:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات داروين. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات داروين. إظهار كافة الرسائل

الاثنين، مارس 25، 2013

غوته في ايطاليا

اشتهر يوهان فولفغانغ غوته (1749-1832) بمتابعاته وإسهاماته الفكرية الكبيرة في مجالات الشعر والأدب والدراما والفلسفة والعلوم. وهو معروف، خاصّة، بمسرحيتّه المأساوية "فاوست" التي تُعتبر واحدة من أعظم الأعمال الأدبية الكلاسيكية. وغوته هو الذي ابتدع مصطلح "الأدب العالميّ" بسبب افتتانه بآداب الثقافات الأخرى، مثل انجلترا وايطاليا وفرنسا واليونان وبلاد فارس والعالم العربيّ.
الأفكار التي عرضها في نصّه العلميّ المهمّ بعنوان "نظرية الألوان" كان لها ابلغ الأثر على علماء الطبيعة في القرن التاسع عشر، وخاصّة تشارلز داروين. كما كان غوته مصدر إلهام كبير في مجالات الموسيقى والشعر والفلسفة. ويُعتبر الكاتب الأكثر أهمّية في اللغة الألمانية، بالإضافة إلى كونه أحد أعظم المفكّرين في الثقافة الغربية.
في بداية شهر سبتمبر من عام 1786، أي عندما أكمل غوته عامه السابع والثلاثين، ترك وظيفته كمستشار لدوقيّة فايمار وأهمل علاقة الحبّ الأفلاطوني التي كانت تربطه بـ فراو شارلوت فون ستين، إحدى سيّدات البلاط. كان غوته شديد التعلّق بهذه المرأة وكان يكتب لها ملاحظات عاطفية كلّ يوم طوال اثني عشر عاما. ومن الواضح أنها درّبته على القواعد غير المكتوبة في البلاط وفي الحبّ. كما كان لها تأثير قويّ على أعماله.
ترك غوته جميع انشغالاته العملية والعاطفية فجأة وقرّر أن يسافر إلى ايطاليا. ومن هناك كتب العديد من الرسائل إلى عدد من أصدقائه في ألمانيا. وقد استخدم تلك الرسائل لاحقا كأساس لمادّة كتابه بعنوان "الرحلة الإيطالية" الذي نشره في الفترة ما بين عامي 1786 و1788م.
"نحن جميعا حجّاج نسعى إلى بلوغ ايطاليا". هكذا كتب غوته في إحدى قصائده بعد عامين من عودته من رحلته إلى الأرض التي طالما حلم بزيارتها. بالنسبة له، كانت إيطاليا هي الجنوب الدافئ والعاطفيّ مقابل الشمال الرطب والحذِر. وإيطاليا هي المكان الذي ما يزال فيه الماضي الكلاسيكي حيّاً من خلال الآثار والمناظر الطبيعية والألوان والأشجار والسلوكيات والمدن.
كان غوته يصف نفسه بأنه "العدوّ اللدود للكلمات المجرّدة" أو ما كان يسمّيه أيضا بـ "الأسماء الفارغة". كان بحاجة لأن يملأ الأسماء بالمعاني وأن يكتشف نفسه في الأشياء التي يراها.
وأثناء زيارته إلى إيطاليا التي دامت عشرين شهرا، كان يتطلّع لأن يلمس بنفسه ظروف وبيئة منطقة كانت وما تزال مليئة بالكثير من الأعمال الفنّية المهمّة. وبالإضافة إلى اهتمامه بدراسة الخصائص الطبيعية للبحر المتوسط، كان مهتمّا في المقام الأول ببقايا العصور الكلاسيكية القديمة وبالفنّ المعاصر.
وخلال فترة إقامته في أوسيزي، لم يزر جدارية جيوتو الشهيرة في كنيسة سان فرانشيسكو دي اوسيزي، وإنّما زار فقط كنيسة سانتا ماريا سوبرا مينيرفا، التي كانت عبارة عن معبد روماني تمّ تحويله إلى كنيسة.
وفي فيرونا، أشاد غوته، بحماس، بالتناغم والنسَب الدقيقة لمدرّج المدينة، وأكّد أن هذه هي أوّل قطعة يشاهدها من الفنّ الكلاسيكي. وفي فينيسيا، وقف على بعض الكنوز التي كان يعتبرها مهمّة لدراسته الفنّية.
في يوميّاته، يُظهر غوته اهتماما ملحوظا بجيولوجيا مناطق جنوب أوروبّا. وهو يبرهن على عمق واتساع معرفته في كل موضوع يتناوله. وكثيرا ما يصف عيّنات الصخور والمعادن التي وجدها في الجبال وعلى مصابّ الأنهار. كما يقوم بعدّة جولات مشياً على الأقدام إلى قمّة جبل فيزوف، حيث يصف الطبيعة وحمم اللافا المتدفّقة. وتَظهر براعته أيضا في حديثه عن أنواع النباتات والأزهار التي رآها، على نحو يحفّز الفكر ويثير التأمّل في نظريّاته النباتية.
وبالإضافة إلى تحقيقاته العلمية، فإن غوته يحافظ على اهتمامه وإعجابه الشديد بالفنّ. وبينما يُرجِع الفضل في نموّه الفنّي إلى كلّ من بالاديو ويوهان فينكلمان، فإنه يوسّع نطاق أفكاره عن مفاهيم الجمال الكلاسيكي وسمات العمارة الجيّدة. كما يعلّق في رسائله وبشكل دوريّ على النموّ والخيريّة اللتين زرعتهما روما بداخله.
ومن الواضح أن وفرة الأشياء الفنّية عالية الجودة التي رآها أثناء رحلته كان أمرا حاسما في تحوّلاته خلال هذين العامين اللذين قضاهما بعيدا عن مسقط رأسه في ألمانيا.

مكث غوته ثلاثة أشهر تقريبا في روما التي يصفها بأنها "أوّل مدينة في العالم". كانت روما مليئة بالآثار، لكن الكثير منها ذهب إلى غير رجعة. كان كلّ ما استطاع أن يفعله هو أن يتأمّل، في صمت، الوجود النبيل للحقب الغابرة التي انقرضت إلى الأبد.
في مايو من عام 1787، وصل غوته إلى نابولي وصقلية وزار أطلال بومبي. وقد وجد تناقضا ما بين ابتهاج نابولي ووقار روما. وكتب مقطعا عاطفيا يقول فيه: نابولي عبارة عن جنّة. الجميع يعيشون في حالة مُسكرة من نسيان الذات، بمن فيهم أنا. لقد كنت أبدو شخصا مختلفا تماما، ومن الصعب أن أتعرّف عليه. أمس قلت لنفسي: إما أنك خُلقت من قبل أو انك صُنعت الآن".
ويقول في مقطع آخر: يمكن للمرء أن يكتب أو يرسم بقدر ما يحبّ. لكن هذا المكان، الشاطئ، الخليج، فيزوف، القلاع، كلّ شيء هنا يجلّ عن الوصف. إنني لا أستطيع أن أصف لك مجد ليلةٍ وقت اكتمال القمر، عندما كنّا نتمشّى عبر الشوارع والساحات إلى منتزه كايايا "منطقة على شاطئ البحر في نابولي". كنّا نسير صعودا وهبوطا على شاطئ البحر. وكان يغمرني شعور بالفضاء اللانهائي. أن تكون قادرا على أن تحلم هكذا، فإن هذا بالتأكيد لممّا يستحقّ عناء الترحال".
أثناء إقامته في روما، التقى غوته عددا من الفنّانين الألمان، وعقد صداقات مع الرسّام يوهان هاينريش تيشباين ومع الرسّامة السويسرية المشهورة انجيليكا هوفمان.
كان يوهان تيشباين معجبا كثيرا بـ غوته. وقد أقام الأخير في غرفة الرسّام متّخذا لنفسه اسما مستعارا في محاولة للبقاء بعيدا عن أعين العامّة. ثم سافر الاثنان معا إلى نابولي ولزم كلّ منهما الآخر لبضعة أشهر. وفي وقت لاحق، انفصل الرجلان عن بعضهما البعض نظرا لتباين اهتماماتهما.
لكن قبل ذلك، رسم تيشباين لـ غوته لوحته الشهيرة بعنوان غوته في كامبانيا الرومانية التي أراد من خلالها إظهار إعجابه بالشاعر. وكامبانيا هي قرية صغيرة تابعة لمقاطعة ساليرنو في جنوب ايطاليا. وقد اخذ غوته استراحة قصيرة في هذا المكان أثناء تجواله في الريف الايطالي.
غوته في اللوحة يرتدي قبّعة رمادية واسعة وعباءة بيضاء بينما يسند ظهره على جدار حجري. وفي خلفية الصورة يظهر منظر طبيعي مع آثار رومانية قديمة. كانت هذه المنطقة مألوفة للشاعر، إذ كان قد تجوّل فيها مشيا على الأقدام بصحبة الرسّام وعاين جانبا من آثارها القديمة.
الرسّام أعطى غوته القبّعة التي أضفت عليه نوعا من الهالة ورسم رأسه بهيئة كبيرة وصوّره جانبيّا، بينما عيناه مركّزتان على اللانهائية. غوته، بقدميه المنزرعتين بثبات على الأرض ووضعه المستلقي ونظراته المتأمّلة، لا يبدو هنا إنسانا عاديا، ومن الواضح انه لا ينتمي إلى هذا العالم.
في وقت لاحق، حقّقت هذه اللوحة شهرة كبيرة لـ تيشباين بعد أن أصبح غوته، وشخصيات أدبية أخرى مثل الشاعر فريدريش فون شيلر والناقد يوهان هيردر، رموزا لانبعاث الفنّ والثقافة الألمانية.
ويقال انه لولا هذه اللوحة، لكان اسم تيشباين غير معروف سوى لقلّة قليلة من مؤرخّي الفنّ. غوته نفسه لم يُقدّر له أن يرى اللوحة. وقد بيعت بعد مائة عام إلى متحف شتادل بـ فرانكفورت، أي عندما كان غوته في ذروة شعبيّته كرمز للمعرفة والثقافة الألمانية الرفيعة.
لوحة تيشباين عن غوته والآثار الرومانية حفّزت رسّامين آخرين للذهاب إلى كامبانيا ورسمها. الفنّان الأمريكي توماس كول صوّر هذا الموقع بعد مرور سبعين عاما على رحلة غوته الايطالية. وقد رسمه، ليس باعتباره طبيعة كلاسيكية، وإنّما كمكان رومانسيّ مع أضواء المساء الغامضة التي تذكّر بغروب شمس الحضارة الرومانية، ومع الظلال الطويلة للآثار المهدّمة. قد لا تعكس صورة غوته كما رسمها تيشباين ظلالا على المكان، لكن من المستحيل تجاهل ظلاله الأدبية والفنّية الكبيرة على المشهد الكلاسيكيّ في زمانه.

Credits
bookophile.com

الأحد، يوليو 15، 2012

محطّات

كتابة على الجدار

بعض القصص الدينية والتاريخية يعود إليها الفضل في إثراء اللغة بالكثير من العبارات والصيغ الدلالية التي تصف مواقف أو حالات معيّنة بطريقة موجزة وبليغة.
ومن تلك العبارات واحدة تتكرّر كثيرا في لغة الأخبار وفي الأعمال الأدبية، وهي عبارة "الكتابة على الجدار". وآخر مرّة قيلت فيها كانت منذ يومين على لسان وزيرة الخارجية الأمريكية التي كانت تتحدّث عن الأوضاع في سوريا. وقد صرّحت كلينتون بقولها: لقد أوضحنا وشركاؤنا لروسيا والصين انه يتعيّن عليهما أن يُريا الأسد الكتابة على الجدار. إن على الرئيس السوري أن يرحل، لأنه لن ينجح في امتحان الثقة، ولأن على يديه الكثير من الدم".
فما هو أصل هذه العبارة، ومتى وكيف دخلت لغة الخطاب اليوميّ؟
هناك قصّة قديمة يقال أنها تعود إلى زمن حكم الملك البابليّ بلشاسار ابن القائد المشهور نبوخذنصّر. وطبقا للقصّة، كان بلشاسار ملكا متهتّكا ومستهترا. وذات ليلة، أقام في قصره في بابل حفلا دعا إليه ألفا من أفراد حاشيته وأصدقائه. كان الفرس آنذاك يفرضون حصارا مشدّدا على المدينة لاحتلالها وإخضاع أهلها.
لكن بلشاسار لم يأبه أو يهتمّ لذلك، إذ كان غاية ما يشغله هو إشباع أهوائه وملذّاته. وقد وصل به استهتاره، كما تروي القصّة، حدّ استخدام آنية المعبد المقدّسة كأقداح تُدار بها الخمرة على ضيوفه.
وبينما بلشاسار وحاشيته منهمكون في لهوهم وعبثهم، ظهرت فجأة يد على الجدار لتكتب بالآرامية هذه الكلمات الثلاث: معدودة، موزونة، مقسّمة".
أصيب الملك بالذعر ممّا رأى وأمر من فوره بجلب أبرع المفسّرين في بابل كي يشرحوا له سرّ تلك اليد ومعنى الكلمات الغامضة التي كُتبت على جدار القصر.
وفي النهاية جاءوا إليه برجل صالح يقال له دانيال. فقال مفسّرا ما حدث: أيّها الملك! لقد أحصى الله عمرك وأصبحت أيّامك معدودة. ووَزَن أعمالك فرجحت خطاياك على حسناتك. وحكم بزوال ملكك وتقسيم مملكتك بين الفرس والميديّين".
وتذكر القصّة انه في نفس تلك الليلة اقتحم الفرس قلاع بابل الحصينة وقتلوا بلشاسار واستولوا على المدينة وأخذوا أهلها سبايا وعبيدا.
ومنذ بدايات القرن الثامن عشر على الأرجح، أصبحت عبارة "الكتابة على الجدار" تُستخدم مجازا في اللغة للإشارة إلى حتمية وقوع خطر وشيك أو حدث جلل ومشئوم، أو للتدليل على أن نهاية شخص أو حدث ما قد تحلّ بأسرع ممّا يمكن تخيّله.
وأحيانا يقال عن شخص ما أنه يملك القدرة على قراءة الكتابة التي على الجدار، في إشارة إلى مقدرته في التنبّؤ بوقوع حدث سيّء أو بنهاية شيء ما بطريقة مأساوية أو منذرة بالخطر.

❉ ❉ ❉

التطوّر بين داروين ودافنشي

تشارلز داروين صدَم العالم عندما أعلن أن البشر يمتّون بصلة إلى القرود. وهي الفكرة التي قال بها شخص آخر سبق داروين بـ 350 عاما.
الشيفرة الوراثية أكّدت الشبَه الوراثي بين الإنسان والقرَدَة العليا، كما يقول العلماء. ونظرية داروين عن التطوّر تمّ الاعتراف بها باعتبارها الفكرة الأكثر أهمّية في العصور الحديثة.
لكن هل كان داروين فعلا أوّل شخص قال بهذه الفكرة؟
إن أهم جانب مثير للجدل في ثورة داروين الفكرية هو الاستنتاج بأننا أيضا تطوّرنا من فصيلة قديمة وأن أقرب المخلوقات إلينا هي القرود العليا.
والشيفرة الوراثية أثبتت مدى الشبه الكبير بين الإنسان والشيمبانزي. ومع ذلك وقبل داروين بقرون، ظهر عبقريّ آخر سبقه إلى هذا الاكتشاف، هو ليوناردو دافنشي.
كان دافنشي يعتبر أن ارتباط البشر الوثيق بالقرود أمر بدهيّ. وهو لم يطرح هذه الفكرة كحالة تستحقّ الجدل.
في مذكّراته الموجودة في المكتبة الملكية لقصر ويندسور، يذكر دافنشي - استنادا إلى دراساته في التشريح المقارَن - أن البشر والقرود هم أبناء عمومة، وأن تشريح الإنسان قريب جدّا من تشريح بعض المخلوقات الأخرى ومن بينها القرود.
ثم يؤكّد على هذا الرأي بقوله: القرَدَة وغيرها ليست فقط ذات صلة بالإنسان، بل إنها تنتمي تقريبا إلى نفس الفصيلة.
كتب دافنشي ملاحظاته هذه قبل خمسمائة عام وقال فيها أشياء قريبة جدّا مما قاله جيرد دايماند الكاتب في مسائل العلم الحديث في كتابه "صعود وسقوط الشيمبانزي الثالث".
إن جزءا من الاحترام الذي يحظى به داروين هو أنه طرح تساؤلاته في العصر الفيكتوري. ومن خلالها جرّد البشر من وهمهم القديم بتفرّدهم البيولوجي.
ترى كم من الشجاعة والعبقرية لزم دافنشي عندما طرح هذه الأسئلة قبل خمسة قرون؟!

❉ ❉ ❉

استراحة موسيقية





❉ ❉ ❉

ترويض النمر

للنمر حضور قويّ ودائم في الفلسفة والأدب والفنّ وفي كتب الحكمة القديمة.
اوجين ديلاكروا، الفنّان الفرنسيّ الرومانسيّ، كان مفتونا بالنمور. وكان يتوق لرؤية احدها أثناء أسفاره في بلدان المشرق كي يرسمه. لكنّ محاولاته لرؤية القطّ البرّي المتوحّش عيانا وسط الطبيعة لم تتحقّق. وعندما عاد إلى باريس، داوم على زيارة حديقة الحيوان فيها كي يراقب النمر ويدرس حركاته وسكناته تمهيدا لرسمه.
وفي ما بعد رسمه مرارا في العديد من لوحاته. من أشهر تلك اللوحات لوحته "اصطياد النمر" التي صوّر فيها حركة وعنف وضراوة هذا الحيوان وهو يقاوم محاولات مجموعة من الرجال الأشدّاء للإجهاز عليه وقتله.
إصرار وعزيمة الرجل الذي يمتطي حصانا ورعب الحصان وعدوانية النمر، كلّ ذلك أبرزه ديلاكروا في هذه اللوحة الرائعة من خلال الضوء الساطع والألوان المتوتّرة.
النمر أيضا موجود بكثرة في كتب الصينيين القدماء. وهناك حكمة صينية مشهورة تقول: إحتضن النمر وعُد إلى الجبل". والنمر في هذه الحكمة يرمز إلى التحدّيات التي نواجهها في الحياة. أما الجبل فيرمز إلى المكان الهادئ الذي نعود إليه طلبا للسلام والطمأنينة.
وعلى عكس الفكرة الشعبية القائلة بقتل النمر، فإن التصوّر الصينيّ المثاليّ يدعو إلى ترويض الحيوان الذي يقبع في دواخلنا كي نصبح على وئام معه. وترويض النمر يتطلّب الكثير من الوعي وإعمال العقل والعواطف.
النمر مشهور عادةً بقوّته وخفّة حركته وبجماله أيضا. أحيانا، يزمجر بعنف. وأحيانا أخرى، يموء بعذوبة مثل قطّ أليف. واحتضانه يعني، ضمناً، التفكير في احتمالات شتّى.
احتضان النمر يعني مواجهة المشاكل والتحدّيات التي تعترض طريقنا من اجل ترويضها ومعالجتها بصبر وحكمة بدلا من دفعها بعيدا. والوصول إلى مستوى من السكينة وراحة البال يتطلّب من الإنسان أن يروّض النمر "أو المواقف الصعبة" كي يعود إلى قمّة الجبل حيث السلام والملاذ الآمن.

Credits
humanities.com

الأربعاء، مايو 18، 2011

الأرض ومستقبل الإنسان

تذكّرت وأنا اقرأ تنبّؤات بعض العلماء بشأن مستقبل البشر على الأرض بعض أفلام الخيال العلمي التي تتحدّث عن أشكال غريبة من المخلوقات التي تذهب بعض النظريات إلى أنها ستستوطن الأرض بعد ملايين السنين، أي بعد أن يكون البشر بملامحهم وخصائصهم التي نعرفها اليوم قد انقرضوا نهائيا من على ظهر هذا الكوكب.
والحقيقة انه أحيانا يصعب رسم خط فاصل بين ما تقول به أفلام وروايات الخيال العلمي الشاطحة وبين تنبّؤات فئة من العلماء يصفون أنفسهم بعلماء المستقبليات حول طبيعة الحياة على الأرض بعد ملايين، وربّما بلايين السنين من الآن.
علماء المستقبليات يقولون إنهم يعتمدون في تنبّؤاتهم عن مستقبل الأرض على معلومات تتناول معطيات الفيزياء وقوانين الثيرمودايناميكس والتغييرات المناخية وتسارع التكنولوجيا وتطوّر البشر عبر ملايين السنين.
بعض العلماء يقولون إن شمس كوكب الأرض تكوّنت قبل أكثر من أربعة بلايين عام. وبناءً على بعض التقديرات، يُتوقّع أن تعيش الشمس ستّة بلايين عام إضافية قبل أن تستنفد وقودها نهائيا.
ويضيف أولئك العلماء إنه بحلول ذلك الوقت لن يكون هناك بشر كي يشهدوا موت الشمس، بل مخلوقات من نوع مختلف كمثل اختلاف البشر اليوم عن فصيلة الحشرات.
استكشاف المستقبل كان حتى وقت قريب مهمّة مقتصرة على رجال الدين. لكن تفكيرهم محدود زمانيا ومكانيا. وأقصى ما يمكنهم التنبّؤ به هو صعود الامبراطوريات وانهيارها، بالإضافة إلى القصص المتواترة عن "قيامة دينية" قد تقع ضمن فترات لا تتجاوز ألف عام.
أسلافنا من البشر الذين عاشوا قبل آلاف السنين على هذه الأرض لم يكن بمقدورهم أن يتنبّئوا بما سيكون عليه المستقبل، وبالتأكيد لم يكونوا يدركون بأن المستقبل سيكون مختلفا. فالحياة في تلك الأزمنة كانت بسيطة. كان الإنسان يولد ويموت في نفس البيئة وفي نفس الظروف. ولم تكن الكتابة قد اكتُشفت بعد، وبالتالي لم يكن هناك تاريخ مدوّن.
علماء المستقبليات، وبفضل التقدم التكنولوجي الهائل الذي أنجزه الإنسان، أصبحوا قادرين على التنبّؤ بما يخبّئه المستقبل البعيد من خلال محاولة رسم خارطة لشكل وطبيعة الحياة بعد بلايين السنين من الآن.
وأساليبهم في طلب هذه المعرفة هي مزيج من العلوم والفلسفة. أما افتراضاتهم التي يبنون عليها نظرياتهم فتستند إلى تطوّر كوكب الأرض والنظام الشمسي اللذين سيكونان مختلفين خلال الخمسين مليون سنة القادمة عمّا هما عليه الآن. ويضيف العلماء أن آلاف أو ملايين السنين من نشاط البشر على الأرض لا بدّ وأن يترك تغييرا على شكل الحياة على الكوكب.
غير أن العلماء ينظرون للماضي كمادّة للدراسة الموضوعية أكثر من كونه مجرّد فضاء للتأمّل الصامت أو الخيال العلمي أو الروايات الدرامية المشوّقة.
الكون، كما نعرفه اليوم، نظام معقّد جدّا ومن الصعوبة بمكان الإلمام بأسراره وألغازه الكثيرة. لكن العلماء لهم رأي مختلف. فهم مثلا يرون بأن الكون عبارة عن منظومة بسيطة نسبيا إذا ما قورن بنظام مشوّش مثل جسم الإنسان. وبالتالي فإن التكهّن بما سيحمله المستقبل هو مهمّة مجدية وممكنة معا.
بعض علماء الفلك يقولون إن احتراق كافّة النجوم التي يحتويها الكون ربّما يحتاج لألف مليون عام من الآن، وأن تبخّر آخر ثقب اسود في الكون يحتاج لعدد مهول من السنوات ربّما يزيد على عشرة أضعاف الرقم السابق.
العلم الحديث يستبعد النظرية القديمة القائلة بأن البشر يمثّلون ذروة تطوّر الحياة على الأرض. وهناك استشهاد بمقولة داروين الذي توقّع أن لا يحافظ أيّ نوع من المخلوقات على حالته أو شكله في المستقبل البعيد. ويذهب بعض العلماء إلى أن أهمّ تحوّل في أنواع الحياة لن يكون بيولوجيّاً، وأن التطوّر في المستقبل لن يحدّده الانتخاب الطبيعي كما كان يرى داروين بل التكنولوجيا، لأن قوّة الكمبيوتر تسارعت لدرجة انه يصعب اليوم تصوّر حدّ فاصل بين الإنسان والحاسب الآلي.
لقد تجاوز العلم اليوم خطوطا لم يكن بمقدور احد أن يتخيّلها من قبل. ومن الواضح أن العلم لم يعد يكتفي بمجرّد محاكاة نظم وقوانين الطبيعة، بل تخطّاها وأوجد ظروفا وأحوالا لم تُرَ أبدا من قبل على وجه الأرض. إذ يستطيع العلم اليوم تبريد الموادّ إلى جزء من الصفر المطلق، أي أبرد عدّة مرّات من أبرد مكان في هذا الكون. كما أن تجارب الشيفرة الوراثية من شأنها أن توجد كائنات غير معروفة على هذا الكوكب.
وما يشغل العلماء والمفكّرين الآن هو التأكّد ممّا إذا كان مقدّرا للبشر أن يروا ما سيحمله المستقبل البعيد. فالأنواع التي وُجدت على الأرض منذ نشأتها الأولى لم يعد موجودا منها الآن سوى واحد بالمائة فقط. وقد تصادف أننا، أي البشر، احد تلك الأنواع. ويضيف العلماء أن حاضر الإنسان هو أكثر خطرا من ماضيه بعدد من المرّات. بل إن 50 بالمائة من العلماء يتوقّعون احتمال انقراض البشر ويشيرون إلى أن التهديدات الكبيرة التي تحدق ببقاء الإنسان خلال المائة عام القادمة قد تكون خطرة جدّا على البشرية. والتهديدات تتضمّن خطر الإبادة النووية والفيروسات والبكتيريا، سواءً كانت طبيعية أو من صنع البشر.
الخطر الوجودي الذي يتهدّد البشر بالانقراض جرّاء حرب نووية أو فيروس قاتل هو ما يدفع العلماء إلى تصوّر تكنولوجيا قادرة على أن تحرّر البشر من النواحي الضعيفة في طبيعتهم وتحافظ على بقاء الإنسان حيّا ومزدهرا وتجعله أكثر قدرة على البقاء والاستمرار.
ويحدو العلماء أمل بأن ينجح علماء الأعصاب في التحكّم بالدماغ بحيث يمكن للإنسان تحقيق حالات من السعادة والأخلاق المطوّرة من اجل مجتمعات اقلّ هشاشة واقلّ عنفا. كما يتطلّعون إلى اليوم الذي تتوفّر فيه آلات فائقة الذكاء تحقّق استعمار الفضاء وتسهّل على الإنسان العيش على الأرض لبلايين السنين القادمة. ومثل هذا السيناريو يعدّ أفضل بكثير من تخيّل كائنات ما بعد البشر وهي تجلس عاجزة وتكتفي بمراقبة الشمس بينما يأخذ وقودها بالنفاد.
لكنّ سيناريو البقاء الأكثر إثارة للخوف والقلق يتضمّن، ليس موت الجسد فحسب، وإنما الموت الأخلاقي أيضا. فالتكنولوجيا التي قد تحرّر البشر من خطر الانقراض قد تحمل معها خطر تحويلهم إلى مخلوقات مجرّدة من طبيعتها الإنسانية. يقول العلماء: إن قيمة البشر لا تكمن في جوهرهم الفيزيائي وإنما في كونهم كائنات تشعر وتفكّر وتقيم علاقات مع الآخرين وتستمتع بالأدب والفنّ والموسيقى والشعر.. إلى آخره. ويضيفون: إن مرحلة ما بعد البشر قد تنتج مخلوقات ذات كفاءة عالية، لكنها بلا روح وتخلو من مشاعر الصداقة والإبداع الفنّي التي تستحقّ أن يعيش بها ومن اجلها الإنسان عندما كان إنسانا فقط.
التوقّعات كثيرة وكلّنا نمارسها. لكن الإنسان بشكل عام يعرف عادة عن الماضي أكثر مما يعرف عن المستقبل. بل حتى الماضي لا يعرف عنه إنسان اليوم سوى النزر اليسير. وما يقوله العلماء عن المستقبل يبقى في النهاية مجرّد تكهّنات قد تصدق وقد تخيب. كما أن هذه التوقّعات تطرح من الأسئلة أكثر ممّا تقدّمه من إجابات، لأن المستقبل مرهون بإرادة الله الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض وهو على كلّ شيء قدير.

الخميس، يونيو 10، 2010

بوّابات الفجر

في إحدى اللوحات التي رُسمت لتزيّن ديوان الرباعيات، يظهر عمر الخيّام مرتقيا ربوة شاهقة وقت السحَر بينما يحدّق في السماء متأمّلا منظر النجوم المتلألئة من بعيد. الذي يتأمّل الصورة لا بدّ وان يتخيّل أن الخيّام من موضعه المرتفع ذاك، وهو الذي درس علم الفلك وبرع فيه، كان يحاول اكتشاف بوّابات أو ممرّات يمكن أن تشفّ عمّا وراء السماء القريبة من عوالم وأكوان. ذلك ما كان يشغله دائما. كان دائم البحث عن إجابات ترضي فضوله وتروّض جموح نفسه الحائرة.
كلّما رأيت هذه اللوحة تذكّرت مقاطع بعينها من الرباعيّات وبخاصّة تلك التي يقول فيها الخيّام:
أطال أهل الأنفس الباصرةْ، تفكيرهم في ذاتك القادرةْ. ولم تزل يا ربّ أفهامهم، حيرى كهذي الأنجم الحائرةْ.
أفنيت عمري في اكتناه القضاءْ، وكشف ما يحجبه في الخفاءْ. فلم أجد أسراره وانقضى، عمري وأحسست دبيب الفناءْ.
لكنّ الشاعر، في غمرة أفكاره وتساؤلاته الكثيرة، لا يلبث أن يقتنع باستحالة أن يعرف الإنسان شيئا ابعد من وجوده المباشر. وعليه فإن الحكمة تقتضي أن يفكّر الإنسان بيومه وأن يستمتع باللحظة التي هو فيها:
لا توحش النفس بخوف الظنونْ، واغنم من الحاضر أمن اليقينْ. فقد تساوى في الثرى راحل غداً وماض من ألوف السنينْ.
أولى بهذا القلب أن يخفقا، وفي ضرام الحبّ أن يُحرقا. ما أضيع اليوم الذي مرّ بي، من غير أن أهوى وأن أعشقا.
الخيّام شخصية نادرة وغريبة لا ينفع معها أنصاف المواقف أو الحلول. إما أن تحبّه كثيرا وتأنس له وإما أن تكرهه وتنفر منه وتمقت شعره. وأنا انتمي إلى الصنف الأوّل. حدث هذا منذ أن سمعت الرباعيات لأوّل مرّة بصوت أم كلثوم وترجمة احمد رامي. وإلى اليوم، ما زلت افضّل ترجمة الأخير للرباعيات على ترجمة الصافي النجفي. هذا الموقف عفوي ولا علاقة له بشروط وقواعد النقد الأدبي أو معايير المفاضلة بين ترجمة وأخرى. غاية ما في الأمر أنني ألفت الرباعيات بصوت أم كلثوم وترجمة رامي وتعوّدت على سماعها بل وحفظت معظم مقاطعها عن ظهر قلب بحكم التعوّد والتكرار.
رامي وأم كلثوم يعود إليهما الفضل الأوّل في تعريف الجمهور العربي بالخيّام وبالرباعيات. وأغلب الظنّ انه ما كان بوسع أكثر الناس أن يعرفوا عن الخيّام وشعره شيئا لولا أن غنّت أم كلثوم الرباعيات بموسيقى ملحّن عظيم مرهف الحسّ ومتذوّق للشعر مثل رياض السنباطي.
وجزء مهم من جمال الرباعيات، القصيدة والأغنية، يكمن في أبياتها الأوّلى التي تتسلّل إلى أعماق النفس برقّة وعذوبة:
سمعتُ صوتا هاتفا في السحَرْ، نادى من الغيب غُفاة البشرْ. هُبّوا املئوا كاس المنى، قبل أن تملأ كأسَ العمر كفّ القدَرْ.
أفق خفيف الظلّ هذا السَحَرْ، نادى دع النوم وناغي الوترْ. فما أطال النوم عمرا، ولا قصّر في الأعمار طول السَهَرْ.
لبست ثوب العيش لم اُستشرْ، وحرتُ فيه بين شتّى الفِكَرْ. وسوف أنضو الثوب عنّي، ولم أدرك لماذا جئت وأين المفرّ.
وكم توالى الليل بعد النهارْ، وطال بالأنجم هذا المدارْ. فامشِِ الهوينا إن هذا الثرى، من أعين ساحرة الاحورارْ.
أطفئ لظى القلب بشهد الرضابْ، فإنّما الأيّام مثل السحابْ. وعيشنا طيف خيال فَنَل حظّك منه قبل فوت الشبابْ.
وتلك التي يقول فيها:
لا تشغل النفس بماضي الزمانْ، ولا بآتي العيش قبل الأوانْ. واغنم من الحاضر لذّاته، فليس في طبع الليالي الأمانْ.
القلب قد أضناه عشق الجمالْ، والصدر قد ضاق بما لا يُقالْ. يا ربّي هل يرضيك هذا الظمأ، والماء ينساب من أمامي زُلالْ.
لكنّ في الرباعيات مقاطع أخرى لا تقلّ جمالا ممّا لم تغنّه أم كلثوم. وهي امتداد لفلسفة الخيام وحيرته وقلقه الوجودي الممضّ:
عش راضيا واهجر دواعي الألمْ، واعدل مع الظالم مهما ظلمْ. نهاية الدنيا فناء فعش، فيها طليقا واعتبرها عَدَمْ.
الخمر كالورد وكأس الشرابْ، شفّت فكانت مثل ورد مُذابْ. كأنّما البدر نثا ضوءه، فكان حول الشمس منه نقابْ.
كنّا فصرنا قطرة في عُبابْ، عشنا وعدنا ذرّة في الترابْ. جئنا إلى الأرض ورحنا كما، دبّ عليها النمل حينا وغابْ.
خلقتني يا ربّ ماءاً وطينْ، وصُغتني ما شئت عزّا وهَونْ. فما احتيالي والذي قد جرى، كتبته يا ربّي فوق الجبينْ.
قبل أسابيع شاهدت برنامجا وثائقيا رائعا أعدّته إحدى محطّات البي بي سي عن حياة وشعر الخيّام. معدّ ومقدّم البرنامج، وهو أديب إيراني يعمل في القسم الفارسي بالإذاعة البريطانية، ظهر في بداية البرنامج وهو يحتسي كأسا من النبيذ في إشارة إلى إحدى السمات الفارقة التي تميّز الخيام وشعره. ثم تحدّث المذيع عن أهمّية مدينة نيسابور، أو نيشابور كما ينطقها الإيرانيون، مسقط رأس الخيّام التي كانت زمن الشاعر تضاهي القسطنطينية في مكانتها السياسية والثقافية. بعد ذلك انتقلت الكاميرا إلى كيمبريدج وظهر في الصورة عدد من الأكاديميين الانجليز والإيرانيين الذين تحدّثوا عن أهميّة الخيّام وبراعته في تصوير الروح الإنسانية والتعبير عن هشاشة الحياة وحيرة الإنسان.


وعلى خلفية من موسيقى الملحّن الإيراني محمّد رضا شجريان الذي وضع موسيقى الرباعيات بالفارسية، ظهرت صورة ادوارد فيتزجيرالد أوّل من ترجم الرباعيات إلى الانجليزية والرجل الذي جعل اسم الخيّام مشهورا في الغرب. ثم تحدّث شاعر إيراني عن الملامح المميّزة للرباعيات مشيرا إلى أنها تتّسم بالبناء النغمي الأخّاذ وقوّة التعبير والجرس الموسيقي وبكثرة الصور الخيالية والبلاغية والروحية. وهناك فكرة تتكرّر باستمرار في شعر الخيّام وتتمثّل في شعور الإنسان باليأس أمام القوى الغيبية والخفيّة التي يصعب على الإنسان كبحها أو التحكّم بها مثل الزمن والمصير أو القدر. وأضاف أن إشارات الخيّام المتواترة عن الموت الذي يحصد الأرواح بلا تمييز تثير في النفس قدرا غير قليل من الأسى والحزن. ثم تحدّث عن ترجمة فيتزجيرالد للرباعيات مذكّرا بحقيقة أنها ظهرت في نفس السنة التي نشر فيها تشارلز داروين كتابه الشهير أصل الأنواع، وهو ما يعتبر مفارقة لافتة. ثم قال الشاعر مخاطبا المذيع: تأمّل هذه الأبيات من الرباعيات، وقرأ:
هات اسقني كأس الطِلا السلسلِ، وغنّني لحنا مع البلبلِ. فإنما الإبريق في صَبّهِ، يحكي خرير الماء في الجدولِ.
كان الذي صوّرني يعلمُ، في الغيب ما أجني وما آثمُ. فكيف يجزيني على أنني، أجرمت والجرم قضا مبرمُ.
لم يجنِ شيئا من حياتي الوجودْ، ولن يضير الكون أنّي أبيد. وا حَيرتي ما قال لي قائل، ماذا اشتعال الروح كيف الخمودْ.
لو أنّني خُيّرت أو كان لي، مفتاح باب القدَر المقفلِ. لاخترت عن دنيا الأسى أنني، لم أهبط الدنيا ولم أرحلِ.
يا طالب الدنيا وُقيتَ العثارْ، دع أمل الربح وخوف الخَسَارْ. واشرب عتيق الخمر فهي التي، تفكّ عن نفسك قيد الإسارْ.
وقال الشاعر معلّقا: الذي استطاع ترجمة هذه الأبيات بروحها ومضمونها الفلسفي والوجودي لا بدّ وأن يكون هو نفسه شاعرا مبدعا ومترجما متميّزا. ثم استمرّ يقرأ مقاطع أخرى من الرباعيات وهو يبتسم ويهزّ رأسه تأثّرا وطرباً:
حار الورى ما بين كفر ودينْ، وأمعنوا في الشكّ أو في اليقينْ. وسوف يدعوهم منادي الردى، يقول ليس الحقّ ما تسلكونْ.
الخمر توليك نعيم الخلودْ، ولذّة الدنيا وأنس الوجودْ. تحرق مثل النار لكنّها، تجعل نار الحزن ماءاً برودْ.
قالوا امتنع عن شرب بنت الكرومْ، فإنها تورث نار الجحيمْ. ولذّتي في شربها ساعة، تعدل في عيني جنان النعيمْ.
لو كان لي قدرة ربّ مجيدْ، خلقتُ هذا الكون خلقا جديدْ. يكون فيه غير دنيا الأسى، دنيا يعيش الحرّ فيها سعيدْ.
خير لي العشق وكأس المدامْ، من ادّعاء الزهد والاحتشامْ. لو كانت النار لمثلي خلتْ، جنّات عدن من جميع الأنامْ.
ثم استضاف البرنامج فيلسوفا إيرانيا قال إن ما حبّب الغرب في شعر الخيّام هو فهمه للروح الإنسانية والنفس الداخلية من قبيل حديثه عن الألم والموت والحبّ والسعادة والمصير والشكّ واللا يقين. وأضاف: الانجليز من جهتهم وجدوا في الرباعيات أشياء من شكسبير والإنجيل وكارلايل وتينيسون. وكانت الرباعيات تتحدّث إلى انجلترا الفيكتورية في العديد من أجزائها. وأضاف: إن من الخطأ أن نحصر الخيّام في الصور واللوحات التي تصوّره مع الخمر والنساء. فالنبيذ في الرباعيات يرمز للمتع الجمالية والفكرية وليس مقتصرا على المتعة الحسّية فحسب. وختم حديثه بالقول: انتشار الخيّام وشهرته المدويّة يصعب أحيانا تفسيرها أو فهمها. لقد غطّت شهرته على شعراء إيرانيين كبار ولا يقلّون أهمّية، مثل نظامي والرومي وسعدي وحافظ الشيرازي والعطّار وسواهم.
ثم استضاف البرنامج رسّاما تحدّث عن الرسوم التصويرية التي صاحبت الطبعات المختلفة من الرباعيات بدءاً من لوحات ادموند ديولاك الساحرة ومرورا برسومات ايليو فيدر واتش جي فورد وانتهاءا برسومات العديد من الفنانين الإيرانيين.
وظهر بعد ذلك أكاديمي بريطاني تحدّث عن بعض خصائص شخصية الخيّام فقال: الخيّام التاريخي لا يُعرف عنه الشيء الكثير، ومن الصعوبة بمكان إعادة بناء ملامح شخصيّته بدقّة. هو حينا شاعر وحينا آخر متصوّف، في حين يعتبره آخرون لا أدرياً أو لا دينياً. لكن الثابت انه كان شخصا متعدّد الاهتمامات، وكانت له إسهاماته البارزة في الرياضيات وعلم الفلك. وقد أطلق اسمه على احد الكواكب البعيدة تكريما له وتقديرا لاكتشافاته المهمّة في ميدان الفلك. وأضاف: كانت الرباعيات تُعطى دائما تفسيرات رمزية ومجازية تناسب الظروف السياسية والاجتماعية لكلّ عصر. وقد أحبّ الناس هذه القصائد لأنهم كانوا يرون فيها مصدرا من مصادر الحكمة القديمة، بالإضافة إلى تصويرها الساحر لبعض متع ومباهج الحياة مثل الإشارات المتكّررة فيها إلى الحدائق الغنّاء والنساء الغامضات، وهو ما أسهم في تشكيل نظرة الغربيين لطبيعة الثقافة الإسلامية عموما.
ثم انتقلت الكاميرا إلى مدينة نيسابور، وبالتحديد إلى المقبرة التي يقوم فيها ضريح عمر الخيّام. المناسبة كانت الاحتفال بإقامة تمثال لـ فيتزجيرالد إلى جوار ضريح الخيّام بمناسبة مرور 150 عاما على ترجمة الرباعيات إلى الانجليزية. الملفت للنظر أن أكثر من حضروا المناسبة كانوا من النساء. وقد صاح الجميع لحظة رفع الستار عن التمثال مردّدين: لا اله إلا الله.
المفارقة هي أن إيران الرسمية لم تتصالح بعد مع الخيّام، مع انه يمثل جزءا لا يتجزّأ من هويّة إيران التاريخية والأدبية والثقافية. غير أن نفوذ الشاعر في المجتمع الإيراني كبير بما لا يوصف. وقد ظهرت في البرنامج صور لفتيات محجّبات وهنّ يضعن الزهور على ضريحه ويحملن كراريس ملوّنة تضم أشعاره.
على موسيقى النهاية لاح لي طيف الخيّام مرّة أخرى. كان ما يزال يرنو ببصره نحو الأفق البعيد وقد أحاطته غلالة من نور بينما كانت النجوم ترسل بريقها الشاحب الأخير قبل أن تختفي خلف بوّابات الفجر. كان يردّد بصوت خاشع متبتّل آخر أبيات الرباعيات:
يا من يحار الفهم في قدرتكْ، وتطلب النفس حمى طاعتكْ. أسكرني الإثم ولكنّني، صحوت بالآمال في رحمتكْ.
إن لم أكن أخلصت في طاعتكْ، فإنّني اطمع في رحمتكْ. وإنّ ما يشفع لي أنني قد عشت لا أشرك في وحدتكْ.
يا عالِم الأسرار علم اليقينْ، يا كاشف الضرّ عن البائسينْ. يا قابل الأعذار عدنا إلى ظلّك، فاقبل توبة التائبينْ.

الاثنين، أبريل 06، 2009

حياة في الكُتُب

بعد وفاة احد زملائنا المشتركين، جاء اتصال من ابنه يلحّ فيه بضرورة الإسراع في توظيب أمتعة والده وأشيائه الشخصية تمهيدا لشحنها إلى بلده.
وقد ندبتُ أنا لهذه المهمّة على الرغم من أنني لم أكن اعرف الرجل بما فيه الكفاية بحكم فارق السنّ ونوعية التخصّص.
بدأت بالمكتبة. كان الراحل معروفا بشغفه الكبير بالقراءة وحرصه على اقتناء الكتب بانتظام. وبدأتُ في جمع الكتب من فوق الأرفف ورصّها في كراتين.
لحظتها خامرني إحساس بالحزن والضيق. كنت وأنا ألمس الكتب التي تركها وراءه كمن يباشر عملية تفريغ عالم صغير يخصّ شخصا آخر.
كتب، عناوين وأسماء كثيرة تبدو بلا نهاية: جويس، اورويل، سارتر، ديورانت، لوركا، ديكارت، تولستوي، ووردزوورث، شتاينبك، بورخيس، مارلو، همنغواي، اليوت، طاغور، داروين، كونراد، برونتي، مونتسكيو، وولف، بروست، ارسطو، نيرودا، غوته، كولريدج..
وبينما أنا مستغرق في النظر إلى تلك الأسماء، تذكّرت كلّ الكتب التي سبق لي وأن قرأتها. وتساءلتُ عن جدوى ونفع كل تلك القراءة. روايات، قصائد شعر، مذكّرات، سيَر شخصية، تاريخ، فلسفة.. إلى آخره.
الغريب أنني كلما فكّرت في تلك الكتب، كلّما أصبحت اقلّ تذكّرا لمضامينها.
كلّ ما أتذكّره مجرّد ِنتَف وأجزاء صغيرة. جملة من قصّة أو رواية هنا، وصف ما لشخصية هناك، بيت شعر، سطر من جمال خاصّ ما يزال يسكن زاوية قصيّة من الذاكرة.
وخيّل إليّ أن هذا الذي بقي ليس بالشيء الكثير مقارنة مع كل تلك الملايين من الكلمات والعبارات والصور.
مال كثير ووقت أكثر استثمرناه، وما زلنا، في الكتب.
الآن ذهبت الكلمات وتلاشت المشاهد. لم يبقَ من متعة القراءة سوى انطباعات سريعة وصور عابرة.
وأظنّ أن هذا يشبه، إلى حدّ كبير، الحياة نفسها. دقائق، ساعات، وأيّام لا تعدّ ولا تحصى من الوجود الثمين. التفاصيل تتوارى ويصبح أكثرها نسيا منسيّا.
ولا يبقى في النهاية سوى الإحساس بها. هذا كلّ ما يبقى. مجردّ ظلّ لحياة كان لها وجود ثم تبدّدت، مثل الأزهار التي تذوي وتجفّ في الصيف ولا يبقى منها سوى بعض الشذى الذي لا يدوم طويلا. "مترجم"

الثلاثاء، فبراير 10، 2009

خواطر في الأدب والفنّ

استعادة


الليل منقذ. وكثيرا ما يفعل.
الليل يخفي بسحره الأخطار الكامنة والألم والهواجس العميقة.
النهار يأتي بمفاجئاته المخيفة، بالصراع والتهيّج وعدم الارتياح.
النهار يذكّرنا بالانضباط وبالسلوك الذي يتعارض عموما مع التفكير.
النهار يجعلنا خاضعين للرغبة والسلطة والطموح.
لكن الليل مسألة مختلفة. إنه يأتي من كوكب آخر، من عالم مختلف.
الليل يجلب الرياح والظلام وستارة بلا اسم.
الليل مختلف، لأنه ينقذنا من مزيد من الآلام والجراح.
الليل يعيدنا إلى حالتنا الأصلية.
يحمينا من المزيد من الأسئلة ويتركنا في سلام.
الليل سبب طبيعي لأن نحيا من بين أسباب كثيرة لأن نموت.
في الليل، نحن بعيدون عن الجموع، عن الأصدقاء، وعن التملّق بما فيه تملّقنا نحن.
وإذا كان الليل متملّقا أيضا، فهو متملّق أمين.
الليل لا يقدّر بثمن، لأنه يمنحنا المرآة التي نرى فيها أنفسنا وتكشف عن رغباتنا الدفينة التي هي أصدق أفكارنا.
الليل يمنحنا تلك الكآبة اللذيذة ويوفّر لنا ملاذا من الجنون المتسارع للنهار، من الوجوه الرطبة لضوء النهار.
الليل يسمح لنا بإغراق أنفسنا في مياه الأحلام العميقة وفي سيكولوجيا العقل الباطن.
الليل عادة لا يعطينا الطمأنينة الكاملة.
لكنه يحمل وعدا بالسلام، وإن كان زائفا أحيانا.

❉ ❉ ❉

❉ ❉ ❉

فتاتان مع أزهار دُفلى


هذه اللوحة مختلفة تماما عن سائر لوحات غوستاف كليمت. فهي تبدو واقعية في مقابل الطابع الرمزيّ الذي يغلب على أعمال هذا الرسّام.
اللوحة مرسومة في الهواء الطلق ولم تتحوّل بعد إلى ذلك الأرابيسك البديع الموشّى بالزينة الثمينة كما في أعمال الرسّام الناضجة.
رسم كليمت فتاتان مع أزهار دُفلى وهو دون الثلاثين. ومع ذلك يبرهن فيها على إتقانه وبراعته في الرسم.
خلال تلك السنوات، كان كليمت يركّز اهتمامه على الفنّ الانجليزيّ من العصر الفيكتوريّ، وخاصّة فنّ ما قبل الرافائيليين.
كانت هذه هي اللحظة التي تجاوز فيها كليمت الحدود الضيّقة للرسم من حيث كونه إعادة بناء للتاريخ أو واقعية فوتوغرافية. ومن هنا بدأ مسار الزخرفة الأسلوبية الذي سيقوده في غضون سنوات قليلة إلى الشعرية الكاملة للرمزية.
في هذه اللوحة تبرز إلى الواجهة ثلاثة عناصر رئيسية: الألوان الكهرمانية والزهرية الدافئة، وحساسية الصور والرموز، والتوازن.
النقوش الذهبية على غطاء رأس الفتاة إلى اليمين تُصدر بريقا وتعطي انطباعا ثلاثيّ الأبعاد. نسيج الحجر والقماش والزهور والبشرة يبدو واقعيّا جدّا.
"فتاتان مع أزهار دُفلى" لوحة مكثّفة عاطفياً. وأوّل ما يلفت الانتباه فيها هو غطاء الشعر اللامع الذي ترتديه الفتاة الأطول ذات الفستان الأسود. هناك شيء ما متطوّر وحسّاس في ملابسها وفي طريقة وقوفها وفي اهتمامها بالزهور. ويبدو أنها تحاول أن تشرح للفتاة الأصغر ذات الشعر الأحمر شيئا له علاقة بتفاصيل الأزهار، ربّما شكلها وجمالها.
مزيج الألوان الذي استخدمه الرسّام في هذه اللوحة مذهل. الألوان الدافئة للبشرة والجدران والشعر تصاحبها ألوان سوداء وخضراء داكنة وحمراء.
استخدام كليمت للون الذهبيّ يضفي تأثيرا شعوريا. البقع الذهبية تعطي للوحة طابعا واقعيا لدرجة أن الناظر يكاد يلمس نسيج الملابس بيده. النسيج الدافئ لعامود الحجر الكهرمانيّ والجدار في الخلفية تكمّله الألوان الحمراء والوردية على الشجرة والأزهار.
هذه اللوحة تتضمّن إحساسا "طبيعيّا وحقيقيّا". وهي تذكّر الناظر بصورة فوتوغرافية من حيث أنها تمسك بلحظة في الزمن وتترك للمتلقّي مهمّة السؤال عن القصّة التي ترويها اللوحة.
الجدار الظاهر وراء الفتاتين يبدو في حالة سيولة. اليدان والذراعان وفروع الشجرة، بل وحتى الأشياء الجامدة في اللوحة تبدو كلّها مفعمة بالحياة وبالحركة.
لوحة جميلة بالفعل. وكليمت يحاول التعبير من خلالها عن حساسية وجمال وتألّق الأنثى. وأغلب الظنّ أن اللوحة تحكي عن قصّة ما. لكنها متروكة لخيال الناظر الذي يتعيّن عليه أن يكتشفها ويتبيّنها.
هذه اللوحة تشبه إلى حدّ كبير الرسوم التوضيحية التي تزيّن القصص القصيرة للأطفال بالنظر إلى أنها تتحدّث إلى الناظر مباشرة.
وهي لا تشبه أعمال كليمت التي رسمها في وقت لاحق من حيث كونها أكثر واقعية وأقلّ سيولة. ومع ذلك، ومثلما هو الحال في جميع أعماله الأخرى، يبدو كليمت متمكّنا في أسلوب استخدامه للألوان بطريقة مبتكرة وبارعة.

Credits
klimt.com

الاثنين، مارس 13، 2006

في التسامح بين الأديان

لقد صار قلبي قابلا كلّ صورة‏‏
فمرعى لغزلان ودير لرهبـان‏‏
وبيت لأوثان وكعبـة طائف‏‏
وألواح توراة ومصحف قرآن‏‏
أدين بدين الحبّ أنّى توجّهت‏‏
ركائبه فالحب ديني وإيمانــي‏‏
- محيي الدين بن عربي

شاهدتُ على إحدى القنوات التلفزيونية منذ أيّام تحقيقا مصوّرا من مدينة بنغالور الهندية، ظهر فيه آلاف من الرجال والنساء وهم يطوفون حول تمثال ضخم لامرأة، بينما انشغل البعض منهم في سكب كميّات هائلة من الحليب والعسل على رأس التمثال وذقنه وصدره وهم يردّدون أناشيد وأدعية دينية.
وقد فهمت ممّا أورده التحقيق أن تلك المجموعة تنتمي إلى طائفة من طوائف الهندوس الكثيرة يسمّون بـ "الجيـن Jainism " يحجّون إلى ذلك المكان المقدّس مرّة كل ثلاث عشر سنة ليطهّروا أنفسهم من الذنوب ويطلبوا البركة من كبير الآلهة.
وقد خطر بذهني وأنا أتابع ذلك المنظر المهيب أن الحجّ كعادة طقوسية موجود في كافة الأديان تقريبا. ثمّة دائما من يحجّ، حيناً إلى تمثال وأحيانا إلى بناء أو صرح أو معلم ما. وهناك منّا من لا يتردّد في وصف هذا النوع من الطقوس بالوثنية وغياب العقل. مع أن العقل نفسه يقف عاجزا أحيانا عن استيعاب أو فهم بعض الطقوس التي يمارسها اتباع الديانات التوحيدية الكبيرة. حتى الوثنية تعتبر مفهوما نسبيا وفضفاضا برغم ما ترسّخ في وعينا الجماعي عن هذه المفردة من دلالات لغوية وفلسفية بالغة السلبية.
داروين وأتباع نظرية النشوء والارتقاء يزعمون أن البشر، إذ يحجّون، إنما يترسّمون خطى أسلافهم من القرود التي أدّت جماعة منهم الحجّ قبل حوالي خمسين مليون عام، وان الحجّ بمعناه العام يتضمّن فكرة العودة إلى الأسلاف والتوق إلى الماضي والحنين إلى الأمكنة التي درج عليها الأقدمون. وفي هذه الطقوس رمز للاتصال بالماضي والتطهّر والتسامي والتحوّل النفسي والروحي ومحاولة التحرّر من الإحساس بالغربة في هذا العالم الفاني.
ومنذ يومين قال لي صديق ونحن نتناقش في هذا الموضوع أن هناك طائفة أخرى من الهندوس دأب أفرادها على أداء فريضة حجّ خاصة بهم مرّة في السنة. وهؤلاء يتوجّهون إلى المكان المخصّص لحجّهم بشعور طويلة ولحى كثة منسدلة على بطونهم. بل وحتى أعضاؤهم التناسلية – يقول الصديق - يمكن رؤيتها بوضوح وهي تتدلّى من تحت تلك الأسمال البالية التي يشدّونها على خصورهم قبل أن يتخفّفوا تماما من لباسهم لحظة وصولهم إلى النهر المقدّس.
وعندما يصل الموكب إلى وجهته يقوم رجال الشرطة بفرض طوق على المكان يوفّر الحماية للحجاج ويمنع عنهم نظرات المتطفّلين والدخلاء.
طبعا لو أخضعنا هذه الحالة لتفسيرات داروين وجماعته لقالوا لنا إن نبذ هؤلاء للباس وتعمّدهم المشي وهم عراة فيه أيضا مضاهاة لحياة الأسلاف الذين كانوا يعيشون على الفطرة ولا يكادون يجدون ما يسترون به عريهم أو يسدّ جوعهم.
خلاصة الكلام أن جميع الأديان والعقائد تستند إلى نظم وشعائر وتعبيرات سلوكية غاية في التركيب والتعقيد تشكّلت عبر مئات أو آلاف السنين، وورثها اتباع تلك الديانات جيلا بعد جيل. وهي وإن تباينت في مظاهرها وتجلياتها إلا أنها تلتقي في النهاية عند كونها تعبيرا عن حاجة الفرد لاثراء تجربته الروحية من خلال ربطها بقوّة أو قوى ميتافيزيقية عُليا.
إننا لو ولدنا في الهند لكنّا الآن هندوسا نحجّ إلى تمثال تلك المرأة العارية ونصبّ على رأسها الحليب والعسل، ولو ولدنا في الصين أو التيبت لكنّا اليوم على دين بوذا ذلك الرجل الطيّب، لان المرء على دين أبيه وأسلافه.
هذه الاختلافات والتمايزات بين الأديان تفرض على البشر أن يكونوا اقل دوغماتية وتعصبّا لدياناتهم الخاصّة وأن يكونوا اكثر انفتاحا وتسامحا مع اتباع الديانات الأخرى، وأن يتفهّموا حقّ كل إنسان في اختيار الطريق المناسب الذي يعتقد انه يوصله إلى الحقيقة.