:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات مانيه. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مانيه. إظهار كافة الرسائل

السبت، أغسطس 01، 2020

غويا: إعلان ضدّ الحرب

كان في ذهن الرسّام الإسباني فرانسيسكو دي غويا وهو يرسم هذه اللوحة الأيقونية أن تكون تخليدا للعمل الأكثر بطولة في نضال الشعب الاسباني ضدّ "طاغية أوربّا"، أي نابليون، الذي كان قد احتلّ اسبانيا في بداية عام 1808 وأجبر الملك تشارلز الرابع على التنحّي.
في الثاني من مايو من ذلك العام، حاولت جماعة موالية للعرش الاسباني أن تستعيد السلطة في مدريد. لكن تلك الانتفاضة انتهت بفشل دمويّ كامل. وفي صباح اليوم التالي، ألقت القوّات الفرنسية القبض على المئات ممّن اشتبه في مشاركتهم في ذلك التمرّد، وجمعتهم في مكان خارج المدينة ثم أطلقت عليهم النار ليلا.
وبعد ستّ سنوات، وكانت إمبراطورية نابليون على وشك السقوط وابن تشارلز يجلس على العرش الاسبانيّ، أنهى غويا رسم لوحته الأكثر شهرةً وإثارةً للانزعاج.
كثيرا ما توصف لوحة "الثالث من مايو 1808" بأنها أعظم لوحة معادية للحرب وأوّل عمل من أعمال الفنّ الحديث، كما أنها تحفة غويا بلا منازع. والغريب أن هذه اللوحة قضت أوّل أربعين عاما من عمرها في المخازن. ثم حُوّلت بعد ذلك إلى متحف برادو في مدريد. ولم يهتمّ المتحف بإدراجها ضمن مقتنياته إلا في عام 1872. في ذلك الوقت، كانت الفظائع التي رسمها غويا في اللوحة قد أصبحت خارج الذاكرة الجمعية للناس.
طوال فترة انشغاله بالرسم، كان غويا بارعا في إقناع رعاته بعمل شيء ثم انجاز شيء آخر. والحقيقة أن "الثالث من مايو" حافظت على ذكرى التمرّد الإسباني حيّة في الأذهان. ومع ذلك فإن من المشكوك فيه ما إذا كان الرسّام أراد إظهار تلك المذبحة كحادث مقترن بالبطولة أو المجد. لكن المؤكّد أن غويا استطاع من خلال هذا العمل توسيع أعراف الرسم الأكاديمي كي يُبرز الوقائع المريرة والدامية للصراعات الحديثة.
في عام 1975، نشر الكاتب الفرنسي اندريه مالرو مقالا قال فيه إن الرسم الحديث بدأ باللوحات السوداء التي تناول فيها غويا فظائع الحرب. لكن غويا رسم في "الثالث من مايو" لوحة حداثية مروّعة كانت بلا وجه ولا مشاعر".
الجنود الفرنسيون الذين يظهرون في الجانب الأيمن من اللوحة لا يمكن مساومتهم أو مجادلتهم بالعقل. ولأننا لا نستطيع رؤية تعابير وجوههم وهم يطلقون النار، فإننا لا يمكن أن نعرف ما الذي كان يعتمل في رؤوسهم في تلك اللحظات.
وبدلا من ذلك فإن خوذاتهم السوداء التي تشبه الأقنعة ووقفتهم الموحّدة هي التي تلفت انتباه الناظر. ومن الواضح أن هؤلاء الجنود أتوا إلى هذا المكان ليلا لإنجاز مهمّة لا مكان فيها للتفكير أو المشاعر. كانوا فقط ينفّذون الأوامر التي أُعطيت لهم.
وإذا كان منفّذو إعدامات الثالث من مايو جنودا متبلّدي المشاعر وعديمي الرحمة، فإن غويا لا يُظهر منهم سوى القليل في اللوحة. لكن ضحاياهم لا يمكن نسيانهم، لأن مشاعرهم وردود فعلهم تُفصح عن نفسها.
مؤرّخو الحرب، من ناحيتهم، أراقوا حبرا كثيرا في تحليل شخصية الرجل الشهيد ذي القميص الأبيض والعينين المفتوحتين على اتساعهما.
في السيرة الرائعة التي كتبها الناقد روبيرت هيوز لغويا، يصف الكاتب هذا الشخص الظاهر في اللوحة بأنه واحد من أكثر الشخصيات حضورا في كل أعمال الفنّ، بينما شبّه آخرون وقفته بوقفة المسيح على الصليب. وإذا نظرت إلى الرجل عن قرب فستلاحظ أثر جرح على إحدى يديه، في إشارة إلى معاناة المسيح.
لكن غويا لا يسمح لتلك الإشارات الأيقونية الموحية بأن تُسقط لوحته في مأزق العاطفية الفجّة. فهذا الرجل ضحيّة، لكنه ليس شهيدا تماما. فهو لم يختر لنفسه أن يموت، ناهيك عن أن يموت في سبيل قضيّة. إن موته يثير الغضب ولا شكّ، لأنه غير مفهوم، كما لا يمكن تبرير قتله بدافع من دين أو وطنية. ولم تكن للقتل أهداف عليا، فقط الطغيان الذي يعلن عن نفسه في الليل.
يمكن أن تُكتب مئات الصفحات عن وقفة هذا الرجل المشهور وعن تعابير وجهه. وقد فعل هذا العديد من مؤرّخي الفنّ. لكن "الثالث من مايو" هي من اللوحات النادرة التي لا يخلو تفصيل فيها من فكرة أو إيحاء.

لاحظ، مثلا، انثناءة السيف اللامع لآخر جنديّ فرنسيّ إلى اليسار. إنه مجرّد تفصيل صغير في هذه اللوحة الضخمة والتي - بحسب هيوز - تتفوّق فعليّا على أيّ شيء في الرسم الأوربّي بعفويّتها وحيويّتها الملهمة. السيف المتقادم الذي يتدلّى من خصر صاحبه بلا فائدة هو رمز للرومانسية الباهتة للحرب.
مالرو لاحظ أيضا منظر المدينة البعيدة المتّصل بالمقدّمة بسلسلة من الأسرى الذين لا يكادون يبينون فوق رؤوس الجنود الفرنسيين، وهم يراقبون من ذلك المكان العالي عمليات القتل. إن غويا في هذا التفصيل يستثير أشباحا من المدن دون أن يضطرّ لرسم أطلال أو خرائب، وهو شيء لم يسبقه إليه احد من قبل، بحسب مالرو.
والحقيقة أن هذا الوصف يمكن أن ينطبق على أيّ من انجازات غويا الأخرى. لكن لا يمكن القول أن رسّامين آخرين لم يحاولوا أن ينجزوا ما فعله. فإدوار مانيه مثلا في لوحته "إعدام ماكسيميليان" لم يحاول إخفاء تأثّره بـ "الثالث من مايو"، في حين اعتُبرت "غورنيكا" بيكاسو عملا مناظرا للوحة غويا، ولكن في القرن العشرين. وهاتان مجرّد علامتين فقط على النجاح المبهر للوحة باعتبارها إعلانا ضدّ الحرب.
المسئولون الإسبان الذين كلّفوا غويا برسم اللوحة أرادوا لها أن تصبح عملا تذكّريا يحتفي بإسبانيا وبوطنية الإسبان. لكنهم في النهاية لم يحتفوا بشيء سوى شجب واستنكار الحرب. ولم يعد مهمّا معرفة من الذي خاضها ولماذا.
وعندما تلاشت حروب نابليون من كتب التاريخ، أصبحت عالمية "الثالث من مايو" أكثر وضوحا في القرن العشرين. إذ لا يبدو الأشخاص في اللوحة على أنهم فرنسيون أو إسبان تحديدا. ومن السهل أن تتخيّل حدوث هذا المنظر الرهيب والغارق في الدماء في ألمانيا عام 1942، أو في تشيلي عام 1973، أو في العراق عام 2006.
على الأرجح، لم يكن غويا شاهد عيان على ما حدث. ولم تكن اللوحة مجرّد تسجيل لحادث بعينه، بل كانت تأمّلا كئيبا عن طبيعة السلطة وشرور الحرب. ورغم انه اشتغل معظم حياته كرسّام للقصر، إلا انه ظلّ يتحلّى بالاستقامة الثورية.
كان غويا يكره كافّة أشكال السلطة: الكهنة، الجنود والمسئولين. وكان يعرف أن كلّ هؤلاء لو توفّرت لهم السلطة لنكّلوا بالضعفاء ولسحقوهم بلا رحمة. وشعوره هذا هو الذي منح قوّة ورمزية للرجل صاحب القميص الأبيض وللضحايا الآخرين المضرّجين بدمائهم.
لم تكن الدماء منظرا يحظى بالشعبية في الرسم التاريخيّ في القرن التاسع عشر. لكن المعركة هنا رهيبة وليس فيها أيّ قدر من النبل أو البطولة. لقد رسم غويا جنودا يقتلون بدم بارد أفرادا عُزلا، وأبقى وجوه القتلة بلا ملامح لكي لا يتماهى معهم الناظر. غير أن الضحايا أو معظمهم لهم وجوه، وهذا من أعظم خصائص اللوحة.
مع "الثالث من مايو" بدأ ظهور الصورة الحديثة للحرب، وللقتلة المجهولي الهويّة، بينما وصلت التقاليد الطويلة عن الحرب كمظهر من مظاهر الشجاعة والفروسية إلى نهايتها.
ليس بالمستغرب أن يلجأ الفنّانون من جميع أنحاء العالم إلى غويا عندما يريدون التعبير عن رؤاهم المضادّة للحرب. وبسبب عالمية وأيقونية "الثالث من مايو" وبوحي منها، ثابر العديد من الفنّانين، وعلى مدى قرنين، على تصوير فظائع الحروب، وبطريقة بليغة أحيانا. لكنهم لم يستطيعوا منع الحروب ولو مرّة.
بطبيعة الحال، ليس مطلوبا من الفنّانين أن يوقفوا الحروب وليست تلك مهمّتهم على أيّ حال. لكن من الصعب ألا تنظر إلى الوراء؛ إلى عشرات الصور المذهلة والمشحونة سياسيّا التي استُلهمت من "الثالث من مايو"، ثم تمنع نفسك من التساؤل: لماذا كانت تلك الحروب أصلا، وما الذي فعلته أو جلبته غير القتل والدمار.
ويمكنك أن تشعر بنفس القدر من الحزن والمرارة وأنت تتأمّل تفاصيل لوحة غويا. لقد كانت فكرته وهو يرسمها هي انه رأى كلّ شيء وخَبِر وعايش احد أكثر الأوقات عنفا وهمجية في التاريخ الأوربّي الحديث.
كانت موهبة غويا الغامضة تتمثّل في انه رأى في ذلك الوقت أكثر ممّا استطاع أيّ شخص آخر رؤيته. لقد رأى كلّ ما كان يحدث لبلده وتوصّل إلى انه لا يستطيع فعل أيّ شيء حياله، غير أن يرسمه.
وهذا بحدّ ذاته انجاز كبير.

Credits
smarthistory.org
khanacademy.org

الاثنين، أغسطس 18، 2014

ديغا والحياة الحديثة

ما أن يُذكر اسم إدغار ديغا حتى تخطر في الذهن تابلوهاته الفخمة التي تصوّر فتيات صغيرات يتحرّكن كالفراشات وهنّ يتعلّمن فنّ رقص الباليه.
كان ديغا محبّا لمظاهر الحياة الحديثة. وقد رسم النساء كثيرا في لوحاته، وخاصّة نساء الطبقة العاملة وهنّ يمارسن الأعمال المنزلية اليومية من غسيل وتنظيف وكوي وخلافه. وهؤلاء النساء لم يكنّ من طبقته هو. كان هو محسوبا على الطبقة البورجوازية الباريسية آنذاك.
ورسوماته عن الطبقات الاجتماعية والمهن والسلوكيات المرتبطة بها تُعتبر من بين أفضل الأعمال التشكيلية التي تؤرّخ لتلك الفترة، أي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
على المستوى الشخصي، كان ديغا شخصا عصبيّا بطبيعته. وكان نظره قصيرا جدّا لدرجة أنه كان يخاف من فقدان البصر. لكن، وربّما لهذا السبب بالذات، كان مخلوقا متقبّلا للآخرين وذا حساسية عالية، بحسب ما كتبه عنه الكاتب والناقد الفنّي الفرنسي إدمون دو غونكور.
كان ديغا يعرف طبيعته الصعبة. وقد اعترف ذات مرّة لزميله الرسّام بيير أوغست رينوار بقوله: لديّ عدوّ واحد رهيب لا يمكنني التوافق معه. هذا العدوّ، بطبيعة الحال، هو نفسي".
وقد عَرف ديغا من خلال أولئك الذين ارتبطوا به كيف يضبط مشاعره الانفعالية. "على العشاء، سيكون هناك طبق مطبوخ لي من دون زبدة. لا زهور على الطاولة، ومع القليل جدّا من الضوء. عليك أن تُخرس القط، وليس لأحد أن يجلب معه كلبا. وإذا كان هناك نساء بين الحاضرين، فاطلب منهنّ أن لا يضعن على أنفسهنّ روائح. لا لزوم للعطور عندما تكون هناك أشياء لها رائحة طيّبة كالخبز المحمّص مثلا. ويجب أن نجلس إلى المائدة في تمام الساعة السابعة والنصف".
صرامة ديغا وانضباطيّته العالية دفعت كلّ أصدقائه تقريبا لأن يهجروه، بحسب رينوار. "كنت واحدا من آخر الذين كانوا يزورونه، ومع ذلك حتى أنا لم أستطع البقاء حتى النهاية".
كان البعض يعتبر ديغا شخصا كارها للنساء، رغم أن قائمة أصدقائه كانت تضمّ الرسّامتين ميري كاسات وبيرتا موريسو، بالإضافة إلى كبار مغنيّات الأوبرا وراقصات الباليه في زمانه. وعندما اتّهم بأنه شخص منعزل نفى ذلك. "لست كارها للبشر، بل أنا ابعد ما أكون عن هذه الصفة، ولكن من المحزن أن تعيش محاطا بالأوغاد".
وعلى الرغم من شخصيّته غير المهادنة، إلا أن ديغا كان يحظى بالاحترام من أقرانه الذين كانوا يخشونه. وكانت شعبيّته عالية لدى نقّاد الفنّ ومشتري الأعمال الفنّية. "كنت، أو هذا ما بدا لي، صارما مع الجميع وذلك بسبب ميلي لنوع من الخشونة التي تداخلت مع شكوكي ومزاجي السيّئ".
ولد إدغار ديغا في باريس خلال نفس العقد الذي ولد فيه إدوار مانيه وبول سيزان وكلود مونيه. وكانت لديه العديد من الفرص. كانت سنواته الأولى متميّزة على الرغم من الحزن الذي شابها ورافقه طوال حياته. "كنت عابسا مع العالم كلّه ومع نفسي". وتحت ضغط والده وافق على دراسة القانون. ولكن سرعان ما تخلّى عن ذلك وقرّر أن يدرس الفنّ بحماس أقنع والده بدعمه.
كانت أعمال ديغا المبكّرة عبارة عن لوحات تاريخية رسمها بالأسلوب الكلاسيكي. وفي بدايات تدريبه استوعب أساليب أوغست دومينيك آنغر وأوجين ديلاكروا وغوستاف كوربيه. وكان يطمح لأن يرسم مثل ميكيل أنجيلو ورافائيل.
ولكن بدءا من 1861، تخلّى عن رسم المواضيع التاريخية وبدأ يرسم مشاهد من الحياة اليومية. وبينما كان يستنسخ أعمال فيلاسكيز في متحف اللوفر، التقى مانيه الذي أصبح صديقه والذي أدخله إلى دائرة الرسّامين الانطباعيين. وعلى الرغم من أن ديغا عرض معهم بعض أعماله، إلا انه لم يقدّم نفسه كفرد من أفراد الحركة. "ما أفعله هو نتيجة دراسة أعمال الرسّامين العظام، وأنا لا اعرف شيئا عن الإلهام والعفوية والمزاج".
وعلى عكس أصدقائه الانطباعيين، كان إدغار ديغا رسّام مناظر حضرية وكان يحبّ رسم الأماكن المغلقة مثل العروض المسرحية والأنشطة الترفيهية وأماكن المتعة. ولم يكن مهتمّا بآثار الضوء في المناظر الطبيعية، بل كان يفضّل رسم الأشخاص ويمقت الرسم في الهواء الطلق. "يجب على رجال الدرك أن يطلقوا النار على حوامل اللوحات التي يراها الناس مبعثرة في أنحاء الريف".
كان ديغا يسعى دائما إلى الكمال. كان يعيد رسم كلّ صورة ويدرس ويكرّر التفاصيل حتى يتقنها ويحفظها. وقد جرّب العديد من الوسائط، من بينها الباستيل الذي كان يخفّفه على البخار إلى أن يصبح عجينة. وكان يكره تألّق ولمعان الألوان الزيتية. ولهذا السبب كان يزيل الزيت ويستخدم بديلا عنه التربنتين المستخرج من أشجار الصنوبر. وغالبا ما كان يرسم على الورق بدلا من القماش.
للحديث تتمّة غدا..

الأربعاء، مارس 05، 2014

محطّات

قاموس الشيطان

كان امبروز بيرس واحدا من أشهر الكتّاب الساخرين في أمريكا في القرن التاسع عشر. كان يكتب المقالة والقصّة القصيرة والقصيدة، كما كان كاتب عمود يوميّ في العديد من الصحف في زمانه.
لكن ما أن يُذكر اسم بيرس حتى يأتي إلى الذهن كتابه المشهور قاموس الشيطان الذي ينافس أشهر الأعمال الكلاسيكية الساخرة. وهذا الكتاب عبارة عن إعادة تعريف للكثير من مفردات القاموس الانجليزي بطريقة ساخرة تتناول أحوال المجتمع والسياسة والدين. وكان المؤلّف قد كتب هذه التعريفات تباعا في إحدى الصحف الأسبوعية ثم جُمعت في كتاب عام 1911 ونُشر تحت اسم قاموس الشيطان.
هنا بعض تعريفات بيرس الساخرة والطريفة..
  • العفو حالة من الأريحية تُظهِرها الدولة تجاه بعض مرتكبي الجرائم الذين تعرف أن معاقبتهم قد تكلّفها غالياً.
  • السلام فترة من الخداع بين جولتين من القتال.
  • الصادق صفة تُطلق على الشخص الأبكم والأمّي!
  • البلادونا كلمة تعني بالإيطالية السيّدة الجميلة، وبالإنجليزية نوع من السمّ القاتل. وهذا مثال صارخ على الهويّة الأساسية لكلّ من اللغتين.
  • فكّر مرّتين قبل أن تتحدّث إلى صديق في حاجة.
  • الإنسان حيوان مهنته الأساسية إبادة الحيوانات من الفصائل الأخرى ومن فصيلته هو.
  • النسيان نعمة يهبها الله للدائنين تعويضا لهم عن افتقارهم للضمير.
  • الإعجاب هو اعترافنا المؤدّب بأن الآخرين يشبهوننا.
  • التاريخ هو سرد مزيّف لأحداث تافهة في الغالب افتعلها حكّام أوغاد وجنود أغبياء.
  • الجمال هو القوّة التي تستطيع من خلالها امرأة أن تسحر عاشقها وترهب زوجها.
  • الحرب هي طريقة الله في تعليم الأمريكيين الجغرافيا!
  • الحبّ جنون مؤقّت لا يشفيه سوى الزواج.
  • المجنون شخص يتمتّع بدرجة عالية من الاستقلال الفكري.
  • المحيط جسم مائيّ يحتلّ ثلثي مساحة عالم صُنع أساسا من اجل بشر لا يملكون خياشيم!
  • التأدّب هو أكثر أشكال النفاق قبولا.
  • الوثنيّ مخلوق جاهل يدفعه غباؤه لعبادة شيء يشعر به ويراه رأي العين!
  • الصبر شكل بسيط من أشكال اليأس يتخفّى في رداء الفضيلة.
  • المسيحيّ شخص يعتقد أن العهد الجديد هو كتاب وحي إلهي يلبّي الاحتياجات الروحية لجاره.
  • السياسة هي فنّ تسيير الشئون العامّة من اجل مكاسب خاصّة.
  • الكافر في نيويورك هو الذي لا يؤمن بالدين المسيحيّ، وفي القسطنطينية هو الشخص الذي يؤمن به.
  • العدميّ شخص روسيّ ينفي وجود أيّ شيء باستثناء تولستوي.
  • المنطق هو فنّ التفكير بما يتّفق مع انعدام قدرة الإنسان على الفهم.
  • الأنانيّ شخص لا يراعي أنانية الآخرين.
  • الشخص الثقيل الظلّ هو ذلك الذي يتكلّم عندما تتمنّى عليه أن يسمع.
  • الاقتباس هو التكرار الخاطئ لكلمات الآخرين.
  • السعادة هي إحساس ينشأ لدى الإنسان نتيجة تأمّله لتعاسات الآخرين.
  • ❉ ❉ ❉

    إفطار في الحديقة

    ربّما لم تسمع باسم ليو بوتز من قبل، مع انه كان احد الرسّامين الذين ارتبطت أسماؤهم بالبدايات الأولى للحركة الانطباعية. كما كان خلال حياته واحدا من الفنّانين الذين لقوا احتفاءً وتكريما من قبل دعاة الفنّ الحديث. وبالإضافة إلى الرسم، عمل بوتز أستاذا في أكثر من جامعة وبلد وكرّس حياته كلّها في سبيل الإبداع وحريّة الفنّ.
    ولد ليو بوتز في يونيو من عام 1869 في منتجع ميرانو شمال ايطاليا. ودرس في أكاديمية الفنون الجميلة في ميونيخ ثمّ في أكاديمية جوليان في باريس. وأحد مواضيعه المفضّلة كان رسم الأشخاص، وخصوصا النساء.
    لوحته هذه يمكن اعتبارها مثالا جميلا على الإمساك بسحر أضواء وألوان مناظر الهواء الطلق. وفيها يصوّر ثلاث نساء ورجلا وهم يتناولون الإفطار معا في إحدى الحدائق. جمال الألوان وكذلك التباينات القويّة في ما بينها، والاستخدام المبهر لضوء الشمس هي من أهم سمات هذه اللوحة.
    كان ليو بوتز شخصا كثير الترحال. وقد ذهب بصحبة عائلته إلى أمريكا الجنوبية حيث قضى سنوات في البرازيل كما سافر إلى الأرجنتين والغابات المطيرة.
    وعندما عاد إلى ألمانيا عام 1935، جاهر بعدائه للنظام النازي. وبعد ذلك اعتبره النظام عدوّا للشعب ووصف فنّه بـ "المنحلّ". ثم استُدعي للتحقيق معه عدّة مرّات من قبل الغستابو. وأخيرا اضطرّ إلى ترك ألمانيا خوفا من الاعتقال وقضى السنوات التالية منفيّا في هولندا.
    تأثّر ليو بوتز بأعمال الرسّامين الرمزيين مثل فرانز فون ستاك واكسافير هابرمان. وأثناء إقامته في باريس أعجب بأعمال كلّ من مانيه ورينوار وبوغيرو. وعندما توفّي عام 1940 كان قد أتمّ رسم أكثر من ألفي لوحة.

    ❉ ❉ ❉

    رأس الحصان

    منذ اكتشافه منذ أكثر من قرن، وسديم رأس الحصان يزيّن العديد من كتب الفلك والمطبوعات التي تتحدّث عن الفضاء والكواكب. وكان أوّل من اكتشف هذا السديم وليامينا فليمنغ أستاذة علم الفلك بجامعة هارفارد، وكان ذلك في عام 1888. ومن الواضح أن السديم أخذ اسمه من شكل رأس الحصان في منتصفه. وهو يقع في كوكبة أوريون أو الجبّار ويبعد عن الأرض بحوالي 1500 سنة ضوئية.
    المعروف أن هذا السديم كان وما يزال هدفا مفضّلا للرصد والملاحظة. وقد صوّره تلسكوب هابل الفضائي بتفاصيل مذهلة وباستخدام موجات الأشعّة تحت الحمراء التي لها القدرة على اختراق المواد المتربة التي تحجب عادة المناطق الداخلية من السديم. وهو في هذه الصورة يبرز مثل حصان أو فرس بحر عملاق من وسط أمواج مضطربة من الغبار والغاز. كما انه يبدو منيرا بتأثير الضوء الذي تشعّه نجمة ساخنة بالجوار، بينما تظهر في الخلفية مجرّة درب التبّانة.
    تلسكوب هابل مضى على عمله في الفضاء 23 عاما تمكّن خلالها من إنتاج عدد لا يُحصى من الصور الفلكية المذهلة. وكانت بعض أكثر هذه الصور جمالا وإثارة للاهتمام هي تلك التي التقطها للسُدُم، وهي عبارة عن غيوم بالغة الضخامة تسبح ما بين النجوم وتتألّف غالبا من الغاز والغبار والبلازما.
    بعض العلماء يرون في السُدُم مصانع لإنتاج الكواكب والنجوم الرضيعة. وقد وجدوا باستخدام التلسكوبات أنواعا عديدة وغريبة منها منتشرة في أنحاء الكون. ومساحة بعضها قد تصل إلى عدّة سنوات ضوئية.

    ❉ ❉ ❉

    إيقاعات موسيقية

  • صديق عزيز أرسل إليّ قبل أيّام عبر البريد الاليكتروني هذه الأغنية التي يقول إن زميلا له وجدها على اسطوانة في بيروت يعود تسجيلها إلى نهاية الستّينات، وهي لمطرب سعوديّ قديم هو عبدالله محمّد. وقد قام صديقه بشرائها ثم أرسلها إليه كهديّة. وهو بدوره يهديها لي. ثم يسأل: ما صحّة ما يقال من أن كلمات الأغنية هي للشاعر الجاهلي امرئ القيس؟
    وأريد أن اشكر صديقي العزيز على هديّته الجميلة وأستأذنه في أن أضعها هنا كي يسمعها المهتمّون بأغاني التراث والموسيقى القديمة، خاصّة مع عدم وجود تسجيل للأغنية على الانترنت بمثل هذا النقاء. وبالتأكيد سبق لي وأن سمعت هذه الأغنية أكثر من مرّة. وعلى حدّ علمي أنها غُنّيت من أكثر من مطرب، منهم محمّد عبده. أمّا عن الكلمات فللأسف لا اعلم عن صاحبها شيئا. غير أنّي استبعد أن تكون لامرئ القيس، لأن الشعر في الأغنية بسيط وليس فيه فخامة وجزالة ألفاظ الشعراء العرب الكلاسيكيين. هذا رأيي وقد أكون على خطأ.


  • فخر الدين العراقي هو احد أعظم الشعراء الصوفيين الذين عاشوا في القرن الثالث عشر. ولد الشاعر في همدان بإيران، وكان كثير الترحال، فسافر إلى الهند وباكستان، ودرس على يد الشيخ الصوفي بهاء الدين زكريا. وفي قونيه في تركيا حضر دروسا للشيخ صدر الدين القوني الذي كان احد تلاميذ الشاعر الصوفيّ المشهور محيي الدين ابن عربي. ثم زار كلا من مصر وسوريا التي توفّي فيها ودُفن إلى جوار قبر ابن عربي في دمشق.
    ألّف فخر الدين العراقي كتابا في العرفان اسماه قصائد العشّاق، وهو عبارة عن مجموعة من أشعار الحبّ الصوفي. وقد تأثّر به العديد من الشعراء، الذين اشتهروا في ما بعد، ومن بينهم الشاعر حافظ.
    كان العراقي يتقن العربية بالإضافة إلى لغته الأمّ، أي الفارسية.

  • الأحد، نوفمبر 11، 2012

    الفنّ في زمن الحرب

    كثيرا ما تقترن باريس في الأذهان بكونها مدينة الهدوء والدّعَة والترف، حيث الموسيقيون الذين يعزفون موسيقاهم في الطرقات، وأصوات نغمات الكمان والأكورديون التي تصدح في الليل، وأزهار الربيع التي تنشر شذاها في أجواء أمسيات المدينة الحالمة.
    لكن هذا لم يكن حال باريس في العام 1870م. فقد قرّر الفرنسيّون آنذاك، بزعامة نابليون الثالث، شنّ حرب على بروسيا. ونتيجة لذلك، انفتحت بوّابات الجحيم على مصاريعها في باريس خلال خريف وشتاء ذلك العام. وكما يحدث عادة عندما يشتبك بَلَدان في حرب، فقد فرّ السكان "أو على الأقلّ أولئك الذين لم يتحمّلوا الحرب" محاولين البحث عن ملاذ آمن خارج مناطق القتال.
    ولم تكن توقّعات الإمبراطورية الفرنسية المترهّلة بإحراز نصر سريع وحاسم متطابقة مع إمكانيات آلة الحرب البروسية الضاربة وإصرار البروسيين على إحباط الهجوم الفرنسيّ.
    وبعد هزيمة الفرنسيين في سيدان في سبتمبر من ذلك العام، تدهورت الحياة على نحو خطير في باريس. وقد واجه الفنّانون تحدّي الحرب بوسائل مختلفة. بعضهم هرب إلى لندن أو بروكسيل، كما فعل كلّ من كلود مونيه وأوجين بُودان وشارل دوبينييه . كميل بيسارو، على الرغم من أنه كان يعيش بأمان في انجلترا، إلا أن منزله في باريس احتُلّ من قبل البروسيين الذين حوّلوه إلى مسلخ. كما استخدموا لوحاته الزيتية التي وجدوها هناك كمماسح للأحذية ودمّروا عددا لا يُحصى من لوحاته بهذه الطريقة.
    فنّانون آخرون فضّلوا الانخراط في الخدمة العسكرية، كما فعل كلّ من إدوار مانيه وإدغار ديغا. أوغست رينوار، الذي لم يكن قد اعتلى ظهر حصان في حياته، التحق بسلاح الفرسان، لكن تم ادّخاره للأجيال القادمة بعد أن اكتُشف انه يعاني من الدوزنتاريا. أمّا زميله فريدريك بازيل ، الذي انضمّ هو الآخر إلى سلاح الفرسان، فقد لقي مصرعه في تلك الحرب عن عمر لا يتجاوز التاسعة والعشرين.
    وكان هناك فريق ثالث من الفنّانين ممّن آثروا الاختباء في بقعة ما من جنوب فرنسا، كما فعل سيزان وفان غوخ والروائي اميل زولا الذي اعفي من الخدمة العسكرية لكونه الابن الوحيد لأرملة.
    الرسّام غوستاف كوربيه قرّر هو أيضا البقاء في العاصمة حيث اختير رئيسا للجنة حماية الكنوز الفنّية في البلاد. وقد تمكّن من إنقاذ أعماله بشحنها إلى لندن، وبذا نجت معظم لوحاته من الدمار.
    وقد ازدادت الأمور سوءا عندما وقعت باريس تحت الحصار في أوائل يناير من عام 1871. كانت المدفعية البروسية تمطر المدينة بآلاف القذائف آناء الليل والنهار، واستمرّ ذلك لأكثر من ثلاثة أسابيع. كما أصبحت الإمدادات الغذائية ضعيفة. ثم ظهرت لافتات في الشوارع تعلن عن توفّر لحوم القطط والكلاب وحتى الفئران. والمحظوظون كانوا أولئك الذين يتمكّنون من الحصول على لحم حصان. وقد اشتكى مانيه في إحدى رسائله من أن لحوم الحمير أصبحت غالية جدّا.
    وعندما استسلمت المدينة في نهاية ذلك الشهر، كانت تلك النوعية من اللحوم، التي لا بدّ وأنها كانت تمثّل تحدّيا لفنّاني المطبخ الفرنسي وقتها، قد اختفت تماما.
    الحرب هي دائما شكل من أشكال الجحيم. وإحدى أكثر الحروب كارثية كانت تلك الحرب الصغيرة والمتهوّرة التي شنّها نابليون على بروسيا. ورغم أن الحرب كانت قصيرة، إلا أنها غيّرت بشكل جذريّ وجه التاريخ الأوربّي. فالانتصار السريع والكاسح للولايات الألمانية بقيادة بروسيا في ذلك الصراع سهّل تأسيس إمبراطورية ألمانية وتسبّب في انهيار إمبراطورية نابليون الثالث التي حلّت محلّها الجمهورية الثالثة. كما مثّلت تلك الحرب الخطوة النهائية في طريق صعود ألمانيا لتصبح قوّة عظمى في القارّة الأوربّية. وكجزء من التسوية، ضمّت ألمانيا مقاطعة الالزاس واللورين التي ظلّت تحتفظ بها إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى.
    كانت السنوات التي تلت الهزيمة الفرنسية في الحرب قد تركت البلاد منهكة وتوّاقة للتشافي من جراح الحرب. وكانت الحركة الانطباعية في مراحلها الأولى في ذلك الوقت. لكن الرسّامين الانطباعيين لم يشغلوا أنفسهم برسم مناظر صادمة عن الحرب، بل فضّلوا بدلا من ذلك رسم مشاهد تصوّر أفراد الطبقة الوسطى وهم يستمتعون بأوقات فراغهم في الحدائق وعلى الشواطئ وفي المقاهي والمسارح.
    وباستثناء ديغا ومانيه اللذين كانا يرسمان مشاهد مشحونة بالإيحاءات الجنسية، كانت لوحات الانطباعيين بوجه عام تعكس اهتمامات واحتياجات وتطلّعات الطبقة الوسطى. كان حجم تلك اللوحات صغيرا وكانت مصمّمة لتُعلّق في غرف المعيشة. كانت مزخرفة وغير مؤذية وذات مضمون خال من النزاعات السياسية أو الفضائح الاجتماعية.
    لم يكن الانطباعيون يتعمّدون السخرية أو انتقاد احد. كما لم يحاولوا استنطاق التاريخ بحثا عن أساليب أو موضوعات. ولم يحاولوا مهاجمة مؤسّسة الرسم التقليدية أو التقليل من شأنها. كان همّهم أن يرسموا ما يريدونه وفقا لشروطهم هم.

    الأحد، أكتوبر 02، 2011

    مونيه: أشجار الحور

    يُؤثر عن كلود مونيه قوله ذات مرّة: ليست هناك أمنية اعزّ على نفسي من أن أتوحّد مع الطبيعة وأن أعمل وأعيش بانسجام مع قوانينها، كما تحدّث عنها غوته. الطبيعة هي تجسيد للعظمة والقوّة والخلود". وكذلك قوله: لا توجد طبيعة ثابتة. مظهر الطبيعة يتغيّر باستمرار بفعل البيئة المحيطة من جوّ وضوء وهواء".
    في العام 1890، رسم مونيه عدّة لوحات أراد من خلالها أن يدرس موضوعا واحدا، لكنْ في ظروف مناخية متباينة وفي أوقات مختلفة من اليوم. كانت تلك اللوحات جزءا من مشروع حياته، أي الإمساك في الرسم بالمظهر المتغيّر للطبيعة وبالأحوال المختلفة التي تطرأ على البيئة بسبب تغيّرات الضوء والطقس والحركة.
    وكان هذا قد جلب لـ مونيه ورفاقه الانطباعيين الكثير من السخرية والانتقاد. لكن قُدّر لهذه المدرسة أن تتطوّر وأن تُحدث تغييرا في مسار الرسم الفرنسي والعالمي إلى اليوم.
    في عام 1891، قرّر مجموعة من مالكي أشجار الحور المجاورة لمنزل مونيه في جيفرني بيع أشجارهم الكاملة النموّ في المزاد. وكانت تلك الأشجار قد زُرعت أصلا لأسباب تجارية وليست جمالية. وكان مقدّرا للأشجار أن تتحوّل في النهاية إلى عيدان ثقاب وخشب للسقّالات.
    لكنّها كانت قد أسرت خيال مونيه وحازت على جلّ اهتمامه. وقبيل بيعها، قرّر أن يرسمها في الفترة ما بين فصلي الربيع والخريف من تلك السنة. كان قد أكمل رسم ثلاث وعشرين لوحة لـ أشجار الحور. وبعد ذلك بعام، عرض خمس عشرة منها في معرض حقّق نجاحا باهرا في باريس.
    رسم مونيه كلّ هذه الدراسات في الهواء الطلق. وكان يأخذ بعضها إلى محترفه كلّما استدعت الحاجة لأن يضيف إليها بعض التفاصيل.
    ادوار مانيه، صديق مونيه ومعلّمه، رسم صديقه وهو يجلس أمام لوحة في محترفه العائم. في هذه اللوحة ليس هناك ماء. والشجر يمكن رؤيته من نقطة منخفضة جدّا. وفي المقدّمة ترتفع أربع أشجار رشيقة إلى عنان السماء الزرقاء وهي تتمايل بطريقة إيقاعية.
    تنظر إلى هذه اللوحات فيساورك إحساس بالنسيم الخفيف وتتخيّل صوتا يرتفع شيئا فشيئا، وفي النهاية تستحيل الهمسات إلى غمغمات.
    استخدام اللون هو إحدى العلامات الفارقة للأسلوب الانطباعي. والألوان المهيمنة في هذه اللوحات هي الأخضر والظلال المتفاوتة للأزرق. لكنّ مونيه استخدم البنّي والأحمر على جذوع الأشجار والأصفر في المقدّمة كي يعطي المنظر عمقا ونسيجا أكثر.

    كان مونيه يذهب إلى المكان الذي تقوم فيه الأشجار الرائعة على متن قارب صغير. وفي احد الأوقات، اضطرّ لشراء بعض الأشجار لأنه لم يكن قد انتهى من رسمها بعد. وعندما أكمل مهمّته باع الأشجار إلى احد متعهدّي تجارة الأخشاب.
    في استخدامه الثقيل للون، كان مونيه متأثّرا بالرسوم اليابانية التي أصبحت رائجة في فرنسا قبل عشر سنوات من ذلك الوقت.
    وبالإضافة إلى النوعية الزخرفية للوحات مونيه عن أشجار الحور وتصويرها الفاتن للضوء والجوّ والطبيعة، فإن الأشجار نفسها لها دلالة رمزية معاصرة. فقد كانت شجرة الحور ومنذ نهاية القرن الثامن عشر، أي منذ الثورة الفرنسية، هي شجرة الحرّية بالنسبة للفرنسيين. وتعزّزت هذه الرمزية بعد حرب فرنسا مع بروسيا. ومونيه في هذه اللوحات يحتفل باستقلال الوطن مثلما انه يحتفل بالطبيعة نفسها.
    مونيه يوجّه اهتمام الناظر إلى محاولة فهم ذبذبات الحرارة وحركة الأمواج المضيئة والإحساس بالريح القويّة.
    الرسّامة بيرتا موريسو قالت ذات مرّة: أمام لوحة مونيه، أعرف تماما إلى أيّ جانب ينبغي أن أحرّك مظلّتي".
    مونيه فنّان لا نظير له في رسم الماء والغدران والأنهار والبحيرات. انه يعرف كيف يفرّق بين ألوانها وتياراتها ودرجات تماسكها. كما انه يتمتّع بحدس عال في تصويره الحميم للمادّة والماء والأرض والهواء والحجر.
    هذا الحدس خدمه كثيرا. ويبدو انه ولِد من اجل الرسم. هذه القوّة في اختراق أسرار المادّة والضوء ساعدته على أن يرسم بشاعرية عظيمة.
    تأمّل لوحاته عن نهر التيمز وعن حقول القشّ، حيث يمتزج الضباب بقطرات الفضّة والذهب التي تتوهّج مثل كرنفال زهري.
    مبدأ تقسيم الألوان ودراسة الألوان المساعدة ادخل مونيه إلى عالم مليء بالكشوفات والرؤى. هو نفسه كان مبتكرا ومثقفا وموهوبا بذكاء صُوري أخّاذ ونادر. افتتانه بالجوّ والمجالات كان مساويا لذلك الذي كان عند الرمزيين. وقد وجد عظمته في حبّه العميق للطبيعة.
    في أواخر حياته، وكان قد فقد زوجته وأفراد عائلته، بدأ مونيه البحث عن موضوعات للرسم بالقرب من منزله. فرسم المروج وحقول السوسن البرّي التي كانت تنمو قريبا من المكان.
    في رسالة إلى احد أصدقائه قال انه يبحث عن المستحيل في لوحاته. كان يشير بملاحظته تلك إلى دورة الفصول في الطبيعة وتحوّل الألوان والظلال من طور إلى طور.
    وفي عام 1890، تزوّج مونيه من أرملة واشترى بيتا جديدا قام بتحويل بركته الصغيرة إلى حديقة مائية. وشيئا فشيئا أصبح يحبّ الزراعة، وحوّل الحديقة أمام منزله إلى أشجار وارفة الظلال وأزهار نضرة.
    طريقة تصميمه للحديقة تعكس إعجابه القويّ بالفنّ الياباني. في تلك الفترة، رسم مونيه أوّل لوحة في سلسلة لوحاته عن حدائق الماء والجسر الياباني، والتي تتكوّن من ثمانية عشر منظرا. "مترجم".

    الثلاثاء، سبتمبر 06، 2011

    حدائق انطباعية

    ليس من قبيل المصادفة أن الأعمال التي دشّنت المرحلة الانطباعية وحملت ملامحها، مثل لوحات مونيه وسورا ومانيه، كانت تركّز على تصوير الناس في الحدائق وعلى الشواطئ.
    كان الانطباعيون يرمون من وراء ذلك إلى تحقيق غايتين: أن يرسموا رؤيتهم عن الطبيعة من خلال الإمساك بالانطباعات البصرية للضوء والظلّ، وأن يسجّلوا الأنشطة الحياتية للمجتمع الحديث.
    ولم يمض وقت طويل حتى تقبّل الناس تلك اللوحات التي تصوّر الباريسيين وهم يستمتعون بالتسلية التي وجدوها أخيرا في الحدائق والمنتزهات العامّة وعلى شاطئ البحر.
    ومنذ ذلك الوقت لم تفقد مناظر التسلية والمتعة الانطباعية جاذبيّتها أبدا.
    الأعمال الايقونية التي مهّدت لظهور الانطباعية وعزّزت شعبيّتها في أوساط الناس كثيرة. في الذهن مثلا لوحات مهمّة مثل يوم أحد في جزيرة لاغران جات لـ جورج بيير سورا وعشاء على العشب لـ مانيه.
    وهناك ايضا تحف فنية مجهولة بعضها يستقر اليوم في بعض المجموعات الفنية الخاصة، مثل لوحة كاييبوت أزهار الاضاليا ولوحته الأخرى عن منظر لأرض ريفية مع زهور حمراء وصفراء. بالإضافة إلى لوحة رينوار بعنوان امرأة بمظلّة في حديقة، وهي عبارة عن شلال من أزهار الخشخاش والأقحوان وغيرها من الأعشاب البرّية، ولوحة فان جوخ الراديكالية بعنوان بستان مُزهر مع أشجار حور والتي رسمها بعيد وصوله إلى آرل في 1888م.
    وهناك قصص موازية تخبرنا عن الطريقة التي تمّ بها تصدير الانطباعية الفرنسية ثم مواءمتها مع الخصائص الوطنية لكلّ بلد. الألمان مثلا عُرف عنهم حبّهم لـ مانيه. وأحد متاحف مدينة برلين يحتفظ بنسخة من لوحته بعنوان بيت في روي والتي تتميّز بألوانها الخضراء وأنماطها الهندسية.
    وسنجد لفكرة رسم الحدائق صدى في لوحات الفنّان الانطباعي الألماني ماكس ليبرمان . وفي اسبانيا تمكّن الرسّام واكين سورويا من إدخال تقنية جديدة على الحركة الانطباعية سُمّيت بالإنارة من خلال التركيز على التباينات الشديدة والمتطرّفة بين الضوء والظلّ.
    الانطباعية الأمريكية كان وهجها أشد. وقد تكّرست الانطباعية في أمريكا بفضل فنّانين مشهورين مثل تشايلد هاسام وتشارلز كورتني كوران وميري فيرتشايلد وجون سارجنت. في إحدى لوحاته المشهورة، يرسم كورتني كوران خطيبته وإحدى صديقاتها على متن قارب وقد أحاطت بهما زهور اللوتس العملاقة مع ضوء شمس يلمع من خلال بتلات الأزهار. اللوتس الذي يظهر في هذه اللوحة اصفر، عريض ولامع. ويمكن اعتباره معادلا شاذّا لزنابق الماء التي كان مونيه يزرعها في حديقته ويرسمها في لوحاته.
    وفي الوقت نفسه، انتشر شكل مخفّف من الانطباعية حول العالم دون أن يغفل الخصائص الأساسية التي اتسمت بها الحركة في بدايات ظهورها. "مترجم"

    الاثنين، يونيو 20، 2011

    أوليمبيا و مانيه

    بلوحة واحدة وصادمة تصوّر مومساً في حالة استرخاء، دشّن إدوار مانيه العالم العاري والجريء للفنّ الحديث.
    لم تكن مثل أيّ سيّدة متخففة تمّ رسمها من قبل. لم تكون حوّاء في الجنّة أو فينوس على سرير من الأمواج. ولم تكن إلهة أو ملاكا أو امرأة تغتسل بخجل وتراها العين على حين غرّة.
    كانت امرأة معاصرة، لا تبدو خجولة أو مغطّاة، كما أنها ليست رمزا أو استعارة لشيء. كان اسمها فيكتورين موران. لكن إدوار مانيه كان يسمّيها اوليمبيا. وقد غيّرت كلّ شيء.
    للوهلة الأولى، قد يتساءل المرء عن سبب كلّ هذه الضجّة. مانيه كان يعتبر نفسه رسّام طبيعة صامتة. وربّما هذا هو السبب في أن أوليمبيا تبدو بمثل هذا الغموض الصامت. هي تتمدّد بهدوء، بدون ثياب وبشكل صارخ، لكنّها ترتدي زينة كلاسيكية. فهناك وشاح أسود حول رقبتها وفردة نعال واحدة في قدمها اليسرى. الفردة الأخرى انزلقت بلا مبالاة. في أذنها زهرة قرنفل. يدها مثبّتة فوق حضنها. الزوايا الخارجية لفمها مرفوعة قليلا وكأنها على وشك الابتسام أو السخرية. عيناها ناعستان. لكنّ وضعية جلوسها متنبّهة بما لا يدع مجالا للشكّ. قارن بينها وبين أي أيّ حورية ساخنة ومبتذلة من عصر الباروك او الروكوكو. وسيتبيّن لك أنها رزينة بشكل ايجابي.
    لكنّ هناك شيئا مختلفا في هذه الأنثى. فمن ناحية، هي لا تفعل شيئا. كما أنها تتجاهل باقة الورد التي تقدّمها لها خادمتها السمراء . وقطّتها الصغيرة، خاصّة ذيلها الموحي، تبرز من سفح سريرها. إنها لا تستحمّ ولا تحلم ولا تخلع ملابسها. ونحن في صحبتها، ندرك أنها امرأة متجردة وفي السرير، لنفس السبب الذي تجلس فيه أيّ امرأة متجردة في السرير. وهي تحيّي الناظر بنظرة نصفها دعوة ونصفها جرأة. إنها عشيقة، أو على الأرجح بغيّ. لكنّها يقيناً ليست شبحا اسمه الربيع.
    ربّما كان مانيه أوّل فنّان صدم العالم. ونفوذه يتعدّى السمعة السيّئة التي ألصقت به. فهو كان مهذّبا وأنيقا ونبيلا. وقد روّعه ردّ الفعل القويّ على "أوليمبيا" بنفس القدر الذي روّعت فيه اللوحة النقّاد. كان مانيه رسّاما تدرّب على التقاليد الأكاديمية الرصينة. ولكن اندفاعه جعله غير متقيّد بها. كان يستلهم الواقعية الجريئة لـ غوستاف كوربيه والظلمة الأخروية للرسّامين الإسبان الكبار أمثال فيلاسكيز وغويا. وحتما، انجذب الشابّ مانيه إلى المواضيع الأقلّ تقليدية.
    صحيح أن أسلوبه لم يكن يرتاح لرسم الملاك السمين. لكن هذا لا يعني أن مانيه كان ينظر إلى نفسه على انه لا منتمٍ. فقد كان يؤكّد على انه يرسم ببساطة ما كان يراه. وكان يعرض أعماله على الناس لأنه كان يبحث عن القبول. وما حصل عليه كان المزيد من النقد اللاذع، والمزيد من الشهرة والقوّة الدائمة التي ما كان ليحلم بها أبدا.
    عندما عُرضت "أوليمبيا" في صالون باريس عام 1865 أشعلت فضيحة في أوساط الفنّ والأدب لم يسبق لها مثيل. انتزع النقّاد اللوحة من مكانها. والجمهور فعل تقريبا نفس الشيء.
    انطوان بروست أشار في وقت لاحق إلى أنه "إن لم تكن اللوحة قد دُمرّت، فإن سبب ذلك كان الاحتياطات التي اتخذتها إدارة المعرض".
    الأفكار الفيكتورية لم تكن مقتصرة على البريطانيين فقط. ولم يجرؤ فنّان جادّ على أن يرسم امرأة بمثل تلك السمعة السيّئة دون أن يلفّها على الأقلّ بذلك الرداء الغريب الذي يُلفّ به الحريم عادة. ومع ذلك كان هناك من نظر إلى اوليمبيا على أنها محاكاة ساخرة للوحة تيشيان "فينوس أوربينو". لكنها لم تكن كذلك. فـ مانيه لم يعرض فقط مجرّد بغيّ على أعين العالم. بل كانت لديه الجرأة لعبادتها أيضا. وكان هذا نوعا من التجديف. لكن من سوء حظّ منتقدي مانيه أن الصورة كانت أيضا رائعة.
    القصّة تبدأ مع المرأة نفسها، مع الوجه الفتّان لـ فيكتورين موران. كانت موران موديل مانيه المفضّلة منذ وقت طويل. وكانت ملهمته ورفيقته وموضوعا للعديد من لوحاته. ولأكثر من عشر سنوات ابتكرها مانيه مرارا وتكرارا، مرّة كمصارعة ثيران ذات وجه صبياني، ومرّة كموسيقية شوارع، وثالثة كسيّدة كريمة ترتدي جلبابا ورديا.
    في العام 1863، وهو العام نفسه الذي تزوّج فيه زوجته سوزان، رسم مانيه لوحتين عاريتين لـ موران، أشهرهما غداء على العشب، التي عرضها في الصالون، لكنّها رُفضت. فمنظر موران العارية في رحلة نزهة اعتُبر منظرا غريبا وغير لائق.


    وربّما بسبب غضبه من ردود الفعل على اللوحة، انتظر مانيه سنتين كي يعرض العارية الأخرى. غير أن اوليمبيا تسبّبت في إحداث ضجّة اكبر .
    ما الذي اغضب الناس في اللوحة؟ قد يكون السبب أنها بدت غير متأثّرة ولا مبالية. فهي تحدّق بهدوء في الناظر وتضعه في الدور غير السهل لزبون يقف على باب بغيّ مغرية.
    مانيه كان يسكن عالما كان يفترض فيه العامّة أن وظيفة المرأة هي التغذية وإشاعة الراحة وأن تكون مصدر إلهام أو إثارة، أي كلّ ما يتعلّق بدورها ومكانتها في المجتمع والأسرة.
    لكن أوليمبيا، لسهولة الوصول إليها، تبدو مكتفية ذاتيا بشكل صارخ. ولا يوجد فيها شيء متواضع. بالنسبة لهواة جمع الفنّ والنساء، الذين يعتبرون الصنفين ممتلكات لهم، فإن اوليمبيا جرّدتهم من أوهامهم. جسدها قد نضج وحان قطافه. لكنّ كلّ شيء آخر، بما في ذلك المعنى الكامن وراء تلك الابتسامة الغامضة، تحتفظ به لنفسها.
    من بين الأعمال العظيمة في تاريخ الفنّ، لا يوجد سوى القليل من تلك اللوحات التي تظهر فيها امرأة وهي تصوّب نظراتها المتحدّية وغير المساوِمة بشكل مباشر. الموناليزا تنظر بخجل إلى يسارها. وكذلك فتاة فيرمير ذات العقد اللؤلؤي. وفينوس بوتيتشيللي تنظر بطريقة حالمة إلى منتصف المسافة بينما تغرق في أفكارها الخاصّة. في حين أن مدام إكس لـ سارجنت تشيح برأسها بعيدا تماما. وعشرات المادونات تنظرن إلى الملائكة فوقهن بطريقة مفعمة بالنشوة، أو إلى أطفالهن أسفل منهنّ بحنان.
    عندما تكون المرأة في مواجهة الناظر مباشرة في لوحة، فيُحتمل أن تكون ملكة وليست محظيّة. أوليمبيا تواجهنا عيناً لِعَين. إنها طريقة مبتكرة ومربكة. وهي، إلى حدّ ما، انتقام من طرف الفنّان.
    النقّاد الذين لم يعتادوا على قلب الطاولات في وجوههم سارعوا إلى الرفض. فقد كرهوا الموضوع، وكرهوا الأسلوب المسطّح والبدائي، وكرهوا كلّ شيء في اللوحة. كتب احدهم يقول: ما هذه الجارية ذات البطن الأصفر، هذه الموديل الخسيسة، من التقطها ومن تمثّل؟" وقال آخر: هذا ابتذال لا يُصدّق". وأعلن ثالث: الفنّ الوضيع لا يستحقّ حتى اللوم".
    مانيه أحسّ بالدمار. اشتكى لصديقه الشاعر بودلير قائلا: الإهانات تنهال عليّ كالمطر". لكن بينما نظر الكثيرون إلى اوليمبيا كرمز للفساد والتفسّخ، رأى فيها آخرون رمزا للانتصار. اميل زولا اعتبرها تحفة مانيه والتعبير المتميّز عن موهبته القويّة".
    وسأل مانيه نفسه: لماذا يتعيّن عليّ أن أكذب، لماذا لا أقول الحقيقة؟" لكن الحقيقة جاءت بكلفة عالية. ورغم أنه واصل الرسم وعرض لوحاته بقيّة حياته، إلا أنه ظلّ هدفا لهجوم وازدراء العامّة. لم يكن مانيه يسعى للإساءة. كان ببساطة يرسم بأفضل طريقة كان يعرفها. تقنياته المبتكرة واختياراته غير التقليدية لمواضيعه أنتجت في نهاية المطاف جيلا جديدا من الفنّانين.
    وعلى الرغم من انه رفض أن يُصَوّر نفسه كمعلّم، إلا أن من أتوا بعده أشادوا به باعتباره الأب الروحي للانطباعية. وكان في طليعة الرسّامين الذين مجّدوا، ليس فقط الشخصيات الأسطورية، وإنما أيضا وهَج شاربي الابسنث والبغايا.
    أثناء حياة الرسّام، لم تنل أوليمبيا أبدا الثناء الذي تستحقّه. لكنها ظلّت تكبر مع الأيّام. وبعد سنوات من وفاة مانيه، عرض كلود مونيه اللوحة على الحكومة الفرنسية، وأصبحت منذ ذلك الحين منظرا ثابتا في المتحف الباريسي. كان مانيه سيُسرّ لو علم بذلك. وكان يقول: الزمن نفسه يعمل على اللوحات بصورة تدريجية".
    يحتاج المرء فقط لأن يتشمّس في الجمال المُسْكر لـ أوليمبيا، والظلال بين أصابعها، ومنحنيات بطنها، وتباينات الضوء والظلام، كي يفهم عمق موهبة مانيه. وعندما ننظر بشكل أعمق إلى تعقيدات وتناقضات وجمال ووحشية عمله، فإن عبقريته الحقيقية سرعان ما تظهر. لم يكن الفنّ بالنسبة لـ مانيه قصّة عن الآلهة أو القدّيسين أو الملوك. كان الفنّ عنده عن الحياة الحقيقية والعادية للناس.
    لقد اظهر مانيه إلى الضوء العالم الخفيّ للحياة اليومية وجعله ملحوظا. وتعاطفه يبدو جليّا في كلّ ضربة فرشاة وفي كلّ خط في هذه اللوحة. اوليمبيا ربّما تحاول أن تحجب قلبها. لكننا، نحن الذين لا حيلة لنا، ما نزال واقعين تحت تأثير سحرها وغموضها. .

    Credits
    musee-orsay.fr
    thecrimson.com

    الاثنين، يوليو 05، 2010

    محطّات

    رحلة بالقارب


    في صيف عام 1874، كان ادوار مانيه يقيم في جينفيلييه خارج باريس، أي غير بعيد كثيرا عن المنزل الذي كان قد اقترحه على عائلة مونيه في ارجنتويل. وكان قد رفض المشاركة في المعرض المستقلّ الذي نظّمه الانطباعيون في ربيع ذلك العام.
    ومع ذلك، كان مانيه راغبا بوضوح في تبنّي أسلوب رفاقه الشباب في تصوير أماكن النزهة والترفيه. وكانت هذه اللوحة هي البيان الذي أعلن من خلاله عن ولائه للانطباعية.
    الذين كتبوا سيرة مانيه يقولون إن صهره رودولف لينهوف هو الرجل الذي اختاره كي يأخذ ملامح البحّار في هذه اللوحة.
    بساطة التوليف هنا، واستخدام كتلات واسعة وقويّة من اللون، هما ملمحان يكشفان عن إعجاب مانيه بالأسلوب اليابانيّ في الرسم على الخشب.
    من الملاحظ في هذه اللوحة أنها لا تتضمّن خطّ أفق يكشف عمّا وراء المنظر. والحافّة السفلية ربّما توحي بأن هذا جزء من جسر خشبيّ كان يجلس عليه الفناّن وهو يرسم. إلى أقصى اليمين تحت، هناك ما يشبه السمكة أو الطائر. واللوحة، رغم موضوعها، لا تشي بالحميمية أو المتعة والمرح. شوارب الرجل الكثّة ونظراته وهيئة فستان المرأة والخمار على وجهها كلّها سمات تعطي المنظر مسحة رسمية.
    وهناك احتمال أن يكون مانيه أراد لهذه اللوحة أن تكون احتفاءً بفنّ الرسم نفسه.
    الرسّامة الأمريكية ماري كاسات هي التي أوصت احد جامعي اللوحات في نيويورك بشراء هذه اللوحة. وقد كانت معجبة بها كثيرا لدرجة أنها وصفتها ذات مرّة بأنها "الكلمة الفصل في الرسم".

    ❉ ❉ ❉

    عروس الجبال

    مثل الكثير من الأغاني الفلكلورية القديمة، لا يُعرف على وجه التحديد متى ظهرت هذه الأغنية لأوّل مرّة ولا أين. لكنّ القصّة التي بُنيت عليها الأغنية معروفة وإن اختلفت تفاصيلها من مكان لآخر.
    وهناك ثلاثة بلدان كلّ منها يزعم أن الأغنية جزء من تراثه الموسيقي: أذربيجان وأرمينيا وتركيا. والمعروف أن هناك تماثلا بين هذه الثقافات الثلاث من ناحية اللغة والموسيقى والفولكلور بحكم الروابط الجغرافية والتاريخية منذ القدم.
    اسم الأغنية ساري غيلين. وتعني بالتركية عروس الجبال. لكنها أيضا تعني العروس ذات الملابس الصفراء أو الذهبية. واللون الأصفر يرمز عادة للذهب وأحيانا للحزن والموت.
    إذن ساري غيلين هي أغنية تركية بقدر ما أنها أرمنية وآذارية في نفس الوقت. بل إن هناك نسخا إيرانية وكردية منها، مع أن اللحن بقي هو نفسه على مرّ السنين.
    الأغنية تحكي عن قصّة حبّ أسطورية يقال أنها حدثت قبل أكثر من ثلاثمائة عام، وبالتحديد بعد انتصار السلاجقة الأتراك على الإمبراطورية البيزنطية.
    تذكر القصّة إن شابّا تركيا رأى ذات يوم فتاة أرمنية جميلة فوقع في حبّها ثم سعى جاهدا للزواج منها. لكنّ المشكلة انه مسلم وهي مسيحية. ولأن عائلتيهما رفضتا تزويج كلّ منهما للآخر، فقد اتفق الشابّ والفتاة في النهاية على الهرب معا. غير أن والد الفتاة، وهو زعيم قبيلة قويّ وذو نفوذ، لحق بهما هو ورجاله وقاموا بقتل التركي.
    وهناك رواية أخرى تقول إن الفتاة تحوّلت إلى الإسلام. لكن والد الشابّ، وبدافع من انتمائه القومي والقبلي، أقدم على قتل المرأة بسيفه رغم إقرارها بأنها أصبحت مسلمة.
    وكلمات الأغنية ترد على لسان الشابّ الذي يتحدّث عن حبّه للفتاة ويتمنّى لو كانا على دين واحد.
    بإمكانك مثلا أن تقول إن هذه نسخة أخرى من حكاية روميو وجولييت أو قيس وليلى، مع الفارق طبعا.
    جوّ الأغنية وموسيقاها يثيران إحساسا بالمأساة، بل وحتّى الحداد. وليس أدلّ على هذا من طريقة أداء الموسيقي والمغنّي الآذاري المشهور عليم قاسموف للأغنية. استمع إليه وهو يغنّيها هنا.
    الكاتب الآذاري علي اكبر عليّيف كتب مؤخّرا رواية ناقش فيها الشعارات القومية التي تزرع الأحقاد وتذكي الكراهية بين الشعوب. وقد اختار اسم الأغنية "ساري غيلين" عنوانا لروايته كي يقول إن القصّة لا تخصّ شعبا بعينه وأن ما يجمع بين هذه الشعوب أكثر ممّا يفرّقها.
    الأرمن، من ناحيتهم، يستحضرون قصّة ساري غيلين عندما يتحدّثون عن أخبار المآسي التي حلّت بهم. وقد ظهر العديد من الأفلام السينمائية والبرامج الوثائقية التي تتناول هذه الحكاية، كلّ من منظور مختلف.

    ❉ ❉ ❉

    استراحة موسيقية

    ❉ ❉ ❉

    امرأة بفستان أبيض

    هذه اللوحة هي إحدى تحف بيكاسو من مرحلته النيوكلاسيكية، والتى استمرّت من عام 1918الى عام 1925. وفيها يصوّر امرأة جالسة وهي تفكّر أو ربّما يخامرها حلم يقظة.
    وقد استخدم الرسّام في اللوحة عدّة طبقات من اللون الأبيض مع ظلال ناعمة من البنّي والرمادي.
    وكما هو الحال في العديد من شخوصه الأخرى في تلك المرحلة، فإن بيكاسو تعامل مع ملامح وجه المرأة بأسلوب مثالي يعكس دراسته للفنّ الكلاسيكي.
    الهيئة غير الرسمية التي تبدو عليها المرأة، إلى جانب لباسها الفضفاض والشفّاف إلى حدّ ما، يمنحانها طابعا رقيقا ومسترخيا. كما أن نظام الألوان الصامتة في اللوحة يخلع عليها هالة من الرومانسية والتأمّل.
    قيل في بعض الأوقات إن المرأة الظاهرة في اللوحة هي زوجة بيكاسو الروسية اولغا كوكلوفا. لكن يُرجّح اليوم أنها سارا ميرفي، إحدى ملهمات بيكاسو في تلك الفترة. وكان قد فُتن بها ما بين عامي 1921 و 1924م.
    كانت ميرفي وزوجها جزءا من جماعة من المغتربين الأمريكيين الأثرياء الذين كانوا يعيشون في باريس في عشرينات القرن الماضي.
    وكان أسلوب حياتهما غير التقليدي يجتذب دائرة من الفنّانين والكتّاب كان من بينهم كلّ من سكوت فيتزجيرالد وإرنست همنغواي. وقد التقى بيكاسو وزوجته اولغا الزوجين الأمريكيين في خريف العام 1921، وارتبطت العائلتان بعلاقة وثيقة منذ ذلك الحين.
    قد لا نعرف الهويّة الحقيقية لهذه المرأة. لكن كان من عادة بيكاسو أن يمزج ملامح عدّة أشخاص مختلفين في بورتريه مثاليّ واحد. ومن ثمّ، فإن هذا البورتريه قد لا يكون استثناءً.

    السبت، سبتمبر 12، 2009

    محطّات

    الكتابة ولزوم ما لا يلزم

    ليس من عادتي أن أعيد قراءة موضوع سبق وأن كتبته من قبل. ومع ذلك، كسرت هذه القاعدة بطريقة لا إرادية عندما أعدت قراءة موضوعين كنت قد كتبتهما في هذه المدوّنة منذ أربع سنوات. واكتشفت أنني كنت اقرأ ما هو مكتوب وكأنّني اقرأه للمرّة الأولى. كما اكتشفت، وهذا هو الأهمّ، أن ما كتبته كان بحاجة إلى مراجعة وتعديل وتشذيب، ليس في المضمون، وإنّما من حيث الشكل والأسلوب.
    الشاهد من هذا الكلام هو تبيان حقيقة أننا لا نكفّ عن التعلّم وتطوير أدواتنا وأساليبنا في الكتابة مع مرور الزمن. القراءة المستمرّة تفتح آفاقا واسعة أمام الكاتب، فهي تثري لغته وتعرّفه على المزيد من أساليب وصيغ الكتابة المختلفة، ما ينعكس في النهاية على أسلوبه الخاصّ في التعبير عن نفسه وعن أفكاره.
    أتذكّر للمناسبة أنّني قرأت قبل سنوات مقالا لأحد النقّاد يدعو فيه إلى تعلّم فنّ الكتابة بإيجاز وتجنّب الإسهاب واستخدام الكلمات ذات المعاني المترادفة والتي لا تضيف إلى النصّ شيئا. وأورد ذلك الناقد اسم الروائي الراحل يحيى حقّي كنموذج للكتّاب القلائل الذين يكتبون ببلاغة وإيجاز لدرجة انك لو حذفت كلمة أو مفردة من احد نصوصه لتغيّر المعنى وأثّر ذلك في كامل النصّ.
    الكتّاب الكلاسيكيون كانوا يتمسّكون بقاعدة صارمة في الكتابة مؤدّاها أن الكاتب الجيّد يجب أن يوجز قدر الإمكان، وأن الجملة أو الفقرة المكتوبة لا ينبغي أن تتضمّن مفردات غير ضرورية، مثلما أن اللوحة لا يجب أن تحتوي على خطوط وألوان زائدة، ومثلما أن الآلة لا ينبغي أن تتضمّن أجزاء غير ضرورية. لكن هذا الشرط لا يعني أن جميع الجمل يجب أن تكون قصيرة أو أن كافّة التفاصيل يجب إغفالها بالضرورة، بل أن تكون كلّ كلمة دالّة على شيء.
    لكن هل هذا ممكن دائما؟ أقصد هل الإيجاز أمر متاح ومطلوب في كلّ الحالات؟ الناقد والعالم الأمريكي جيم ديفيز يرى أن الضرورة وحدها لا تصلح كمعيار للكتابة القويّة والجيّدة، وأن الاختصار أو الإيجاز قد يقيّد حرّية الكاتب ويخلّ بالمعنى الذي يريد إيصاله. ويوضّح رأيه بقوله: لو أخذت مجموعة ما من الكلمات، فإن كلّ كلمة لوحدها ليست ضرورية. لكن لو وضعت هذه الكلمات معا في سياق واحد فإنّها عند ذلك تؤدّي وظيفة مهمّة. ونفس الشيء ينطبق على اللوحة. فليس كلّ خط أو بقعة لون فيها ضروريّا، بل يمكن الاستغناء عنه. لكنّ كلّ الخطوط والألوان من المنظور الكلّي للوحة ضرورية ولا يمكن الاستغناء عنها كي تبدو اللوحة متماسكة ومتكاملة وذات معنى.

    ❉ ❉ ❉

    تولستوي بريشة ريبين

    جميل ومعبّر هذا البورتريه الذي رسمه الفنّان إيليا ريبين للروائيّ الروسيّ الكبير ليو تولستوي.
    من المعروف أن ريبين رسم لـ تولستوي العديد من البورتريهات، لكنّ هذا يُعتبر أشهرها. وفيه يظهر الأديب الروسي في هيئة قريبة من هيئة الكهنة أو رجال الدين.
    النظرات متأمّلة والملامح تشي بالجلال والهيبة، والملابس السوداء تخلع على الشخصية إهابا من الوقار والقداسة.
    وجدتُ البورتريه في موقع الويكيبيديا، بعد أن كنت طالعت بعض صفحات من كتاب "آخر أيّام تولستوي" الذي ألفه فلاديمير تشيرتكوف سكرتير تولستوي الشخصيّ وأحد تلاميذه المقرّبين.
    الغريب أن هذا البورتريه لم يعجب النقّاد في ذلك الزمان، فقد استنكروا على الرسّام تصويره لأكبر رمز ثقافيّ روسيّ بملامح شبيهة "بملامح أبناء الريف والفلاحين البسطاء"، كما قالوا.
    تولستوي لم يكن مجرّد روائي كبير، بل كان أيضا فيلسوفا ومفكّرا حرّا ومصلحا اجتماعيا وداعية للسلام.
    ولا بدّ وأنّ هذه السّمات الشخصية المتفرّدة كانت حاضرة في ذهن ريبين وهو يرسم هذا البورتريه الرائع الذي نفذ من خلاله إلى روح الكاتب والى مشاعره وانفعالاته الداخلية.
    بالمناسبة، لا يمكن تبيّن جمال ألوان هذا البورتريه وروعة خطوطه ورهافة تفاصيله إلا برؤية اللوحة الكبيرة الموجودة في موقع ويكيبيديا على هذا الرابط ..

    ❉ ❉ ❉

    استراحة موسيقية



    ❉ ❉ ❉

    أغنية البَجَعة الأخيرة

    عندما يتقدّم الإنسان في العمر ويتجاوز سنّ الخمسين، ومن ثمّ الستّين، ويتقاعد أخيرا ولا يعود لديه المزيد من الوقت، فإنه يبدأ بالتفكير في كيفية استثمار ما بقي له من سنوات كي يحقّق قدرا من الصفاء الذهنيّ وراحة البال.
    وفي هذه المرحلة بالذات يبدأ الإحساس بالتهاب المفاصل وتصبح مشاكل العينين والعظام والمفاصل حديث الطاولات. وأخيرا يدرك الإنسان أن من الأفضل له أن يختار أغنية بجعته الأخيرة.
    والأمر في النهاية يشبه كتابة وصيّة أخيرة مقرونة بسؤال: كيف نريد أن يتذكّرنا الآخرون بعد أن تنتهي رحلة العمر؟
    الفنّان الفرنسي إدوار مانيه واجه هذا السؤال الصعب في عمر اعتاد معظمنا هذه الأيّام أن لا يفكّروا فيه على الإطلاق.
    كان قد بلغ الخمسين من عمره. ولسنوات طويلة كان يعاني من مرض مزعج في العظام. فلم يعد باستطاعته أن يقف لأكثر من بضع دقائق. ومع تقدّم المرض، اضطرّ أخيرا إلى الكفّ عن المشي بسبب الألم الشديد الذي كان يشعر به في ساقيه. وحاول العلاج بالماء والتدليك، ولكنه وجد ذلك أكثر تعذيبا من المرض نفسه.
    وتحوّل إلى الرسم بألوان الباستيل في الكثير من أعماله المتأخّرة لسهولة التعامل معها ولأنها لا تتطلّب الكثير من الجهد. وحاول التقاعد في الريف، لكنه سرعان ما شعر بالملل. فعاد إلى المدينة بسرعة حيث ألقى بنفسه في خضمّ الحياة الاجتماعية التي لطالما استمتع بها في شبابه. وهناك رَسَم لوحات قليلة. وفي عام 1880 رسم لوحته "ديكور داخلي لمقهى". وهي لوحة حزينة إلى حدّ ما ومقفرة. ومن الواضح أنها من نتاج إنسان مريض ومنهك.
    لكنها كانت مصدر إلهام للوحة أخيرة وعظيمة هي حانة في الـ فولي بيرجير التي رسمها في العام 1882م.
    ورغم انه رسم لها اسكتشا في الحانة، إلا أن اللوحة نفسها رُسمت في محترفه حيث استأجر عاملة حانة حقيقية كي تقف أمام طاولة اصطفّت فوقها زجاجات نبيذ وفاكهة وأوان زجاجية. وخلفها مرآة تنعكس عليها البيئة الماجنة للنادي الليليّ ووجه امرأة.
    وقد استطاع مانيه العمل على اللوحة لفترات متقطّعة وكانت محصّلة ذلك رائعة للغاية. غير أن الحانة لم تكن لوحته الأخيرة. ففي السنة التالية، عاد مرّة أخرى إلى الريف. ومن وقت لآخر انشغل برسم بضعة مناظر في الهواء الطلق على طريقته الانطباعية.
    وكانت أعماله الأخيرة تصويرا لباقات الزهور التي كانت تُرسل له من قبل المهنّئين من جميع أنحاء البلاد. وفي أواخر أبريل من عام 1883، وصلت خادمة احد أصدقائه تحمل إليه مزيدا من الأزهار. وقد طلب منها أن تجلس ليرسم لها لوحة وهي تمسك بالأزهار. ووُجدت اللوحة التي لم تكتمل بعد يوم واحد من وفاته في الثلاثين من ابريل عام 1883 عن واحد وخمسين عاما.


    Credits
    manet.org