:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات هايدن. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات هايدن. إظهار كافة الرسائل

الثلاثاء، يونيو 17، 2025

خواطر في الأدب والفن


  • إحدى قصصي المفضّلة من الأساطير اليونانية قصّة "كلايتي وهيليوس"، ربّما لأنها لا تتضمّن تحوّلا أو موتاً عنيفا أو انتقاماً دامياً. كما أنها تُعتبر مثالا لكيفية امتزاج المشاعر الإنسانية مع الطبيعة. فعندما تصبح عاطفة الحبّ عظيمة بحيث لا يعود احتواؤها ممكنا داخل الإنسان، فإنها تتّخذ لها شكلا جديدا في الطبيعة.
    كانت "كلايتي" واحدة من الحوريّات المولودات لإله البحر أوقيانوس وزوجته تيثيس. وقد وقعت في حبّ هيليوس إله الشمس ورمز النور، الذي كثيرا ما يظهر في الرسم بجمال مذهّب وهو يجرّ عربة الشمس عبر السماء.
    عاشت كلايتي طوال حياتها وهي معجبة بهيليوس وتنظر إليه من بعيد. لكنه لم يقبل حبّها، وبدلا من ذلك وقع في حبّ امرأة من البشر تُدعى ليوكوثيا بعد أن ذهب لرؤيتها متنكّرا.
    كلايتي الغيورة تكتشف علاقة ليوكوثيا وهيليوس وتخبر والدها، فيثور غضبا ممّا اعتبره انتهاكا لعفّة ابنته ويأمر بدفن ليوكوثيا حيّة. وعندما يعلم هيليوس بهذا، يتملّكه حزن شديد ويحرق شجرة مُرّ عطِرة على قبر ليوكوثيا تحيّة لذكراها. وبعد ذلك، يتجاهل كلايتي ويهجرها تماما.
    بعد هجران هيليوس لها، أصبحت كلايتي تتجنّب الناس والأمكنة. كانت فقط تجلس على الأرض وتحدّق في اتجاه واحد فقط؛ في المسار السماويّ الذي يتبعه هيليوس. طوال اليوم كانت تنظر إلى الشمس. وتدريجيّا أصبح جسدها متجذّرا في الأرض ووجهها متّجها نحو الشمس، وتحوّلَ شعرها إلى بتلات ذهبية وجسدها إلى جذع. وأخيرا، تحوّلت كلايتي إلى زهرة، وبدأ الناس يطلقون عليها اسم "الزهرة التي تنظر إلى الشمس" أو عبّاد الشمس.
    وكان هذا شكلا من أشكال التحوّل الذي يظهر كثيرا في الأساطير اليونانية القديمة، وكان بمثابة أداة لإصلاح حبّ كلايتي، ولتخليد ألمها وانتظارها اليائس على هيئة نبات أبدي. وهكذا ولدت زهرة عبّاد الشمس كرمز لجروح الحبّ والشوق الدائم.
    عبّاد الشمس هو أيضا رمز للانتظار. وما دام الزمن لا يتوقّف، فإن الشمس تشرق مرّة واحدة على الأقل في اليوم. وهذا الانتظار هو استعارة لحبّ لا يمكن بلوغه ورمز لشوق لا ينتهي. والفكرة تتكرّر كثيرا في الشعر الغنائي القديم وفي روايات الرومانسية الحديثة وتؤكّد على استمرار العاطفة وثبات الذاكرة.
    الإسم العلمي لعبّاد الشمس هو (Helianthus annuus). و"هيليوس" تعني الشمس و"أنوس" تعني النبات السنوي في الأساطير. وفي بعض أجزاء اليونان، تنتشر حدائق تحمل اسم كلايتي، وهناك أيضا مهرجانات يُعتبر عبّاد الشمس رمزها الرئيسي. كما تظهر هذه الأزهار كثيرا كمنحوتات ترمز إلى دورة الحياة.
    وفي الرسم، غالبا ما صُوّرت كلايتي من قبل رسّامي ما قبل الرافائيلية والرمزية في القرن التاسع عشر. كما وُظّف شعرها الطويل ووجهها المشمس كرموز للحزن الكلاسيكي. وبهذه الطريقة، تجاوزت قصّة كلايتي وعبّاد الشمس التقليد الأسطوريّ البسيط لتصبح إرثا عاطفيّا يربط بين المشاعر الإنسانية والطبيعة ومنظومات الرموز المتوارثة منذ آلاف السنين.
  • ❉ ❉ ❉


  • "الخمسة الكبار" كان اسما لمجموعة من خمسة ملحّنين روس بارزين عاشوا في سانت بطرسبورغ في القرن التاسع عشر وعملوا معا من عام ١٨٥٦ إلى عام ١٨٧٠ لتأليف نمط موسيقي كلاسيكي وطني مميّز. كانت المجموعة تتألّف من الموسيقيين بالاكرييف وسيزار كوي وموسورسكي وريمسكي كورساكوف وبورودين.
    وقد اتخذ هؤلاء الموسيقيون من أسلوب "فرانز ليست" أساسا لبُنية فضفاضة تشبه القصيدة السيمفونية، وبذا تمكّنوا من تجنّب القوانين الغربية الصارمة في شكل السوناتا، وركّزوا بدلا من ذلك على محتوى الموسيقى وليس على قوانين التناظر الشكلية.
    وكانت إحدى الملامح المميّزة للخمسة هي اعتمادهم على الاستشراق، فألّفوا العديد من الأعمال "الروسية" في جوهرها والشرقية في أسلوبها. والخيط الشرقي في الموسيقى الكلاسيكية الروسية يظهر كعلامة أو مجاز، أو كجغرافيا متخيّلة، أو فانتازيا تاريخية. وقد انجذب الموسيقيون الروس إلى الثقافات الشرقية لأن روسيا بلد مترامي الأطراف وذو ثقافات متعدّدة.
    ومن أمثلة الموسيقى الشرقية الروسية مقطوعة البيانو "إسلامي" لبالاكرييف و"الأمير ايغور" لبورودين و"شهرزاد" لكورساكوف و"صور في معرض" لموسورسكي. وقد استلهم بالاكرييف فكرة كتابة موسيقى "إسلامي" بعد رحلة له إلى القوقاز. ويقول في إحدى رسائله: الجمال المهيب للطبيعة الخلّابة هناك وجمال السكّان المتناغم معها تركت في نفسي انطباعا عميقا. وقد تعرّفت هناك على أمير شركسي مسلم كان يزورني باستمرار ويعزف ألحانا شعبية على آلته الموسيقية الشبيهة بالكمان. وأحد هذه الألحان يُدعى "إسلامي"، وهو لحن راقص أسعدني كثيرا فبدأت بتأليفه للبيانو".
    كان الاستشراق قد أصبح في الغرب، وعلى نطاق واسع، أحد أبرز ملامح الموسيقى الروسية وسمة من سمات الشخصية الوطنية الروسية. وبصفته زعيم "الخمسة"، شجّع بالاكرييف استخدام الموضوعات والتناغمات الشرقية لتمييز موسيقاهم "الروسية" عن السيمفونية الألمانية.
    وهناك عملان روسيان رئيسيان يهيمن عليهما الاستشراق بالكامل، هما المتوالية السيمفونية المسمّاة "عنتر" لريمسكي كورساكوف وقصيدة "تمارا" السيمفونية لبالاكرييف. وتدور أحداث "عنتر" في شبه الجزيرة العربية قديما وتمزج بين اسلوبين مختلفين من الموسيقى، الغربية "الروسية" والشرقية "العربية".
    في مذكّراته، يقدّم ريمسكي كورساكوف الصورة التالية لمجموعة الخمسة الكبار:
    كانت أذواق الجماعة تميل نحو غلينكا وشومان والرباعيات الأخيرة لبيتهوفن. ولم يكونوا يكنّون كبير احترام لماندلسون، بينما كانوا يعتبرون موزارت وهايدن عتيقين وساذجين، ويوهان سيباستيان باخ متحجّرا. وشبّه بالاكرييف شوبان بسيّدة مجتمع عصبية. وكان بيرليوز موضع تقدير كبير منهم، وقالوا القليل عن فاغنر. وكانوا يعترفون بسمعة روبنشتاين كعازف بيانو، ولكنهم كانوا يعتقدون أنه لا يمتلك موهبة ولا ذوقاً كملحّن.
    وقد أثّر أعضاء مجموعة الخمسة على العديد من كبار الملحّنين الروس الذين جاءوا بعدهم، مثل غلازونوف وبروكوفييف وسترافينسكي وشوستاكوفيتش. كما أثّروا أيضا على الملحّنين الرمزيين الفرنسيين مثل موريس رافيل وكلود ديبوسي من خلال لغتهم النغمية الجذرية.
  • ❉ ❉ ❉

  • بعض الاقتباسات...
    ◦ عادةً، أذهب إلى الغابة وحدي، بلا صديق، فجميعهم مبتسمون ومتحدّثون، وبالتالي غير مناسبين. لا أرغب حقّا في أن يشاهدني أحد وأنا أتحدّث إلى طائر أو أعانق شجرة سنديان عتيقة. لديّ طريقتي في الصلاة، ولديك طريقتك. علاوة على ذلك، عندما أكون وحدي يمكنني أن أختفي. يمكنني الجلوس على قمّة كثيب رملي ساكناً كشجرة حتى تمرّ الثعالب بلا اكتراث. أستطيع سماع الورود وهي تغنّي بصوت يشبه الهمس. إذا سبق لك أن ذهبت إلى الغابة معي، فلا بدّ أنني أحبّك كثيرا. ميري أوليفر

    ◦ ولدتُ عام 1939، ونُشرتْ رواية "مزرعة الحيوانات" عام 1945. وقرأتها في سنّ التاسعة. كانت ملقاة في المنزل، وظننتها كتابا عن الحيوانات الناطقة. والقول بأنني شعرت بالرعب من هذا الكتاب هو أقلّ من الحقيقة. كان مصير حيوانات المزرعة قاتما، والأغنام غبيّة للغاية. الأطفال يتمتّعون بإحساس قويّ بالظلم، وكان الشيء الذي أزعجني في الرواية أكثر من سواه هو عبارة: كانت الخنازير حقيرة وكاذبة وغادرة". مارغريت آتوود

    ◦ هل المعرفة مفيدة؟ وهل يجب أن تكون مفيدة أصلا؟! هناك اقتباس يتكرّر كثيرا من تشوانغ تزو فيلسوف القرن الرابع قبل الميلاد، يقول فيه: يعرف جميع الناس ميزة كونهم مفيدين، ولكن لا أحد يعرف ميزة كونه عديم الفائدة". كان تزو يعتقد أنه في عالمنا الفوضوي، يمكن لأصحاب السلطة أن يتلاعبوا بسهولة بمن يتمتّعون بالموهبة والطموح، بل قد يحولّونهم الى حملان جاهزة للتضحية. وفي المقابل، من المرجّح أن يكون أولئك الذين يفتقرون إلى الموهبة أو الطموح محميين من الأذى لأنه لا أحد يكترث بهم. ومع ذلك، عندما يقتبس الناس هذا القول اليوم، فإنهم غالبا ما يفعلون ذلك خارج السياق، ما يجعل دلالاته أوسع وأكثر غموضا. هو آنيان

    ◦ نزلنا من السيارة لنستنشق الهواء، وفجأة غمرتنا السعادة عندما أدركنا أن في الظلام من حولنا عشبا أخضر عطِرا ورائحة سماد طازج ومياها دافئة. نحن في الجنوب! لقد رحل الشتاء! أضاء فجر خافت براعم خضراء على جانب الطريق. أخذتُ نفَسا عميقا، عوى قطار مسرعاً عبر الظلام. خلعت قميصي وابتهجت. جاك كيرواك

    ◦ ويل لك يوم يُقال إنك انتهيت من لوحة! هل تنتهي اللوحة؟ يا له من هراء! إنهاؤها يعني التخلّص منها، قتلها، تخليصها من روحها، توجيه ضربة قاضية لها؛ أسوأ ضربة للرسّام وللوحة على حدّ سواء. بيكاسو

    ◦ يعتبرنا الآخرون متفوّقين بسبب ثقافتنا وميولنا الفكرية؛ فتقنياتنا تمكّننا من قيادة السيارات واستخدام برامج معالجة النصوص والسفر لمسافات طويلة جوّا. ويعيش بعضنا في منازل مكيّفة ونستمتع بوسائل الإعلام. نعتقد أننا أذكى من سكّان العصر الحجري، ولكن كم من البشر المعاصرين يستطيعون العيش بنجاح في الكهوف، أو يعرفون كيفية إشعال النار في الحطب للطهي، أو صنع الملابس والأحذية من جلود الحيوانات، أو صنع الأقواس والسهام التي تُطعم أسرَهم؟ جيمس لوفلوك

    ◦ صداقة مستحيلة مع شخص اندثر ولا وجود له إلا في حروف مصفرّة. نزهات طويلة بجانب جدول تخفي أعماقه أواني خزفية. أحاديث عن الفلسفة مع طالب خجول أو ساعي بريد. عابر سبيل بعيون فخورة لن تعرفه أبدا. صداقة مع هذا العالم تزداد كمالاً لولا رائحة الدم المالحة. ذلك الرجل العجوز الذي يرتشف قهوته في سان لازار والذي يذكّرك بشخص ما. وجوه عابرة في القطارات المحليّة. وجوه سعيدة لمسافرين متّجهين ربّما إلى حفلة راقصة رائعة أو إلى قطع رأس. وصداقة مع نفسك، فأنت في النهاية لا تعرف من أنت. آدم زاغايوسكي

  • Credits
    leadingmusicians.com
    paleothea.com

    الأربعاء، أكتوبر 18، 2017

    بابا هايدن

    من أهمّ الشخصيات التي تركت أثرا كبيرا في عالم الموسيقى الكلاسيكية المؤلّف الموسيقيّ النمساويّ جوزيف هايدن. ويُعزى إلى هايدن الفضل في ابتكار الرباعيات الوترية، وحتى السيمفونيات بالإضافة إلى عدد آخر غير قليل من الأشكال الموسيقية.
    كان هايدن معلّما وصديقا لموزارت. وهو أوّل من تنبّأ لوالده بأن ابنه سيكون له شأن في الموسيقى. كما علّم بيتهوفن، رغم أن علاقتهما تخلّلتها فترات من الخصومة والجفاء بسبب عصبية بيتهوفن وميله للشكّ في كلّ شيء. لكن بيتهوفن ظلّ على الدوام يعبّر عن تقديره واحترامه الكبيرين لمعلّمه.
    ترك هايدن تراثا موسيقيا عظيما. التسجيل الكامل لرباعياته الوترية وحدها يربو على العشرين ساعة من الموسيقى المتواصلة. والكثير من موسيقاه لا تخلو من روح الدعابة والمرح، لأنه ضمّنها قفلات طريفة و مفاجآت إيقاعية لا تخطر أحيانا على البال.
    الغريب انه بعد وفاة هايدن بفترة قصيرة، تسلّل إلى قبره مجموعة من الأشخاص الذين كانوا يبحثون في علاقة شكل جمجمة الإنسان بملكاته العقلية، فنبشوا قبره وقطعوا رأسه ثم أعادوا دفن جثّته من جديد. ولعدّة سنوات لم يلاحظ السرقة احد، وبعد مرور مائة وخمسين عاما على الحادثة أعيد الرأس ليُدفن مع الجثّة مرّة أخرى.
    ولد هايدن في مارس من عام 1732. في ذلك الوقت، كانت تهيمن على أوربّا مجموعة من السلالات الملكية: عائلة هانوفر في انجلترا، والبوربون في فرنسا، وهابسبيرغ في النمسا. وكانت أسرة هايدن تعيش في بلدة على الحدود بين النمسا والمجر.
    وقد تأثّر منذ طفولته بحبّ والده للموسيقى الشعبية. رئيس مدرسة الموسيقى في كاثدرائية البلدة لاحظ موهبة الصبيّ الموسيقية، فقرّر ضمّه إلى فرقته. ثم اشترى له والده "ارغن" مستعملا وبدأ يتعلّم عليه العزف. وفي تلك الأثناء تعرّف على موسيقيّ ايطاليّ يُدعى نيكولا بوربورا الذي علّمه التأليف الموسيقيّ.
    وفي عام 1759، استدعاه وجيه يُدعى الكونت مورزين كي يشرف على الاوركسترا الخاصّة بقصره. وهناك ألّف هايدن أولى سيمفونياته. وقد اجتذبت موسيقاه اهتمام الأمير بول ايسترهازي الذي عيّنه نائبا لمدير الفرقة الموسيقية لديه.
    ثم انتقل إلى بلاط آيزنستات التابع لهذه العائلة الهنغارية المشهورة بنفوذها وثرائها. الأمير نفسه كان يجيد العزف على التشيللو والكمان. وقد أراد أن يحسّن صورة البلاط بتشجيع الموسيقى الاوركسترالية والاوبرالية، لذا عهد إلى هايدن بتلك المهمّة.
    وبعد موت بول ايسترهازي خلفه أخوه نيكولاس الذي كان هو الآخر محبّا للموسيقى، فأمر هايدن بأن ينتج المزيد من الأعمال الموسيقية. وكان الأمير الجديد يجيد العزف على آلة الباريتون، وهي آلة موسيقية مقوّسة الشكل وذات ستّة أوتار. وقد أتقن هايدن نفسه العزف على هذه الآلة وألّف أكثر من مائة وخمسين لحنا قدّمها إلى الأمير كي يعزفها.


    في عام 1764، زار نيكولاس ايسترهازي قصر فرساي الفرنسيّ، وقد ألهمته تلك الزيارة أن يبني لعائلته قصرا مشابها. وبالفعل بنى ما أصبح يُسمّى بـ قصر ايسترهازي العظيم . كان القصر يحتوي عند إكماله على أكثر من مائة وعشرين غرفة للضيوف، مع حدائق فسيحة شُيّدت فوق منطقة من المروج الممتدّة على ضفاف بحيرة نوسيدلر. وأصبح القصر مقرّا لإقامة هايدن.
    المكانة المتعاظمة لأسرة ايسترهازي كانت تعني أن على هايدن أن ينتج المزيد من الأعمال الموسيقية، فألّف على مدى سنوات أكثر من أربعة عشر عملا مسرحيا.
    وفي عام 1768، بنى الأمير مسرحا يتّسع لأربعمائة شخص كي تقام عليه العروض المسرحية وغيرها من الفعاليات التي ما تزال تقام إلى اليوم.
    غير أن الذين يخدمون في القصر، ومن بينهم هايدن نفسه، أصبحوا يعانون من الإحساس المتزايد بالعزلة في تلك المساحة الشاسعة من المروج المملّة بعيدا عن عائلاتهم. وقد ألهمت تلك الأجواء هايدن تأليف مجموعة من الألحان الكئيبة والمظلمة من بينها رباعيته الوترية رقم عشرين .
    ومن خلال تلك الألحان، تكرّست شهرة هايدن كمؤلّف مبتكر للرباعيات الكلاسيكية. وإحدى تلك القطع، وهي الرباعية الوترية رقم 33 ، نالت إعجاب موزارت لدرجة أن الموسيقيّ الصغير ألّف، هو الآخر، مجموعة من الرباعيات المماثلة وأهدى ستّاً منها لهايدن.
    في عام 1784، كُلّف هايدن بتأليف سيمفونيات في فرنسا، وهي ما أصبحت تُسمّى بسيمفونيات باريس. وقد أدّى ذلك إلى انتقال شهرته إلى اسبانيا، فدعته إحدى الكاثدرائيات في قادش لتأليف مجموعة من الأعمال الدينية. وقد كوفيء على عمله بإهدائه كعكة شوكولاتا ضخمة مُلئت بالعملات الذهبية.
    في عام 1790، توفّي الأمير نيكولاس ايسترهازي. وبعد الثورة الفرنسية، قام ابنه الذي خلفه، ويُدعى انطون، بتسريح الاوركسترا، لكنه أمر بأن يُدفع لهايدن راتب تقاعديّ تقديرا منه لخدمته الطويلة والمتميّزة لعائلته.
    وفي عام 1791، ذهب هايدن إلى لندن، وهناك عُومل كضيف مهمّ، ومنحته جامعة اوكسفورد درجة شرفية. وردّ هايدن على التحيّة بتأليف سيمفونية اسماها سيمفونية اوكسفورد أو السيمفونية رقم 92.
    وأثناء إقامته في لندن التي دامت بضع سنوات، شعر هايدن بارتباط خاصّ بالمدينة. وقد أُعجب كثيرا بالنشيد الوطنيّ الانجليزيّ وبتأثير ذلك النشيد في توحيد الانجليز وتقوية مشاعرهم الوطنية. وكان يدرك حاجة بلده النمسا إلى نشيد وطنيّ يوحّدها في وجه تهديدات نابليون بغزو أراضيها. وقد ألف فعلا نشيدا أصبح في ما بعد هو النشيد الوطنيّ للنمسا وألمانيا.
    ويقال أن هايدن كسب في لندن في سنة واحدة ما كسبه في عشرين عاما من خدمته في قصر ايسترهازي. وقد بذل الانجليز محاولات عدّة لاستبقائه في انجلترا. لكن بعد موت الأمير انطون ايسترهازي وتولّي الأمير نيكولاس الثاني الحكم، أمر الأخير بأن يعود هايدن إلى النمسا وأن يُعيَّن مستشارا موسيقيّا له.


    في سنّ التاسعة والخمسين، عاد هايدن إلى بلاط آيزنستات وبدأ عملية إعادة ترتيب الحياة الموسيقية في البلاط الجديد. وفي عام 1796، كتب كونشيرتو الترومبيت المشهور. غير أن الأمير الجديد لم يكن مغرما بالموسيقى الآلاتية، فأمر هايدن بتأليف عدد من الأناشيد الدينية، وقد ضمّنها الأخير معرفته الواسعة بالأوبرا والسيمفونيات.
    من بين أعمال هايدن التي كتبها في تلك الفترة سيمفونيته السادسة والتسعين . وكان تقديمها للجمهور مناسبة عظيمة، ليس لأن السيمفونية كانت تحفة فنّية فحسب، وإنما لأن نجفة ضخمة سقطت من السقف أثناء الحفل. وقد اكتسبت السيمفونية اسمها الآخر، أي المعجزة، لأن أحدا من الحضور لم يُصب بأذى في تلك الحادثة.
    في تلك الأثناء، عزف هايدن وموزارت معا عددا من الرباعيات في فيينا. كان موزارت يحترم هايدن كثيرا ولطالما دعاه لحضور حفلاته. وكان هايدن يردّ بالتعبير عن إعجابه الشديد بالعبقريّ الصغير. وفي الحقيقة كانت الموسيقى التي عُزفت في جنازة هايدن في ما بعد هي القدّاس الجنائزيّ الذي كتبه موزارت قبيل وفاته.
    في عام 1804، غادر هايدن نهائيا أسرة ايسترهازي بعد خدمة دامت أربعين عاما. وأقيم على شرفه حفل حُمل إليه على أريكة خاصّة وعُزفت خلاله سيمفونيّته الخليقة .
    كان عمر هايدن آنذاك قد شارف على السادسة والسبعين. وقد حضر الحفل عدد من كبار الموسيقيين، كان من بينهم بيتهوفن وسالييري الذي قاد الاوركسترا. وقد دُهش هايدن من حرارة الاستقبال الذي حظي به، ثم أمر بأن يُنقل إلى بيته، ولم يظهر بعد ذلك على الملأ أبدا.
    وعندما بدأ نابليون غزو الأراضي النمساوية في عام 1809، كان هايدن يقضي أيّامه الأخيرة في منزله في إحدى ضواحي فيينا . كان وقتها قد أصبح شخصية محترمة ومعروفة في عموم أوربّا. وكبادرة احترام، أمر نابليون بوضع حارسين خارج منزله كي يقوما على خدمته في سنّه المتقدّمة تلك.
    كان هايدن معروفا بتواضعه وحسّه الأبويّ تجاه كلّ من عرفه، ولهذا كان يُكنّى "بابا هايدن". وكان من عادته أن يبدأ كلّ حفلة له بقوله "باسم الربّ". لكنه أيضا كان معروفا بحبّه للدعابة وقد نقل ذلك الإحساس إلى العديد من مؤلّفاته.
    المعروف أن هايدن عانى طوال حياته من التهاب الجيوب الأنفية، وكان هذا وضعا غير مريح له وأدّى إلى إصابته باعوجاج في عظمة أنفه.
    واعترافا بما تركه من إرث موسيقيّ عظيم، أُطلق اسمه على كويكب سيّار يقع بين المرّيخ والمشتري اكتشفه العلماء عام 1973.

    Credits
    classicfm.com