:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات كتب. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات كتب. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، سبتمبر 17، 2025

الطريق إلى أوكسيانا/1


في عام ١٩٣٧، نشر الرحّالة والمستكشف الانغليزي روبرت بايرون كتابه "الطريق إلى أوكسيانا"، الذي وثّق فيه رحلاته في الشرق الأوسط وأفغانستان وبلاد فارس. واعتُبر الكتاب من أكثر كتب الرحلات تأثيرا.
كان الهدف من رحلة بايرون زيارة الكنوز المعمارية في المنطقة، والتي كان على دراية واسعة بها، كما يتّضح من ملاحظاته على طول الطريق. وقد اختلط بايرون مع السكّان المحليين وتفاوض على وسائل النقل، بما في ذلك السيّارات والخيول والحمير، لنقله أثناء رحلته. كما واجه الحرّ والبرد والجوع والعطش.
كلمة "أوكسيانا" في عنوان الكتاب تشير إلى الاسم القديم للمنطقة الواقعة على طول الحدود الشمالية لأفغانستان. وقد شبّه أحد الكتّاب أهميّة الكتاب في أدب الرحلات بأهمية كتاب "يوليسيس" في الرواية وديوان "الأرض اليباب" في الشعر. بينما وصفه آخر بأنه "تحقيق في أصول الفنّ الإسلامي مقدّم في أحد أكثر كتب الرحلات تسليةً في العصر الحديث".
في الكتاب يأخذ بايرون القرّاء في رحلة شيّقة عبر بلدان الشرق الأوسط وآسيا الوسطى خلال أوائل القرن العشرين، يمزج فيها بين عين المؤرّخ وروح الرحّالة. وما يرويه ليس مجرّد مذكّرات رحلة، بل نسيج غنيّ من التجارب الإنسانية، حيث يجوب قلمه الآثار القديمة والأسواق الصاخبة، مجسّدا السحر الخالد للأراضي البعيدة والسعي الدائم وراء المعرفة والجمال.
وقد قدّمت رحلاته الواسعة منظورا فريدا لمناطق كانت، حتى ذلك الوقت، غير مألوفة إلى حدّ كبير للجمهور الغربي. ومن المؤسف أن مسيرة بايرون الواعدة انتهت مبكّرا بوفاته عن عمر يناهز 35 عاما خلال الحرب العالمية الثانية. لكن إرثه ما يزال ماثلا للعيان من خلال كتاباته المُلهِمة.
لم تكن العمارة، بالنسبة لبايرون، مجرّد مبانٍ، بل كانت تاريخا حيّا وسردا محفورا في الحجر والطوب. ومن خلال تفاعله مع المؤرّخين والحرفيين والسكّان المحليين، سعى إلى كشف خبايا الزمن والاقتراب من جوهر الحضارات التي ازدهرت في تلك المناطق.
وأفغانستان، خاصّة، تشكّل فصلا آسرا في رحلة المؤلّف الطويلة. فبينما كان يجوب المناظر الطبيعية الوعرة في ذلك البلد، وجد نفسه في أرض كانت أصداء التاريخ فيها تتردّد في الهواء وبدت وكأنه لم يمسسها العالم الحديث تقريبا. وتبرز هيرات، إحدى أهمّ مدن أفغانستان التاريخية، كنقطة محورية في رواية بايرون.
فيما يلي بعض فقرات مترجمة من الكتاب مع بعض التصرّف..

  • دمشق، 12 سبتمبر
    هنا الشرق في فوضى عارمة. تطلّ نافذتي على شارع ضيّق مرصوف بالحصى، اختفت منه رائحة التوابل والبهارات مؤقّتا في نسمة هواء باردة. إنه الفجر. الناس يتحرّكون، أيقظهم صوت المؤذّن العالي من مئذنة صغيرة في الجهة المقابلة، وأجابه آخرون من بعيد. سيبدأ بعد قليل صخب الباعة ووقع حوافر الخيل.
    الجامع الأموي، رغم ترميمه بشكل كامل بعد حريق عام ١٨٩٣، يعود تاريخه إلى القرن الثامن. رواقه الكبير متناسق وذو إيقاع مهيب على طريقته الإسلامية المجرّدة. وبينما تُلقي الشمس بجزء منها على الجدار الخارجي للمسجد، يمكن للمرء أن يتخيّل أوّل روعة من الأخضر والذهب، عندما أشرقت الساحة بأكملها بتلك المشاهد السحرية التي ابتكرها الخيال العربي لتعويض جفاف الصحراء الأبدي.

  • دمشق، 13 سبتمبر
    انضمّ إلينا شابّ يهودي. حدث هذا لأن في الفندق نادلا يشبه هتلر، وعندما علّقت على ذلك، انفجر اليهودي والمدير والنادل نفسه في نوبة ضحك. وبينما كنّا نعبر أرضا مغبرّة خرّبها القصف الفرنسي، رأينا عرّافا يخطّ علامات على صينية رمل، بينما كانت امرأة فقيرة وطفلها النحيل ينتظران خبرا عن مصير الطفل. وعلى مقربة منّا كان عرّاف آخر يجلس بلا مبالاة.
    انحنيت. وضع قليلا من الرمل في راحة يدي وطلب منّي أن أنثره على الصينية. ثم رسم ثلاثة أسطر من كتابة غامضة على الرمل، وراجعها مرّة أو مرّتين. وتوقّف وهو يفكّر، ثم نطق بهذه الكلمات: لديك صديق تحبّه ويحبّك. سيبعث إليك بعد أيّام بمبلغ من المال لتغطية نفقات رحلتك. ثم سينضمّ إليك لاحقا. أتمنّى لك رحلة موفّقة".

  • بعلبك، 18 سبتمبر
    بعلبك هي انتصار الحجر. الحجر له لون الخوخ ومعلَّم بالذهب المحمر وذو ملمس مرمري. والفجر هو الوقت المناسب لرؤيته؛ للنظر إلى الأعمدة الستّة، عندما تتألّق الألوان الذهبي والخوخي والأزرق بإشعاع متساوٍ. حتى القواعد الفارغة التي لا تحمل أيّ أعمدة لها هويّة حيّة تباركها الشمس إذ تواجه أعماق السماء البنفسجية.
    أُنظر إلى الأعلى، إلى هذه الأعمدة الضخمة، إلى التيجان المكسورة والكورنيش الكبير، كلّها تطفو في الزرقة. أُنظر فوق الجدران، إلى بساتين الحور الخضراء ذات السيقان البيضاء، ومن فوقها إلى لبنان البعيد، بريق من البنفسجي والأزرق والذهبي والوردي. أُنظر على طول الجبال إلى الفراغ؛ إلى الصحراء، ذلك البحر الصخري الخالي. اِرتشف الهواء العليل، لامس الحجر بيديك، ثم انعطف، أيها السائح، إلى الشرق.

  • بغداد، 27 سبتمبر
    بغداد هي العاصمة التي يتوقّعها المرء من هذه الأرض المفضّلة إلهيّا. إنها كامنة في ضباب طيني. نزلنا في فندق يديره آشوريون، أناس بائسون وذوو طباع حنونة، ما زالوا في حالة من الخوف على حياتهم. وكان هناك شخص واحد فقط، شابّ سريع الغضب يُدعى داود، رفع أسعار جميع السيّارات المتّجهة إلى طهران ووصف قوس المدائن بطريقة رائعة.
    ليس من المريح أن نتذكّر أن بلاد ما بين النهرين كانت ذات يوم غنيّة وخصبة بالفنّ والابتكار، ومضيافة جدّا للسومريين والسلوقيين والساسانيين. لكن في القرن الثالث عشر دمّر هولاكو نظام الريّ. ومنذئذٍ وحتى اليوم، ظلّت هذه البلاد أرضا محرومة من ميزة الطين الوحيدة، وهي تخصيب النباتات.
    المتحف هنا محروس، ليس لحماية كنوز أور، بل خشية أن يتلف الزوّار نُحاس خزائن العرض بالاتكاء عليها. ولأن المعروضات ضئيلة الحجم، كان من المستحيل رؤية كنوز أور. على الجدار الخارجي، نصب الملك فيصل لوحة تذكارية لغيرترود بيل. ظننت أن فيصل أراد أن يقرأ الناس النقش، فتقدّمت لأفعل. وعندها صاح بي أربعة رجال شرطة وجرّوني بعيدا. سألت مدير المتحف عن سبب ذلك. فأجابني بحدّة: إذا كنتَ قصير النظر، يمكنك الحصول على إذن خاص".
    كان المال في انتظاري هنا، كما أنبأني العرّاف في دمشق.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • كرمنشاه، 29 سبتمبر
    على طول الطريق المؤدّي إلى خانقين، هبّت علينا عاصفة غبار حارقة، ولاح في الأفق صفّ من التلال. ثم اجتزنا منحدرا صغيرا وعدنا إلى السهل. كان هذا يحدث كلّ خمسة أميال، حتى أعلنت واحة من الخضرة القاحلة عن دخولنا للمدينة.
    توقّفنا في قصر شيرين ساعة أخرى، بينما منحتنا الشرطة تصريحا لطهران. وامتدّت أمامنا بانوراما شاسعة من سفوح التلال المستديرة حول أطلال الساسانيين، متلألئةً هنا وهناك بأضواء كهرمانية. ومن بعيد، ارتفعت سلسلة جبال شامخة أصبحت في النهاية أسوارا حقيقية.
    انطلقنا صعودا وهبوطا عبر الهواء النقيّ المنعش إلى سفوح الجبال، ثم صعدنا إلى ممرّ بين قمم صنوبرية متعرّجة امتزجت بزخارف النجوم. وعلى الجانب الآخر كانت "كاريند"، حيث تناولنا العشاء على أنغام الجداول والصراصير، مطلّين على حديقة من أشجار الحور المغسولة بالمطر.

  • طهران، 2 أكتوبر
    لم يكن السائق يرغب في المبيت في همدان، بل أراد النوم في قزوين. كان كطفل يفضّل دمية على أخرى. ولإنهاء الجدل الذي بدأ يشارك فيه موظّفو الفندق، ذهبت إلى "تك بستان" صباحا. لا بدّ أن أكثر من نحّات قد عمل في كهوف هذه البلدة. للملائكة فوق القوس وجوه قبطية وستائرهم منخفضة ورقيقة كميدالية برونزية من عصر النهضة. وفي الخلف يقف تمثال ضخم لملك راكب، تُذكّرنا قسوة ملامحه بنصب تذكاريّ للحرب الألمانية. هذا نموذج ساسانيّ بامتياز. ومن الصعب تصديق أن هؤلاء الفنّانين كانوا فُرسا على الإطلاق.

  • طهران، 4 أكتوبر
    كانت رحلة اليوم مليئة بالبهجة. صعدنا وهبطنا الجبال، وتجاوزنا السهول الشاسعة، وتصاعدت دوّامات هائلة من الغبار تتراقص كالشياطين فوق الصحراء، فأوقفت سيّارتنا الشيفروليه، ولمحنا من بعيد جرّة فيروزية اللون تتمايل على حمار. كان صاحبها يسير بجانبها مرتديا أزرق باهتا. ولما رأيته تائها في تلك البقعة الصخرية الشاسعة، فهمت لماذا يفضّل الفرس اللون الأزرق.
    دعانا الوكيل المحلّي لشركة النفط الأنغلوفارسية، لتناول العشاء. استقبلنا في غرفة بيضاء طويلة ذات سقف مطليّ ببراعة. حتى الأبواب والنوافذ كانت مغطّاة بقماش موسلين أبيض. الأثاث يتألّف من سريرين نحاسيين مزوّدين بدعّامات من الساتان وحلقة من الأرائك الصلبة المنجّدة بالأبيض. وأمام كلّ منها طاولة صغيرة عليها أطباق من البطّيخ والعنب والحلويات. كان يقوم على خدمتنا رجل ذو لحية رمادية يرتدي معطفا أصفر فاتحا، وكان مضيفنا يناديه "آغا".

  • تبريز، 11 أكتوبر
    بينما كان مرافقي يلتقط لي صورة وأنا جالس في الخلف، تقدّم شرطي وقال إن التصوير ممنوع. كان السائق آشوريّا من بلدة قريبة من بحيرة أرومية، وبجانبه كانت تجلس معلّمة آشورية عائدة من مؤتمر تبشيري في طهران. وقد أمتعتنا بشرائح من السفرجل. كانا مهتمّين جدّا بمعرفتي بمار شمعون، ونصحاني ألا أتحدّث عن ذلك في تبريز، نظرا للاضطهاد الذي يعاني منه المسيحيون في ذلك الوقت.

  • مراغة، 16 أكتوبر
    سافرنا هذا الصباح لأربع ساعات، وبدت بحيرة أورمية في الأفق كشريط أزرق وفضّي، تمتدّ من خلفه الجبال. أبراج الحمام المربّعة المثقوبة من الأعلى منحت هذه القرى مظهرا محصّنا. بينما أحاطت بها أشجار كروم العنب وبساتين السنجق ذات الأوراق الرمادية الضيّقة وعناقيد الفاكهة الصفراء الصغيرة.
    مراغة نفسها ليست بتلك الجاذبية. شوارعها العريضة المستقيمة شُقّت عبر الأسواق القديمة، ما أفقدها طابعها المميّز. رافقنا طفل يتكلّم الفارسية إلى المسؤولين المعنيين الذين أرونا بدورهم قبرا جميلا متعدّد الأضلاع من القرن الثاني عشر، يُعرف باسم ضريح والدة هولاكو. وهو مبنيّ من طوب أحمر أرجواني مزخرف بنقوش.

  • فيش بوبليك، 19 أكتوبر
    غيوم صغيرة تلمع في زرقة السماء. ارتفعنا فوق منحدرات هادئة ومنها إلى مشهد بانورامي لأرض رملية متدحرجة تؤوي قرى ذات أبراج. ومن بعيد رأينا تلالا مخطّطة باللونين الوردي والليموني ومحاطة بأزهار الليلك وسرب من الفراشات الصفراء. وفي الأسفل، اقترب منا فارس وقال: السلام عليكم".

  • نيشابور، 14 نوفمبر
    طلع الفجر كابتسامة اخترقت سماء الليل العاصف الممطر. أكلت قطعة جبن وجزءا من صدر دجاجة شهرود. وانبثقتْ من الصحراء المظلمة شجرتا صفصاف ومقهى شاي. اجتمعنا حول نار، بينما كان أهل المكان يحاولون بيعنا خرَزا وسغائر ونردا مصنوعا من حجر أخضر ناعم. كانوا يرتدون بلوزات روسية قرمزية وينحدرون من أصول جورجية.
    ومن مسافة رأينا غيوما تحلّق منخفضة. القرى النادرة هنا هجرها الناس. وحول قلاعها المدمّرة تتجمّع تلك الأشكال القديمة: خلايا النحل الذائبة تحت المطر. كانت تذوب هكذا منذ فجر التاريخ، وعندما يأتي الصيف تنهض من جديد. تتدفّق الجداول في فيضان قرمزي عبر الأزقة المسوّرة إلى الحقول، ومنها إلى الصحراء. ويصبح المسار نفسه مجرى مائيّا.

  • غازار جاه، 15 نوفمبر
    رأيت هنا لآخر مرّة زهور القطيفة والبتونيا تزيّن بركة في الفناء الخارجي للفندق، مع ورود بيضاء نمت بكثافة كالثلج. وبدلا من صفير رياح الخريف، ترفرف الحمائم حول أشجار الصنوبر وتقضي العائلات عطلتها في الجناح ذي العشرة أضلاع. ومن الشرفة الخارجية، يبدو السهل الواقع بين الجبال والنهر بحراً من الخضرة المتنوّعة والجداول الفضّية. بينما ترسل الشمس حرارة معتدلة من سماء زرقاء وينتشر ذلك العطر الخافت المراوغ الذي استقبلنا أوّل مرّة.
  • الأربعاء، سبتمبر 03، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • في كتابه بعنوان "نيتشه: حياة حرجة"، يتناول رونالد هايمان حلما رآه الفيلسوف الألماني في منامه في وقت مبكّر من حياته. وينقل عن نيتشه قوله: سمعت موسيقى الكنيسة تعزف في جنازة. وعندما نظرت لأتحقّق مما يحدث، رأيت قبرا ينفتح فجأة ويخرج منه والدي المتوفّى ملفوفاً في كفن. ثم سارع أبي إلى الكنيسة وعاد ومعه طفل صغير يُمسك به من ذراعه.
    رأى نيتشه ذلك الحلم في الخامسة من عمره، في نهاية يناير عام 1850، بعد ستّة أشهر من وفاة والده، القسّ اللوثري، من مرض لِين الدماغ المزمن والمؤلم. ويستمرّ نيتشه في وصف ما حدث: في الصباح أخبرت امّي عن الحلم. وبعد فترة وجيزة، مرض شقيقي الصغير جوزيف فجأة وعانى من تشنّجات قوية ومات خلال بضع ساعات."
    هذا الحلم، وغيره من أحلام نيتشه التي يرويها هايمان في كتابه، سبقت ظهور فلسفة نيتشه بسنوات. وهو يعبّر عن تقدير عميق للقوّة المرعبة للا وعي والشعور المأساوي بالمصير والموت والانفتاح على رؤى من مصادر المعرفة "غير العقلانية".
    ويتحدّث هايمان عن كيف شكّلت تجارب نيتشه المبكّرة مع الأحلام الوقود الذي فجّر إبداعه الفلسفي فيما بعد. في عام 1870، وكأستاذ في جامعة بازل، كتب نيتشه في دفتر ملاحظاته بعض الأفكار عن الأحلام: في نصف الوجود، نحن –كحالمين- فنّانون. وهذا العالم النشط ضروري لنا".
    وكانت تلك الملاحظات بمثابة أساس لأوّل كتبه المنشورة "ولادة المأساة" (1871). القسم الافتتاحي من هذا الكتاب يقدّم فهما للفنّ والفلسفة والتاريخ، وكيف تؤثّر في القوّة الإبداعية للأحلام.
    كتاب هايمان ليس المكان المناسب لاستكشاف تأثير الأحلام على "ولادة المأساة" وغيره من مؤلّفات نيتشه التي كتبها فيما بعد. لكن لا بدّ من الإشارة إلى أن كلّاً من سيغموند فرويد وكارل يونغ كانا على علم بفلسفة نيتشه، وقد نسجا أفكاره مباشرة في نظرياتهما النفسية الجديدة. وإذا كنت تريد أن تفهم فرويد ويونغ بشكل أفضل، فعُد إلى نيتشه وأحلام طفولته.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • يُعَدّ ميلتون ايڤري (1885-1965)، رمزا مهمّا في الفنّ الأمريكي. وقد عُرف بموهبته الاستثنائية في الألوان وبساطة أسلوبه. وهو أيضا مثال يُحتذى في بداياته المتأخّرة. لوحات ايڤري تؤثّر عليك بطرق غامضة. في بعضها، خفّف الألوان الزيتية إلى قوام شفّاف كالألوان المائية، بحيث ينساب اللون على السطح في بقع عائمة. وأحيانا كان يخطّ على اللون شقوقا أفقية تشبه بطريقة ما أوراق شجرة خريفية بلون الصدأ. وأحيانا تمتزج ضربات فرشاة أحد الألوان بضربات لون آخر، محدثةً رعشة خفيفة وبريقا داخليّا.
    والشاطئ بالنسبة لـ ايڤري أشبه ما يكون بلوحة قماش. فجميع الأشكال والمناشف وكراسي الاسترخاء مرتّبة كأشكال تجريدية على رمال متعدّدة الألوان. وفي النهاية، تتلاشى هذه الأشكال تماما ويصبح شاطئ البحر راية من أشرطة أفقية صفراء وزرقاء وبرتقالية مشعّة. وليس من الصعب إيجاد تشابه في هذه اللوحات مع مستطيلات روثكو المفعمة بالبهجة.
    لكن ايڤري لم يخترع شيئا لم يرَه. فمهما كانت لوحاته على حافّة التجريد، فهي دائما مجازية: أصدقاء يقرأون، يتحدّثون، يأكلون الخ. كانت شقّته دائما ما تعجّ بزملائه الرسّامين، مع أنه يقال إنه كان يجلس بهدوء بعيدا عنهم مع دفتر رسمه.
    وقد غادر الفنّان وعائلته أمريكا مرّة واحدة فقط، لزيارة أوروبّا عام ١٩٥٢. واللوحات التي استلهمها من تلك الرحلة تتماوج ألوانها الهادئة من البنفسجي والرمادي والأخضر الباهت وتتوازن أشكالها في تركيبات غاية في الأناقة.
    كان ايڤري يردّد دائما: لماذا تتحدّث وأنت قادر على الرسم؟" وتبدو هذه العبارة أشبه بسخرية عابرة وطريقة ذكيّة لإسكات الحضور. كان يؤمن بأن لوحاته تعبّر عن كلّ ما يحتاج إلى قوله، وانتهى الأمر.
    تاريخ الفنّ عبارة عن ساحة معركة بين الأساليب والتيّارات المختلفة. وقد انعكس هذا في فنّ القرن العشرين، من حيث اللون والحجم والعمق والإيهام والسرد، وأصبح فنّا أدبيّا بقدر ما هو جمالي. أما الأسلوب المقابل فيقوم على اللون، كما أنه روحاني بطريقة مختلفة ومتجذّر مباشرةً في الرمزية والحسّ المتزامن وفنّ تسعينات القرن التاسع عشر. هنا تسود وحدة الرسم ويتفوّق التناغم المتداخل بين الشكل واللون على الموضوع. واللوحة نفسها تصبح الموضوع. وكرسّام ألوان، أثبت ايڤري أنه شخصية محورية في فنّ القرن العشرين.
    في عام ١٩٢٦، انتقل الرسّام إلى مجمّع فنّي في مانهاتن. وكان مارسيل دوشامب وفرانسيس بيكابيا من بين الزوّار المألوفين للمبنى. هنا كان ايڤري يجهّز لوحاته بنفسه ويتعلّم تخفيف أصباغه. وقيل إنه كانت لديه قدرة على جعل الطلاء يدوم لفترة أطول من أيّ شخص آخر. وقد رحّب ايڤري وعائلته بانتظام بفنّانين آخرين في شقّتهم، بمن فيهم روثكو. كان الأخير أصغر منه بـ 18 عاما، وقد استلهم من أعمال ايڤري مباشرة في أعماله.
    وبينما كان روثكو يتحدّث طوال الليل، كان ميلتون يستمع ويرسم ضيوفه. لكنه كان أكثر ثرثرة عندما كان يقرأ بصوت عال. وكان هذا أسلوب عائلته الترفيهي الشائع. وكانت قائمة قراءاتهم تشمل أعمال ميلفيل وبروست وثورو وستيفنز وإليوت.
    ولم يكن من عادة ايڤري أن يناقش أعماله، لكن النقّاد لم يتردّدوا في الحديث عنها. وقد تزايد الحديث عن اسمه في الصحف بدءا من أواخر الخمسينات وحتى وفاته عام ١٩٦٥. وبالنسبة للذين كانوا ينتظرون منه "شيئا كبيرا قادما"، كان ايڤري منفصلا عن الواقع بشكل مزمن. وقد وصل إلى نيويورك بما يمكن تسميته بـ "أسلوب أوروبّي للحداثة" أشبه بـ"ما بعد الانطباعية" الممزوجة بمدرسة نهر هدسون.
    وفي مطلع القرن الماضي، أصبح ايڤري ملوِّنا عندما كان القليلون يرغبون في الألوان. وفي الثلاثينات، صار انطباعيا ضبابيّا عندما كان العالم يبحث عن تفاصيل دقيقة. وفي الخمسينات، كان تجسيديا عندما كان التجريد الشامل هو الموضة السائدة.
    كتب صحفي آنذاك واصفاً عمله: إنه ثمرة موهبة رائعة وطبيعية وإن لم يكن من السهل تعريفها. إنه شاعر وملوّن ومزخرف، وهو متميّز جدّا في كلّ هذه التنويعات. ومع ذلك أفترض أن كونه شاعرا سيكون في النهاية أقوى ادّعاءاته".
    وكتب آخر: إن تمسّك ايفري، موسما بعد موسم، بنظرياته الغامضة، أو المزعجة بعض الشيء، حول الرسم، يُشعر المرء بأنه صادق تماما. ولا بدّ أن هذه الأشكال الغريبة، والمرعبة أحيانا، في أعماله تحمل في طيّاتها شيئا واضحا بالنسبة له".
    لكن الضرر الحقيقيّ الذي لحق بصورة ايڤري جاء من مقارنته بماتيس. فقد اعتبره العديد من النقّاد نسخة أخرى من المعلّم الفرنسي. وكان على دراية بماتيس بالتأكيد. وكتب أحد النقّاد يقول: لقد أراد ماتيس أن يصنع فنّا مريحا كالكرسي المريح، وقد نجح في ذلك. أما ماتيس الأمريكي "يقصد ايڤري" فإن فنّه أقرب إلى السباحة في المحيط قبالة ولاية مين".
  • ❉ ❉ ❉

  • اقتباسات...
    كالصيادلة، نحضّر خلطات جديدة كلّ يوم، نسكب من إناء إلى آخر. وكما نهبَ الرومان القدماء جميع مدن العالم ليشيّدوا "روماهم"، ننتزع نحن صفوة عقول الآخرين ونقطف أزهار حدائقهم المزروعة لنشيّد مزارعنا العقيمة. ما زلنا ننسج الشبكة نفسها، ونعيد لفّ الخيط نفسه مرارا وتكرارا. ر. بيرتون

    يموت بعض الناس في سنّ الخامسة والعشرين ولا يُدفنون إلا في الخامسة والسبعين. بنجامين فرانكلين

    يتحدّث بعض الناس عن الهجرة والنزوح وما إلى ذلك. وكلّ هذا هراء. كلّنا بشر، كلّنا ثدييات، كلّنا صخور ونباتات وأنهار. الحدود اللعينة مصدر إزعاج كبير. مجهول

    لا ينبغي لأحد أن يكون مجنونا لدرجة اختيار الحرب في زمن السلم. ففي أوقات السلم، يدفن الأبناء آباءهم، أما في الحرب، فيدفن الآباء أبناءهم. هيرودوت

    الحياة ليست أمراً سهلاً. لا يمكنك أن تعيشها دون أن تقع في الإحباط والسخرية، إلا إذا كانت أمامك فكرة عظيمة ترفعك فوق البؤس الشخصي وفوق الضعف وفوق كلّ أنواع الغدر والدناءة. ليون تروتسكي

    يمكن لكلّ شخص أن يخلق هدوءه الخاص بشروطه الخاصّة، بعيدا عن تدخّل الكون بأكمله. ما زال الأمر لا يعني لي شيئا أن الأرض والنظام الشمسي يندفعان عبر الفضاء بسرعة 60 ميلا في الثانية، قادمَين من مكان لا أحد يعرف أين وذاهبَين إلى مكان لا يعرفه أحد، طالما أنني ما زلت أستطيع الجلوس في حديقتي وأستمع إلى طنين النحل في فترة ما بعد الظهيرة في الصيف. مجهول

    حُفر تاريخ الإنسان على صخور مصر وخُتم على حجارة آشور ودُفن في رخام البارثينون. وهو يرتفع أمامنا بحضور مهيب في أقواس الكولوسيوم، ويختبئ ككنز دفين وسط غبار المحفوظات والأديرة، ويتجسّد في جميع خيوط الأديان والأعراق والعائلات. تشارلز نيوتن

  • Credits
    moma.org
    theguardian.com

    السبت، أغسطس 30، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • هذا البورتريه رسمته الفنّانة المكسيكية فريدا كالو لنفسها عام 1940، وأرادت من خلاله إبراز موضوع الهوية والمشاعر المعقّدة. وفيه تَظهر الرسّامة بشعر قصير بعد أن قصّت شعرها الطويل الذي يظهر متناثرا حولها. الشعر المقصوص يرمز للتمرّد والاستقلالية وتوكيد الفردانية وتحدّي أدوار الجندر التقليدية.
    كما أن الرسّامة ترتدي بدلة وربطة عنق رجالية، بدلاً من الفستان المكسيكي التراثي الذي اعتادت أن تظهر به. وفي هذا أيضا تلميح الى هويّتها الخاصّة، المركّبة والمتعدّدة الأوجه، ورفضها للأعراف المجتمعية.
    في الصورة أيضا، تحمل الفنّانة مقصّا في يد وخصلة شعر باليد الأخرى. وبتناولها المقصّ وقصّ شعرها، تؤكّد استقلاليتها ورفضها لتوقّعات المجتمع التي فُرضت عليها كامرأة. أي أن للمقصّ في اللوحة رمزية قويّة، اذ يجسّد قدرة كالو على التصرّف وتحكّمها بجسدها وهويّتها.
    كانت كالو قد قصّت شعرها بعد شهر من طلاقها من زوجها الرسّام دييغو ريفيرا، ثم رسمت لنفسها هذه اللوحة بعد ذلك بوقت قصير. وفي أعلى الصورة، تظهر نوتة موسيقية مصحوبة بكلمات من أغنية شعبية مكسيكية تقول: انظر، إذا كنتُ أحببتك فذلك بسبب شعرك. الآن وقد أصبحت بلا شعر، لم أعد أحبّك".
  • ❉ ❉ ❉

  • "ضوء القمر الساطع يضيء واجهة السرير
    فيبدو كما لو كان صقيعا على الأرض.
    أنظر إلى الأعلى فأرى القمر اللامع في السماء
    وأنظر إلى الأسفل فأملأ ذهني بذكريات مدينتي".
    قصيدة "لي باي" هذه عنوانها "خواطر في ليل صامت"، وهي من أشهر القصائد الصينية التي كُتبت في عهد سلالة تانغ. والقصيدة قصيرة كما هو واضح ولا تستخدم سوى كلمات قليلة، لكنها مفعمة بالشغف والحنين .وما تزال تدرَّس كجزء من مناهج الأدب الصيني، وكواحدة من أقدم أعمال الشعر الصيني نظرا لبساطتها النسبية واستخدامها المباشر والفعّال للصور الشعرية الوثيقة الصلة بالقيم الكونفوشية.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • أُعجب عالم الأنثروبولوجيا جيمس موني بمركزية الماء في عالم الشيروكي. وكان قد أمضى في نهاية القرن التاسع عشر موسما عاش فيه مع بعض الأمريكيين الأصليين في جبال سموكي "الدخان" العظيمة بولاية كارولاينا الشمالية.
    وسجّل موني في دراسة له كيف أن الشيروكي تصوّروا الأرض على أنها "جزيرة كبيرة تطفو فوق بحر من الماء، معلّقة من كلّ من الجهات الأربع الأصلية بحبل يتدلّى من قبّة السماء. وعندما يشيخ العالم ويتآكل، سيموت الناس وتنقطع الحبال، فتغرق الأرض في لجّة المحيط ويعود كلّ شيء إلى الماء".
    كما كتب عن الأهمية الروحية التي يوليها الشيروكي لأنهارهم وجداولهم وبِركهم المحلية وقال إنه كان يذهب مع مجموعة منهم كلّ صباح عند بزوغ الفجر إلى جدول متدفّق، حيث يواجهون شروق الشمس ويغمرون أنفسهم في الماء الجاري، مجسّدين نوعا من الولادة الجديدة. واستنتج أن الذهاب إلى الماء "جزء من طقس لنيل العمر المديد وكسب ودّ النساء والشفاء من مرض مهلك وجلب الرخاء للعائلة مع كلّ عودة للقمر الجديد".
    لعدّة قرون، قبل تهجير شعب الشيروكي قسرا من أوطانهم الأصلية بدءا من عام 1838 خلال معركة درب الدموع، ارتبط نهر تينيسي ارتباطا وثيقا بالشيروكي، لدرجة أن المستوطنين الإنغليز والإسبان والفرنسيين غالبا ما كانوا يشيرون إليه ببساطة باسم "نهر الشيروكي". ومفردة الشيروكي التي تعني النهر، أو "الرجل الطويل"، تستحضر شيئا من الجوهر المقدّس لذلك النهر وغيره من الأنهار التي اعتبرها الشيروكي كيانات حيّة تتمتّع بشخصيّات وسمات فريدة.
    وبينما رأى المستوطنون الأوربّيون في نهر تينيسي مصدرا للفرص الاقتصادية، عارض شعب الشيروكي أيّ تحويل كبير لمجرى النهر أو بناء سدّ فوقه. ومن وجهة نظرهم "فإن ما تفعله عندما تُغيّر مجرى النهر هو تدميره. فالأنهار التي لا تتدفّق وتشكّل بِرَكاً راكدة كبيرة من المياه، كما هو الحال في السدود، تُعتبر مياها ميّتة. وعندها يفقد النهر شخصيته وأهميّته الروحية والشعائرية".
    اليوم، في جبال سموكي، حيث أمضى جيمس موني فترة مع قبيلة شيروكي الشرقية، وحيث فرّ عدد كبير منهم في عهد الرئيس جاكسون لتجنّب التهجير، تتدفّق عشرات الأميال من الجداول المحمية بمحاذاة مناطق غابات هادئة، مارّةً بوسط مدينة شيروكي، بينما تُبذل جهود لتجديد جداول المياه الجبلية.
  • ❉ ❉ ❉

  • اقتباسات...
    ○ إن إضفاء طابع رومانسي على العالم هو ما يجعلنا ندرك سحره وغموضه وعجائبه. ويجب أن ندرّب حواسّنا على رؤية العادي على أنه غير عادي، والمألوف على أنه غريب، والدنيوي على أنه مقدّس، والمحدود على أنه لانهائي. نوفاليس

    ○ لا تحمل معك أثناء ترحالك إلا ما تستطيع حمله دائما: لغات أخرى ومعرفة بالبلدان والشعوب. ولتكن ذكرياتك حقيبة سفرك. ألكسندر سولجينتسين

    ○ قصّة بيرسيوس اليونانية الكلاسيكية هي مظهر مبكّر لحكاية شعبية واسعة الانتشار، صنّفها فلكلوريو القرن العشرين تحت اسم "قاتل التنانين". هل كان هناك بيرسيوس بدائي أنقذ عذراء من تهديد استثنائي، من نوع من التضحية البشرية مثلا؟ من الصعب الإجابة على هذا السؤال، ولكن ليس من الصعب تخيّل مدى قدَم الحادثة البدائية عن قاتل التنانين.
    فهي منتشرة في ثقافات كثيرة، ولا يمكن تصوّر وجود صلة أدبية بينها وبين اليونان القديمة، حيث نشأت أسطورة بيرسيوس. ومع ذلك، فإن المجموعة المشتركة من الزخارف في النسخ المتعدّدة من الأسطورة تُظهر بوضوح نوعا من العلاقة الوراثية أو الترابط التاريخي. هل نحتاج إلى العودة آلاف السنين قبل أوّل تسجيل لقصّة بيرسيوس للعثور على بيرسيوس البدائي هذا؟ من الأسهل بكثير أن نفهم أن الحكاية الشعبية انتشرت ببساطة وأن أحد مظاهرها كان في اليونان القديمة. ر. أدامز

    ○ لا يرى أيّ فنّان عظيم الأشياء على حقيقتها. لو فعل ذلك، لتوقّف عن كونه فنّانا. مارك توين

    ○ كانوا يُلقّبونه بـ بيتر النَسيان "أي كثير النسيان". في إحدى المرّات، وصل إلى المعهد الموسيقي ولم يجد التشيللو الذي كان يحمله. قال بابتسامة عريضة: ربّما ضاع في الطريق. مشى عائدا إلى غرفته. ولم يجد التشيللو هناك. ثم تذكّر لفافة الخبز التي اشتراها من المخبز المجاور. وكان التشيللو هناك مع الرغيف أيضا. قال بيتر: لديّ ذاكرة قويّة. وأضاف اقتباسا من فيلسوف مشهور: الذاكرة هي القدرة على النسيان". وبنفس الذاكرة، نسي أيضا الأسماء والمواعيد والوعود. نسي المكان الذي ركن فيه سيارته، فاضطرّوا للبحث عنها في نصف المدينة في منتصف الليل. كان ينتظر ساعتين مبكّرا في المطعم الخطأ، وللمرأة الخطأ. وقال إن النسيان هو شرط السعادة. باتريشيا دي مارتيلييه

    ○ أتركْ بابك الأمامي والخلفي مفتوحين. دع الأفكار تأتي وتذهب. فقط لا تقدّم لها الشاي! شونريو سوزوكي

    ○ ما الحياة سوى رقصة من الأشكال الزائلة. أليس كلّ شيء في تغيّر دائم: أوراق الأشجار في الحديقة، ضوء غرفتك وأنت تقرأ هذه الكلمات، الفصول، الطقس، هذا الوقت من اليوم، الأشخاص الذين يمرّون بك في الشارع. وماذا عنّا؟ ألا يبدو كلّ ما فعلناه في الماضي حلما الآن؟ الأصدقاء الذين نشأنا معهم، أماكن الطفولة، تلك الآراء والأفكار التي كنّا نتمسّك بها بشغف مطلق ثم تركناها الآن خلفنا؟ الآن، في هذه اللحظة، تبدو لك قراءة هذا الأسطر حقيقية تماما. لكن حتى هذه الأسطر ستصبح قريبا مجرّد ذكرى. سوجال رينوشي

    ○ إهتمّ بالحياة كما تراها، بالناس والأشياء، بالأدب والموسيقى. فالعالم ثريّ جدّا وينبض بالكنوز الغنيّة وبالأرواح الجميلة والأشخاص المثيرين للاهتمام. هنري ميلر

    ○ قصّة دراكيولا في الثقافة الحديثة كثيرا ما تهيمن عليها مشاهد عنف مروّعة ومعارك ملحمية بين وحوش ذات أنياب حادّة وصيّادين يحملون أوتادا. لكن مصّاص دماء رواية "برام ستوكر" يتميّز ببراعة مقلقة؛ إنه أقرب إلى "مخلّص من الفساد" منه إلى جزّار ملطّخ بالدماء. ولعلّ أفضل تفسير لشخصية "دراكيولا ستوكر" هو أنه مرض خبيث يسلب من يحبّ صفاته الفاضلة ويستبدلها خلسة بشرّ خالص لا يموت.
    في النصف الأوّل من الرواية، يجسّد ستوكر ببراعة الحزن والصدمة المرتبطين بمشاهدة هذه العملية المخيفة والشعور بالعجز عن تغييرها. وفي النصف الثاني، يقدّم عملا جديرا بالثناء بنفس القدر، مُظهرا كيف يمكن للشجعان أن يتّحدوا ويتكاتفوا في أعقاب الخسارة لمنع المزيد من المآسي. مايلز ريمار

    ○ الطريقة الوحيدة للتعامل مع عالم غير حرّ هي أن تصبح حرّا تماما، لدرجة أن يصبح وجودك نفسه فعل تمرّد. ألبير كامو

    ○ لا تبحث عن النجاح، فكلّما طاردته وجعلته هدفا، أضعتَه. فالنجاح كالسعادة، لا يُسعى إليه بل يجب أن يأتي من تلقاء نفسه. وهو لا يأتي إلا كأثر جانبي غير مقصود لتفاني المرء في سبيل قضية أعظم منه. وينطبق الأمر نفسه على النجاح: دعه يحدث دون أن تبالي به. أريدك أن تنصت لما يمليه عليك ضميرك وأن تنفّذه على أكمل وجه. عندها ستدرك أن النجاح سيلاحقك على المدى البعيد، لأنك لم تعد تفكّر فيه. فيكتور فرانكل

  • Credits
    chinahighlights.com
    fridakahlo.org

    الثلاثاء، أغسطس 26، 2025

    نصوص مترجمة


  • كان أحد أعمامي يأمل أن يصبح رسّاما كبيرا. في مراهقته، فاز بمِنَح دراسية وجوائز مهمّة، لكنه فقد بصره بسبب السكّري. كنت في العاشرة وهو في العشرينات من عمره، عندما كنّا نسير معا ذات يوم في شارع مزدحم بالمشاة في بوينس آيرس. وفجأة قال أحدهم: ها هو بورخيس"! نظرتُ ورأيتُ بورخيس، فقلتُ لعمّي: هذا بورخيس".
    كان قادما نحونا، وهو ممسك أيضا بذراع صديق أو معجب، ثم صرخ عمّي الكفيف والفكاهي: بورخيس! كيف حالك؟ تبدو رائعا". حوّل بورخيس نظره إلى المكان الذي أتى منه صوت عمّي الكفيف، وتبادلا النظرات دون أن يَريا بعضهما، وأنا واقف بينهما غير مصدّق لما أراه.
    في ذلك الوقت، لم أكن قد قرأتُ أعمال بورخيس، ولكن كنتُ أعرفه جيّدا. كان من السهل أن ألتقي به في الشارع، وكان حاضرا باستمرار على شاشات التلفزيون، حيث كان موضوعا للعديد من المقابلات المطوّلة، وحتى لعروض الكوميديا القصيرة. كان الكوميديون يقلّدونه. كان فريدا من نوعه، بصوته وأسلوبه في الكلام وتواضعه المتغطرس وسعة اطلاعه التي تكاد تكون مجنونة وأسلوبه المهذّب والصارم في تقويض محاوريه.
    بعد سنوات قليلة من ذلك اللقاء مع بورخيس، ومع عدم وجود فرصة لرؤيته مرّة أخرى ولفترة طويلة، قرأت أوّل كتاب له: "تاريخ عالمي للعار". وأعتقد أنني قرأت كتب بورخيس بعد ذلك بنفس الطريقة التي قرأ بها هو ألف ليلة وليلة وستيفنسون وتشيسترتون وآلان بو وويلز. قرأته كما لو كان مؤلّف كتب أطفال بالمعنى النبيل للكلمة، ككاتب تأسيسي، كصانع قصص مثالية، كواحد من أولئك الرواة الذين يفتحون الباب لنا للّعب في كتب أخرى.
    وفي أحد الأيّام، في إحدى صالات الألعاب الرياضية، حدث أن اصطدمتُ برجل عجوز خفيف الوزن. طار الرجل في الهواء، ممسكا بعصاه، وأخذ يصرخ صرخات مكتومة قبل أن يسقط على وجهه. ثم اكتشفتُ أن ذلك الرجل لم يكن سوى بورخيس نفسه، وأنني ربّما قتلتُه.
    كانت تلك أهمّ لحظة في حياتي! من كان يعلم أن ذلك الاصطدام بالأدب العظيم سيُشعل شرارة قصص أخرى، أو سيمثّل نهايتي ككاتب. فما جدوى كتابة أيّ شيء إن سُجِّلْتُ في التاريخ بصفتي قاتل بورخيس؟!
    لحسن حظّي، ظلّ بورخيس حيّا. رأيتُه مُستلقيا على ظهره وعصاه على صدره، يفتح فمه ويغلقه كأحد طيور الكناري بحثا عن أكسجين. كانت تلك تجربتي الكبرى مع الأدب، ويزعجني قليلا ألا أتمكّن من التذكّر، مهما حاولت، إن كنتُ قد ساعدته على النهوض أم لا. لا أظنّ أنني فعلت.
    لقد رويت تلك القصّة مرّات عديدة. وأصبحتْ مثل الورقة الرابحة في جعبتي أو في ياقة أحد الكوميديين. وهكذا حدث اصطدامي الحقيقي بالأدب.
    عندما جلستُ لأقرأ بورخيس، لم أفعل ذلك رغبة في تحليله وإعادة بنائه لاحقا أمام لجنة من الممتحنين، أو من أجل خطّة نظرية حتمية لكيفية المضيّ قدما في عملي، بل من أجل متعة الاستمتاع بشخصية عظيمة.
    وهنا أصل إلى سرّ علاقتي الشخصية جدّا مع بورخيس. أتذكّر الانفجار الشخصي الكبير الذي مررت به عندما قرأتُ ذات صباح استوائي، وربّما ممطر "من يتذكّر وهو يقرأ تحت المطر!"، تلك الصفحة القصيرة بعنوان "بورخيس وأنا"، والتي يعترف بورخيس فيها "لا أعرف أيّنا الاثنين يكتب هذه الصفحة"، وحيث يطمس بورخيس الخطّ الفاصل بين المؤلّف والشخصية ويشوّه هويّة القارئ.
    ما شعرتُ به وقتها هو أنه لا يمكن للمرء أن يكسب عيشه من الأدب فحسب، بل يمكن أن يعيش الأدب، والأدب يمكن أن يحيا في الكاتب ومن خلاله. كان بورخيس، بالنسبة لي، وسيظلّ الكاتب العظيم الذي يفهم الكُتّاب كشخصيات عظيمة وكقُرّاء عظماء.
    بورخيس كقارئ/كاتب، ابتدع بأسلوبه تقليدا أدبيّا أرجنتينيا افتراضيّا ومراوغا، لم يكن يحفر في التربة بل في الجدار الذي تُعلّق عليه الكتب. الجدار الذي يؤوي عبقرية أمين مكتبة أعمى ومتعدّد الأشكال ومنحرفا، يوصي بأشياء كثيرة دفعة واحدة، مقتنعا بأن الخلاص والجنّة يعيشان دائما داخل كتاب، كتاب يحتوي الكون بأسره. رودريغو فريسن
  • ❉ ❉ ❉


  • يمثّل موزارت لمعظمنا الأناقة والذكاء والرقّة والألفة، وما إلى ذلك. ولو كان هذا كلّ شيء، لظلّ مجرّد فنّان من عصره. لكنه يختلف عن غيره من المؤلّفين من أواخر القرن الثامن عشر الذين أنتجوا موسيقى سهلة وراقية وغنائية ومرِحة لطبقة النبلاء.
    وصل موزارت إلى هذا العالم كروح سامية، وظلّ فيه حوالي ثلاثين عاما، ثم تركه غنيّا ومبارَكاً بزيارته. كانت عبقريته عالمية مثل جميع الفنّانين العظام. لم يلتقط فقط إحساس وروح عصره، بل جسّد أيضا روح الإنسان، إنسان كلّ العصور، الإنسان بكلّ رغباته وتطلّعاته وتناقضاته.
    عندما كنّا في موسكو قبل فترة، سمعت الكاتب الكبير بوريس باسترناك يقول: رغم كلّ شيء، أنا مفعم بالبهجة، فنّي موجود كسجلّ لمأساة الوجود البشري، يتغذّى من الأحزان. وفنّي هو كلّ بهجتي". وهكذا هو حال أعظم الأرواح المبدعة، وهكذا كان حال موزارت.
    قد يفاجئ هذا الكلام بعض الناس ممّن اعتادوا وصف موسيقى موزارت بالأرستقراطية. وكم من الناس سمعتهم يصفونها بـ"الرنّانة". يقولون: لا داعي لكلّ هذه التعقيدات البسيطة في موسيقاه. أعطني جرأة في الموسيقى: بيتهوفن، برامز، التراجيديا، العظمة".
    لكن هذا النوع من الكلام لا يعني سوى شيء واحد: أنهم لا يعرفون موزارت. لا يمكن لأحد أن يستمع إلى موزارت وينصت إليه باهتمام، بكلتا أذنيه، دون أن يختبر ما أسماه باسترناك "مأساة الوجود البشري".
    هل تشعر في موسيقى موزارت بذلك الحزن، ذلك الجوهر الثمين، حتى وهي محاطة بإطار من القرن الثامن عشر؟ إن موسيقاه تهرب باستمرار من إطارها، لأنه لا يمكن احتواؤها في قالب. وهي في جوهرها خالدة. إنها موسيقى كلاسيكية لرومانسي عظيم، وموسيقى حديثة وخالدة لكلاسيكي عظيم. ليونارد بيرنشتاين
  • ❉ ❉ ❉

  • في القرن السادس عشر، كان مصطلح "بيرو" يُطلق على أمريكا الجنوبية بأكملها، وليس فقط على أراضي الدولة التي تحمل هذا الاسم اليوم. وكانت أراضي أتاوالبا، آخر إمبراطورية للإنكا في بيرو، غنيّة بالذهب والفضّة. وفي أبريل عام 1545، تسلّق نبيل هنديّ ضئيل يُدعى دييغو غوالبا تلّة بحثاً عن ضريح، فسقط أرضا بفعل رياح قويّة. ووجد نفسه ممسكاً بكتل ضخمة من الفضّة بيديه، فأبلغ بذلك بعض المغامرين الإسبان في المنطقة المجاورة.
    وبعد مزيد من البحث، اكتُشفت خمسة عروق غنيّة بالفضّة. وتبع ذلك اندفاع محموم للبحث عن المعدن الثمين. وقتها كانت الفضّة، وليس الذهب، هي التي أصبحت في نظر العالم رمزا للثروات التي تُجنى بسرعة. وبالنسبة للفرنسيين في القرن السادس عشر، أصبحت مفردة "بيرو" مرادفة للثروة الهائلة.
    آنذاك وُصفت رواسب بوتوسي في بيرو، "الواقعة اليوم في بوليفيا"، بأنها "جبل فضّي" يبلغ قطر قاعدته ستّة أميال ويقوم على هضبة نائية ومهجورة ترتفع 12 ألف قدم فوق مستوى سطح البحر.
    ومن عام 1503 إلى عام 1660، قُدِّر أن 16 ألف طن متري من الفضّة وصلت إلى إشبيلية بإسبانيا، أي ثلاثة اضعاف موارد الفضّة الموجودة في أوروبا في ذلك الوقت. بينما دخَلَ 185 طنّا متريّا من الذهب إلى إشبيلية من العالم الجديد خلال الفترة نفسها. كانت الفضّة العنصر الرئيسي في ثروة إسبانيا الخيالية. وكانت تلك الثروة خيالية فعلا، لأن آثارها على الحكم الإسباني كانت غير متوقّعة، وأدّت على المدى الطويل ولأسباب متعدّدة إلى الإفلاس وتراجع نفوذ إسبانيا في الشؤون العالمية. كاسي كورتنغ
  • ❉ ❉ ❉

  • أحببت الفراشات وكنت مفتونا بها منذ الصبا، عندما عرّفني والدي على هذه المخلوقات الساحرة. وعندما كبرت، ازداد شغفي بها وألّفت كتابا عنها تحدّثت فيه عن حضورها الدائم في أحلامنا وفي الأدب والموسيقى والفنّ والثقافة الشعبية. وأعرف أن الكثيرين بدأوا يصبحون من مراقبي الفراشات ويدركون كيف يمكن لهذا النشاط الممتع أن يفيدهم عقليا وجسديّا وروحيا.
    إن فوائد التواجد في الهواء الطلق في أحضان الطبيعة والمشي بوتيرة هادئة والوقوف ساكنا وتعلّم الرؤية والنظر باهتمام والانتباه الكامل لهي من الأمور المفيدة والمجزية كثيرا. الكاتب فلاديمير نابوكوف هو مثال على رجل الفراشات العظيم. ولم يكتب أحد آخر بمثل هذا الشعور أو الجمال عن الفراشات.
    وأعتقد أن هناك دروسا يمكن استخلاصها من مشاهدة الفراشات. فنحن قد نتعلّم شيئا من طيرانها الرقيق والرشيق وكيف أنها لا تستقرّ طويلا بل تمضي قدما. وهي تعلّمنا شيئا عن العيش بِخفّة، لا أن نغرق في وحل الركود، وأن نحافظ على مرونتنا وقابليّتنا للتكيّف، وأن نمشي رويداً على الأرض، لا أن نتخبّط في أمور مدمّرة، وأن نقدّر تعقيد وهشاشة ما حولنا. نايجل أندرو
  • ❉ ❉ ❉

  • تتعرّض الحيوانات البرّية في بيئاتها الطبيعية لمواقف عصيبة ومختلفة، مثل البحث عن مجموعات وأماكن آمنة للعيش، والحصول على الطعام وتجنّب التعرّض للافتراس، وتحمّل الأمراض والإصابات دون علاج.
    وبينما يُتوقّع أن تُوفَّر للحيوانات الأسيرة أماكن آمنة للعيش وغذاء كافٍ ورعاية بيطرية عند الحاجة، إلا أنها لا تحصل بالضرورة على هذه الحقوق البسيطة. وحتى لو حصلت عليها، فهذا لا يعني بالضرورة أنها تتمتّع بحياة أسعد أو أفضل من أقاربها في البرّية المفتوحة.
    ويمكن أن نتخيّل وجود حالات قد يستفيد فيها الحيوان من إبعاده عن البرّية. مثلا، إذا كان يتعرّض للضرب باستمرار ككبش فداء أو يتضوّر جوعا أو يعاني من مرض أو إصابة خطيرة.
    ومع ذلك قد يقول قائل: هذا شعور طبيعي عندما يكون فردا في جماعة، ويجب أن تُمنح له فرصة عيش حياته الطبيعية. ففي النهاية، هذا ما تطوّر ليصبح عليه. قبل سنوات، أدركت معنى أن تكون حيوانا برّيا وأن تكون حيوانا أسيرا.
    ففي عالم يشهد هيمنة بشرية متزايدة، في حقبة تُسمّى "عصر الأنثروبوسين" الذي تحوّل إلى " موجة من اللاإنسانية "، من الواضح أننا كثيرا ما نتدخّل في حياة أنواعٍ لا تُحصى. نسرق حياتها وبيئاتها ونسرق أطفالها ومستقبلها. ومن المحتمل جدّا أن تعاني الحيوانات البرّية من اضطرابات نفسية مختلفة، بما في ذلك اضطراب ما بعد الصدمة وأمراض سلوكية أخرى. مارك بتكوف

  • Credits
    borges.pitt.edu
    wolfgang-amadeus.at

    الأحد، أغسطس 24، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • كانت الفنّانة الأوكرانية سونيا ديلوناي (1885-1979) شخصية بارزة في حركة الفنّ الطليعي في باريس. وقد خاضت مع زوجها الرسّام روبير ديلوناي مغامرة فنّية تستند الى تباينات الألوان وذوَبان الشكل من خلال الضوء. وأسّس الزوجان معا حركة فنّية ارتبطت بهما حتى بعد وفاتهما، وهي حركة الأورفية (orphism). الشاعر والناقد الفنّي غيوم أبولينير هو الذي اختار هذا المصطلح لوصف نسختهما الفريدة من التكعيبية، متذكّرا الاقتران القديم بين الفنّ والموسيقى الذي جسّده العازف والشاعر الأسطوري أورفيوس.
    وقد واصلت سونيا ديلوناي استكشاف هذه الحركة الفنّية بعد وفاة زوجها، وأصبح اسم الحركة "التزامنية Simultanism"، وهي فرع من الأورفية. وغالبا ما اقترن اسم ديلوناي بأسماء فنّانين مثل بيكاسو وماتيس وكاندنسكي. وقد رسّخت مكانتها كشخصية رائدة أعادت رسم الحدود بين الفنون الجميلة المختلفة.
    وهي لم تشارك زوجها فقط في تأسيس الأورفية، بل كانت أيضا أوّل فنّانة حيّة يقام لها معرض استعادي في متحف اللوفر عام ١٩٦٤. وقد تجاوزت رؤيتها الفنّية حدود اللوحات، حيث دمجت الفنّ في الحياة اليومية من خلال المنسوجات والتصميم الداخلي والأزياء.
    لوحتها "الهالات الكهربائية" (1914) هي أفضل مثال على براعتها في الألوان والأشكال. ويظهر النسيج فيها نابضا بالحياة بفضل خطوطها النشطة والمتقاطعة والدوّارة التي تعطي انطباعا بالحركة. وعنوان اللوحة يلمّح إلى استكشاف الضوء واللون. وقد استلهمت الرسّامة موضوع الصورة من الهالات الملوّنة للمصابيح الكهربائية في أحد شوارع باريس. وتتركّز النقطة المحورية في الصورة على دائرتين متداخلتين كبيرتين صُنعتا بواسطة أقواس أو أشكال منحنية من الألوان الأساسية والثانوية الموضوعة بجوار بعضها البعض.
    ولو أمعنت النظر في اللوحة سترى أضواءً من الألوان المُشعّة التي تتخلّل اللوحة بأكملها، وكشكا طويلا به كتب، بالإضافة الى أجزاء من شخصيات غامضة في النصف السفلي من اللوحة، وقد امتصّتها الألوان الزاهية للضوء الكهربائي.
    يقول النقّاد إن براعة ديلوناي تتمثّل في قدرتها على تصوير هذا المفهوم في صورة تجريدية، ما يضفي على سطح القماش هذا السطوع. وينعكس تأثير عمق اللوحة في مزيج الألوان والأشكال المتباينة، مؤلّفةً ما يبدو وكأنه سيمفونية بصرية.
    كان اللون أحد أبرز العناصر في فنّ ديلوناي، وكان له ارتباط خاص بطفولتها في أوكرانيا، حيث تأثّرت بالفنون الشعبية والتطريز المليء بالألوان. وقد مهّدت موهبتها الاستثنائية وابتكاراتها في مجالي الضوء واللون الطريق أمام أجيال من الفنّانين لاستكشاف الإمكانات اللامحدودة للفنّ التجريدي.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • تتساءل باتريشيا دي مارتيلييه (1957 - 2009): ما الذي يجمع بين العاشق والكاتب والفيلسوف؟ وتجيب: الثلاثة ينتهي بهم المطاف لأن يصبحوا خالي الوفاض تماما: العاشق، لأنه لا مفرّ من رحيل محبوبه مؤقتا أو دائما. والكاتب، لأنه يحاول عبثا التعبير باللغة عمّا لا يُقال. والفيلسوف، لأن عقله لا يمنحه سوى الشك، وبالتالي لا يقين".
    في الثالثة عشرة من عمرها، نشرت دي مارتيلييه روايتها الأولى بعنوان "ملك البرّية". بطل الرواية أسد صغير أُسر في الغابة وأُجبر على مشاهدة أمّه وهي تُسلخ حيّة. ثم يُؤخذ الشبل إلى سيرك، حيث يُدرّب على أداء جميع أنواع الألعاب والحيل. وهناك يمزّقه صراع داخلي، إذ يكتشف مصدوماً أنه أصبح متعلّقا بسيّده البشري، أشرس أنواع الحيوانات على الاطلاق. لكنه في الوقت نفسه يتوق إلى الحريّة.
    يتمكّن الأسد من الهرب من السيرك ويعيش في الغابة لفترة. لكن القصّة لا تنتهي نهاية جيّدة. حيث يؤسر مجدّدا، وفي محنته، يُلقي بنفسه على القضبان حتى يُصاب بجروح بالغة، ثم يقتله أحد الحرّاس رحمةً به. باتريشيا، ذات الثلاثة عشر عاما، تحثّ أسَدها على التأمّل قائلة: لك أن تُقرّر بنفسك ما ستفعله بحياتك. لكن مهما تخيّلت وحاولت، فإن جميع الطرق تؤدّي إلى نفس المصير: الموت".
  • ❉ ❉ ❉

  • اقتباسات...
    ○ اللغة منديل تنظيف منعش ورطب برائحة الليمون. اللغة هي نسمة الله، الندى على تفّاحة طازجة، مطر الغبار الناعم الذي يتساقط في شعاع شمس الصباح عندما تسحب من رفّ كتب قديم مجلّدا منسيّا. اللغة حفلة عيد ميلاد طفولة نصف متذكَّرة، صرير على الدرج، عود ثقاب متقطّع موصول بلوح زجاجي مجمّد، هيكل دبّابة متفحّمة، الجانب السفلي من صخرة غرانيتية، أوّل نموّ ريشي على الشفة العليا لفتاة متوسّطية، خيوط عنكبوت اكتسحها حذاء قديم منذ زمن طويل. ستيفن فراي

    ○ أتذكّر الحكاية القديمة الطريفة عن آينشتاين وهو يدرّس الرياضيات لفتاة صغيرة من جيرانه، لكن هذه المرّة ألقيت نظرة على مراسلات آينشتاين مع الناس العاديين الذين كتبوا إليه يطلبون منه النصيحة ويعبّرون له عن آرائهم، محاولين إظهار تقديرهم له. وقد اعجبت، ليس فقط بصدق ردوده، بل بقدرته على تخصيص بعض وقته للردّ على رسائل الناس، رغم كثرة انشغالاته وانطوائيّته المعروفة وحبّه للعزلة.
    وحقيقة أن الناس من جميع الأطياف، بمن فيهم الأطفال، شعروا بالحاجة إلى التواصل معه رغم استحالة فهمهم لمساهماته في الفيزياء، تشير إلى حاجة إنسانية فيهم. نعم كان آينشتاين شخصية مشهورة في مجتمع مهووس بالشهرة، لكن يبدو أن هناك شيئا ما في طريقة تعامل العامّة معه أعمق بكثير من مجرّد هوس المشاهير المعتاد، ما يوحي بأن آينشتاين استغلّ حاجة أعمق لديهم.
    لقد بلغت مكانة آينشتاين حدّا دفع مجلة "تايم" إلى اختياره وتمجيده كرجل القرن، ليس لأن هيئة تحرير المجلة قادرة على تقديره، بل لأنها اضطرّت إلى ذلك حفاظا على مصداقيتها ولإضفاء بعض الكرامة على حضورها البائس. ومع ذلك، فإن اللغز الكامن في قلب الصورة الرسمية لآينشتاين هو لامبالاته النفسية بالمؤسّسات والهياكل الرسمية للتعلّم والبحث وتأكيده الدائم على السعي وراء الأسئلة الأساسية والحفاظ على الفكر متجدّدا وحيوياً ومستقلاً. رالف دامين

    ○ ما فائدة الأحلام؟ لماذا نقضي شطرا من نومنا في رؤية قصص غريبة لا نتذكّرها إلا بشكل مبهم عندما نستيقظ؟ من أين تأتي هذه القصص، وماذا تعني؟ معظم الإجابات التقليدية تفترض أن الأحلام هي في الواقع قصص، أي أن لها معنى وتُروى لسبب. وأقدم نظريات الأحلام ترى أنها "رسائل من أقارب متوفّين أو من الآلهة". وقد تكون هذه الرسائل بسيطة أو معقّدة أو مباشرة أو غامضة لدرجة تتطلّب مساعدة تفسيرية من عرّاف أو شامان. ولكن في كلّ حالة، تُفهم الأحلام على أنها تواصل، كأن شخصا آخر يخبرنا بشيء ما أثناء نومنا.
    في إطار العلم، أصبح من غير المعقول وجود كيانات كهذه تخاطبنا، لكن نموذج الأحلام كرسائل لم يفقد جاذبيّته. وقد رأى فرويد ويونغ أن الأحلام قد تكون رسائل من أنفسنا، طالما أن هناك جزءا من أنفسنا لا نستطيع الوصول إليه مباشرة. إيليا فارير

  • Credits
    moma.org
    archive.org

    الخميس، أغسطس 14، 2025

    عن عالم التأليف والنشر


    يتعامل عالم الكتب والتأليف والنشر مع بعض المصطلحات المفيدة التي يحسن بالمؤلّفين الجدد، والمترجمين أيضا، أن يتعرّفوا عليها، أو على الأقل أن يلمّوا ببعضها. ومن أهمّها:

    ○ العبارة الافتتاحية (Epigraph)، وهو اقتباس قصير أو عبارة أو قصيدة توضع في بداية الكتاب أو الفصل. وتستخدم لتلخيص مواضيع العمل وتحديد نبرته أو توفير سياق للسرد الذي يليه.

    ○ المخطوطة (Manuscript)، أي العمل الذي كتبه المؤلّف قبل أن يصبح كتابا منشورا.

    ○ تحرير النسخة (Copy editing)، أي عملية تحرير مخطوطة كتاب من حيث القواعد النحوية والإملاء وعلامات الترقيم والتنسيق.

    ○ مسار الشخصية (Character arc)، أي تطوّر الشخصية أو رحلتها الداخلية على مدار القصّة أو الرواية. وعادةً لا يرسم مسار الشخصية إلا للشخصيات المهمّة في الرواية.

    ○ التحرير التطويري (Developmental editing)، أي عملية معالجة المسائل الكبيرة في المخطوطة، كالحبكة والوتيرة وتطوير الشخصية. ويقوم بهذه المهمّة عادة محرّر تطويري.

    ○ القارئ ألفا (Alpha reader)، هو القارئ الذي يقدّم ملاحظات للمؤلّف على المسوّدة الأولى أو الإصدار المبكّر من المخطوطة قبل النشر.

    ○ نسخة القراءة المسبقة ARC (Advance Reader Copy)، وهي نسخة مجانية من الكتاب توزّع قبل النشر لأغراض التدقيق اللغوي أو المراجعة أو الإعلان.

    ○ الحدث المحرِّض (Inciting incident)، أي الحدث الذي يحرّك الحبكة الرئيسية للقصّة أو الرواية. ويسمَّى أيضا الاضطراب الافتتاحي أو الحدث المعجّل أو المحفّز.

    ○ شركاء النقد (Critique partners)، وهم الكتّاب الذين يقرؤون وينتقدون أعمال بعضهم البعض ويقدّمون تعليقات بنّاءة.

    ○ علامات الحوار (Dialogue tags)، أي الكلمات التي تُستخدم لوصف الكلام الذي تتحدّث به الشخصيات، مثل "قال" و"سأل". وعادةً ما يُنصح المؤلّفون بتقليل استخدام علامات الحوار من خلال إظهار حركات الشخصيات أو إيماءاتها أثناء حديثها.

    ○ نقطة الحسم (Pinch point)، وهي أسلوب سردي يذكّر القارئ بالقوى المتعارضة ويزيد من توتّر الشخصية الرئيسية. وعادةً ما تظهر هذه النقطة في لحظتين رئيسيتين من القصّة، وهما نقطة الحسم الأولى بعد حوالي 37% من السرد، ونقطة الحسم الثانية بعد حوالي 62%، لكن معظم الكتّاب لا يهتمّون بهذا التفصيل.

    ○ انعطافة في الحبكة (Plot turn)، أيّ حدث أو لحظة مهمّة تغيّر مسار القصّة وتؤثّر على أهداف الشخصيات أو تحدّياتها أو عقباتها. ويُستحسن أن يكون هذا التغيير غير متوقّع، ولكن غير صادم تماما، ما يعمّق السرد ويجذب القارئ أكثر. وتعدّ انعطافات الحبكة أساسية للحفاظ على التشويق والإثارة.

    ○ الرواية القصيرة (Novella)، وهي عمل روائي متوسّط الطول والتعقيد يقع بين القصّة القصيرة والرواية. ويتراوح عدد كلمات الرواية القصيرة عادة بين عشرين ألف كلمة وأربعين ألف كلمة.

    ○ الوتيرة (Pacing)، وهي السرعة أو الإيقاع الذي تتكشّف به القصّة ويُحدِث تأثيرا على تجربة القارئ.

    ○ التدقيق اللغوي (Proofreading)، وهو المرحلة النهائية من التحرير والتي تركّز على اكتشاف الأخطاء المطبعية ومشاكل التنسيق وخلافها.

    ❉ ❉ ❉

    ❉ ❉ ❉

    ○ سطر القصّة (Logline)، وهو ملخّص من جملة واحدة لقصّة كتاب. ويُسمّى أيضا سطر القصّة. ويُستخدم هذا المصطلح بشكل خاص في صناعة الأفلام.

    ○ نداء للمغامرة (Call to adventure)، وهو عنصر سردي أساسيّ في الرواية، غالبا ما يتّسم بحدث استثنائي أو لحظة يُجبر فيها البطل على الشروع في رحلة أو مواجهة تحدّيات تعيق حياته العادية. وهذه اللحظة تشكّل محفّزا للقصّة بدفعها الشخصية خارج منطقة راحتها إلى عالم جديد مليء بالصراعات والنموّ.

    ○ نهاية مثيرة (Cliffhanger)، وهو أسلوب حبكة يترك القارئ في حالة من التشويق، ومكانه غالبا في نهاية فصل أو كتاب من عدّة أجزاء.

    ○ رحلة البطل (Hero’s Journey)، وهي بنية سردية تبرز المغامرة النموذجية لبطل ينطلق في مهمّة ويواجه تحدّيات ثم يعود في النهاية وقد مرّ بتحوّل. وتتكوّن الرحلة من عدّة مراحل توضّح تحوّل البطل من خلال تجاربه.

    ○ نقطة تحوّل منتصف القصّة (Midpoint turn)، وهي نقطة تحوّل مهمّة في الحبكة تحدث في منتصف القصّة تقريبا وتمثّل تحوّلا محوريا في السرد. وكثيرا ما تتضمّن هذه اللحظة كشفا أو حدثا رئيسيا يغيّر فهم البطل ويصعّد المخاطر ويغيّر مسار الحبكة. وتمثل هذه النقطة لحظة حاسمة تربط النصف الأوّل من القصّة بالنصف الثاني، ما يؤدّي غالبا إلى زيادة التوتّر وتطوّر الشخصية.

    ○ لحظة المرآة (Mirror moment)، وهي مشهد محوري يقع عادةً في منتصف القصّة، حيث يواجه البطل ذاته الحقيقية ويتأمّل رحلته. وغالبا ما تنطوي هذه اللحظة على إدراك أو كشف داخلي يدفع الشخصية إلى التحوّل من موقف تفاعلي إلى موقف استباقي، ما يغيّر جذريا نهجها في التعامل مع التحدّيات التي تواجهها.

    ○ إنقاذ القطّة (Save the Cat)، وهو أسلوب في سرد القصص يهدف الى مساعدة الكتّاب على صياغة سرديات شيّقة ضمن إطار منظّم. وأصل المصطلح فكرة تقول إن على البطل القيام بعمل خيري أو بطولي، كإنقاذ قطّة، في بداية القصّة كي يحبّب نفسه إلى القرّاء. وتهدف هذه الحيلة إلى خلق تعاطف مع الشخصيات، حتى لو بدت في البداية غير محبوبة.

    ○ النشر الذاتي (Self-publishing)، وهو عملية نشر وتسويق أعمال الكاتب بشكل مستقل دون الحاجة إلى دور نشر تقليدية. ويشمل ذلك التحرير وتصميم الغلاف والتوزيع والتسويق.

    ○ القارئ الحسّاس (Sensitivity reader)، وهو قارئ يقدّم ملاحظات حول التصوير الدقيق والمحترم للمجموعات المهمّشة أو غير الممثّلة في مخطوطة الكتاب او الرواية.

    ○ الإظهار مقابل السرد (Show vs. tell)، في الكتابة الروائية، يشير هذا المصطلح إلى كيفية نقل الكاتب للمعلومات والأحداث في القصّة الى القرّاء. الإظهار هو الأسلوب المفضّل، ويتضمّن استخدام لغة وصفية وأفعال وتفاصيل حسيّة وحوار يتيح للقرّاء معايشة القصّة واستخلاص استنتاجاتهم الخاصّة. فمثلا، بدلا من ذكر غضب الشخصية، قد يصف الكاتب قبضتي يدين مطبقتين أو حاجبين مقطّبين وأصوات متعالية. السرد يقدّم المعلومات مباشرة، ويستخدم غالبا عندما يكون الإظهار غير عملي أو يشتّت انتباه القارئ.

    ○ التحرير البنيوي (Structural edit)، أي مرحلة التحرير التي تتناول البنية الشاملة للرواية او القصّة ووتيرتها وخصائص شخصياتها وتطوير الحبكة.

    ○ اقتلوا أحبّاءكم (Kill your darlings)، وهي نصيحة شائعة تشجّع الكتّاب على حذف عناصر من أعمالهم، كالشخصيات والمَشاهد والعبارات التي يعجبون بها بشكل خاص، لكنها لا تخدم السرد العام. وكثيرا ما تُنسب هذه العبارة إلى الروائي الأمريكي وليام فوكنر.

    ○ الصوت (Voice)، أي الشخصية المميّزة أو أسلوب المؤلّف كما يظهر في كتاباته.

    ○ بناء العالم (World-building)، أي عملية بناء عالم خيالي، كما في روايات الخيال العلمي أو الفانتازيا.

    ○ تحرير السطر (Line editing)، وهو نوع من التحرير يركّز على تحسين تدفّق النصّ ولغته وأسلوبه على مستوى الجملة.

    ○ فريق الشارع (Street team)، وهو مجموعة من القرّاء الأوفياء المسجّلين في قائمتك البريدية أو المتّصلين بك عبر منصّات التواصل الاجتماعي، والذين يتطوّعون للترويج لإصدارك الجديد.

    Credits
    essaypro.com

    الجمعة، أغسطس 08، 2025

    رحلات باشو

    "تسافر الشهور والأيّام عبر الأبدية. وكالرحّالة، تأتي السنوات وتمضي".

    كان الشاعر الياباني ماتسو باشو (1694-1644) يشعر أحيانا بالملل من الحياة، فيقوم برحلات طويلة مشياً على الأقدام أو على ظهور الخيل بحثاً عن الإلهام، متأمّلا الطبيعة والمواقع الأثرية المشهورة. كان التجوال بالنسبة له نوعا من التطهير الروحي. ومن المرجّح أنه كان يرغب في خوض تجارب نفسية وروحية أثناء رحلاته في أنحاء البلاد كحاجّ.
    وباشو يُعتبر بإجماع كافّة النقّاد ومؤرّخي الأدب تقريبا أهمّ شاعر ياباني في جميع العصور، وإليه تُنسب أشهر قصيدة هايكو على الإطلاق والتي يقول فيها:
    "بركة قديمة
    ضفدع يقفز
    رذاذ الماء".
    وقد عُرف عن باشو تأثّره الكبير بالشعراء الصينيين الكلاسيكيين، كشاعرَي سلالة تانغ الشهيرين "لي باي" و "دو فو" اللذين كان معجبا بهما كثيرا. وكان الشعر الصيني الكلاسيكي يحمل مُثلا عُليا يُتوقّع من الشعراء أن يلتزموا بها، كالحاجة إلى فقدان الثقة بالنفس، وعدم تقبّل ما يُنظر إليه كابتذال اجتماعي، واستعداد الشاعر لمغادرة المجتمع كلّما رأى ذلك ضروريا، والتجوال بحثا عن التواصل مع معلّمي الشعر والتأمّل. ومن الواضح أن هذه المُثل كانت الدافع وراء رحلات باشو العديدة سيرا على الأقدام في أنحاء اليابان.
    "لا تتبع آثار الأوّلين
    إبحث عمّا
    بحثوا عنه".
    كان باشو بوذيّا، لكنه كان أيضا شنتويّا وكونفوشيّا وطاويّا في نفس الوقت. تعلّقه الشديد بهذا العالم جعله يتجنّب دخول الأديرة، إلا في زيارات قصيرة للتأمّل. وكان يؤمن بالجميع، ويعامل الدين باحترام بالغ. ومع ذلك، كان لديه من الشكوك ما يكفي تجاه الدين، لذا فضّل الاحتفاظ بآرائه الخاصّة. كان في الأساس شاعرا منجذبا إلى مُثل الشعراء الكلاسيكيين، لكنه كان يستمتع أيضا بحياة الرحّالة.
    "لا أحد يسافر
    على هذا الطريق إلا أنا
    هذا المساء الخريفي"
    وفي رحلاته المتعدّدة، كان باشو يرتدي زيّ الراهب، لأنه أراد أن يسافر ككاهن متجوّل، ولأن زيّه كان يحميه من اللصوص، إذ كان الكهنة معروفين بعدم حملهم أيّ ممتلكات ثمينة. ومن خلال مذكّراته عن رحلاته، خلق الشاعر عالما مثاليّا من الرهبان المتجوّلين. وكثيرا ما كان يشاد به كنموذج للشاعر المتديّن/المتجوّل. ويمكن اليوم العثور على أحجار كبيرة منقوشة بقصائده على طول الطرق التي سلكها في تجواله.
    "مرضت أثناء الرحلة
    وما زلت أتجوّل في البرّية
    في أحلامي".
    كانت رحلات الشاعر طويلة قادته إلى اثنتي عشرة مقاطعة تقع بين إيدو وكيوتو. من إيدو، اتّجه غربا على طريق رئيسي يمتدّ على طول ساحل المحيط الهادئ. مرّ بسفح جبل فوجي وعبَر عدّة أنهار كبيرة وزار أضرحة الشنتو الكبرى، ثم وصل إلى مسقط رأسه، أوينو، والتقى بأقاربه وأصدقائه.
    في كثير من الأحيان، كانت صور رياح الخريف وصراخ القردة تُستخدم بوفرة في الشعر الصيني لخلق شعور بالحزن. وبينما يواصل باشو سرد رحلته، يستشهد بالشاعر الصيني "دو مو" من القرن التاسع قائلا: كان القمر يُرى بالكاد، وكان الظلام ما يزال يخيّم على سفح الجبل. ركبوا خيولهم قبل صياح الديوك، والسياط لا تزال معلّقة على ظهورهم. عندما وصلتُ إلى جبل شياويون، تشتّتت أفكاري فجأة. ثم تذكّرتُ قصيدة دو مو "الرحيل المبكّر" التي يقول فيها:
    أتركُ السوط معلّقا، وأنا أثق في مشية الحصان. لم يعد ممكنا سماع صوت الديوك على مسافة أميال. مشينا بين الأشجار، وكنت لا أزال أحلم، وفي منتصف الحلم تساقطت عليّ الأوراق فجأة".
    ثم يصف باشو بدقّة كيفية سفره وعلاقته بالعالم الديني:
    ليس لديّ سيف في حزامي، بل حقيبة متسوّل حول عنقي، وفي يدي مسبحةٌ بها 18 خرزة. رأسي حليق ووجهي أشبه بوجه الراهب، لكني علماني. لست راهبا، لكن من يحلقون رؤوسهم يعامَلون كبوذيين ولا يُسمح لهم بدخول الأضرحة".
    كانت رحلاته مجزية. التقى باشو في الطريق بالعديد من الأصدقاء القدامى والجدد. وألّف عددا من قصائد الهايكو والرينكو عن تجاربه خلال رحلاته، بما في ذلك تلك التي جُمعت في ديوان "شمس الشتاء". كما كتب أوّل يوميات سفر له: "سجلّات هيكل عظمي معرّض للعوامل الجوّية" و"الطريق الضيّق إلى أعماق الشمال". وخلال كلّ تلك التجارب، كان باشو يتغيّر تدريجيا. في جزء من اليوميات، يظهر الهايكو التالي الذي كتبه في نهاية العام:
    "مضى عام آخر
    قبّعة سفر على رأسي
    وصنادل من القشّ على قدمي".
    في تلك الرحلة، زار باشو مسقط رأسه حيث يعيش أخوه وأخته. وهناك أراه أخوه ضفائر من شعر والدته التي توفّيت قبل ذلك بعام. وكتب باشو يقول: عدنا إلى مسقط رأسنا في سبتمبر. كان العشب مغطّى بالثلج، ولم يعد لقبر أمّي من أثر. كلّ شيء قد تغيّر. لم يستطع أخي، بشعره الأبيض وبالتجاعيد على جبينه، إلا أن يشير إلى أننا ما زلنا على قيد الحياة. ثم فتح حقيبة التذكارات وقال: إكراما لشعر أمّي الأبيض، دعونا نبكي"!
    واصل باشو ومرافق له رحلتهما، فوصلا إلى مكان يصطاد فيه الصيّادون سمك السلمون. وركبا قاربا وعبرا النهر إلى كاشيما، حيث كان معلّم باشو يعمل رئيسا لكهنة أحد المعابد. ودُعيا لقضاء الليل هناك. وهطلت الأمطار طوال الليل. لكن في الفجر، صفَت السماء قليلا، فأيقظ باشو الجميع. بالنسبة له، كان ضوء القمر المصحوب بصوت المطر تجربة روحية. لكنه شعر بخيبة أمل لأنه لم يستطع رؤية البدر. ظلّت السحب المتحرّكة تحجب المشهد، وبدا كما لو أن القمر نفسه يتحرّك بسرعة:
    "القمر يتحرّك سريعا
    بين قمم الأشجار
    وأنا أُمسكُ بالمطر"
    في عام ١٦٨٧، نشر باشو كتابا بعنوان "ملاحظات على حقيبة سفر". وهذه الفقرة منه تلخّص فلسفته جيّدا ويتحدّث فيها عن نفسه:
    بين مئات العظام وفتحات الجسم البشري التسع، هناك "راهب نزِق". إنه رقيق جدّا لدرجة أنه يمكن أن يَتلف بسهولة. لطالما أحبَّ الشعر الجامح، وهو الرذيلةٌ التي أصبحت هاجسه طوال حياته. أحيانا كان يملؤه اليأس ويحاول تجاهل كتبه المقدّسة. وأحيانا كان يشعر بفخر لبلوغه قمما سامية. كان دائما متردّدا ومفرطا في الحماس. وفي مرحلة ما، حاول تهدئة نفسه باحتمال أن يحقّق نجاحا دنيويا، لكن الشعر وضع حدّا لطموحاته".
    ويضيف: في النهاية، أدركُ أن المخرج الوحيد هو الاستمرار في الشعر. "من لا يجد في قلبه متّسعا لتفتّح الزهور! يمكن للبشر أن يصبحوا جزءا من الطبيعة. كان ذلك في بداية الشهر حين غاب القمر. كانت السماء غير مستقرّة، وكنت كورقة شجر تتقاذفها الرياح، لا أعرف إلى أين أذهب":
    "إنسان بلا مأوى
    شخص ما قد يدعوني
    أوّل مطر في الشتاء"


    عاد ماتسو باشو إلى إيدو في شتاء عام ١٦٩١. رحّب به أصدقاؤه وتلاميذه هناك، وبعضهم لم يروه لأكثر من عامين. وتضافرت جهودهم لبناء كوخ لمعلّمهم الذي تخلّى عن كوخه القديم قبيل رحلته الأخيرة. لكن في هذا الكوخ الأخير، لم يستطع باشو أن ينعم بالحياة الهادئة التي كان يرغب بها. فمن جهة، أصبح عليه الآن أن يعتني ببعض الناس. فقد جاء ابن أخ له مريض ليعيش معه. واعتنى به باشو حتى وفاته بعد ذلك بعامين.
    ثم زارته امرأة كان يعرفها في شبابه، وقد تكفّل برعايتها هي أيضا. كانت هي الأخرى في حالة صحّية سيّئة، ولديها العديد من الأطفال الصغار. وبعيدا عن هذه الانشغالات، كان باشو مشغولا للغاية، بسبب شهرته الكبيرة كشاعر. وأراد الكثيرون زيارته، أو دعوته للزيارة. في رسالة يُفترض أنها كُتبت في الشهر الثاني عشر من عام ١٦٩٣، أخبر صديقا أن يؤخّر زيارته له الى وقت آخر. وفي رسالة أخرى كُتبت في نفس الوقت تقريبا، قال بصراحة: أزعجك الآخرون، فلا تهدأ".
    وفي ذلك العام، ألّف هذا الهايكو:
    "سنة بعد سنة
    على وجه القرد
    قناع قرد".
    وتحمل هذه القصيدة مسحة مرارة غير مألوفة عند باشو. فقد كان غير راضٍ عن التقدّم الذي حقّقه. ومع تزايد مسؤولياته، أصبح تدريجيّا ينزع نحو العدمية. كان قد أصبح شاعرا متجاوزا لانشغالاته الدنيوية، لكنه الآن وجد نفسه منغمسا في شؤون الحياة بسبب شهرته الشعرية. كان الحلّ إما أن يتخلّى عن كونه شاعرا أو أن يتوقّف عن رؤية الناس تماما.
    جربّ باشو الخيار الأوّل، لكن دون جدوى. قال: حاولت التخلّي عن الشعر، والصمت. لكن في كلّ مرّة أفعل ذلك، كان شعري يتسلّل إلى قلبي فيومض شيء ما في ذهني. هذا هو سحر الشعر". لقد أصبح شاعرا أكثر من اللازم. لذا اضطرّ إلى الخيار الثاني: أن يتوقّف عن رؤية الناس تماما. وهذا ما فعله في خريف عام ١٦٩٣. "كلّما زارني الناس، ينتابني شعور مزعج بفقدان حياتي الخاصّة. الآن لا أجد ما هو أفضل من الاقتداء بـ "صن تشينغ" و"تو لانغ" اللذين انعزلا وراء أبواب مغلقة. سيصبح انعدام الصداقة صديقي والفقر ثروتي. وكرجل عنيد في الخمسين، أكتبُ لأؤدّب نفسي".
    في ذلك الوقت كتب هذه القصيدة:
    "زهرة الصباح
    في النهار
    يثبَّت مسمار
    على بوّابة الفناء الأمامي".
    من الواضح أن باشو كان يتمنّى أن يعجَب بجمال زهرة الصباح دون الحاجة إلى تثبيت مزلاج على بوّابته. ولا بدّ أن كيفية تحقيق ذلك كانت موضوع ساعات طويلة من التأمّل داخل منزله المغلق. وقد حلّ المشكلة بما يرضيه وأعاد فتح البوّابة بعد حوالي شهر من إغلاقها.
    واستند حلّ باشو هذا إلى مبدأ "الخِفّة"، الذي يمكّن الإنسان الذي انفصل عن أشغال الدنيا من العودة إلى العالم. "يعيش الإنسان وسط الوحل كمتفرّج روحي. لا ينجو من مظالم الحياة، يقف وحيدا، ويبتسم لها فحسب". وبدأ باشو الكتابة على هذا المبدأ ونصح طلّابه بتقليده.
    بعد فترة، مرض الشاعر وتساءل مجدّدا عن احتمال وفاته بعيدا عن وطنه. لكنه تعافى وواصل رحلته لرؤية جزيرة ماتسوشيما الشهيرة، والتي تُعتبر إحدى عجائب اليابان الثلاث الكبيرة. ثم توجّه إلى هيرايزومي ليشاهد آثارا تعود إلى عصر هييان. وفي موقع ساحة معركة قديمة سقط فيها قتلى، نظم باشو قصيدة قال فيها:
    "برّية من عشب الصيف
    تُخفي كل ما تبقّى
    من أحلام المحاربين".
    بعد أن استعاد باشو توازنه النفسي، بدأ يفكّر في رحلة أخرى. ربّما كان حريصا على نقل مبدأه الشعري الجديد، "الخفّة"، إلى الشعراء خارج إيدو أيضا. وهكذا، في صيف عام ١٦٩٤، سافر غربا على طول ساحل المحيط الهادئ. استراح في أوينو لفترة، ثم زار طلابه في كيوتو وفي مدينة قرب الساحل الجنوبي لبحيرة بيوا.
    عاد باشو إلى أوينو في أوائل الخريف ليستريح لشهر تقريبا. ثم غادر إلى أوساكا مع بعض الأصدقاء والأقارب، بمن فيهم ابن أخيه الأكبر. لكن صحّته كانت تتدهور بسرعة، على الرغم من أنه استمرّ في كتابة بعض القصائد الرائعة:
    "على غصن عارٍ
    يستقرّ غراب
    في شفق الخريف".
    كانت رحلة باشو تقترب من نهايتها، لكنه وصل أوّلا إلى معبد إيهيجي الشهير، حيث أراد التأمّل قبل التوجّه إلى قلعة هيغوتشي وسماع أولى صيحات إوزّ الخريف. كان القمر ساطعا جدّا في تلك الليلة، وعندما وصل إلى نُزل وسأل صاحبه إن كانت الليلة التالية ستكون بنفس السطوع، أجابه بأن ذلك مستحيل، وقدّم له بعضا من مشروب الساكي. وأراد باشو اغتنام هذه الفرصة لزيارة قبر الإمبراطور "حيث يتسلّل ضوء القمر من بين أشجار الصنوبر وتمتدّ الرمال البيضاء كالثلج أمام الحرم".
    ومن بين قصائد الهايكو التي كتبها في تلك الفترة:
    "سأموت قريبا
    وسيختفي المشهد
    بينما تستمرّ الحشرات في هسيسها".
    تشير القصيدة إلى إحساس باشو بدنوّ أجله. وبعد ذلك بوقت قصير، اضطجع على فراشه بسبب المرض. وسارع العديد من أتباعه إلى أوساكا وتجمّعوا حول سريره. ويبدو أنه حافظ على هدوئه في أيّامه الأخيرة. كان يعلم تماما أن الوقت قد حان للصلاة، لا لكتابة الشعر. ومع ذلك كان يفكّر في الشعر ليل نهار. أصبح الآن هاجسا، "تعلّقا آثما"، كما كان يسمّيه هو نفسه.
    توفّي باشو في سنّ مبكّرة نسبيّا، عن عمر ناهز الخمسين. وكان من الممكن أن يعيش أطول لو اعتنى بنفسه بشكل أفضل. وكانت قصيدته الأخيرة:
    "أصبت بالمرض أثناء رحلتي
    ولا تزال أحلامي تتجوّل
    لكن في حقول ذابلة".

    Credits
    matsuobashohaiku.home.blog

    الاثنين، أغسطس 04، 2025

    قصّة صعود الكومانتشي وأفولهم


    كانت الكومانتشي أقوى قبيلة هندية في التاريخ الأمريكي على الإطلاق. وعُرف عن محاربيها براعتهم في القتال بالخيل، لدرجة أنهم سيطروا على مناطق شاسعة في وجه الزحف الإسباني والمكسيكي والتكساسي، رغم قلّة عددهم وعتادهم. وفي أوج مجدهم، بلغ عدد الكومانتشي عشرات الآلاف وكوّنوا قوّة عسكرية ضاربة. لكن عددهم لم يتزايد قط، لأن نمط حياتهم المتنقّل والعنيف أدّى إلى انخفاض معدّلات المواليد وارتفاع معدّلات الوفيات بينهم بسبب خسائر الحرب.
    في كتابه "إمبراطورية قمر الصيف"، يروي الكاتب سام غوين الأبعاد المتعدّدة لثقافة محاربي الكومانتشي وصدامهم مع المستوطنين الأوربيين الساعين للاستيلاء على تكساس. وتبدأ القصّة بوصف لإحدى الغارات المبكّرة التي شنّها الكومانتشي على المستوطنين على الحدود في ثلاثينات القرن التاسع عشر. ثم يتتبّع الكاتب الحرب المستمرّة بين الثقافات الأنغلوساكسونية في تكساس، وصولا إلى جهود الحكومة الفيدرالية الأمريكية لترويض الكومانتشي.
    وفي الكتاب أيضا نتعرّف على عدد من الشخصيات الرائعة على جانبي هذا الصراع، ونشعر بالفزع من كمية العنف والوحشية من الطرفين. ثم نرى، على مدى عقود من الزمن، كيف تطوّرت النهاية الحتمية لهذه الحرب إلى الهيمنة النهائية للثقافة الأمريكية البيضاء على عالم الكومانتشي في تكساس وفي أجزاء من أوكلاهوما ونيو مكسيكو وكانساس.
    في بداية الكتاب، يشرح غوين كيف برز الكومانتشي بين قبائل الأمريكيين الأصليين في أواخر القرنين السابع عشر والثامن عشر، حيث صارت الخيول الإسبانية الهاربة جزءا من المشهد الأمريكي، وأصبح الكومانتشي في نهاية المطاف أفضل محاربي العالم على ظهور الخيل وأمهر من استخدم الأقواس والسهام في المعارك.
    الخيول هي المكوّن الرئيسي لقصّة الكومانتشي، وقد شبّههم بعض المؤرّخين بـ "شعوب الخيول" الأخرى مثل المغول والتتّار والهنغاريين. وقارن بعض علماء الإثنوغرافيا والأنثروبولوجيا هذا الشعب المحارب بثقافة اسبارطا القديمة أو الكِلت والفايكنغ.
    ويجادل المؤلّف بأن سرّ نجاح الكومانتشي يكمن في كونهم من بين أمهر الفرسان في تاريخ العالم. لم تكن لديهم فنون أو طقوس القبائل الأمريكية الأصلية الأخرى، بل كانوا يركّزون على تعلّم ركوب الخيل ورمي الأقواس وصيد الجاموس وقتل الأعداء.
    ومن خلال مهاراتهم الحربية، طوّر الكومانتشي ثقافة بدوية مبنيّة على الشجاعة في القتال. ولأكثر من قرن، سيطروا على القبائل الأخرى في السهول الجنوبية ودمّروا أكثرها. ولم يكن المحاربون الأوربيون من الإسبان والأمريكيين، المدرّبين على القتال سيراً على الأقدام بمسدّساتهم وبنادقهم، ندّا لهم.
    كانت الحياة في قرى الكومانتشي، المخيّمين على ضفاف الجداول أو في الأودية أو قرب الأنهار، مثالية. وعندما كان البيض يهاجمون تلك القرى، كان رجال الكومانتشي يقاتلون بشراسة لصدّ الهجوم أو تحويل مساره للسماح لكبار السنّ والنساء والأطفال بالفرار.
    وكان لنشوب الحرب الأهلية الأمريكية تأثير كبير على الحرب التي كانت تُخاض ضدّ الكومانتشي. وعندما انفصلت تكساس عن الاتحاد، أصبحت جزءا من الكونفيدرالية. وكانت الحكومة الكونفيدرالية منشغلة بقتال اليانكيين، فلم تُولِ اهتماما لمحاربة الكومانتشي. وهكذا ظنّ الكومانتشي أنهم سيتنفّسون الصعداء أخيرا، واعتقدوا أن الحرب قد انقلبت لصالحهم، ولو إلى حين.
    وفي عام 1869، اكتمل بناء خطّ السكّة الحديد عبر القارّة، الذي يربط الشرق الصناعي بالغرب النامي. ولم يتبقَّ سوى عقبة واحدة هي القبائل الهندية التي تقطن السهول الكبرى.
    وبعد بضع سنوات، بدأت عوامل عدّة تتجمّع لتعلن نهاية سيطرة الكومانتشي، كظهور المسدّس السريع الطلقات والبندقية والتزايد المستمر في أعداد المستوطنين الأوربيين الذين انتقلوا إلى تكساس، والذي تزامن تقريبا مع موت الكثير من الكومانتشي بسبب تفشّي أمراض الحصبة والجدري والكوليرا. كما أدّى القتل السريع لقطعان الجاموس على أيدي الصيّادين البيض إلى زيادة صعوبة الصيد والعثور على الغذاء بالنسبة للهنود.
    ثم ظهر قادة عسكريون بيض تعلّموا أساليب الكومانتشي واستخدموها ضدّهم وواجهوا تكتيكاتهم بتكتيكات مضادّة وفعّالة. وأخذ الجنرال شيريدان والعقيد ماكنزي وغيرهما من المحاربين ذوي الخبرة والانضباط على عاتقهم بذل كلّ ما في وسعهم لإخضاع الكومانتشي. وبحلول عام ١٨٧٥، كان معظمهم ممّن لم يُقتلوا أو لم يكونوا في محميات عسكرية، قد استسلموا.
    النصف الثاني من كتاب سام غوين مخصّص لسرد قصّة زعيم الكومانتشي كوانا باركر ووالدته البيضاء المخطوفة سينثيا آن باركر المتحدّرة من إحدى أبرز العائلات المرموقة في تكساس. وقصّة هاتين الشخصيتين مثيرة وتستحقّ أن تُروى. فقد اختُطفت سينثيا آن في مايو عام 1836 في غارة للكومانتشي على بلدتهم. وتبنّتها القبيلة وهي طفلة وأصبحت في النهاية زوجة لزعيم.
    ثم أنجبت المرأة ابنها كوانا باركر الذي برزت صورته أكثر مع نضوجه وتحوّله إلى محارب شجاع يكره الأوربيين لقتلهم والده، وليصبح في النهاية زعيما لأكثر قبائل الكومانتشي بأساً واستقلالية. وقد رفضت والدته مرارا العودة إلى المجتمع الأبيض. وبعد أن استردّتها عائلتها، واصلت محاولات الفرار الى أن عادت أخيرا إلى الشعب الذي أحبّته.
    كان كوانا باركر من بين آخر الكومانتشي الأحرار، لكنه اضطرّ أخيرا إلى الاستسلام عام ١٨٧٥. وبعد ذلك، بدأ حياة جديدة كشخصية مشهورة، حيث عاش في منزل ضخم على الطراز الأمريكي مع العديد من زوجاته وأطفاله وأصبح مربّي ماشية وارتدى بدلة وحافظ على شعره طويلا على طريقة الكومانتشي، واستضاف جنودا ورؤساء أمريكيين مثل ثيودور روزيفلت وكسب ثم خسر ثروة صغيرة.


    قصّة كوانا باركر هي حلم أيّ روائي، فقد عاش في فترة انتقالية مهمّة وعنيفة. كان قد ولد في السهول مع حرّية شبه مطلقة، وفي النهاية مات في منزل ضخم من طابقين في أوائل القرن العشرين؛ في عصر السيّارات والطائرات. كان مناضلا من أجل الحرّية، لكن عندما رأى أن اللعبة انتهت، تحوّل بمرونة وسايرَ التيّار.
    وقد عاش كوانا ووالدته على المناطق الحدودية، متداخلَين بين عرقين وثقافتين ومسارين مختلفين تماما. كانت مصائب سينثيا آن شكسبيرية الطابع، في حين تمكّن ابنها بطريقة ما من لملمة ذاته المتشظيّة، ليعيش كـ كومانتشي وأمريكي وينجح في كلا العالَمين.
    قصّة صعود وأفول الكومانتشي، كما يرويها هذا الكتاب، مثيرة ومكتوبة بشكل جيّد. لكن يجب على المرء أن يكون على استعداد لقراءة ومواجهة مظاهر العنف والوحشية المتجاوزة التي فتحت الغرب الأمريكي أمام المستوطنين والقيم الأوروبية.
    وربّما يمتعض القارئ من استخدام الكتاب أحيانا لمفردة "متوحّشين" لوصف الكومانتشي، لكن قد يكون المقصود أنهم كانوا يقاتلون بشراسة، أو ربّما استخدمَ هذه الكلمة في سياق نظرة أعدائهم إليهم. ومع ذلك فالطبيعة البشرية عموما متوحّشة وقاسية حتى في أكثر المجتمعات المسمّاة "متحضّرة".
    ومن منظور أوسع، يطرح كتاب "إمبراطورية قمر الصيف" حجّة ذات دلالات سياسية. فعند مناقشة الاستعمار الأوربّي للسكّان الأصليين في أيّ مكان في العالم، يمكن أن يثار جدل حادّ حول الحجج الأخلاقية. وإحداها هي أن الأوروبيين اجتاحوا العالم لأنهم أعلى ثقافة وحرّية من الشعوب المستعمَرة، وما إلى ذلك.
    وترى حجّة أخرى أن المستعمرين الأوروبّيين لم يكونوا يتميّزون بالتفوّق الثقافي، بل بكونهم غزاة استغلوا السكّان الأصليين وخدعوهم وارتكبوا بحقّهم مجازر وحشية واتبعوا أساليب ملتوية ولا أخلاقية، مثل خرق المعاهدات والحرب البيولوجية "أي نشر فيروسات الأمراض القاتلة".
    وغوين يتبنّى وجهة نظر ثالثة، وهي أننا "كلّنا بشر" والشرّ لا يختصّ شعبا أو أمّة دون غيرها. فهو مثلا يعترف بالوحشية والخداع والعنصرية وارتكاب المجازر التي غالبا ما تَعاملَ بهما الأوربيون على الحدود مع الأمريكيين الأصليين. لكنه يجادل بأن الكومانتشي كانوا بنفس وحشية التكساسيين أو الأمريكيين أو الإسبان. ويضيف أن قصص الكومانتشي الذين يذبحون أهل القرى ويغتصبون النساء ويسلخون فروة الرأس لم تكن أساطير بل حقائق.
    وفي ذروة الحروب بين الكومانتشي والتكساسيين والأمريكيين، انخرط كلا الجانبين في عنف متطرّف ضدّ المدنيين، ووُظّف كشكل من أشكال الحرب النفسية. ومن خلال بثّ الرعب في نفوس المستوطنين الأمريكيين، شكّل الكومانتشي عامل ردع قويّ للاستقرار على حدود تكساس. ومن خلال تدمير قرى الكومانتشي، تمكّن الجنود الأميركيون في نهاية المطاف من شلّ قدرة هذا الشعب على مواصلة مقاومتهم.
    غير أن الكتاب يتضمّن فقرات قد تُشتمّ منها رائحة العنصرية كمثل قول المؤلّف: كان الصدام المصيري بين المستوطنين من ثقافة أرسطو والقدّيس بولس ودافنشي ولوثر ونيوتن وبين فرسان السكّان الأصليين من سهول الجاموس، كما لو أن الأوّلين كانوا ينظرون إلى الوراء آلاف السنين إلى نسخ من أنفسهم في فترة ما قبل المسيحية وما قبل الأخلاق والبربرية المقيتة."
    ومثل قوله: كان جعل الناس يصرخون من الألم أمرا مثيرا ومجزيا بالنسبة للكومانتشي، تماما كما كان تعذيب الضفادع أو نزع أرجل الجنادب أمرا مثيرا ومجزيا للفتيان الصغار في أمريكا الحديثة. ويُفترض أن الفتيان يكبرون ويتجاوزون ذلك، أما بالنسبة للهنود فقد كان جزءا مهمّا من ثقافتهم الراشدة، وهو جزء تقبّلوه دون اعتراض."
    وشبيه بهذه الملاحظة قول أندرو جاكسون عام ١٨٣٣: لقد تأكّدت قناعاتي على مدى سنوات عديدة بأن هذه القبائل "الهندية" لا تستطيع البقاء محاطةً بمستوطناتنا وعلى اتصال دائم بمواطنينا. فهي لا تمتلك الذكاء ولا الجدّية ولا العادات الأخلاقية ولا الرغبة في تطوير نفسها، وهي أمور أساسية لأيّ تغيير إيجابي في وضعها. ولأنها نشأت وسط عرق آخر متفوّق دون أن تدرك أسباب دونيّتها أو تسعى للتخلّص منها، فإنها ستخضع بالضرورة لسطوة الظروف وسرعان ما تختفي."
    بعض النقّاد أشادوا بهذا الكتاب لـ "عدم تردّده في مواجهة العنف المتأصّل في الكومانتشي"، في حين أن بعض المؤرّخين يتجنّبون ذكر الأفعال غير الأخلاقية للقبائل الهندية من أجل الحفاظ على فكرة المتوحّش النبيل. وهناك روايات مفصّلة عن أساليب التعذيب التي اتبعها رجال الكومانتشي. فقد كان قطع أصابع القدمين واليدين والأعضاء التناسلية للإسبان والأمريكيين وغيرهم من رجال الحدود، وحشوها في أفواه أصحابها ممارسة شائعة بينهم. وكان ترك الجمر الساخن يحرق بطون الأسرى أسلوب تعذيب آخر كثيرا ما لجأوا الى تطبيقه.
    وكان من الشائع أن يُقتل جميع الرجال البيض وتُسلخ جلودهم، بينما عانى بعض الأسرى الأحياء من موت أبطأ وأكثر إيلاما. وتعرّضت النساء الأسيرات للاغتصاب الجماعي، وعُذّب الكثيرات منهن وقُتلن. وغالبا ما كان الكومانتشي يتبنّون الأطفال قبل سنّ المراهقة أو يقايضون بهم قبائل أخرى.
    لكن المؤلّف لا يقول إن هذه الممارسات ظهرت فقط بعد أن جاء الأوروبيون وجلبوا معهم الحرب للاستيلاء على أراضي السكّان الأصليين. والحقيقة أن الحرب بين القبائل الهندية نفسها لم تكن أبدا بلا دماء، ولم تكن نظيفة أو نبيلة، بل كانت دائما تافهة ووحشية.
    وعلى الرغم من أن غوين يستخدم مصطلح "الإمبراطورية" بشكل فضفاض، إلا أن الكومانتشي كانوا "إمبراطورية" بالمعنى الحرفي للكلمة. فقد جاءوا من وايومنغ وهاجروا ببطء نحو الجنوب. وظلّوا لفترة طويلة تحت رحمة القبائل الأخرى، الى أن وصل الإسبان وخيولهم إلى المشهد في مفارقة مريرة.
    وبتكييفهم الرائع للخيول مع نمط حياتهم، نما الكومانتشي ليصبحوا قوّة عسكرية وسياسية ضاربة. وكادوا يبيدون بعض القبائل الأخرى مثل الأباتشي والتونكاوا، وأبرموا معاهدات مع قبائل أخرى وعزّزوا ممتلكاتهم في أرض محدّدة عُرفت باسم "كومانتشيريا"، شملت أجزاء من تكساس ونيومكسيكو وكولورادو وأوكلاهوما وكانساس الحالية.
    ومن الواضح أن نهاية هذا الكتاب لم تكن احتفالا بانتصار الولايات المتحدة، بل على العكس، بدا كأن الكاتب يشعر بالحزن لاندثار ثقافة الكومانتشي وخسارتهم لأرضهم. ويقول: كانوا محاربين شرسين دافعوا عن أرضهم لسنوات طوال في وجه قوّة ساحقة. ولولا الأسلحة الحديثة لما استطاعت الحكومة الاتحادية إلحاق الهزيمة بهم".
    ورغم أن الكتاب دقيق تاريخيّا في معظمه وموضوعيّ إلى حدّ ما ومتعاطف بالتأكيد مع تاريخ شعب الكومانتشي في القرن التاسع عشر، إلا أنه لا يجب أن ننسى في النهاية أنه كُتب من منظور أنغلو أمريكي. ورغم بعض الانتقادات، إلا أنه يمكن اعتبار الكتاب نافذة على حقبة تاريخية مهمّة وعلى شعب فريد من نوعه، حيث يواكب صعودهم إلى ذروة قوّتهم المذهلة ثم سقوطهم في براثن الفقر على مدار نصف قرن، قبل أن يُباد أكثرهم وتختفي ثقافتهم.

    Credits
    bobsbeenreading.com
    dhmontgomery.com

    الاثنين، يوليو 21، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • في كلّ ثقافة من ثقافات العالم، هناك أسطورة أو أكثر تشرح كيفية خلق الأرض ونشأة الإنسان. وكثيرا ما تتضمّن تلك الأساطير قوى طبيعية أو كائنات خارقة للطبيعة أو آلهة، وما إلى ذلك. وغالبا ما تشرح الأساطير كيف نشأت الحياة على الأرض، بما في ذلك النباتات والحيوانات والبشر.
    "الأرض" في لغة هنود أمريكا الجنوبية هي "باتشاماما"، وفي الأساطير اليونانية "غايا"، و"تيرا ماتر" في أساطير روما، و"ماهيماتا" في الفيدا الهندوسية، و"يوربان مودور" عند الشعوب الجرمانية والشمالية. والأرض عالمية، تتجاوز الجنسيات والعصور، كما أنها أساس كلّ شيء: الكائنات الحيّة والحياة النباتية والمعادن والملابس والتكنولوجيا والغذاء.
    عبارة "أمّنا الأرض" التي صارت شائعة ومستخدمة على نطاق واسع اليوم مستوحاة من ثقافة السكّان الأصليين في أمريكا الشمالية، وبالتحديد من خطاب ألقاه الزعيم الهنديّ الأحمر "سياتل" عام 1854 خلال لقائه مع الرئيس الأمريكي آنذاك فرانكلين بيرس لمناقشة بيع أراضي الهنود الحمر للمستوطنين البيض. وقد جسّد وصفه ذاك جوهر العلاقة المتميّزة التي حافظ عليها سكّان القارّة الأوائل مع الطبيعة.
    تذكر إحدى أساطير الهنود الحمر أنه في البدء، كان كوكبنا لا يحتوي الا على ماء فقط، بالإضافة إلى الحيوانات التي تعيش فيه. ثم سقطت امرأة من فجوة في السماء. كانت "امرأة إلهية" مليئة بالقوّة. ورأى غوّاصان كانا يعومان في المياه القريبة سقوطها، فشكّلا بجسديهما وسادة هبطت عليها. ثم رفعاها وصرخا طلبا للمساعدة.
    وأمكن سماع صراخهما من مسافة بعيدة وهما يناديان حيوانات أخرى لتأتي. وجاءت جميع الحيوانات للمساعدة في إنقاذ حياة المرأة. وقرّر الجميع أنها بحاجة إلى أرض ترابية لتعيش عليها. وقالت السلحفاة: سأغوص في الماء لأحضر بعض التراب". وهكذا فعلت بقيّة الحيوانات. غاص قندس ثم فأر مِسْكي، وبقيا مع آخرين تحت الماء يبحثون عن تراب لفترة طويلة. وفي كلّ مرّة، كانت السلحفاة تنظر داخل أفواههم عندما يصعدون، لكنها لا تجد أيّ تراب.
    وغاص الضفدع تحت الماء ومكث طويلا، وأوشك أن يموت. لكن عندما نظرت السلحفاة داخل فمه، وجدت مسحة صغيرة من التراب. فأخذتها المرأة ووضعتها حول صدفة السلحفاة. وكانت تلك بداية الأرض؛ الأمّ العظيمة التي انبثقت منها كافّة أنواع الحياة، بحسب الأسطورة.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • اقتباسات..
    ◦ أعتقد أن العيش دون معرفة هو أفضل من امتلاك إجابات قد تكون خاطئة. لديّ إجابات تقريبية ومعتقدات محتملة ودرجات متفاوتة من عدم اليقين بشأن أمور مختلفة، لكنني لست متأكّدا تماما من أيّ شيء، وهناك أمور كثيرة لا أعرف عنها شيئا، مثل مدى أهمية السؤال عن سبب وجودنا هنا. لستُ مضطرّا لمعرفة إجابة. ولا أشعر بالخوف من جهلي بالأمور أو من ضياعي في عالم غامض بلا غاية، وهذا هو الواقع على حدّ علمي. ريتشارد فاينمان

    ◦ حريّة الذئاب غالبا ما تعني الموت للخِراف. ايسايا "اشعيا" برلين

    ◦ لم أكتشف شيئا بنفسي قط إلا بالصدفة. وعندما قابلتُ الكاتب إيساك أزيموف لأوّل مرّة، سألته إن كان أستاذا في جامعة بوسطن. قال: لا". وسألني من أين حصلتُ على درجة الدكتوراه. فقلتُ له ليس لديّ دكتوراه". فبدا عليه الذهول. وقال: أتعني أنك في نفس الموقف الذي أنا فيه؟ أنت فقط تقرأ كتب الأساتذة وتعيد كتابتها"؟! قلت له: نعم، هذا ما أفعله حقّا". مارتن غاردنر

    ◦ هناك جمال رمزي وحقيقي في هجرة الطيور وفي مدّ وجزر المياه وفي براعم الربيع المتفتّحة. هناك شفاء لا حدود له في ترانيم الطبيعة المتكرّرة، اليقين بأن الفجر يأتي بعد الليل والربيع بعد الشتاء. ريتشيل كارسون

    ◦ سأشرح لك الآن أهمّ شيء في الحياة. لا تطارد الوهم، أي التملّك والجاه، أي كلّ ما يُكتسب على حساب أعصابك لسنوات ثم يُصادَر منك بين عشيّة وضحاها. تفوّق على الحياة. لا تخشَ الشقاء، ولا تبحث عن السعادة؛ فالأمر في النهاية سواء: المُرّ لا يدوم والحلو لا يفيض.
    يكفي ألا تتجمّد من البرد، وألا يخدش العطش والجوع أحشاءك. إن لم يكن ظهرك مكسورا، وقدماك ما تزالان تمشيان، وذراعاك يتحرّكان، وعيناك تبصران، وأذناك تسمعان، فمن تحسد؟! ولماذا؟! إنّ حسدَنا للآخرين يلتهمنا أكثر من أيّ شيء آخر. اُفرك عينيك وطهّر قلبك، وقدّر فوق كلّ شيء من يحبّونك ويتمنّون لك الخير في هذه الدنيا. لا تؤذِهم ولا تعنّفهم ولا تفارق أيّا منهم بغضب. ألكسندر سولجينتسين

    ◦ لا يمكن للرجل أن يجرّب الوحدة التي تشعر بها المرأة. يرقد الرجل وهو جنين في رحم المرأة ليستجمع قوّته، يتغذّى من هذا الاندماج، ثم ينهض وينطلق إلى العالم، إلى معركة الحياة وإلى الفن. إنه ليس وحيدا، إنه مشغول. ذكرى السباحة في السائل الأمينوسي تمنحه الطاقة والاكتمال. قد تكون المرأة مشغولة أيضا، لكنها تشعر بالفراغ. الحسّية بالنسبة لها ليست مجرّد موجة من اللذّة تغمرها أو شحنة من الفرح الغامر عند ملامسة الآخر. عندما يرقد الرجل في رحمها، تشعر بالاكتمال، كلّ فعل حبّ هو تجسيد للرجل في داخلها، فعل ولادة وتجدّد، تربية وإنجاب. أناييس نين

    ◦ علامة الرجل غير الناضج أنه يريد أن يموت بنبل من أجل قضيّة. وعلامة الرجل الناضج أنه يريد أن يعيش بتواضع من أجل قضية. جيمس سالينغر

    ◦ لديّ نظرية مفادها أن لاس فيغاس ستكون المدينة الوحيدة التي سيجدها علماء الآثار في المستقبل. سيحافظ مناخها الجافّ عليها بالكامل، وستقوم فرق من العلماء في عام 5000 بكنس الرمال وإزالتها بعناية للعثور على أهرامات وقلاع ونسخ طبق الأصل من برج إيفل وأفق مدينة نيويورك وبطاقات القمار.
    وسيعيد علماء الآثار بناء ثقافتنا بأكملها بناءً على هذه المدينة الصغيرة السطحية والمتشائمة. يمكننا أن نشكو ما نشاء من أن هذه المدينة لا تمثّلنا. يمكننا أن نقول: نعم، نكره لاس فيغاس. حسنا، أنا متأكّد من أن ليس كلّ الرومان استمتعوا بحفلات التعذيب في الكولوسيوم أيضا، ولكنْ هذا هو الواقع. جيمس والتر

    ◦ إن محاولة رؤية متحف اللوفر بأكمله في يوم واحد تشبه محاولة قراءة رواية "الحرب والسلام" أثناء استراحة القهوة. مجهول

    ◦ عندما نريد أن نفعل شيئا ما، ونحن على يقين من فشله، فإننا نطلب النصيحة من غيرنا حتى نتمكّن من إلقاء اللوم على شخص آخر بسبب الفشل. نسيم طالب

    ◦ ما يحدث في هذا البلد هو أن السكّان الأصليين، قصصهم ووجودهم، قد اختفت تقريبا من التاريخ الأمريكي، لأنه إذا كان صحيحا أننا ما زلنا هنا، وإذا كان صحيحا أن ما حدث كان - كما تعلمون - سرقة كبرى ومذبحة، فهناك خلل جوهري في القصّة يحتاج إلى إصلاح. الأمر الآخر هو أننا هنا، لكن لا يتعرّفون علينا إلا إذا كنّا تمائم أو نرتدي ملابسنا التقليدية.
    الكثير من صور الأمريكيين الأصليين مستوحاة من حكايات خرافية أو من عروض الغرب الأمريكي المتوحّش. نحن بشر ولسنا مجرّد أشخاص خُلقوا لعوالم خيالية. وليس هناك أمريكي أصلي واحد فقط، نحن متنوّعون من حيث المجتمع والأرض واللغة والثقافة. في الواقع، هناك 573 أمّة قبلية. جوي هارغو

    ◦ هناك دائما في الشعر ما لا يُدرك أو يُوصف؛ ما ينجو من اهتمامنا المُلحّ ونظرياتنا النقدية وجدالاتنا الليلية. القصائد كالأحلام، تضع فيها ما لا تعرف أنك تعرفه. وكلّ قصيدة حقيقية هي كسر لصمت قائم. أدريان ريتش

    ◦ لقد سُنّ القانون من أجل شيء واحد فقط، هو استغلال أولئك الذين لا يفهمونه، أو الذين يمنعهم البؤس العاري من الامتثال له. برتولد بريشت

  • Credits
    creationmyths.org

    الخميس، يوليو 17، 2025

    قراءات


  • في داخلنا، حتى أكثرنا مرحا وبهجة، داء أصيل؛ نار لا تنطفئ تجعل الغالبية العظمى منّا عاجزين عن بلوغ السلام التام في هذه الحياة. إنه "التوق" المتجذّر في نخاع عظامنا وفي أعماق أرواحنا. وكلّ الأدبيات العظيمة والشعر والفنّ والفلسفة وعلم النفس والدين تحاول تسمية هذا التوق وتحليله.
    ونادرا ما نكون على تماسٍّ مباشر معه، بل يبدو أن العالم الحديث مصمّم على منعنا من التواصل معه بتغطيته بوهم لا ينتهي من التسلية والهواجس والإدمان ومشتّتات الانتباه من كلّ نوع. لكن التوق موجود ومتأصّل فينا كرغبة تضغط من أجل أن تتحرّر. وتوحي لوحتان فنّيتان عظيمتان بهذا التوق في عنوانيهما: لوحة غوغان "من نحن؟ من أين أتينا؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟" ولوحة دي تشيريكو "حنين إلى اللانهائي". وسواءً أدركتَ ذلك أم لا، فإن مجرّد كونك إنسانا يعني التوق إلى التحرّر من الوجود الدنيوي بجدرانه وقيوده. هيوستن سميث
  • ❉ ❉ ❉

  • سكّان أمريكا الأصليون، الذين أُعجب هنري ثورو بحكمتهم، يعتبرون الأرض مصدرا مقدّسا للطاقة. وبالنسبة لهم، التمدّد على الأرض يجلب الراحة والجلوس عليها يضمن حكمة أكبر في المجالس والمشي على جاذبيتها يمنح القوّة والتحمّل. والأرض مصدر لا ينضب من القوّة، فهي الأمّ الأصلية المُغذِّية، لأنها تضمّ في حضنها جميع الأسلاف الراحلين. وهكذا، بدلا من مدّ أيديهم نحو السماء طالبين رحمة الآلهة السماوية، يفضّل الهنود الحمر المشي حفاةَ على الأرض.
    كان شعب لاكوتا متعريّا حقيقيّا وعاشقا للطبيعة على الدوام، يحبّ الأرض وكلّ ما فيها، ويزداد تعلّقه بها مع التقدّم في العمر. وقد أحبّ كبار السنّ التراب حرفيّا، فبجلوسهم أو استلقائهم على الأرض يشعرون بقربهم من قوّة الأمومة. وكانوا يحبّون خلع أحذيتهم والمشي حفاةً بأقدامهم على الأرض المقدّسة. وقد بُنيت خيامهم على الأرض، وصُنعت مذابحهم من التراب. وكان لتراب الأرض عندهم خصائص مهدّئة ومقوّية ومطهّرة وشفائية.
    ولا يزال الهنديّ العجوز يجلس على الأرض مباشرة بدلا من الارتفاع فوقها. فالجلوس على الأرض يعني القدرة على التفكير بعمق أكبر والشعور أكثر بأسرار الحياة والاقتراب من الحيوانات الأخرى من حوله. والمشي، بفضل دعم الأرض والشعور بجاذبيتها وملامستها مع كلّ خطوة، هو بحدّ ذاته تفريغ للمشاعر الضارّة وجلب للطاقة الإيجابية. فريدريك غروس
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • "حرب نهاية العالم" هي روايتي التي بذلت فيها أكبر جهد ممكن وكرّست لها كلّ وقتي. وقد استغرقت كتابتها أربع سنوات. واضطررت لإجراء بحث مكثّف وقراءة معمّقة وتخطّي صعوبات جمّة، لأنّها كانت أوّل مرّة أكتب فيها عن بلد غير بلدي وأعمل مع شخصيات تتحدّث بلغة غير لغة الكتاب. هذه الرواية أصبحت تحدّيا مرعبا لي وعزمت على التغلّب عليه. في البداية، كنت قلقا للغاية. جعلتني الكميّة الهائلة من موادّ البحث أشعر بالدوار. كانت مسوّدتي الأولى ضخمة، حوالي ضعف حجم الرواية. وسألت نفسي كيف سأنسّق كلّ هذه المشاهد وآلاف القصص القصيرة.
    ولمدّة عامين، عانيت من القلق والحيرة. لم أكن أعرف شيئا عن حرب كانودوس، بل لم أكن قد سمعت عنها من قبل. وكان أحد أوّل الأشياء التي قرأتها عنها باللغة البرتغالية هو كتاب "اوس سيرتوس" أو "تمرّد في المناطق النائية" للكاتب البرازيلي يوكليدس دا كونيا. كان هذا الكتاب أحد الاكتشافات العظيمة في حياتي كقارئ، وهو لا يقلّ أهميّة عن قراءة "الفرسان الثلاثة" في صباي، أو "الحرب والسلام" و"مدام بوفاري" و"موبي ديك" بعد أن كبرت.
    أذهلني تماما ذلك الكتاب، إنه أحد أعظم الأعمال التي أنتجتها أمريكا اللاتينية. بقراءته تكتشف لأوّل مرّة ما لم تكن تعرفه عن ذلك الجزء من العالم. فأمريكا اللاتينية ليست مجموع وارداتها، وليست أمريكا ما قبل الإسبان أو المجتمعات الأصلية، ولكنها مزيج من هذه العناصر التي تتعايش بطريقة قاسية وأحيانا عنيفة. مأساة أمريكا اللاتينية هي أنه في مراحل مختلفة من التاريخ، وجدت بلداننا نفسها منقسمة وفي خضمّ حروب أهلية وقمع ومجازر جماعية مثل تلك التي وقعت في كانودوس. التعصّب وعدم التسامح يُثقلان كاهل تاريخنا. لذا فإن الرجل الذي أدين له حقّا بالفضل في تحفيزي لكتابة "حرب نهاية العالم"هو يوكليدس دا كونيا. ماريو فارغاس يوسا
  • ❉ ❉ ❉

  • في أعماق الطرف البعيد من الذراع الحلزوني الغربي للمجرّة، تقع شمس صفراء صغيرة لا تُرى. يدور حولها، على مسافة تقارب اثنين وتسعين مليون ميل، كوكب صغير أزرق مخضر وتافه للغاية، أشكال الحياة فيه، المنحدرة من القردة، بدائية للغاية لدرجة أنهم ما زالوا يعتقدون أن الساعات الرقمية فكرة رائعة. دوغلاس آدامز
  • ❉ ❉ ❉

  • في بعض الأحيان، عندما تعيش حياة طرفية على حافّة هذه البريّة المسمّاة الحياة، يمكنك أن تعود إلى العالم، هذا إن عدت على الإطلاق، ومعك بعض الجواهر من تلك التجربة التي قد يجدها الناس مفيدة. في شبابي، بحثت عن المعنى دون وعي، ممسكا بشذرات من المعرفة، كما تُمسك بعض أنواع الطيور بالأشياء البرّاقة لبناء أعشاشها. وبعد 30 عاما من الدراسة في مجالات الفيزياء واللاهوت والأحياء والفلسفة والأنثروبولوجيا وعلم النفس وعلم الآثار وغيرها، توصّلت إلى بعض الاستنتاجات حول طبيعة الكون ومكاننا فيه.
    لا أؤمن بوجود رجال صالحين أو أشرار. أؤمن بأن أفعالنا هي الخير والشر، وليس الرجال والنساء الذين يرتكبونها. أفضلنا قد يفعل الشر، وأسوأنا قد يفعل الخير. عرفت رجال مافيا تولّوا مسؤولية إطعام الفقراء في مناطقهم، وعرفت رجال شرطة كانوا قساة بلا رحمة. نحن البشر حيوانات قادرة على فعل الخير أو الشر. وكلّنا نفعل الأمرين، بدرجة أو بأخرى.
    رجال المافيا الذين عرفتهم في الثمانينات كانوا في الغالب رجالا شرفاء. أعلم أن هذا يبدو غريبا ومتناقضا لمن لم يعيشوا في ذلك العالم قط، لكنها حقيقة تجربتي. عاش رجال العصابات من المدرسة القديمة وفقا لقواعد شرف صارمة، وكانوا دقيقين للغاية في الالتزام بها. ولم أرَ في حياتي رجل مافيا يرفع يده على امرأة أو طفل، ولم أعرف قط من نقضَ وعده لي أو تخلّى عنّي في وقت الشِدّة. غريغوري روبرتس
  • ❉ ❉ ❉

  • بالنسبة لليونانيين الأوائل، كانت القوقاز نهاية العالم، وليس وراءها سوى مجرى المحيط. ويصفها إسخيلوس في مسرحيته "بروميثيوس المقيّد"بأن فيها أعلى الجبال، ويتحدّث عن "قممها المجاورة للنجوم". هنا يصوَّر سارق النار مقيّدا إلى صخرة بينما نسر يتربّص به. ويذكر هيرودوت أن هذه القمم أعلى من أيّ قمم جبال أخرى. ولم يتجاوزها أيّ قائد روماني قط. وكانت تمثّل ما هو مخيف ومجهول: الأمازونيات الدمويات وقبائل إسرائيل الهاربة وأمم يأجوج ومأجوج الشرّيرة.
    وطبقا لتقاليد هنود الغرب الأمريكي، تُعتبر جبال روكي حدود العالم المعروف. كانت هذه القمم تحمل السماء وتطارد أرواح العواصف وعمالقة الحجر وآكلي لحوم البشر ذوي البطون الضخمة. ومنها امتدّ غربا الطريق الجوفي المؤدّي إلى أرض الموتى. وفي داكوتا الجنوبية، كان هناك تلّ الشياطين الصغار، وهم أقزام شرّيرون ذوو رؤوس ضخمة، كانت قبائل البراري تقف في رهبة خوفا من سهامهم.
    وكانت هناك سبعة جبال مقدّسة في أرض النافاهو، أربعة منها عند الجهات الأربع، وثلاثة عند المركز. وقد منحت الأسطورة كلا منها لونه الخاص وجواهره وطيوره ونباتاته. كان أحد الجبال مثبّتا على الأرض بوميض برق، وآخر بشعاع شمس، وثالث بقوس قزح. وبروح يونانية تقريبا، كان هنود غيانا ينشدون أمجاد الصخور الحمراء المغطّاة بالغيوم. وكان فوقها نسور بيضاء تحيط بها دائرة سحرية وحرّاس من الشياطين. كيرك سبولدينغ