:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات بورخيس. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات بورخيس. إظهار كافة الرسائل

الثلاثاء، أغسطس 26، 2025

نصوص مترجمة


  • كان أحد أعمامي يأمل أن يصبح رسّاما كبيرا. في مراهقته، فاز بمِنَح دراسية وجوائز مهمّة، لكنه فقد بصره بسبب السكّري. كنت في العاشرة وهو في العشرينات من عمره، عندما كنّا نسير معا ذات يوم في شارع مزدحم بالمشاة في بوينس آيرس. وفجأة قال أحدهم: ها هو بورخيس"! نظرتُ ورأيتُ بورخيس، فقلتُ لعمّي: هذا بورخيس".
    كان قادما نحونا، وهو ممسك أيضا بذراع صديق أو معجب، ثم صرخ عمّي الكفيف والفكاهي: بورخيس! كيف حالك؟ تبدو رائعا". حوّل بورخيس نظره إلى المكان الذي أتى منه صوت عمّي الكفيف، وتبادلا النظرات دون أن يَريا بعضهما، وأنا واقف بينهما غير مصدّق لما أراه.
    في ذلك الوقت، لم أكن قد قرأتُ أعمال بورخيس، ولكن كنتُ أعرفه جيّدا. كان من السهل أن ألتقي به في الشارع، وكان حاضرا باستمرار على شاشات التلفزيون، حيث كان موضوعا للعديد من المقابلات المطوّلة، وحتى لعروض الكوميديا القصيرة. كان الكوميديون يقلّدونه. كان فريدا من نوعه، بصوته وأسلوبه في الكلام وتواضعه المتغطرس وسعة اطلاعه التي تكاد تكون مجنونة وأسلوبه المهذّب والصارم في تقويض محاوريه.
    بعد سنوات قليلة من ذلك اللقاء مع بورخيس، ومع عدم وجود فرصة لرؤيته مرّة أخرى ولفترة طويلة، قرأت أوّل كتاب له: "تاريخ عالمي للعار". وأعتقد أنني قرأت كتب بورخيس بعد ذلك بنفس الطريقة التي قرأ بها هو ألف ليلة وليلة وستيفنسون وتشيسترتون وآلان بو وويلز. قرأته كما لو كان مؤلّف كتب أطفال بالمعنى النبيل للكلمة، ككاتب تأسيسي، كصانع قصص مثالية، كواحد من أولئك الرواة الذين يفتحون الباب لنا للّعب في كتب أخرى.
    وفي أحد الأيّام، في إحدى صالات الألعاب الرياضية، حدث أن اصطدمتُ برجل عجوز خفيف الوزن. طار الرجل في الهواء، ممسكا بعصاه، وأخذ يصرخ صرخات مكتومة قبل أن يسقط على وجهه. ثم اكتشفتُ أن ذلك الرجل لم يكن سوى بورخيس نفسه، وأنني ربّما قتلتُه.
    كانت تلك أهمّ لحظة في حياتي! من كان يعلم أن ذلك الاصطدام بالأدب العظيم سيُشعل شرارة قصص أخرى، أو سيمثّل نهايتي ككاتب. فما جدوى كتابة أيّ شيء إن سُجِّلْتُ في التاريخ بصفتي قاتل بورخيس؟!
    لحسن حظّي، ظلّ بورخيس حيّا. رأيتُه مُستلقيا على ظهره وعصاه على صدره، يفتح فمه ويغلقه كأحد طيور الكناري بحثا عن أكسجين. كانت تلك تجربتي الكبرى مع الأدب، ويزعجني قليلا ألا أتمكّن من التذكّر، مهما حاولت، إن كنتُ قد ساعدته على النهوض أم لا. لا أظنّ أنني فعلت.
    لقد رويت تلك القصّة مرّات عديدة. وأصبحتْ مثل الورقة الرابحة في جعبتي أو في ياقة أحد الكوميديين. وهكذا حدث اصطدامي الحقيقي بالأدب.
    عندما جلستُ لأقرأ بورخيس، لم أفعل ذلك رغبة في تحليله وإعادة بنائه لاحقا أمام لجنة من الممتحنين، أو من أجل خطّة نظرية حتمية لكيفية المضيّ قدما في عملي، بل من أجل متعة الاستمتاع بشخصية عظيمة.
    وهنا أصل إلى سرّ علاقتي الشخصية جدّا مع بورخيس. أتذكّر الانفجار الشخصي الكبير الذي مررت به عندما قرأتُ ذات صباح استوائي، وربّما ممطر "من يتذكّر وهو يقرأ تحت المطر!"، تلك الصفحة القصيرة بعنوان "بورخيس وأنا"، والتي يعترف بورخيس فيها "لا أعرف أيّنا الاثنين يكتب هذه الصفحة"، وحيث يطمس بورخيس الخطّ الفاصل بين المؤلّف والشخصية ويشوّه هويّة القارئ.
    ما شعرتُ به وقتها هو أنه لا يمكن للمرء أن يكسب عيشه من الأدب فحسب، بل يمكن أن يعيش الأدب، والأدب يمكن أن يحيا في الكاتب ومن خلاله. كان بورخيس، بالنسبة لي، وسيظلّ الكاتب العظيم الذي يفهم الكُتّاب كشخصيات عظيمة وكقُرّاء عظماء.
    بورخيس كقارئ/كاتب، ابتدع بأسلوبه تقليدا أدبيّا أرجنتينيا افتراضيّا ومراوغا، لم يكن يحفر في التربة بل في الجدار الذي تُعلّق عليه الكتب. الجدار الذي يؤوي عبقرية أمين مكتبة أعمى ومتعدّد الأشكال ومنحرفا، يوصي بأشياء كثيرة دفعة واحدة، مقتنعا بأن الخلاص والجنّة يعيشان دائما داخل كتاب، كتاب يحتوي الكون بأسره. رودريغو فريسن
  • ❉ ❉ ❉


  • يمثّل موزارت لمعظمنا الأناقة والذكاء والرقّة والألفة، وما إلى ذلك. ولو كان هذا كلّ شيء، لظلّ مجرّد فنّان من عصره. لكنه يختلف عن غيره من المؤلّفين من أواخر القرن الثامن عشر الذين أنتجوا موسيقى سهلة وراقية وغنائية ومرِحة لطبقة النبلاء.
    وصل موزارت إلى هذا العالم كروح سامية، وظلّ فيه حوالي ثلاثين عاما، ثم تركه غنيّا ومبارَكاً بزيارته. كانت عبقريته عالمية مثل جميع الفنّانين العظام. لم يلتقط فقط إحساس وروح عصره، بل جسّد أيضا روح الإنسان، إنسان كلّ العصور، الإنسان بكلّ رغباته وتطلّعاته وتناقضاته.
    عندما كنّا في موسكو قبل فترة، سمعت الكاتب الكبير بوريس باسترناك يقول: رغم كلّ شيء، أنا مفعم بالبهجة، فنّي موجود كسجلّ لمأساة الوجود البشري، يتغذّى من الأحزان. وفنّي هو كلّ بهجتي". وهكذا هو حال أعظم الأرواح المبدعة، وهكذا كان حال موزارت.
    قد يفاجئ هذا الكلام بعض الناس ممّن اعتادوا وصف موسيقى موزارت بالأرستقراطية. وكم من الناس سمعتهم يصفونها بـ"الرنّانة". يقولون: لا داعي لكلّ هذه التعقيدات البسيطة في موسيقاه. أعطني جرأة في الموسيقى: بيتهوفن، برامز، التراجيديا، العظمة".
    لكن هذا النوع من الكلام لا يعني سوى شيء واحد: أنهم لا يعرفون موزارت. لا يمكن لأحد أن يستمع إلى موزارت وينصت إليه باهتمام، بكلتا أذنيه، دون أن يختبر ما أسماه باسترناك "مأساة الوجود البشري".
    هل تشعر في موسيقى موزارت بذلك الحزن، ذلك الجوهر الثمين، حتى وهي محاطة بإطار من القرن الثامن عشر؟ إن موسيقاه تهرب باستمرار من إطارها، لأنه لا يمكن احتواؤها في قالب. وهي في جوهرها خالدة. إنها موسيقى كلاسيكية لرومانسي عظيم، وموسيقى حديثة وخالدة لكلاسيكي عظيم. ليونارد بيرنشتاين
  • ❉ ❉ ❉

  • في القرن السادس عشر، كان مصطلح "بيرو" يُطلق على أمريكا الجنوبية بأكملها، وليس فقط على أراضي الدولة التي تحمل هذا الاسم اليوم. وكانت أراضي أتاوالبا، آخر إمبراطورية للإنكا في بيرو، غنيّة بالذهب والفضّة. وفي أبريل عام 1545، تسلّق نبيل هنديّ ضئيل يُدعى دييغو غوالبا تلّة بحثاً عن ضريح، فسقط أرضا بفعل رياح قويّة. ووجد نفسه ممسكاً بكتل ضخمة من الفضّة بيديه، فأبلغ بذلك بعض المغامرين الإسبان في المنطقة المجاورة.
    وبعد مزيد من البحث، اكتُشفت خمسة عروق غنيّة بالفضّة. وتبع ذلك اندفاع محموم للبحث عن المعدن الثمين. وقتها كانت الفضّة، وليس الذهب، هي التي أصبحت في نظر العالم رمزا للثروات التي تُجنى بسرعة. وبالنسبة للفرنسيين في القرن السادس عشر، أصبحت مفردة "بيرو" مرادفة للثروة الهائلة.
    آنذاك وُصفت رواسب بوتوسي في بيرو، "الواقعة اليوم في بوليفيا"، بأنها "جبل فضّي" يبلغ قطر قاعدته ستّة أميال ويقوم على هضبة نائية ومهجورة ترتفع 12 ألف قدم فوق مستوى سطح البحر.
    ومن عام 1503 إلى عام 1660، قُدِّر أن 16 ألف طن متري من الفضّة وصلت إلى إشبيلية بإسبانيا، أي ثلاثة اضعاف موارد الفضّة الموجودة في أوروبا في ذلك الوقت. بينما دخَلَ 185 طنّا متريّا من الذهب إلى إشبيلية من العالم الجديد خلال الفترة نفسها. كانت الفضّة العنصر الرئيسي في ثروة إسبانيا الخيالية. وكانت تلك الثروة خيالية فعلا، لأن آثارها على الحكم الإسباني كانت غير متوقّعة، وأدّت على المدى الطويل ولأسباب متعدّدة إلى الإفلاس وتراجع نفوذ إسبانيا في الشؤون العالمية. كاسي كورتنغ
  • ❉ ❉ ❉

  • أحببت الفراشات وكنت مفتونا بها منذ الصبا، عندما عرّفني والدي على هذه المخلوقات الساحرة. وعندما كبرت، ازداد شغفي بها وألّفت كتابا عنها تحدّثت فيه عن حضورها الدائم في أحلامنا وفي الأدب والموسيقى والفنّ والثقافة الشعبية. وأعرف أن الكثيرين بدأوا يصبحون من مراقبي الفراشات ويدركون كيف يمكن لهذا النشاط الممتع أن يفيدهم عقليا وجسديّا وروحيا.
    إن فوائد التواجد في الهواء الطلق في أحضان الطبيعة والمشي بوتيرة هادئة والوقوف ساكنا وتعلّم الرؤية والنظر باهتمام والانتباه الكامل لهي من الأمور المفيدة والمجزية كثيرا. الكاتب فلاديمير نابوكوف هو مثال على رجل الفراشات العظيم. ولم يكتب أحد آخر بمثل هذا الشعور أو الجمال عن الفراشات.
    وأعتقد أن هناك دروسا يمكن استخلاصها من مشاهدة الفراشات. فنحن قد نتعلّم شيئا من طيرانها الرقيق والرشيق وكيف أنها لا تستقرّ طويلا بل تمضي قدما. وهي تعلّمنا شيئا عن العيش بِخفّة، لا أن نغرق في وحل الركود، وأن نحافظ على مرونتنا وقابليّتنا للتكيّف، وأن نمشي رويداً على الأرض، لا أن نتخبّط في أمور مدمّرة، وأن نقدّر تعقيد وهشاشة ما حولنا. نايجل أندرو
  • ❉ ❉ ❉

  • تتعرّض الحيوانات البرّية في بيئاتها الطبيعية لمواقف عصيبة ومختلفة، مثل البحث عن مجموعات وأماكن آمنة للعيش، والحصول على الطعام وتجنّب التعرّض للافتراس، وتحمّل الأمراض والإصابات دون علاج.
    وبينما يُتوقّع أن تُوفَّر للحيوانات الأسيرة أماكن آمنة للعيش وغذاء كافٍ ورعاية بيطرية عند الحاجة، إلا أنها لا تحصل بالضرورة على هذه الحقوق البسيطة. وحتى لو حصلت عليها، فهذا لا يعني بالضرورة أنها تتمتّع بحياة أسعد أو أفضل من أقاربها في البرّية المفتوحة.
    ويمكن أن نتخيّل وجود حالات قد يستفيد فيها الحيوان من إبعاده عن البرّية. مثلا، إذا كان يتعرّض للضرب باستمرار ككبش فداء أو يتضوّر جوعا أو يعاني من مرض أو إصابة خطيرة.
    ومع ذلك قد يقول قائل: هذا شعور طبيعي عندما يكون فردا في جماعة، ويجب أن تُمنح له فرصة عيش حياته الطبيعية. ففي النهاية، هذا ما تطوّر ليصبح عليه. قبل سنوات، أدركت معنى أن تكون حيوانا برّيا وأن تكون حيوانا أسيرا.
    ففي عالم يشهد هيمنة بشرية متزايدة، في حقبة تُسمّى "عصر الأنثروبوسين" الذي تحوّل إلى " موجة من اللاإنسانية "، من الواضح أننا كثيرا ما نتدخّل في حياة أنواعٍ لا تُحصى. نسرق حياتها وبيئاتها ونسرق أطفالها ومستقبلها. ومن المحتمل جدّا أن تعاني الحيوانات البرّية من اضطرابات نفسية مختلفة، بما في ذلك اضطراب ما بعد الصدمة وأمراض سلوكية أخرى. مارك بتكوف

  • Credits
    borges.pitt.edu
    wolfgang-amadeus.at

    الأربعاء، مايو 28، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • من نصائح رجل حكيم: إذا قارنت نفسك بالآخرين، فقد تصبح مغرورا أو متذمّرا، لأنه دائما ما يكون هناك من هو أعظم منك ومن هو أدنى. تجنّب الأشخاص الصاخبين والعدوانيين، فهم مزعجون للروح. استمتع بإنجازاتك وخططك. وحافظ على اهتمامك بمسيرتك المهنية مهما كانت متواضعة، فهي ثروة حقيقية في ظلّ تقلّبات الزمن.
    تَوخَّ الحذر في أعمالك، فالدنيا مليئة بالخداع. ولا تدع هذا يصرفك عن الفضيلة، فكثيرون يسعون إلى مُثل عليا، والحياة في كلّ مكان مليئة بالبطولات. كن على سجيّتك. لا تتظاهر بالحبّ ولا تستخف به، فهو دائم الخضرة كالعشب في وجه كلّ جفاف وخيبة أمل.
    غذِّ قوّة روحك لتحميك من المصائب المفاجئة. لكن لا ترهق نفسك بأوهام قاتمة، فكثير من المخاوف تولد من التعب والوحدة. وإلى جانب الانضباط السليم، كن لطيفا مع نفسك. أنت ابن هذه الأرض، تماما كالأشجار والجبال، ولك الحقّ في أن تكون هنا.
    انطلقْ بهدوء وسط الضجيج والعجلة، وتذكّر أن الهدوء قد يكون في الصمت. وكن على وفاق مع الجميع قدر الإمكان ودون خضوع. تحدّث عن حقيقتك بهدوء ووضوح واستمع إلى الآخرين، حتى البلداء والجهلاء منهم.
    وسواء أكان الأمر واضحا لك أم لا، فإن الكون يسير كما ينبغي. لذا كن في سلام مع الله، أيّا كان تصوّرك له. ومهما كانت أعمالك وطموحاتك في صخب الحياة، حافظ على سلامك الروحي. فرغم كلّ ما في هذا العالم من زيف وتعب وأحلام محطّمة، إلا أنه يظلّ عالما جميلا.
    وأخيرا، كن مبتهجا وابذل جهدك لأن تكون سعيدا.
  • ❉ ❉ ❉

  • كان الوقت خريفا، وكان القمح قد حُصد، والذرة بنيّة اللون ومتماسكة وجاهزة للحصاد. كانت هناك الكثير من البذور المتناثرة على الأرض، وهو ما يعتمد عليه الصيّادون في موسم صيد طيور الدرّاج. وعلى جانب الطريق، كان الصيّادون يتجوّلون في الحقول بألوان برتقالية زاهية. لا تثير هذه الألوان حماسي، ومع ذلك أشعر بانجذاب إليها بحكم التعوّد.
    كانت المهمّة إصلاح مضخّة بحاجة إلى تغيير نظامها الكهربائي. كان الوقت مبكّرا، ودفء الشاحنة أبقاني في حالة من النعاس. وكانت اهتزازات الطريق السريع تحرّك جسدي كلّه.
    ومن طرف عيني، لاحظت انطلاق طائر درّاج من بين العشب الطويل. كان ذا لون بنّي فاتح على خلفية حقول ذرة صفراء صدئة. كان لون الرأس الأزرق المخضر، والأبيض والأحمر حول الرقبة، ولون ريش الذيل ضبابيّا. انطلق فجأة من بين الأعشاب وضرب باب الراكب مُحدثا صوتا.
    ما رأيناه خلفنا كان سحابة عائمة من الريش، تدور كإعصار من تيّار الهواء خلف الشاحنة. فجأة، أشرق اللون الأزرق المخضر من ضوء الفجر الخافت خلفنا. وبدا أن بعض الريش يرتفع أكثر فأكثر، كأنه عامود قبل أن تتوقّف حركته، وبدأ الريش وبعض أجزاء صغيرة من الجسم تتساقط كما تتساقط الأشياء الأخفّ من الهواء.
    تمتم أبي بكلمات مبهمة، ثم بطّأ من سرعته وسار بمحاذاة الطريق السريع. كانت رائحة الريش على بعد أكثر من ربع ميل خلفنا، وما أن توقّفنا حتى فتحت باب الراكب ووجدت أثرا صغيرا لارتطام بالكاد يلاحَظ في الطلاء.
    كان الدرّاج يطير باتجاه موطنه أو بعيدا عنه. لكنه على ما يبدو خرج عن الطريق بتهوّر. لطالما اعتقدت أن وجود شيء جميل يتطلّب نوعا من التهوّر. نجمة، باقة زهور، وجبة معدّة بإتقان. قرأت أن الطلاء الأحمر كان في يوم من الأيام مزيجا من الحشرات، وأن البنّي كان في الأساس تنويعاً على البرتقالي الداكن، ومصنوعا من الكاروتين "صبغ نباتي". في خضمّ ندمي، قرّرت إعادة تجميع ذلك الطائر على القماش، مستخدما خطوطا دراماتيكية مبالغا فيها ومستغلّا قوّة الألوان الزاهية.
    أنا آسف على صدفة المكان وعلى حادثة الموت اللحظي تلك. داستن بارسونز
  • ❉ ❉ ❉

  • الإيمان بحياة بعد الموت كان موضوعا لإحدى مطبوعات فان غوخ الحجرية المتقنة، وقد اختار لها عنوان "عند بوّابة الخلود". رُسمت اللوحة في لاهاي عام ١٨٨٢، وتصوّر رجلاً عجوزاً جالساً أمام نار ورأسه مدفون بين يديه. قبيل وفاته، أعاد فان غوخ رسم هذه الصورة بالزيت أثناء تعافيه في مشفى سان ريمي. ويبدو الشخص المرسوم منحنياً وقبضتاه مضمومتان على وجهه الذي يلفّه الإحباط الشديد. الصورة تنطق بالحزن واليأس الشديدين لولا العنوان الذي اختاره لها فان غوخ، أي "عند بوّابة الخلود". وهي تُظهِر أنه حتى في أعمق لحظات حزن الرسّام وألمه، كان متمسّكاً بإيمانه بالله وبالخلود، وهي الفكرة التي حاول التعبير عنها هنا بوضوح.
  • ❉ ❉ ❉

  • قراءة قصّة قصيرة لبورخيس تشبه قراءة شعر جيّد. فكما هو الحال في القصائد العظيمة، تتطلّب قصصه إعادة القراءة مرارا وتكرارا. وهو يكتب مستخدما أنماطا موسيقية متنوّعة وتعدّد أصوات، على غرار باخ وإيشر. وقصصه متداخلة في مستويات متعدّدة من المعاني المتكرّرة والمتغيّرة توحي دائما بمتاهة متعدّدة الأبعاد، وتأخذك إلى حافّة المعرفة وما بعدها. الشيء السيّئ الوحيد في قراءة بورخيس هو أنه يتركك تشعر بأن لا شيء يستحقّ الكتابة أو يمكن الكتابة عنه بعد أن تقرأه.

  • Credits
    vincentvangogh.org
    dustinparsons.info

    الثلاثاء، مارس 11، 2025

    الأنقاض الدائرية


    تخيّل نفسك واقفا على حافّة بحيرة هادئة سطحها أملس يشبه مرآة مثالية تعكس العالم بوضوح. لكن عندما تمدّ يدك لتلمس الماء البارد، فإن التموّجات تشوّه الصورة وتكشف عن العمق والألغاز المخفية أسفل.
    هذه البحيرة تشبه الحياة نفسها، فما تراه على السطح غالبا ما يكون مجرّد انعكاس؛ نسخة مشوّهة من حقيقة أعمق. هل تتذكّر آخر مرّة شعرت فيها بالحرّية الحقيقية دون أن تثقل كاهلك همومك اليومية وتوقّعاتك؟ ربّما كانت لحظات قضيتها في الطبيعة، أو شاركت فيها ضحكة عفوية مع صديق حيث شعرت بتواصل حقيقي وحيوي. ذلك التعبير النقي عن الوجود هو ذاتك الحقيقية بحالتها التلقائية وغير المتصنّعة.
    لكن في كثير من الأحيان فإن هذا الواقع تحجبه شبكة واسعة غير مرئية من الأوهام المنسوجة في خيوط الحياة اليومية. وهي مصمّمة لتشتيت انتباهك وخداعك وإقناعك بتقدير قيمة كلّ ما هو سطحي لكي تخاف من المجهول وتمتثل للقواعد الجاهزة. كما أنها هي التي تشكّل أفكارك ورغباتك ومخاوفك وتبني عالما يبدو حقيقيا ظاهريا، ولكنه غالبا ما يكون متحكّما فيه ومصطنعا.
    هذا هو ملخّص فكرة فيلم "ميتريكس"، أو المصفوفة. وبينما يفترض الفيلم أننا جميعا موجودون في محاكاة كمبيوترية عملاقة، فإن قصّة "الأنقاض الدائرية" لبورخيس تثير احتمال أن نكون مجرّد أشباح في خيال الآخرين، وأن ذكريات وجودنا السابق قد تمّ محوها من أذهاننا.
    وقصّة "الأنقاض الدائرية" يعتبرها النقّاد من أغنى القصص القصيرة الرمزية التي ألّفها الكاتب الأرجنتيني وواحدة من أقوى استكشافاته وأكثرها إيحاءً لطبيعة الواقع والأحلام. كما يمكن تفسيرها باعتبارها قصّة عن الإبداع الفنّي أو عن العالم ومكاننا فيه. أيضا تتميّز "الأنقاض الدائرية" باستخدام بورخيس المذهل للغة واختياره للكلمات وبنثره الذي يترك أثرا سحريّاً على القارئ.
    وكما يشير العنوان، تدور القصّة حول مدرّج دائري لمعبد أثريّ قديم. وتبدأ بعبارة "وإذا توقّف عن الحلم بك"، وتتحدّث عن رجل عجوز، يُشار إليه أيضا باسم الغريب أو الساحر، يغادر منزله في الجنوب ويصل إلى ضفّة نهر، ومن ثم إلى معبد دُمّر بفعل حرائق قديمة، ويظلّ الرجل هناك "من أجل خلق إنسان بقواه السحرية".
    في وسط المعبد الدائري يوجد تمثال حجري يخلّد ذكرى إله غامض. هناك يبني الغريب له مسكنا. ثم ينام ليجد نفسه في الصباح وقد شُفي من جروحه التي أصيب بها أثناء خروجه من مياه النهر الموحلة. ومن أجل تنفيذ رغبته، ينام الساحر بجوار الأطلال، عازما على أن يحلم برجل يظهر إلى الوجود. ونظرا لأنه غير قادر على الإجابة على أيّ أسئلة حول خلفيته وهدفه، فإن هذا المعبد هو أفضل موقع يمكنه العثور فيه على غرضه.
    ثم يحلم الرجل بنفسه ويتخيّل عددا من الطلاب، بعضهم قريبون وبعضهم بعيدون، بملامح واضحة للعيان. ويلقي عليهم محاضرات عن التشريح وعلم الكون والسحر ويستمعون باهتمام من أجل الدخول إلى العالم الحقيقي من خلال حلمه.
    ويستغرق الأمر عامين حتى يتحوّل الانسان الذي حلم به إلى حقيقة. ينظر إليه الساحر وكأنه ابن له. ومع ذلك، يأمره إله النار بإرسال الانسان الذي حلم به إلى معبد آخر، فيسمح له بالرحيل على مضض بعد أن محا ذاكرته أوّلاً. وبهذه الطريقة، لن يعرف الرجل أبدا أنه مجرّد نتاج لأحلام الساحر أو الغريب، بل سيصدّق أنه شخص حقيقي.
    وفي وقت لاحق، يسمع الساحر أن الرجل الذي حلم بوجوده له القدرة على المشي على النار دون أن يحترق. وعندما يشبّ حريق في الغابة ويجتاح المعبد، يتقبّل الساحر الموت بصبر ويمشي وسط النيران، ويدرك أنه لم يصب بأذى وأنه، مثل "ابنه"، كان من نسج خيال شخص آخر وأنه ليس شخصا حقيقيّا.
    وفجأة تصل تأمّلات الغريب إلى نهايتها. في البداية، "ظهرت غيمة بعيدة بعد جفاف طويل، بيضاء كطائر، على تلّ. ثم بالقرب من الجنوب، اتّخذت السماء لوناً وردياً كلون لثّة فهد، ثم جاءت غيوم الدخان التي ألقت بالصدأ على معادن الليل. ثم حصل فرار مرعب للحيوانات المتوحشة. ما حصل قبل مئات السنين، ها هو يتكرّر الآن".
    كانت النار تدمّر خرائب حرم إله النار. وفي فجر بلا طيور، رأى الساحر المحرقة المستعرة تصل إلى الجدران. فكّر للحظة بالالتجاء إلى الماء، لكنه أدرك حينها أن الموت سيتوّج شيخوخته. مشى نحو خرَق اللهب المشتعل، لكنها لم تنهش لحمه، بل ربّتت عليه وغمرته دون حرارة أو إحراق. وبارتياح وخزي ورعب، أدرك أنه هو أيضاً، كان وهماً يحلم به إنسان آخر".
    قصّة "الأنقاض الدائرية" تتناول المواضيع التي تتكرّر في أعمال بورخيس عادةً، وتستند الى مجموعة واسعة من التأثيرات الدينية. وقد لاحظ العديد من النقّاد أن القصّة تبدو وكأنها تكرار لفكرة التقليد الغنوصي المسيحي التي تقول بأن "وراء كلّ خالق يختبئ خالق آخر".
    والشخصية الرئيسية للحالم أو الغريب تستخدم صراحةً لغة الزرادشتية، حيث تعتبر النار أنقى عنصر. كما لوحظ أيضا تشابه القصّة مع الأسطورة اليهودية الكابالية، حيث يتمكّن البشر الفانون من استعادة لحظة الخلق الإلهي للحياة. ويمكن القول كذلك ان القصّة تستند أيضا إلى الفكرة البوذية القائلة بأن العالم وهم.


    أيضا تتردّد في القصّة فكرة التكرار الدائري للتاريخ التي تناولها بورخيس مرارا. وقد سبق ان تحدّث في احدى قصص مجموعته "ألِف" عن طائفة قديمة كانت تعيش على ضفاف نهر الدانوب وادّعت أن التاريخ عبارة عن دائرة وأنه لا يوجد شيء لم يكن موجودا من قبل وأنه لن يكون هناك أيّ شيء جديد أبدا. وبالنسبة لتلك الطائفة فقد حلّت العجلة والثعبان مكان الصليب.
    وفي الواقع، تمتلئ فصول العهد القديم بمثل هذه الفكرة. مثلا يبدأ "سفر الجامعة" بهذه الكلمات المحيّرة: لا معنى له، لا معنى له!، يقول المعلّم. لا معنى له على الإطلاق! كلّ شيء لا معنى له." ويورد العهد القديم كلاما مشابها لسليمان الحكيم: ما كان سوف يكون مرّة أخرى، ما فُعل سوف يُفعل مرّة أخرى، لا شيء جديد تحت الشمس".
    وبورخيس ليس الكاتب الوحيد الذي قال بالتكرار الدائري للزمن. الفيلسوف ابن عربي أيضا يصف الزمن بأنه دائرة ليس لها بداية ولا نهاية وأن العالم يعاد خلقه باستمرار وأن الزمن يتقلّص إلى اللحظة الحالية، لأن الماضي والمستقبل مجرّد خيال. وبالتالي فإن الزمن، أو اللحظة الحالية، تسير في حركة دائرية متكرّرة مع إعادة خلق العالم. وبعبارة أخرى، وحسب ابن عربي، فإن الزمن يدور حول العالم باستمرار وبشكل متكرّر لخلقه وإعادة خلقه مرّة أخرى، وبالتالي فهو دائريّ "ودوريّ" من هذا المنظور الميتافيزيقي.
    في عام 1977، ألقى بورخيس محاضرة ضمّنها بعض أفكاره عن البوذية. فقال إنها لا تعترف بحقيقة الجسد أو الروح، وروى قصّة بوذا، الذي كان اسمه في الأصل سيدهارتا أو غوتاما، الذي أصبح "المستيقظ"، وحصل على "النيرڤانا" بعد جلوسه تحت شجرة في بنارس. وأضاف بورخيس: أصبح غوتاما بوذا، المستنير أو المستيقظ، على عكس بقيّتنا الذين ظللنا نائمين نحلم بهذا الحلم العظيم الذي هو الحياة".
    وبحسب بورخيس، فإن حياتنا حلم لأننا جميعا نحلم به، أو من الممكن أن يكون هناك شخص آخر يحلم بحياتنا. وفي نهاية قصّة " الأنقاض الدائرية "، يشعر الساحر أو الغريب أن شخصا آخر كان يحلم بحياته. وأثناء قراءة القصّة، يسيطر شعور بالحيرة على عقل القارئ. فمن الصعب التمييز فيها أين تنتهي الحقيقة وأين يبدأ الحلم. والقصّة تقدّم مزيجا ضبابيّا من الواقع والأحلام والخيال. ومن خلال هذا يجبر بورخيس قرّاءه على تبنّي سلوك متشكّك تجاه كتاباته، والذي يعتبره صفة أساسية لفعل القراءة الجيّدة.
    في كتابات بورخيس، لا وجود للزمن. ولا يُفترض أن يكون أيّ شيء ثابتا. كما أنه يأخذ قارئه إلى حالة من اللازمنية، ولا يميّز بين الحقيقة والخيال، وهناك إزاحة مستمرّة للمعنى. وهذه السمة واضحة في "الأنقاض الدائرية" أيضا.
    بورخيس يكتب متمتّعا بامتياز التحرّر من حدود الزمن. وهو لا يكتب وفقا للتسلسل الزمني، بل دون الانتباه إلى التمييز بين الماضي والحاضر والحلم والواقع. كما انه ينقل القارئ إلى عالم خيالي يدركه هو. ويبدو أن هذه الأفكار مرتبطة بنظرية آينشتاين. فوفقاً لآينشتاين فإن الزمن ليس موحّداً ومطلقاً. ويمكن للمرء أن يسافر إلى الماضي والمستقبل بسبب أنواع معيّنة من الحركة في الفضاء. وقد أعلن بعض الباحثين، بالإشارة إلى نظرية النسبية لأينشتاين، أن "لا شيء في قوانين الفيزياء يمنع السفر عبر الزمن. قد يكون من الصعب تطبيق هذه الفكرة، لكنها ليست مستحيلةً".
    ويتجلّى تأثير فكرة السفر عبر الزمن في الكثير من كتابات بورخيس. وقصّة "الأنقاض الدائرية" تدور حول مدرج "دائري". وتقع جميع الأحداث المهمة في القصّة في الآثار "الدائرية" لمعبد. والسمة الرئيسية للدائرة هي أنها لا بداية لها ولا نهاية، وأنها لا نهائية. وكلمة "لانهائي" تسحر بورخيس، وهي مرادفة لكلمة "دائرة" أو "دائري".
    ومن بين التفسيرات العديدة لـ "الأنقاض الدائرية" أنها تتحدّث عن الأبوّة الحرفية، إذ يأتي انسان بإنسان آخر يجب أن يعلّمه قبل إرساله ليشقّ طريقه في هذا العالم، مع إدراكه أيضا أنه هو نفسه كان والدا لإنسان آخر، وهو شيء يجب أن يتذكّره، لأننا غالبا ما نفقد التركيز على حقيقة أنه من أجل أن نكون هنا كان علينا أن يُحمل بنا وأن نُصنع من شخصين آخرين. وعلى الرغم من إدراكنا لهذه الحقيقة على مستوى ما، فإننا ندفع بها جانبا على مستوى آخر في حياتنا اليومية.
    هل الآثار الدائرية التي ينام فيها الساحر مجرّد حلم أيضاً؟ لاحظ غلبة الصور الرمادية في القصّة، فالساحر نفسه يوصف بأنه رجل رمادي، في حين أن التمثال الحجري بتحوّله من النار يشبه الآن الرماد. وعلى مستوى ما، فإن الساحر في " الأنقاض الدائرية" هو فنّان "مثل الكاتب"، تساعده أحلامه في خلق وتوجيه فنّان آخر. لقد لاحظ بورخيس ذات يوم أن "كلّ كاتب يخلق أسلافه"، ولكن كلّ كاتب يساعد في خلق خلفائه أيضا.

    Credits
    borges.pitt.edu
    dokumen.pub