:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات ليست. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ليست. إظهار كافة الرسائل

الثلاثاء، يوليو 11، 2017

رحلة مع اللون والنغم


العلاقة المتبادلة بين الرسم والموسيقى معروفة منذ القدم. وهناك العديد من المؤلّفات الموسيقية المشهورة المستوحاة من لوحات تشكيلية. مثلا، استلهم الموسيقي الروسيّ موديست موسورسكي مُتواليته الموسيقية بعنوان صور في معرض من عشر لوحات للرسّام الفرنسيّ فيكتور هارتمان كان قد رآها في احد المعارض الفنّية في سان بطرسبورغ عام 1874.
كما استوحى سيرغي رحمانينوف موسيقاه بعنوان جزيرة الموتى من لوحة للرسّام السويسري ارنولد بوكلين بنفس الاسم . بوكلين في لوحته، ذات النسخ الخمس، يصوّر جزيرة صخرية مقفرة يحيط بها الماء من كلّ جانب. وأمام بوّابتها يتحرّك قارب صغير تقف في مقدّمته امرأة ترتدي ملابس بيضاء، وأمامها تابوت زوجها الملفوف بأردية بيضاء.
وفي وسط الجزيرة تظهر مجموعة من أشجار السرو التي تذكّر عادة بطقوس الحداد وأجواء المقابر. والانطباع الذي توصله الصورة هو الخراب واليأس والترقّب. وقد نقل رحمانينوف هذه المشاعر والأجواء في موسيقاه بعد أن رأى اللوحة.
وهناك أيضا الموسيقى المسمّاة ثلاثية بوتيتشيلليانو والتي ألّفها الموسيقيّ الايطاليّ اوتوريني ريسبيغي في مارس من عام 1927. وهي عبارة عن متوالية من ثلاثة حركات، تعتمد كل واحدة على لوحة من لوحات رسّام عصر النهضة الايطالي ساندرو بوتيتشيللي. وقد خصّص الحركة الأولى منها لتعبّر عن أجواء لوحة بوتيتشيللي المسمّاة الربيع ، بينما خصّص الحركة الثالثة لـ مولد فينوس .
كما استلهم الموسيقيّ الفرنسيّ كلود ديبوسي موسيقاه بعنوان البحر من اللوحة المشهورة الموجة الكبيرة قبالة شاطئ كاناغاوا للرسّام اليابانيّ كاتسوشيكا هوكوساي (1831 ).
وفي عام 1857، ألّف فرانز ليست معزوفة بعنوان معركة الهون بعد أن رأى لوحة الرسّام النمساويّ وليم فون كولباك بنفس الاسم.
لوحة كولباك تصوّر معركة وقعت عام 1451 بين جيوش الهون بقيادة اتيلا من جهة وبين التحالف الرومانيّ بقيادة الجنرال فلافيوس اييتيوس وملك القوط ثيودوريك من جهة أخرى. ويقال أن تلك المعركة كانت ضارية جدّا، لدرجة أن أسطورة تقول أن أرواح المحاربين استمرّت تتقاتل في السماء بينما كانت في طريقها إلى العالم الآخر.
بالمقابل، هناك رسّامون أنتجوا صورا استوحوها من أعمال موسيقية. مثلا، استلهم الرسّام موريتز فون شويند لوحته سيمفونية من موسيقى فانتازيا للبيانو لبيتهوفن . وقد تخيّل الرسّام لوحته كجدار لغرفة الموسيقى الخاصّة ببيتهوفن، ونسج في كلّ جزء من لوحته قصّة حبّ تتناغم مع جوّ كلّ حركة من حركات تلك الموسيقى.
ومن المثير للاهتمام أن فون شويند استلهم بعض لوحاته الأخرى من موسيقى شوبيرت. كان من عادة هذا الرسّام أن يسجّل في صوره مراحل معيّنة من حياته، وقد اسماها "صور سفر".
لوحته المشهورة الوداع عند الفجر صوّر فيها بطريقة شاعرية رحيله عن فيينا قبل ذلك التاريخ بثلاثين عاما. لكن في نفس الوقت كانت اللوحة ترجمة الرسّام لأحد مقاطع شوبيرت في موسيقاه رحلة الشتاء والذي يردّد فيه الشخص المتجوّل جملة تقول: أتيت غريبا .. وغريبا أرحل".
موسيقى شوبيرت هذه هي نوع من الميلودراما الغنائية. والصوت الشاعريّ هو مركز الثقل فيها، بينما تجسّد نغمات البيانو لاوعي المتجوّل الذي يقدّم تصويرا للعالم الخارجيّ.
ولوحة شويند تمسك بتلك اللحظة المصيرية والغامضة التي يلتفت فيها المتجوّل إلى الوراء، وربّما إلى الأمام في نفس الوقت. والمعروف أن الرسّام كان عاشقا للموسيقى وصديقا مقرّبا من شوبيرت. ومن الواضح أن تلك العلاقة أسهمت في صوغ تطوّره الروحيّ والإبداعيّ كرسّام.
وهناك أيضا لوحة لفريدريك ليتون اسمها أغان بلا كلمات . وقد رسمها بعد أن استمع إلى قطعة للموسيقي الألماني فيليكس ماندلسون بنفس العنوان.
كما رسم الفنّان الهولندي بيت موندريان لوحة اسماها برودواي جاز وملأها بالخطوط الصفراء والمربّعات الحمراء والزرقاء والبيضاء. وكان غرضه أن يخلق إيقاعا يشبه ديناميكية موسيقى الجاز التي سمعها لأوّل مرّة بعد أن وصل إلى نيويورك مهاجرا في سبتمبر من عام 1940م.

Credits
petermedhurst.com

الخميس، يونيو 02، 2016

عصر تولستوي وتشايكوفسكي


يزخر الرسم الروسي بالعديد من بورتريهات الكتّاب والموسيقيين والممثّلين ورعاة الفنّ في روسيا. وبعض تلك البورتريهات يعود تاريخها إلى زمن آخر القياصرة، ثمّ الثورة والعهود التي تلتها.
أحد الكتّاب تأمّلَ في صور هذه الشخصيات الروسية واكتشف انه يندر أن ترى واحدا منها وهو يبتسم. ربّما كان هناك اعتقاد شائع بأن البورتريه مثل الحديث المتوتّر بين الرسّام وجليسه، يمكن أن يقرّبنا من الموضوع أكثر ممّا تفعله الصور الفوتوغرافية الحديثة. وهذا أحيانا صحيح.
في البورتريه الذي رسمه فاسيلي بيروف لدستويفسكي نقف وجها لوجه مع الروائيّ الكبير. وهو في الصورة يبدو في حالة انحناء ويرتدي جاكيتا بنّيّ اللون، نظراته منسحبة وبعيدة، بينما أصابعه متشابكة. الضوء يلمع على جبينه الفتيّ. وعلى شعره ولحيته ونظراته المتحفّظة ثمّة إحساس بالإنهاك وتركيز داخليّ مثير للاهتمام.
كان دستويفسكي في ذلك الوقت ما يزال يعيش ذكريات اعتقاله المريرة قبل ثلاثين عاما عندما كان في الثامنة والعشرين من عمره على خلفية انتسابه لجماعة بتراشيفسكي الراديكالية. وقد سيق إلى معسكرات العمل الشاقّ في سيبيريا واُجبر على الخدمة في الجيش، وهو ما أدّى إلى انهيار صحّته وجرح روحه.
لكنه مع ذلك استمرّ يكتب ولم تنكسر إرادته أبدا. في هذه الصورة لا يمكنك أن ترى شيئا من آثار المعاناة على وجه وعيني دستويفسكي لأن بيروف منحه خصوصية كاملة. لكن بإمكانك أن ترى وتلمس إحساسه بالأسى وبالمرارة الداخلية. في ذلك الوقت، لم يكن دستويفسكي قد كتب "الجريمة والعقاب". لكن البورتريه ينبئ عن ذلك المستقبل.
ومن أشهر الصور الروسية الأخرى ذلك البورتريه الذي رسمه نيكولاي جي لتولستوي عام 1884، ويبدو فيه الروائيّ المشهور منحنيا على طاولته ومنكبّا على الكتابة وكأنه لا يشعر بالرسّام الذي يجلس بالقرب منه.
وهناك أيضا لوحة ايليا ريبين التي رسمها لتورغينيف الذي يبدو في الصورة عجوزا بأنف متورّمة وشعر أشيب. كانت علاقة تورغينيف بريبين مفعمة بالثقة. نظراته القاسية تفاجئنا كما لو أننا مذنبون بنفس درجة ذنب الرسّام المتطفّل. وهذا يثبت كيف أننا يمكن أن نحكم على الصور مدفوعين بأفكارنا المسبقة عن أصحابها. كما أن هذا يطرح سؤالا عن مدى كون هذه الصورة حقيقية.
وهناك أيضا البورتريه الذي رسمه يوسف براس لأنطوان تشيكوف. وقد رسمه الفنّان عام 1898، أي عندما كان تشيكوف في ذروة عطائه ككاتب مسرحيّ. وفي السنة التالية مُثّلت مسرحيّته "العمّ فانيا" على المسرح لأوّل مرّة.
تشيكوف يرتدي هنا ملابس مرتّبة، مع ياقة بيضاء وبذلة رمادية. وهو يجلس كما لو انه يريد أن يحكم علينا محاولا استنطاق ما بدواخلنا، بينما يصرّ على أن لا يكشف لنا عن شيء من دخيلته.
تشيكوف هنا لا يبدو كاتبا بقدر ما يبدو طبيبا "وهي مهنته الأصلية" يصغي باهتمام إلى مرضاه ويشخّص عللهم ويصف لهم الدواء المناسب. كان وقتها في الثامنة والثلاثين، وأمامه فقط ستّ سنوات ليعيشها.


والحقيقة أن معظم هذه الشخصيات توفّيت في سنّ مبكّرة. ومعظمها ملامحها أوربّية أكثر منها آسيوية.
ومن أشهر البورتريهات الروسية الأخرى لوحة فالنتين سيروف للمؤلّف الموسيقيّ رمسكي كورساكوف. والموسيقيّ يبدو هنا جالسا وسط فوضى من عشرات الكتب.
وهناك أيضا واحدة من أقوى الصور، وهي لوحة ريبين التي رسمها للموسيقيّ المعروف موديست موسورسكي عام 1881، وقبل وقت قصير من وفاة الأخير. موسورسكي يبدو في الصورة بأنف حمراء وعينين صافيتين.
الرسّام ايليا ريبين، بمقاربته الحسّاسة والفائقة لكلّ جلسائه الذين رسمهم، هو بطل البورتريه الروسيّ بلا منازع. كان ريبين ابنا لجنديّ من اوكرانيا. وخلفيّته ليست ممّا يثير الاهتمام.
لكنه صنع لنفسه سمعة طيّبة في سانت بطرسبورغ التي رسم فيها أعمالا مشهورة مثل تلك اللوحة التي يظهر فيها أشخاص يجرّون قاربا. ورغم أن من كلّفه برسم اللوحة كان رجلا من عائلة الإمبراطور، إلا أنها فُسّرت على أنها هجوم على سوء معاملة العمّال وعلى الظلم الاجتماعيّ ككلّ.
وبعد ابتعاثه إلى فرنسا التي رسم فيها تورغينيف، عاد ريبين إلى روسيا واستمرّ يرسم بنفس الأسلوب الروسيّ المتميّز.
في لوحات ايليا ريبين مرح وتعاطف وتفهّم. كما أنها تحتوي على الكثير من الدفء، مثل لوحته التي رسم فيها عازفة البيانو الجميلة صوفي مينتر، تلميذة فرانز ليست اللامعة.
وبراعته أيضا تتجلّى في رسمه للبارونة فارفارا فون هيلدنباندت بخمارها وقبّعتها الغريبة. وقد رسمها باستمتاع يمكن أن تشعر به من طريقته في تصوير السلسلة المتدلّية حول ذراعها وفي طيّات بلوزتها القرمزية.
كلّ هذه البورتريهات وغيرها من صور العباقرة الروس ليست سوى جزء من المجموعة الفنّية التي راكمها تاجر الأقمشة بافيل تريتيكوف والتي أصبحت من مقتنيات المتحف الذي يحمل اليوم اسمه.
وهناك عنصر مهمّ يمكن إضافته إلى هذه القصّة، ويتمثّل في الصداقة التي ربطت تريتيكوف والرسّام ريبين الذي لم يكن يرسم له فحسب، وإنما كان ينصحه بالاستعانة بفنّانين آخرين.
وقد رسمه ريبين أمام مجموعته كي يتذكّره الناس بعد وفاته. وفي تلك الصورة يظهر تريتيكوف كشخص مختلف ومتحفّظ ومعروف بعاطفته العائلية ومحبّته للأدب والموسيقى والمسرح والرسم.
كان تريتيكوف حريصا على أن تضمّ الصور في متحفه كافّة نجوم روسيا. وقد بدا إصراره واضحا من خلال قصّته مع بورتريه الموسيقيّ موسورسكي.
كان هذا الأخير قد وصل إلى ذروة شهرته في العام 1874 عندما انتهى من تأليف أوبرا بوريس غودونوف ومتتابعة البيانو بعنوان صور في معرض . لكن بعد فراغه من كتابة هذين العملين، أدمن موسورسكي على الشراب لأيّام.
وفي عام 1881 اُدخل المشفى لعلاجه من الإدمان. وعندما سمع تريتيكوف بأن حالته خطيرة، أرسل إليه ريبين كي يرسمه. وكان على حقّ، فما أن انتهى الرسّام من آخر جلسة رسم حتى كان موسورسكي قد مات وهو في سنّ الثانية والأربعين.
كان ريبين يصف موسورسكي بأنه موهوب بالفطرة ومحارب قروسطيّ، مع مظهر بحّار من البحر الأسود . وهو، أي ريبين، لم يتقاضَ أجرا على تلك اللوحة، بل فضّل أن يتبرّع بأجره لإقامة نصب تذكاريّ للمؤلّف الموسيقيّ.
هناك أيضا بورتريهان آخران مهمّان في مجموعة تريتيكوف، الأوّل للشاعر نيكولاي غوميليف المقتول عام 1921 بسبب أنشطته الثورية، والثاني لزوجته الشاعرة المعروفة آنا أخماتوفا. وقد رسمت البورتريهين الفنّانة اولغا كاردوفسكايا بأسلوب رمزيّ يذكّر بأسلوب إدفارد مونك.
وبورتريه الشاعرة يبدو أفضل لأننا نعرف من هي. وتبدو جالسة بكبرياء، بينما تظهر خلفها سماء لامعة. وقد رُسمت أخماتوفا عام 1914 بعد حياة حافلة تعرّضت خلالها للمراقبة والمطاردة. لكن هذا لم يقتل شعرها ولم يُخرس معارضتها الشجاعة للفظاعات التي رأتها.

Credits
theguardian.com
ilyarepin.org

الأحد، أبريل 19، 2015

خواطر في الأدب والفن

تيشيان: شمس بين الأقمار


ولد الرسّام الايطالي تيشيان في بلدة كادوري الايطالية لعائلة نبيلة. وعندما بلغ العاشرة أظهر ميلا للفنون والرسم، فأرسله والده إلى بيت احد أعمامه في فينيسيا. وقد استطاع الأخير أن يلمس محبّة الصبيّ للرسم، فعهد به إلى الرسّام البارع والمشهور جدّا وقتها جيوفاني بيلليني.
في ذلك الوقت، كانت فينيسيا أغنى مدينة في العالم، وكان الرسم فيها مزدهرا كثيرا. كانت صناعة الرسم في هذه المدينة تضمّ رسّامين وباعة أصباغ وصانعي زجاج وناشري كتب وخبراء ديكور وصانعي أدوات خزفية وما إلى ذلك.
عندما أصبح تيشيان رسّاما يُشار إليه بالبنان، كان من بين تلاميذه جورجيوني. لكن عندما صار عمل التلميذ غير مختلف عن عمل أستاذه، قرّر جورجيوني انه لم يعد راغبا في أن يكون تلميذا لتيشيان واختطّ لنفسه طريقا آخر مختلفا.
لكن تيشيان لم يلبث أن تفوّق على معاصريه في مدرسة فينيسيا للرسم مثل تنتوريتو وفيرونيزي ولوتو. بل لقد تجاوز حتى القيود الثقافية والفنّية لعصر النهضة وأصبح معروفا باعتباره مؤسّس الرسم الحديث الذي هيمن هو عليه خلال حياته الطويلة. وقد عُرف على وجه الخصوص بابتكاريّته واستخدامه البارع للألوان.
وأجمل لوحات تيشيان مستوحاة من الأساطير التي كان يشبّهها بالشعر البصري. ولوحاته تلك تصوّر ضعف وهشاشة الإنسان بأسلوب يتّسم بالرقّة والغنائية.
في إحدى المرّات، وبناءً على تكليف من ماري ملكة المجرّ، رسم تيشيان مجموعة من أربع لوحات تصوّر شخصيات ملعونة في الأساطير: تيتيوس وسيزيف وتانتالوس وليكسيون. وجميع هؤلاء محكوم عليهم باللعنة وبالعذاب الأبديّ لإثارتهم غضب الآلهة.
ومثل ما فعل أسلافه الذين كانوا يرسمون على أواني الزهور، رسم تيشيان في إحدى هذه اللوحات "فوق" البطل الأسطوري سيزيف ببنية قويّة ومفعمة بالحياة، كما أظهره عَزوماً ثابت الخطى.
في اللوحة، كلّ جسد سيزيف منشغل ووجهه مشدود بفعل الثقل الذي يحمله. وهو لا يدفع بالصخرة لأعلى التلّ، وإنما يحملها فوق كتفه بحسب ما ذكره أوفيد في كتاب التحوّلات، وهو عمل أدبيّ كان مألوفا كثيرا لتيشيان، بل وربّما كان نموذجه الصوريّ.
سيزيف يبدو أنه كان شخصا حكيما، وربّما كان نموذجا للإنسان الذي ينافس الآلهة. تقول القصّة أن سيزيف، عندما حضره ملك الموت، قام بخداعه ثم أحكم وثاقه. ونتيجة لذلك، ولفترة من تاريخ الإنسانية، لم يكن احد من البشر يموت، إلى أن تدخّل زيوس كبير الإلهة وأعاد الأمور إلى نصابها.
الروح المتمرّدة وحبّ الحياة هما سمتان إنسانيّتان ضروريتان، وسيزيف كان يجسّدهما. ورغم كلّ الظلام والعدمية في العالم، فقد تخيّل تيشيان سيزيف وهو يقوم بمهمّته تلك إلى قمّة الجبل بعزيمة وثبات.
البير كامو، الكاتب والفيلسوف الفرنسيّ، اختصر القصّة في أن الصراع لبلوغ الأعالي يكفي لأن يملأ قلب الإنسان بالأمل وأن على المرء أن يتخيّل سيزيف وهو سعيد في مهمّته برغم كلّ المشاقّ والمعاناة التي تحمّلها.
أعمال تيشيان الأخيرة، والتي وصفها المؤرّخ جورجيو فاساري بأنها جميلة ومدهشة، نُفّذت بضربات فرشاة جريئة وبخطوط عريضة بحيث لا يمكن رؤيتها إلا من مسافة. وقد قال بعض النقّاد إن قصائده البصريّة تجسيد لعظمة ميكيل انجيلو ورافائيل، كما أنها تعبير عن الألوان الحقيقية للطبيعة.
بمعنى ما، كان تيشيان شمسا وسط أقمار صغيرة. وقد حرّر الرسم من التخطيط الأوّلي وكرّس ضربات الفرشاة باعتبارها أداة تعبير بحدّ ذاتها.
توفّي تيشيان أثناء انتشار وباء الطاعون في فينيسيا، وتوفّي معه في نفس تلك السنة ابنه وذراعه الأيمن اوراتسيو. والحقيقة أنه لم يترك وراءه أيّة رسائل أو مفاتيح تدلّ على حياته الخاصّة أو رؤيته الفنّية. ولوحاته التي يربو عددها على الخمس مائة تشهد على وفائه الأسطوري لمهنته.
نموّ تيشيان الفنّي رافقه حتى مماته، وأصبحت فرشاته في آخر عمره أكثر حرّية وأقلّ وصفية وأكثر تجريدا. "ها أنا أتعلّم أخيرا كيف أرسم".

❉ ❉ ❉

بترارك ودي نوفيس


ألّف فرانشيسكو بترارك، شاعر عصر النهضة الايطالي، عدّة قصائد عبارة عن تأمّلات حول طبيعة الحبّ. وقد كتبها من وحي علاقته العاطفية مع ملهمته لاورا دي نوفيس التي كان لها تأثير كبير على حياته وأشعاره.
في إحدى تلك القصائد، يتأمّل الشاعر في الحالة المحيّرة التي وضعه فيها حبّه لتلك المرأة. فهو في حبّه لها يشعر بأنه مسجون وفي نفس الوقت حرّ، وبأنه محترق بالنار وفي الوقت نفسه مغمور بالثلج. وفي قصيدة أخرى يصف حالة الجمال والصفاء في حبّه وأثر ذلك على السماء والطبيعة.
الموسيقيّ "فرانز ليست" قد تكون سوناتات "أو رباعيّات" بترارك حرّكت مشاعره، لذا ترجم بعضها موسيقيّا على البيانو بطريقة جميلة أمسك من خلالها بجوّ ومشاعر كلمات الشاعر. ومن أشهر ما ألّفه من وحي ديوان بترارك الرباعيّة رقم 104 . المعروف أن "ليست" قضى سنوات في ايطاليا، ألّف خلالها أيضا مقطوعات موسيقية أخرى من وحي بعض الأعمال التشكيلية التي رآها هناك مثل زواج العذراء لرافائيل وتمثال لورينزو دي ميديتشي لميكيل انجيلو وغيرهما.
المرأة التي ألهمت بترارك، أي لاورا دي نوفيس، كانت زوجة للكونت هيوز دي ساد الذي يُعتبر من أسلاف الماركيز دي ساد. غير أن المعلومات التاريخية المتوفّرة عنها قليلة. لكن معروف أنها ولدت في افينيون بفرنسا عام 1310 وكانت تكبر بترارك بستّ سنوات.
وقد رآها الشاعر للمرّة الأولى في إحدى الكنائس وذلك بعد زواجها بعامين، فوقع في حبّها من النظرة الأولى وأصبح مهجوسا بجمالها بقيّة حياته. وقضى السنوات التالية في فرنسا يغنّي لها حبّه الأفلاطوني ويتبع خطاها إلى الكنيسة وفي مشاويرها اليومية.
ديوان بترارك المسمّى كتاب الأغاني ألّفه في مديحها واتّبع فيه أسلوب الشعراء المتجوّلين أو التروبادور. ولم يتوقّف عن الكتابة عن لاورا بعد وفاتها، بل كتب عنها قصيدة دينية في رثائها.
دي نوفيس توفّيت عام 1348، أي بعد واحد وعشرين عاما من رؤية بترارك لها. كان عمرها آنذاك لا يتجاوز الثامنة والثلاثين. ولا يُعرف سبب وفاتها. لكن ربّما كان السبب إصابتها بالطاعون أو السلّ، بعد أن وضعت احد عشر طفلا.
وبعد وفاتها بعدّة سنوات عُثر على قبرها واكتُشف بداخله صندوق من الرصاص يحتوي على ميدالية منقوش عليها صورة امرأة وتحتها إحدى قصائد بترارك التي نظمها فيها.

❉ ❉ ❉

بورودين: قصّة حبّ مغولية


من سمات موسيقى المؤلّف الروسي الكسندر بورودين أنها تمتلئ بالأنغام التي يسهل تذكّرها وتعلق بالذهن بسهولة. من بين مقطوعاته الموسيقية المفضّلة لديّ هذه القطعة بعنوان "في سهوب آسيا الوسطى".
مفردة "السهوب" في العنوان تحيل تلقائيا إلى منغوليا وجنكيزخان والقبيلة الذهبية. والكلمة توازيها في المعنى كلمة "براري" في اللغة العربية.
هذه الموسيقى هي جزء من مسرحية بعنوان الأمير إيغور تتحدّث عن قصّة حبّ بين أمير روسيّ وإحدى نساء المغول.
الانطباع السائد لدى الكثيرين عن المغول هو أنهم قوم قساة متوحّشون ومتعطّشون للحروب وسفك الدماء. لكن المسرحية تقدّمهم بشكل مغاير، فهم في العموم لا يختلفون عن غيرهم من حيث المشاعر والعواطف الإنسانية.
وكلّ ما في هذه القطعة، من بناء وتوليف وأنغام، شرقيّ الطابع، وبالتحديد روسي. وقد وظّف فيها المؤلّف عددا من الأنغام الروسية. وهي تبدأ بعزف رقيق لآلتي الكمان والكلارينيت المفرد، ثمّ يتطوّر النغم شيئا فشيئا مع دخول الآلات الوترية.
وأنت تستمع إلى هذه الموسيقى ستتخيّل انك تشاهد قافلة تجارية وهي تقترب شيئا فشيئا. والموسيقى تعطيك هذا الانطباع بمرور موكب من الناس والحيوانات. وربّما مع شيء من التركيز قد تشعر بإحساس بالمشي وبوقع أقدام.
وأكثر ما يثير الانتباه في النغم الأوّل الذي يعزفه الكلارينيت هو كيف أنه يتطوّر ويتداخل مع العناصر الموسيقية الشرقية، وفي النهاية ينتهي بالفلوت والبيانو، ثم يتلاشى النغم، ويُخيّل للسامع انه يرى القافلة وهي تبتعد شيئا فشيئا إلى أن تتحوّل إلى نقطة صغيرة في الأفق البعيد.
إن أعجبتك هذه المقطوعة وأردت سماع شيء مختلف لبورودين أكثر رومانتيكية وقدرة على مخاطبة العواطف، فأظن أن لا شيء أجمل من معزوفته الليلية المشهورة "نوكتورن". توجد توزيعات كثيرة لهذه المعزوفة، لكن التوزيع الذي اعتبره الأفضل هو الموجود هنا ..

❉ ❉ ❉

فيلاسكيز: بورتريه اوليفاريز


هذا هو أشهر بورتريه فروسي رسمه دييغو فيلاسكيز عام 1634، ويصوّر فيه كونت اوليفاريز الذي كان وقتها أقوى رجل في مملكة اسبانيا؛ أقوى حتى من الملك نفسه.
وقد أراد فيلاسكيز التعبير عن كبرياء الرجل فرسمه فوق صهوة حصان، وهو شرف لا يناله غالبا سوى الملوك وزعماء الدول.
كان اوليفاريز مشهورا بحبّه للخيل. وهو يظهر هنا بقبّعة وعصا ودرع مزيّن بالذهب، بينما يجلس فوق حصانه هابطا من مكان عال، وشخصه يملأ كامل مساحة اللوحة.
الجواد الرائع الكستنائي اللون يميل برأسه في الاتجاه الآخر وينظر إلى أسفل اللوحة حيث تدور معركة ويرتفع دخان نار وذخيرة فوق السهل تحت.
اللوحة لا تصوّر معركة بعينها، بل تشير إلى المهارة العسكرية للرجل الذي كان يقود جيوش الملك من نصر إلى نصر.
الزاوية اليسرى إلى أسفل تظهر فيها ورقة بيضاء مثبّتة في حجر. لم يكن من عادة فيلاسكيز أن يوقّع لوحاته أو يسجّل عليها تواريخ. ورغم ذلك ترك هذه الورقة البيضاء في الصورة ولم يكتب عليها شيئا.
شغل اوليفاريز منصب الوزير الأوّل في اسبانيا بدءا من عام 1623. وطوال أكثر من عشرين عاما كان هو الحاكم المطلق للبلاد.
وقد انتهز توسّع حرب الثلاثين عاما كفرصة، ليس فقط لاستئناف الأعمال العدائية ضدّ الهولنديين، ولكن أيضا من اجل محاولة استعادة السيطرة الاسبانية على أوربّا بالتعاون مع أسرة هابسبيرغ.
وفي مرحلة تالية حاول اوليفاريز أن يفرض على الدولة نمط إدارة مركزيّا. لكن تلك الخطوة تسبّبت في اندلاع ثورة ضدّه في كاتالونيا والبرتغال أدّت في النهاية إلى سقوطه.
وأخيرا، إن كان سبق لك أن رأيت لوحة الفرنسي جاك لوي دافيد التي يصوّر فيها نابليون على ظهر حصانه فلا بدّ وأن تلاحظ الشبه الكبير بين تلك اللوحة وبين لوحة فيلاسكيز هذه. وأغلب الظن أن دافيد رسم نابليون بتلك الكيفية وفي ذهنه هذه اللوحة التي يبدو انه كان معجبا بها كثيرا.

Credits
titian-tizianovecellio.org
petrarch.petersadlon.com
diego-velazquez.org

الأربعاء، يناير 22، 2014

فرانز ليست: العبقريّ الجميل

جزء من جمال هذا العالم المجنون هو انه يحتوي من القصص والحكايا على كلّ ما هو طريف واستثنائي وغريب. وإذا اخترنا أن نتذكّر "فرانز ليست" كمثال، فلأنه كان شخصيّة أسطورية وكاريزماتية ومعقّدة جدّا، بدءا من حبّه العجيب للحياة، ومرورا بقصّة تزويجه ابنته لزميله الموسيقيّ ريتشارد فاغنر، وانتهاءً بلجوئه إلى الدين.
في هذه اللوحة التي تعود إلى العام 1840، يرسم جوزيف دانهاوزر فرانز ليست وهو منهمك في العزف على بيانو كبير في صالون باريسي. وفوق البيانو يظهر تمثال نصفيّ لبيتهوفن. وفي الصورة أيضا حشد متخيّل من كبار شخصيّات ذلك الزمن مثل الكسندر دوما وجورج صاند وماري داغو وفيكتور هوغو ونيكولو باغانيني وجياكومو روسيني، بالإضافة إلى بورتريه للورد بايرون.
كان "ليست" النجم الأكثر نجاحا والأطول عمرا في كلّ تاريخ الموسيقى الكلاسيكية. وقد اكتسب جمهورا وأتباعا بأكثر ممّا استطاع أن يفعله أيّ موسيقيّ جاء قبله أو بعده. كما كان، ولا شكّ، أعظم عازف بيانو في جميع العصور.
إقرأ ما كتبه هاينريش هايني واصفا سلوك الجمهور في إحدى حفلات "ليست" التي أقامها في ايطاليا وأكّدت ما كان له من تأثير كبير على معظم أوروبّا خلال سنوات منتصف القرن التاسع عشر. يقول: كان ظهوره في أيّ مكان كفيلا بإثارة جنون النساء. التصفيق الذي يقابَل به كان دائما عاصفا وهستيريّا. كان نوعا نادرا من الجنون؛ الجنون الذي لم يسمع بمثله احد في تاريخ الضجيج".
كان "ليست" نجم الجماهير الأشهر بأوصاف عصرنا الحاضر. النساء والرجال كانوا يتجاوبون بطريقة هستيرية مع حفلاته. كان عزفه يرفع مزاج الجمهور إلى ما يشبه النشوة الصوفية. وكان الجميع يتكالبون عليه ويتقاتلون للحصول على مقتنياته الشخصية.
كانت تحيط به سيّدات منوّمات أو مغمى عليهنّ تقريبا. بعضهن كنّ يلقين بالزهور على المنصّة، بل وحتى بالمجوهرات مع صرخات وتصفيق مدوٍّ. وأخريات كنّ يسرقن خصلات من شعره أو يتشاجرن للحصول على أعقاب سيغاره وبقايا ريقه الذي يتركه على فناجين القهوة.
وهؤلاء لم يكنّ نساء عاديّات. كنّ من نخبة المجتمع الباريسي في القرن التاسع عشر. وقد ضربن عرض الحائط بجميع قواعد اللياقة الاجتماعية لإظهار عشقهنّ للعازف الرومانسيّ الوسيم.
وبينما كانت شعبية "ليست" تزداد، كان معجبوه يكتبون إليه طالبين منه المزيد من خصلات شعره. وأمام هذه الطلبات الكثيرة، اضطرّ لقصّ شعرات من كلبه وبدأ في إرسالها إلى المعجبين. وهكذا ثبت مرّة أخرى أن الكلب أفضل صديق للإنسان!
حاوِل أن تتخيّل اتجاها واحدا يمثّله رجل واحد مع بيانو وسترة جميلة وملامح وسيمة وأسلوب خاصّ في العزف، وربّما مع بعض حبّات الكَلَف في وجهه.
مظهر "ليست" الوسيم واللافت للنظر وأدبه وأناقته ولباسه الفخم لم تكن عوامل كافية لضمان الشهرة والنجاح اللذين حقّقهما. كانت عبقريته الموسيقية النادرة وراء نجاحه الكبير. كان يستطيع قراءة الموسيقى بشكل أسرع وأكثر دقّة من أيّ موسيقيّ آخر في زمانه. وكان يمتلك في يديه قوّة وخفّة حركة لم يكن ينافسه فيهما أيّ عازف بيانو آخر في ذلك العصر.
ولم يكن منتهى طموحات "ليست" أن يكون عازف بيانو أو ملحّنا كبيرا. كان مزيجا غريبا من عدّة أشخاص. وقد أراد أيضا أن يكون رجل علم وشخصية اجتماعية وكاهنا في كنيسة. وكان من عادته أن يقرأ كلّ كتاب يجده. كما تعرّف عن قرب على كلّ من صادفهم في طريقه من أمراء ونبلاء ودوقات وكونتيسات.. إلى آخره.
ولكن كيف تسنّى لصبيّ من قرية صغيرة في هنغاريا أن يكبر ليصبح نجما ساحرا وعاجيّ الرنين؟ ماذا كان سرّه؟ الإجابة يمكن أن تُختزل في كلمة واحدة: التدريب. ثم التدريب. والكثير من التدريب.
بدأ "ليست" دروسه في العزف على يد والده وهو في سنّ السابعة. وعندما بلغ التاسعة، كان قد أدّى أوّل عزف علنيّ له. وفي سنّ السادسة عشرة، أي عندما توفّي والده، كان يتنقّل من منطقة لأخرى في باريس كي يعطي دروسا في العزف على البيانو.
لكن ماذا كان يفعل شابّ مبدع في القرن التاسع عشر ليساعد نفسه على التأقلم مع الكدح المستمرّ المتمثّل في تدريس الباريسيين العزف على البيانو؟ استغرق العازف الشابّ في التدخين والإدمان على الشراب وعلى النساء. كانت النساء بنفس أهمّية التدريب المستمرّ بالنسبة لمسيرته المهنية.


خذ مثلا حالة الكونتيسة ماري داغو . تركت هذه المرأة زوجها لتلهو مع "ليست" في العام 1835. وأثمرت تلك العلاقة عن ثلاثة أطفال. كما أنتجت علاقتهما مجموعة من المؤلّفات التي كتبها "ليست" والتي تؤشّر إلى انه استفاد بشكل خلاق من وجود هذه المرأة إلى جواره.
ثم هناك حالة الأميرة كارولين فيتغنشتاين ، التي قرّرت أن يكون "ليست" بديلا لزوجها بعد أن رأته يعزف في حفل في كييف في عام 1847. وفي محاولة منها لإبقائه بعيدا عن جحافل المشجّعات المنتشيات اللاتي يحاولن الاقتراب من ملابسه الداخلية، اقترحت عليه الأميرة أن يركّز على التأليف، فترك الحفلات العامّة وخلّف وراءه سمعة تقترب من الكمال وهو ما يزال في منتصف الثلاثينات.
وقد رفضت الكنيسة الكاثوليكية، التي كثيرا ما كانت تتدخّل لتفسد الأمور، السماح لـ "ليست" وأميرته بالزواج. ولم يلبث أن فقد اثنين من أطفاله. وتحوّل بعد ذلك ليصبح شخصا متديّنا وكئيبا. ثمّ انضمّ إلى سلك الرهبنة وارتدى جلباب كاهن وصار الناس ينادونه بـ "الأب ليست" وأصبح يقضي جزءا من وقته في أحد الأديرة. وكلّ هذا أضفى على العازف الوسيم والموهوب لمسة من الغموض والرومانسية.
ارتبط "ليست" بعدد لا يُحصى من النساء. ويُعتقد بأنه أنجب العديد من الأطفال خارج إطار الزواج. وبعد وفاته مباشرة، ظهر مئات الأشخاص الذين يدّعون أنهم أبناؤه. وكان قد أنكر أثناء حياته احد طلبات الأبوّة تلك كتابةً بقوله: أعرف والدته فقط عن طريق المراسلة. والإنسان لا يستطيع انجاز مثل هذه الأمور من خلال تبادل الرسائل".
على الجانب المهني، يذكّرنا "ليست" بأن مقاربتنا للموسيقى الكلاسيكية لا ينبغي أن تعتمد على عامل الجنسية أو القومية. الناس عادة يريدون أن يسمعوا موسيقيين هنغاريين يعزفون بارتوك ورُوساً يعزفون تشايكوفسكي وإنجليزا يعزفون إيلغار وفرنسيين يعزفون ديبوسي وأمريكيين يعزفون كوبلاند . و"ليست" يتحدّى هذا التصنيف السهل. بإمكانك أن تعتبره موسيقيّا هنغاريّا وألمانيّا وفرنسيّا من حيث الجوهر وفي نفس الوقت. نفوذه كفنّان وملحّن كان يتجاوز الولاءات الوطنية والانتماءات والتصنيفات القومية.
وعلى الرغم من شعبيّته الكاسحة، إلا أن الأمور لم تكن تخلو من بعض المتاعب والتحدّيات. فقد كان له منافس خطير تمثّل في شخص عازف بيانو سويسري يُدعى سيغيسموند تالبيرغ . كان "تالبيرغ" هو الآخر عازفا موهوبا وقادرا على إدهاش جمهوره.
وكان الملحّن الفرنسيّ الشهير هيكتور بيرليوز قد منح "تالبيرغ" تقييما أعلى من "ليست". ثم انقسم عالَم باريس الموسيقيّ إلى معسكرين: أنصار "ليست" وأنصار "تالبيرغ"، في ما بدا وكأنه تأجيج للصراع بين الرجلين. وقد ذهب "ليست" إلى حدّ وصف ما كان يعزفه "تالبيرغ" بـ "الزبالة". وعندما اقترح عليه "ليست" أن يعزفا معا ردّ "تالبيرغ": لا شكرا! لست بحاجة إلى شخص لمرافقتي"!
وفي نهاية المطاف، تمكّنت أميرة ايطالية من ترتيب حفل موسيقيّ يتناوب على العزف فيه كلّ من الاثنين. وعلى الرغم من مهارة "تالبيرغ"، إلا أن "ليست" اختير باعتباره العازف الأفضل. وبالتأكيد عاش اسمه كموسيقيّ أطول من اسم منافسه.
صحيح أن "ليست" كان نجما كبيرا واستطاع أن يراكم ثروة لا بأس بها، ولكنه كان دائما يفضّل أن يعيش حياة بسيطة ومتواضعة. كما كان إنسانا سخيّا جدّا. لكن سمعته كزير نساء طغت كثيرا على كرمه المعتاد. كان الناس يتوافدون على بيته لأخذ دروس في العزف والتلحين بالمجّان. وبعد أن أصبح شخصا غنيّا، صار يقدّم لتلاميذه مصروفا يوميّا. وكلّ من عزف بحضوره مرّة أو مرّتين في جلسة، أصبح يصف نفسه بأنه من تلاميذ "ليست".
موسيقى "ليست" مثيرة للجدل مثل صاحبها. البعض يعتبرها مبتذلة ومنمّقة أكثر من اللازم. والبعض الآخر يثني على مقطوعاته الرومانسية على وجه الخصوص. ومع ذلك، لا احد ينكر أصالة الرجل ونفوذه وأهمّيته بوصفه صانع ما يُسمّى بالقصيدة السيمفونية. وهناك من يشير إلى أن "ليست" وجد طرقا جديدة لاستغلال البيانو. أعماله للبيانو تحتوي على قفزات جريئة، كما أن أنغامه محاطة أحيانا بأصوات تتابعية تمنح انطباعا بأن ثلاث أيد، لا يدين فقط، هي التي تعزف على البيانو.
وعلى الرغم من أن "ليست" كان ما يزال مؤلّفا نشطا ومعلّما للموسيقى خلال العقد الأخير من حياته، إلا أن صحّته كانت تذبل تدريجيا إلى أن توفّي بالالتهاب الرئوي في 31 يوليو من عام 1886 عن عمر ناهز الرابعة والسبعين.
هذا هو "فرانز ليست"، العبقريّ الوسيم والجدير بالاحتفاء.
والآن حاول أن تستمع إلى هذه القطعة من ثلاثيّته للبيانو المسمّاة حلم الحبّ لتكتشف جانبا من براعته في التأليف والعزف.
وإن أردت سماع شيء أكثر جدّية، فاسمع مجموعة ارتجالاته الهنغارية التسعة عشر على البيانو. شخصيّا أفضل اللحن الثاني من تلك المجموعة "الفيديو فوق". بإمكانك أيضا سماع نفس هذا اللحن على البيانو المنفرد هنا أو بمصاحبة الاوركسترا على هذا الرابط.

Credits
classicalarchives.com
lisztsoc.org.uk
pianostreet.com

الثلاثاء، فبراير 26، 2013

ألبينيث: السويت الإسباني

في القترة ما بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ظهر في اسبانيا ثلاثة موسيقيّين كبار، هم مانويل دي فايا وانريكي غرانادوس وإسحاق ألبينيث. والأخير كان أكثرهم شهرة. وهو معروف، خاصّة، بقطعته المشهورة استورياس "أو ليجندا كما تُسمّى أحيانا". وقد أصبحت هذه المعزوفة واحدة من أهمّ الأعمال الكلاسيكية التي تُعزف على الغيتار. والغريب أن هذه الموسيقى كُتبت أساسا لآلة البيانو ونُشرت لأوّل مرّة في برشلونة عام 1892 كمقدّمة لمجموعة من ثلاث حركات بعنوان أناشيد من اسبانيا.
أمّا اسم أستورياس، أو ليجندا "التي تعني بالاسبانية: أسطورة" فقد أطلق على القطعة بعد وفاة ألبينيث، وذلك من قبل الناشر الألماني هوفماستر، الذي أدرجها في النسخة الكاملة من السويت الاسباني.
وعلى الرغم من الاسم الجديد، إلا أن المعزوفة لا توحي بالموسيقى الشعبية لمنطقة استورياس الواقعة شمال إسبانيا، بل يمكن اعتبارها جزءا من تقاليد الفلامنكو الأندلسية. والموسيقى مشهورة بلحنها الحسّاس والمعقّد وبالتغيّرات الديناميكية المفاجئة فيها. وأوّل استنساخ لها بآلة الغيتار كان على يد غارسيا فورتيا، على الرغم من أن استنساخ اندريس سيغوفيا يُعتبر الأكثر شهرة وتأثيرا.
كان سيغوفيا أشهر عازفي الغيتار في زمانه. وكانت استورياس قطعته المفضّلة. وكلّ عازفي الغيتار الذين أتوا بعده ترسّموا خطاه وقلّدوا أسلوبه الفخم في عزف هذه الموسيقى التي أصبحت علامة مميّزة لموسيقى الغيتار الاسباني.
ورغم الطبيعة الرقيقة والتذكّرية للموسيقى، إلا أن إيقاعها الحزين إلى حدّ ما، ألهم عددا من القصص المثيرة مثل العواصف الرعدية المذكورة في الإنجيل والزلازل المدمّرة التي تظهر صورها عادة على الألبومات التي تضمّ تسجيلاتها.
السويت الإسباني هو عبارة عن مجموعة من الألحان ذات الإيقاع السريع التي كتبها ألبينيث عام 1886م، والتي تمّ تجميعها معا في عمل واحد عام 1887 تكريما لملكة إسبانيا. ومثل الكثير من أعمال البيانو التي ألفها ألبينيث، فإن هذه القطع عبارة عن صور موسيقية من مختلف مناطق اسبانيا مثل كاتالونيا وإشبيلية وقادش وأستورياس وأراغون وقشتالة.
ويُرجّح أن ألبينيث كتب هذه الألحان أثناء إقامته في لندن في وقت مبكّر من عام 1890م. وهي تعكس بوضوح حنين الموسيقيّ إلى موطنه. ألبينيث كان يعتبر نفسه متحدّرا من أصول مغربية. وأكثر أصول موسيقاه مستوحاة من قصر الحمراء المطلّ على مدينة غرناطة الأندلسية. من هذا المكان الذي زاره في مناسبات عدّة، يتخيّل المؤلّف أغاني المساء ورقصات موسيقى الغجر التي يصاحبها عزف غيتار.
ذات مرّة كتب ألبينيث واصفا إحدى معزوفاته الليلية بقوله: بين رائحة الزهور وظلال أشجار السرو والثلوج في الجبال، أكتب معزوفة ليلية حزينة لدرجة اليأس. أتطلّع إلى غرناطة العربية. غرناطة التي تعني لي كلّ شيء: الفنّ والجمال والعاطفة".
بعض مؤلّفات ألبينيث يمكن اعتبارها استجابة للصدام الدينيّ بين العرب والمسيحيين في إسبانيا. وأنت تسمعها لا بدّ وأن تستذكر المعمار الأندلسي المتجسّد في الجوامع المذهلة في غرناطة وقرطبة واشبيلية، والتي حُوّل بعضها في ما بعد إلى كاتدرائيات كاثوليكية.
كان تأثير ألبينيث على الموسيقى الإسبانية كبيرا. وقد ظهرت عبقريّته في وقت مبكّر. ويقال انه بدأ العزف على البيانو وهو في سنّ الرابعة. وفي شبابه، ذهب إلى لايبزيغ بألمانيا لدراسة موسيقى فرانز ليست. ثم ذهب إلى لندن واستقرّ بعد ذلك في باريس، حيث كرّس نفسه للتأليف الموسيقيّ.
وقد وصف ألبينيث مرّة موسيقاه بأنها تشبه منحوتات قصر الحمراء ومشغولات الأرابيسك التي تتداخل فيها الصور وتتحوّر وتتحوّل لتأخذ أشكال الهواء والشمس والعصافير في الحدائق. "في موسيقاي القليل من العلم والقليل من الأفكار العظيمة، القليل من الخطايا والكثير من العاطفة. لكنّ فيها ألوانا أكثر وضوء شمس ونكهة زيتون".

الأربعاء، يوليو 11، 2012

الشيطان في الرسم

أوّل إشارة إلى الشيطان وردت في كتاب العهد القديم. في البداية، لم يكن يُنظر إليه باعتباره تجسيدا للشرّ، وإنّما كعقبة في طريق صلاح الإنسان. وعبر القرون تحوّل الشيطان إلى رمز للشرّ والغواية. ثم أصبح أداة في يد الساسة ورجال الدين الذين عادة ما يصمون كلّ من لا ينتمي إلى جماعتهم أو يتبنّى معتقداتهم بالشيطان.
في العصور الوسطى، انتشرت الحكايات الشعبية عن الشياطين والساحرات على نطاق واسع. وفي العصر الحديث، ظهرت جماعات تعتقد أن الشيطان موجود فعلا وبأنه يجب أن يُعبد ضمن طقوس ما أصبح يُسمّى اليوم بعبادة الشيطان.
وعلى خلاف الأديان، فإن البهائيين لا ينظرون إلى الشيطان كقوّة شرّيرة مستقلّة بذاتها، بل هو جزء من الطبيعة الأساسية للبشر. وهو، بمعنى ما، الذات الشرّيرة في دواخلنا كبشر.
الفلاسفة والشعراء المعاصرون ينظرون إلى الشيطان باعتباره رمزا لإرادة الإنسان وتطلّعه نحو المثالية. والرسّامون الذين صوّروا الشيطان استلهموا صورته غالبا من الأعمال الأدبية.
الرسّام الفرنسيّ غوستاف دوري رسم الشيطان مرارا لرواية الفردوس المفقود لـ جون ميلتون ولكتاب الكوميديا الإلهية لـ دانتي أليغيري.
في إحدى رسومات دوري "فوق"، يظهر الشيطان وهو يمشي ذليلا منكسرا بعد أن طُرد من الجنّة. وفي لوحة أخرى يرسمه وهو يطير فوق الغيوم في طريقه لإسقاط آدم من الجنّة. وفي ثالثة وهو يشقّ طريقه صوب الأرض لإغواء البشر.
الرسّام الرمزي البلجيكي جان ديلفيل كان شخصا متديّنا ومتأثّرا بالأفكار الصوفية. وكان يؤكّد في أعماله على مخاطر المادّية والشهوات على الإنسان. في إحدى لوحاته بعنوان كنوز الشيطان ، يرسم ديلفيل الشيطان برأس مضطرب وناريّ، بينما يطوّق البشر الخاطئين والمثقلين بشهواتهم التي تأخذ هيئة الجواهر واللآليء والنساء. في اللوحة، لا يبدو البشر معاقَبين، بل عالقون في مستوى متدنّ من التطوّر الروحي.
الشيطان في لوحة ديلفيل يبدو على درجة من الوسامة وبأجنحة تشبه الزعانف. ذراعاه الشبيهان بأرجل الأخطبوط محاطان بموجات قرمزية، بينما يخطو فوق نهر من الرجال والنساء العراة والمنوّمين بفعل ما يُفترض انه سحر وفتنة الشيطان. الكنوز رمز لانجذاب الإنسان إلى المغانم الدنيوية. الكون في اللوحة غامض والنار متزاوجة مع الماء. لوحة ديلفيل صورة غير عاديّة عن الجمال الشرّير للشيطان. وربّما أراد الرسّام من خلالها تصوير مظاهر الانحلال التي كانت سائدة في عصره.
الرسّام الاسباني لويس ريكاردو فاليرو كان معروفا بلوحاته التي لم تكن تخلو من جمال ملحوظ وإيحاءات أثيرية، وهو أمر كان يروق للكثيرين في زمانه.
وقد رسم فاليرو الشيطان من وحي مسرحية يوهان غوته عن فاوست، العالم العجوز الذي قرّر أن يبيع روحه للشيطان مقابل الخلود والمعرفة الكاملة. واللوحة تصوّر جانبا من حلم رآه فاوست. في الحلم، يجرب فاوست مغامرة الدخول إلى عالم الشياطين والساحرات. وفاوست والشيطان "ميفستوفاليس" حاضران في اللوحة، تمشيّا مع السياق الديني للأسطورة. والجنّ والشياطين يظهرون وهم يطيرون في رحلتهم السنوية إلى مكان تجمّعهم فوق قمّة الجبل، على نحو ما تذكره القصّة القديمة. الرومانسيون كانوا ينظرون إلى الشيطان على انه الظلّ القاتم الذي لولا ظلمته العميقة لما تسنّى للبشر رؤية الضوء الإلهي وتقدير عظمة النور.
لقاء فاوست مع عالم الشياطين يحدث على هيئة حلم أكثر من كونه تجربة ماديّة أو حقيقية. وردّ فعله على هذه المخلوقات ذات العيون الصغيرة والأظافر الحادّة والأيدي الرفيعة هو مزيج من التشوّش والصدمة. وفاوست يتساءل ما إذا كان هؤلاء هم الذين أضاعوا أنفسهم وصدّقوا أكاذيب الشيطان.
في فاوست، يتحدّث غوته عن جانب من التجربة الإنسانية، يتمثّل في توق البشر إلى الخلاص من كافة أشكال السلطة وتعطّشهم للمعرفة ورغبة الإنسان في تطويع الطبيعة لإرادته.
بعض النقّاد يرون في فاوست إنسانا حديثا فقد ثقته بالدين والفلسفة والعلاقات الإنسانية. وقد انتشرت هذه الأسطورة كثيرا في الأدب والسينما والشعر والرسم. كما استلهمها العديد من المؤلّفين الموسيقيّين مثل شارل غونو وفرانز ليست وماندلسون وهيكتور بيرليوز وغيرهم.

الثلاثاء، أبريل 03، 2012

موزارت و سالييري

في صباح الخامس من ديسمبر عام 1791م، توفّي وولفغانغ اماديوس موزارت عن خمسة وثلاثين عاما. وبعد وفاته بأيّام، نشرت إحدى صحف برلين تحقيقا يشير إلى أن جسد الموسيقيّ كان متورّما بعد موته، الأمر الذي يوحي باحتمال انه مات مسموما.
لكنْ من كان يتمنّى موت موزارت؟
أرملته، كونستانزا، لم تتحدّث كثيرا عن قصّة السمّ، ومن ثمّ لم تشر بإصبع الاتهام إلى احد. وقد نسي الناس الحكاية لبعض الوقت. غير أنها بُعثت من جديد بعد ذلك بثلاثين عاما. ولم يكن المشتبه به في موت موزارت سوى زميله الموسيقيّ الإيطالي انطونيو سالييري.
كان سالييري يكبر موزارت بخمس سنوات فقط. وقد اختاره الإمبراطور جوزيف الثاني موسيقيّا للبلاط عام 1774م. كان عمره وقتها أربعة وعشرين عاما. وعندما وصل موزارت إلى فيينا بعد ذلك بسبع سنوات، كان سالييري يحظى بالكثير من الاحترام، خاصّة لدى أفراد الطبقة الارستقراطية. ولم يمض وقت طويل حتى أصبح سالييري ينظر إلى موزارت باعتباره منافسا وموسيقيّا عبقريّا لا يمكن أن يجاريه احد. والكثيرون في أوساط الموسيقى في فيينا لم يكونوا يشكّون في حقيقة أن سالييري كان يضمر الحسد لـ موزارت. ولم يكن موزارت نفسه حريصا على أن يكتم ازدراءه لموسيقيّ البلاط.
بعد موت موزارت، أرسلت زوجته ابنهما كارل لتلقّي دروس في الموسيقى على يد سالييري. وعندما سُئل الابن إن كان سالييري قام بتسميم والده قال: سالييري لم يقتل موزارت. لكنه نجح في تسميم حياته بالمؤامرات والدسائس".
ترى هل قتل سالييري موزارت حقّا؟ أين الحقيقة وأين الخيال في هذه القصّة؟
حكاية قتل سالييري لـ موزارت تكرّست في أذهان الناس بعد ظهور فيلم أماديوس عام 1984م. في الفيلم يستغلّ سالييري، بذكاء، ولع موزارت بالشراب وأزمته المالية وهاجسه بإرضاء والده المتوفّى، ويخدعه بأن يجعله يجهد نفسه في العمل حتى الموت.
وقد فعل ذلك من خلال تكليفه موزارت بتأليف لحن جنائزي، ثم حدّد له موعدا مستحيلا لإنجازه. والنتيجة أن موزارت التعيس انهار تحت وطأة الإجهاد والضغوط الكثيرة. سالييري يأخذ بعد ذلك مخطوط اللحن وينسبه لنفسه، في نفس الوقت الذي يُلقى فيه بجثّة موزارت داخل قبر مجهول.
فيلم اماديوس فاز بثمان جوائز أوسكار، بالإضافة إلى عدّة جوائز عالمية أخرى. ولو سألت شخصا عاديّا في الشارع عن الطريقة التي مات بها موزارت، فإنه على الأرجح سيسرد عليك القصّة كما يوردها ذلك الفيلم.
مضمون الفيلم يستند إلى مسرحية بنفس العنوان ألّفها الكاتب بيتر شافير عام 1979م. ومثل الفيلم، فإن المسرحية تروي الأحداث بطريقة الفلاش باك، وتبدأ بمشهد لـ سالييري وهو يدلي باعترافاته إلى كاهن، بعد أن فشل في محاولة انتحار بسبب شعوره بالذنب.
بينما كانت موسيقى سالييري تتلاشى ويخفّ تأثيرها وموسيقى موزارت تنمو لتصبح أكثر رواجا وشعبية حتى بعد وفاته، كان سالييري يبذل محاولة أخيرة لأن يصبح شخصا مهمّا في أعين الناس. لذا فإنه يدلي باعتراف كاذب بأنه سمّم موزارت بالزرنيخ. لكن أحدا لا يصدّق اعترافه، ما يجعله عرضة لتهميش وتجاهل اكبر.
بيتر شافير استلهم مسرحيّته من الشاعر الروسي الكبير الكسندر بوشكين الذي ألّف مسرحية قصيرة بعنوان "موزارت وسالييري" في عام 1830، أي بعد خمس سنوات فقط من وفاة سالييري.

وفي عام 1898، استُخدمت مسرحية بوشكين، حرفيا تقريبا، في نصّ أوبرا من فصل واحد بنفس العنوان من تأليف نيكولاي ريمسكي كورساكوف. في هذه الحكاية الأبسط والأكثر قتامة، يقوم سالييري، الغيور من مهارة موزارت كمؤلّف والمستاء من تواضع شخصيّته هو، بدعوة موزارت لتناول العشاء. ثم يمارس الاثنان لعبة شبيهة بلعبة القط والفأر، إلى أن تواتي سالييري الفرصة أخيرا لأن يدسّ السمّ في شراب موزارت. بعدها يؤدّي سالييري أغنية احتفالية تلمّح كلماتها إلى انه انزلق إلى حافّة الجنون.
لسوء الحظ، لم يستطع احد حتى اليوم أن يكشف عن هويّة مرتكب الجريمة الحقيقي. وسبب وفاة موزارت في العام 1791 ما يزال مثار نقاش اليوم، تماما كما كان وقت وفاته. وإذا كان السمّ هو أداة القتل فإنه لا يوجد إجماع حتى الآن في ما يتعلّق بهويّة القاتل.
التاريخ لا يخفي حقيقة أن موزارت وسالييري كانا متنافسين في مهنتهما. وخلال السنوات التي قضياها معا في فيينا، كان سالييري يحظى باحترام كبير مهنيّا. كان الامبراطور جوزيف الثاني يحبّه كثيرا. وكان يشغل عدّة وظائف منها وظيفة موسيقيّ البلاط ومدير الأوبرا الإيطالية.
والعديد من أصدقائهما المشتركين كانوا يتحدّثون علناً في الكثير من الأحيان عن جهود سالييري في التأثير على المسارح والمؤدّين كي يفضّلوا أعماله على حساب أعمال موزارت.
كان سالييري يملك أوبرا ايطالية في فيينا. وكانت تجارب موزارت في هذا النوع من الموسيقى تُفسّر على أنها تجاوز مقصود منه على اختصاص سالييري. لكن لم يكن سالييري بحاجة لأن يقتل موزارت كي يزيحه من طريقه. فقد كانت مكانته في البلاط تمنحه كلّ القوّة التي كان يحتاجها.
في عام 1823، أي بعد وفاة موزارت بحولي اثنين وثلاثين عاما، حاول سالييري الانتحار بقطع شرايين رقبته. وقد انتشرت شائعة تقول انه فعل ذلك تحت وطأة إحساسه بالذنب بعد أن اعترف بقتله موزارت. شائعة اعتراف سالييري بقتل موزارت انتشرت على نطاق واسع، لدرجة أن منشورا وّزع في فيينا، أثناء أداء السيمفونية التاسعة لـ بيتهوفن، يصوّر سالييري وهو يقف فوق موزارت حاملا كأسا من السمّ.
موسيقى موزارت كانت محبوبة كثيرا في ذلك الوقت. ومع بقاء قاتله المزعوم على قيد الحياة، فإن غضب العامّة بشأن الجريمة كان كاسحا. غير أن كراهية سالييري لم تكن مسألة مُجمعا عليها. وقد ظهر آنذاك معسكران: الأوّل أولئك الذين كانوا يعرفون سالييري ويدافعون عنه ضدّ هذه الشائعات. والثاني، وهو اكبر بكثير من الأوّل، ويتألّف من الناس الذين لم يكونوا يعرفون أيّا من الرجلين ولم تكن عندهم معرفة مباشرة بشأن ما حدث فعلا.
والحقيقة انه لا يوجد دليل موثوق يشير إلى أن سالييري أدلى بمثل ذلك الاعتراف. بعض الكتّاب تحدّثوا عن أنهم رأوا الاعتراف مكتوبا بعهدة الكاهن الذي ذهب إليه سالييري. لكن لا يوجد حتى اليوم ما يشير إلى اسم الكاهن أو ما يؤكّد وجود الاعتراف نفسه.
هناك أيضا حكاية تزعم أن سالييري ذهب في احد الأيّام بصحبة المؤلّف الموسيقي الشابّ روسيني للقاء بيتهوفن في منزله في فيينا. وعندما وصلا إلى هناك قام بيتهوفن بطرد روسيني بعد أن صرخ في وجهه قائلا: كيف تجرؤ على المجيء إلى بيتي بصحبة قاتل موزارت"؟
وعلى الرغم من أن هذه القصّة تكرّرت أكثر من مرّة، إلا أنها لا تتفق مع ما هو معروف عن بيتهوفن وسالييري. فقد سبق لـ سالييري أن درّس بيتهوفن، وكان الاثنان على الدوام صديقين. كان بيتهوفن يحترم معلّمه كثيرا لدرجة انه، حتى بعد وفاة موزارت، أهدى مجموعة سوناتاته للكمان رقم 12 إلى سالييري وكتب سلسلة من التغييرات على أوبرا الأخير بعنوان فالستاف. وبناءً عليه فإنه، حتّى هذه الحكاية، تبدو غير جديرة بالثقة.

الدفاع عن سالييري ضدّ شائعات القتل أتى من أوائل من سجّلوا سيرة حياة موزارت ومن بعض تلاميذ سالييري الآخرين. ومن بين هؤلاء شخص كان يُعتبر اقرب المقرّبين من موزارت، أي تلميذه الخاصّ فرانز سوسماير الذي أكمل قدّاس موزارت الجنائزي بعد وفاته.
كان سوسماير ملازما لـ موزارت، يوميا تقريبا، طوال الأشهر الأخيرة التي سبقت وفاته. وكان على علم بأسباب مرض معلّمه. ومثل الكثيرين، لم يتردّد، هو أيضا، في مواصلة دراسته الموسيقية عند سالييري.
الجدير بالذكر أن سالييري لم يكن أبدا مثار شبهة. كما أن سجلّه الجنائي كان خاليا من أيّ سوابق. وقد استمرّت مسيرته المهنية في الازدهار على الرغم من هذه الشائعات. كما واصل عدد كبير من الملحّنين دراستهم عنده، بما في ذلك المؤلّفان الموسيقيّان الشابّان فرانز ليست وفرانز شوبرت.
وعلى الرغم من أن سالييري هو من ناله معظم اللوم عن جريمة قتل موزارت المزعومة، إلا انه لم يكن المشتبه به الوحيد. وعلى النقيض من الأسطورة الشعبية الرائجة، لم يكن سالييري هو الذي كلّف موزارت بكتابة القدّاس الذي اضطرّ للعمل المضني عليه حتى يوم وفاته، بل الكونت فرانز فون والسيك الذي أراد أن يكون اللحن الجنائزي تكريما لذكرى زوجته الراحلة.
بعض الكتّاب طرحوا فرضيّة تقول بأن موزارت، الذي كان ماسونيّاً، قُتل نتيجة مؤامرة ماسونية. لكن لماذا يقتل الماسونيون واحدا منهم؟ السبب الذي يُستشهد به في معظم الأحيان هو أن أوبرا موزارت، الناي السحري، انتهكت بعض القوانين الماسونية. وأحد المزاعم هو أن ذلك العمل يخفي قصّة رمزية عن مؤامرة ماسونية مزعومة، أو انه يتضمّن استخداما سيّئا لرموز ماسونية. الكاتب جورج فريدريك دومير كان الداعم الأكثر صخبا لهذه النظرية. ومع ذلك، ينبغي النظر لاعتقاده بأن الماسونيين هم من سمّموا موزارت في سياق مزاعمه الأخرى. فقد كان يعتقد أن مؤامرات الماسونية كانت وراء مقتل العديد من رؤساء الدول ورجال الدين والفلسفة.
ولكن حتى فكرة أن يكون احد مسئولا عن وفاة موزارت لا تحظى بالقبول لدى المؤرّخين المعاصرين. الروايات الأكثر شمولا عن الأشهر الأربعة من مرض موزارت تأتي جميعها من زوجته ومن بعض أصدقائه والمقرّبين منه الذين كثيرا ما كانوا يزورونه، بمن فيهم صوفي، شقيقة زوجته. والحقيقة هي أن لا احد من هؤلاء كان يظنّ انه مات مسموما.
بعد وفاة موزارت، كتب فرانز نيمتشيك أوّل سيرة عن حياته. واعتمد في كتابه على مقابلات أجراها مع كونستانزا وشقيقتها وعلى العديد من الوثائق التي كانت بحوزتهما. زوج كونستانزا الثاني ألّف، هو أيضا، كتابا آخر عن حياة موزارت ولم يشر فيه إلى أيّ سبب آخر للوفاة غير المرض.
النظرية السائدة هي أن موزارت كان مصابا بمرض مزمن وخطير في الكلى. وعندما كان طفلا، كان مريضا بما يُعتقد اليوم انه الحمّى القرمزية والحمّى الروماتيزمية، وكلاهما يمكن أن يسبّبا تلفاً في الكلى. هذا التشخيص يتوافق مع تقارير عن حالة موزارت الصحّية في ذلك الوقت. وهناك احتمال بأن يكون الفشل الكلوي قد تسبّب في عدوى أو تورّم، ومن ثمّ تسمّم يمكن أن يكون هو الذي أودى بحياته.
وهناك نظرية تشير إلى احتمال أن يكون موزارت قد تناول الزئبق كعلاج لمرض الزهري، وهي وصفة كان بعض الأطبّاء يروّجون لها في تلك الأيّام.
إن من غير المحتمل أن يُعرف السبب الحقيقي لوفاة موزارت. فلم يكن من الممكن نبش جثّته لفحصها، لأنه، وكما يورد الفيلم، دُفن في قبر بلا علامات تميّزه.
كان موزارت يعبّر عن نفوره من الجنازات التي تتّسم بمظاهر الرسمية والأبّهة. لذا اختارت كونستانزا أن يُدفن في جنازة بسيطة وبحضور عدد محدود من أفراد العائلة والأصدقاء المقرّبين فقط.
وقد جرت مراسم الدفن في صباح يوم بارد. وتوقّف معظم المشيّعين عند مدخل المقبرة بعد أن القوا على الميّت تحيّة الوداع. ثم اُخذ موزارت إلى مثواه الأخير بصحبة مجموعة صغيرة من الأشخاص الذين كانوا يرتدون ملابس الحداد السوداء. كان هؤلاء هم من بقوا مع الجثمان حتى النهاية. وكان أنطونيو سالييري أحدهم.

Credits
theguardian.com
skeptoid.com

الأحد، يونيو 13، 2010

أغاني الشمال الحزينة

قد يمضي الشتاء وينصرم الربيع ويتلاشى بعدهما الصيف ثم العام بأكمله. لكنّي متأكّدة أنك ستعود ثانية. وكما وعدتك، ستجدني بانتظارك. وإذا كنت الآن في السماء، فسنجد هناك الحبّ معا ولن نفترق بعد ذلك أبدا. لن نفترق أبدا. "مقطع من أغنية سولفاي".
من المستحيل أن تسمع موسيقى إدفارد غريغ دون أن تشعر بالضوء والنسيم البارد والمياه الزرقاء، أو دون أن تتخيّل منحدرات الجبال والأنهار الجليدية المتموّجة التي تكثر في مناطق غرب النرويج حيث ولد الفنّان وعاش وألّف موسيقاه.
موسيقى غريغ تستمدّ أصولها من أعماق الريف النرويجي. فقد كان مفتونا بعزف الرعاة وبالأغاني الريفية والموسيقى الفولكلورية. كانت هناك دائما علاقة غريبة ووثيقة بين البيئة التي عاش فيها الفنّان والموسيقى التي أبدعها.
المقال المترجم التالي يتناول جوانب من حياة إدفارد غريغ بالإضافة إلى أشهر أعماله الموسيقية.

كان إدفارد غريغ (1843- 1907) يحبّ دائما التجوال في رحاب الطبيعة ويستمدّ منها الصور والأحاسيس التي كان يعبّر عنها من خلال موسيقاه. لكنّ هذه الصورة الرومانسية عنه هي فقط نصف الحقيقة. فقد كان نجاحه مفروشا بالصعاب والتحدّيات، وكانت حياته حافلة بالنضال المتواصل من اجل إثبات نفسه وتأكيد موهبته.
وهناك اليوم إجماع على أن غريغ هو أعظم وأشهر مؤلّف موسيقي نرويجي. ويستغرب المرء كيف لبلد لم يكن يتمتّع بحرّيته الوطنية ولم تكن لديه تقاليد موسيقية طويلة أن ينجب موسيقيّا بمثل هذا التميّز والعبقرية.
حتى العام 1814 كانت النرويج واقعة تحت احتلال الدنمارك. وابتداءً من عام 1814 وحتى 1905 أجبرت النرويج على الدخول في وحدة اندماجية مع السويد. وفي النصف الأوّل من القرن الثامن عشر، عاش النرويجيون أوقات فقر وعوز. ولم تكن بلدهم قد رسّخت وجودها بعد مع جاراتها الأخريات في اسكندينافيا.
لكن بالنسبة للأشخاص الموهوبين، كان ذلك هو الظرف المثالي الذي يوفّر لهم الدافع نحو النموّ واثبات الذات. وإدفارد غريغ كان احد هؤلاء. كان أسلوبه الموسيقيّ في البداية معتمدا على التقاليد الرومانسية الألمانية. لكنه مع مرور الوقت وضع موسيقى ذات ملامح نرويجية واضحة. تستمع إلى موسيقاه فينشأ لديك انطباع بأنها مرتبطة بقوّة بالطبيعة النرويجية وطريقة حياة الناس في تلك البلاد.
عاش غريغ فترة طويلة من حياته في منطقتي فيورد وأولنسفانغ وألّف فيهما العديد من أعماله الموسيقية المشهورة. كانت فيورد، على وجه الخصوص، مشهورة بجمال طبيعتها وبيئتها البحرية وأكواخها الخشبية وأنهارها الجليدية. وكان من عادته أن يتردّد على تلك المنطقة كلّ صيف. وكثيرا ما كان يذهب إليها في الشتاء. كان محاطا بأكثر مناطق الطبيعة جمالا وتساميا. ومثل اورفيوس، كان يجلس هناك في رحاب الجبال وبين الحيوانات البرّية وفوق الصخور وعلى ضفاف الجداول والأنهار باحثا عن السلام والهدوء الذي كان يحتاجه لموسيقاه.
في عام 1869 غادر غريغ إلى ايطاليا. هناك التقى فرانز ليست ومنحته الأوساط الفنية في روما إلهاما متجدّدا وثقة اكبر بالنفس. وقد أكسبته مهارته في العزف على البيانو لقب شوبان الشمال.

غير انه سرعان ما واجه اختبارا جديدا عندما طلب منه الشاعر والكاتب المسرحيّ هنريك ابسن أن يضع موسيقى مسرحيته بيرغنت. كانت تلك مهمّة سهلة بالنسبة إلى غريغ. لكنّ تجربته تلك أثمرت واحدا من الأعمال الموسيقية الكبرى في سبعينات القرن ما قبل الماضي. وأثناء حياته، سجّلت موسيقى بيرغنت نجاحا عالميا كبيرا. ويعود الفضل في ذلك إلى مقطع موسيقيّ مشهور في المسرحية هو ما أصبح يُعرف اليوم بأغنية سولفاي. وسولفاي هو اسم الفتاة التي تلعب في المسرحية دورا رئيسيا. مصدر الإلهام في أغنية سولفاي هو الموسيقى الفولكلورية وأساطير النرويج القديمة. وتتسم المقطوعة بأنغامها التي يمتزج فيها التوق بالذكريات الحزينة.
في تلك الفترة ألّف غريغ أيضا عددا من الرقصات النرويجية المكتوبة للبيانو، كما وضع سوناتا للكمان والبيانو. وفي بدايات القرن الماضي، أصبحت بيرغنت، وأغنية سولفاي تحديدا، تُعزف في جميع أنحاء العالم. لم تكن تُقدّم في الصالات الموسيقية الكبيرة فحسب، وإنما في المطاعم والمقاهي أيضا. وكان هذا النجاح مقترنا بالصورة التقليدية الشائعة عن الفنّان الذي يتحدّى ظروف الفقر والحاجة كي يهب للآخرين الإبداع والمتعة.
في العام 1957 الذي وافق ذكرى مرور خمسين عاما على وفاته، تنبّأ بعض النقاد بأن غريغ على وشك أن يفقد أهمّيته في أوساط الموسيقى الكلاسيكية. لكن كان للتاريخ رأي آخر. إذ سرعان ما انتعش الاهتمام مرّة أخرى بالموسيقى الرومانسية على أيدي الجيل الحالي من الموسيقيين الشباب الذين أعادوا اكتشاف موسيقى غريغ وقدّروا إسهاماته الموسيقية الكثيرة.
وهناك من الباحثين الموسيقيين من أشاروا إلى تأثير أعماله الأخيرة على الانطباعيين الفرنسيين الذين كانوا يبحثون عن تجارب صوتية جديدة. ومن بين من تأثروا به كلّ من رافيل وبارتوك.
كان هدف إدفارد غريغ هو خلق شكل وطني من الموسيقى يمكن أن يعطي الشعب النرويجي هويّة خاصّة به. ومن هذه الناحية، كانت موسيقاه مصدر إلهام للكثيرين. وعظمة أعماله لا تكمن في هذه الجزئية فحسب، وإنما في حقيقة انه نجح أيضا في التعبير عن الأفكار والانفعالات التي يمكن أن يتماهى معها الناس بسهولة وأن يتأثروا بها.
من الواضح أن إدفارد غريغ كان اكبر من مجرّد مؤلّف موسيقي نرويجي. فموسيقاه تتجاوز الحدود الوطنية وتعلو فوق الحواجز الثقافية.

الأربعاء، مايو 12، 2010

أغنية لسيّدة البحيرة


عندما تستمع إلى بعض ألحان فرانز شوبيرت لا بدّ وأن تتذكّر بطريقة لاإرادية فصل الشتاء. وبعض معزوفاته يذكّرك بحفيف أوراق الأشجار في الليالي الباردة والبعض الآخر برائحة الأعشاب والنباتات التي تنمو عادة في الطبيعة الصخرية.
بعض قطع شوبيرت الموسيقية مملوءة بالتوق وأحيانا بالتذكّر الحزين. يقال، مثلا، إن غوته، الفيلسوف الألماني، كان يبكي بصمت عندما يستمع إلى إحدى مقطوعاته. وهناك شاعر ألماني يُدعى جان بول ريختر قيل إن آخر ما طلبه في لحظات احتضاره هو الاستماع إلى لحن معيّن لـ شوبيرت.
كان شوبيرت معجبا حدّ الهوس بـ بيتهوفن الذي كان يعتبره مثله الأعلى في التأليف الموسيقي. وهناك رواية تقول انه في يوم جنازة بيتهوفن أسرّ شوبيرت إلى بعض أصدقائه بأنه هو نفسه من سيتوفّى تالياً. وقد تحقّقت تلك النبوءة الغريبة عندما عاجل الموت شوبيرت قبل أن يكمل عامه الحادي والثلاثين.
تتميّز بعض الحان شوبيرت ببساطتها وتلقائيتها وبتنوّع الأمزجة والانفعالات التي تثيرها. ومن أشهر أعماله سيمفونيّته الناقصة والسوناتات العديدة المكتوبة للبيانو ومجموعته بعنوان رحلة الشتاء التي تستثير في النفس إحساسا باليأس وأحيانا بالحزن والكآبة.
لم يعش فرانز شوبيرت طويلا. ومع ذلك فقد أنتج خلال عمره القصير عددا من أشهر الألحان الكلاسيكية.
وإحدى أروع هداياه إلى العالم هي مقطوعته الجميلة المسمّاة ايفا ماريّا. وقد ألف شوبيرت هذه القطعة التي تغلب عليها المسحة الدينية والتأمّلية في العام 1825، أي قبل وفاته بثلاث سنوات. وهي مكتوبة أصلا للصوت والبيانو. وكان في ذهنه أن ترافق الموسيقى أبيات مترجمة إلى الألمانية من قصيدة مشهورة بعنوان سيّدة البحيرة للشاعر الانجليزي السير والتر سكوت.
وبعد ظهور المقطوعة والقصيدة سرعان ما انتشرت وذاع صيتها وأصبحت معروفة ومفضّلة في جميع أنحاء العالم. ويبدو أن شوبيرت ألّف المعزوفة في إحدى لحظات التجلّي والإبداع بالنظر إلى تأثيرها العميق في النفس والمشاعر.
تتحدّث القصيدة عن امرأة تدعى ايلين تسكن على ضفّة إحدى البحيرات. وقد اعتادت المرأة أن تؤدّي صلاة خاصّة كلّ يوم. المعروف أن هذه الموسيقى عُزفت لأوّل مرّة في قصر كونتيسة نمساوية في إحدى القرى القريبة من فيينا. ومن ثم اُهديت الموسيقى لها وأصبحت تلك السيّدة منذ ذلك الحين تُعرف باسم سيّدة البحيرة.
ولد فرانز شوبيرت لعائلة من الموسيقيين. ولم يحقّق شهرة كبيرة في حياته. وعاش فقيرا وكان يعتمد دائما على المساعدات التي كانت تأتيه من عائلته وأصدقائه.
لكن في ما بعد، أصبح شوبيرت احد ابرز الأسماء اللامعة في عالم الموسيقى الكلاسيكية. ويرجع الفضل في ذلك إلى كلّ من فرانز ليست وفيليكس ماندلسون وروبرت شومان الذين قاموا بجمع أعماله وترتيبها وتصنيفها في القرن التاسع عشر.
وقد ترك شوبيرت عند وفاته تسع سيمفونيات وأكثر من ألف اوبرا ومقطوعة للبيانو.

فرانز شوبيرت: ايفا ماريّا

الأربعاء، مايو 07، 2008

مائدة، كرسي، طبق فاكهة وآلة كمَان

لماذا إذا تهيّأت للنوم يأتي الكمان؟!
فأصغي آتياً من مكان بعيد
فتصمت همهمة الريح خلف الشبابيك
نبض الوسادة في أذني
تتراجع دقّات قلبي
وأرحل في مدن لم أزرها
شوارعها فضّة
وبناياتها من خيوط الأشعّة
ألقى التي واعدتني على ضفّة النهر واقفة
وعلى كتفيها يحطّ اليمام الغريب
  • أمـل دنقـل

  • عندما يتعلّق الأمر بالموسيقى، لا صوت يطرب ويثير المخيّلة كامتزاج أنغام آلتي الكمان والبيانو. لكنْ لو كان لي أن اختار آلة مفردة لما تردّدت في اختيار الكمان، لأنني مع من يقول إن الكمان هو الرمز الأسمى لأناقة الموسيقى وجمال الطبيعة معا. الكمان قريب جدّا من المشاعر. وهو اقرب الآلات الموسيقية شبها بصوت الإنسان.
    وقد قرأت ذات مرّة أن بدايات ظهور هذه الآلة تعود إلى القرن التاسع الميلادي. ويقال إنه أتى من آسيا وأن الأتراك والمغول قد يكونون أوّل من عرف الكمان في التاريخ، وكانوا يصنعون أوتاره من شعر ذيل الحصان.
    ثم ما لبث الكمان أن انتشر إلى الصين والهند وبلدان الشرق الأوسط. وطبعا كان شكل الآلة آنذاك بدائيا وبسيطا. وقد استغرق الأمر خمسة قرون كاملة قبل أن تصل هذه الآلة إلى شكلها الحالي والمتعارف عليه.
    التغيير الجذري الذي طرأ على شكل الكمان وعلى تطوّر إمكانياته تحقّق في مدينة ميلان الايطالية "ويقال في البندقية" حوالي بدايات القرن السادس عشر.
    ويشار إلى أن أوّل عازف كمان مشهور كان الايطالي اندريا اماتي الذي يرجع إليه الفضل أيضا في صنع أوّل آلة كمان بشكلها الحديث والمعروف.
    وأشهر ماركات الكمان في العالم هي ستراديفاريوس وأماتي وغارنييري، وهي أسماء لصنّاع ايطاليين برعوا منذ قرون في صناعة الكمان واستخدامه. وأشهر العازفين اليوم يفضّلون اقتناء هذه الأنواع القديمة من الكمان المعروفة بغلاء أسعارها وبأدائها العالي وجودة النغمات التي تصدرها.
    وفي مناسبات مختلفة بيع بعض هذه الآلات، لشهرتها ولقدم صنعها، بأكثر من مليون جنيه استرليني، في حين لا يكلّف أغلى وأجود نوع حديث أكثر من عشرة آلاف دولار.
    ولأن بدايات الكمان الحقيقية ارتبطت بإيطاليا، لم يكن غريبا أن يصبح نيكولو باغانيني الايطالي أشهر عازف كمان في تاريخ الموسيقى كله. ويقال انه كان لفرط مهارته يستخدم كلتا يديه في العزف. كما كان بارعا في العزف على وتر واحد في حال انقطعت الأوتار الثلاثة الأخرى. وقد أصبح تقليدا شائعا منذ ذلك الوقت أن يحتفظ العازف في جيبه بوتر إضافي تفاديا لاحتمال انقطاع احد الأوتار.
    وفي زمن باغانيني، وأيضا فيفالدي، كان الكمان مرتبطا بالطبقة الراقية وبفئة النبلاء والارستقراطيين.
    اليوم ثمّة ملاحظة جديرة بالاهتمام تتعلّق بهذه الطفرة الكبيرة التي نراها الآن في عدد النساء اللاتي يعزفن الكمان بعد أن كان في الماضي عملا يختصّ به الرجال وحدهم. والكثير من هؤلاء العازفات لا تنقصهنّ البراعة ولا الجاذبية. وهذه الصفة الأخيرة تُعتبر عاملا مهمّا جدّا لا تغفل عنه شركات التسجيل ولا منظّمو الحفلات الموسيقية.
    وهناك من يقول إن معظم الأسماء الكبيرة اليوم في مجال العزف على الكمان هي لنساء. ويتساءلون هل أن الأمر مجرّد مصادفة، وهل الإناث أكثر قدرة من الرجال على تحمّل الدروس الطويلة والشاقّة التي يتطلّبها العزف على الآلة، أم لأنّ الكمان يتميّز بصغر حجمه وبسهولة حمله من مكان لآخر دون حاجة إلى تجهيزات ثقيلة وتحضيرات معقدة؟
    وهل يمكن فعلا اعتبار الكمان والبيانو والفلوت آلات أنثوية بحكم أن الأسماء البارزة والأكثر شهرة في العزف على هذه الآلات في العالم اليوم تعود لنساء؟
    وفي المقابل، هل يمكن اعتبار الغيتار والساكسوفون والآلات النحاسية آلات ذكورية على اعتبار أن الرجال هم من يتسيّدون ساحة العزف على هذه الآلات حاليا؟
    قرأت مؤخّرا بعض الأفكار التي لا يخلو بعضها من طرافة عن تأثير موضوع الجندر في الموسيقى. ومن الواضح أن إتقان العزف على الكمان بخاصّة يتطلّب مستوى عاليا من الموهبة والذكاء وسعة الخيال. وقائمة مشاهير النساء البارعات في العزف على الكمان اليوم طويلة ولا تكاد تنتهي. وبعضهنّ عملن مع أشهر الفرق السيمفونية في العالم، وتتلمذن على أيدي أشهر العازفين وقادة الاوركسترا من أمثال ياشا هايفيتز وايزاك ستيرن ويوجين اورماندي ودانيال بارانبويم وفلاديمير اشكنازي وهيربرت فون كارايان وغيرهم.
    والأسماء النسائية المهيمنة الآن على صناعة العزف على آلة الكمان هي امتداد للرعيل الأول من النساء الرائدات في هذا المجال مثل البولندية واندا ولكوميرسكا والنمساوية ايريكا موريني والأمريكية مود باول والمجرية يوهانا مارتزي والبولندية ايدا هاندل واليابانية تاكاكو نيشيزاكي وغيرهن.
    ويأتي على رأس عازفات الكمان من الجيل الجديد الألمانية آنا زوفي موتار التي تخصّصت في عزف بيتهوفن وفيفالدي وباخ وموزارت وسترافنسكي. وعلى ذكر موزارت، لا اعتقد أنني سمعت من قبل أجمل ولا أروع من عزف زوفي موتار لكونشيرتو الكمان رقم 3 الذي يُعتبر ليس فقط احد أفضل أعمال موزارت وإنما احد أعظم القطع الكلاسيكية التي تمّ تأليفها على مرّ العصور.
    ولـ زوفي موتار طريقتها الخاصّة والمتميّزة في العزف، وهي لا تنظر إلى الجمهور إلا نادرا ولا تعيد العزف إلا في ما ندر. كما أنها تعامل في بلدها كأميرة ووريثة للعازف والمايسترو العظيم فون كارايان الذي اختارها وهي بعدُ في الثالثة عشرة وأجلسها معه في فرقته.


    وموتار هي اليوم في الخامسة والأربعين وتجني أكثر من ثلاثة ملايين دولار سنويا مقابل الحفلات الموسيقية التي تعزف فيها، أي ضعف ما يتقاضاه أفراد اوركسترا كاملة في فرنسا أو بريطانيا. موتار مغرمة كثيرا بموزارت الذي تقول عنه إن تأثير موسيقاه في الروح مثل تأثير أشعّة اكس التي تشفّ الجسم وتكشف كلّ ما فيه.
    ويظهر أن الأمريكيين بدءوا هذه الأيام يغارون من اتساع شعبية زوفي موتار التي يرون في صعود نجمها وازدياد شعبيتها عندهم تهديدا لمكانة من يعتبرونه عازف الكمان الأوّل في العالم اليوم وهو الأمريكي ايزاك بيرلمان .
    والحقيقة أن ريادة الأمريكيين في مجال العزف على الكمان وكثرة العازفين المبدعين عندهم أمر لا يمكن إنكاره. هناك مثلا العازفان الأسطوريان ايزاك ستيرن ويوشا هايفيتز، بالإضافة إلى كبار العازفين الأحياء أمثال جون كوريليانو وريجينا كارتر بالإضافة إلى جوشوا بيل الذي يستخدم آلة كمان من نوع ستراديفاريوس يعود تاريخ صنعها إلى ما قبل ثلاثة قرون.
    وكان آخر أعمال جوشوا بيل اشتراكه مع زميله كوريليانو في وضع الموسيقى التصويرية للفيلم السينمائي المشهور الكمان الأحمر.
    كلّ هؤلاء أمريكيون. كما أن أعظم عازف للتشيللو في العالم الآن هو الأمريكي من أصل صيني يو يو ما الذي اشتهر بعزفه المنفرد والمتميّز لسوناتات باخ وموسيقى دفورجاك وشوبيرت وموزارت.
    بعد زوفي موتار يأتي اسم عازفة الكمان الأمريكية من أصل كوري سارة تشانغ التي تتلمذت على يد يهودي مينوهين الذي وصفها في إحدى المرّات بأنها أكثر عازفات الكمان مثالية وإحكاما.
    ثم هناك الهولندية جانين يانسن التي برعت في عزف تشايكوفسكي ومندلسون وبرامز. وبوسع زائر موقعها الاليكتروني الاستماع إلى عزفها الجميل لبعض سوناتات فيفالدي.
    وهناك أيضا الأمريكية الصاعدة بقوّة هيلاري هان التي احتلّ أوّل ألبوماتها الذي ضمّ بعض سوناتات باخ المرتبة الأولى في قائمة التسجيلات المفضّلة طوال أسابيع. يُذكر أن هيلاري هان برعت على وجه الخصوص في عزف كونشيرتو جان سيبيليوس الذي يقال انه احد أصعب القطع الموسيقية التي كُتبت لآلة الكمان، وإجادته تتطلّب مستوى غير عادي من التركيز الذهني والسيكولوجي.
    وهناك كذلك الاسكتلندية نيكولا بينيديتي التي تظهر في بعض صورها محتضنة آلة كمانها المصنوع في فينيسيا عام 1751 على يد بييترو غارنييري.
    والقائمة تطول. لكن يمكن الإشارة في عجالة إلى بعض الأسماء النسائية الأخرى والمهمّة مثل الكندية لارا سانت جون واليابانية ايكوكو كاواي والروسية فيكتوريا مولوفا والبريطانية السنغافورية الأصل فانيسا ماي والجورجية ليزا باتياشفيلي والألمانية جوليا فيشر وسواهن.
    الملاحظة الأخرى التي تلفت الانتباه هي أن معظم عازفات الكمان، وأكاد أقول جميعهن، يتميّزن بقدر عال من الجمال والجاذبية والحضور. بل لا أبالغ إن قلت إن ملامح بعضهن وطريقة لباسهن وحتى أسلوب حياتهن لا يختلف في شيء عن عارضات الأزياء والممثلات ومغنّيات البوب. وقد اكتشفت مع الأيّام انه حتى الجيل الجديد من مغنّيات الأوبرا "وعلى خلاف ما يتصوّره الكثيرون عن جدّيتهن ورصانتهن" يشتركن في هذه السمة التي تلخّص إلى حدّ ما طبيعة الأنثى وميلها الغريزي إلى إبراز جمالها وحتى التفنّن في أظهار مفاتنها للفت أنظار الجنس الآخر.
    ومع ذلك لا يمكن لوم النساء وحدهن، فالموسيقيون من الرجال أيضا يبالغون في إظهار أناقتهم واهتمامهم بالشكل الخارجي. وقد قرأت مؤخّرا رأيا لم اتأكّد من صحّته وملخّصه أن نشأة الموسيقى الكلاسيكية نفسها ومن ثم تطوّرها خلال القرنين الأخيرين كان قائما على فكرة التقاطع ما بين الفن والجنس "أي الذكورة في مقابل الأنوثة"، وأن عددا كبيرا من المؤلّفين الموسيقيين من الرجال كانوا حريصين دائما على تقمّص نموذج شخصية اللورد بايرون في محاولة لخطب ودّ النساء والتقرّب منهن.
    وبعض قادة الاوركسترا الكبار كانوا يعمدون إلى ترتيب ديكور حفلاتهم بحيث يكون الضوء مركّزا على شعورهم الطويلة اللامعة للفت أنظار النساء ونيل إعجابهن.
    ومن العبارات المنسوبة إلى باغانيني قوله: لست بالرجل الوسيم، لكن عندما تسمعني النساء وأنا اعزف، سرعان ما يأتين إليّ زحفا ويجثين عند قدمي".
    وضمن هذه الإطار يقال إن الموسيقي فرانز ليست كان مضرب المثل في جماله ووسامته، كما كان أشهر عاشق في أوربّا في زمانه وأعظم عازف بيانو في تاريخ الموسيقى كلّه. وكانت النساء تتقاتلن من اجل الحصول على أعقاب السجائر التي كان يتركها على البيانو بعد الحفلات الموسيقية التي كان يحييها.
    إن تزايد أعداد النساء اللاتي برزن بقوّة في مجال العزف على الكمان في السنوات الأخيرة يرقى إلى اعتباره ظاهرة يمكن أن تكون تعبيرا عن عمق التغيير الاجتماعي والأدوار المتغيّرة في المجتمعات الغربية على صعيد الجندر.
    وهناك ثمّة من يقول إن عازفات الكمان هذه الأيام، مع الاعتراف ببراعتهن وإتقانهن، تعوزهنّ العضلات، خاصّة عندما يتعاملن مع بعض أعمال مندلسون وبيتهوفن وتشايكوفسكي التي تتّسم بإيقاعاتها القويّة وضرباتها الفجائية والسريعة. وفي الغالب يأتي عزفهن رقيقا ورفيعا وبطيئا، وأحيانا تتحوّل الموسيقى المجلجلة والصاخبة في أصابع بعض العازفات إلى قطع تأمّلية وشاعرية يُخيّل لمن يسمعها أنها آتية من عوالم وفضاءات أخرى.

    Credits
    classicfm.com