:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات إل غريكو. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات إل غريكو. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، مارس 11، 2015

ألوان إل غريكو


رغم اسمه المستعار الذي يعني "الإغريقي"، فإن إل غريكو لم يكن يسمّي نفسه "اليوناني"، بل كان يوقّع لوحاته باسم "الكريتي" نسبة إلى جزيرة كريت حيث وُلد.
لوحات هذا الرسّام عندما يعاد استنساخها تموت. ولا يوجد رسّام آخر يمكنه أن يعيد إنتاج ذلك اللون البنفسجي الفانتازي أو الأزرق السماوي بمثل تلك الروعة والدقّة.
وإذا كان هناك من لا يزال يفضّل نكهة لوحات إل غريكو، فإن أفضل مكان لتذوّق صوره هو طليطلة؛ المدينة التي وصلت فيها موهبته الفنّية إلى أوجها.
وخيال إل غريكو يمكن مضاهاته بالطابع الفخم لمباني هذه المدينة. وفقط في طليطلة بإمكاننا أن نرى كيف أن مناظره الغيمية في السماء وعلى الأرض استفادت من الدراما المتحوّلة التي كانت تحدث في الجوّ فوق رأسه.
ورغم ذلك، فإن الرجل الذي قضى النصف الأوّل من حياته على ارض جزيرة كريت مسقط رأسه لم يستطع أبدا محو ذكرى ألوان الجزر اليونانية المشبعة بأشعّة الشمس. وهذه الألوان تتردّد كثيرا في أعماله كاللون الفيروزي لمياه بحر ايجه، واللون الأصفر البرّاق لأزهار المارغيتا التي تفترش حقول كريت في بدايات الصيف، واللون البنفسجيّ الساحر والهشّ لشقائق النعمان الذي حوّله إلى شال يغطّي الرأس الأحمر لمريم المجدلية في إحدى لوحاته المبكّرة والفخمة "فوق".
في طليطلة عاش إل غريكو حياة بسيطة واستطاع التكيّف بسرعة مع أجواء هذه المدينة التي شُيّدت في الأساس من امتزاج الثقافات الإسلامية واليهودية والمسيحية.
الموقع الجغرافيّ الدراماتيكي لطليطلة مكّن الرسّام من ابتكار حيل لا نهاية لها للتلاعب بالسماء والغيوم والطبيعة.
من ناحية أخرى، كانت كريت، اكبر الجزر اليونانية منذ العصر البرونزيّ على الأقل، عالما منعزلا ثقافيّا وسياسيّا. وفي القرن السادس عشر، كان معظم البرّ الكريتي واقعا تحت سيطرة الحكم العثماني. وفي زمن إل غريكو كانت كريت تُحكم من قبل حامية عسكرية كانت تشكّل عُشر عدد سكّان الجزيرة.
الرسّام الايطالي تيشيان ربّما كان النموذج المفضّل عند إل غريكو. غير أن تعامل غريكو مع الألوان الزيتية يعكس أيضا دراسته عن قرب لأسلوب تنتوريتو، الرسّام الايطالي الآخر المشهور بقطعه اللامعة من الطلاء والتي تحاكي منظر تساقط المطر.
ولا بدّ وأن فينيسيا كانت المكان الذي بدأ فيه إل غريكو جمع الكتب، ومعظمها كان باليونانية والايطالية. كان يمتلك مكتبة تحتوي على العديد من الكتب. ولم يكن يشتري الكتب للزينة أو التباهي، بل كان يقرؤها بعناية ويسجّل أفكاره الخاصّة في هوامشها. وقد اشترى، من ضمن ما اشترى، نسخة من كتاب جورجيو فاساري "تاريخ الفنّانين" وملأ هوامشه بملاحظاته وتعليقاته بالايطالية.
ويبدو أن إحساسه بالأبوّة كان العلامة الأكثر عمقا في حياته. فقد أسره منذ البداية جمال نساء طليطلة. وبعد عام من وصوله إليها، كانت إحداهنّ، واسمها هيرونيما ، قد حملت منه بطفل. لكن إل غريكو والمرأة لم يتزوّجا أبدا. ويبدو أنها توفّيت بعد وقت قصير من ولادة طفلهما.
هذا الطفل هو جورج مانويل الذي سيظهر في ما بعد على هيئة صبيّ أنيق وجميل الملامح في تحفة إل غريكو المسمّاة دفن كونت اورغاس .


في الرسم الاسباني كان من النادر أن ترى منظرا طبيعيّا. وهذه الندرة يمكن عزوها للتاريخ الإسبانيّ نفسه. فحركة الإصلاح الكنسيّ المضادّ في اسبانيا القرن السادس عشر كانت تتّخذ موقفا معارضا بشدّة من الأفكار الكلاسيكية والانسانوية.
والعقيدة الكاثوليكية ذات التفسير المتشدّد للدين كانت تنظر إلى موضوع الطبيعة البشرية، والطبيعة إجمالا، على انه منحطّ وفاسد. وأن تتأمّل جمال الطبيعة، معناه أنك تشغل نفسك بفعل من أفعال الزندقة والوثنية. ونتيجة لذلك، ظهرت أنواع عدّة من رسم الطبيعة.
لكن خلال النصف الثاني من القرن السادس عشر، أي عندما أتى إل غريكو ليعيش في اسبانيا، اكتسح تيّار صوفي وغنائيّ اسبانيا. وبدلا من رسم الأرض خضراء ومضيافة، بدأ الرسّامون يستخدمون الطبيعة كمكان للأحداث المقدّسة.
وفي مناظر إل غريكو الطبيعية يمكن أن نرى هذه العاطفة المشبوبة. فأسلوبه العصبيّ والصوفيّ والرؤيويّ في الرسم لا يعبّر فحسب عن المناخ الفكريّ والثقافيّ لعصره، وإنّما أصبح بعد قرون نموذجا للجيل التالي من الرسّامين الاسبان، بمن فيهم دي غويا وثولواغا وبيكاسو ودالي وخوان ميرو وغيرهم.
اسبانيا بدأت رحلة أفولها الطويل كقوّة عالمية مهيمنة ابتداءً من النصف الثاني من القرن السابع عشر. وخلال تلك الفترة من العزلة النسبية، ظلّت البُنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية القديمة على حالها، الأمر الذي عطّل عمليات تحديث البلاد. ومقاومة التغيير هذه أنتجت عادات وثقافة وفنّا متفرّدا ومختلفا عمّا كان موجودا في بقيّة البلدان الأوربّية.
المناظر الطبيعية الاسبانية أصبحت تجسّد العمود الفقري لهويّة البلاد. والكتّاب والفنّانون في أواخر القرن التاسع عشر رفعوا ذلك النوع من الرسم إلى مستويات من التقشّف والقوّة وأصبح مزيجا من الصور الأسطورية والتاريخية المستمدّة من الأحداث العظيمة من الماضي. وصار الرسم الاسباني للطبيعة يعبّر عن التاريخ الوطني، وأيضا عن الروح الفردية والجماعية.
رؤية إل غريكو كانت متجذّرة في تجاربه الشخصية وفي المناخ الديني لحركة الإصلاح المضادّ، أي عندما كانت البروتستانتية تشكّل تهديدا للكنيسة الكاثوليكية.
ولوحاته تبدو عاطفية مع تشوّهات مستطيلة واستخدام بارع للضوء والعتمة وإحساس قويّ بالحركة. في لوحته عن القدّيس يوحنّا ، وهي إحدى آخر لوحاته وأكثرها غموضا، يرسم شخصية هذا الناسك وهو يرفع يديه بالدعاء إلى السماء. وفي الخلفية تظهر سماء مضطربة وقطع من الحرير الأصفر والأخضر المنسدل وراء الأشخاص.
هذه اللوحة تصوّر حادثة من الإنجيل. والرسّام ضمّن رؤيته عن القصّة تشويها للأشكال وتحوّلات لنقاط الرؤية وضوءا مسرحيّا وطاقة روحانية ومظهرا ديناميكيا. وقد عمل على اللوحة لستّ سنوات وحتى وفاته في العام 1614م.
كانت تلك أصعب سنوات حياة إل غريكو. كان وقتها يعاني من الإفلاس المالي ومن أفول نجمه قبل الأوان. ولأنه كان بلا دخل ثابت أو موارد، فقد واجه غائلة الفقر والحاجة. ولا بدّ وأن الأمر تطلّب منه إيمانا لا يُصدّق كي ينجز هذه اللوحة الرؤيوية المتميّزة.
المعروف أن هذا العمل تعرّض للإهمال، وأحيانا للتخريب. وما نراه اليوم ليس سوى جزء بسيط من اللوحة الأصلية التي ضاع الجزء العلوي منها مع تغيّر الظروف وتقادم الزمن.

Credits
guggenheim.org
nybooks.com

الاثنين، فبراير 13، 2012

دَفن كونت اورغاس

إسبانيا، طليطلة، والأطراف المستطيلة والألوان النابضة بالحياة. هذه هي الكلمات التي تقفز إلى الذهن عندما يُذكر اسم إل غريكو، احد أعظم الرسّامين في التاريخ.
أصله من جزيرة كريت باليونان. وقد بدأ مسيرته كرسّام باسمه الأصلي دومينيكو ثيوتوكوبولوس. عمل في البداية كرسّام للأيقونات. لكن الأيقونات مسطّحة ولا حياة فيها. كما أنها قديمة الطراز. لذا قرّر دومينيكو أن يتعلّم فنّ الرسم الواقعي. وبحكم كونه مواطنا من فينيسيا، التي كانت تحتلّ كريت في ذلك الوقت، فقد اختار أن يسافر إلى فينيسيا. وفيها تعلّم كل ما استطاع أن يتعلّمه من الرسّامين الكبار مثل تيشيان وتينتوريتو وغيرهما. كما أتقن الأسلوب الفنّي الجديد المسمّى الماناريزم أو الأناقة المتكلّفة.
وبعد قضائه بعض الوقت في فينيسيا وروما، ذهب دومينيكو إلى إسبانيا. وهناك منحه المعجبون به اسمه الذي سيشتهر به في ما بعد: إل غريكو، الذي يعني "الإغريقي". ومع ذلك، ظلّ طوال حياته يوقّع لوحاته باسمه الحقيقي مكتوبا بأحرف يونانية، ما يدلّ على أنه كان شخصا شديد الاعتزاز بتراثه.
تحفة إل غريكو الكبرى هي لوحته دفن كونت اورغاس. وهي ليست أفضل أعماله فحسب، وإنما يمكن اعتبارها أيضا أحد أفضل الأعمال الفنّية في العالم.
اللوحة تصوّر حادثة وفاة ودفن والي بلدة اورغاس الذي تذكر أسطورة من القرن الرابع عشر انه عندما مات حضر دفنه قدّيسان نزلا من السماء، تكريما له على عطاياه السخيّة للكنيسة. ويظهر القدّيسان في اللوحة وهما يرتديان الملابس المطرّزة بينما يعتمر احدهما تاج البابوية، وسط دهشة وانبهار المشيّعين.
رسم إل غريكو اللوحة عام 1586 بتكليف من احد الكرادلة كي تُعلّق على جدار كنيسة سانتو توم في طليطلة. الشكل غير المألوف للوحة "أي رأسها المستدير" يعود إلى حقيقة أنها رُسمت لتناسب جدارا بهذا الشكل في الكنيسة.
في اللوحة يرسم الفنّان روح كونت اورغاس على هيئة طفل وهي تصعد إلى السماء بمساعدة ملاك، بينما يتمّ إنزال جسده المادّي في نعش. وقد قسم الرسّام المنظر إلى جزأين: جزء علوي تظهر فيه العذراء وابنها وحشد من الملائكة، بينما ملأ الجزء السفلي بالنبلاء والوجهاء الذين يتابعون مراسم الدفن التي تجري أمامهم.
الطريقة التي وزّع فيها الرسّام الأشخاص في هذه اللوحة مثيرة للانتباه. في أسفل الزاوية اليسرى نرى صبيّا صغيرا يشير إلى كُمّ احد القدّيسين. هذا الطفل هو ابن إل غريكو، جورج مانويل. وفي جيب سترته يظهر منديل نُقش عليه توقيع الفنّان وتاريخ 1578، أي عام ولادة الصبي.
الشخص الوحيد في اللوحة الذي ينظر باتجاه المتلقّي "أي السابع من اليسار" هو إل غريكو نفسه. ووجهه يظهر مباشرة فوق اليد الممدودة التي تعلو رأس احد القدّيسين.

ليس من الواضح ما إذا كان إل غريكو قد شهد فعلا مثل هذه الجنازة، أو انه فقط رسم المشهد من الذاكرة. تقسيم اللوحة إلى جزأين، سماوي وأرضي، يبدو اقرب ما يكون إلى الفانتازيا. ومن الواضح أن الفنّان أضفى على ملامح شخوصه مسحة محلية تؤكّدها قسَمات الوجوه التي تبدو اسبانية جدّا. العنصر الوحيد الواضح الذي يربط جزأي اللوحة معا هو الشبه المادّي. فالقدّيسان والبشر يحملون نفس السمات تقريبا.
اللوحة أيضا تتضمّن بورتريها لـ فيليب الثاني ملك اسبانيا الذي يظهر بين القدّيسين. إمبراطورية فيليب في ذلك الوقت كانت أكبر امبراطورية في أوربّا. كانت تضمّ أراضي هولندا ونابولي وجنوب ايطاليا ومستعمرات في جنوب أمريكا. اسبانيا آنذاك ينطبق عليها وصف الامبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس.
كان فيليب يعيش حياته منفصلا عن رعيّته. تقاليد القصر التي ورثها عن أبيه كانت تفرض عليه أن يحتفظ بمسافة تفصله عن الشعب. فقط نخبة صغيرة كان مسموحا لها بأن تأتي إلى القصر وتقابل الملك. وأيّ شخص يأتي ليقابله أو يطلب منه شيئا كان عليه أن يفعل ذلك وهو جاثٍ على ركبتيه.
التغيير الوحيد الذي أحدثه فيليب ولم يكن معمولا به زمن والده هو أن الرهبان لم يعودوا ملزمين بالانحناء أمامه. لقد منح سفراء مملكة السماء الذين كان يعيّنهم بنفسه مكانة أعلى بكثير من المسئولين عن الشئون الدنيوية.
وكانت لدى الملك وتحت تصرّفه أداة قويّة تتمثّل بمحاكم التفتيش التي كانت تخدم مصلحة الدولة باضطهادها كلّ من لم يكن يعتنق الكاثوليكية.
لأكثر من سبعمائة عام، بسط العرب سيطرتهم على كامل جزيرة ايبيريا قبل أن يُهزموا عام 1492م. فقط العائلات التي تحوّلت من الإسلام إلى المسيحية سُمح لها بالبقاء في اسبانيا. ورغم أن مئات ألوف المسلمين واليهود كانوا قد غادروا البلاد، إلا أن فيليب كان ما يزال يرى أن اسبانيا الكاثوليكية تواجه تهديدين: الكفّار الذين كانوا يجاملون المسيح ظاهريا، والزنادقة الذين كانوا يخطّطون للتمرّد على حكمه.
محاكم التفتيش كانت عبارة عن شرطة سرّية تدافع عن الوضع القائم وتحوّل إلى الدولة ثروات وممتلكات أولئك الذين يعارضونها. الاضطهاد العرقي والديني كان احد العوامل الرئيسية التي أدّت إلى انهيار الإمبراطورية الاسبانية.
كان اليهود متخصّصين في المال والتجارة الخارجية. أفضل أطبّاء البلاد كانوا من اليهود. وكانوا يمثّلون نخبة أساتذة الجامعات.
من جهتهم، كان المسلمون قد زرعوا مناطق شاسعة من البلاد. ونجاح الزراعة كان يعتمد على نظم الريّ التي أتوا بها إلى اسبانيا. وبعد مغادرة هؤلاء أصبحت المزارع قاحلة وأفرغت القرى من سكّانها وانهارت مؤسّسات التجارة.
بالنسبة لـ فيليب ورجال الدين، فإن عظمة اسبانيا كانت اقلّ أهمّية بكثير من الدفاع عن الدين.
ويبدو أن التعصّب الديني وغير العقلاني للملك كان العامل الأساس الذي اكسبه مكانا بين قدّيسي السماء في لوحة إل غريكو.

شكل اللوحة الكبير وتأثيرها الصوري الأخّاذ يتناسبان مع دعاية الإصلاح الكاثوليكي المضادّ. البروتستانت كانوا يطمحون إلى تطهير جميع الكنائس من الزخارف والصور. والكاثوليك كانوا يرون خلاف ذلك. كانت حجّتهم هي أن الكنيسة بيت الربّ. وإذن لا بدّ من اللجوء إلى كلّ وسيلة لتزيينها إكراما له.
كان إل غريكو محاطا بالمشاكل المالية طوال حياته. لم يكن أميرا بين الرسّامين مثل تيشيان. ويقال بأن البابا بايوس الخامس "التقيّ" أزعجه عري الأشخاص الذين رسمهم ميكيل انجيلو في سقف كنيسة سيستينا. وقد عرض عليه إل غريكو أن يعيد رسم نفس الأشخاص، لكن بهيئة أكثر احتشاما.
ليس معروفا لماذا اختار إل غريكو أن يقيم في اسبانيا إقامة دائمة. قد يكون ضاق ذرعا بهوس فنّاني روما بالجمال المعماري. وربّما كان يساوره الأمل في أن يوفّر له احتفاؤه بالحياة الأخرى اعترافا أفضل في اسبانيا.
في العام 1579، كلّف الملك فيليب إل غريكو برسم لوحة له. ويبدو أن الملك لم يحبّ تلك اللوحة كثيرا. لكن كان هناك عامل أسهم في تقريب كلّ منهما للآخر. فبالنسبة لهما، فإن حياة الآخرة أكثر أهمّية من هذه الحياة الزائلة. كان فيليب يفضّل أن يحكم من قصر الاسكوريال بصحبة الرهبان. وكان أمرا باعثا على السرور أن يرى مذبح الكنيسة من فوق سريره في القصر. هذه الأمور كانت بالنسبة لـ فيليب أكثر أهمّية من امبراطوريّته.
في عام 1588، هُزمت الارمادا الاسبانية. وفي عام 1598، أي سنة وفاته، دفعت الضغوط المالية فيليب لأن يوقف حربه ضدّ فرنسا والمقاطعات الشمالية، بينما كانت هولندا قد خرجت تماما عن سيطرته.
كلّ أعمال إل غريكو، وخاصّة هذه اللوحة، تشهد على إيمان الرسّام بمملكة السماء التي كان يعتبرها أهمّ وأكثر واقعية من العالم الذي نعيش فيه.
فقط في الجزء العلوي من اللوحة تبدأ الحياة. هذا الجزء يبدو ديناميكيا بتأثير الضوء واستخدام العمق والخطوط التي تدفع العين للنظر إلى أعلى.
لكن لم يكن كلّ الأسبان يؤمنون بتجاهل الواقع والاستغراق في الغيبيات. الكاتب ميغيل دي ثيرفانتيس مثلا، والذي كان معاصرا لـ إل غريكو وفيليب الثاني، كان يتبنّى نظرة مختلفة. ورغم انه لم يهاجم أو ينتقد الحماسة الدينية المفرطة لمواطنيه، إلا أن شخصية دون كيشوت، رغم مثاليّتها، توضّح المخاطر التي يتعرّض لها شخص يعيش في عالم من الفانتازيا ويبحث عن المثاليات، غافلا عن رؤية الأرض التي تحت قدميه. .

Credits
en.wikipedia.org

الجمعة، مارس 12، 2010

مدينة فوق تلّ

لماذا رسم إل غريكو مدينته "طليطلة" بهذه الطريقة المخيفة والمؤرّقة؟
ترى، هل كان يرسم ظاهرة طبيعية نادرة؟
ما سرّ الإحساس بالضيق والاختناق الذي يبعثه منظر المدينة في اللوحة؟
لماذا تعمّد الرسّام أن لا تتضمّن اللوحة صورا لبشر؟
هل من علاقة للوحة بمحاكم التفتيش وحملات التعذيب والقتل التي تعرّض لها المسلمون واليهود في اسبانيا آنذاك؟
ما الفكرة التي يحاول إل غريكو إيصالها إلينا من وراء أربعة قرون؟
"برايان اورد" يناقش هذه الأسئلة وغيرها في تحليله للوحة إل غريكو "منظر لـ طليطلة"..

وأنا أنظر إلى لوحة إل غريكو منظر لـ طليطلة، تذكّرت السطر الأول من حوار ورد في رواية قلب الظلام لـ جوزيف كونراد. "قال مارلو فجأة: انظر! هذا هو أكثر الأماكن إظلاما وعتمة على وجه الأرض".
إل غريكو لا يقصد أن يخيفنا. بعد أربعمائة عام، ما تزال نواياه غير معروفة. لكن يمكن أن نقول بما يشبه اليقين انه لم يرسم هذه الرؤية لمدينته التي حقّق فيها أعظم نجاحاته الفنية والمالية كي يثير في الناظر شعورا بالرعب. كانت طليطلة مدينة جيّدة بالنسبة لـ إل غريكو. ومن المؤكّد أنه كان ينوي ردّ بعض الجميل إليها.
إذن ما الذي حدث؟ لماذا رسم لها هذه اللوحة الغريبة والمقلقة التي تبدو فيها أشبه ما تكون بمدينة أشباح طاردة ومخيفة؟!
هل في الأمر ما يثير الاستغراب إذا علمنا أن هذه اللوحة تمّ توظيفها في ملصق أكثر من فيلم من أفلام الرعب؟!
لو أن إل غريكو أراد أن يُثني على المدينة ويمتدحها لكان رسمها في ضوء الشمس وليس في هذا الضوء الغريب الذي ينبعث من اللوحة.
لوحة يوهان فيرمير منظر لـ ديلفت هي النقيض الكامل لهذه اللوحة من عدّة وجوه. فهي تستدعي الحضور الجميل لأشعّة الشمس فوق المدينة. في حين أن لوحة إل غريكو تبدو ليلية كما لو أن المدينة أضاءها برق خاطف.
البرق كلمة كثيرا ما تأتي إلى الذهن عند الحديث عن إل غريكو. أحزمة البرق والغيوم المضيئة تتوهّج في سماء بعض مناظره. وميض البرق والشرر، بالنسبة لهذا الرسّام، لها دلالات مقدّسة وغامضة تتخلّل كل شيء.
أتذكّر أنّني كنت أقود سيّارتي ذات ليلة أثناء عاصفة رعدية. كان كلّ شيء حولي حالك السواد عدا مصابيح الإضاءة الأمامية التي انحنت لأسفل بسبب قوّة المطر. وفجأة أضاء نور برق خاطف الطبيعة من حولي. في تلك الثواني القليلة كان بإمكاني رؤية كلّ شيء: البيوت الريفية، الأشجار البعيدة والحقول الموحلة. أكثر التفاصيل دقّة بدت ظاهرة بشكل ساحر. لكن قبل أن استوعب ما حدث، كان كلّ شيء قد تحوّل إلى اسود مرّة أخرى واهتزّت السماء ثانية بفعل زئير الرعد.
هذه هي نوعية الضوء المنبعث في "منظر لـ طليطلة". الضوء المقدّس، الرؤية التي تكشف لك أكثر ممّا يمكنك أن تراه في ضوء الشمس الساطع، الضوء الذي يومض على غير توقّع ويرينا العالم لثانية أو ثوان قبل أن يختفي.
الأمر الذي يصعب تخيّله حتى الآن هو أن "منظر لـ طليطلة" تصوّر مشهدا نهاريا. أريد التأكيد على هذه النقطة لأنها نقيض للمزاج المظلم والعاصف في اللوحة. ذات مرّة، كتب مؤرّخ الفنّ جوناثان براون يقول: في عالم إل غريكو، لا تشرق الشمس أبدا". لكنّ هذه اللوحة هي استثناء عن القاعدة.
لاحظ الظلال المخيّمة على واجهة القصر الذي يطلّ على المدينة إلى اليمين. أشعّة الشمس الساطعة يمكن رؤيتها على العشب وكذلك على الحصن المقام على التلّ إلى اليسار. انه يوم عاديّ. هناك عواصف رعدية في الأفق وظلامها يعزّز النور المنعكس على مباني المدينة.
احد الأشياء الغريبة في هذا العمل هو انه يمكن أن يُفسّر باعتباره ظاهرة طبيعية. النوعية غير الواقعية للمدينة تعود إلى البروز المبالغ فيه لأيّ جسم يضيئه نور الشمس في مقابل خلفية السحب الداكنة.
لماذا اختار غريكو أن يجعل طليطلة تبدو غريبة جدّا وكأنها في حلم؟
اللوحة ليست منظرا، بل استحضار شاعري لـ طليطلة. ويصح القول أنها قصيدة حديثة تحوّلت من خلالها المدينة إلى بضع صور معلمية يسهل التعرّف عليها بسرعة مثل قصر الكازار وبرج الكاثدرائية.
لكن نظرة على أيّ صور أخرى لـ طليطلة تُظهر لنا أن إل غريكو ارتكب ما يشبه الانتهاك بتحريكه أهمّ رمز للمدينة، أي كاثدرائيّتها، من وسط المدينة إلى خارج نطاق الصورة، أي إلى الطرف الشرقيّ منها.
اللوحة تبدو مجزّأة وعشوائية، لكنها منمّقة ومتقلّبة وذات جمال غريب.
هذه اللوحة، مع ما فيها من اختلالات ولا مركزية، قد تكون إعلانا آخر من الرسّام عن استقلاليّته الفنية. في لوحاته الأخرى التي تصوّر أشخاصا، يتجاهل إل غريكو النسب الكلاسيكية كي يطيل أجساد وأطراف البشر باسم الأناقة والجمال. و"منظر لـ طليطلة" هي بيان جريء آخر يحاول الرسّام من خلاله أن يتحدّى المحاكاة الخانقة للواقع.
المفارقة الغريبة هي أن إل غريكو وجد هذه الحرّية الفنية في المدينة التي كانت عاصمة محاكم التفتيش. كانت طليطلة، زمن الرسّام، مدينة فخورة لكنها كانت تقف على حافّة الانهيار. فقد عانت ضياع جزء كبير من مجدها عندما نقل منها فيليب الثاني قصره الملكي إلى مدريد في العام 1560م. لكنّها بقيت مركز الكنيسة الاسبانية وظلّ رئيس أساقفتها يجلس على رأس الهرم الكنسي في اسبانيا.
المؤرّخ ريتشارد كاغان كتب عن رغبة رجال الدين جعل طليطلة أبرشية مثالية ونموذجا تقتدي به بقيّة الكنائس في اسبانيا. وأداتهم الأساسية لتحقيق ذلك كانت محاكم التفتيش التي نظّمت شبكة واسعة من الجواسيس مهمّتهم التأكّد من أن معتقدات كلّ شخص "ليست موضع شبهة".
ونتيجة لذلك، أصبحت طليطلة مدينة خالية من مظاهر التسامح وروحية المعارضة. هذه كانت طليطلة إل غريكو: مدينة كانت إلى ما قبل بضعة قرون مثالا في تعدّد وتنوّع الثقافات ومركزا فكريا ازدهرت فيه ترجمة مؤلّفات الإغريق والعرب إلى الاسبانية. كانت طليطلة مركز الإشعاع الفكري في أوربّا كلّها، والآن تحوّلت إلى مكان قاس ومعقل صارم للشمولية المسيحية.

إل غريكو نفسه، وإنْ بنسبة صغيرة، كان جزءا من ماكينة الكنيسة للسيطرة وبسط النفوذ. وهو كان يفضّل ولا شكّ أن يلعب دورا أكثر أهميّة. غير أن أحلامه بالحصول على وظيفة في القصر، وهو ما أغراه بالمجيء إلى اسبانيا منذ البداية، لم تتحقّق أبدا.
وحتّى في طليطلة، فإن آماله في الحصول على أرباح وعقود فنية من الكنيسة الأمّ تبدّدت بعد الجدل الذي أثير حول بعض صوره الدينية. لكنّ أعماله العديدة التي نفّذها لكنائس ومؤسّسات دينية أخرى جعلته داعية ومروّجا للكنيسة الاسبانية. هذه الحقيقة لا يجب أن تدهشنا، كما أنها لا تقلّل من أهميّة إل غريكو الفنّية. فمعظم فنّاني أوربا الكبار كانوا يروّجون، بطريقة أو بأخرى، لأفكار رُعاتهم وأرباب نعمتهم.
المعاني التي تختزنها "منظر لـ طليطلة" متعدّدة وغامضة. فهذه المدينة، التي كانت مركزا للتعليم الإنساني وظلّت في أيام إل غريكو مكان جذب للكثير من المثقّفين وطالبي العلم، تبدو الآن كئيبة ومتمنّعة. لم تعد مدينة للإنسان، بل أصبحت مدينة لله بزهدها وصرامتها.
طليطلة التي تظهر في هذه اللوحة هي، دون شكّ، مدينة لا إنسانية. البشر فيها لا أهمّية لهم، بل هم ضئيلون كالنمل في لوحات سلفادور دالي. هذه المدينة لا يبدو وكأنها من صنع الإنسان. هي أقرب لأن تكون مكانا لغير البشر، وهي أكثر قربا إلى السماء ذات الألوان الغامضة منها إلى الطبيعة الرعوية أسفل منها.
إنها مكان لا يبالي بالاحتياجات الدنيوية للبشر العاديّين. مدينة أشبه ما تكون بمدن الأشباح التي جُفّفت من ألوانها وأصبحت بلا دماء.
والأكثر مدعاة للخوف انه يمكن فهمها كمدينة للتطهير والتصفية: تطهيرها ممّن بقي فيها من المسلمين واليهود ممّن كانوا قد تحوّلوا إلى المسيحية. كانت مهمّة محاكم التفتيش هي استئصال هؤلاء نهائيا لأن الدماء غير النقيّة لأسلافهم جعلتهم موضع شبهة.
فكرة النقاء العرقي وجدت صداها في لوحات إل غريكو عن العذراوات الطاهرات. وكانت تلك رمزا مناسبا لكنيسة مكرّسة للتطهير العرقي والديني.
هل يمكن اعتبار "منظر لـ طليطلة" رؤية عن مدينة تعرّضت للتطهير العرقي؟ الإجابة هي نعم.
عندما كان إل غريكو يعمل في طليطلة، كانت صورته صورة المهاجر اليوناني الكوزموبوليتاني المنفتح على العالم. لكنّ المفارقة هي انه أصبح يروّج لسلطة دينية كانت تمارس علنا منهجية التطهير العرقي والديني.
وكشخص متعلّم وله صداقات فكرية وطموحات، فلا بدّ وانه فكّر في ما ينطوي عليه موقفه ذاك من مفارقة وتناقض. حتّى الاسم المستعار الذي عرفه به العالم، أي إل غريكو الذي يعني اليوناني، كان علامة على وضعه كشخص أجنبي أتى من الخارج. عندما نظر إل غريكو إلى طليطلة رأى فيها مكانا كان يعرف انه لن يكون فيه مقبولا بالكامل. وربّما أراد أن يكرّم المدينة، لكنه لم يكن يستطيع الاحتفاء بها. هناك دائما شيء ما يتعلّق بالمكان الذي يظلّ، بالنسبة لشخص لا يربطه به رباط وجداني، مكانا يخصّ "الآخر".
"منظر لـ طليطلة" صورة مخيفة لمجتمع شمولي، لمكان يسيطر عليه المتعصّبون دينيا. وإل غريكو، الذي لم يكن تنقصه البراعة ولا الذكاء الفنّي، أخرج لنا من خلال هذه اللوحة رؤية مخيفة وغامضة وحقيقية عن اسبانيا في زمانه.
والنظر إلى هذه الصورة من الماضي البعيد بعيون معاصرة قد يعيننا على التنبّؤ بطبيعة المستقبل الذي ينتظرنا، خاصّة ونحن نرى المتطرّفين الدينيين يستجمعون قواهم ويبسطون سيطرتهم على أنحاء متفرّقة من العالم.
لا غرابة إذن أن ترعبنا الصورة وأن تثير مخاوفنا.


Credits
en.wikipedia.org