:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات نحت. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات نحت. إظهار كافة الرسائل

الثلاثاء، مايو 21، 2024

خواطر في الأدب والفن


  • قرأت رواية "الشيخ والبحر" لإرنست همنغوي منذ سنوات عديدة، وللأسف لم أستطع إكمالها. بدت لي طويلة جدّا ومملّة الى حدّ ما. وقلت ربّما أعود إليها في وقت مؤاتٍ أكثر. ثم شاهدت فيلمين مقتبسين عن روايتين من روايات الكاتب هما "وداعا للسلاح" و"لمن تُقرع الأجراس". وقد أعجبني الفيلمان كثيرا لجمال القصّتين وبراعة الإخراج والتمثيل.
    طوال حياة همنغوي، تعرّض للإيذاء والصدمات وشاهد الناس من حوله وهم يقتلون أنفسهم ويعذّبون بعضهم بعضا. ولم يكن مستغربا أن ينقل الكثير مما رآه في الحروب والصراعات التي غطّاها كصحفي الى رواياته.
    ومع مرور الوقت أصبح الكاتب مهجوسا بالموت والانتحار، وجرّب أيضا الألم المزمن وإدمان الكحول الذي لم يتمكّن من السيطرة عليه أبدا. كما عانى من اضطراب ما بعد الصدمة بعد تحطّم الطائرة التي كان على متنها في أفريقيا وإصابته بكسر في الجمجمة مع إصابات أخرى.
    كان همنغوي كاتبا عظيما، لكن لم تُتح له الفرصة ليكون سعيدا أو ليعيش حياة طبيعية. نوع الألم الذي عاشه كان يحتاج لأجيال حتى يُشفى منه أو تخفّ آثاره. وكان سلوك همنغوي خلال سنواته الأخيرة مشابها لسلوك والده قبل أن يقتل هو الآخر نفسه.
    قيل إن والده كان يعاني من داء الصبغات الدموية الوراثي، حيث يؤدّي تراكم الحديد بشكل مفرط في الأنسجة إلى التدهور العقلي والجسدي. وقد أكّدت السجلات الطبّية أن همنغوي الابن قد شُخّصت إصابته بنفس المرض في أوائل عام 1961.
    ويقال أيضا أن شقيقه وشقيقته انتحرا لنفس السبب. وقد ازدادت صحّة همنغوي سوءا بسبب شكواه الدائمة من مضايقات المباحث الفيدرالية ومراقبتهم له باستمرار.
    كان همنغوي يلعب لعبة الحياة طوال فترة وجوده. لكنه لم يحصل على حياة سعيدة ومستقرّة. لم يفز وأسقط معه الكثير من الناس. وليس من الانصاف أن يلام على كل ما حدث له في حياته. ولنتذكّر دائما أن هذه الحياة ليست عادلة.
  • عندما نتحدّث عن الانفجار الكبير أو عن نسيج الفضاء، فإن ما نقوم به ليس استمرارا للقصص الرائعة التي كان البشر يروونها لبعضهم البعض ليلاً حول نيران المخيّم لمئات آلاف السنين. إنه استمرار لشيء آخر، نظرة هؤلاء الرجال أنفسهم في أوّل ضوء النهار وهم يتأمّلون في المسارات والآثار التي خلّفتها الظباء في غبار السافانا.
    هذا التدقيق في تفاصيل الواقع من أجل متابعة شيء لا يمكننا رؤيته مباشرة، لكن بالإمكان متابعة آثاره. وفي نفس الوقت إدراك أننا يمكن أن نكون مخطئين دائما، وبالتالي مستعدّين في أيّ لحظة لتغيير الاتجاه إذا ظهر مسار جديد. ولكن مع علمنا أيضا أنه إذا كنّا جيدين بما يكفي، فسنقوم بذلك بشكل صحيح وسنجد ما نسعى إليه. وهذه هي طبيعة العلم.
    -كارلو روڤيللي
  • كان ألفارو مونيرو أحد أشهر مصارعي الثيران في اسبانيا. وفي عام 2012، وفي خضمّ إحدى معاركه مع ثور، تاب هذا المصارع فجأة عن ممارسة هذه الرياضة العنيفة وجلس على حافّة الحلبة. وقال في إحدى المقابلات فيما بعد واصفا ما حدث له: جلست قليلا أحدّق في الثور. وفجأة لم أرَ قرونا، بل عيون حيوان. وقف الثور أمامي وبدأ ينظر إليّ. ثم وقفت لكنه لم يقم بأيّ محاولة للهجوم عليّ.
    ويضيف: البراءة التي في أعين جميع الحيوانات كانت تتطلّع إليّ في تلك اللحظة طالبةً العون. كان سلوك ذلك الثور بمثابة صرخة احتجاج واستغاثة من أجل العدالة. وفي مكان ما في أعماقي، أدركت فجأة أنه كان يخاطبني بنفس الطريقة التي نخاطب بها الله في الصلاة.
    كأنّه كان يقول: لا أريد أن أقاتلك، من فضلك اتركني، لأنني لم أفعل شيئا. اقتلني إذا أردت، لكنّي لا أريد أن أقاتلك. كنت أقرأ ذلك في عينيه، وشعرت بأنّني أسوأ وأتعس مخلوق على وجه الأرض".
    ومن تلك اللحظة قرّر مونيرو اعتزال عمله كمصارع للثيران الى الأبد. ثم توقّف عن أكل كافّة أنواع اللحوم وأصبح شخصا نباتيّا.


  • كانت نفرتيتي إحدى أكثر النساء غموضا وقوّة في مصر القديمة. وقد حكمت الى جانب زوجها الفرعون أخناتون من 1353 إلى 1336 قبل الميلاد. واتسم عهدها بالاضطرابات الثقافية الهائلة، حيث أعاد أخناتون توجيه مصر نحو عبادة إله الشمس آتون.
    نسبُ نفرتيتي غير معروف تماما. لكن اسمها مصري ويعني: لقد أتت امرأة جميلة". وبعض علماء المصريات يعتقدون أنها كانت أميرة من سوريا. لكن هناك أيضا أدلّة تشير إلى أنها كانت الابنة المصرية المولد لمسؤول في بلاط أخناتون.
    وتشتهر نفرتيتي بتمثالها النصفي الملوّن والمصنوع من الحجر الرملي، الذي يعود الى عام 1345 قبل الميلاد. وقد اكتُشف التمثال عام 1913 في بلدة تلّ العمارنة على يد فريق آثاري بقيادة عالم الآثار الألماني لودفيك بوركهارت.
    وأصبح التمثال منذ اكتشافه أحد أكثر الأعمال الفنّية استنساخا من مصر القديمة. وإلى اليوم ما يزال واحدا من أجمل الصور الأنثوية من العالم القديم. النحّاتون المصريون نادرا ما كانوا يعبّرون عن أيّ انفعال في وجوه أعمالهم الفنّية. لكن هذا الوجه يُعدّ تجسيدا للصفاء ورباطة الجأش. والمُشاهد لا ينظر إلى نموذج مثالي، بل إلى صورة منمّقة لشخص ذي مظهر ملفت وشخصية قويّة.
    وبحسب بوركهارت، تتميّز الشخصية المنحوتة برقبة نحيلة ووجه متناسق وغطاء رأس أسطواني أزرق. وقد صُمّمت عضلات القفا وجوانب الرقبة بشكل دقيق للغاية، لدرجة أن المرء يتخيّل رؤيتها وهي تنثني تحت الجلد الرقيق والألوان الطبيعية."
    كان الفريق الألماني قد اتفق مع الحكومة المصرية على تقاسم القطع الأثرية، لذلك شُحن التمثال النصفيّ كجزء من حصّة ألمانيا.
    وفي عام 1922، اكتشف عالم المصريات البريطاني هوارد كارتر مقبرة الملك توت. وتبع ذلك موجة من الاهتمام الدولي، وسرعان ما أصبحت صورة القناع الجنائزي المصنوع من الذهب الخالص لتوت رمزا عالميا للجمال والثروة والقوّة. وبعد مرور عام، عُرض تمثال نفرتيتي النصفي في برلين، في مواجهة توت عنخ آمون "الإنغليزي" لكي تستعيد ألمانيا لتمثالها بعضا من بريقه القديم.
    على جدران المقابر والمعابد التي شُيّدت في عهد أخناتون، كثيرا ما تُصوَّر نفرتيتي إلى جانب زوجها اخناتون. وفي كثير من الحالات تظهر في مواقع القوّة والسلطة وهي تترّأس طقوس عبادة آتون أو تقود عربة أو تهاجم عدوّا.
    قبل عام 2012، كان يُعتقد أن نفرتيتي اختفت من السجل التاريخي في العام الثاني عشر من حكم أخناتون الذي دام 17 عاما. وقيل إنها ربّما تكون قد ماتت بسبب إصابتها بالطاعون أو لسبب آخر. لكن في عام 2012، اكتُشف نقش من العام السادس عشر من حكم أخناتون يحمل اسم نفرتيتي ويثبت أنها كانت ما تزال على قيد الحياة. غير أن ظروف وفاتها لا تزال مجهولة وكذلك مكان قبرها.
    طوال الاضطرابات التي شهدها القرن العشرين، ظلّ تمثال نفرتيتي النصفي في أيدي الألمان. وكان هتلر يحبّ التمثال كثيرا، ونُقل عنه قوله: لن أتخلّى أبدا عن رأس الملكة". وفيما بعد أخفى الألمان التمثال في منجم للملح لإبعاده عن قنابل الحلفاء.


  • Credits
    hemingwayhome.com
    smb.museum/en

    الأربعاء، مارس 07، 2018

    جياكوميتّي: سارتر النحت


    في عام 1939، وفي احد المقاهي الليلية في باريس، كان يجلس النحّات السويسريّ البيرتو جياكوميتّي (1901-1966). كان المقهى شبه فارغ في تلك الساعة المتأخّرة من الليل. ثم جاء رجل وجلس على المائدة المجاورة.
    ولم يلبث أن أمال رأسه ناحية جياكوميتّي وقال: المعذرة، لقد رأيتك هنا مرارا وأظنّ أننا نفهم بعضنا جيّدا". ثم صمت قليلا وأضاف: ليس معي نقود، ولا ادري إن كان بمقدورك أن تطلب لي كوبا من القهوة".
    ولم يكن من عادة جياكوميتّي أن يرفض مثل ذلك الطلب. ثم تلا ذلك حديث طويل بدا أثناءه أن الرجلين يفهمان بعضهما بالفعل.
    كان جياكوميتّي قد سمع عن جان بول سارتر من قبل، لكن كانت تلك أوّل مرّة يراه فيها عيانا. وسارتر من ناحيته كان قد سمع الكثير عن جياكوميتّي ورأى بعضا من منحوتاته. وكان ذلك اللقاء بداية لعلاقة وثيقة وممتدّة بين الفيلسوف والنحّات.
    وقد كتب سارتر بعد ذلك اللقاء مقالا مشهورا بعنوان "البحث عن المطلق"، تحدّث فيه عن جياكوميتّي وامتدح فنّه وأشار إلى انه يطرح أسئلة وجودية عن البشرية وعن هشاشة وغربة الإنسان. وكان النحّات نفسه قد بدأ يرى في أفكاره وفنّه امتدادا للتقاليد الوجودية التي أرساها سارتر.
    وبالنسبة للأخير، كانت تماثيل جياكوميتّي مليئة بالمعاني، كما أنها تقف دائما في منتصف المسافة بين الكينونة والعدم.
    وقد كتب في مقاله ذاك أن لا احد يشبه جياكوميتّي في إحساسه بسحر الوجوه والحركات ومحاولته أن يغيّر الطريقة التي ننظر بها إلى الآخرين. وأضاف أن النحّاتين ولأكثر من ثلاثة آلاف عام كانوا صامتين دون أن يثيروا ضجيجا وأنهم كانوا ينحتون جثثا لا أكثر.
    كما أشار سارتر إلى أن التماثيل الجامدة في المتاحف، بأعينها البيضاء وهيئاتها الساكنة، تتظاهر بأنها تتحرّك، لكن أجزاءها ملحومة بقضبان من حديد. وختم مقاله بالقول: بعد ثلاثة آلاف عام من النحت، فإن مهمّة جياكوميتّي وزملائه المعاصرين ليست أن يضيفوا أعمالا جديدة إلى ما هو موجود في المتاحف، بل أن يثبتوا أن النحت ممكن فعلا".
    عندما ترى عملا لجياكوميتّي، ينتابك إحساس بأن هذا الفنّان يتعارك مع نفسه في محاولته العثور على شكل مناسب يعبّر من خلاله عن رؤاه. ومعظم منحوتاته تمنح شعورا بأنها خاصّة ولم تُصنع لكي يراها عامّة الناس.
    كان يهتمّ بكل تفصيل في عمله، وطالما دمّر العديد من منحوتاته بعد أن يكون قد اشتغل عليها لأسابيع وأحيانا لأشهر. وكثيرا ما نجح أصدقاؤه في استنقاذ رأس أو ذراع أو ساق تمثال. وكان يتركهم يفعلون هذا ويعود إلى عمله من جديد. وطوال خمسة عشر عاما لم ينظّم معرضا واحدا لأعماله.
    ويمكنك تمييز منحوتات جياكوميتّي بلا عناء وبنفس سهولة التعرّف على تماثيل النحّات البريطانيّ هنري مور التي تتّسم بكثرة الفتحات والتجاويف فيها. فرجال ونساء جياكوميتّي دائما طوال القامة ورفيعو القوام وبالغو الهشاشة. أطرافهم رفيعة جدّا مثل عيدان الثقاب، ورؤوسهم متناهية الصغر لدرجة أنها تبدو بعيدة جدّا في الفراغ. ولمسات أصابع النحّات على أسطحها تمنحها ملمسا خشنا كما لو أنها محروقة أو متآكلة.
    وجياكوميتّي لا يتحدّث عن الخلود، بل ولا يفكّر فيه أبدا. وقد قال ذات مرّة لسارتر بعد أن اتلف بعض تماثيله: لقد كنتُ سعيدا بها، لكنها صُنعت لتعيش فقط لبضع لساعات، مثل ومضات الفجر الخاطفة ولحظات الحزن العابرة".
    شخصيات جياكوميتّي هي عبارة عن بشر مجهولين ومعقّدين ومنعزلين بشكل لا يُحتمل. وهذا هو جوهر ما تقول به الفلسفة الوجودية. وتماثيله تعكس رؤية حداثة القرن العشرين والتي تتلخّص في أن الحياة الحديثة خاوية بشكل متزايد وخالية من المعنى. وهذه النظرة يؤكّدها قول الفنّان ذات مرّة: إذا جلستَ أمامي لأنحتك، فإنك ستصبح غريبا بالكامل، حتى لو كنت أعرفك".
    وقد اختار جياكوميتّي لعمله مادّتين خفيفتين هما الجبس والطين، وهما من أكثر المواد روحانيةً وقابليةً للاختراق. "ليس هناك مادّة اقلّ خلودا وأكثر ضعفا وشبها بالإنسان من الطين".
    كان جياكوميتّي مهجوسا برؤوس ووجوه الناس الذين كان يراهم حوله، وهو يتعامل مع الوجوه بعاطفة قويّة وكما لو أنها آتية من عالم آخر.
    وقد كان له معجبون كثر، مثل الشاعر جان جينيه الذي كان مفتونا بفنّه وبتقشّفه الغريب واحتقاره للراحة والبذخ. لكن اقرب أصدقائه إلى نفسه كان الروائيّ سامويل بيكيت الذي طالما رافقه أثناء مغامراتهما الليلية في أحياء باريس. ومثل شخصيّات بيكيت، كانت تماثيل جياكوميتّي تعكس نظرة إلى عالم معزول ومغرق في فردانيّته وأنانيّته.
    كان جياكوميتّي يتمتّع بروح دعابة عالية، وكان شخصا ناجحا في حياته. لكن عندما تنظر إلى صوره في الانترنت، ستلاحظ انه نادرا ما يبتسم، وكلّ صوره ومقابلاته تحيل إلى شخصية متحفّظة وخجولة.
    وبعد مرور أكثر من خمسين عاما على رحيله، ما يزال جياكوميتّي يتمتّع بحضور كبير في المشهد الفنّي العالمي وفي سوق الفنّ اليوم. ففي عام 2010، بيعت إحدى منحوتاته بمبلغ خمسة وستين مليون جنيه استرليني. ثم بيعت منحوتة أخرى له بعنوان رجل يؤشّر بيده بمبلغ مائة وستّة وعشرين مليون دولار، لتصبح أغلى منحوتة بيعت في العالم حتى الآن.

    Credits
    fondation-giacometti.fr/en
    theartstory.org

    الأحد، نوفمبر 12، 2017

    لُوفر أبو ظبي


    أن يُشيّد في عاصمة عربية، وخليجية بالتحديد، فرع لمتحف عالميّ مشهور كاللوفر هي ولا شكّ فكرة رائعة.
    غير أن هذه الفكرة ليست بالجديدة تماما، فالعديد من المتاحف العالمية المشهورة سبق أن فتحت لها فروعا في دول أخرى. وبفضل مثل هذه المشاريع، تحوّلت مدن كانت مغمورة أو شبه منسيّة إلى مناطق جذب ثقافيّ يقصدها المهتمّون برؤية كنوز الفنّ العالميّ.
    وفي مدينة مثل أبو ظبي، الممتلئة بناطحات السحاب المشيّدة من الخرسانة والحديد والزجاج، كان لا بدّ من وجود صرح آخر يوازن بين ما هو تجاريّ وثقافيّ.
    ويُنتظَر أن يضيف المتحف الكثير إلى القوّة الناعمة لدولة الإمارات ويحوّل العاصمة إلى مدينة للتسامح الحضاريّ وجسر بين الحضارات المختلفة.
    وأبو ظبي ليست الوحيدة في منطقة الخليج من حيث تركيزها على التاريخ والثقافة، فقد سبقتها كلّ من سلطنة عمان وإمارة دبي اللتين افتتحتا في السنوات الأخيرة دُوراً للأوبرا وقاعات للموسيقى الكلاسيكية.
    ولوفر أبو ظبي هو أوّل فرع لمتحف اللوفر يُدشّن خارج فرنسا. ويقال أنه المتحف الأغلى في العالم حتى الآن، إذ اُنفق على إنشائه حوالي بليون دولار أمريكيّ. لكن هذا ليس بالمبلغ الكثير إذا ما أخذنا في الاعتبار مردوده الكبير، من حيث أنه سيغيّر صورة هذه المدينة وسيضيف إلى جاذبيّتها السياحية والتجارية بُعدا ثقافيا وحضاريا.
    وسيعمل المتحف كمؤسّسة مستقلّة على الرغم من انه سيحمل اسم اللوفر للثلاثين عاما القادمة، كما تنصّ الاتفاقية. وقد بُديء العمل فيه عام 2007 وكُلّف بوضع تصميمه مهندس فرنسيّ مشهور هو جان نوفيل.
    وحسب نوفيل، المعروف بشغفه بالمتاحف والذي سبق له أن صمّم متحف قطر الوطنيّ، فإن المبدأ الذي اعتمده في التصميم هو ضرورة أن ينتمي المتحف إلى الجغرافيا والثقافة المحليّة وإلى هويّة البلد الحاضن.
    وقد روعي في التصميم طبيعة التراث والبيئة المحلية الإماراتية بحيث تتفاعل في المكان السماء الضخمة مع أفق البحر وأرض الصحراء. والمتحف أشبه ما يكون بأرخبيل في البحر تعلوه قبّة ضخمة على شكل مظلّة مشيّدة من الفضّة والحديد والألمنيوم.
    والقبّة الفضّية مزيّنة بأنماط ارابيسك على هيئة نجوم تطفو فوق الغاليريهات منتجةً ما يشبه المطر الضوئيّ، بحسب وصف المصمّم. ولكي يصل الضوء إلى الطابق الأرضيّ، يجب أن يعبر ثمان طبقات من الثقوب التي تنتج أنماطا متحوّلة تحاكي ظلال أشجار النخيل المتشابكة في واحات الإمارات أو أسطح الأسواق التراثية العربية.
    وقد واكب المشروع في بداياته نقاش فرنسيّ واسع تركّز حول مخاطر إقراض الكنوز الوطنية إلى بلد شرق أوسطيّ مقابل أموال البترول. وجزء من السجال كان يدور حول الظروف المناخية في الإمارات واحتمال تلف القطع الفنّية أثناء نقلها إلى أماكن بعيدة.
    لكن في النهاية انتصرت فكرة المشروع بعد أن التزمت الجهات الإماراتية باتخاذ تدابير احترازية لحماية القطع الفنّية من العوامل المناخية في بلد تصل فيه درجة الحرارة إلى أكثر من أربعين درجة مئوية صيفاً.
    ومنذ الإعلان عن افتتاح لوفر أبو ظبي في سبتمبر الماضي، ازدادت وتيرة الرحلات الجويّة من باريس إلى أبو ظبي لنقل المعروضات الفنّية كي تصبح جاهزة يوم الافتتاح. وقد حصل المتحف الناشئ على أكثر من ستمائة عمل فنّي من ثلاثة عشر متحف فرنسيا بالإضافة إلى اللوفر، بينما استعيرت أعمال أخرى من مجموعات فنّية خاصّة من أكثر من مكان.
    وخُصّص جزء صغير من المتحف لأعمال الفنّ الحديث والمعاصر. أما الجزء الأكبر فيعرض أعمالا فنّية من عدّة أماكن تتناول تاريخ وأديان العالم.
    ومن بين القطع المعروضة الآن بورتريه لفان غوخ ولوحة لإدوار مانيه وأخرى لجاك لوي دافيد ولوحة لدافنشي وأخرى لجون ويسلر، بالإضافة إلى أعمال للرسّام الهولنديّ بيت موندريان والتركيّ عثمان حمدي بيه. ومن بين المنحوتات المعروضة تمثال لأبي الهول يعود تاريخه إلى القرن السادس قبل الميلاد وأعمدة رومانية قديمة مزيّنة بنقوش وزخارف.
    لوفر ابو ظبي مشروع حضاريّ واعد. وربّما سيمضي بعض الوقت قبل أن يكتسب المتحف صورته أو ماركته المميّزة. لكن المسئولين عنه مقتنعون بأنه سينجح في تقديم صورة بصرية شاملة عن تاريخ العالم وسيوفّر جسرا للحوار بين الثقافات.

    الاثنين، مايو 01، 2017

    جيش التماثيل

    في العام 221 قبل الميلاد، وحّد تشين جن هوان الصين لأوّل مرّة تحت سلطة مركزية واحدة. ثمّ نصّب نفسه كأوّل إمبراطور للبلاد بعد أن أطلق عليها اسمه.
    وقد حكم تشين امبراطوريّته الواسعة بيد من حديد، مطبّقا فلسفة تقول إن البشر بطبيعتهم سيّئون وبحاجة لأن ينصاعوا لقوّة القانون، في تباين واضح مع ما كانت تقول به الكونفوشية التي كان تشين يعتبرها تهديدا لسلطته.
    ثم لم يلبث أن أمر بإحراق جميع الكتب التي لا تتحدّث عن حكمه أو عن الزراعة والطبّ وقراءة الحظ. وبعدها باشر بإحراق خمسمائة عالم كونفوشي وهم أحياء، بينما أمر برجم سبعمائة آخرين حتى الموت.
    ومع ازدياد طغيان الإمبراطور واستبداده، جرت عدّة محاولات لاغتياله، لكنه نجا منها جميعا.
    وبرغم سلطته وهيبته الطاغية، إلا انه كان خائفا من الموت وأصبح هاجسه الأكبر البحث عن ترياق للحياة الأبدية.
    لذا استدعى كافّة الخيميائيين والسحرة المشهورين إلى بلاطه كي يحضّروا له الوصفة المناسبة التي تضمن له الخلود.
    وقد اخبره بعض مستشاريه عن وجود جزيرة جبليّة في احد البحار البعيدة يعيش عليها مجموعة قليلة من البشر حياة دائمة دون أن يتهدّدهم موت أو مرض.
    لذا أمرهم بالذهاب إلى هناك كي يستقصوا الأمر ويجلبوا له معهم سرّ الحياة السرمدية. وبعد سنوات من الترحال، عادوا دون أن يجدوا شيئا.
    ثم أقنعه بعضهم بأن يعيش داخل قصره في عزلة من الناس إلا من مستشاريه المقرّبين، على أمل أن يحصل أثناء ذلك على نبتة الخلود التي ينتظرها.
    كان تشين يتطلّع إلى مكانة "الإنسان الحقيقيّ"، وهي مكانة لا يبلغها، حسب الأساطير الصينية القديمة، سوى بضعة أفراد هم من يُكتب لهم الخلود في هذه الحياة.
    وكان يعتبر نفسه أوّل إمبراطور في صفّ طويل من أباطرة سلالته الذين سيدوم حكمهم آلاف السنين. لذا اجتهد في إقامة القرابين على قمم الجبال معتقدا انه بهذا يوحّد مملكته مع عالم الأرواح.
    وطبقا للمفاهيم الصينية، فإن الموتى والأرواح لا ينفصلون عن عالم الأحياء، وأن ما بعد هذه الحياة يمكن أن يكون أكثر خطرا من الوجود الأرضيّ.
    وكان لدى تشين سبب خاصّ يدفعه للخوف من الموت، فقد كان يخشى انتقاما أخرويّا من جيوش الولايات الستّ التي لم يكتفِ بهزمها قبل توحيد الإمبراطورية، بل ذبح أهلها ونكّل بهم أشدّ تنكيل.
    ولأن الإمبراطور لم يكن قادرا على التغلّب على خوفه من الفناء ولا بتحقيق حلمه في حكم العالم في هذه الحياة، فقد قرّر أن يؤسّس له سلطة بعد موته.
    المؤرّخ الصينيّ المشهور سوما تشان الذي عاش في تلك الفترة يذكر أن تشين بنى لنفسه ضريحا تحت الأرض يحرسه جيش من ثمانية آلاف جنديّ نُحتت شخوصهم من الطين مع عرباتهم وخيولهم وأسلحتهم.
    كان الضريح عبارة عن قصر فخم مصنوع من الطين والخشب والبرونز، مع نماذج للجنّة الموعودة وخارطة ضخمة للإمبراطورية.
    الكنوز التي دُفنت في الضريح كانت تحرسها أدوات لرمي السهام. أما العمّال الذين شيّدوا الضريح والقصر فقد دُفنوا أحياء كي تبقى أسرار المكان خفيّة إلى الأبد.
    المفارقة أن إصرار الإمبراطور على تحدّي الموت هو الذي عجّل في هلاكه. فقد كان تشين يعتبر الزئبق مادّة سحرية تطيل العمر وتحمي من الحسد والأمراض. ويبدو أن بعض حاشيته وصفوه له كجزء من إكسير الحياة. وكان هو نفسه قد سمع قصصا غريبة عن ملوك وحكماء عاشوا لعشرة آلاف عام وأكثر بسبب تناولهم للزئبق الممزوج بالنبيذ المحلّى بالعسل.
    لكن في عام 210 قبل الميلاد، سقط تشين مريضا بسبب إفراطه في تناول الزئبق السامّ، ثم لم يلبث أن توفّي وهو في سنّ التاسعة والأربعين. وعند وفاته كان بالكاد قد أكمل بناء قبره الضخم تحت الأرض.
    بعد موت الإمبراطور، عمّت الفوضى الصين. وبعد ثلاث سنوات أقدم ابنه الذي خلَفه فوق العرش على الانتحار أثناء انتفاضة اندلعت ضدّه. وبانتحاره انتهى حكم سلالة تشين إلى الأبد.
    لكن الإمبراطور المؤسّس للصين استمرّ "يعيش" داخل قصره الغريب تحت الأرض والذي ظلّ مكانه مجهولا لأكثر من ألفي عام.


    في احد أيّام شهر مارس من عام 1974، كان مزارع يُدعى يانغ زيفي يحفر مع إخوته الخمسة بئرا في بستان للرمّان يبعد مسافة ساعة عن مدينة شيان عاصمة إقليم شانغتسي الصينيّ.
    وفجأة ارتطم معوله برأس تمثال من الطين، وعندما تفحصّه ظنّ خطئا انه تمثال لبوذا. وخلال أشهر، توافدت على المكان مجموعات من خبراء الآثار والمسئولين الحكوميين.
    ثم تبيّن أن ما تعثّر به المزارعون كان واحدا من أهمّ الاكتشافات الأثرية في القرن العشرين. فقد كان مدفونا تحت ارض البستان آلاف التماثيل لجنود منحوتين من الطين يعود تاريخها إلى القرن الثالث قبل الميلاد.
    كانت تلك التماثيل جزءا من الضريح المفقود للإمبراطور تشين جِن هوان. ولحسن الحظ لم يظهر هذا الاكتشاف إلا مع غروب شمس الثورة الثقافية التي قادها ماو تسي تونغ وهدفَ من ورائها إلى تدمير تاريخ وتراث الصين والقضاء على تقاليدها القديمة.
    وكان الجيش الأحمر التابع لماو قد أغار في عام 1969 على قبر احد أباطرة سلالة مينغ الكائن خارج بيجين. وقام المهاجمون الغوغاء بنبش الهياكل العظمية للإمبراطور واثنتين من نسائه، ثم سحبوا رفاتهم إلى خارج القبر وأحرقوها.
    كان اكتشاف جيش التماثيل حدثا كبيرا أدهش الصينيّين وفتن العالم. واتّضح أن حجم ضريح الإمبراطور تشين يعادل مساحة مدينة قديمة ضخمة. ووُجد في وسطه هرم يقال انه كان يرتفع ذات زمن إلى حوالي مائة متر.
    أما بالنسبة للثمانية آلاف مقاتل الواقفين في صفوف خلف القبر، فيبدو أن مهمّتهم هي حراسة أسرار امبراطورية تشين المطمورة تحت التراب.
    لكن الكثير من تلك الأسرار ستظلّ مجهولة لسنوات طوال طالما بقي القبر نفسه مغلقا. فعلماء الآثار في جميع أنحاء العالم متّفقون على أن فتح القبر سيؤدّي إلى كارثة، لأن تعريضه للهواء سيتسبّب في تلف لا يمكن إصلاحه. وأثناء عمليات الحفر المبكّرة للكشف عن التماثيل، حدث أن طبقة الورنيش التي تعلو وجوه الجنود تلاشت بعد خمس عشرة ثانية فقط.
    وطبقا للمؤرّخ سوما تشان، الذي ثبت أن وصفه للضريح كان دقيقا جدّا، فإن أنهاراً من الزئبق تحيط بالغرفة التي يوجد بها المدفن. والدخول إلى هذا المكان سيكون محفوفا بالمخاطر. ثم تبيّن أن تربة المنطقة كلّها تحتوي على نسب عالية من الزئبق.
    وإذا لم يكن احد راغبا في الدخول إلى حيث الضريح خوفا من إحداث ضرر بالكنوز التي بداخله، فإن هناك أسبابا أخرى تدعو للبقاء بعيدا. إذ يشير سوما تشان إلى وجود نشّابات ميكانيكية تحرس المداخل والممرّات، وقد تكون ضرباتها مميتة في حال ما إذا كانت ما تزال تعمل إلى اليوم.
    عيّنات الحمض النوويّ المأخوذة من عدد من الهياكل التي وُجدت تحت التراب توحي بأن بعض أفراد جيش الإمبراطور كانوا من أصول أوربّية. ترى هل اخبر اليونانيّون القدامى الصينيين كيف ينحتون الأشخاص والخيول بشكل رائع كما فعل المثّال فيدياس عندما نحت البارثينون الأثينيّ في القرن الخامس قبل الميلاد؟
    لا أحد يملك إجابة قاطعة عن هذا السؤال. وربّما كان من الأجدى الانتظار إلى أن يُكتشف المزيد من أسرار هذا المكان المدهش والغامض.
    الغريب أن المزارعين الذين اكتشفوا الضريح لم يجنوا من وراء اكتشافه شيئا. فلأسباب سياحية، تمّت مصادرة أرضهم. وفي عام 1997 شنق احدهم نفسه بسبب الفقر والمرض، بينما مات آخران بسبب البطالة وظروف المعيشة الصعبة. أما الاثنان اللذان ما زالا على قيد الحياة فيقولان إن الاكتشاف لم يجلب لهم سوى اللعنة ويتمنّيان لو أن الضريح والقصر بقيا في مكانهما تحت الأرض وإلى الأبد.
    ترى هل كان علينا أن نتوقّع شيئا مختلفا من تشين جن هوان، الملك الشابّ والديناميكيّ، الذي - رغم عنفه وشدّة بطشه - وحّد الصين وأسّس إمبراطورية شاسعة وفرض نظاما موحّدا للكتابة والنقد والأوزان وشيّد قنوات وطرقاً وحمى حدوده الشمالية ببناء سور الصين العظيم؟
    صحيح انه لم يستطع أن يحكم إلى الأبد. لكنّه سيظلّ إمبراطورا حتى نهاية الزمان بمشاريعه وانجازاته الكثيرة وبشخصيّته الغريبة الأطوار.
    جيش التماثيل الذي صنعه لوحظ انه ينظر إلى جهة الشرق، إي إلى الجهة التي يسهل على أيّ عدوّ أن ينفذ منها إلى الضريح والقصر. ومع ذلك فإن هذا الجيش لم يخض معركة، كما أن قائده لم يهزم الموت ولم ينجح في حكم العالم، بل بقي الجميع مدفونين ومنسيّين تحت الأرض لأكثر من ألفي عام.
    وقصّة هذا الإمبراطور وجيشه الساكن والمتجمّد في الزمن مع خدمهم وأسلحتهم وعرباتهم هي في الواقع شهادة صامتة على محدودية قدرة الإنسان وعجزه.
    لكن البحث عن سرّ الحياة الدائمة لم ينتهِ بموت تشين. فأباطرة الصين الذين أتوا بعده بدءوا عملهم من حيث انتهى.
    وفي القرن التاسع الميلادي، كان رهبان صينيّون يعملون على اكتشاف وصفة ناجعة للخلود عندما اكتشفوا البارود فجأة وبالصدفة. والمفارقة هي أن "الوصفة" التي اكتشفوها ستصبح أساسا للتكنولوجيا التي ستجلب الموت الفوريّ والمفاجئ لمئات الملايين من البشر على مرّ القرون التالية.

    Credits
    bbc.com

    الخميس، ديسمبر 29، 2016

    فنّ الطبيعة

    من وقت لآخر، تستوقفك بعض الصور على الانترنت التي تظهر فيها مجموعة من الحجارة ذات الأشكال والألوان المختلفة والبديعة المكدّسة فوق بعضها البعض في تناسق ونظام لا يخلو من إبداع وجمال.
    هذا النوع من التشكيلات الصخرية أو الحجرية أصبح اليوم فنّا قائما بذاته، وهناك مسابقات عالمية تقام سنويّا لاختيار أفضل تنسيق. وقد أصبح لهذا الفنّ جمهوره ومعجبوه وظهرت بعض أسماء لأشخاص برعوا فيه وأصبح يشار إليهم بالبنان.
    وتكديس الحجارة بهذا الشكل الجماليّ أو ذاك يعتمد في الأساس على براعة الشخص في إحداث التوازن المطلوب بحيث يشيّد الشكل الذي يريد. لكن لا توجد خدع أو حيل معيّنة يمكن توظيفها للمساعدة في تحقيق التوازن. كما يُشترط عدم استخدام لواصق أو مغناطيس أو أسلاك أو طين أو دعائم من أيّ نوع. الغراء الوحيد المسموح به هو التحايل الذهنيّ على الجاذبية بحيث تفقد تأثيرها.
    ولكي يتحقّق التوازن ينبغي أوّلا البحث عن حجر ثلاثيّ ذي نتوءات أو أطراف بارزة لاستخدامه كقاعدة تنبني فوقها بقيّة الأحجار. لكن هناك من يفضّل استخدام حجارة مستديرة على أساس أن التعامل معها ومَوضعتها أسهل من التعامل مع الحجارة المضلّعة، كما أنها توفّر فرصة اكبر للإبداع.
    وتتبدّى مهارة البنّاء بقدر ما ينجح في إيهام الناظر إلى عمله بانعدام الوزن، أو بعبارة أوضح عندما تبدو الحجارة المكدّسة وكأنها بالكاد تلامس بعضها البعض.
    والحجر الثلاثيّ الذي يُوظّف كقاعدة هو عنصر مادّي أساسيّ في العملية، لكن هناك أيضا عناصر غير مادّية يصعب التعبير عنها بالكلمات. لكن يمكن تلخيصها في ملكات معيّنة كالتأمّل والصمت والصبر والمثابرة التي تقود في النهاية للعثور على نقطة الصفر المطلوبة لتشييد تشكيل جميل ومبدع.
    إذن هو فنّ يعتمد على المزج بين عمل اليد والعقل معا. وهو نقيض لحيل السحر التي تعتمد على خفّة اليد والإيهام، فالساحر يحاول أن يجعل الخداع يبدو وكأنه حقيقة، بينما مشيّدو التشكيلات الصخرية يقدّمون حقيقة تبدو مستحيلة أو متعذّرة الوقوع.
    في البداية يحتاج الفنّان إلى سطح ثابت ويدين مدرّبتين ونوعيات مختلفة من الحجارة التي عادة ما تُجلب من على الشاطئ ويتعيّن أن تكون ناعمة وذات ألوان جميلة. ثم يبدأ بوضع حجر كبير وثابت ومستوٍ يكون هو الأساس بحيث يعطي مجالا واسعا للبناء فوقه ويوفّر مركزا ثابتا للجاذبية.
    وعلى البنّاء أيضا أن يواظب على اختبار مركز الجاذبية وأن يتذكّر انه كلّما أضاف حجرا، كلّما شكّل ذلك ضغطا متزايدا على الحجارة التي تحته. وهناك من يفضّل وضع الحجارة الكبيرة فوق الحجارة الأصغر، مع المثابرة على تقليب الحجارة على عدّة وجوه بحيث يصل إلى الوضع الأنسب.
    وبعد أن يكتمل بناء التشكيل، كثيرا ما يعمد بعض الفنّانين إلى زخرفته بأوراق وأغصان الشجر وبتلات الأزهار وحتى بقطرات الماء.
    ويمكن أن تستغرق عملية إحداث التوازن المطلوب وإتمام التشكيل ثلاثين دقيقة، لكنّ التشكيلات الحجرية الأكثر تعقيدا يمكن أن تستغرق ساعات طويلة مع عدّة محاولات متكرّرة.
    قد يبدو هذا الفنّ بلا غاية أو هدف. لكنه يمكن أن يكون مسليّا وممتعا لأنه لا يخلو من تحدٍّ وحتى روحانية. كما يمكن القول انه نوع من النحت ومن الممارسة التأمّلية التي يمكنك من خلالها أن تخلق شيئا ما مدهشا من شيء عاديّ جدّا. كما انه يساعدك على أن يكون لك عقل ميكانيكيّ وعلى أن تُحسن تطويع يديك للعمل على شيء يتطلب براعة وإتقانا.
    وبعض الفنّانين يفضّلون ترك تشكيلاتهم في عين المكان كي يراها اكبر عدد من الناس، لكنها يمكن أن تنهار في أيّة لحظة بفعل طائر مارّ أو هبّة نسيم خفيفة، مع أنها تعيش بعد ذلك في الصور لفترات طويلة.
    ويُرجّح أن أصل هذه الفكرة قديم جدّا، إذ كان من عادة القدماء والمغامرين أن يقيموا حجارة على طول الدروب التي يسلكونها كي يستدلّوا بها على طريق العودة إلى أماكن سكناهم. كما أن محبّي الطبيعة والتأمّل والمعلّمين الروحانيين كانوا يجدون في عملية تكديس الحجارة ملاذا يريحهم من عناء الجهد والعمل المتواصل.
    ورغم الشعبية المتزايدة لهذا الفنّ، إلا أن له معارضين، وهم غالبا من حركات حماية البيئة الذين يعتبرون تحريك الحجارة من أماكنها الطبيعية نوعا من التخريب لأنه يتلف الحياة النباتية ويزعج الطيور والحيوانات الصغيرة. ويضيفون بأن الطبيعة تأخذ آلاف السنوات حتى تتطوّر وأن العبث بمحتوياتها من شأنه أن يعطّل ذلك التطوّر ويفسد التناغم بين كائناتها.

    Credits
    hypermodern.net

    السبت، مارس 05، 2016

    موسى وميكيل انجيلو وفرويد

    إلى ما قبل ظهور سيغموند فرويد، كان تاريخ الفنّ عبارة عن توثيق للأعمال الفنّية: كيف ظهرت وإلامَ انتهت، وما هي التأثيرات الثقافية والاجتماعية التي شكّلت دافعا للفنّان في انجاز هذا العمل أو ذاك.
    لكن عالم النفس النمساويّ الشهير ابتكر طريقة لاكتشاف كيف ولماذا يؤثّر فينا الفنّ العظيم. ومن خلال دراسة العمل الفنّي سيكولوجيا، وكذلك التحليل النفسي للفنّان صاحب العمل، قدّم لنا فرويد أدوات فعّالة تمكّننا من فهم الإبداع وإدراك القوّة التذكّرية والعاطفية للفنّ بطريقة أفضل.
    كان أسلوبه في دراسة الفنّ مشابها إلى حدّ ما لطريقته في تفسير الأحلام. فالصور في الأحلام، وكذلك في الرسم والنحت، ما هي إلا تقطير بصريّ للأفكار والتأثيرات.
    كان فرويد متماهيا مع النبيّ موسى. كتابه الأخير كان عنوانه "موسى والتوحيد". والواقع انه كان يرى في نفسه، هو أيضا ومثل موسى، زعيما لجماعة صغيرة، لكن تأثيرها قويّ وواسع.
    وكان فرويد يقول لأصدقائه دائما أن روما هي مدينته المفضّلة وأن زياراته لها تسرّه كثيرا. وقد عُرف عنه اهتمامه بالآثار وبجمع التحف. وكان يستخدم الآثار والتنقيب كتعبير مجازيّ عن العقل الباطن والكبت. وروما بطبقاتها المتعدّدة والقديمة من عصور النهضة والباروك والحداثة كانت تفتنه وتثير مخيّلته.
    وقد جاء إلى روما أوّل مرّة لزيارة تمثال موسى، ثم عاد مرارا لمعاينة التمثال. دراسته بعنوان "موسى وميكيل انجيلو" لها تاريخ غريب. وقد نشرها عام 1917 باسم مستعار في دورية سيكولوجية.
    لكن في البداية، ما هي قصّة تمثال موسى؟
    في عام 1505، بدأت فكرة بناء قبر للبابا جوليوس الثاني، عندما كلّف هذا البابا ميكيل انجيلو بتصميم القبر الذي كان عبارة عن ضريح فخم.
    وكان من المنتظر أن يوضع التمثال في كنيسة القدّيس بطرس التي كانت آنذاك تحت الإنشاء. وقد أتى الاقتراح ببناء الضريح من "بابا" كان يحبّ نفسه كثيرا، وكلّف للمهمّة نحّاتا شابّا كانت له، هو أيضا، طموحات عالية.
    ومنذ البداية، كانت النيّة متّجهة لإقامة ضريح ينافس في الفخامة ضريح الملك الإغريقيّ ماسوليوس الذي يُعتبر إحدى العجائب السبع في العالم القديم. ومن اسم ماسوليوس اشتُقّت كلمة موسوليوم التي تعني باللاتينية "الضريح".
    وتمثال موسى لم يكن سوى واحد من أربعين تمثالا داخل القبر. وهو على الأرجح كان أوّل قطعة يتمّ انجازها. وظلّ التمثال يشكّل عبئا ثقيلا على ميكيل انجيلو حتى بعد موت البابا جوليوس عام 1513م بوقت طويل.
    فكرة التمثال مأخوذة من سفر الخروج في العهد القديم الذي يذكر أن موسى خرج من مصر مع قومه قاصدا "ارض الميعاد" التي سيؤسّس عليها امّة موحّدة. وعندما وصل موسى إلى سيناء صعد إلى الجبل، وهناك تلقّى الألواح المقدّسة المسمّاة اليوم بالوصايا العشر، والتي تُعتبر أساس الأخلاق المسيحية اليهودية.
    لكن موسى يُفاجأ عند نزوله بأن قومه عادوا في غيابه لعبادة الأصنام ووجدهم يرقصون حول عجل ذهبيّ. وقد استولى عليه الغضب ممّا رآه، وهو المعروف بمزاجه العصبيّ، فقام بتحطيم الألواح في نوبة غضب.
    خلال عصر النهضة، أصبح كلّ من موسى وعيسى موضوعين مفضّلين للرسّامين. ومن يَزُر كنيسة سيستينا في الفاتيكان سيرى مقاطع مصوّرة من حياة هذين النبيّين تمتدّ من الجدار الشماليّ حتى الجنوبيّ. وأكثر الرسومات المتكرّرة تُظهر موسى ممسكا بالألواح عاليا فوق رأسه بعصبية وهو على وشك تكسيرها في الأرض.
    تمثال ميكيل انجيلو عن موسى مختلف. وفرويد كان مفتونا بهذا الفارق. وقد لاحظ في البداية أن التمثال ليس عن موسى وهو على وشك تكسير الألواح. فالتمثال العملاق يصوّر شخصا ينظر ناحية اليسار. وليس هناك من شكّ في غضبه الشديد أو قوّة الانفعال التي يختزنها داخل جسده.
    كما لاحظ فرويد لحيته الكثّة واليد اليمنى التي يُمسك بها الألواح، بينما الألواح على وشك أن تنزلق منه. وضعية ساقي الشخص توحي بأنه على وشك أن ينهض من مكانه ويندفع إلى الأمام. ومن المؤكّد أن الألواح ستسقط نتيجة لتلك الحركة.
    زار فرويد التمثال ورسمه مرارا، ثم توصّل إلى استنتاج أخير مؤدّاه أن هذا هو موسى فعلا، فالثورة تنطق بها عيناه وكلّ عضلة من جسده الضخم، لكنّ التوتّر في الجسد واللحية يُظهر تردّده.
    تمثال موسى هو عبارة عن عملاق ثائر وصعب المزاج في حالة صراع. لكن لماذا هذا الصراع؟ يقول فرويد: صحيح أن أمل موسى في قومه خاب، لكن يجب عليه أن يتذكّر أنهم أتباعه ولا يمكن أن يخاطر بالتخلّي عنهم ونبذهم. كان يعرف انه يجب أن يتحكّم في غضبه وأن يجدّد دين قومه.
    يقال أن من بين عيوب التمثال حقيقة أن قدمي ويدي الشخص ضخمة بشكل لا يتناسب مع التمثال ككلّ. لكن هذا كثيرا ما يُفسّر بأن التمثال أريد له أن يُنظر إليه من أسفل. وأحيانا قيل أن هذا خطأ فنّي فرضه شكل عمود الرخام الذي نُحتت منه الأطراف.
    وحتى عندما نحت ميكيل انجيلو تمثال بييتا عن المادونا وابنها، قيل وقتها وما يزال يقال إلى اليوم على سبيل النقد، بأن وجه الأمّ أكثر شبابا من وجه ابنها الميّت.
    غير أن هذه هي فكرة النحّات لما يعنيه مفهوم الأم، وفي هذا أيضا تلميح لحياته هو. فقد انفصل ميكيل انجيلو عن أمّه عندما وُلد، وعُهد به إلى مربّية في قرية مجاورة. وبعد أن أعيد إلى أمّه، توفّيت بعد ذلك بوقت قصير وعمره لا يتجاوز السادسة. والواقع أن ميكيل انجيلو كان له أمّ لم تكبر في عينيه أبدا. وربّما كان هذا انعكاسا لرغبة الإنسان في أن يعود إلى حضن أمّه التي كانت وقت ولادته.


    كان عقل ميكيل انجيلو المرهَق ميدان قتال متواصل. القوى المتعارضة للإيمان الدينيّ والجمال الوثنيّ كانت تتواجه في وعيه. لكنّ هذا ساعده على خلق مجموعة من التحف الفنّية الخالدة.
    دراساته التشريحية بارعة في تعبيريّتها وإحكامها، كما أن تصميماته لقبور معاصريه، مثل ميديتشي وجوليوس الثاني، ظلّت على الدوام تُلهم الرهبة وربّما الخوف.
    وقد عاش النحّات في زمن مثير تخلّلته غزوات نابليون وإصلاحات الكنيسة وفترات الاضطراب السياسيّ. كان مشهورا بحبّه للعزلة. وكان يطبّق على نفسه حالة امتناع عن المتع الدنيوية، بعد أن قرّر أن يصرف جميع انفعالاته ودوافعه على إبداعه الفنّي.
    وممّا لا شكّ فيه أن ميكيل انجيلو بذل جهدا خرافيّا في رسم سقف كنيسة سيستينا، ما أدّى إلى تشويه عموده الفقريّ وإتلاف نظره إلى درجة كبيرة.
    وبحسب ما يقوله المؤرّخ الايطاليّ انطونيو فورتشيللينو، كان أسلوب حياته المتقشّف وسيلة لادّخار المال. حتى مادوناته متقشّفات وبسيطات، وقد وضعهنّ في طبيعة قاحلة كردّ على انتقادات الكاهن سافونارولا الذي اتّهم الفنّانين وقتها بتصوير المادونا كبغيّ وذلك بإلباسها ثيابا غير محتشمة.
    كان سافونارولا قد جاء إلى السلطة في فلورنسا وأتى معه بجملة من القوانين المتشدّدة التي تحذّر الناس من الفراغ والانشغال "بالاهتمامات التافهة". وطبعا كان من بين تلك الاهتمامات الرسم والنحت والحُليّ والمجوهرات والآلات الموسيقية، لذا اُلقي بها جميعا إلى النيران لتأكلها.
    لكن لنعد الآن إلى القصّة الأصلية. بحسب فرويد، صنع ميكيل انجيلو تمثالا؛ ليس عن موسى الغاضب وإنّما عن موسى الزعيم الذي يعيش حالة صراع. انه ممزّق بين الغضب وبين الخوف في أن يتسبّب غضبه في تدمير ما كان قد بدأ عمله.
    والحقيقة أن كلا الشخصين، أي النحّات والبابا جوليوس الثاني، كان لهما مزاج غضوب جدّا. وقيل إن وجه التمثال هو وجه البابا نفسه. وممّا يُروى أن البابا في إحدى نوبات ثورته ضرب ميكيل انجيلو بالعصا على ظهره. وردّا على ذلك، ترك الأخير الفاتيكان وغادر إلى فلورنسا تاركا البابا في حالة هياج.
    وقد تصالح الرجلان مع بعضهما بعد جهد جهيد في ما بعد. وكان ميكيل انجيلو يعلم بأن عليه أن ينصاع في النهاية لرغبات راعيه.
    جدار قبر جوليوس انتهى العمل منه طبقا لمخطّط ميكيل انجيلو عام 1547، أي بعد وفاة البابا جوليوس بأربعة وثلاثين عاما. وهو يمثّل محصّلة لسلسلة من التسويات والمفاوضات.
    وعلى مرّ السنين، كان هناك جدل كثير عن النتوءات التي تشبه القرون والبادية على رأس موسى. وقد أضافها النحّات اعتمادا على ما ورد في سفر الخروج الذي يذكر أن موسى عندما تلقّى الوصايا العشر نزل من فوق الجبل وفي رأسه قرون من إثر حديثه إلى الربّ. وكانت تلك القرون تميّزه عن غيره وتمنحه نوعا من المكانة والمجد.
    لكن يقال أن فكرة القرون نتجت عن ترجمة مغلوطة لكلمة في النصّ اللاتيني عن قصّة الوصايا على أن معناها "القرون"، بينما يشير معناها في العبرية الأصلية إلى صفة "التألّق أو السطوع".
    ومن المثير للاهتمام أن فرويد في كتابه "موسى والوحدانية" طبّق مبدأ علمانيّا، فقال إن النصّ الإنجيلي يعني انه كان لموسى جبين بارز للغاية أو سنام، وعادة ما تقترن هذه الصفة بالذكاء الشديد.
    ميكيل انجيلو كان يشعر بأن هذا التمثال كان تحفة حياته. وطبقا للمؤرّخ جورجيو فاساري، فإن يهود روما كانوا يأتون جماعاتٍ وفرادى للنظر إلى التمثال وإظهار الإعجاب به كلّ يوم سبت.
    لكن كان هناك أيضا جدل بشأن الصدع الظاهر في الرخام على الركبة اليمنى للتمثال. ويقال أنه عندما فرغ ميكيل انجيلو من إتمامه ضربه بالمطرقة وصاح قائلا: هيّا تكلّم"! وطبعا هذا لم يحدث أبدا ولم ترد هذه القصّة في أيّ مصدر موثوق.
    كان فرويد يرى بأن دراسة العمل الفنّي من ناحية سيكولوجية يضيف الكثير إلى فهمنا لذلك العمل. وفي ما بعد وضع دراسة عن ليوناردو دافنشي، مضيفا معيارا آخر مهمّا لفهم العمل الفنّي، وهو العلاقة بين تطوّر الشخصية وتجارب الفنّان من ناحية وبين القطعة الفنّية من ناحية أخرى.
    وقد أسهم فرويد في دراسته للعمل الفنّي من منظور علاقته بصانعه في إثراء دراسة الفنّ وتقدير الجمهور للأعمال الفنّية.
    الجدير بالذكر أن ميكيل انجيلو توفّي وهو في التاسعة والثمانين من عمره، وكان ما يزال يعمل بنشاطه المعهود ويرتدي زيّ الفنّان المتقشّف. ومع ذلك، كان يُعتبر أكثر فنّاني عصره احتفاءً. شهرته كانت مدويّة في أرجاء أوربّا كلّها. ولهذا خصّته الكنيسة الكاثوليكية بمراسم دفن فخمة تعكس أمجاده الشخصية.
    وفي صباح اليوم الذي توفّي فيه، تسلّلت مجموعة من أهالي فلورنسا إلى الكنيسة التي كان جثمانه مسجّى بداخلها، ثم سرقوا الجثمان وقاموا بإخفائه في عربة مدرّعة. وبعد ثلاثة أيّام، وصلوا به إلى فلورنسا حيث خرج في وداعه الآلاف.
    ولم يرَ الناس وقتها موكبا بمثل تلك الضخامة عدا ما كان يُختصّ به القدّيسون عادة. كانت المعركة على جنازة ميكيل انجيلو رمزا للعلاقة المتناقضة دائما بين الدين والفنّ والسياسة.

    Credits
    michelangelo.org
    creativecommons.org

    الخميس، فبراير 11، 2016

    قصّة فينوس دي ميلو

    من بين جميع الفينوسات التي يزدحم بها متحف اللوفر، وبينهنّ إلهات الفنّ اليونانيّ والرومانيّ، والإلهات ذوات الوجوه والملامح الطفولية في جداريات الأسقف، والنساء الغامضات اللاتي خلّدهنّ الفنّ الأكاديميّ، تقف فينوس دي ميلو شاهقة ومتفرّدة.
    فينوس، النموذج، كانت دائما إنسانية بشكل لا يقاوم، فهي تبتسم، تفرد ذراعيها أو تسحب فستانها كي تغطي عريها. وأحيانا تجمع خصلات شعرها الطويل وهي تبرز من البحر، أو تلهو مع طفلها كيوبيد. لكن في متحف نابولي الوطني، هناك فينوس أخرى تبدو وكأنها على وشك أن تضرب مخلوق "ساتير" بحذائها.
    عندما تنظر بتأمّل إلى فينوس دي ميلو سيساورك انطباع بأنها لا تنتمي إلى عالمنا. وفي الحقيقة فإن افتتاننا بها يمكن أن يكشف عن انجذاب عصبيّ لأجسام أو أدوات الحبّ. فينوس دي ميلو محسوسة جسديّا ولا مبالية سيكولوجيا، وقورة وعظيمة وبعيدة.
    رأسها يميل قليلا بعيدا، نظراتها لا تقابل نظراتنا، وشعرها متقشّف لولا بضع خصلات تسقط حرّة على مؤخّرة عنقها. لكن استجابتنا لهذا المخلوق البعيد تحكمها هذه الخصوصية الآسرة لبشرتها. هنا يعمل النحّات بعاطفة عاشق، مُشرِكا اليد أكثر من العين.
    يمكن للمرء أن يحسّ بالنسيج الشحميّ المنتفخ تحت جلد فينوس وحول ردفيها وفي بطنها وفي الطيّات ما بين ذراعيها وصدرها. حلماتها لا تكاد تُرى، ومن الصعب أن تعتقد انه مسّها الإزميل.
    لكن ما الذي تفعله؟ يبدو أنها تثني جسدها قليلا لترفع فخذها كما لو أنها تحاول أن تمنع ملابسها من الانزلاق أكثر إلى أسفل. حركة خاطفة تَمكّن النحّات من الإمساك بها عند نقطة التعليق تماما.
    لكن هناك نظريات أخرى، واحدة تقول أنها كانت تحمل رمحا، وأخرى تقول أنها كانت تنظر في مرآة بيدها، وثالثة تذهب إلى أنها كانت تغزل.
    حتى اليوم لا احد يمكنه إثبات أيّ نظرية بخصوص ذراعي فينوس المفقودين. لكن السؤال: لماذا ما يزال هذا التمثال يفتن الناس بعد قرنين من اكتشافه، لدرجة أنه يُعتبر اليوم ثاني أشهر عمل فنّي في العالم بعد الموناليزا؟ من الواضح، وعلى نحو غير متوقّع، أن غياب الذراعين هو ما منح هذا التمثال جماله وتفرّده وهو ما يجعل من فينوس دي ميلو تحفة فنّية حديثة وغامضة.
    في البداية كانت المرأة ترتدي جواهر معدنية: سوارا وأقراطا ورباط رأس. لكن لم يتبقّ من هذه الأشياء في التمثال سوى الثقوب التي كانت تثبّتها.
    أثناء غزواته، قام نابليون بونابرت بنهب احد أجمل المنحوتات الإغريقية: تمثال فينوس دي ميديتشي ، من ايطاليا. وفي عام 1815 أعادت الحكومة الفرنسية التمثال إلى الايطاليين.
    لكن في عام 1820، انتهز الفرنسيون الفرصة لملء الفراغ الذي تركه غياب التمثال الايطالي في الثقافة الوطنية، فقاموا بشحن تمثال فينوس دي ميلو من اليونان إلى باريس.
    وقد قدّموا التمثال إلى الجمهور باعتباره أعظم حتى من تمثال فينوس دي ميدتشي. ونجحوا في مهمّتهم تلك بدليل أن التمثال قوبل بعاصفة من المديح والتقدير من الفنّانين والنقّاد فور عرضه لأوّل مرّة في اللوفر.
    وفي خريف العام 1939، أي عندما كانت الحرب تقترب من باريس، تمّ نقل التمثال مع أعمال نحتية مهمّة أخرى إلى مكان أكثر أمنا في الريف الفرنسي.
    إن من حسن حظّ العمل الفنّي انه يعيش أطول من عمر الفنّان الذي صنعه والراعي الذي كلّف بصنعه أو صرف عليه، وأن العمل نفسه يشارك في خلقه خيال الجمهور وأحيانا الصُدفة.
    لكن أصلا، تمثال فينوس دي ميلو يروي قصّة مختلفة. التمثال اكتُشف في الثامن من ابريل عام 1820 عندما تعثّر به مزارع يونانيّ يُدعى يورغوس كينتروتاس في طرف مدينة قديمة في جزيرة ميلو.
    ويُعتقد بأن من صنعه كان نحّاتا من الحقبة الهيلينية يُدعى الكساندروس في حوالي عام مائة قبل الميلاد. ويقال أيضا أن قاعدة التمثال المفقودة كانت تحمل نقشا باسمه.
    بعض المؤرّخين يقولون إن ذراع فينوس الأيسر كان يستريح على عمود، بينما ذراعها الأيمن كان يُمسك بملابسها. وطبقا لشخصَين مستقلّين شهدا عملية شراء التمثال قبل حوالي مائتي عام، فإن بعض القطع المفقودة منه شُحنت مع التمثال إلى فرنسا من بلدة ميلو باليونان حيث اكتُشف. لكن تلك القطع فُقدت بطريقة ما بعد وقت قصير من وصولها إلى اللوفر.
    وتقول إحدى الشائعات إن مسئولا كبيرا بالمتحف كان وراء عملية إخفاء تلك القطع، وهي تمثّل القماش والملابس، لأن وجودها كان يتناقض مع قراءته لرمزية التمثال. ومن بين تلك القطع، كانت هناك يد يسرى تمسك بتفّاحة، وقطعة من قاعدة التمثال.

    من الواضح أن فينوس دي ميلو كانت تمثيلا لأفرودايت المنتصرة وهي تعرض تفّاحتها الذهبية؛ الجائزة التي فازت بها في مسابقة الجمال التي نظّمها الأمير باريس.
    لكننا لا نعرف ما إذا كانت الإلهة حصلت على الجائزة بناءً على الجدارة وحدها أم لأنها قدّمت رشوة إلى القاضي. فقد وعدته إن فازت بأن تجعل أجمل امرأة في العالم تقع في حبّه، وكانت تلك بركة غير خالصة.
    فكما هو معروف، كانت الأميرة هيلين هي المرأة المقصودة، وقد تصادف أنها كانت متزوّجة من ملك إغريقيّ. وقصّة هيلين تلك مع باريس هي التي أشعلت أشهر صراع في التاريخ وفي الأدب الغربيّين، أي حرب طروادة.
    قصّة حكم باريس هي مجرّد توضيح للتناقضات المرتبطة بفينوس ومواهبها وأعطياتها. في الأزمنة القديمة، كانت هي التي تقرّر قصص الحبّ. ومنذ القرون الوسطى فصاعدا صارت تحكم على الجمال، وهو أكثر العناصر غموضا وجاذبية في الفنّ.
    ولهذا كانت راعية للعشّاق والفنّانين، وهي مهمّة لم تجامل فيها أيّا من المعسكرين أبدا. وبالإضافة إلى ذلك كانت إلهة الجمال والحبّ متزوّجة من فولكان؛ الشخص الوحيد القبيح الخلقة من بين عشيرة جبل الأوليمب، بينما كان حبّها الحقيقيّ والأوّل مارس إله الحرب.
    بطبيعة الحال كلّ هذا أدب؛ أي تلك الحكايات العبقرية المذهلة التي ظلّ الشعراء والفنّانون يحكونها على مرّ العصور. وبالنسبة لجميع الفينوسات من زمن هوميروس إلى زمن الرسّام فرانسوا بوشير، يمكن أن يقال إنهنّ لسن سوى ظلال باهتة وأنيقة لإلهة الخصوبة البدائية، أي افرودايت القبرصية.
    وربّما كان الأمر ينطوي على مفارقة أن نعلم انه، من بين كلّ صورها، فإن فينوس دي ميلو فقط، وهي أكثرهنّ تحضّرا، تستدعي ذكريات عن تلك الجذور القديمة.
    تبدو فينوس هذه رزينة ووقورة، ردفاها الضخمان ولحمها يكشف عن جسد امرأة حملت بالأطفال. لكنّ لها ثديي عذراء لم ترضع طفلا أبدا، وهو تقليد معروف في الفنّ الرومانيّ اليونانيّ. هذا التشويه أو التناقض لا يبدو أن له تفسيرا.
    في الحقيقة هيئتها تبدو اقرب ما يكون إلى أمّ قويّة، متأرجحة وهائلة أكثر منها عاشقة. علماء الآثار الذين اكتشفوا أوّل تماثيل صغيرة لإلهة الخصوبة منذ العصر الحجريّ لا بدّ وأن تمثال فينوس دي ميلو كان في أذهانهم عندما أسموها الفينوسات.
    وأكثر هذه التماثيل الصغيرة شهرة هو تمثال فينوس ويلليندورف الذي لا يختلف عن تمثال اللوفر كثيرا. ورغم أن التمثال يبدو صغيرا، إلا انه كبير في الواقع، إذ يتضمّن البطن والثديين والردفين، وكلّ ما في الأنثى.
    فينوس دي ميلو، ورغم أنها اكبر ممّا تبدو عليه في الحياة الواقعية، مسجّلة كـ "شيء"، لأنها مكسورة، شيء ثقيل جدّا وغير رشيق، لكنّه كان في الماضي صنما يُعبد.
    السورياليون تنبّهوا إلى هذا، فأعادوا تجسيد الإلهة كمعبودة غامضة، وهذا واضح في أعمال رسّامين مثل دالي وإرنست وديلفو. وقد تكون هذه التصاوير أسهمت في رواج أكثر السلع التي تركّز الرغبة على أجزاء من الجسد، كالعطورات والملابس الداخلية والمكياج والمجوهرات.
    تَشوّه فينوس يبدو انه يضرب على وتر بدائيّ في أعماق لا وعينا الجنسي. وطبقا لـ "هسيود"، أوّل مصدر إغريقيّ للأساطير، فإن فينوس وُلدت من الأعضاء التناسلية المقطوعة لـ "ساتورن" التي ألقى بها ابنه "كرونوس" في البحر بعد أن قام بخصيه.
    ولهذا فإن فينوس، الحبيبة المدلّلة في الفنّ الغربيّ وأكبر رمز لسحر الأنثى، لم تكن في الواقع امرأة. كما لم تكن ثمرة اتّحاد جنسيّ، بل كانت محصّلة جريمة جنسية بشعة. فينوس لم تكن سوى عضو ذكريّ مقطوع عاد إلى الحياة، وأصبحت رمزا للقلق والتوق الشهوانيّ ورمزا للقوّة الايروتيكية.
    ومن الأشياء المثيرة للفضول أن فينوس، في أكثر صورها الخالدة، تعيد للأذهان ذكرى تلك الأسطورة المكبوتة. إنها تخرج من ثنايا ملابسها الغشائية، رائعة ولا مبالية وفاتنة ونائية وغير قابلة للاختراق.
    ومن الأمور الغريبة كيف أن الفنّانين الغربيين قمعوا وأخفوا دائما هذا الجانب المشئوم من أسطورة الإلهة. فكّر في جميع الفينوسات في تاريخ الفنّ: كلّهن مخلوقات أثيريات ومن غير هذا العالم، قذف بهنّ الموج إلى الشاطئ مع صدفة بحر عملاقة وسط بتلات الأزهار.
    اليوم بإمكاننا أن نرى فينوس دي ميلو كما رآها أهالي بلدة ميلو الإغريقية أثناء احتفالاتهم الطقوسية، فاتنة ومغطّاة بباقات الأزهار والمجوهرات وكاملة. لكن ربّما كانت تبدو اقلّ روعة وإغراءً مما تبدو عليه اليوم.
    غير أن النظر إليها حيث هي اليوم في اللوفر، محاطة بحشد من الحجيج المفتونين من جميع أنحاء العالم، يوفّر فرصة للتأمّل والتفكير. بشرة فينوس اللامعة وهي تشعّ بالبريق تحت وابل من فلاشات المصوّرين تستثير في المخيّلة صور تلك الجماعة التي كانت تبجّلها وتقدّسها قبل أن تصبح اليونان هي اليونان وقبل أن يعرف العالم المتاحف.

    Credits
    crystalinks.com
    smithsonianmag.com

    السبت، مارس 14، 2015

    خواطر في الأدب والفن

    يوم في الجنّة


    يقال أن كليوباترا كانت تعيش في غيمة من البخور وترى في مناماتها أحلاما أرجوانية. كانت ملكة مصر القديمة تتحمّم بالبخور والمرّ واللوتس وخشب الصندل وماء الورد قبل أن تسافر على ضفّة النيل على متن قارب، كما يقول شكسبير، لدرجة أن الرياح كانت تحبّ عطرها.
    وفي اليابان، تُعرف رياح شهر مايو تقليديا بأنها أجمل رياح العام، لأن مايو هو الوقت الذي تهبّ فيه الرياح العطرية.
    وأنا أغلق عينيّ بعد ظهيرة احد الأيّام، نقلني صوت الرياح على الفور إلى خارج النافذة. كنت دائما أتساءل عن السبب في أن غالبية الناس يفضّلون برزخ "دانتي" على جنّته التي يسمّيها باراديزو .
    ترى هل أنا الوحيد الذي لا يستطيع تصوّر الجحيم تماما، بينما أجد نفسي في كثير من الأحيان ضائعا في أحلام الجنّة؟
    الجنّة كانت وما تزال احد أقدس الدوافع والأفكار في تاريخ الإنسان. ودائما وفي كلّ وقت تقريبا، كان هناك من يتوق لنوع من الكمال على الأرض.
    كولومبوس، ذلك البحّار الموسوس والفضولي، ظنّ أن أمريكا الجنوبية هي جنّات عدن بسبب طيور الببّغاء التي رآها تتكلّم هناك. كان كولومبوس يعتقد أن جميع الحيوانات والطيور كانت تتكلّم قبل السقوط أو الطرد من الجنّة.
    هذا الأمل في وجود جنّة من نوع ما يدفع بالبشرية إلى الأمام ويحفّز على التغيير ويعد بالخلاص. لكنّه أيضا مرتبط بالمعتقدات النهائية مثل ارماغيدون والخطيئة الأصلية والشهادة وكلّ الأفكار التي تؤثّر على الحياة الحديثة، حتى عندما تكون مختفية تحت قشرة من العلمانية.
    بالنسبة لي، الجنّة تشبه حديقة فارسية. أتصوّرها عامرة بعبير الورد والياسمين والغاردينيا. وفيها موسيقى ونسائم ربيعية معطّرة ونزهات لا تنتهي.
    أتخيّل فيها أدونيس وهو يطلق طائراته الورقية، بينما يهيم الفلاسفة على وجوههم بالجوار وأرسطو يتناقش مع السنيور بورخيس. وبينما هما يتحدّثان، يبحثان عن اسم الله على بتلات الأزهار.
    استطيع أيضا أن أتخيّل "سام هاميل" وهو يتلو قصائد من كتابه "الجنّة"، بينما يرسم "توليو" خرائط لعوالم خيالية بالحبر الأسود. ابن رشد وابن سينا هما أيضا هناك.
    الفلاسفة في الجنّة يتحدّثون جميع اللغات التي يمكن للمرء أن يسمعها في عالم الدنيا. آنا كارينينا وحبيبها الكونت اليكسي فرونسكي يحتضنان بعضهما وهما يجلسان تحت شجرة لوز كبيرة.
    النزهات التي لا تنتهي تتضمّن الشاي الصيني الأسود والشمبانيا المجلوبة من جبال فورموزا والشاي الأخضر الذي يُقدّم في أوان خاصّة مع حلويات لذيذة من متاجر مقاطعة الغيوم البعيدة.
    وعلى البعد يلوح بناء ضخم تلامس قمّته السماء الزرقاء المتلألئة. هذه هي مكتبة الجنّة التي تحتوي على كلّ الكتب التي الّفت في جميع العصور. بورخيس يكتب ويؤلّف كتبه هنا في هذا المكان المهيب.
    وتحت أشجار اللوز، يمكنك أن ترتاح قليلا وتستمتع بسماع صوت الرياح في الأشجار أو تقرأ شذرات من شعر حافظ أو عمر الخيّام.
    الجميع في الجنّة لهم أجنحة مصنوعة من قوس قزح. وهناك أنفاق طويلة مغطّاة بالأزهار البيضاء والزرقاء والأرجوانية تشبه الممرّات المغطّاة في قصر الصيف خارج بيجين. ممرّات طويلة مظلّلة ومفروشة أرضها بالأزهار كانت الإمبراطورة الأرملة في حكم سلالة تشينغ تمشي فيها وهي تقرأ في كلّ مرّة كتابا.
    أتذكّر تلك الرسومات التي تصوّر طيور الجنّة على جدران بعض الكهوف البوذية. من المعروف أن الطيور في الجنّة البوذية تبدأ في الغناء حتى قبل أن تفقس من بيضها. كما أن أغنياتها جميلة جدّا وتشبه شدو الملائكة.
    الحدائق المشذّبة والملائكة، وكذلك الجبال التي تلوح في الأفق، والأنهار التي تتدفّق بالماء العذب، هي أفكار مشتركة عن الجنّة في معظم الثقافات القديمة.
    في جنّة "دانتي" ليس هناك مفهوم للتنوير. الروح عند هذا الشاعر الايطالي ليست موردا ينبغي تحسينه أو الانتفاع به، والبشر لا يرومون انفصالا أو كمالا من أيّ نوع. كلّ ما هو مطلوب منهم هو الحبّ والأمل. هذا كلّ شيء. والإيمان والإخلاص ليسا سوى اسمين آخرين لهما.
    مثل القبلة، ومثل الحبّ، ومثل كلّ شيء جدير بالاهتمام، فإن الجنّة هي أساسا عن الجمال والمرح. إنها الأرواح التي يقودها بحثها الميتافيزيقيّ عن إله إلى خلق واقع يحدّد نفسه بنفسه.
    الجنّة تشبه صورة مثالية، تماما مثلما تصفها الليدي موراساكي بطلة إحدى الروايات اليابانية: مزهرية ملأى بالعطور.

    ❉ ❉ ❉

    ليل تضيئه الشموع


    الرسّام الهولندي بيتروس فان سكيندل كان متخصّصا في رسم المناظر الليلية التي تضيئها الشموع. ولم يكن احد من معاصريه ينافسه في هذا النوع من الرسم.
    رسم مناظر الليل المضاءة بالشموع كان منتشرا في هولندا القرن السابع عشر. وأوّل من بدأه كان الرسّام الهولندي جيرارد دو.
    في فرنسا كانوا يلقّبون فان سكيندل بـ "مسيو شانديل" أو "السيّد الشمعة" لكثرة ما تظهر الشموع في مناظره. كان بارعا خاصّة في تصوير مناظر الأسواق ليلا.
    في بعض لوحاته يمكن أن ترى عدّة مصادر ضوء في وقت واحد، مثل ضوء القمر ووهج شمعة أو مصباح، وأحيانا مصادر ضوء أخرى لا تُرى.
    كلّ التفاصيل في اللوحة إلى فوق تؤشّر إلى براعة فان سكيندل ومقدرته في التعامل، ليس مع الضوء فحسب، وإنما مع التوليف العام للوحة ومع التفاصيل ككلّ.


    ❉ ❉ ❉

    اكتشاف النار


    يبدو أن لا اكتشاف يمكن أن ينافس في الأهمّية اكتشاف الإنسان الأوّل للنار. أسلافنا استطاعوا أن ينتشروا في الأرض ويستكشفوا الطبيعة في جماعات صغيرة بفضل النار. والنار هي التي منحت الإنسان القوّة وسمحت له بتعديل الطبيعة التي عاش وتطوّر ضمنها.
    وما عليك إلا أن تراقب وجه طفل رضيع يحدّق في النار لكي تدرك عمق افتتاننا بها وأنها متجذّرة في عقل الإنسان منذ الأزل.
    أحيانا نتخيّل، نحن البشر، أننا بفضل ما وُهبنا من ذكاء وبراعة نعلو فوق غيرنا من المخلوقات والحيوانات. لكن هذا غير صحيح، إذ يجب أن نتذكّر أننا في نهاية الأمر من الثدييات، أي المخلوقات التي تمشي بجذع منتصب، ويقال أننا ننحدر من نوع قديم من القرود منشؤها أفريقيا.
    ويُعتقد أيضا بأننا نحن البشر نصنع الأدوات منذ أكثر من مليونين ونصف المليون عام. لكن هذا لا يعطينا أفضلية على غيرنا من المخلوقات، فغيرنا من الحيوانات تستطيع صنع الأدوات أيضا، مثل ثعلب الماء مثلا الذي يستخدم الحجارة لكسر المحار.
    ما يميّز الإنسان حقّا عن غيره من الخلق هو إتقان النار. وقبل افتراض أننا الوحيدون الذين يستخدمون النار في الطبيعة، يجب أن نفكّر في الأمر قليلا. فالصقور في استراليا تلتقط العيدان المحترقة في غابة ثم تسقطها لكي تنتشر النار أكثر فتضطرّ الحيوانات العالقة بين الأشجار إلى الخروج ومن ثمّ يسهل اصطيادها.
    وبحسب علم الآثار، فإن أوّل إشارة لتحكّم الإنسان في النار تعود إلى العصور القديمة. ويبدو أن الإنسان حصل لأوّل مرّة على النار من مصادر الطبيعة كحرائق الغابات التي كانت تظلّ مشتعلة لأيّام أو أسابيع.
    وحتى هذه الأيّام، ما يزال هناك بعض القبائل البدائية التي تحمل النار معها أينما ذهبت، وبذا لا تحتاج أبدا لإشعال نار لأنهم لا يتركون نارهم تنطفئ مطلقا. ويمكن القول أن هذه هي أقدم نار في العالم. وبعض القبائل كان من عادتها أن ترسل عدّائين ليذهبوا إلى قبائل أخرى لإحضار نار من عندهم إذا انطفأت نارهم.
    اكتشاف الإنسان الأوّل للنار كان سلاحا قويّا لردع اعنف وأقسى الحيوانات الضارية. وباكتشاف النار تبدّد الخوف من أخطار الليل. وأصبحت النار مركز الحياة عندما بدأ أسلافنا يلتفّون حولها في الليل بسعادة.
    وبفضل النار استطاع الأسلاف أيضا تعلُّم كيف يطبخون طعامهم بتحسين نكهته وتحييد السموم النباتية وتدمير البكتيريا الضارّة. ونتيجة لذلك تنوّعت أطعمتنا وتعدّدت. ويقال إن طعامنا الذي طوّرته النار أسهم في نموّ أدمغتنا بحيث أصبحت اكبر.
    وإلى ما قبل تمكّن الإنسان من تسخير النار واستغلالها، كان طول النهار يحدّده ضوء الشمس. لكن مع ضوء النار أصبح اليوم أطول وأتاح ذلك المزيد من الوقت للاتصال وتبادل الأفكار بين البشر.
    في لغة الإشارة عند الهنود الحمر، فإن المجيء إلى النار يتضمّن مفهوم اللقاء للحديث ومشاركة الأفكار. حتى الأضواء التي نراها هذه الأيّام في مقدّمة خشبة بعض المسارح تحاكي ذلك الضوء المنبعث من النار الذي كان ينعكس على وجه الحكواتي القديم من أسلافنا.
    طبعا فكرة كيف تسنّى للإنسان القديم أن يقدح نارا لا بدّ وأنها شغلت وما تزال عقول الكثيرين. وربّما كنت أنت أيضا من بين أولئك الذين تساورهم الرغبة في السفر عبر الزمن إلى الماضي كي تشهد أوّل تجربة أجراها الأسلاف لإنجاز هذه المهمّة البارعة والعظيمة.

    ❉ ❉ ❉

    رُودان والجحيم


    أثناء حياته، كان اوغست رُودان يقارن بميكيل انجيلو وكان معترفا به كأعظم فنّان في عصره. أشهر أعماله هو تمثال "المفكّر" الذي كثيرا ما استُخدم خارج أوساط الفنّ التشكيلي كرمز للانفعالات وللشخصية الإنسانية.
    قبل أن يبدأ رودان في نحت "المفكّر"، كان في ذهنه أن يرمز التمثال إلى الشاعر الايطالي دانتي. غير أن العمل تطوّر إلى ما هو ابعد من مرجعيّته المباشرة وأصبح يمثّل المثقّف ذا العضلات، أي الذي يمارس نفوذا وتأثيرا في مجتمعه.
    وهناك نسخ كثيرة من تمثال "المفكّر"، حوالي اثنتي عشرة نسخة تحديدا، أكبرها تلك الموجودة في ستانفورد والتي تزن أكثر من طنّ. ومتحف رودان في باريس هو عادة من يمنح الحقّ لمن شاء لنحت نسخ مماثلة من هذا التمثال.
    وأنت تدخل إلى هذا المتحف، سترحّب بك منحوتة أخرى عظيمة لرودان ولا تقلّ شهرة، وهي المسمّاة بوّابات الجحيم . هذه المنحوتة الرائعة قد لا تشبه أيّة منحوتة أخرى رأيتها من قبل. وقد استلهمها النحّات من جحيم دانتي.
    رودان كان يعتقد أن الجحيم ليس فقط مكانا للأموات، وإنّما للأحياء أيضا. الكرب والمعاناة وإرادة البقاء والجمال والرعب، كلّ هذه الأشياء تراها في هذا العمل الفنّي المتميّز.

    Credits
    livescience.com
    tangdynastytimes.com

    الاثنين، مايو 26، 2014

    عشاء مع أوفيد/2

    "الآن أكملتُ عملا لن يقدر على هدمه غضب جوبيتر، ولا النار ولا الحديد ولا الزمن الذي لا يشبع. فليأتِ، متى شاء، اليوم المحتوم الذي لا حقوق له إلا على جسدي، وليضع حدّا لمسار حياتي الغامض. سيكون اسمي عصيّاً على الفناء. وأينما توغّلَت قوّة روما بعيدا في الأرض التي تسودها، فلسوف يقرؤني الناس".
  • أوفيد، خاتمة كتاب "التحوّلات".

    لا تتوفّر معلومات وافية أو مؤكّدة عن حياة أوفيد. وكلّ ما نعرفه عن حياته الخاصّة مصدره كتاباته. ولعلّ هذه فرصة لسؤال الشاعر عن بعض الأمور المتعلّقة بظروف نشأته الأولى وكيف أصبح شاعرا.
    نعرف، مثلا، أنه ولد عام 43 قبل الميلاد، أي بعد اغتيال يوليوس قيصر بعام واحد. وكانت ولادته في بلدة سالمونا الايطالية لعائلة موسرة. وقد أخذه والده إلى روما لدراسة السياسة والخطابة، لكنه اختار الشعر. وقد تزوّج ثلاث مرّات وطلّق مرّتين قبل بلوغه الثلاثين وأنجب ابنة واحدة. وفي شبابه، سافر إلى آسيا الصغرى ثمّ إلى أثينا.
    ألّف أوفيد العديد من دواوين الشعر، أحدها عنوانه "رسائل من نساء بطلات"، وهو عبارة عن سلسلة من الرسائل من نساء أسطوريّات إلى أزواجهنّ أو عشّاقهنّ الغائبين. وهناك ديوان ثان بعنوان "فنّ الحبّ"، ويحكي عن قصّة حبّ بطلتها امرأة من الطبقة الرفيعة في روما تُدعى كورينا.
  • ❉ ❉ ❉

    كان أوفيد شاعرا غزير الإنتاج. شخصيّته وكتبه ألهمت في ما بعد كتّابا لاتينيين خبروا، هم أيضا، تجربة النفي مثل سينيكا وبوتيوس. لكن من بين جميع مؤلّفات الشاعر، يُعتبر كتاب "التحوّلات" الأكثر شهرة واحتفاءً. وبراعة أوفيد في هذا الكتاب غير مسبوقة. وبالتأكيد لا يمكن أن أتخيّل لقاءً مع الشاعر دون أن اطرح عليه بعض الأسئلة والملاحظات عن الكتاب.
    عندما تقرأ "التحوّلات"، ستلاحظ أنه يتحدّث عن عالَم يتخلّله إحساس بالحركة وبالتشوّش وغياب النظام. وتسلسل الأحداث فيه محكوم بالصدفة ولا يسير وفق منطق السبب والنتيجة. كما ستلاحظ أن كلّ قصّة من قصص التحوّلات يصاحبها عادة عنف ومعاناة. وهذا يضفي على جميع قصص الكتاب طابعا دراماتيكيّا، بالنظر إلى أن العنف يتضمّن ضحيّة تصرخ وتحتجّ وتبدو بلا حول ولا قوّة.
    والضحايا هم غالبا إناث بريئات يتعقبّهن مغتصبون من الآلهة أو من البشر. والسرد يثير في نفس القارئ إحساسا بالشفقة على الضحيّة عندما تتحوّل إلى شيء آخر، كما لو أن ضغط معاناتها يفوق قدرة البشر على التحمّل.
    ولا بدّ وأن تتساءل وأنت تقرأ الكتاب: كيف يجب أن نتعامل مع هذه التحوّلات، وهي العنصر المحوريّ فيه. ولماذا هذا الإصرار على التحوّل من خلال عملية وحشية؟ وهل يضيف هذا إلى التجربة الإنسانية شيئا؟ ثمّ هل أوفيد يقول هنا شيئا عن طبيعة الإنسان كما يفعل كلّ من هوميروس وهيسيود مثلا في كتاباتهما؟ وهل التأثير المستمرّ لقصيدة التحوّلات يعتمد على فهمٍ ما للحياة أو على تجربةٍ ما وجدها الناس ذات قيمة مثلا؟
    مثل هذه التساؤلات قد تثير اهتمام أوفيد عند طرحها عليه. وقد يكون عنده من الإجابات والملاحظات ما يجلي بعض الغموض.
    وأيضا لا بأس من الاستئناس برأيه حول وجهة النظر الرائجة والتي تقول إن القصيدة لا تقدّم أيّة رؤية خاصّة عن الحياة، وأنها في الأساس عبارة عن احتفال بالعبقرية الأدبيّة للكاتب، وبرهان على المتعة النقيّة للقصص الخيالية التي لا يخالطها دروس أو مواعظ أخلاقية.

    ❉ ❉ ❉

    معظم قصيدة التحوّلات يتعلّق بأحداث في منتهى الوحشية. وإذا حاولنا اعتبارها، أي الحوادث، أحداثا حياتية، فإن الكتاب عندئذ يصبح عبارة عن صورة كئيبة ومظلمة عن تصرّفات وطبيعة البشر. أي انه يتضمّن رؤية لا تختلف عن الرؤية المتشائمة والأقدار المشئومة عن العالم في أدب كلّ من هيسيود وسوفوكليس.
    في أعمال هيسيود وهوميروس واسخيليوس وسوفوكليس، للأساطير معان خطيرة. فهي تضيء وترمز لجوانب مهمّة من طبيعة الحياة نفسها، مثل قدرة الآلهة على التدمير وأمزجتها الغاضبة وحبّها وكراهيّتها. والأحداث قد تبدو لاعقلانية ومضحكة وفجائية. لكنّها تُقدّم كرؤى جادّة عن طبيعة الأشياء التي تقع في مركز اهتمامنا، مثل رغبتنا في فهم القوى الأساسية خارج أنفسنا. والأساطير تُوظّف لتربط عالمنا المألوف مع الإحساس بالغموض الذي يساورنا عندما نتأمّل الأشياء التي هي خارج سيطرتنا والتي يستعصي علينا فهمها.
    غير أن أهمّ ملمح مثير للفضول في قصيدة التحوّلات، وهو سبب شهرتها على الأرجح، هو أنها لا تعرض مثل هذه الرؤية اليائسة عن الحياة ولا أثر لها فيها. وبرغم كلّ الوحشية فإن القصيدة توفّر قراءة سارّة وممتعة، بل ويمكن أن نصفها بأنها تحفة هزلية.
    هل سبق لك أن قرأت رواية الكونت دراكيولا؟ صحيح أن أجواءها مخيفة إلى حدّ ما، ولكن قراءتها جميلة وممتعة. وهذه الصفة تنطبق أيضا على "التحوّلات". وهي سمة تستحقّ الدراسة المتعمّقة، لأنها قد تكون أهمّ مؤشّر على الجاذبية القديمة والدائمة لهذا الكتاب.

    احد النقّاد قال إن من غير المجدي البحث عن معنى داخلي أعمق قد يكون أوفيد تركه للآخرين في "التحوّلات". فالكتاب يُبقينا دائما عند سطح التفاصيل، ولا يدعونا لنرى إن كانت سلسلة الكوارث هذه تقول أيّ شيء مهمّ عن العالم. انه كتاب يمكن أن نقرأه ونستمتع به دون أن يدفعنا أو يقودنا باتجاه أيّة منظومة من المعتقدات عن العالم أو عن فهمنا للكون.
    وهنا لا بدّ من إعادة طرح هذا السؤال على أوفيد: هل تتضمّن "التحوّلات" موقفا فلسفيّا، فكرة أو رؤية ما عن العالم، وهو ما لا يراه الكثيرون كما أشرنا آنفاً، أم أنها مجرّد قصص مسلّية وممتعة أراد الشاعر من خلالها أن يكشف عن مقدرته السردية ومهاراته الشعرية، بمعنى أن التجربة الجمالية فيها مقدّمة على الدروس أو المواعظ الأخلاقية؟
    من أشهر التحوّلات التي يحكي عنها أوفيد قصّة اوديب الذي تخبر ساحرة والديه بأن طفلهما، أي اوديب، سيكبر وسيقتل والده ويتزوّج أمّه. وعندما يكبر تتحقّق تلك النبوءة المشئومة. وهناك أيضا قصّة ديونيسيوس أو باخوس، وقصّة نرسيس وإيكو (أي الصدى).
    وفي مكان آخر من الكتاب، يتحدّث الشاعر عن قصّة ميداس. وميداس الحقيقيّ في هذا الكتاب هو المؤلّف نفسه. ولمسة الذهب التي لديه هي فنّه الذي يغيّر ويؤثّر. وإنجاز أوفيد يتمثّل في تحويل رؤية مظلمة ومحبطة عن الوجود إلى كوميديا كونية.

    ❉ ❉ ❉

    من جهة أخرى، يمكن اعتبار "التحوّلات" كتابا عن تنوّع وسيولة الكون. وقصصه تذيب التقاليد الأخلاقية وتستكشف الأشياء الغامضة وتلغي الحدود والفوارق بين الرجال والنساء والحيوانات والآلهة والنباتات.
    وهو يستكشف الجندر من نواح كثيرة ومتعدّدة. وكلّ أصحاب نظريات الجندر الحديثة سيجدون في هذا الكتاب مادّة للتنظير. ولابدّ أن تستوقفهم، مثلا، شخصيّة هيرمافرودايت التي هي عبارة عن جنس مختلط، وشخصيّة اتالانتا التي تحبّ الصيد والرياضة مع أنها أنثى، وشخصيّة اخيل الذي يتنكّر على هيئة امرأة مع انه لا يُخفي اهتماماته الذكورية بالأسلحة. نظريّة الشاعر عن المثلية الجنسية مثيرة للاهتمام. فالتحوّلات الجندرية برأيه سببها التغذية وأسلوب الحياة وليس الطبيعة.
    متعة أوفيد القاتمة في رواية هذه القصص تستدعي الكثير من الأسئلة. لكن قصص اللقاءات الجنسية في الكتاب ممزوجة بأسئلة عميقة. مثلا، ماذا يعني أن يكون لديك أفكار ومشاعر محبوسة داخل جسد قابل للتحوّل؟ وما هي النفس؟ وما حدودها؟ وإذا تغيّر شكلك الخارجي، فما الذي يدوم بعد ذلك؟

    ❉ ❉ ❉

    ربّما يتفاجأ أوفيد عندما يعلم انه في العصور الوسطى كان هناك اتجاه لإضفاء سمة أخلاقية على كتاب "التحوّلات". وقد فُرضت عليه تفسيرات وعظية تتوافق مع تعاليم الكنيسة الكاثوليكية في روما في تلك الفترة وأضيف للقصيدة ما ليس فيها. لكن تلك التعديلات لم تنتهك الجوّ العامّ والأفكار التي يتضمّنها الكتاب. أي أن الكنيسة لم تضطرّ لحظر الكتاب خوفا منه، بل احتاجت فقط لأن تكيّفه، وذلك بفرض البناء الذي يناسب رغبات رجال الدين مع الإبقاء على الأسلوب السرديّ.

    ❉ ❉ ❉

    بعض النقّاد يذهبون إلى أن "التحوّلات" يتضمّن رؤية أو فكرة ما ذكرها أوفيد في الخاتمة عندما تحدّث عن الزمن وقدرته التي لا تُقهر. يقول: هناك أمم تصعد إلى القوّة والعظمة، وأمم أخرى تفشل وتسقط. طروادة كانت ذات وقت عظيمة بثرواتها ورجالها، وأعطت عشر سنوات من دم حياتها، والآن انتهت ولم يبق منها سوى الأطلال القديمة ومقابر الأسلاف المهدّمة".
    والمعنى الواضح لهذه العبارة هو أن روما، برغم عظمتها الإمبراطورية، من المحتّم أن تفشل، هي أيضا، وتسقط في النهاية. وفي الخاتمة، يهدي أوفيد كتابه لكلّ من يوليوس قيصر وأوغستوس. لكن وراء هذا الإهداء مفارقة لافتة، إذ أنه يشير ضمنا إلى انه أيّا ما كانت انجازات هذين القائدين السياسيين العظيمين، فإن أعمالهما لن تدوم طويلا.
    وما سيدوم حقّاً هو قصيدة أوفيد نفسها. وخاتمة الكتاب توضّح انه إذا كان التحوّل هو القاعدة في هذه الحياة، فإن الشيء الوحيد الذي يمكن أن ينجو من التحوّل أو التغيير هو العمل الفنّي. في الحياة أو السياسة، ليس هناك ثبات أو دوام للحقيقة. والخلود الوحيد الممنوح لنا، نحن البشر، يأتي من الأدب العظيم، مثل قصيدة أوفيد.

    Credits
    ancient-literature.com
    public.wsu.edu
    poetryintranslation.com

    الجمعة، مايو 23، 2014

    عشاء مع أوفيد

    أحد أصدقاء هذه المدوّنة سألني مؤخّرا: لو أتيحت لك فرصة السفر إلى الماضي واختيار عشر شخصيّات من التاريخ كي تراها وتتحادث معها على العشاء وتطرح عليها بعض الأسئلة، فعلى من سيقع اختيارك؟
    قلّبت هذا السؤال في ذهني لبعض الوقت. وأثناء ذلك عبَرَت رأسي أسماء مثل لا وتسو وباخ وفولتير وهيباتيا وسقراط وكليوباترا ونيتشه وإيسوب وغويا وكاثرين العظيمة وآينشتاين وكونفوشيوس وآخرين.
    لكني فضّلت أن استهلّ هذه السلسلة بحديث من جزأين مع وعن أوفيد.
    أما لماذا أوفيد، فلأنه أوّل من أنزل الآلهة من برجها العاجيّ في أعالي جبل الأوليمب ووضعها في محترفات الرسم وصالونات الأدب والفلسفة. كما انه أوّل من حوّل الميثولوجيا إلى عالم من لحم ودم مع الكثير من روح المرح والدعابة. وأوفيد هو أيضا أوّل من أنتج أدبا خالصا لوجه الأدب، أي بلا دروس ولا مواعظ أخلاقية.
    وكلّ شخص يريد أن يعرف شيئا عن الأساطير الرومانية - الإغريقية، يجب أن يكون قد قرأ كتابه "التحوّلات". وهو عبارة عن ديوان شعر، أو بالأحرى قصيدة طويلة من اثني عشر ألف بيت. وأوفيد يسرد في ثنايا القصيدة قصصا استلهمها من الميثولوجيا الكلاسيكية عن "حالات تَحوُّل" معظمها لبشر وحوريّات يتحوّلون إلى حيوانات ونباتات.
    القصص تسجّل الأحداث منذ بداية خلق الكون وحتى موت يوليوس قيصر اغتيالا. وكلّ قصّة من قصص الكتاب تتضمّن تحوّلا جسديّا. والشخصيّات التاريخية فيه تقتصر على الإمبراطورين يوليوس قيصر واوغستوس اللذين يتحوّلان من إنسانين قابلين للفناء إلى إلهين خالدين.
    كتاب "التحوّلات" لا يعلّمك شيئا عن فهم الحياة والعالم. لكنه يقول لك كيف تستخدم اللغة وموارد الرواية الخيالية بطريقة ممتعة. وفي الكتاب، ينتصر الأسلوب على الجوهر وننتقل إلى شكل جديد من أشكال التعبير الأدبي، شكل يُحتفى فيه بالفنّ من اجل الفنّ فحسب.
    لذا ليس من الصعب أن نفهم سرّ شعبية أوفيد بين الشعراء والفنّانين عبر العصور، بل وحتى بين أولئك الذين يضيفون إلى القصيدة رؤية للعالم أكثر تماسكا واكتمالا.
    نسخة أوفيد من الميثولوجيا تقول إن الماضي لم يكن اكبر من الحياة نفسها، كما لم يكن هناك أبطال. والجنس البشريّ يتألّف من بشر مثلنا، وليست هناك آلهة تشرف على مسار الأحداث أو تمثّل مبادئ كالحقّ أو العدالة.
    أوفيد يرى أيضا أن ليس هناك كون غامض كي نحتفي به أو نقدّسه أو نخاف منه. هناك فقط المتعة التي يمكن أن نشعر بها عند قراءة القصيدة بمعزل عن أيّة معان أو مرجعيات أخلاقية.

    ❉ ❉ ❉

    من اجل الالتقاء بأوفيد، سأفترض أن عليّ أوّلا أن اذهب إلى توميس، أو كونستانزا كما تُسمّى اليوم. وتقع هذه المدينة على ساحل البحر الأسود في ما يُعرف اليوم بـ رومانيا. وهي واحدة من أقدم المدن المأهولة في العالم، إذ تأسّست حوالي عام 600 قبل الميلاد.
    أوفيد نفسه يصفها بأنها "ارض شبه مهجورة تقع على الأطراف البعيدة للإمبراطورية الرومانية وبعيدا عن حدود العالم المتحضّر". وقد جرت على أرضها العديد من المعارك والحروب، واحتلّها الرومان عام 29 قبل الميلاد وضمّوها إلى إمبراطوريتهم، ثم أسموها كونستانتينا تيمّنا باسم شقيقة الإمبراطور الروماني كونستانتين العظيم. وبحسب إحدى الأساطير، فإن جيسون نزل في هذه المدينة مع الارغونوتز بعد عثوره على الفروة الذهبية.
    في توميس أو كونستانزا، سألتقي بأوفيد، وعلى الأرجح سنتناول العشاء معا في احد المطاعم القريبة من متحف المدينة الذي شُيّد أمام بوّابته تمثال للشاعر. وسأحمل معي للشاعر هديّة هي عبارة عن نسخة حديثة من كتاب "التحوّلات"، بالإضافة إلى نسخ من بعض الأعمال التشكيلية المشهورة والمستوحاة من قصص التحوّلات، وكذلك نسخة من لوحة أوجين ديلاكروا التي رسم فيها أوفيد بين السيثيين.
    بداية، أظنّ أن ملامح أوفيد تشبه إلى حدّ كبير ملامحه في التمثال، فهو على درجة من الوسامة، عيناه متفحّصتان وتشعّان بالذكاء، مع طبع يميل إلى الهدوء والتأمّل. وبالتأكيد سيُسرّ الرجل لمرأى النصب الضخم الذي أقيم تكريما له في هذه البقعة البعيدة عن روما.
    وسيُدهش الشاعر ولا شكّ لرؤية الاختلاف الكبير بين توميس اليوم وما كانت عليه عندما كان يعيش فيها قبل حوالي ألفي عام. فبينما كان عدد سكّانها لا يتعدّى المئات آنذاك، فإن عددهم اليوم يتجاوز الـ 400 ألف نسمة، بالإضافة إلى مئات آلاف السيّاح الذين يؤمّون المدينة سنويا للتمتّع بأجوائها المعتدلة وينابيعها المعدنية المشهورة.
    هنا في توميس وبعيدا عن روما، توفّي أوفيد عام 17 ميلادية بعد أن عاش فيها منفيّا ثمان سنوات كاملة. وبطبيعة الحال سأسال الشاعر عن حادثة النفي تلك، وعن السبب الحقيقيّ الذي دعا الإمبراطور اوغستوس إلى اتخاذ قرار بنفيه بعد أن كان مقرّبا منه ومن عائلته.
    الأسباب التي أوردها المؤرّخون كثيرة وأحيانا متناقضة. ومعظم ما كُتب حول قصّة النفي مجرّد تكهّنات واحتمالات. أوفيد نفسه أشار إلى الأسباب تلميحا وبطريقة غامضة غالبا. فهو، مثلا، ذكر في رسائله التي كتبها لبعض أصدقائه في روما أثناء سنوات النفي أن الخطأ الكبير الذي ارتكبه هو انه "رأى شيئا ما كان ينبغي له أن يراه".
    هذه العبارة دفعت بعض المؤرّخين للاعتقاد بأن الشاعر ربّما كان على علاقة ما بابنة اوغستوس الماجنة "جوليا"، خاصّة بعد أن أصبح احد أفراد الطبقة الضيّقة المحيطة بها.
    وقرار النفي كان بناءً على أوامر شخصية من الإمبراطور ودون العودة إلى البرلمان أو القضاء. وأوغستوس نفسه مات عام 14 ميلادية، أي في الوقت الذي كان أوفيد ما يزال في منفاه. ولسوء الحظ، فإن تيبيريوس الذي خلف اوغستوس على سدّة الحكم لم يُنهِ أو يلغِ حكم النفي.

    كان عمر أوفيد قد تجاوز الخمسين عندما نُفي. وكان مشهورا جدّا في روما في ذلك الوقت. بل يمكن القول انه كان آنذاك أشهر شاعر في المدينة بعد انتهاء جيل فيرجيل وهوراس.
    قصائده التي كتبها في منفاه تتضمّن رسائل لأصدقائه وأعدائه في روما. ومن بين تلك القصائد واحدة يعبّر فيها عن يأسه ويدعو لإعادته إلى روما. وهناك أيضا قصائد على هيئة رسائل موجّهة لبعض الشخصيّات في روما وأخرى إلى زوجته وإلى الإمبراطور نفسه. يقول الشاعر في إحدى تلك الرسائل موجّها حديثه إلى شخص ما: أين المتعة في إغماد رمحك في لحمي الميّت؟ ليس في جسدي مكان يحتمل المزيد من الطعنات أو الجراح".
    وفي بعض تلك الرسائل، يحاول أوفيد أن يقنع الإمبراطور بإنهاء نفيه، وذلك من خلال وصفه لحالة الحزن التي يعيشها بعيدا عن الوطن وقسوة الحياة والأخطار في توميس والحالة الاجتماعية والذهنية المتردّية التي يمرّ بها.
    وقد صوّر نفسه في إحدى تلك الرسائل كشخص عجوز ومريض وبعيد عن عائلته ومحروم من مسرّات ومتع روما. بالنسبة لأوفيد، كانت روما هي نبض العالم المتوهّج. والنفي أدّى به إلى حالة من الإحباط واليأس. ومع ذلك، لا ينسى الشاعر أن يمدح الإمبراطور وعائلته ويثني على نجاحه في المعارك والحملات العسكرية، أملا في أن يؤدّي ذلك إلى ترقيق قلبه.
    لقد كُتب الكثير عن واقعة النفي. أوفيد نفسه كتب مرّة يقول إن النفي دمّر عبقريته الشعرية وأن نفيه كان بسبب "قصيدة وخطأ"، وأن ما فعله لم يكن غير قانوني، ولكنه كان "أسوأ من جريمة".
    أشعاره في المنفى مليئة بالإشارات إلى أن ما فعله كان "خطأ تسبّب به الغباء" وأنه فعله عن غير عمد وأن الإمبراطور يدرك ذلك بدليل انه لم يحكم عليه بالقتل ولم يجرّده من الجنسية.
    أوفيد قد لا يجد غضاضة، خاصّة بعد مرور كلّ هذه السنوات الطوال، في أن يبوح بالسبب الحقيقيّ لنفيه. هو لم يتحدّث عن هذا الأمر صراحة أثناء حياته، لأنه كان يؤمّل في أن يُصدر الامبراطور عفوا عنه، وهذا ما لم يحدث.
    وهناك نقّاد كثر يعتقدون أن اوغستوس الذي كان يُقدّم نفسه كحارس للأخلاق الرومانية ربّما كان قد ارتكب زنا المحارم أو جناية أخلاقية ما. وقد يكون أوفيد نفسه قد تورّط بعلاقة مع جوليا ابنة الإمبراطور أو أنه رأى المرأة، أو والدها، في حالة مريبة مع شخص ما. بل إن هناك من يقول إن ثمّة احتمالا في أن أوفيد كان ضالعا في مؤامرة ضدّ الإمبراطور، ولهذا نُفي.
    سأسأل أوفيد أيضا عن ما اعتبره بعض النقّاد محاولة منه لـ "أسطرة" حالة النفي تلك، أي تحويلها إلى أسطورة. وسأسأله كذلك عن رأيه في زعم بعض المؤرّخين بأن نفيه لم يكن حقيقيّا وأنه لم يغادر روما أبدا إلى المنفى وأن أعماله في المنفى لم تكن سوى ثمرة خيال خصب.
    وبالتأكيد أنا لست مع هذا الرأي. فقصّة النفي حقيقية وهناك شواهد كثيرة تدعمها وتؤكّدها. وعلى كلّ حال، لا بدّ من سماع رأي الرجل في بعض ما قيل عنه.

    ❉ ❉ ❉

    ما من شكّ في أن أوفيد سيشعر بقدر كبير من السعادة عندما يرى كيف أن كتاب التحوّلات أثّر في كثير من مشاهير الكتّاب مثل شكسبير ودانتي وميلتون ودي ثيرفانتيس وغيرهم، واستلهمه عدد كبير من الفنّانين الذين رسموا مئات اللوحات التي تصوّر قصصا وردت في الكتاب. وقد أسأله بشكل خاصّ عن رأيه في لوحة الفنّان اوجين ديلاكروا التي صوّر فيها الشاعر وهو في ضيافة السيثيين.
    والسيثيون هم جماعة من الفرس القدماء كانوا يسكنون توميس عندما قدم إليها أوفيد. وقد تناول هيرودوت أسلوب حياتهم في كتابه "التواريخ" ووصفهم بالبدو المترحّلين. وأوفيد نفسه وصفهم بالقبيلة البرّية.
    وأغلب الظنّ أن هذه اللوحة ستثير اهتمام الشاعر على الرغم من انه يظهر فيها واجما وحزينا. وسبب حزنه على الأرجح هو إحساسه بالغربة في هذه الأرض النائية وبعده عن الأهل والوطن. بالإضافة إلى انه عندما حلّ في ضيافتهم لم يكن احد منهم يتكلّم اللاتينية برغم أنهم كانوا تابعين لروما. وهذا أمر فاجأه وأحبطه كثيرا.
    لوحة ديلاكروا هي عبارة عن تناول جميل لفكرة الحضارة مقابل البدائية. وقد رسم السيثيين وهم يعاملون الشاعر بتعاطف وفضول في طبيعة تتضمّن بحيرة وجبالا مغطّاة بالخضرة، مع أكواخ من الخشب توحي بثقافة رعوية بدائية. وقد تفحّص هؤلاء أوفيد باهتمام عندما وصل إلى أرضهم. والبعض الآخر ذهبوا إلى بيوتهم ليحضروا له فاكهة وحليبا.
    فكرة البرّية والإنسان العبقريّ الذي يُساء فهمه كانت احد المفاهيم الأساسية في الحركة الرومانسية التي كان ديلاكروا احد أقطابها. وقد رسم من هذه اللوحة طبعتين وذلك قبل وفاته بعام على الأرجح لحساب صاحب إحدى المجموعات الخاصّة.

    في الجزء الثاني: حديث عن التحوّلات

    السبت، فبراير 15، 2014

    أرسطو وتمثال هوميروس

    كان "رمبراندت فان رين" فنّانا شاملا لدرجة انه يصعب وضعه ضمن مدرسة أو اتّجاه فنّي معيّن. لكن الحركة التي تعكس موضوعاته وابتكاراته هي الباروك التي انتشرت في أماكن كثيرة من أوربّا طوال القرن السابع عشر. وقد تضاعفت سمعته باعتباره واحدا من أفضل رسّامي البورتريه في كلّ العصور.
    وعلى ما يبدو، كان رمبراندت مؤمنا إيمانا قويّا بالعبارة التي تقول "إعرف نفسك". وربّما لهذا السبب، لا يوجد فنّان آخر يمكن أن ينافس هذا الفنّان العظيم في عدد اللوحات التي رسمها لشخصه والتي تربو على التسعين.
    رمبراندت كان أمينا جدّا في تصويره لنفسه. ولم يكن دافعه لذلك شيئا من النرجسية أو الإعجاب بالذات. بل قد يكون اختار البورتريه لارتباطه بالرسم التاريخيّ الذي كان يوليه اهتماما خاصّا طيلة حياته.
    كان رسم البورتريهات يحظى بشعبية كبيرة في السوق التجارية في عصره. وكانت البورتريهات التي يرسمها مطلوبة كثيرا في هولندا.
    وأيّا ما كان الدافع وراء رسمها، فإن صور رمبراندت لنفسه كانت تمسك بأكثر من مجرّد السمات الجسدية الظاهرية التي كانت تتغيّر باستمرار مع انتقاله من مرحلة عمرية لأخرى. ويمكن القول أن تلك الصور هي عبارة عن سيرة ذاتية وروحية للرسّام. كما كانت أيضا بمثابة رحلة استكشاف داخلية، بالنظر إلى انه، وطول حياته، لم يبتعد عن بلدته الأمّ "ليدن" أكثر من بضعة أميال.
    حياة رمبراندت يلفّها الغموض لأنه لم يترك وراءه أيّة سجلات مكتوبة عن نفسه، باستثناء شهادات الميلاد والتعميد والزواج والموت. كما لم يترك وراءه أيّة مفكّرة أو مدوّنة شخصية. هناك فقط سبع رسائل تركها بعد وفاته وهي مكتوبة بخطّ يده ولها علاقة بالمعاملات اليومية الروتينية.
    ولكن عندما قام بجرد ممتلكاته قبيل وقت قصير من وفاته، أعلن رمبراندت نفسه معسرا. غير انه لم يترك سوى عدد قليل من الأدلّة حول شخصيّته. لكن على مستوى المهنة، خلّف هذا الفنّان الكبير وراءه تركة رائعة هي عبارة عن أكثر من 2300 لوحة، من بينها لوحتاه الرائعتان والمشهورتان درس في التشريح والحرس الليلي ، بالإضافة إلى بعض لوحاته عن نفسه وكذلك لوحته الأخرى أرسطو مع تمثال نصفيّ لهوميروس.
    اللوحة الأخيرة، أي أرسطو مع تمثال لهوميروس، هي موضوع هذا المقال. وقد كلّف رمبراندت برسمها الدون انطونيو روفو، النبيل الصقلّي وجامع القطع الفنّية. ولم يكن لدى الدون أيّة ملاحظات أو تعليمات محدّدة للرسّام، باستثناء أن يرسم فيلسوفا.
    أما اجتماع العقول الذي كشفت عنه اللوحة بعد ذلك فقد كان فكرة الرسّام نفسه. والمشهد هو عبارة عن مزيج من التاريخ والأسطورة، كما انه يتضمّن بصمات رمبراندت المألوفة: البساطة، الهدوء، الشخصيّة والتعاطف.
    وفي حين أن شخصيّتين حاضرتان في اللوحة بشكل واضح، إلا أن الشخصية الثالثة، أي الإسكندر الأكبر، يظهر بشكل غير مباشر، وبالتحديد على القلادة المزخرفة التي يرتديها أرسطو.
    الفيلسوف، أي أرسطو، يُصوَّر هنا كشخصية متميّزة. وهو يرتدي ملابس مزركشة وجميلة تذكّرنا بعصر النهضة. وهناك مرتبة اجتماعية معيّنة تظهر بعض علاماتها في أعمال رمبراندت الأخرى مثل بعض صوره الشخصية. وهذه العلامات حاضرة هنا أيضا في الملابس الأنيقة لأرسطو وفي يديه المزيّنتين بالخواتم.
    ورغم أن أرسطو لم يكن رجلا عسكريّا، إلا أنه يبدو هنا بكامل زينته. كما يمكن رؤية سلسلة وميدالية ذهبية يُفترض أن يكون الأمير المحارب، أي الاسكندر، قد انعم عليه بهما.
    أرسطو، الواثق من مكانته الخاصّة، يبدو مستغرقا في التفكير. وهو يضع يدا على التمثال، بينما يلقي نظرة متأمّلة على الشاعر المشهور من الأزمنة القديمة، أي هوميروس، وهو شخص كان محطّ إعجاب كبير من أرسطو وكان الكسندر أيضا يبجّله.
    هذا اللقاء المتخيّل بين ثلاث شخصيّات من العصور القديمة يُعتبر نوعا من لقاء العباقرة. وهو لا يُظهِر فقط ابتكارية الفنّان وتألّق تقنيته، ولكن أيضا أفكاره حول هذا الموضوع وافتتانه بفكرته.

    هوميروس نفسه أسطورة. الفترة التي عاش فيها كانت وما تزال محلّ نقاش بين المؤرّخين، بل إن وجوده في حدّ ذاته ظلّ محلّ شكّ من قبل الكثيرين. وقد قيل من باب الدعابة أنه لم يكتب الملحمة، ولكن كتبها شخص آخر يحمل نفس الاسم!
    لكن ما يزال الناس ينظرون لهوميروس على انه شاعر الإلياذة والأوديسّا. وهناك اعتقاد بأنه عاش قبل حوالي ثلاثة آلاف عام. وقد سبق زمنيّا ظهور البورتريه الواقعيّ. لكن صورته اختُرعت في وقت لاحق واستُنسخت بشكل متكرّر. وهو دائما ما يظهر على هيئة رجل أعمى وملتحٍ.
    ومن المرجّح أن رمبراندت اعتمد في "نمذجته" لهوميروس على تماثيل نصفية كانت في مجموعته الخاصّة يعود تاريخها إلى العصر الهلنستي.
    ظلمة وسكون الغرفة والوجود الخافت للكتب في خلفية اللوحة تُبرز الوجه المضاء والشخصيّة الوقورة للفيلسوف. كما أن تصويره كرجل من عصر النهضة، سواءً كان ذلك ترخيصا فنّيّا أو مفارقة تاريخيّة مقصودة، لا يمكن إلا أن يكون فكرة ملائمة كثيرا.
    كان أرسطو يعرف ويفهم في كلّ العلوم التي كانت سائدة في عصره والتي أسهم فيها، هو نفسه، بجهد أساسيّ. وكان يؤمن بأنه ما من علم لا يمكن بلوغه وأن كلّ العلوم مثيرة للاهتمام. كما كان يشعر بارتياح للفنون ويحتفي بها قدر احتفائه بالعلوم. وقد توقّف هذا الرجل الاستثنائيّ بتواضع أمام الشاعر المبجّل الذي تطرّق إلى أسرار الطبيعة الإنسانية.
    عالم هوميروس هو مكان للصراع والمحن والتحدّيات التي يُفترض بالبشر أن يُظهِروا أمامها القوّة والشجاعة والمثابرة. وكان عالمه أيضا مليئا بالدهشة والاكتشاف: نداءات غريبة، سفن محطّمة، كوارث طبيعية، آكلو لوتس وعمالقة وحوريّات بحر. كما تضمّنت ملحمتاه قصصا عن أشجع الرجال وأجمل النساء وأكثر الزوجات إخلاصا.
    وفي زمن أرسطو، كان هوميروس يرمز لخلود الفنّ. ورغم أنه تغنّى بالصراعات الأهلية القديمة، إلا أن كلماته تسمو على الموت بجمالها. ويمكننا أن نتخيّل انه كان شخصا فقيرا جدّا. كان يتجوّل في أرجاء اليونان مع قيثارته التي يعزف عليها في حفلات المساء مقابل مبلغ زهيد من المال. وكان هوميروس وفيّا لعبقريته، فلم يحقّق مالا من فنّه، وربّما لم يكن مهتمّا بشيء من ذلك.
    في صورة رمبراندت هذه، من الصعب سبر أغوار العينين المؤرّقتين اللتين تحاولان استكشاف مجمل المعرفة الإنسانية. لكن لأرسطو كتابا اسمه الأخلاق يتحدّث فيه عن التأمّل ويصفه بأنه أعلى أشكال السعادة والمتعة الأكثر ديمومة في الحياة.
    وعلى مرّ آلاف السنين، منذ هوميروس وألكسندر وأرسطو، فُُسّر التأمّل بطرق عديدة كدليل إلى الحياة، وكتب بعض الكتّاب نسخا حديثة من الأوديسّا. وبعد فترة طويلة من رسم رمبراندت لوحته هذه عن أرسطو وهوميروس، كتب نيكوس كازانتزاكيس نسخته الخاصّة من الأوديسّا.
    في ملحمة كازانتزاكيس، يدعو المؤلّف البشر المعاصرين للعمل معا ضدّ الشدائد وحتى ضدّ حتمية الموت. ثم لا يلبث أن يستغرق في لغة هوميروسية يقود من خلالها القارئ في تأمّل أرسطي. "لا أعرف ما إذا كنت سأرسو أخيرا. الآن أنجز عمل النهار. أجمع أدواتي: البصر والشمّ واللمس والذوق والسمع والعقل. ومع هبوط الليل، أعود مثل خُلد إلى بيتي الأرض، ليس لأني تعبت أو لا استطيع العمل، ولكن لأن الشمس شارفت على المغيب".
    إحدى أفضل الطرق في التفكير في تطوّر الثقافة بشكل عام، وفي تاريخ الحضارة الغربية بشكل خاصّ، هي المحادثة بين الأحياء والأموات. ومن الصعب أن نتخيّل تجسيدا أكثر شهرة واختصارا لهذه الفكرة من لوحة رمبراندت هذه غير العاديّة والمثيرة للإعجاب.
    و"أرسطو مع تمثال نصفيّ لهوميروس" هي واحدة من عدد قليل من الصور التي كُلف بها الرسّام من قبل زبون أجنبيّ. وقد أرسلت اللوحة من أمستردام إلى قصر روفو في ميسينا في صيف عام 1654. وكان السعر المتّفق عليه 500 غيلدر هولنديّ. وبعد مرور 300 عام، أي في عام 1961، ابتاع متحف المتروبوليتان للفنون في نيويورك اللوحة مقابل مليونين ونصف المليون دولار. ويقدّر خبراء السوق أن اللوحة، لو عُرضت للبيع اليوم، فستكسر حاجز الـ 100 مليون دولار بسهولة.

    Credits
    rembrandt-paintings.com
    popmatters.com

    الاثنين، ديسمبر 30، 2013

    علاقة الأشكال الفنّية بالحواسّ

    منذ القدم، كان يُنظر إلى حاسّة البصر على أنها النموذج في اكتساب المعرفة ومن ثمّ استيعابها من قبل العقل. أرسطو ركّز على هذا وقارن عملية التذكّر بالنظر إلى لوحة مرارا. وسان اوغستين قال إنه لا غنى عن البصر في التأمّل الروحي والفكري.
    ومع ذلك فالأساطير القديمة حافلة بأمثلة وصور عن القلق المتولّد من حاسّة البصر، مثل قصص نرسيس وميدوسا وأورفيوس. وفي أساطير أخرى، ترتبط حاسّة اللمس غالبا بالقوى الايجابية والواهبة للحياة، كما في أسطورة بيغماليون وبروميثيوس.
    أما أرسطو فقد حذّر من القوى الخطيرة المرتبطة بالوهم عند استخدام البصر. بينما أثنى، هو وتوما الاكويني، كثيرا على اللمس وقالا إن هذه الحاسّة هي أساس المعرفة التي يحصل عليها الإنسان من جميع الحواسّ.
    وهناك اليوم دراسات عديدة عن دور ووظيفة اللمس في أعمال فنّانين مثل سيزان وكاندنسكي والسورياليين.
    علماء الانثروبولوجيا وعلم النفس السلوكي والبيولوجيا بدءوا في تثمين حواسّ غير البصر في دراساتهم وتجاربهم. وبعض هؤلاء اقترحوا حاسّة الشمّ كبديل ممكن لما يرون انه مضامين أبوية لظاهرة التركيز على البصر في الثقافة المعاصرة.
    فولتير وديدرو ولوك قالوا إن اللمس حاسّة أساسية في اكتساب المعرفة التجريبية عن العالم وأن البصر ما هو إلا وسيلة ثانوية في تأكيد تلك المعرفة.
    في القرنين السادس عشر والسابع عشر ظهرت لوحات تصوّر انهماك أشخاص في لمس منحوتات، كما في لوحة الرسّام الاسباني جوسيبي دي ريبيرا (1591-1652) بعنوان "حاسّة اللمس" التي تصوّر رجلا أعمى يتفحّص بيديه تمثالا نصفيا بينما تستقرّ لوحة زيتية صغيرة بإهمال على طاولة بجانبه.
    وهناك لوحة أخرى لنفس هذا الرسّام بعنوان "النحّات الأعمى" تحمل نفس الفكرة، ويظهر فيها رجل أعمى وهو يتحسّس بيديه تمثالا نصفيّا.
    فكرة اللقاء بين رجل أعمى وعمل نحتي ظهرت أيضا في بعض الكتابات. في بداية القرن السابع عشر، مثلا، زعم كاتب ايطاليّ أن ميكيل انجيلو بعد أن تقدّمت به السنّ وضعف بصره كان يعتمد على اللمس وحده في الحكم على مزايا الأعمال النحتية القديمة أو المعاصرة. كما يقال أن الرسّام الفرنسي إدغار ديغا لجأ إلى النمذجة النحتية وأصبح يهتمّ بها أكثر من الرسم عندما بدأ بصره يضعف.
    لوحتا دي ريبيرا المشار إليهما آنفا كانتا ضمن سلسلة من اللوحات المشهورة التي خصّصها الفنّان لتناول الحواسّ الخمس. السلسلة تدفع المتلقّي للتفكير في دور الحواسّ وتأثيرها على الأفراد. وقد رسم اللوحات عندما كان يعيش في روما في وقت ما من القرن السابع عشر.
    في لوحة "حاسّة اللمس"، استدعى الرسّام مقارنة بين الصفات الوصفية واللمسية للرسم والنحت، أي بين الفرشاة والإزميل. وهو يبرهن على أنه من خلال حاسّة اللمس يمكن للرجل الأعمى أن يتعرّف على الأعمال النحتية.
    هذه اللوحة، من بين جميع لوحات السلسلة، مشهورة بشكل خاص بسبب سخريتها المزعجة. فالرجل الكفيف يقف وجها لوجه مع تمثال نصفي. وهو يريد أن يحسّ بالتمثال الرخامي ذي الأبعاد الثلاثة على الرغم من قربه منه، في حين أن اللوحة ذات السطح المستوي والموضوعة خلفه على الطاولة تذكّر الناظر أن هناك بعض المعلومات التي لا يمكن إيصالها حتى عن طريق اللمس.
    تذكّرنا هذه اللوحة مرّة أخرى بمحدودية الاتصال البشري وبالفجوة بين العالم الحقيقي وعالم الصور. الرأس المنحوتة قد تكون رأس ابوللو. أما الشخص الذي يتفحّصها فربّما يكون النحّات الايطالي الأعمى جيوفاني غونيللي، وقد يكون الفيلسوف الإغريقي كارنيديس الذي قيل انه كان يتعرّف على التماثيل النصفية من خلال تحسّسها ولمسها بيده وذلك بعد أن فقد حاسّة البصر. وقد كان من عادة الفنّانين آنذاك أن يربطوا صور الفلاسفة القدماء باستعارات عن الحوّاس.
    ترى هل أراد الرسّام أن يقول إن الإنسان الكفيف يمكن أن يتعرّف على النحت، بينما لا يمكن أن يتعرّف على الرسم سوى الإنسان المبصر؟ في ذلك الوقت كان يثور نقاش حول المنافسة بين الأشكال الفنّية من معمار ورسم ونحت وأدب وموسيقى. وبالتالي يبدو أن دي ريبيرا أراد من خلال اللوحة التأكيد على تفوّق الرسم على النحت.
    كان هذا الفنّان يرفض الرمز والاستعارة في أعماله ويتعامل مع ما يراه ويلمسه بنفسه. ويبدو أنه لم يخترع من مخيّلته أشخاصا يمثّلون كلّ حاسّة، بل فضّل أن يختارهم من الشارع ورسمهم من واقع الحياة.

    الفيلسوف الألماني يوهان هيردر (1744-1803) تحدّث مرّة عن فضائل النحت وخلع عليه هالة من الرومانسية عندما ميّز ما بين الرؤية واللمس. وقد روى هيردر عدّة قصص عن أشخاص مكفوفين ليبرهن على أننا نرى العمل النحتيّ كسطح ثلاثيّ الأبعاد لأننا كبرنا ونحن نستخدم حاسّتي اللمس والبصر في وقت واحد ومتزامن. ويضيف انه لولا حاسّة اللمس لكانت حاسّة البصر مجرّد حقل من الألوان والأشكال.
    وهو يرى بأن جوهر النحت شكل جميل ووجود فعليّ وحقيقة ملموسة. وعندما نفهم النحت على انه رؤية فقط، فإن هذا يُُعدّ تدنيسا للنحت واستهانة خطيرة بإمكانياته.
    وعلاوة على ذلك، دعا هيردر إلى الفصل ما بين الرسم والموسيقى، في ما بدا وكأنه اعتراض على أعمال فنّانين مثل كاندينسكي وموندريان اللذين قدّما لوحات "موسيقية"، وعلى أعمال بعض الملحّنين الرومانسيين الذين سعوا لرسم صور من خلال موسيقاهم.
    وهيردر يميّز ما بين الرسم والنحت. انه يربط الرسم بالرؤية وبعالم الأحلام، بينما يدّعي أن النحت هو مصدر الحقيقة. طبعا هو يقصد النحت الكلاسيكي الذي كان يعرفه في عصره. وبالتالي قد يتساءل المرء عمّا يمكن أن يقوله هيردر لو انه عاش إلى اليوم ورأى النحت التكعيبي الذي ابتعد كثيرا عن التمثيل الدقيق للأشكال في لحظة واحدة وأصبح ينظر إلى الأشياء ذات الحقائق المتعدّدة والمتحرّكة عبر الزمن، وكيف سيتعامل مع التقليلية مثلا ومع غيرها من الظواهر التي تؤكّد استحالة التنبّؤ باتجاهات ونزعات الفنّ.
    المعروف أن الرسّام جوسيبي دي ريبيرا كان تلميذا وتابعا لكارافاجيو. وقد قضى معظم حياته في روما وفي نابولي التي كانت في ذلك الوقت أعظم مدن ايطاليا ومركزا مهمّا للفنّ. وكان زملاؤه من الرسّامين الايطاليين يلقّبونه بالاسبانيّ الصغير.
    كانت مملكة نابولي وقتها جزءا من الإمبراطورية الإسبانية. وكانت تُحكم من قبل سلسلة من نوّاب الملك الإسباني. أصول دي ريبيرا الاسبانية أعطته الحقّ بأن يصبح مرتبطا بالطبقة الاسبانية الحاكمة في المدينة وبمجتمع التجّار الهولنديين فيها.
    كان الفنّان يرسم مثل معاصره وأستاذه كارافاجيو، وتحوّل بعيدا عن التقاليد والنماذج العتيقة والموضوعات المستوحاة من المثل الكلاسيكية العليا. ورسم بدلا من ذلك الحياة البشرية كما تبدو فعلا. وهي في كثير من الأحيان قبيحة وبشعة. وقد صوّر الفنّان كلّ هذا بواقعية كانت تصدم الجمهور وتروق له في الوقت نفسه.
    صور دي ريبيرا المروّعة عن التعذيب والمعاناة التي كانت تمارَس في زمانه كانت تحيّر الجمهور والنقّاد معا. وهو كان موهوبا في إظهار الرؤوس والوجوه والأيدي بطريقة اللمس. بنية الجلد والعظام في رسوماته واقعية بحيث أن العديد من مشاهده يمكن أن تؤذي مشاعر الأفراد ذوي الحساسية الشديدة.
    ومن الواضح أن دي ريبيرا لم يكن يقصد الإساءة لأحد. ولكن الوحشية لم تكن تصدّه عن تصوير مظاهرها وهو دائما ما كان يتبع مصادر إلهامه. وكان الجمهور قد أصبح معتادا على تصوير حزن الإنسان وبؤسه بتلك الطريقة.
    ولـ دي ريبيرا صورة أخرى مشهورة اسمها الشحّاذ العجوز الأعمى يظهر فيها رجل أعمى مسنّ مع مرشده الشابّ. وهذه اللوحة لها علاقة بفكرة التشرّد التي كانت رائجة في الأدب الإسباني آنذاك. لكن الرسّام أراد منها أساسا أن تكون موعظة عن الخيرية المسيحية.
    وقد استلهم موضوع اللوحة من رواية بعنوان حياة لازاريللو دي تورميس نُشرت لأوّل مرّة عام 1554 من قبل كاتب مجهول. بطلا الرواية هما رجل أعمى متسوّل وقاسي الطبع وصبيّ مراوغ يضطرّ باستمرار لأن يخدع سيّده كي يحصل على حصّة أكبر من الطعام والصدقات.
    وعلى الرغم من أن دي ريبيرا لم يعد أبدا إلى إسبانيا، إلا أن العديد من لوحاته أعيدت إلى هناك من قبل أعضاء الطبقة الحاكمة الإسبانية وعن طريق بعض التجّار. ويمكن رؤية تأثيره في فيلاسكيز وموريللو، بل وفي معظم الرسّامين الإسبان الآخرين من تلك الفترة.
    بعد وفاته، دخلت أعمال دي ريبيرا حيّز التجاهل والنسيان، ربّما بسبب سمعته التي كان يخالطها عنف وقسوة. فقد رسم أهوال الواقع ومظاهر توحّش البشر وأظهر انه يقدّر الحقيقة أكثر من المثالية.
    لكن بدأت إعادة تأهيل اسمه وفنّه من خلال معرضين أقيما لأعماله في لندن عام 1982 وفي نيويورك عام 1992. ومنذ ذلك الحين اكتسبت لوحاته المزيد من اهتمام النقّاد والدارسين.

    Credits
    archive.org
    artble.com

    الخميس، يونيو 20، 2013

    أنف ميكيل أنجيلو

    في عام 1490، كان لورينزو دي ميديتشي واحدا من أغنى وأقوى الرجال في فلورنسا. كان راعيا ومشجّعا للفنون ومشرفا على أكاديمية الفنون التي كان ميكيل أنجيلو احد تلاميذها.
    وفي احد الأيّام، وبينما كان يمشي في حديقة متحفه المسمّى سان ماركو، رأى لورينزو الشابّ ميكيل أنجيلو وهو يصنع نسخة من رخام لمنحوتة قديمة. وقد أعجب لورينزو كثيرا بعمل وتفاني الصبيّ لدرجة انه قرّر أخذه معه إلى قصره.
    وهناك خصّص لورينزو له غرفة، وأمر له بمكافأة وبأن تُلبّى جميع احتياجاته الضروريّة. كما أبدى اهتمامه بأن يتابع دراسته في النحت على نفقته.
    كان ميكيل أنجيلو معروفا بمزاجه الحادّ. وكان من عادته أن ينتقد الآخرين بطريقة هجومية وخاطئة. وفي ذلك الوقت، كان يُنظر إليه باعتباره النجم الجديد الساطع في سماء الفنّ، وكان هو يدرك ذلك جيّدا. زميله بييترو توريجيانو كان أيضا شخصا ذا مزاج عنيف، مع ميلٍ لاختلاق المعارك والشجارات مع زملائه.
    وفي احد الأيّام، وبينما كان الطلاب ينسخون لوحات جدارية في إحدى الكنائس، كان ميكيل أنجيلو منهمكا في انتقاد أعمال زملائه من الطلبة الآخرين. ويبدو أن توريجيانو لم يتحمّل قيام ميكيل أنجيلو بدور الأستاذ والناقد، فوجّه إلى أنف الأخير لكمة بلغ من قوّتها أنها حطّمت أنفه وشوّهت وجهه بشكل دائم.
    كان توريجيانو طالبا كبيرا في السنّ، وقد تسبّبت ضربته القويّة تلك في تغييب ميكيل أنجيلو عن الوعي لفترة. وعندما حمله زملاؤه إلى مقرّ إقامته لم يُبدِ الصبيّ أيّ استجابة، لدرجة أنهم خافوا من احتمال أن يكون قد أصيب بجروح قاتلة.
    غضِب لورينزو على توريجيانو عندما علم بأمر اعتدائه على ميكيل أنجيلو. وقد غادر الأخير فلورنسا خوفا من العواقب وتجنّبا لانتقام لورينزو.
    في ما بعد، قال توريجيانو لصديق واصفا ما حدث: كان ميكيل أنجيلو مواظبا على إزعاجي. وفي ذلك اليوم كنت أغلي غضبا من تصرّفاته وأفكّر في الانتقام. وقد استجمعت قواي وشددت على قبضتي ثمّ وجّهت له ضربة خاطفة على أنفه. في تلك اللحظة شعرت بأن العظم والغضروف ينهاران تحت قبضة يدي كما لو أنهما مصنوعان من رقاقة هشّة. تلك الوصمة التي ألحقتها به ستعيش معه وتصاحبه حتى يوم موته".
    استعاد ميكيل أنجيلو وعيه وعاد بعد فترة لمواصلة دراسته. لكن صورة وجهه المشوّه ظلّت تؤرّقه بقيّة حياته. وكان منزعجا بشكل خاصّ من ليوناردو دا فينشي، الذي كان أصغر منه سنّا. كان الشابّ ليوناردو يتمتّع بموهبة تشبه تلك التي لـ ميكيل أنجيلو. غير أن شكل وجه ليوناردو شبه المثاليّ أسهم في زيادة وعي ميكيل أنجيلو، وبطريقة مؤلمة، بحقيقة ما حدث لوجهه المحطّم.
    بعد مرور سنوات طويلة على الحادثة، كُلّف ميكيل أنجيلو برسم سقف كنيسة سيستين. وقد أنجز تلك المهمّة وهو مستلقٍ على ظهره ويتنفّس من خلال فمه. كان منظر أنفه مرعبا. كانت "مهروسة لدرجة أن جبينه أصبح متدليّا فوق فمه"، على حدّ وصف احد المؤرّخين من تلك الفترة. ومن الواضح أن اللكمة لم تكسر أنفه فحسب، وإنّما سحقتها.
    استمرّ ميكيل أنجيلو في إثبات تفوّقه في روما وفلورنسا إلى أن حقّق العظمة التي كان يستحقّها. أما توريجيانو فقد تابع مسيرته المهنيّة كنحّات، وكان معروفا طوال حياته بأنه الرجل الذي شوّه وجه الفنّان الكبير والمبجّل. وقد ذهب في ما بعد إلى انجلترا، وهناك حظي برعاية شخص كان مفتونا، هو الآخر، بالخصومة والقتال. ولم يكن راعيه الجديد سوى الملك الطاغية هنري الثامن.
    عندما تقدّمت به السنّ، عاش ميكيل أنجيلو منعزلا كما يعيش النُسّاك، ما عدا تلك الأوقات التي كان يتحتّم عليه فيها، بحكم طبيعة عمله كرسّام ونحّات، أن يتواصل مع الآخرين. وقد رسم لنفسه عددا من البورتريهات في فترات متفرّقة، كما نحت صورته كشخصيّة صغيرة على بعض الأعمال التي كُلّف بها.
    في انجلترا، ما لبثت حياة توريجيانو أن تغيّرت إلى الأسوأ. وفي عام 1522، ذهب ليعمل في إسبانيا. وفي اشبيلية، عكف على صنع منحوتة تمثّل العذراء وطفلها. غير أن الراعي الذي كلّفه بنحت تلك القطعة رفض أن يدفع له المبلغ المتّفق عليه. لذا وقع الفنّان فريسة للغضب مرّة أخرى وانقضّ على التمثال الرخاميّ وحطّمه. لكن لأنه أتلف صورة مقدّسة، فقد استدعته محاكم التفتيش للمثول أمامها، ثم لم تلبث أن حكمت عليه بالإعدام بعد اتهامه بالزندقة. وقد توفّي في ما بعد في السجن بعد أسابيع من قراره بالإضراب عن الطعام احتجاجا على الحكم.
    عندما توفّي ميكيل أنجيلو عام 1564 عن عمر يناهز التاسعة والثمانين، كان قد ترك إرثا يتضمّن بعض أعظم التحف الفنّية في العالم، بالإضافة إلى صورته التي استقرّت في أذهان الناس عنه باعتباره النحّات الخالد صاحب الأنف المكسورة.

    الأربعاء، مايو 15، 2013

    الأساطير واللغة 1 من 2

    وُجدت الأساطير مع الإنسان منذ آلاف السنين. وقراءتها تساعدنا على فهم الحياة والتجربة الإنسانية بشكل أفضل وتزيد معرفتنا بالماضي وبالكثير من الحضارات التي سادت ثم بادت. كما أنها تعلّمنا بأن هناك الكثير من الأديان والثقافات في هذا العالم، وبالتالي تجعلنا أكثر تسامحا وانفتاحا.
    بعض الأساطير أسهمت في صياغة الأديان وفي تشكيل تاريخ العديد من الأقوام والحضارات. وبعضها كان وما يزال مصدرا للكثير من الأعمال الشعرية والمسرحية والأدبية والموسيقية والفلسفية.
    الأساطير القديمة ما تزال تعيش معنا في ثقافتنا ونجد لها مرجعيات في العديد من المفردات والتعبيرات اللغوية المعاصرة.

  • موسيقى اورفيوس:
    أحيانا، تتردّد على الألسن عبارة "الموسيقى تروّض الوحوش"، في إشارة إلى ما للموسيقى من قوّة في إثارة مشاعر الإنسان بل وحتى الحيوان.
    العلم الحديث يشير إلى أن الموسيقى تعمل على مستوى أعمق في الدماغ، وهو أمر ما يزال تفسيره إلى اليوم لغزا. وهناك من العلماء من يتحدّث عن القوّة الغريبة للموسيقى في استحضار تجارب وحالات تقصر عنها غيرها من الفنون.
    عبارة "الموسيقى تروّض الوحوش" مستوحاة من الأسطورة اليونانية القديمة عن أورفيوس، الموسيقيّ الذي أحبّه أبوللو إله الموسيقى. هذه الأسطورة، مع العديد من الأساطير الأخرى، تشهد على أن موسيقى أورفيوس كانت قادرة على تهدئة أكثر الحيوانات عنفا وتوحّشا.
    الموزاييك الرومانيّ يصوّر أورفيوس وهو يعزف على القيثارة بينما يحيط به في جوّ من الوئام حشد من الحيوانات التي كثيرا ما يعادي بعضها بعضا في الأحوال الطبيعية. تشير الأسطورة إلى أن اورفيوس عندما يغنّي كان يستدرج البشر والحيوانات المتوحّشة والأنهار وحتى الصخور الصمّاء كي تتبعه وتقتفي أثره. ذات مرّة، عندما كان يعزف موسيقاه الشجيّة في الغابة، اقتلعت أشجار السنديان نفسها من جذورها وتبعته وهو يهبط إلى سفح الجبل ثم غرست نفسها على شاطئ البحر في المكان الذي أنهى اورفيوس أغنيته عنده. وعندما مات في نهاية الأسطورة بكت الطيور على أطراف التلال وأسقطت الأشجار أوراقها أسفاً وفاضت الأنهار بمياهها حزنا على رحيله.
    القيثارة في هذه الأسطورة ترمز إلى تقدير الموسيقى والفنون. والآلهة والبشر الذين يحملون هذه الآلة يتميّزون غالبا بإحساسهم العالي ورهافة مشاعرهم. وإذا رأيت صورة لشخص وسيم يحتضن هذه الآلة الوترية الصغيرة، فهناك احتمال كبير بأنه إمّا أبوللو أو اورفيوس، وهما أكثر الشخصيات في الأساطير الإغريقية ميلا إلى الموسيقى. أمّا إن سمعت ذات يوم موسيقى حزينة تتحدّث عن حبّ ضائع أو بلا أمل، فاعلم أن روح اورفيوس هي من ألهمت صاحبها ذلك اللحن.
    اورفيوس، كشخصية رمزية، يرتبط بالموسيقى والحزن وبعدم قدرته على نسيان حبّه لزوجته يوريديسي. وليس من المستغرب أن نرى حضوره في العديد من المعالجات الحديثة لهذه القصّة. فهو موجود، على سبيل المثال، في فيلم اورفيوس الأسود وفي لوحة كميل كورو وفي موسيقى جاك اوفنباخ وفي تمثال رودان ، بالإضافة إلى عشرات الأعمال الأدبية والفنّية والمسرحية.

  • لمسة ميداس:
    في الأسطورة، كان ميداس ملكا على فريجيا، وهي منطقة تقع اليوم في تركيا. كان هذا الملك معروفا بحماقته وجشعه. كان شخصا ثريّا جدّا وكان يعيش في قصر فخم مع ابنته الوحيدة. متعته الأولى كانت جمع الذهب وهاجسه الدائم كان تكديس المال. وقد اعتاد على أن يمضي أيّامه في إحصاء ثروته من النقود الذهبيّة.
    لكن ذات يوم، مرّ بمملكته دايونيسيس إله الخمر والمجون. فدعاه ميداس إلى قصره كي يقوم بواجب إكرامه. ومن باب ردّ الجميل، عرض عليه دايونيسيس أن يحقّق له أمنية، وحثّه على أن يفكّر جيّدا في نوعيّتها. فتمنّى ميداس أن تتوفّر له القدرة على تحويل كلّ شيء يلمسه إلى ذهب. ووعده دايونيسيس أن يحقّق له أمنيته تلك اعتبارا من اليوم التالي.
    وفي صباح ذلك اليوم، استيقظ ميداس من نومه مبكّرا كي يتأكّد أن أمنيته أصبحت حقيقة. ومدّ يده ليلمس طاولة فتحوّلت فورا إلى ذهب. وغمره شعور بالفرح والسعادة لما حدث. ثمّ لمس كرسيّا وسجّادة وباباً فتحوّلت جميعها إلى ذهب. ثمّ جلس إلى المائدة لتناول الإفطار ومدّ يده إلى وردة كي يشمّ عبيرها فتحوّلت في الحال إلى ذهب. وبعد قليل جاءت ابنته الحبيبة لتطوّقه بذراعيها فلم تلبث أن تحوّلت إلى تمثال من الذهب. عندها هبّ ميداس من مكانه مذعورا وسارع من ساعته إلى دايونيسيس ملتمسا منه أن يبطل مفعول تلك الأمنية.
    شعر دايونيسيس بالحزن لما حلّ بميداس وقال له: عليك أن تذهب الآن إلى نهر باكتولوس وتغسل يديك من مائه. وذهب الملك إلى النهر وفعل ما طُلب منه. وعندما عاد إلى قصره كان كلّ شيء قد عاد إلى طبيعته الأولى. ومن يومها تغيّر ميداس كثيرا وصار شخصا آخر. أصبح إنسانا كريما يعطف على الآخرين ويتحسّس همومهم ومشاكلهم. وعاش شعبه حياة مرفّهة بعد أن قرّر أن يقاسمهم ثروته الطائلة.
    أمنية ميداس لم تكن في الواقع نعمة وإنّما لعنة. وجشع الملك يدعونا لأن ندرك قيمة السعادة الحقيقية وأن نفكّر في العواقب التي قد تقودنا لأن نصبح عبيدا لرغباتنا الأنانية. الثراء قد لا يجلب السعادة بالضرورة وقد لا يحلّ كلّ المشاكل، لأن الثروة قد تخلق مشكلات من تلقاء نفسها.
    هذه الأيّام عندما نقول إن لشخص ما لمسة ميداس، فإننا نعني أنه يملك ثروة كبيرة، أو انه ناجح في جميع مشاريعه الماليّة وأن كلّ ما يفعله مضمون الربح. لكن يمكن أن يكون لهذه العبارة معنى ساخر، انطلاقا من حقيقة أن لمسة ميداس كانت في واقع الأمر نقمة أكثر ممّا هي نعمة.


  • صخرة سيزيف:
    من التعبيرات المتداولة والمستندة إلى أساطير عبارة "مهمّة سيزيفية" التي تشير إلى عمل مضنٍ ومستعصٍ وعبثيّ وليست له نهاية. في الأساطير اليونانية، كان سيزيف ملكا على كورينث وكان فخورا جدّا بذكائه وخداعه الذي لا ينتهي للآلهة وللبشر، وإغوائه لابنة أخيه وخرقه لقانون إكرام الغرباء بقتله الضيوف.
    كلّ هذه الانتهاكات الفادحة استوجبت عقابه وذلك بوضعه في تارتاروس، وهي أسفل درَك من الجحيم. مهمّة سيزيف الأبدية هناك كانت تلزمه بدحرجة صخرة إلى قمّة جبل. وعندما يصل إلى القمّة تتراجع الصخرة إلى أسفل الجبل، وبالتالي كان عليه دائما أن يبدأ من جديد في دفع الصخرة إلى قمّة الجبل في مهمّة لا تنتهي أبدا.
    هذه العقوبة كانت إحدى أكثر العقوبات ترويعا التي يمكن أن تواجه إنسانا. ولحسن الحظ، فإن أحفاد سيزيف لم تلاحقهم تلك اللعنة. فحفيده المسمّى بيلليروفون كان البطل الذي قتل وحش الشيميرا بمساعدة كلّ من أثينا وبيغاسوس الجواد المجنّح.
    سيزيف، ببعديه الوجودي والمأساوي، نجده اليوم في رواية يوم في حياة إيفان دينيسوفيتش للكاتب الروسي الكسندر سولجينِتسين وفي كتاب أسطورة سيزيف لـ البير كامو. كامو أضفى على سيزيف مسحة نبل ورأى أن حكايته تلخّص مصير الإنسان المعاصر الذي يصحو في الصباح ليذهب إلى عمله ثم يعود في المساء إلى بيته، وفي اليوم التالي يكرّر نفس ما فعله في اليوم السابق.. وهكذا.
    لكن سيزيف، حسب كامو أيضا، كان يمرّ بمرحلة من مراحل تطوّر الوعي، فقد تقبّل مهمّته على الرغم من عبثيّتها لأنها سمحت له بأن ينمو وأن يتعلّم. لقد عرف سيزيف مصيره وتقبّله، وبإمكان البشر أن يتعلّموا منه فيقبلوا أقدارهم.
    يقول البير كامو في كتابه: إن أسوا مصير يمكن أن يواجهه الإنسان هو أن يجد نفسه مسجونا في وجود عبثيّ، لكنه يجهل عبثيّته. لذا فإن سيزيف بعد أن أدرك عدمية مصيره كان يحقّق انتصارا صغيرا في كلّ مرّة يدفع فيها بالصخرة إلى قمّة الجبل. كان قد فهم عدم جدوى عمله ولم يعد منشغلا بمحاولة أن يجد معنى لما يقوم به.

  • صندوق باندورا:
    كثيرا ما نقول لشخص ما على سبيل التحذير: لا تفتح هذا، انه صندوق باندورا"، ما يعني أنه لو فعل هذا الشيء فستكون النتائج وخيمة بحيث لا يمكن تجنّبها أو إبطالها مفاعيلها.
    هيسيود، الشاعر الروماني، كان المصدر الأساسيّ لقصّة باندورا. وأصل الأسطورة أن زيوس كبير الإلهة أمر هيفيستوس زوج افرودايت بأن يصنع له، أي لـ زيوس، ابنة. وقد صنع له امرأة جميلة وأسماها باندورا. كانت باندورا عبارة عن هديّة جميلة شارك جميع الآلهة في تشكيل ملامحها. وكانت أوّل امرأة تُخلق على الأرض في عالم كان حتى ذلك الوقت مقتصرا على الآلهة والرجال فقط.
    وأرسل زيوس ابنته باندورا إلى الأرض لتتزوّج ابيميثيوس، وهو رجل مهذّب ووحيد. لكن كان لـ ابيميثيوس أخ اسمه بروميثيوس، وكان زيوس حانقا على الأخير لسرقته النار وإعطائها للبشر دون إذن من زيوس.
    وقبل أن يرسل زيوس باندورا إلى الأرض أعطاها صندوقا له قفل ثقيل وأخذ منها وعدا بألا تفتح ذلك الصندوق أبدا. غير أنها كانت امرأة فضولية وأرادت أن تعرف ما بداخل الصندوق.
    وفي إحدى الليالي، وبينما كان زوجها نائما، سرقت منه المفتاح وفتحت الصندوق. ومنه خرجت إلى العالم كافّة الشرور والآفات التي لم يخبرها البشر من قبل، كالأمراض والكراهية والحسد والجريمة والألم والموت والحزن.
    عندما فتحت باندورا الصندوق لم يكن ذلك الفعل يعبّر عن خبث أو سوء طويّة. كانت فقط تمارس فضولها، لأنها عندما رأت ما حدث سارعت إلى إغلاق الصندوق ولكن بعد فوات الأوان.
    باندورا هي النسخة اليونانية من حوّاء التي حُذّرت بألا تأكل التفّاحة. حوّاء أيضا كانت جميلة وفضولية ولم تستطع مقاومة أكل الفاكهة المحرّمة. ونتيجة لذلك طُردت هي وآدم من الجنّة التي أصبحت فردوسا مفقودا لأن ذرّية آدم وحوّاء، أي البشر، عانوا من الآثار السلبية لذلك الفعل، أي الألم والخطيئة والموت. لقد حُرم البشر وإلى الأبد من نعمة الخلود وأصبح يتعيّن عليهم أن يناضلوا وأن يعانوا من مشاكل ومشاقّ الحياة.
    ومن الواضح أن هاتين القصّتين توفّران مبرّرا جيّدا للرجال لأن يلوموا النساء ويحمّلوهنّ المسئولية عن كافّة الشرور والمصائب التي حلّت بالأرض.
    سيغموند فرويد ذهب إلى أن صندوق باندورا يرمز إلى أعضاء الأنثى التناسلية، وأحيانا إلى الأخطار والرغبات والمخاوف المكبوتة في اللاوعي. والأدباء والشعراء، مثل فولتير وغوته، رأوا في باندورا معنى مجازيّا يتمثّل في أن جمال الأنثى غالبا ما يخفي ميلها إلى الخداع والتدمير.
    أسطورة صندوق باندورا تنطوي في أصلها على تحذير للبشر بأن لا يحشروا أنوفهم في ما لا يخصّهم. وهذه الأيّام أصبحت العبارة تُستخدم للإشارة إلى أن عملا ما، مهما بدا صغيرا وبلا أهميّة، يمكن أن يؤدّي إلى نتائج قويّة ومؤلمة وذات آثار بعيدة المدى، وأن تَرْك وضع ما على حالته الراهنة قد يكون أفضل كثيرا من تغييره. من قبيل هذا، أن تسمع تصريحا لوزير أو مسئول في بلد ما يؤكّد فيه انه لن يناقش مسألة معيّنة لأنه لا يريد أن يفتح "صندوق باندورا"، ما يعني أن مناقشة تلك المسألة يمكن أن تؤدّي إلى نتائج وخيمة وغير متوقّعة.