقة. ناول تارتيني كمانه للشيطان، وذُهل لروعة وجمال عزفه. وعندما استيقظ من حلمه، حاول أن يستعيد ما سمعه في الحلم. وقد كتب تارتيني بعد ذلك يقول: سوناتا الشيطان هي أفضل ما كتبت. غير أنها اقلّ جمالا بكثير من الموسيقى التي سمعتها في الحلم".
    هذه فقط بعض الأمثلة التي تدلّل على القوّة الخفيّة والغامضة للأحلام وعلى أهميّتها وحضورها الدائم في حياة الإنسان.
    تخيّل، على سبيل المثال، دور الأحلام في الأدب والفنّ. العديد من الأعمال الأدبيّة المشهورة ظهرت بفضل حلم رآه الكاتب في منامه: فرانكنشتاين لـ ميري شيللي، والشفق لـ ستيفاني ماير، ودكتور جيكل ومستر هايد لـ روبيرت ستيفنسون.. والقائمة تطول.
    وهناك الكثير من الروايات التي تستند حبكتها الرئيسية على عنصر حلم. في رواية المسخ لـ فرانز كافكا، مثلا، يستيقظ غريغور سامسا بطل الرواية من حلم ذات صباح ليجد نفسه وقد تحوّل إلى صرصار ضخم.
    وهناك عدد لا يُحصى من الكتّاب الذين وظّفوا قصص الأحلام في رواياتهم: جوزيف كونراد، آرثر ميللر، جيمس جويس، شكسبير، لويس كارول، دستويفسكي، جورج اورويل، ايتالو كالفينو، ادغار الان بو وغابرييل غارسيا ماركيز.. وغيرهم.
    الأحلام أيضا حاضرة بقوّة في الفنّ التشكيليّ. العديد من لوحات هنري روسّو وسلفادور دالي وجاسبر جونز وهنري فوزيلي وغيرهم كانت نتاج أحلام.
    وفي السينما أيضا استخدم مخرجون كثر صور الأحلام في أفلامهم مثل انغمار بيرغمان، ارسون ويلز وفيدريكو فيلليني وسواهم. كما ألهمت الأحلام عددا من الموسيقيين من أمثال هاندل، شوبيرت وفاغنر وغيرهم.
    أهميّة وقوّة الأحلام معروفة وراسخة. ومن معابد العصور القديمة، إلى مختبرات النوم في العصر الحاضر، حاول البشر أن يفهموا الأحلام وأن يفسّروها.
    وأقدم الأحلام المسجّلة وجدت في وثائق يعود تاريخها إلى ما يقرب من 5000 عام، في بلاد ما بين النهرين أو الهلال الخصيب. السومريون، أوّل مجموعة ثقافية قطنت تلك المنطقة، تركوا سجلات للأحلام يعود تاريخها إلى عام 3100 قبل الميلاد. ووفقا لتلك الكتابات المبكّرة، كانت الآلهة والملوك، مثل الملك العالم آشور بنيبعل من القرن السابع، يبدون اهتماما كبيرا بالأحلام.
    ومن ضمن أرشيف هذا الملك من الألواح الطينية، تمّ العثور على أجزاء من ملحمة الملك الأسطوريّ غلغامش. في هذه القصيدة الملحمية، وهي واحدة من أقدم القصص الكلاسيكية المعروفة، يسرد غلغامش أحلامه المتكرّرة على أمّه الإلهة نينسون التي قدّمت أوّل تفسير مسجّل لحلم. كما اتخذت أحلامه كنبوءات. المواقف المدوّنة في ملحمة غلغامش توفّر مصدرا قيّما للمعلومات حول المعتقدات المتعلقة بالأحلام في العصور القديمة.

    العبرانيون القدماء كانوا يعتقدون أن الأحلام هي عملية اتصال مع الله. الشخصيّات التوراتية، مثل سليمان ويعقوب ونبوخذ نصّر ويوسف، كلّهم زارهم الربّ أو الأنبياء في أحلامهم وساعدوهم في توجيه قراراتهم. كان من المسلّم به والمقبول أن أحلام الملوك يمكن أن تؤثّر على أمم بأكملها وعلى مستقبل شعوب بأسرها. التلمود، المكتوب ما بين عامي 200 و 500م، يتضمّن أكثر من 200 إشارة لأحلام. وهو يشير إلى أن الأحلام غير المفهومة هي "مثل الرسائل التي لم يتمّ فتحها".
    قدماء المصريين أيضا أولوا اهتماما خاصّا بأحلام قادتهم الملكيين، بالنظر إلى أن الآلهة كانوا أكثر عرضة للظهور فيها. سيرابيس، إله الأحلام المصريّ، كانت له معابد لحضانة الأحلام. وقبل الذهاب إلى هذه المعابد، يصوم الحالمون ويصلّون كي يضمنوا رؤية أحلام سعيدة.
    الصينيون اعتبروا أن روح الحالم هي العامل المهمّ في توجيه الحلم. كانوا يعتقدون أن "الهون" أو الروح تغادر الجسد أثناء الحلم لتتواصل مع أرض الأموات.
    كتاب الأوبنيشاد، ظهر ما بين 900 و 500 قبل الميلاد. وهو يتناول منظورين عن الأحلام: الأوّل يرى أنها مجرّد تعبير عن الرغبات الداخلية. والثاني يشبه الاعتقاد الصيني عن الروح التي تغادر الجسد أثناء النوم لتعود عندما يستيقظ الجسد ثانية.
    القرن الخامس قبل الميلاد شهد ظهور أوّل كتاب يونانيّ معروف عن الأحلام. وقد كتبه انتيفون الذي كان رجل دولة من أثينا. في تلك الفترة، ساد بين الإغريق اعتقاد بأن الروح تغادر جسد الإنسان الحالم. اوسكولابيوس كان معالجا إغريقيا، وكان على اتصال بالطوائف التي بدأت في ممارسة حضانة الأحلام. كان يزور النائمين ويقدّم لهم المشورة والنصح.
    أبقراط، والد الطبّ ومعاصر سقراط، ألّف كتابا اسماه "عن الأحلام". وكانت نظريّته بسيطة: في النهار تستقبل الروح الصور، وفي الليل تعيد إنتاجها. وهذا هو السبب في أننا نحلم".
    أرسطو كان يعتقد بأن الأحلام ليست محصّلة وحي إلهي، وإنّما مؤشّرات عن أوضاع داخل الجسم. كما افترض بأن المؤثّرات الخارجية تكون غائبة أثناء النوم. ولهذا فإن الأحلام هي مظاهر وعي عميق بالأحاسيس الداخلية التي يُعبّر عنها على هيئة صور في الأحلام.
    جالينوس ركّز على الحاجة لملاحظة الأحلام بعناية بحثا عن أيّ رسائل قد تتضمّنها. معاصره ارتيميدوراس وضع كتابا عن تفسير الأحلام يعتبره البعض أفضل مصدر عن الأحلام في العصور القديمة. وهو يصف نوعين من الأحلام: الأوّل يتنبّأ بالمستقبل، والثاني يتعامل مع مسائل الحاضر.
    في أوربّا العصور الوسطى، كانت الأحلام كثيرا ما تُدرّس في سياق علاقتها بالله. والسؤالان النموذجيان اللذان كانا يُطرحان عادة في تلك الفترة هما: هل الأحلام مرسلة من الله للصالحين وأصحاب الكرامات؟ أم أنها مرسلة من الشياطين إلى الخاطئين والمذنبين؟!
    في القرن العشرين، مُنحت الأحلام حياة جديدة على يد سيغموند فرويد الذي احدث تغييرا جذريّا في دراسة الأحلام مع ظهور كتابه المشهور "تفسير الأحلام".
    فرويد رأى أن الأحلام عبارة عن رغبات لم تتحقّق، أو محاولات من اللاوعي لحسم صراع من نوع ما، وأن الرمز أو الصورة التي تظهر في حلم قد تنطوي على معان متعدّدة.
    كان فرويد يركّز على الدوافع البيولوجية للفرد، الأمر الذي باعد بينه وبين العديد من زملائه مثل يونغ وأدلر. كما أن تعويله الكبير على دور الدافع الجنسيّ في الأحلام دفع معارضيه لوصفه بـ "عدوّ للبشر" لأنه تعامل مع البشر كما لو أنهم حيوانات برّية.
    وفي حين أن نظريّاته ودراساته النفسية عن الأحلام شابتها بعض العيوب المنطقية والافتراضات المتحيّزة، إلا أن انجازات فرويد في هذا الميدان لا يمكن إغفالها أو التقليل من شأنها.

    موضوع ذو صلة: المدن والذاكرة

    Credits
    plato.stanford.edu
    simplypsychology.org

    الخميس، مارس 10، 2011

    فلسفة الأرق


    يقول هيغل في كتابه "فلسفة الحقّ": مينيرفا تطير فقط في الليل". وكان يشير بذلك إلى نوبات الأرق.
    الإجهاد، التعب، احمرار العينين، كلّها علامات تذكّر بأن الأرق يهدّ الجسد والروح. الجيران المزعجون، بكاء الأطفال، العمل الزائد، الغذاء السيّئ، المرض، الألم، الحساسية، والزوّار الوقحون، كلّها عوامل تتسبّب في حرمان الإنسان من النوم. وكذلك الحال بالنسبة إلى الأفكار المجرّدة والكلمات التي ترتديها.
    الفلسفة في مسلمّاتها الهائلة لا تغفل شيئا. لذا كان هناك دائما فلاسفة للأرق. لقد فتن الأرق المفكّرين منذ القدم. وهو اهتمام ما يزال مستمرّا إلى اليوم، خاصّة في أوربّا.
    الفلسفة ليست صديقا للنوم. في كتابه "القوانين" يكتب أفلاطون: عندما يكون الإنسان نائما فإنه ليس بأفضل حالا مما لو كان ميّتا. والذين يحبّون الحياة والحكمة لا يحتاجون نوما أكثر ممّا هو ضروري لصحّتهم".
    كليمنت الاسكندري قال كلاما قريبا من هذا: لا فائدة من إنسان نائم، مثلما لا فائدة من إنسان ميّت. لكن أكثر الناس اهتماما بالحياة الحقيقية والمشاعر النبيلة يظلّون مستيقظين لأطول فترة ممكنة". ويضيف: الحاجة إلى النوم ليست في العقول لأنها نشطة بلا توقّف".
    نيتشه في كتابه "ما وراء الخير والشرّ" بشّر بأن أسمى غايات الأوربيين الطيّبين ينبغي أن تكون اليقظة نفسها".
    أرسطو قال إن جميع الحيوانات تنام". وفي القرن العشرين أضاف الفيلسوف الروماني اميل تشوران في كتابه "فوق مرتفعات اليأس": البشر وحدهم هم من يأرقون".
    الفيلسوف الفرنسي ايمانويل ليفيناس تخيّل فلسفة هي عبارة عن دعوة إلى المسئولية النهائية التي لا تتأتى إلا بالأرق التامّ واليقظة التي لا تعرف الكلل".
    الكثير من العلماء استمعوا إلى تلك الدعوة، فضحّوا بالنوم وأجهدوا عيونهم وعرّضوا صحّتهم للخطر بحثا عن شيء من الحقيقة والسموّ.
    ومنذ رواية سارتر "نوم مضطرب" (1949)، توالى العديد من فلسفات الأرق التي تتحدّث الفرنسية. فباريس أصبحت ملجأ للفلاسفة مثل ليفيناس الهارب من النازية، وتشوران الباحث عن الشهرة .
    الحرب العالمية الثانية وما تلاها منحت الفلسفة الفرنسية الكثير مما يستوجب التفكير لدرجة فقدان النوم.
    كان أفلاطون نموذجا لفيلسوف الأرق. كان يحرم جسده من النوم ويكبّله حتى حافّة الموت من اجل البحث عن الحقيقة.
    تقول آن دوفورمانتيلي في كتابها "موعد أعمى: الجنس والفلسفة": الفلسفة ولدت مع القلق والتساؤل والأرق. وهي تضع على عاتقها مصائب وعلل العالم، وبالتالي لا يستطيع الفيلسوف أن ينام".
    ايمانويل ليفيناس هو ملك فلاسفة الأرق بلا منازع. وتشوران كان الناطق الساخر بلسانهم. ويُفترض انه كان أرقا وعابسا ومحبطا ومنهكا.
    عندما كان في العشرين من عمره وقعت له حادثة غيّرت مجرى حياته. لقد توقّف عن النوم فجأة، واعتبر أن هذه أعظم مأساة يمكن أن تقع لإنسان. وطوال ساعات الليل، كان يمشي في الشوارع مثل شبح. وكلّ ما كتبه بعد ذلك أنجزه خلال تلك الليالي.
    ليفيناس كان يرى الأرق كمشهد واضح، كوعي عارٍ، حالة ذهنية مثالية للتفكير الفلسفي الذي ينكر الذات.
    تشوران قال ذات مرّة: الأرق يجعلك تعاني من كل شيء وبإفراط. الرياح تتحوّل إلى عواصف، كلّ لمسة تتحوّل إلى خنجر، والابتسامات تستحيل صفعات وتفاهات ونوازل".
    يقول تشوران: الطاغية ينام يقظا، وهذا ما يميّزه عن غيره".
    الأرق يحتضن جنون العظمة. الخليفة العظيم هارون الرشيد كان يمشي في ألف ليلة وليلة كشخص محروم من الرقاد. نيرون أيضا كان مسهّدا. وهتلر كان لا ينام الليل أيضا.
    لا توجد فلسفة يمكن أن تستمر ليلة دون أن تظهر تناقضاتها. والأرق له هذه الخاصية. فهو يمزق جسدك ويضخم الأنا بداخلك.
    وقد فهم تشوران هذه العلاقة. يقول: تدخل في صراع مع العالم كلّه، مع البشر النائمين، ولا تعود تشعر انك فرد بين آخرين، لأن الآخرين يعيشون دون وعي. وتنشأ مع الشخص مشاعر عزّة وإحساس بالتفوّق يخالطها عَتَه وجنون. الإنسان المسهد يقول لنفسه: قدري مختلف. أعرف تجربة اليقظة التي لا تنقطع".
    الإنسان المُسهَد لا يفكّر في عواقب الأرق وأثره على التفكير.
    في طرفة عين ينزلق الأرق من الفكر إلى الهواجس، ومن الشكّ إلى الماسوشية وكراهية الناس. الأرق له لحظات شفافية غير عادية. لكن له أيضا فِخاخه وأوهام عظمته. "مترجم".

    الاثنين، يوليو 12، 2010

    جماليّات الحزن


    أحد الملامح القديمة في الفنّ الغربي هو تحويل الحزن والكآبة إلى فرح وطاقة للانطلاق والإبداع. والهيئة الأكثر شيوعا في الحالات التي تتناول موضوع الكآبة والحزن هي صورة إنسان، رجل أو امرأة، يضع يده على خدّه وهو مستغرق في التفكير والتأمّل الحزين.
    الفلاسفة والأدباء منذ القدم ينظرون إلى الحزن على انه دعوة خلاقة للإنسان كي يرتفع فوق ذاته ويستغلّ إمكانياته. وهناك من يعتقد أن الحزن يجعل الشخص أكثر إنسانية وشفافية وأكثر إحساسا بإيقاعات الحياة المختلفة من فرح وترح ورجاء ويأس وحياة وموت.. إلى آخره. وهناك أيضا من يرى أن الإنسان لا يصبح مكتمل الإنسانية إلا من خلال المعاناة والحزن. الحزن يمكن أن يلهم الإنسان ويقوّي مخيّلته ويجعله أكثر ارتباطا بالعالم من حوله.
    الشاعر البريطاني جون كيتس تحدّث كثيرا عن فائدة الألم. قال ذات مرّة: الحزن لا يمكن تجنّبه، وهو ليس ضعف إرادة ولا مرضا نفسيا بحاجة إلى علاج". كيتس اكتشف أيضا أن الحزن يلهم الأفكار العظيمة. "ما يجعلنا نحزن هو معرفتنا بأن كلّ شيء مصيره إلى زوال. لكن عندما نحسّ بدنوّ الموت فإننا ندرك كم هو جميل هذا العالم".
    الموسيقي الألماني فريدريك هاندل كان يعاني في نهايات حياته من حالة من الحزن وذبول الصحة ووهن الجسد بعد أمجاده الموسيقية الكثيرة. وفجأة أحسّ بالنشاط والحيوية عندما كُلف بتأليف موسيقى المسيح التي أصبحت أعظم أعماله الموسيقية والتي ولدت من رحم الحزن والمعاناة.
    الرسّامة الأمريكية جورجيا اوكيف كانت دائما تقاوم الإحساس بالكآبة والحزن. غير أن الحزن هو الذي أشعل روحها وجعلها ترسم أفضل لوحاتها عن الأشياء المظلمة في وهج الصحراء وتحت الغيوم الثقيلة والداكنة. تنظر إلى لوحاتها المشهورة فتحسّ بأن فيها شيئا غريبا يشبه صمت وقدسيّة العظام التي كانت ترسمها.
    وهناك من يميّز بين الحزن والكآبة. الحزن قد يُشعِر الإنسان باليأس والإحباط. والكآبة نوع من الحزن لكنّه يخلو من التشاؤم واليأس. كما أن لا علاقة لها بالاكتئاب.
    أرسطو ناقش الكآبة كثيرا عندما درس مشاكل الإبداع الفنّي. وفرويد قرنها بالنرجسية والهوَس. الكآبة فيها مساحة كبيرة للتأمّل. وهي تتعلق بالناس والأمكنة، من قبيل حبّ صديق أو الاشتياق لمكان ما قريب من نفوسنا أو مكان سبق وأن عشنا فيه وما زلنا نحتفظ له بذكريات عزيزة. الكآبة تتضمّن متعة وفيها حبّ وشوق وتطلّع. كما أن فيها نوستالجيا، لأنها تثير الحنين إلى الذكريات القديمة والأفكار والتخيّلات عن الفقد والغياب.
    بعض مشاهد أفلام سكورسيزي وطبيعة الرسّام الألماني كاسبار ديفيد فريدريش وألحان شوبان فيها نوع من الحزن المتسامي الذي يخلو من اليأس أو الإحباط.
    عندما تستمع إلى بعض مقطوعات شوبان تستطيع أن تلمس فيها حزنا ومعاناة. وغالبا ما تعبّر الموسيقى الحزينة عن نفسها من خلال الإيقاع البطيء الذي يثير حالة من التوق والاستبطان الحزين. وهو انفعال معقّد جدّا يستثير بدوره صراعا داخليا يستعصي على التوصيف البسيط.


    مرأى الأطلال أو الآثار القديمة قد يستدعي، هو أيضا، في نفوسنا شعورا بالحزن والكآبة. ربّما يكون السبب هو حقيقة أن الأطلال تعبّر عن مرور الزمن وعدم ثبات وديمومة الحياة والإحساس بالعبور والتحوّل من مرحلة لأخرى وما يثيره ذلك في النفس من مخاوف وهواجس. وكلّ هذه الحالات تكون مصحوبة بإحساس قليل أو كثير بالكآبة. رؤية الآثار الدارسة والقديمة تستثير حالات من التفكير التأمّلي والوجداني ترافقها صور لأحداث وحيوات من العصور الماضية. الصروح المهدّمة والأبنية المهجورة كثيرا ما تثير خيالنا وتدفعنا لإعادة بناء قصص متخيّلة في أذهاننا عن شكل الحياة في الماضي وعن الارتباطات ما بين الآثار والأحداث التي ترويها. هنا أيضا نجد ظلالا من المشاعر السلبية والايجابية للنوستالجيا والحنين لأزمنة وأمكنة لم تعد موجودة سوى في الذهن بعد أن انتهى وزال وجودها الفيزيائي أو المادّي.
    في لوحته بعنوان الحالم، يرسم كاسبار فريدريش شخصا جالسا في نافذة دير قوطي قديم، أو بالأصحّ في أطلال ما تبقّى من ذلك الدير. داخل الدير ألوان حمراء داكنة. لكن النور الذهبيّ الساطع يفيض من وسط الصورة ليملأ الفراغ. المشهد عبارة عن تأمّل صامت والتباين ما بين الضوء والعتمة يوحي بالوحدة. لكن بنفس الوقت ما يزال هناك ثمّة إحساس بالأمل وربّما التوق.
    الكآبة التي يشعر بها الإنسان أثناء لقائه بالطبيعة ليست بالأمر الطارئ أو الجديد. تخيّل نفسك، مثلا، وأنت تمشي في طبيعة مقفرة. الأرض التي تمتدّ أمامك تبدو فارغة وفسيحة تلوّنها ظلال باهتة من الرمادي مقابل سماء بنّية. الهواء ساكن وخفيف. وإذ تجد نفسك متوحّدا مع إيقاعات الفراغ الهادئ الذي أمامك، قد ينتابك فجأة مزاج تأمّلي يستثير في نفسك ذكريات وأفكارا معيّنة من زمن بعيد. تشعر بشيء من المتعة عندما تتذكّر الأوقات الجميلة من الماضي. لكنها متعة يخالطها حزن وتوق غامض.
    في منتصف القرن السادس عشر، كانت الكآبة ترتبط بالإنسان المتفوّق والناضج والقادر على المشاعر العميقة. الموسيقيّ البريطاني جون دولاند عاش في ذلك الوقت وكان معاصرا لـ شكسبير. وقد عُرف ببراعته في العزف على آلة العود "أو اللوت". تستمع إلى ألحانه اليوم فتحسّ فيها بقدر غير قليل من الحزن والحنين. ومثل شكسبير، فإن موسيقى دولاند ما تزال تتحدّث إلينا من وراء أربعمائة عام.
    في ألمانيا، ارتبط الفنّ والأدب والفلسفة في العصر الرومانسي بالكآبة. وقد كتب عنها ايمانويل كانت قائلا: إن المشاعر المتسامية تثير المتعة والخوف معا".
    البريخت ديورر، الفنّان الألماني، رسم لوحة بعنوان كآبة يظهر فيها رجل متعطّش للمعرفة وحريص على إثراء عقله. ثم لهذا السبب، يشعر بالغربة ويعيش معزولا ومنبوذا من بقيّة البشر. هذه اللوحة وجد فيها الكاتب الأمريكي دان براون ما أثار اهتمامه عندما أشار إليها في روايته الأخيرة الرمز المفقود.
    الشاعر الألماني هاينريش هايني اخذ الفكرة واستخدمها في إحدى قصائده عندما كتب يقول: لا أعرف ما الذي يؤرّقني ويثقل على عقلي طوال اليوم".
    العلماء يقولون إن الكآبة ليست شيئا سيّئا أو سلبيا وأن قوّتها الايجابية هي التي منحت القوّة والعبقرية للفنّانين والفلاسفة العظام.
    الكآبة والحزن كانتا وما تزالان فكرتين رائجتين في الرسم. ومن أشهر من رسموهما في أعمالهم كلّ من لوسيان فرويد ورودان وفان غوخ وغويا ووليام بليك ودي تشيريكو وإدوارد هوبر وبيتر بريغل وإدفارد مونك وإدغار ديغا وغيرهم.

    Credits
    contempaesthetics.org
    quod.lib.umich.edu

    الجمعة، يونيو 25، 2010

    اللون الأسود: الإشارات والرموز


    اللون الأسود لون غريب ومحيّر. الرسّامون يتجنّبون استخدامه إلا نادرا. معاني ودلالات هذا اللون في الثقافة واللغة سلبيّة في معظمها: السحر الأسود، السوق السوداء، الموت الأسود، الثقوب السوداء، التاريخ الأسود.. إلى آخره. في الثقافة الشعبية يقال "هذا يوم اسود" في إشارة إلى كارثة أو مأساة. ويقال أيضا "فلان قلبه اسود" للتدليل على حقده وحبّه للشر. وهناك أيضا القائمة السوداء التي تتضمّن أسماء أشخاص أو منظّمات تستحق المقاطعة أو العقوبة.
    غير أن بعض النساء يفضّلن الأسود لأنه كلاسيكي ويُظهرهنّ بقوام أكثر نحافة. مع أن بعض علماء النفس يقولون إن المرأة التي تفضّل الأسود ذات شخصية انقيادية وتميل إلى الخضوع للرجل. الأسود أيضا لون يدلّ على السلطة والهيبة. ربّما لهذا السبب يرتديه القضاة في المحاكم. وهو أحيانا يعطي معنى الخضوع والاستسلام، لذا يستخدمه الرهبان ورجال الدين.
    في الموسيقى الكلاسيكية يرتدي العازفون لباسا موحّدا من الأسود.
    وكثيرا ما يرمز الأسود للتكتّم والسرّية. وهناك مصطلح الخروف الأسود الذي يشير إلى الشخص الرديء أو غير المحترم في عائلة أو جماعة.
    هناك أيضا مصطلح الكوميديا السوداء التي يعبّر عنها القول الشائع "شرّ المصيبة ما يضحك". وفي عالم الطبيعة هناك الأرملة السوداء أو أنثى العنكبوت التي تقتل ذكرها.
    الرسّامون أيضا منقسمون في نظرتهم للون الأسود. التجريديون، مثلا، استخدموه كثيرا في أشكالهم ورسوماتهم. ومانيه قال عنه مرّة : الأسود ليس لونا. ورينوار اكتشف بعد سنوات طويلة أن الأسود ملك الألوان. وجورجيا اوكيف، الرسّامة الأمريكية، كانت تعتقد أن اللون الأسود يخفي في أعماقه سرّا دفينا وغامضا. كما أن لوحات غويا السوداء أصبحت ترمز لليأس والتشاؤم والموت.
    غير أن أشهر لوحة اقترنت بهذا اللون هي المربّع الأسود للرسّام الروسي كاسيمير ماليفيتش والتي أصبحت في ما بعد إحدى أيقونات الفنّ الحديث.
    الموضوع المترجم التالي يستعرض الممرّات والدروب المظلمة التي سلكها اللون الأسود عبر تاريخه الطويل وكذلك الإشارات والرموز التي أصبح مرتبطا بها.

    نتحدّث كثيرا عن الألوان كما لو أنها أشياء مادّية ثابتة في حياتنا اليومية. نقول أحيانا هذا اللون بارد وذاك دافئ، مع أننا من خلال هذه التوصيفات نخلع على الألوان تلقائيا استعارات وتشبيهات غامضة. في كتابه عن نظرية الألوان، درس الفيلسوف والشاعر الألماني غوته التأثيرات السايكولوجية للألوان. وقال إن اللون ما هو إلا "ضوء مضطرب". غير انه ليس هناك من الألوان ما هو أكثر إثارة للاضطراب والفتنة من اللون الأسود. لكن هل يمكن أن نطلق على الأسود وصف لون؟ غوته نفسه لم يكن متأكّدا من هذا.
    إننا نرى الأسود كسطح يمتصّ جميع ألوان الطيف المرئي. وهو دائما يحتفظ بهالة خاصّة وغامضة. كما كان له تأثيره الكبير على الرسّامين.
    بِيت موندريان الذي كان معجبا بنظريات غوته استخدم الأسود بطريقة مؤثّرة جدّا في أشكاله التجريدية ذات الخطوط الأفقية والعمودية. بالنسبة له لم يكن الأسود لونا. آد راينهارت الذي درس لوحات موندريان نقل الموضوع خطوة ابعد عندما قال إن الأسود هو لون نفي. انه ينفي جميع الألوان الأخرى. الجانب الغامض من الأسود كان يروق كثيرا للرسّامين.
    بول كْلِي قال انه لا يمكن عقلنة الأسود وليس مطلوبا أن نفهمه. بالنسبة له، الأسود هو تعبير عن البدائية. تعليقات كْلي تشير إلى الأصول القديمة للون الأسود، أي إلى الزمن الذي لم يكن الإنسان بعد قد روّض النار أو استخدمها لإضاءة ساعات الظلام.
    في فيلم اوديسّا الفضاء لـ ستانلي كوبريك، يظهر بشكل غير متوقّع عمود اسود غامض في الأيّام الأولى لوجود البشر على كوكب الأرض. وعندما يهبط الليل، يبعث مرأى ذلك العمود الغامض الشكّ والهلع في نفوس القِرَدَة.


    ترى هل يكون الأسود منزرعا في أعمق أعماق دماغ الإنسان؟ هل هو جزء من تجربة التطوّر التي مرّ بها البشر عبر آلاف السنين؟ ليس ثمّة إجابة واضحة عن هذا السؤال بالرغم من التقدّم الكبير الذي ُانجز في مجال البحوث والدراسات العصبيّة. وكلّ ما نعرفه على وجه اليقين هو أن هذا اللون يمكن أن يثير في وعينا الجماعي إحساسا بالضعف والعجز. كما انه يرتبط بالأمور غير العقلانية أو تلك التي ترفض الخضوع لمنظومة المسلّمات الثقافية.
    لذا يمكن القول إن الأسود لون مخرّب، من حيث انه يقوّض الواقع الراهن. ادموند بورك يقول إن الأسود مرتبط بالأشياء الرهيبة والمتسامية معا. كما أن له علاقة دائمة تقريبا بالأشكال الصلبة والهندسية. وبالنسبة للبعض، هو يرتبط باللانهائية وإلى بدايات خلق الكون والحياة على الأرض.
    الرسّام الروسي كاسيمير ماليفيتش رسم لوحته المشهورة المربّع الأسود عام 1915 والتي أصبحت احد أهمّ الأعمال الفنية في روسيا. في هذه اللوحة أزاح الرسّام الفراغ الصوري والمنظور تاركا فقط مربّعا اسود نقيّا على خلفية بيضاء. هذه اللوحة أصبحت في ما بعد رمزا لفنّ الحداثة كما كانت مصدر إلهام للعديد من الفنّانين.
    في معظم اللوحات التجريدية نلمس إحساسا بالحزن والكآبة. هذا الإحساس الغامض له ارتباط باللون الأسود يعود إلى زمن أرسطو في اليونان القديمة. وفي اللغة اليونانية، فإن مفردة الأسود تعني حرفيا الحزن. وعلى خطى أرسطو وبعد وقرون طويلة، ألّف روبرت بيرتون كتابه المشهور تشريح الحزن عام 1621م. هذا الكتاب عبارة عن دراسة معمّقة لظاهرة الحزن، تاريخها وأسبابها وعلاجها.
    في القرن التاسع عشر، ظهر اللون الأسود في العديد من السياقات. بالنسبة إلى غويا، كان الأسود يرمز لحالة النفي الاجتماعي، وهو ما تؤكّده صوره الكثيرة عن الموت والكوارث.
    الرسّام الفرنسي هنري ماتيس كان يعتمد على الأسود لتبسيط بناء اللوحة. في لوحته نافذة فرنسية يحوّل ماتيس نظر المتفرّج بعيدا عن ألوان ديكور رمادية وبنّية وخضراء كي يركّز اهتمامه على مشهد لشرفة مظلمة.
    كان ماتيس سيّد الألوان المستقلّة الذي قاد تحوّلا تاريخيا مهمّا في الفنّ من خلال دراسته التي كتبها بعنوان "الأسود كلون". وقد بذل الفنّان جهده من اجل تحرير الأسود من هوّيته الشائعة والمتعارف عليها كلون يمتصّ الألوان الأخرى وجعل منه لونا مشعّا وذا خاصّية لامعة. أي انه تصرّف بعكس الانطباعيين الذين كانوا يهتمّون بالضوء، ولذا تجاهلوا اللون الأسود كلّيا تقريبا.
    كاندينسكي الذي استخدم الأسود كثيرا في لوحاته كان يعتبره لونا يقود وجودا خاصّا به في مكان بعيد عن حياة الألوان البسيطة. كان كاندينسكي يصف الأسود إما كبُنية دائرية وإمّا تبعا لاستقطابه الألوان الأخرى مثل الأصفر والأزرق أو الأحمر والأخضر أو البنفسجي والبرتقالي.
    في الفترة الأخيرة كان هناك اهتمام متزايد وانتقائي بالأسود. وفي بعض الحالات، أصبح هذا اللون يشير إلى التغييرات السياسية والاجتماعية. في لوحتها الحديقة السوداء ترسم جيني هولزر نباتات سوداء أو حمراء قاتمة، يمكن تفسيرها على أنها رمز لموت النظرة الطوباوية إلى العالم. كما يصحّ اعتبارها إعادة صياغة عصرية للوحة نيكولا بُوسان المشهورة رُعاة أركاديا.
    ريتشارد سيرا حاول هو أيضا أن يجعل الأسود لونا دنيويا، وذلك من خلال تحويل طبيعته من لون ميثولوجي إلى لون متجسّد ومادّي بحيث تبدو سماته البصرية اقلّ أهمية من خصائصه اللمسية.
    في كتابه بعنوان حلقات زحل، يشير دبليو جي سيبالد إلى عُرف كان سائدا في هولندا في القرن السابع عشر. حيث كان من عادة الناس الذين يتوفّى لهم قريب أن يغطّوا بأشرطة الحداد السوداء جميع المرايا في البيت وكذلك جميع اللوحات التي تصوّر طبيعة أو أشخاصا أو فاكهة في الحقول. كانوا يعتقدون أن من شأن ذلك أن يعين الروح وهي تفارق الجسد على أن لا تتشتّت أو تنشغل في رحلتها الأخيرة بانعكاس نفسها أو بإلقاء نظرة أخيرة على الأرض التي يُفترض أنها ستغادرها إلى الأبد.

    الثلاثاء، مايو 25، 2010

    مدرسة أثينا


    خلال العصور الوسطى، كان الناس في أوربّا يؤمنون بأن كلّ من عاش قبل ظهور المسيح سيكون مصيره النار لا محالة! لكنْ وحسب هذه الفكرة، فإن المفكّرين والفلاسفة الذين عاشوا في العصور الوثنية، مثل أفلاطون وأرسطو وزارادشت، سيكونون في وضع أفضل حالا، إذ سينتهي بهم الأمر في المنطقة المسمّاة "البرزخ" والتي يقال إنها تقع في منتصف المسافة بين الجنّة والنار.
    في لوحته المشهورة مدرسة أثينا، يحاول رافائيل أن يقول أن لا فرق بين المفكّر "أو الفيلسوف"، سواءً عاش قبل المسيحية أو بعدها، طالما انه يؤمن بالقيم الإنسانية المشتركة والجامعة مثل الحقّ والخير والحبّ والحكمة والجمال.
    جوزيف فيلن يقدّم في هذا الموضوع المترجم قراءة جديدة للوحة التي قيل إنها عبارة عن تاريخ مصوّر للفكر الفلسفي الغربي من وجهة نظر أفلاطونية.

    أحد أهمّ الدروس التي يتعلّمها الإنسان أثناء الدراسة الجامعية هو المسافة الكبيرة التي تفصل الشخصيات العظيمة في تاريخ الفلسفة عن بقيّة الذين جاءوا من بعدهم. فـ سقراط وتوما الاكويني وسبينوزا، على سبيل المثال لا الحصر، يتبوّءون مكانة أعلى بكثير من الفلاسفة الذين أتوا لاحقا. هؤلاء العمالقة يقفون متميّزين كأبطال ومستكشفين جريئين ومؤسّسين ومشرّعين للأساليب الجديدة ونظم الفهم.
    إن كارل ماركس لم يبتعد عن الحقيقة عندما قال ذات مرّة إن الفلاسفة حتى الآن سعوا فقط لأن يفهموا العالم، مع أن الهدف الأساسي هو تغييره. وفي الحقيقة فإن الفلاسفة حاولوا دائما أن يفعلوا الأمرين معا.
    والمثقّفون والعلماء والأكاديميون الذين يتبنون الفكر الطليعي الفلسفي يسعون دائما إلى تعميم الفكرة الجيّدة ونشرها وجعلها ممنهجة.
    وبهذه الطريقة غيّر الفلاسفة، مع مرور الوقت، العالم. وبناءً عليه، فإن التاريخ الحديث مدين بالكثير من العرفان لأوائل الفلاسفة الحديثين العظام مثل بيكون وهوبس وديكارت ولوك وسبينوزا.
    وهذا ينطبق على أفلاطون وأرسطو، وبقيّة الفلاسفة العظماء القدامى الذين ترسّموا خطاهما. وإذا كانت الفلسفة لا تبدو مهمّة بالنسبة للإنسان العادي اليوم، فإن ذلك يعود إلى أن القليلين هم من يدرسونها دراسة كافية. ثم هناك حقيقة أن الفلسفة أصبحت مجرّد فرع متخصّص جدّا من العلوم ولم تعد طريقة حياة.
    لكن في عصور الفنّ العظيم، كان الرسّامون والنحّاتون ينظرون إلى الفلاسفة نظرة إكبار وتقديس. وكانوا يترجمون تلك النظرة إلى صور فنّية.
    رمبراندت كان أحد هؤلاء. في لوحته "أرسطو يتأمّل تمثالا نصفيا لـ هوميروس" ولوحته الأقلّ شهرة "الفيلسوف المتأمّل"، يتعامل رمبراندت باحترام وإجلال مع ما يرمز إليه الفيلسوف وما تمثّله حياته.
    كما رسم جاك لوي دافيد موت سقراط نقلا عن رواية أفلاطون عن الحادثة. وصوّر الرسّام الفيلسوف وهو يشرب السمّ بينما يستمرّ في حثّ تلاميذه الذين يستبدّ بهم الحزن على التمسّك بالحرّية والثبات على المبدأ.
    دافيد يظهر لنا انه في مواجهة الفيلسوف للموت بشجاعة، يتكرّس الإيمان بالحياة التي تسعى لكشف وإجلاء الحقيقة.
    من جهته، يربط الرسّام جوزيف رايت الفلسفة بالروح العلمية الحديثة في لوحته بعنوان تجربة على طائر. هذا العمل الرائع يذكّرنا بأن الفلسفة يمكن بالفعل أن تغيّر العالم من خلال الغوص في الظواهر الطبيعية بغية تحليلها وفهمها.
    غير أن عصر النهضة كان أفضل المراحل التاريخية التي ازدهر فيها الرسم الفلسفي. في هذا الوقت بالذات، أعادت أوربّا المسيحية اكتشاف وفهم معنى العصور الوثنية القديمة.
    الرسّام رافائيل الذي يصفه فاساري بأمير الرسّامين كان شابّا عندما انتقل إلى فلورنسا لدراسة الرسم. وأثناء إقامته هناك تعلّم على يد اثنين من كبار معاصريه من الرسّامين: ليوناردو دافنشي ومايكل انجيلو.
    عظمة هذين المعلّمَين لم تؤدّ إلا إلى شحذ طموحات رافائيل التي اقترنت بموهبته الهائلة التي أنتجت واحدة من أعظم اللوحات في تاريخ الفنّ الغربي.
    هذه اللوحة الموجودة اليوم في الفاتيكان سُمّيت "مدرسة أثينا". وظلّت تحمل هذا الاسم طوال الـ 300 عام الماضية لعدم وجود اسم أفضل. وهي تصوّر اجتماعا لأعظم فلاسفة العالم القديم.
    وللمرّة الأولى في الفنّ الغربي يستطيع رسّام أن يمثّل الوحدة المتناغمة الكامنة في الاهتمامات المتنوّعة للعقل الإنساني من خلال تصوير بعض الأفراد الأكثر مثالية الذين يمثّلون التقاليد العقلانية وجَمْعِهم في مكان أسطوري واحد وفي زمن واحد.
    مدرسة أثينا لوحة تحمل اسما غامضا. فرغم حضور بعض الأثينيين البارزين مثل سقراط وبعض تلاميذه مثل زينوفون وألسيبايديس وديوجين، إلا أن في اللوحة أشخاصا كثيرين من غير أهالي أثينا. والأكثر إثارة للاهتمام في اللوحة هو حضور الفيلسوف الفارسي القديم زارادشت الذي عاش قبل زمن أثينا بوقت طويل، وكذلك حضور ابن رشد المفكّر المسلم الذي علّق على أفكار أرسطو والذي عاش بعد فلاسفة أثينا بقرون طويلة.
    وكما يبدو، فإن مدرسة أثينا بخصائصها الأخلاقية والعقلانية يمكن أن توجد في أمكنة وأزمنة متباعدة جدّا. ورافائيل يريدنا أن نرى كم أن العقل متعدّد الثقافات حقّا وعابر للتاريخ أيضا.
    إن الفلسفة، كما كان القدماء يرونها، لم تكن نشاطا منعزلا. كما أن الفيلسوف لا يجب أن يعتزل الحياة ويبتعد عن مشاكل الناس العاديين. لأن الفلسفة تُعنى في الأساس بالبحث عن معنى للحياة يعين الإنسان على تلمّس طريقه وفهم واقعه.
    ورافائيل يؤكّد على هذا من خلال تصويره للمبنى الضخم الذي يجمع هؤلاء الأشخاص كرمز للتناغم والتوافق الصحّي بين قوى الروح والعقل.



    في هذه الصورة نجد ترتيبا دقيقا للأشخاص. وقد ترجم الرسّام فكر العصور القديمة وحوّله إلى تظاهرة حيّة. وذروة المشهد الذي تمثّله اللوحة يقع في منتصفها، وبالتحديد في الهيئة الرائعة لكلّ من أفلاطون وأرسطو. فهما يبدوان واثقين ومتعافيين بينما يحمل كلّ منهما احد كتبه في يده. أفلاطون يحمل كتاب تيميوس وأرسطو كتاب الأخلاق.
    وقد أراد رافائيل من خلال الحركات والإيماءات الدراماتيكية لكلّ من الشخصيتين المركزيتين في اللوحة أن يرمز إلى الطبيعة المتسامية والميتافيزيقية لتفكير أفلاطون، وإلى الطبيعة العملية والواقعية لتعاليم أرسطو.
    أفلاطون كان معلّما لـ أرسطو. وكما هو الحال دائما، لم يكن التلميذ على وفاق دائم مع معلّمه. لكنّ أرسطو كان يدرك أن أستاذه مهتمّ بالماورائيات والعالم الآخر، لدرجة انه كان يترك تلاميذه أحيانا نهباً للتكهّنات.
    رافائيل أراد أن ينبّهنا من خلال اللوحة إلى الفروق المهمّة بين أفكار كلّ من أفلاطون وأرسطو من خلال عنواني الكتابين اللذين وضعهما في يد كلّ منهما. الأقواس الكبيرة التي تنتشر فوق الشخصيات في اللوحة تُظهر أن هناك جامعة شاملة تضم كلّ المدارس الفكرية وتنضوي تحتها جميع التخصّصات المختلفة وتتعايش ككلّ متناغم.
    لكن كيف تحقّق هذا العمل المدهش؟
    رافائيل كان عمره لا يتجاوز السابعة والعشرين عندما أوصى به للبابا يوليوس الثاني كبير مهندسيه المعماري برامانتي. وقد طلب الأخير من الفنّان أن يرسم لوحة على جدار مكتبة البابا.
    في العصور القديمة كانت المكتبات تُزيّن بصور الشعراء والفلاسفة. ويوليوس الذي كان مشهورا بحبّه للأشياء القديمة أراد أن تُزخرف المكتبة الكبيرة بنفس الأسلوب. لكن لم يكن لـ رافائيل خبرة كبيرة في رسم الجداريات الضخمة. غير انه كان هناك نموذج بارز في الجوار: رسومات مايكل انجيلو الثورية في سقف كنيسة سيستين.
    من أين جاءت رافائيل فكرة تخطيط هذه اللوحة؟
    المؤرّخون يختلفون حول هذه المسألة. لكن هناك من يربط اللوحة بكتاب الكوميديا الإلهية لـ دانتي.
    في المجلّد الرابع من الجحيم، وقبل أن ينزل دانتي وفرجيل إلى أعماق الجحيم، يقابلان الوثنيين من أصحاب الفضائل والخصال الإنسانية السامية وبينهم أبطال وشعراء وفلاسفة. هؤلاء، رغم أنهم عاشوا في عصر سابق على ظهور الأديان التوحيدية، إلا أنهم كانوا يعيشون حياة صحّية، إذ كانوا يتّبعون فطرتهم السليمة ويمشون على هدي من نورهم الخاصّ.
    ومن المرجّح أن يكون رافائيل قد استخدم هذه القصّة في رسم رؤيته التي ضمّنها اللوحة. غير انه خالف دانتي، فلم يضع الأشخاص في مسار سُفلي إلى الجحيم وإنما في رؤية سماوية.
    الفلاسفة في اللوحة يسعون إلى معرفة الحقيقة في جنّة تحفّها السماء والضوء، وهو أمر يتناقض مع الظلام والرعب اللذين يستحضرهما الذهن عندما تُذكر كلمة الجحيم.
    هذه اللوحة لن تكتشف فخامتها وبهاءها ما لم ترها عيانا. لكن عليك أن تنتظر طويلا قبل أن تتمكّن من بلوغ المكان. وعندما تدخل الغرفة الموجودة بداخلها، لن يكون أمامك سوى دقائق قليلة لرؤية اللوحة بسبب صغر مساحة الغرفة وكثرة الزوّار.
    أمّا إن كنت تريد دراسة اللوحة فهي موجودة على الانترنت. وهناك عدد من المواقع التي توفّر صورا ممتازة للوحة بعد ترميمها.

    Credits
    study.com