:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات هوبر. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات هوبر. إظهار كافة الرسائل

الخميس، يناير 12، 2012

رحلة إلى شُطآن الليل

في العالم القديم، كان الليل يمثّل عنصرا مخيفاً. أحيانا كان يرمز للخوف، وأحيانا أخرى للغموض. وقد استمرّت هذه الفكرة طوال قرون. لكن أصبح للّيل أهمية خاصّة عند الرومانسيين. كانوا يربطونه بالأفكار المتسامية والنبيلة بما يتضمّنه من ذلك المزيج الفاتن من عناصر الجمال والغموض وقوى ما فوق الطبيعة.
الرؤى المرتبطة بالليل تغيّرت على مرّ العصور. الرسّامون الواقعيون كانوا يرسمونه في طبيعة نقيّة. وكانت رسوماتهم تثير أجواءً من التأمّل والاستبطان الحزين. الفنّانون الحداثيون رسموا الليل انطلاقا من الطبيعة الحضرية وحياة المدن وما تضجّ به من ضروب المتعة والتسلية.


الفنّان الروسي من أصل يوناني ارشيب كوينجي رسم الليل في واحدة من أكثر اللوحات شهرة في تاريخ الرسم والتي اكتسب الرسّام بفضلها شهرة أسطورية. اسم اللوحة ليلة مقمرة على ضفاف نهر الدنيبر. وقد رسمها في العام 1882م.
عندما عرض الرسّام هذه اللوحة لأوّل مرّة في سانت بطرسبيرغ اصطفّ الناس في طوابير طويلة لرؤيتها. وقد وُضعت داخل غرفة مظلمة، بينما صُفّت حول إطاراتها المذهّبة والفخمة شموع محترقة.
في اللوحة، يصوّر كوينجي إحدى ليالي اوكرانيا الشاعرية والدافئة. القمر الفضّي يطلّ من أعلى المشهد محاطا بهالة خضراء من الغيوم. وفي أسفل المنظر يظهر شريط متوهّج من نهر الدنيبر الذي يفيض فوق مساحات واسعة من السهوب.
ربّما لم يعبّر رسّام من قبل عن سحر وجمال القمر بهذا الشكل المدهش. الصورة تثير إحساسا بالحرّية واللانهائية. فأمامنا عالم واسع مليء بالضوء. وكلّ ما في هذه الطبيعة مشرق وبهيّ. الضوء الفوسفوري الغامض يغمر كلّ شيء على الأرض.
كان على الجمهور أن يدخلوا إلى القاعة ذات الأنوار الخافتة قبل أن يتوقّفوا أمام وهج الضوء البارد المنبعث من اللوحة. بعضهم كان يظنّ أن مصدر الضوء ربّما يكون فانوسا أو مصباحا موضوعا بالجوار. المجال السماويّ الذي رسمه الفنّان فيه فخامة وجلال. قوّة الكون وضخامته تتجلّيان بأوضح صورة في هذا المشهد. التفاصيل على الأرض تتضمّن بيوتا وأشجارا كثيفة ونباتات شوكية ابتلعتها الظلمة.
هذه اللوحة استنسخت مرّات كثيرة في جميع أنحاء روسيا وتحدّثت عنها الكثير من الصحف آنذاك. وقد ابتاعها الأمير الروسي كونستانتينوفيتش الذي شُغف بها منذ رآها لأوّل مرّة. وبلغ من حبّه للوحة انه كان يأخذها معه في تطوافه عبر العالم. وقد حاول الروائي ايفان تورغينيف، الذي كان يعيش في باريس في ذلك الوقت، إقناع الأمير بعرض اللوحة في احد الغاليريهات الفرنسية، لكنه رفض.
لوحات ارشيب كوينجي تتّسم بالتصوّرات التأمّلية والفلسفية عن العالم. كما أن فيها إحساسا بعظمة الحياة. ولم يكن يهتمّ بتصوير الحالات الدراماتيكية للطبيعة، ولا حتى مظاهر الجمال فيها. كان معنيّاً أكثر بتصوير الإحساس بالكون ووحدة الوجود والتناغم ما بين الطبيعة والإنسان.
الألوان الفوسفورية في اللوحة تستحضر مشاعر متسامية وتثير التأمّل عن طبيعة الحياة على الأرض وعن عالم السماء التي تبدو وهي تتحرّك في إيقاع بطيء. وبعض لوحات الرسّام الأخرى تصوّر عوالم تبدو أشبه ما تكون بالكواكب البعيدة التي لم تُكتشف بعد.

الفنّان الاسباني اليسيو ميفرين روج رسم في واحدة من أشهر لوحاته بعنوان طبيعة ليلية منظرا للقمر وقد غطّته هالة من الغيوم. المنظر الطبيعي كلّه غارق في الليل. والمشهد يشعّ جوّا من السلام والسكون العميق. روج رسم أكثر من لوحة حاول من خلالها التقاط جوهر الليل والمعاني والمشاعر المرتبطة به، بالإضافة إلى السمات الخالدة للطبيعة.
كان ميفرين روج إنسانا ذا طبيعة هادئة ومتأمّلة، كما تشي بذلك لوحاته الجميلة عن الليل والطبيعة البحرية ومناظر الغروب. كما كان أيضا مفتونا برسم الحدائق، ومنها حدائق ارانهويز المشهورة في مدريد. غير انه سجّل في بعض لوحاته الأخرى مقدّمات سقوط وانهيار اسبانيا كقوّة استعمارية أمام القوّة الصاعدة للولايات المتحدة.
وقد كرّس الفنّان كلّ حياته تقريبا للرسم. ولوحاته تُظهر مهارته العالية في استخدام الفرشاة الفضفاضة والألوان الناعمة وفي مزجه بين الأسلوبين الانطباعي والرمزي.


السفن الغارقة والعواصف البحرية والليالي المقمرة والحالمة، تلك هي بعض سمات لوحات الفنّان الروسي من أصل ارمني ايفان ايفازوفسكي.
السنوات التي قضاها ايفازوفسكي خارج روسيا أسهمت إلى حدّ كبير في تشكيل موهبته الفنّية. فقد تعرّف في المتاحف الأوروبية على روائع الرسم العالمي، ما أدّى إلى إثراء مخيّلته الفنّية. كما ألهمته الطبيعة الايطالية السخيّة رسم صور عظيمة مثل سلسلة لوحات خليج نابولي.
في سنواته الأولى كرسّام، اظهر ايفازوفسكي قدرة كبيرة في ملء أعماله بالضوء وفي تجسيد إحساسه العميق بالخطّ واللون والتوليف. ويُعتقد أن مناظره البحرية المضاءة بنور القمر هي أكثر الأعمال غنائية في فنّ هذا الرسّام الكبير.
ايفازوفسكي بدأ رحلته مع الرسم في سبعينات القرن قبل الماضي. وأسلوبه الرومانسي المبكّر في تمثيل العواصف القويّة والصباحات الجميلة وتأثيرات البرق والغيم تحوّلت في ما بعد إلى دراسات أكثر عمقا للطبيعة.
في روما، درس الفنّان أعمال كبار الرسّامين. كما رسم لوحات من الطبيعة، وأخرى من الذاكرة. وكان النجاح حليفه دائما. كما كان له معجبون كثر، بينما بدأ الفنّانون الشباب يقلّدون أسلوبه في رسم الطبيعة الليلية والبحرية.
كان ايفازوفسكي مراقبا دقيقا للطبيعة. كما كان يتمتّع بذاكرة رائعة وموهبة استثنائية في الارتجال، لدرجة انه كان يستطيع رسم لوحة بأكملها في يوم واحد.
وقد قال ذات مرّة ملخّصا فهمه للإبداع: إن الشخص الذي لا يتمتّع بالذاكرة التي تحفظ حالات الطبيعة ربّما يصلح لأن يكون ناسخا ممتازا. لكنه لن يصبح فنّانا حقيقيا. الفرشاة لا تستطيع الإمساك بالعناصر الحيّة. ومن غير المتصوّر أن ترسم البرق أو هبوب الرياح أو رذاذ الأمواج والمطر من الطبيعة مباشرة. إن موضوع اللوحة يتشكّل في ذاكرتي كما يتشكّل موضوع القصيدة في ذهن الشاعر".
في إحدى لوحات سلسلة خليج نابولي، يرسم ايفازوفسكي منظرا ليليا مليئا بالتفاصيل. على سطح الماء تظهر مجموعة من القوارب والسفن الشراعية الراسية في الميناء. ومن بين غلالات الغيوم يلوح من بعيد ضوء القمر المنعكس على الأمواج الهادئة، وأعمدة من الدخان المنبعث من بركان فيزوف. الرسّام استخدم في اللوحة طبقات من الألوان الزرقاء والخضراء والداكنة.
لوحات ايفازوفسكي التي رسمها في ايطاليا كانت من أفضل أعماله. وقد أثار بعضها ردود فعل قويّة في عاصمة الفنون الجميلة آنذاك. لوحة الفوضى، أو خلق العالم "كما تُسمّى أحيانا"، قيل عنها إنها عمل إعجازي ولا يشبه أيّ عمل فنّي آخر. وقد اشتراها البابا غريغوري السادس عشر وأمر بتعليقها في متحف الفاتيكان الذي يضمّ مجموعة من أروع وأشهر اللوحات العالمية.
خلال إقامته في ايطاليا، قابل ايفازوفسكي الرسّام الانجليزي وليام تيرنر الذي أعجب كثيرا بلوحة خليج نابولي في ليلة مقمرة لدرجة انه ألّف عنها قصيدة ذات جرس حزين وأهداها إلى ايفازوفسكي.
في القرنين التاسع عشر والعشرين، كانت فكرة الليل رائجة على نطاق واسع في الرسم الأوربّي بشكل عام. ومن أشهر الفنّانين الآخرين الذين رسموا الطبيعة الليلية كلّ من فان غوخ وايرت فاندر نير وكاسبار ديفيد فريدريش وايفغيني شيبانوف وجون غريمشو وإدوارد هوبر ورمبراندت وإيساك ليفيتان وغيرهم.

الأحد، أغسطس 15، 2010

فنّ الحداثة وانتهاك الجمال

يتحدّث الفيلسوف البريطاني روجر سكروتون في هذا الكتاب عن الجمال كفلسفة وكقيمة أخلاقية وروحية. ويقارن بين مفهوم الجمال في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وما أصبح عليه حال الأدب والفنّ والموسيقى منذ بدايات القرن العشرين.
يقول المؤلّف: الجمال هو الغاية النهائية لأيّ منتج فنّي أو شعري أو موسيقيّ. ويضيف: بعد الحداثة تغيّر كلّ شيء. أصبحت غاية الفنّ بشكل متزايد هو أن يزعج وأن يخرّب وأن ينتهك المسلّمات والقوانين الأخلاقية. لذا ثمّة الآن حاجة ماسّة لإنقاذ الفنّ والأدب الحديث من الإدمان على القبح.
ويتحدّث سكروتون في كتابه عن ما يصفه بحزب تدنيس الجمال الذي تزعّمه الأدباء والكتّاب الفرنسيون الذين ظهروا بعد الحرب العالمية الثانية مثل جورج باتاي وجان جينيه وجان بول سارتر. ويشير إلى أن هناك فنّانين عظاما حاولوا إنقاذ الجمال من تخريب المجتمع الحديث مثل الشاعر تي اس اليوت ومثل عدد من الكتاب والأدباء الأمريكيين الذين رفضوا أن ينظروا إلى العالم المعاصر وكأن لا شيء فيه سوى القبح والدمامة.
ويضيف: كان كلّ من الرسّام ادوارد هوبر والموسيقيّ سامويل باربر يعتبران أن التجاوز المصحوب بالتباهي كان مجرّد وسيلة رخيصة لإثارة الجمهور وخيانة المهمّة المقدّسة للفنّ وهي تصوير الحياة والكشف عن جمالها.
لكنّ الفنّانين الكبار الذين كانوا يثمّنون الحياة عاليا فقدوا مكانتهم مع بدايات حقبة الثقافة الحديثة. وحتى الآن، بالنسبة للنقاد وأوساط الثقافة، فإن السعي وراء الجمال ظلّ دائما على هامش العملية الفنّية. وأصبحت الفوضوية والفجور والتهتّك علامات نجاح، بينما أصبح الباحثون عن الجمال يُتهمّون بالتنكّر للمهمّة الحقيقية للإبداع الفنّي. وقد تمّ تطبيع كلّ هذا ليغدو عقيدة نقدية راسخة.
ثم يتحدّث المؤلّف بعد ذلك عن تأثير الأوبرا في هذا التغيير فيقول: لقد منحت الأوبرا ثقافة ما بعد الحداثة فرصة لا مثيل لها في الانتقام من فنّ الماضي وإخفاء جماله خلف قناع دنيء وفاحش. وأحد الأمثلة الصادمة عن الدور السلبي للأوبرا يتمثّل في قصّة كونستانزا وبيلمونتي لـ موزارت. القصّة تتحدّث عن انفصال كونستانزا عن خطيبها بيلمونتي قبل أن تؤخذ لاحقا لتخدم في حريم باشا تركي يُدعى "سليم". وبعد مؤامرات عديدة يتمكّن خطيبها من إنقاذها بمساعدة من الباشا نفسه الذي يحترم عفّة كونستانزا ويقدّر إخلاصها لحبيبها ويرفض أن يتزوّجها بالإكراه.

في هذا العمل يعبّر موزارت عن أفكاره التنويرية عن الخير باعتباره قيمة عالمية سواءً في عرف تركيا المسلمة أو أوربّا المسيحية. والأوبرا تقدّم درسا أدبيا وأخلاقيا عاليا كما أن أنغامها تكرّس جمال تلك الفكرة وتقدّمها للمتلقي بأسلوب مقنع وجذّاب.
لكن المخرج الاسباني كاليكستو بييتو يقدّم هذه الاوبرا برؤية مختلفة. فهو يختار للأحداث بيتا للدعارة في برلين ثم يحوّل الباشا سليم إلى قوّاد وكونستانزا إلى عاهرة! وأثناء سماع المقطوعات الموسيقية الأكثر رقّة في الأوبرا تمتلئ خشبة المسرح بمشاهد الجنس الجماعي والعنف. وفي احد تلك المشاهد تتعرّض إحدى العاهرات إلى التعذيب ويُقطع ثدياها بطريقة همجية قبل أن تُقتل. الكلمات والموسيقى تتحدّث عن الحبّ والعاطفة. لكن هذه الرسالة تتلاشى خلف مناظر التدنيس والجريمة والجنس النرجسي. هذا مثال واحد عن احد الجوانب المألوفة كثيرا في ثقافتنا المعاصرة. وكلّما كان هناك جمال ينتظر الكشف عنه كلّما نشأت رغبة في تغييب جاذبيّته ومزجه بمشاهد العنف والخراب.
وهذا هو حال الكثير من الأعمال الفنّية الحديثة التي تمتلئ بمشاهد أكل لحوم البشر وتقطيع وتشويه أطراف الجسد. بالإضافة إلى الألم الذي لا معنى له والذي تزخر به السينما بوجود مخرجين مثل تارانتينو يبدو أن لا همّ لهم سوى إبراز كلّ ما هو مظلم وكئيب في الطبيعة البشرية.
في هذا الكتاب المصاغ بلغة جميلة يتساءل سكروتون أيضا عن السبب الذي يجعل قطعة من الفنّ أو الطبيعة أو شكل الإنسان شيئا جميلا. هل يمكن أن يكون هناك جمال خطير ومفسد ولا أخلاقي؟ يشير المؤلّف إلى أن نثر فلوبير وأنغام فاغنر وصور فلوبير كثيرا ما توصم بلا أخلاقيتها وأن من أبدعوها إنما كانوا يرسمون الشرّ بألوان فاتنة.
إن من الصحيح القول أن لوحة لـ رامبراندت أكثر جمالا من لوحة لـ اندي وارهول وأن معبدا كلاسيكيا أكثر جمالا من مكتب حديث مبنيّ من الخرسانة. وبينما نستمرّ في الجدل حول ما إذا كان هذا أو ذاك أكثر جمالا، يصرّ سكروتون أن الجمال قيمة حقيقية وعالمية متجذّرة في طبيعتنا العاقلة. والإحساس بالجمال جزء لا يتجزّأ من عملية صياغة الحياة البشرية. كما أن الجمال يمكن أن يكون مسلّيا ومزعجا، مقدّسا ومدّنسا. انه يتحدّث إلينا مباشرة مثل صوت صديق حميم.
وفي جزء آخر من الكتاب يتحدّث المؤلف عن إسهام الموسيقى في تدمير الجمال وتشويه الذوق فيقول: إن موسيقى الراب مثلا لا تتحدّث كلماتها وإيقاعاتها سوى عن العنف المستمرّ وترفض كلّ ما يمتّ بصلة إلى التناغم وغيره من العناصر التي يمكن أن تقيم جسرا مع عالم الأغاني القديمة. هذه الظواهر كلّها تمثّل انتهاكا، ومعها لا تعود الحياة احتفالا بالفنّ وإنما يصبح الفنّ من خلالها هدفا للانتهاك والتشويه. ويضيف: هناك جوع عظيم للجمال في عالمنا اليوم، جوع فشل فنّنا وأدبنا الحديث في إشباعه.
ليس من المستغرب أن فكرة الجمال حيّرت الفلاسفة منذ أقدم الأزمنة. ولطالما تساءلوا إن كان الجمال صفة للعالم أو انه جزء من مخيّلتنا أم لحظة سامية من لحظات الإحساس. هذه الأسئلة وغيرها مهمّة جدّا بالنسبة لنا اليوم، بالنظر إلى أننا نعيش في زمن يتوارى فيه الجمال ويذبل. ثمّة ظلال من السخرية والاغتراب تزحف على ما كان يوما ملمحا مشرقا لعالمنا. وهذه الأيّام عندما نبحث عن الجمال فإننا لا نجد غالبا سوى الظلام والتدنيس.
كتاب روجر سكروتون عبارة عن مجموعة من التأمّلات المثيرة والمشوّقة عن الجمال. والمؤلّف يخلص إلى نتائج قد يعتبرها البعض خلافية، لكنها تساعدنا في البحث عن معانٍ أعمق للأشياء الجميلة التي تملأ حياتنا. "مترجم"

الاثنين، يوليو 12، 2010

جماليّات الحزن


أحد الملامح القديمة في الفنّ الغربي هو تحويل الحزن والكآبة إلى فرح وطاقة للانطلاق والإبداع. والهيئة الأكثر شيوعا في الحالات التي تتناول موضوع الكآبة والحزن هي صورة إنسان، رجل أو امرأة، يضع يده على خدّه وهو مستغرق في التفكير والتأمّل الحزين.
الفلاسفة والأدباء منذ القدم ينظرون إلى الحزن على انه دعوة خلاقة للإنسان كي يرتفع فوق ذاته ويستغلّ إمكانياته. وهناك من يعتقد أن الحزن يجعل الشخص أكثر إنسانية وشفافية وأكثر إحساسا بإيقاعات الحياة المختلفة من فرح وترح ورجاء ويأس وحياة وموت.. إلى آخره. وهناك أيضا من يرى أن الإنسان لا يصبح مكتمل الإنسانية إلا من خلال المعاناة والحزن. الحزن يمكن أن يلهم الإنسان ويقوّي مخيّلته ويجعله أكثر ارتباطا بالعالم من حوله.
الشاعر البريطاني جون كيتس تحدّث كثيرا عن فائدة الألم. قال ذات مرّة: الحزن لا يمكن تجنّبه، وهو ليس ضعف إرادة ولا مرضا نفسيا بحاجة إلى علاج". كيتس اكتشف أيضا أن الحزن يلهم الأفكار العظيمة. "ما يجعلنا نحزن هو معرفتنا بأن كلّ شيء مصيره إلى زوال. لكن عندما نحسّ بدنوّ الموت فإننا ندرك كم هو جميل هذا العالم".
الموسيقي الألماني فريدريك هاندل كان يعاني في نهايات حياته من حالة من الحزن وذبول الصحة ووهن الجسد بعد أمجاده الموسيقية الكثيرة. وفجأة أحسّ بالنشاط والحيوية عندما كُلف بتأليف موسيقى المسيح التي أصبحت أعظم أعماله الموسيقية والتي ولدت من رحم الحزن والمعاناة.
الرسّامة الأمريكية جورجيا اوكيف كانت دائما تقاوم الإحساس بالكآبة والحزن. غير أن الحزن هو الذي أشعل روحها وجعلها ترسم أفضل لوحاتها عن الأشياء المظلمة في وهج الصحراء وتحت الغيوم الثقيلة والداكنة. تنظر إلى لوحاتها المشهورة فتحسّ بأن فيها شيئا غريبا يشبه صمت وقدسيّة العظام التي كانت ترسمها.
وهناك من يميّز بين الحزن والكآبة. الحزن قد يُشعِر الإنسان باليأس والإحباط. والكآبة نوع من الحزن لكنّه يخلو من التشاؤم واليأس. كما أن لا علاقة لها بالاكتئاب.
أرسطو ناقش الكآبة كثيرا عندما درس مشاكل الإبداع الفنّي. وفرويد قرنها بالنرجسية والهوَس. الكآبة فيها مساحة كبيرة للتأمّل. وهي تتعلق بالناس والأمكنة، من قبيل حبّ صديق أو الاشتياق لمكان ما قريب من نفوسنا أو مكان سبق وأن عشنا فيه وما زلنا نحتفظ له بذكريات عزيزة. الكآبة تتضمّن متعة وفيها حبّ وشوق وتطلّع. كما أن فيها نوستالجيا، لأنها تثير الحنين إلى الذكريات القديمة والأفكار والتخيّلات عن الفقد والغياب.
بعض مشاهد أفلام سكورسيزي وطبيعة الرسّام الألماني كاسبار ديفيد فريدريش وألحان شوبان فيها نوع من الحزن المتسامي الذي يخلو من اليأس أو الإحباط.
عندما تستمع إلى بعض مقطوعات شوبان تستطيع أن تلمس فيها حزنا ومعاناة. وغالبا ما تعبّر الموسيقى الحزينة عن نفسها من خلال الإيقاع البطيء الذي يثير حالة من التوق والاستبطان الحزين. وهو انفعال معقّد جدّا يستثير بدوره صراعا داخليا يستعصي على التوصيف البسيط.


مرأى الأطلال أو الآثار القديمة قد يستدعي، هو أيضا، في نفوسنا شعورا بالحزن والكآبة. ربّما يكون السبب هو حقيقة أن الأطلال تعبّر عن مرور الزمن وعدم ثبات وديمومة الحياة والإحساس بالعبور والتحوّل من مرحلة لأخرى وما يثيره ذلك في النفس من مخاوف وهواجس. وكلّ هذه الحالات تكون مصحوبة بإحساس قليل أو كثير بالكآبة. رؤية الآثار الدارسة والقديمة تستثير حالات من التفكير التأمّلي والوجداني ترافقها صور لأحداث وحيوات من العصور الماضية. الصروح المهدّمة والأبنية المهجورة كثيرا ما تثير خيالنا وتدفعنا لإعادة بناء قصص متخيّلة في أذهاننا عن شكل الحياة في الماضي وعن الارتباطات ما بين الآثار والأحداث التي ترويها. هنا أيضا نجد ظلالا من المشاعر السلبية والايجابية للنوستالجيا والحنين لأزمنة وأمكنة لم تعد موجودة سوى في الذهن بعد أن انتهى وزال وجودها الفيزيائي أو المادّي.
في لوحته بعنوان الحالم، يرسم كاسبار فريدريش شخصا جالسا في نافذة دير قوطي قديم، أو بالأصحّ في أطلال ما تبقّى من ذلك الدير. داخل الدير ألوان حمراء داكنة. لكن النور الذهبيّ الساطع يفيض من وسط الصورة ليملأ الفراغ. المشهد عبارة عن تأمّل صامت والتباين ما بين الضوء والعتمة يوحي بالوحدة. لكن بنفس الوقت ما يزال هناك ثمّة إحساس بالأمل وربّما التوق.
الكآبة التي يشعر بها الإنسان أثناء لقائه بالطبيعة ليست بالأمر الطارئ أو الجديد. تخيّل نفسك، مثلا، وأنت تمشي في طبيعة مقفرة. الأرض التي تمتدّ أمامك تبدو فارغة وفسيحة تلوّنها ظلال باهتة من الرمادي مقابل سماء بنّية. الهواء ساكن وخفيف. وإذ تجد نفسك متوحّدا مع إيقاعات الفراغ الهادئ الذي أمامك، قد ينتابك فجأة مزاج تأمّلي يستثير في نفسك ذكريات وأفكارا معيّنة من زمن بعيد. تشعر بشيء من المتعة عندما تتذكّر الأوقات الجميلة من الماضي. لكنها متعة يخالطها حزن وتوق غامض.
في منتصف القرن السادس عشر، كانت الكآبة ترتبط بالإنسان المتفوّق والناضج والقادر على المشاعر العميقة. الموسيقيّ البريطاني جون دولاند عاش في ذلك الوقت وكان معاصرا لـ شكسبير. وقد عُرف ببراعته في العزف على آلة العود "أو اللوت". تستمع إلى ألحانه اليوم فتحسّ فيها بقدر غير قليل من الحزن والحنين. ومثل شكسبير، فإن موسيقى دولاند ما تزال تتحدّث إلينا من وراء أربعمائة عام.
في ألمانيا، ارتبط الفنّ والأدب والفلسفة في العصر الرومانسي بالكآبة. وقد كتب عنها ايمانويل كانت قائلا: إن المشاعر المتسامية تثير المتعة والخوف معا".
البريخت ديورر، الفنّان الألماني، رسم لوحة بعنوان كآبة يظهر فيها رجل متعطّش للمعرفة وحريص على إثراء عقله. ثم لهذا السبب، يشعر بالغربة ويعيش معزولا ومنبوذا من بقيّة البشر. هذه اللوحة وجد فيها الكاتب الأمريكي دان براون ما أثار اهتمامه عندما أشار إليها في روايته الأخيرة الرمز المفقود.
الشاعر الألماني هاينريش هايني اخذ الفكرة واستخدمها في إحدى قصائده عندما كتب يقول: لا أعرف ما الذي يؤرّقني ويثقل على عقلي طوال اليوم".
العلماء يقولون إن الكآبة ليست شيئا سيّئا أو سلبيا وأن قوّتها الايجابية هي التي منحت القوّة والعبقرية للفنّانين والفلاسفة العظام.
الكآبة والحزن كانتا وما تزالان فكرتين رائجتين في الرسم. ومن أشهر من رسموهما في أعمالهم كلّ من لوسيان فرويد ورودان وفان غوخ وغويا ووليام بليك ودي تشيريكو وإدوارد هوبر وبيتر بريغل وإدفارد مونك وإدغار ديغا وغيرهم.

Credits
contempaesthetics.org
quod.lib.umich.edu

الاثنين، سبتمبر 21، 2009

صورة الفنان عن نفسه

ليوناردو دافنشي، غوغان، فيلاسكيز، دافيد، بيكاسو، سيزان، كارافاجيو، ديغا، ايغون شيلا، مونك، بيكون، لوسيان فرويد، فيجي لابران، روبنز، انجيليكا كوفمان، بيتر بريغل، جوشوا رينولدز، غويا، رافائيل، جيمس ويسلر، اوجين ديلاكروا، ماتيس، جون سارجنت، دانتي غابرييل روزيتي، سلفادور دالي، وارهول، رينوار، ديورر .. إلى آخره. كلّ هؤلاء وغيرهم رسموا صورا لأنفسهم. ومن دون تلك الصور ما كان بالإمكان اليوم تصوّر ملامحهم أو سماتهم الشخصية.
إن البورتريه الذي يرسمه الفنان لنفسه، سواءً كان واقعيا أو تجريديا أو غامضا، يمكن أن يوفر أفكارا ومعلومات مثيرة عن صاحبه.
وقبل ظهور التصوير الضوئي كان البورتريه الشخصي ضروريا لأنه يظهر للناس كيف كان يبدو هذا الرسّام أو ذاك. كان رسم البورتريهات الشخصية يشير أيضا إلى رغبة الفنان في إثبات الدليل على براعته وأصالة موهبته.
والبورتريهات الشخصية كانت وما تزال جزءا من التعليم الرسمي للفنّ، رغم أن هذا المفهوم أصبح اليوم أكثر اهتماما بإبراز تعبيرات الرسّام أكثر من ملامحه الشخصية.
رمبراندت وفان غوخ رسما لنفسيهما العديد من البورتريهات الشخصية. في الحقيقة، كان رمبراندت من خلال بورتريهاته الشخصية يسجّل مراحل نضجه الفنّي مرحلة بعد أخرى.
في حين أن فان غوخ كان في بورتريهاته يطرح التساؤلات عن هويّته ويحاول استكشاف المزيد من الأساليب الفنية الجديدة.
فنّانة عصر النهضة ارتيميزيا جينتيليسكي رسمت نفسها وبيدها الفرشاة وأمامها رقعة الرسم.
الفنانة المكسيكية فريدا كالو رسمت هي الأخرى العديد من البورتريهات الشخصية التي حاولت فيها النفاذ إلى مشاعرها الداخلية وطرح بعض الأسئلة المتعلقة بالثقافة والحبّ والجنس.
وفي بعض الحالات فإن الفنان عندما لا يضمّن البورتريه ملامحه بوضوح، فإنه يكشف فيه عن بعض سمات شخصّيته بطريقته الخاصّة.


لوحة مارسيل دُوشان بعنوان "شابّ حزين في قطار" قيل انه صوّر فيها نفسه. وهي من اللوحات التي تستعصي على التفسير، شأنها شأن العديد من لوحات دوشان الأخرى.
بينما يظهر تشارلز شيلر في لوحته "الفنان" وهو ينظر إلى الطبيعة بينما يعطي ظهره للناظر وأمامه متاهة من العناصر التي جلبها من بعض لوحاته السابقة. وفي الحقيقة لا احد يعلم كيف كان شيلر يبدو، لكن ثمّة احتمال انه أراد أن يقول إنه يفضّل أن يتعرّف الناس على هويّته من خلال فنّه.
الرسّام الألماني البيرت ديورر رسم لنفسه بورتريها أصبح مشهورا جدا في ما بعد. ومن الواضح انه اعطى وجهه في البورتريه بعض ملامح وجه المسيح.
مايكل انجيلو رسم نفسه ايضا في سقف كنيسة سيستين عندما اعار ملامحه الشخصية لوجه القديس بارثولوميو.
الرسّام الانطباعي الأمريكي ويلارد ميتكالف رسم لنفسه بورتريها نصف مظلّل. وهناك من يظنّ أن ميتكالف لم يرد إظهار وجهه بالكامل، تعبيرا عن شكوكه بشأن مستقبله الفنّي والمالي. لكن آخرين يرون أن ميتكالف ربّما كان يشير ضمنا إلى جانب مظلم من شخصيّته يختفي خلف مظهره الهادئ.
الرسام الايطالي رافائيل اختار هو أيضا أن يرسم نفسه ضمن شخصّيات لوحته المشهورة "مدرسة أثينا".
مارك روثكو رسم هو أيضا لنفسه بورتريها تبدو فيه نظراته محجوبة بما يشبه العدسات الزرقاء والسوداء، ما يثير إحساسا بالهشاشة أو الانفصال.
وعلى النقيض من ذلك، رسم ادوارد هوبر لنفسه صورة واقعية إلى حدّ كبير. غير أن من المثير للانتباه أن وجه هوبر هنا يبدو أكثر تفصيلا وشخصيّته أكثر وضوحا من الشخصيات التي كان يرسمها.
اليس نيل رسمت لنفسها صورة عارية وهي في سنّ الثمانين. الصورة تُظهر آثار الزمن على وجهها وجسدها.
ستانلي سبنسر رسم هو أيضا بورتريها لنفسه في بدايات اشتغاله بالرسم يبدو فيه بهيئة شابّة وبشرة صافية.
لكن قبيل وفاته في العام 1959 رسم سبنسر لنفسه بورتريها ثانيا يظهر فيه بملامح شبحية كما لو انه تصالح مع فكرة موته الوشيك.



الرسّام الفرنسي غوستاف كوربيه كان احد أشهر من رسموا البورتريه الشخصي. وقد رسم لنفسه عدّة لوحات في أوضاع وحالات شتّى.
كوربيه، الذي اتسمت حياته بالمجون والاحتجاج والسجن، كان يعرف أن شخصيّته هي رصيده الأكبر وأن الابتكار هو المفتاح الذي من خلاله يستطيع أن يفاجئ جمهوره دائما وأن يثير اهتمامهم.
البورتريه الذي رسمه لنفسه عام 1844 بعنوان "الرجل اليائس" يُظهر كوربيه بأجلى درجات حيويّته ووسامته. يداه تحاولان ترتيب شعره الأشعث وعيناه تحدّقان مثل حيوان جريح وتومضان بالذهول أو الخوف.
لكنه في المراحل الأخيرة من حياته صوّر نفسه تصويرا رمزيا وغريبا، أي على هيئة سمكة ميّتة. في اللوحة تبدو السمكة وقد علقت في سنّارة الصياد. وقد أراد كوربيه من خلال هذا المنظر التعبير بطريقة مؤلمة عن إحساسه بالهزيمة بعد أن تضافرت ضدّه قوى لم يكن بمستطاعه التصدّي لها أو الوقوف في وجهها. كان في ذلك الوقت يستشعر دنوّ الموت وكان أخوف ما يخافه أن يذهب في غياهب التجاهل والنسيان بعد موته.
كان كوربيه يحاول على ما يبدو من خلال بورتريهاته الشخصية أن يحافظ على ذاته. فالإنسان قد يمرّ في حياته بالكثير من التقلبّات ولحظات الفرح والحزن ومع ذلك لا يستطيع أن يأخذ نفسه بعيدا عن محيطه.
ومثل صفحة الرسم البيضاء يمكن أن يكون الفنان الشخص الذي يريد.


Credits
theartstory.org

الثلاثاء، يونيو 23، 2009

إدوارد هوبر: شاعر العُزلة

من الصعب أن نتذكّر أين ومتى رأينا لوحة لـ إدوارد هوبر لأوّل مرة. ربّما تكون الأماكن والشخصيات التي يصوّرها في لوحاته مألوفة، لأنها موجودة بالفعل في مكان ما من الذاكرة. وهوبر لا يفعل أكثر من أنه يدفع بها مرّة أخرى إلى منطقة الشعور وعتبات الوعي. قطار آخر الليل، مكتب في ناطحة سحاب، أشكال الظلام المخيّم على المدينة، غرف الفنادق. هذه كلّها أجزاء من عالم ادوارد هوبر الغامض ومن الطبيعة الميثية لما عُرف في بعض الأوقات بالحلم الأمريكي.
ولوحات هوبر لا تدعوك للدخول إليها، فهي مليئة بالظلال الداكنة والأماكن المظلمة وببقع من الضوء الساطع وأحيانا المزعج. ويصحّ أن يقال إنها ليست لوحات مضيافة أو ودودة. إنها تدفعك إلى الوراء، تردّ نظراتك وتطلب منك أن تتفحّص مشاعرك وأنت تحاول فهم ما تراه أمامك.
والنظر إلى بعض تلك اللوحات يشبه إلى حدّ كبير النظر إلى صورة ثابتة مقتطعة من احد أفلام الفريد هيتشكوك.
في لوحته "منزل بجوار سكّة الحديد"، يصوّر هوبر منزلا وحيدا في عزلة مزعجة. وباستثناء سكّة الحديد لا توجد بيوت أو مساكن في الجوار. وفي اللوحة، كما في لوحات هوبر الأخرى، إحساس عميق بالتخلّي والفقد والعزلة. كما أن الظلال تعمّق الحضور المشئوم للظلام الذي يخيّم على المكان. وعند التمعّن في اللوحة أكثر، يبدو المنزل الحزين أقرب ما يكون إلى مكان للموت أكثر منه مكانا للحياة.
لذا لم يكن مستغربا أن تصبح هذه اللوحة بالذات مصدر إلهام لمخرجي أفلام الرعب. والواقع أن لوحات هوبر تتضمّن مختلف الحالات المزاجية التي تركّز عليها الأفلام السينمائية المظلمة من حزن واغتراب وخوف وإحباط وتوتّر.. إلى آخره.

إن كلّ لوحة من لوحات ادوارد هوبر هي عبارة عن لحظة متجمّدة في الزمن تترك للناظر حرّية نسج الحكاية التي تناسب جَوّها الخاص.
ورغم أن اللوحات تشبه مقاطع من فيلم ساكن، فإنه يمكن اعتبارها أيضا صُوَرا تعكس، مجتمعةً، طبيعة الحياة التي كان يعيشها الأمريكيون في منتصف القرن العشرين.
كان هوبر يكشف عن نفسه كمراقب عن كثب للناس وللأمكنة. وكان يرصد التغيير الاجتماعي الذي بدأ يعيد صياغة الحياة الحضرية في أمريكا أثناء وبعد فترة الكساد الكبير وما رافقه من انخراط نساء الطبقة الوسطى في سوق العمل وما أحدثه ذلك من تغيير في القيم العائلية والاقتصادية والاجتماعية.
وقد نشأ الفنان وعاش في نيو إنغلاند التي كانت دائما تتمتّع بمكانة مهمّة في الوعي الوطني للأمريكيين بقيمها الطهرانية وبكتابات رالف ايمرسون. بل لقد كانت توصف أحيانا بأنها التجسيد الكامل للشخصية الأمريكية النموذجية.
في ما بعد، زار هوبر باريس. حدث هذا في نهاية العام 1882 م. لكن لم يجذب انتباهه رسّاموها الطليعيون بل وأنكر في ما بعد انه سمع بـ بيكاسو. غير أن لوحاته تذكّر بمونيه وبيسارو وسيزان.
ويقال إن اللوحة التي ألهمته أكثر من غيرها كانت الحرَس الليلي لـ رمبراندت.
مع مرور الأيام، أصبحت مناظره بشخصيّاتها المنعزلة في الفنادق والنزُل والمطاعم والشقق ذات النوافذ المفتوحة من أكثر الأعمال الفنية شعبية ورواجا وتأثيرا في الثقافة الشعبية.
ويقال إن جزءا من جاذبية مناظره يكمن في نكهة التلصّص التي تميّزها. في إحدى اللوحات تظهر امرأة تجلس ساكنة في غرفة الغسيل وهي تحدّق في الفراغ.
وفي "شمس الصباح" نرى امرأة، هي زوجة الفنان، تجلس جانبيا على سرير وهي ترتدي فستانا برتقاليا وتثني يديها حول ساقيها بينما راحت تحدّق خارج النافذة التي تتسلّل عبرها خيوط الضوء لتطبع وجهها ويديها باللون الأرجواني.
وفي لوحة "وقود" تبدو محطّة الوقود على وشك أن تغلق. المضخّات حمراء أمام خلفية مظلمة وقاتمة. والأشجار صلبة، جامدة ولا يمكن اختراقها. بينما يختفي الطريق وراء المبنى دون أن يترك إشارة تدلّ إلى أين يقود.
وهوبر لا يخبرنا فيمَ تفكّر شخصيّات لوحاته ولا ما الذي يجب أن يفكّر فيه الناظر وهو يتأمّلهم.

وفي أعماله المتأخّرة، أصبح الفنان نفسه هو المتلصّص عندما رسم سلسلة ممّا يمكن وصفه بالتهويمات الجنسية. والمعروف انه كان يرسم زوجته فقط لأنها لم تكن تسمح له برسم نساء أخريات. وهي تظهر في لوحاته إمّا متكشفة أو مرتدية ملابس موحية جنسيا.
وأسلوب هوبر السينمائي يعكس شغفه بالأفلام وهوسه بالضوء والظلّ.
ويمكن القول إن لوحاته ليست بورتريهات بالمعنى الشائع، بل لقطات خاطفة لشخصيات غامضة: امرأة تجلس أمام ماكينة الخياطة وأفكارها في مكان بعيد؛ أبعد من النافذة المفتوحة التي تجلس قبالتها. وامرأة متجردة تقف إلى جوار السرير بينما تحدّق عيناها في ما وراء الستارة المفتوحة.
والأشخاص في لوحاته توّاقون، منعزلون وأحيانا مأساويون. وهم يتصرّفون كما لو أنهم أجسام من ظلّ وضوء.
وفي كل لوحاته كان هوبر يركّز على العزلة. حتى دور السينما والمسارح في مناظره تبدو شبه مقفرة إلا من بضعة أشخاص ينتظرون رفع الستارة أو بدء العرض.
وقد كتب أحد معاصريه يقول: إن نسيج لوحات ادوارد هوبر يبدو متداخلا بالكامل مع شخصيّته وأسلوب حياته الخاص. وعندما ينكسر الرابط بين العالم الخارجي الذي يلاحظه وبين عالمه الداخلي الشعوري فإنه سرعان ما يفقد قدرته على الرسم".
في لوحته المسمّاة "غرفة في فندق"، تجلس امرأة لوحدها في غرفتها وهي تمسك كتابا. إنها منطوية على ذاتها، وكتفاها المنحنيان وطريقة جلوسها يوحيان بالاعتكاف واليأس.
وفي "يوم الأحد"، نرى رجلا يجلس لوحده على كرسي وخلفه متاجر مغلقة. لا أحد يعرف من أين أتى أو ما هويّته أو ما الذي جاء يفعله هنا.
غير أن من الواضح أن العالم في الخارج لا يقدّم لهؤلاء الأفراد العاديّين والمجهولين سوى القليل من الراحة والسلوان. لكنْ من المؤكّد أن لكلّ واحد منهم وجوده الذاتي والخاصّ.

إن عالم هوبر هو عالم المدينة بتعقيداتها ونظمها وقيَمِها. وهو يقدّم رؤية عن مدينة مليئة بالحيوات المنعزلة والمتشظية. وكلّ إنسان لا يعرف شيئا عن الآخر، تماما مثل قطع صغيرة رُكبّت في ماكينة ضخمة.
وفي بعض اللوحات يبدو الأشخاص منعزلين عن بعضهم حتى عندما يجمعهم نفس المكان. إنهم حتى يتحاشون النظر إلى بعضهم وكأن كلّ واحد يريد أن يعيش لوحده في كونه الخاصّ به.
بعض النقّاد يشيرون إلى أنه رغم ما تختزنه مشاهد هوبر من حزن وألم، فإنها لا تخلو أحيانا من بعض العاطفة والأمل. فالشخوص المنعزلون في غرَفهم نصف الفارغة لا يبدون في هيئة الضحايا. إن كلا منهم يبحث عن شيء ما من خلال النظر إلى النافذة أو إلى داخل الذات أو التأمّل في الظلام أو في العالم من حوله.
وكلّ واحد ما يزال يحتفظ بحلم ما، بتوق، وبإحساس أن هذه اللحظة ستعبُر إن آجلا أو عاجلا وأن ثمّة شيئا ما مجهولا، شيئا ليس له اسم ويصعب التنبّؤ به، على وشك أن يقع.

من الملاحظ أن المباني في لوحات هوبر ذات طبيعة كاريزماتية خاصّة بها بمعزل عن الناس الذين يستخدمونها.
إنه يصوّرها كبُنى تجريدية لها حياتها الخاصة. كما أن حيويّتها اكبر من تلك التي للناس الذين يسكنونها.
والمباني في لوحاته كثيرا ما تقزّم البشر وتصيبهم بعدوى فقدان الهويّة والضآلة والعزلة وتحيلهم إلى كمّ لا قيمة له. وفي بعض اللوحات، تبدو جدران البيوت والغرف أكثر حميمية وحيوية من البشر أنفسهم.
ودائما فإن معمار الرسّام له حضور اكبر من حضور البشر، ليس فقط لأن المعمار خالد والبشر عابرون، بل لأن البشر يبدون ضيوفا مؤقتين بلا منازل دائمة.
وعندما تتمعّن في بعض مناظره، تشعر أنها لا تتضمّن أي إحساس بالماضي أو المستقبل. والأشخاص غالبا ما ينظرون للخارج توقّعا لشيء ما أو للهرب من الغرفة أو المنزل أو انتظارا لحبيب أو صديق قد يأتي لينقذهم من عزلتهم. وهم في النهاية جزء من الفراغ الهندسي الهائل الذي يمكن أن يوجد بدونهم.
إن هوبر وهو يرسم لا ينسى التأثير المدمّر للبيئة التجريدية على الإنسان الحديث الذي أوجدها. ولا بدّ للناظر إلى لوحاته أن يكتشف خلوّها إلى حدّ كبير من مناظر الطبيعة المألوفة. فناطحات السحاب والشوارع التي تتلوّى بينها حلّت مكان الجبال والوديان في هذا الواقع الجديد.
وهناك ملمح آخر في لوحات هوبر. ففيما يبدو الرجال خاملين عاطفيا، فإن النساء يظهرن حيوية ايروتيكية، كما يوحي بذلك اللون الأحمر الذي غالبا ما يرتدينه عندما لا يكنّ عاريات.
غير أن حضور النساء القلقات والمثيرات لا يفعل الكثير لكسر شؤم المباني القاتل. فاللامبالاة والإحساس بالخواء والعزلة والهشاشة عناصر تقع في صلب هويّتهن الضائعة ووجودهن المستلب.
وإجمالا فإن شخوص هوبر، سواءً كانوا من الرجال أو النساء، هم مجرّد دُمى اجتماعية. على الرغم من أن النساء يَظهرن أحيانا وكأنهنّ يحاولن بيأس قطع الخيوط والتمرّد على الواقع.
لوحة "صقور الليل"، وهي أشهر أعماله، تعتبر نموذجا بليغا حاول هوبر من خلاله تصوير جدب الحياة ووحشتها في ضواحي المدن الكبيرة. والبعض يشبّهها بالمقهى الليلي لـ فان غوخ وبطرقات دي كيريكو المقفرة والموحشة.
في هذه اللوحة، يظهر أربعة أشخاص وهم يجلسون في مطعم في آخر الليل. لقاؤهم هنا عارض. علاقتهم ببعضهم محض مصادفة. وهم لا ينظرون إلى بعضهم ولا يحسّون بوجود بعضهم البعض. إنهم مسجونون داخل قضبان إحساسهم بالغربة وفقدان الانتماء. الضوء الصارخ يوحي بالانكشاف والأشخاص عالقون في مكان ما بين الظلمة والنور. وجودهم يشبه وجود من نجا من عالم عدائي وفاسد. والأشخاص الأربعة أشبه ما يكونون بفصيلة من الكائنات التي تطفو في وعاء من الضوء. والسقف المثلّث المعلّق فوقهم ساطع وحادّ مثل سكّين. والنافذة الزجاجية تعمّق الإحساس السوريالي بالاختراق.

على الجانب الشخصي، كان هوبر يوصف بأنه رجل هادئ جدّا ومتحفّظ للغاية. لم يكن بوهيمياً ولا فوضوياً. حتى عندما كان في باريس، لم تجتذبه مقاهيها ولا صخبها وأضواؤها. وقد نُقل عنه انه قال ذات مرّة: أن تعشق العزلة، هذا يعني أن العالم ليس مكانا جيّدا بما فيه الكفاية بالنسبة لك".
والحقيقة أن هناك شلالا لا ينقطع من الكلمات والأوصاف التي تُطلق على لوحاته: صمت مميت، يأس جنسي، غموض مخيف، رغبات خفيّة، رؤى غيبية.. إلى آخره.
وغالبا فإن الكتّاب والنقّاد والفنانين يرون في لوحاته عزلة ووحدة واغترابا. لكنّ هوبر يفسّر الوحدة بأنها الإحساس بالذات باعتبارها مختلفة عن ذوات الآخرين. وهو شعور قد لا يقتصر على الأمريكيين وحدهم.
إن ميزة هوبر الأساسية هي أنه جعل العزلة والاستبطان ليس فقط ثيمة مهمّة في لوحاته، بل وموضوعا مقبولا لدى الناس، وهو ما يفسّر شعبية لوحاته الكبيرة واحتفاء الناس بها وإقبالهم على اقتنائها على الرغم من مرور عشرات السنين على رحيله.

Credits
edwardhopper.net
smithsonianmag.com