:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات كارافاجيو. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات كارافاجيو. إظهار كافة الرسائل

الخميس، يوليو 06، 2017

روبنز: هوميروس الرَّسم


أينما نظرت في تاريخ الفنّ، لا بدّ أن ترى أثرا لبيتر بول روبنز؛ الفنّان الذي يقال انه أوّل من رسم البورتريه الفخم وأوّل من ابتكر قوس قزح في الرسم.
من دون رسومات روبنز، كيف كان يمكن، مثلا، أن يتطوّر موريللو وفان دايك؟ وهل كان استشراق القرن التاسع عشر سيأخذ شكله المعروف لولا لوحات روبنز المبكّرة والمثيرة التي تصوّر مناظر صيد التماسيح والقطط الكبيرة ؟ وهل كان بيكاسو سيرسم غورنيكا لو انه لم يرَ مثال روبنز عن ويلات الحروب في لوحته عواقب الحرب ؟
يمكن اعتبار روبنز شخصا مميّزا واستثنائيّا. شخصيّته الساحرة وسلوكه المتّزن وسرعة بديهته وإتقانه للعديد من اللغات جعل منه أيضا دبلوماسيّا ومبعوثا مرموقا. حياته الخاصّة كانت متميّزة أيضا. كان وسيما، لائقا صحّيّا، وكاريزماتيّا وبعيدا عن الحسد والضغينة والتنافس.
والناس اليوم يشيرون إلى روبنز على انه "الفنّان الذي رسم كلّ ذلك العدد الكبير من صور النساء ". وأثناء حياته ولثلاثة قرون بعد وفاته، كان يُنظر إليه كنموذج للانجازات الفنّية والاجتماعية. وعلى العكس من معاصره رمبراندت الذي عانى وتعثّر كثيرا في حياته وكان مثالا للرومانسيّ البائس، كانت حياة روبنز مليئة بالنجاح والشهرة والمال.
كان روبنز قادرا على فعل كلّ شيء ما عدا شيء واحد: أن يجد طريقه إلى قلوب الانجليز. في أوربّا، ظلّ دائما يُعامَل باحترام كبير. أحد النقّاد الفرنسيين من القرن التاسع عشر قال عنه إن الطبيعة البشرية بأسرها في متناول فنّه، باستثناء الأفكار المثالية والسامية".
وقد استطاع أن يؤثّر على الكثيرين من معاصريه، مثل فان دايك وفيلاسكيز ورمبراندت، وترك بصمته على الكثيرين ممّن أتوا بعده.
لم يكن روبنز مجرّد رسّام غزير الإنتاج، بل كان أيضا دبلوماسيّا وجامع آثار وشخصيّة أوربّية جامعة استطاعت أن تتنقّل بسهولة بين قصور ملوك القارّة، بما فيها بلاط تشارلز الأوّل ملك انجلترا.
لكن كلّ هذا لم يُكسِبه محبّة البريطانيين الذين لم يكن يعجبهم النمط الأوربّي الناعم الذي كانوا يرونه في فنّ روبنز. وبوصفه أعظم رسّامي الشمال، فقد ظلّ الكثيرون ولزمن طويل ينظرون إليه باعتباره مخلب قطّ للمؤسّسة الكاثوليكية وخبير دعاية بارعا لها.
وفي بعض الأحيان، اُتّهم بأنه كان يدير مصنعا للرسم أنتج عددا كبيرا من أعمال الاستديو التي لم تكن تحمل سوى القليل من بصمة المعلّم، أي روبنز. كان من عادته أن يضع نموذجا مصغّرا للوحة ويرسم الوجه والذراعين، ثم يكلّف احد مساعديه بإتمام باقي المهمّة.
والانجليز ليسوا الوحيدين الذين كانوا ينظرون إلى روبنز وفنّه بتحفّظ، بل لقد انتُقد كثيرا من معاصريه بسبب أشكاله المشوّهة ووجوهه النمطية. كما أن ألوانه الحسّية وتوليفاته الدينية كانت سببا آخر للتشكيك في فنّه.
في القرن التاسع عشر، قال عنه فان غوخ انه سطحيّ وأجوف ومنمّق. وحتى مؤيّديه، والكثيرون منهم رسّامون وخبراء رسم، كانوا يشعرون غالبا بأنه من الضروريّ أن يقرنوا ثناءهم عليه بملاحظات ناقدة.
مثلا، كان اوجين ديلاكروا يعتقد أن روبنز حصل على شهرة يندر أن حظي بها رسّام آخر. لكن كان يأخذ عليه ملء فراغات لوحاته بأعداد كبير من الأشخاص والجميع فيها يتحدّثون في وقت واحد".


وحتى جون راسكين الذي كتب مُشيدا بعقلية روبنز وأصالة فنّه وتفوّقه حتى على تيشيان ورافائيل، أخذ عليه افتقار أعماله للجدّية وخلوّها من العاطفة الحقيقية.
غير أن كلّ هذه الانتقادات تظلّ في النهاية مجرّد أحكام عامّة ولا تنطبق على مجموع أعمال روبنز الكاملة والتي يفوق عددها الألف وخمسمائة صورة.
روبنز، بكلّ تنوّعه، موضوع كبير وواسع. صحيح انه رسم قصصا دينية، لكنه أيضا رسَم بورتريهات لبعض أعظم الأشخاص في زمانه. كما رسم مشاهد من الميثولوجيا الكلاسيكية ومناظر طبيعة مثيرة للذكريات وصورا مجازية من التاريخ القديم والمعاصر.
ولا يمكن أيضا نسيان صوره المعبّرة لمعارك وعمليات صيد عنيفة، ولا صوره العائلية التي رسمها بأقصى درجات الرقّة والإتقان.
ورغم انه كان من الناحية الفنّية رسّاما فلمنكيّا، إلا انه كان في نفس الوقت شخصيّة أوربّية شاملة منذ البداية. والده كان كالفينيّا (نسبة إلى المصلح البروتستانتيّ كالفين)، وقد هرب الأب من انتورب إلى كولونيا عام 1568 عندما وصل دوق ألبا لإعادة الكاثوليكية بحدّ السيف إلى الأراضي المنخفضة الاسبانية، ردّا على النفوذ المتصاعد للبروتستانتية.
روبنز نفسه وُلد في وستفاليا. وبعد فترة قصيرة من موت والده في عام 1587، عاد هو ووالدته إلى انتورب وتحوّلا إلى الكاثوليكية. ورغم تحوّله، إلا انه تلقّى تعليما كلاسيكيّا وإنسانيّا وتلقّى تدريبا فنّيّا على أيدي ثلاثة من أشهر رسّامي انتورب وقتها.
لكن أسلوبه لم يتبلور تماما إلا بعد رحلته إلى ايطاليا التي سافر إليها ما بين عامي 1600 و 1608، وهناك استطاع بفضل مواهبه الرسميّة والشخصيّة الوصول إلى بلاط دوق غونزاغا. ثم بدأ من هناك رحلته الكبيرة إلى فينيسيا وفلورنسا وجنوا وروما لكي يستنسخ بعض اللوحات لمصلحة الدوق.
ذائقة روبنز الفنّية كانت عالية كما تعكسها لوحاته التي رسمها في ما بعد والتي تأثّر فيها بفنّ ميكيل انجيلو وتيشيان وكارافاجيو.
كان دوق غونزاغا أوّل من اعترف بقدرات روبنز الدبلوماسية، فبعثه إلى اسبانيا عام 1603 مع عدد من الهدايا للملك فيليب الثالث. وقد عيّنه الملك رسّاما للبلاط قبل أن يتّخذ منه سكرتيرا له ومبعوثا شخصيّا.
وفي عام 1608، عاد إلى انتورب مع سريان هدنة حرب الإثني عشر عاما بين اسبانيا وانفصاليي جنوب هولندا في عام 1609. وقد شكّلت تلك الفترة بداية عصر جديد من السلام والنموّ الاقتصاديّ الذي استفاد منه روبنز، خاصّة مع الطفرة الكبيرة في بناء دور العبادة وترميمها وتزيينها.
ثم عُيّن روبنز بعد ذلك رسّاما لبلاط الأمير البيرت والأميرة ايزابيللا، الوكيلين الاسبانيين لأسرة هابسبيرغ في حكم بلاد الفلاندرز، وهي وظيفة أعفته من دفع الضرائب وسمحت له بتأسيس مرسم خاصّ به.
وفي تلك الفترة أيضا، اقترن بزوجته الأولى ايزابيللا برانت التي أنجب منها ثلاثة أطفال وعاش معها بسعادة في بيت اشتراه وأعاد تصميمه على الطراز المعماريّ الايطاليّ.
كان روبنز يقدّر موهبته الفنّية جيّدا ويعرف أنه مُهيّأ بالفطرة لرسم الأعمال الضخمة أكثر من الصغيرة. وما عزّز هذا الشعور في نفسه هو اتّصافه بمستوى عالٍ من التجاوز والإقدام الفنّي.


وكان محسودا من الكثيرين، ليس بسبب مهارته كرسّام فحسب، وإنّما أيضا بسبب خصاله ومناقبه التي مكّنته من النفاذ إلى داخل دوائر السلطة.
في أواخر 1620، كلّفته الأميرة ايزابيللا، باعتباره مستشارها السرّيّ، بالقيام بعدّة مهامّ لاستعادة العلاقات بين بلده هولندا وانجلترا. وكانت زيارته اللاحقة للندن ناجحة دبلوماسيّا وفنّيّا.
وأثمرت جهوده تلك، مع آخرين، في وضع نهاية للحرب الاسبانية الانجليزية عام 1630. وقد أنعم عليه تشارلز بلقب فارس، ثم كلّفه بإنجاز بعض المهامّ الفنّية، ومن بينها رسم سقف دار الضيافة في الوايتهول.
في ذلك الوقت، تخلّى روبنز عن وظيفته الدبلوماسية وقرّر أن يعود إلى الرسم وإلى زوجته الثانية والجديدة هيلينا فورمنت التي عقد عليها بعد وفاة زوجته الأولى ايزابيللا عام 1626. وكانت صوره التي رسمها في ما بعد لهيلينا من بين أعظم لوحاته، وقد منحته خمسة أطفال أصغرهم وُلد بعد ثمانية أشهر من وفاته.
إنتاج روبنز في العقد الأخير من حياته اتسم بطابع شخصيّ، وقد اكتفى برسم مناظر للريف والحياة القروية حول ضيعته الجديدة خارج انتورب. وفي تلك اللوحات رسَم الفنّان عالما من السلام والتوازن يتناقض كليّةً مع واقع أوربّا آنذاك، حيث كانت حرب الثلاثين عاما في ذروة استعارِها.
وبسبب مكانته كرسّام بارز في عصره، فإن مجموعة أعماله الكاملة أعيد استنساخها وتوزيعها بمختلف وسائل الحفر والنقش.
ووصلت طبعات صوره الدينية إلى كلّ زاوية من زوايا العالم الناطق بالاسبانية، واستخدمها المبشّرون في المستعمرات. ويمكن العثور على آثار من روبنز في كنائس القرى المتناثرة في أرجاء بيرو والمكسيك والفلبّين وغيرها.
كما ظهرت نسخة من إحدى لوحاته منقوشةً على إناء من الخزف الصينيّ يعود تاريخه إلى بدايات القرن الثامن عشر.
وفي أوربّا نفسها، انجذب فنّانون كثر ومن جنسيات مختلفة إلى التنوّع الذي يميّز رسومات روبنز. فالانجليز أحبّوا لوحاته عن الطبيعة، والألمان أعجبوا بحيويّة صوره، والأسبان وجدوا في لوحاته الدينية مصدرا للإلهام، والفرنسيون ذُهلوا من مناظره الحسّية. واستمرّ هذا التأثير لزمن طويل.
أتباع روبنز الفرنسيّون كانوا كثيرين، من فاتو وبوشير وفراغونار إلى مانيه ورينوار وسيزان وغيرهم.
أما عندما يتعلّق الأمر برسم المناظر العنيفة، فإن روبنز كثيرا ما كان يُستخدم كموجّه ودليل. لوحته اصطياد نمر وفهد وأسد (فوق) تصوّر صراعا عنيفا حتى الموت بين بشر وحيوانات. وقد استلهمها رسّامون مثل رمبراندت وديلاكروا ولاندسير وبوكلين ورسموا مشاهد شبيهة.
ليس من الخطأ القول بأن لروبنز الفضل في ابتكار العديد من الأنماط الصُورية. لكن يجب أن نتذكّر أنه، هو نفسه، مدين لمن سبقوه من الرسّامين ممّن رأى أعمالهم في بداياته مثل ميكيل انجيلو ورافائيل وغيرهما.
وقد ظلّ يرسم حتى اللحظات الأخيرة من حياته، عندما مات بمرض النقرس عام 1640 عن ثلاثة وستّين عاما. غير أن وفاته كانت مجرّد محطّة عابرة في "الروبنزية"، فقد استمرّ تأثيره ومثاله في أوربّا وفي العالم حتى اليوم.

Credits
peterpaulrubens.net
theguardian.com

الاثنين، أكتوبر 31، 2016

الولد الشرّير في فنّ الباروك/2

الصورة التي فوق هي لوحة أخرى معروفة لكارافاجيو إسمها عازف العود. ولأوّل وهلة لا تعرف إن كان العازف فيها رجلا أو امرأة. لكن نظرة إلى قميصه المفتوح ترجّح انه رجل.
في ذلك الوقت كان في روما رجال وفتيان مخصيّون، وكانوا مشهورين بجمال أصواتهم ويتمتّعون بشعبية كبيرة بين الناس، ويمكن أن يكون هذا العازف احدهم.
تأثير التغييرات الهرمونية التي تطرأ على جسد المخصيّ تتوافق مع تلك التي في اللوحة، مثل الجلد غير المشعر والوجه المتورّم.
الأزهار والفواكه المرسومة إلى يمين العازف قيل أنها لا تتوافق مع أسلوب كارافاجيو، وربّما أضافها رسّام آخر غيره. وثمّة من يقول أنها أضيفت إلى اللوحة في مرحلة لاحقة من قبل الرسّام الهولندي يان بريغل.
الذين قلّدوا كارافاجيو كانوا كثيرين. وبعضهم كانوا يعرفونه جيّدا. أحدهم كان صديقه المقرّب سبادرينو، ولوحاته تشبه لوحات كارافاجيو من حيث حسّ الدراما فيها والاستخدام السينمائيّ للضوء.
لكن من بين كلّ هؤلاء المقلّدين، كان الأكثر إثارة للاهتمام هو جيوفاني باغليوني، أوّل من كتب سيرة لكارافاجيو. كان باغليوني معجبا به في البداية لدرجة انه رسم لوحة تأثّر فيها بكارافاجيو بشكل واضح، لكنه سرعان ما انقلب على بطله.
وقصّة نزاع الاثنين توفّر صورة حيّة لشخصية كارافاجيو الناريّة، تلك النار التي أشعلت لوحاته وأفسدت حياته.
كان باغليوني أكثر تقليدية بكثير من كارافاجيو، وفي البداية كان أكثر نجاحا. وكان كارافاجيو يغار بشدّة من الفنّانين الآخرين، وخاصّة المتميّزين منهم مثل باغليوني الذي كان يعرف كيف يرضي زبائنه الأغنياء.
لذا أصبح كارافاجيو يتحدّث بالسوء عن زميله وينشر عنه الشائعات في جميع أنحاء المدينة. وقد رفع الأخير ضدّه دعوى قضائية متّهما إيّاه بالتشهير. ووقف كارافاجيو أمام المحكمة، وحاول التحايل والتملّص بطريقة أو بأخرى من التهمة. ثم اتهمه باغليوني باللواط، وهي جريمة كانت عقوبتها الإعدام، وادّعى بأن كارافاجيو حاول قتله. والذين يعرفون كارافاجيو يدركون أن هذا أمر ممكن الحدوث فعلا.
وعلى إثر ذلك هرب كارافاجيو من روما إلى نابولي، ثم إلى مالطا وصقلية. وأصبح فنّه أكثر قتامة وأكثر استبطانا.
وكان قد صنع لنفسه اسما في روما، وهي مدينة تعجّ بالفنّانين. وبعد أن فرّ هربا من تهمة القتل، واصل كثير منهم عمله من حيث توقّف.
ثم حدثت مبارزة بينه وبين شخص يُدعى توماسوني، ويُرجّح أن الخلاف بينهما كان حول امرأة هي زوجة الأخير، وانتهت المبارزة بمقتل توماسوني وفوز كارافاجيو.
وقد واجه كارافاجيو موته عندما هاجمه شخص أراد أن ينتقم منه بسبب نزاع قديم. وقام ذلك الشخص بقطع وجه الرسّام بسكّين. وتوفّي بعد ذلك الهجوم بأربعة أشهر وعمره لم يتجاوز الأربعين .
وعلى مدى السنوات العشر الأخيرة من حياته، كان كارافاجيو قد أصبح مشهورا. ومثل نجوم الموسيقى المتمرّدين، تسبّبت وفاته المفاجئة في جعله أكثر شهرة من أيّ وقت مضى.
وطوال نصف قرن، حاول عدد لا يُحصى من الفنّانين أن يرسموا مثله. ثم أصبحت واقعيّته الشديدة موضة قديمة واختفى ذلك النوع من الرسم.
ولعدّة قرون، اختفى اسم كارافاجيو نفسه من التداول. فقط في بدايات القرن الماضي تذكّره الناس من جديد واستعاد سمعته.
ولم يكن مستغربا أن يكتسب كارافاجيو الكثير من الأتباع، وهذا كان دليلا على موهبته الهائلة. ومع ذلك، فإن اللوحات التي تركها وراءه في روما أعطت انطباعا عن كونه شخصا عبقريّا.
الفنّانون الأجانب الذين أتوا إلى ايطاليا اخذوا نفوذه معهم عند عودتهم إلى أوطانهم: ريبيرا إلى اسبانيا، وروبنز إلى بلاد الفلاندرز، بالإضافة إلى كلّ من فيلاسكيز ورامبرانت اللذين يدينان له بالكثير.
لم يكن لكارافاجيو محترف أو تلاميذ، وكان يزدري الرسّامين الآخرين ويهدّد بضرب غيره من الفنّانين الذين كان يعتقد أنهم يسرقونه.
وقد كتب باغليوني يصف كارافاجيو بأنه رجل ساخر وفخور بنفسه. كان يتحدّث باحتقار عن رسّامي الماضي والحاضر بغضّ النظر عن مدى تميّزهم، لأنه كان يعتقد أنه وحده الذي استطاع تجاوزهم جميعا".
وكان كارافاجيو محقّا في كلامه، إذ لا احد من الرسّامين كان مثله أو يشبهه. هناك منهم من رسموا أشياء مثيرة للاهتمام، لكنهم جميعا يبدون على حال من الضآلة إذا ما وُضعوا إلى جواره.

Credits
caravaggio-foundation.org
theguardian.com

الأحد، أكتوبر 30، 2016

الولد الشرّير في فنّ الباروك

بعض الرسّامين إما أن تحبّه أو تكرهه. وكارافاجيو هو احد هؤلاء الذين لا تنفع معهم أنصاف المواقف أو الحلول. وأنا أتعاطف معه وأتفهّمه وأقدّر موهبته النادرة في الرسم على الرغم من عنف شخصيّته وقسوة ودموية رسوماته.
يمكن للإنسان أن يتعاطف مع شخص مثل كارافاجيو باعتبار طفولته البائسة وحالة اليُتم التي مرّ بها في صغره وفقده لمعظم أفراد عائلته بسبب الطاعون الذي اجتاح ميلانو عام 1577 عندما كان عمره ستّ سنوات.
كان كارافاجيو الولد البلطجي أو القبضاي في فنّ عصر الباروك. خناقاته ومشاغباته الكثيرة كان لها منطقها أحيانا: نادل في حانة أغضبه ذات مرّة فما كان منه إلا أن هشّم وجهه بالكأس. وشخص آخر أهانه بالحديث عنه في غيابه، فانتقم منه بمهاجمته من الخلف بسيف. وهكذا.
وقد اعتُقل الرسّام مرّات لا تُحصى بسبب مشاجراته ومشاكله. وأمضى السنوات الأخيرة من حياته هاربا ومطلوبا في جريمة قتل.
الرجل الذي قتله بطعنة في الفخذ ربّما كان مجرما منافسا. وقد صبّ كارافاجيو العنف الذي اتّسمت به حياته في فنّه. ومع ذلك فإن بعض لوحاته مليئة بالرقّة والعاطفة.
ذلك المزيج من الغضب والتعاطف هو ما جعل من كارافاجيو فنّانا مثيرا. وهذا هو السبب في أن لوحاته تبدو حديثة جدّا على الرغم من مرور 400 سنة على وفاته.
كان هناك منطق وراء العنف الذي مارسه كارافاجيو في حياته. صحيح انه كان شخصا خطيرا جدّا، لكنه لم يكن مجنونا.
وقد يكون احد أسباب عنف شخصيته وقسوته انه جرّب حياة الشوارع في مرحلة مبكّرة من عمره. وانضمّ وقتها إلى مجموعة من المجرمين والخارجين على القانون. وكان هؤلاء يؤمنون بشعار يقول: لا أمل، إذن لا خوف".
كارافاجيو نفسه كان شخصا متبجّحا وماجنا وفي حالة سُكر دائم. وفي النهاية أصبح قاتلا. وبسبب حياته المشينة والفاضحة تلك، أصبح الفنّان الأكثر شهرة وسوء سمعة من بين جميع فنّاني عصره.
قدّيسوه قذرون وشُعث الرؤوس، وأشراره ضحايا. وهو لم يكن مهتمّا بالحيل الفنّية، بل كان هدفه الوحيد هو رسم الحقيقة.
لوحاته الجريئة والمملوءة بالظلال والدراما دفعت بالرسم في اتجاه جديد وأكسبته الكثير من المعجبين بعد فترة طويلة من نهاية حياته القصيرة والعنيفة.
قيل انه كان يرسم بسرعة غريبة، لدرجة انه كان بإمكانه أن ينجز لوحة في أسبوعين فقط. وقد ترك خمسين لوحة هي محصّلة اشتغاله بالرسم طوال ثلاثة عشر عاما فقط.
وكلّ لوحاته خلفياتها قاتمة. ولم يوقّع منها سوى لوحة واحدة هي قطع رأس يوحنّا المعمدان. وبعض أشهر لوحاته يمكن رؤيتها على العملات الورقية الايطالية القديمة.
كان كارافاجيو يختار للوحاته الدينية أشخاصا من الناس العاديّين الذين كان يلتقيهم في الشوارع والحانات في روما مطلع القرن السابع عشر.
وقد اشتهر خاصّة بالاستخدام الكثيف للضوء والظلّ أو ما يُعرف بأسلوب الكياروسكورو، غير أن سرده الدراميّ هو الذي غيّر مسار الفنّ حقّا.
وكان كارافاجيو يستطيع أن يمسك باللحظة الأساسية في أيّ قصّة. ويمكننا أن نفهم سرّ إعجاب بعض مخرجي الأفلام به مثل بازوليني ومارتن سكورسيزي الذي قال: لو عاش كارافاجيو اليوم لكان احد أفضل صانعي الأفلام". ويمكنك أن ترى نفوذه في بعض أفلام سكورسيزي مثل الإغراء الأخير للمسيح.
هناك عنصر مهمّ في فنّ كارافاجيو وهو انه كثيرا ما كان يرسم نفسه في لوحاته. وقد رسم نفسه كـ غولاياث أو طالوت في لوحته الموسومة داود مع رأس طالوت .
كما انه يظهر في لوحته بعنوان باخوس المريض . كان هو مريضا عندما رسم تلك اللوحة. وقد رسم وجهه المنعكس في مرآة. في ذلك الوقت كان يعاني من الملاريا وكان قد غادر المستشفى للتوّ. شفتاه المزرقّتان وعيناه الباهتان ونظراته الواهنة تعكس حالته الصحّية.
في لوحته عشاء في ايموس (فوق)، يرسم كارافاجيو المسيح بملامح أكثر شبابا ودون لحية، بعد أن ظهر لأتباعه بعد موته بحسب الرواية الإنجيلية.
للحديث بقيّة.

الاثنين، ديسمبر 30، 2013

علاقة الأشكال الفنّية بالحواسّ

منذ القدم، كان يُنظر إلى حاسّة البصر على أنها النموذج في اكتساب المعرفة ومن ثمّ استيعابها من قبل العقل. أرسطو ركّز على هذا وقارن عملية التذكّر بالنظر إلى لوحة مرارا. وسان اوغستين قال إنه لا غنى عن البصر في التأمّل الروحي والفكري.
ومع ذلك فالأساطير القديمة حافلة بأمثلة وصور عن القلق المتولّد من حاسّة البصر، مثل قصص نرسيس وميدوسا وأورفيوس. وفي أساطير أخرى، ترتبط حاسّة اللمس غالبا بالقوى الايجابية والواهبة للحياة، كما في أسطورة بيغماليون وبروميثيوس.
أما أرسطو فقد حذّر من القوى الخطيرة المرتبطة بالوهم عند استخدام البصر. بينما أثنى، هو وتوما الاكويني، كثيرا على اللمس وقالا إن هذه الحاسّة هي أساس المعرفة التي يحصل عليها الإنسان من جميع الحواسّ.
وهناك اليوم دراسات عديدة عن دور ووظيفة اللمس في أعمال فنّانين مثل سيزان وكاندنسكي والسورياليين.
علماء الانثروبولوجيا وعلم النفس السلوكي والبيولوجيا بدءوا في تثمين حواسّ غير البصر في دراساتهم وتجاربهم. وبعض هؤلاء اقترحوا حاسّة الشمّ كبديل ممكن لما يرون انه مضامين أبوية لظاهرة التركيز على البصر في الثقافة المعاصرة.
فولتير وديدرو ولوك قالوا إن اللمس حاسّة أساسية في اكتساب المعرفة التجريبية عن العالم وأن البصر ما هو إلا وسيلة ثانوية في تأكيد تلك المعرفة.
في القرنين السادس عشر والسابع عشر ظهرت لوحات تصوّر انهماك أشخاص في لمس منحوتات، كما في لوحة الرسّام الاسباني جوسيبي دي ريبيرا (1591-1652) بعنوان "حاسّة اللمس" التي تصوّر رجلا أعمى يتفحّص بيديه تمثالا نصفيا بينما تستقرّ لوحة زيتية صغيرة بإهمال على طاولة بجانبه.
وهناك لوحة أخرى لنفس هذا الرسّام بعنوان "النحّات الأعمى" تحمل نفس الفكرة، ويظهر فيها رجل أعمى وهو يتحسّس بيديه تمثالا نصفيّا.
فكرة اللقاء بين رجل أعمى وعمل نحتي ظهرت أيضا في بعض الكتابات. في بداية القرن السابع عشر، مثلا، زعم كاتب ايطاليّ أن ميكيل انجيلو بعد أن تقدّمت به السنّ وضعف بصره كان يعتمد على اللمس وحده في الحكم على مزايا الأعمال النحتية القديمة أو المعاصرة. كما يقال أن الرسّام الفرنسي إدغار ديغا لجأ إلى النمذجة النحتية وأصبح يهتمّ بها أكثر من الرسم عندما بدأ بصره يضعف.
لوحتا دي ريبيرا المشار إليهما آنفا كانتا ضمن سلسلة من اللوحات المشهورة التي خصّصها الفنّان لتناول الحواسّ الخمس. السلسلة تدفع المتلقّي للتفكير في دور الحواسّ وتأثيرها على الأفراد. وقد رسم اللوحات عندما كان يعيش في روما في وقت ما من القرن السابع عشر.
في لوحة "حاسّة اللمس"، استدعى الرسّام مقارنة بين الصفات الوصفية واللمسية للرسم والنحت، أي بين الفرشاة والإزميل. وهو يبرهن على أنه من خلال حاسّة اللمس يمكن للرجل الأعمى أن يتعرّف على الأعمال النحتية.
هذه اللوحة، من بين جميع لوحات السلسلة، مشهورة بشكل خاص بسبب سخريتها المزعجة. فالرجل الكفيف يقف وجها لوجه مع تمثال نصفي. وهو يريد أن يحسّ بالتمثال الرخامي ذي الأبعاد الثلاثة على الرغم من قربه منه، في حين أن اللوحة ذات السطح المستوي والموضوعة خلفه على الطاولة تذكّر الناظر أن هناك بعض المعلومات التي لا يمكن إيصالها حتى عن طريق اللمس.
تذكّرنا هذه اللوحة مرّة أخرى بمحدودية الاتصال البشري وبالفجوة بين العالم الحقيقي وعالم الصور. الرأس المنحوتة قد تكون رأس ابوللو. أما الشخص الذي يتفحّصها فربّما يكون النحّات الايطالي الأعمى جيوفاني غونيللي، وقد يكون الفيلسوف الإغريقي كارنيديس الذي قيل انه كان يتعرّف على التماثيل النصفية من خلال تحسّسها ولمسها بيده وذلك بعد أن فقد حاسّة البصر. وقد كان من عادة الفنّانين آنذاك أن يربطوا صور الفلاسفة القدماء باستعارات عن الحوّاس.
ترى هل أراد الرسّام أن يقول إن الإنسان الكفيف يمكن أن يتعرّف على النحت، بينما لا يمكن أن يتعرّف على الرسم سوى الإنسان المبصر؟ في ذلك الوقت كان يثور نقاش حول المنافسة بين الأشكال الفنّية من معمار ورسم ونحت وأدب وموسيقى. وبالتالي يبدو أن دي ريبيرا أراد من خلال اللوحة التأكيد على تفوّق الرسم على النحت.
كان هذا الفنّان يرفض الرمز والاستعارة في أعماله ويتعامل مع ما يراه ويلمسه بنفسه. ويبدو أنه لم يخترع من مخيّلته أشخاصا يمثّلون كلّ حاسّة، بل فضّل أن يختارهم من الشارع ورسمهم من واقع الحياة.

الفيلسوف الألماني يوهان هيردر (1744-1803) تحدّث مرّة عن فضائل النحت وخلع عليه هالة من الرومانسية عندما ميّز ما بين الرؤية واللمس. وقد روى هيردر عدّة قصص عن أشخاص مكفوفين ليبرهن على أننا نرى العمل النحتيّ كسطح ثلاثيّ الأبعاد لأننا كبرنا ونحن نستخدم حاسّتي اللمس والبصر في وقت واحد ومتزامن. ويضيف انه لولا حاسّة اللمس لكانت حاسّة البصر مجرّد حقل من الألوان والأشكال.
وهو يرى بأن جوهر النحت شكل جميل ووجود فعليّ وحقيقة ملموسة. وعندما نفهم النحت على انه رؤية فقط، فإن هذا يُُعدّ تدنيسا للنحت واستهانة خطيرة بإمكانياته.
وعلاوة على ذلك، دعا هيردر إلى الفصل ما بين الرسم والموسيقى، في ما بدا وكأنه اعتراض على أعمال فنّانين مثل كاندينسكي وموندريان اللذين قدّما لوحات "موسيقية"، وعلى أعمال بعض الملحّنين الرومانسيين الذين سعوا لرسم صور من خلال موسيقاهم.
وهيردر يميّز ما بين الرسم والنحت. انه يربط الرسم بالرؤية وبعالم الأحلام، بينما يدّعي أن النحت هو مصدر الحقيقة. طبعا هو يقصد النحت الكلاسيكي الذي كان يعرفه في عصره. وبالتالي قد يتساءل المرء عمّا يمكن أن يقوله هيردر لو انه عاش إلى اليوم ورأى النحت التكعيبي الذي ابتعد كثيرا عن التمثيل الدقيق للأشكال في لحظة واحدة وأصبح ينظر إلى الأشياء ذات الحقائق المتعدّدة والمتحرّكة عبر الزمن، وكيف سيتعامل مع التقليلية مثلا ومع غيرها من الظواهر التي تؤكّد استحالة التنبّؤ باتجاهات ونزعات الفنّ.
المعروف أن الرسّام جوسيبي دي ريبيرا كان تلميذا وتابعا لكارافاجيو. وقد قضى معظم حياته في روما وفي نابولي التي كانت في ذلك الوقت أعظم مدن ايطاليا ومركزا مهمّا للفنّ. وكان زملاؤه من الرسّامين الايطاليين يلقّبونه بالاسبانيّ الصغير.
كانت مملكة نابولي وقتها جزءا من الإمبراطورية الإسبانية. وكانت تُحكم من قبل سلسلة من نوّاب الملك الإسباني. أصول دي ريبيرا الاسبانية أعطته الحقّ بأن يصبح مرتبطا بالطبقة الاسبانية الحاكمة في المدينة وبمجتمع التجّار الهولنديين فيها.
كان الفنّان يرسم مثل معاصره وأستاذه كارافاجيو، وتحوّل بعيدا عن التقاليد والنماذج العتيقة والموضوعات المستوحاة من المثل الكلاسيكية العليا. ورسم بدلا من ذلك الحياة البشرية كما تبدو فعلا. وهي في كثير من الأحيان قبيحة وبشعة. وقد صوّر الفنّان كلّ هذا بواقعية كانت تصدم الجمهور وتروق له في الوقت نفسه.
صور دي ريبيرا المروّعة عن التعذيب والمعاناة التي كانت تمارَس في زمانه كانت تحيّر الجمهور والنقّاد معا. وهو كان موهوبا في إظهار الرؤوس والوجوه والأيدي بطريقة اللمس. بنية الجلد والعظام في رسوماته واقعية بحيث أن العديد من مشاهده يمكن أن تؤذي مشاعر الأفراد ذوي الحساسية الشديدة.
ومن الواضح أن دي ريبيرا لم يكن يقصد الإساءة لأحد. ولكن الوحشية لم تكن تصدّه عن تصوير مظاهرها وهو دائما ما كان يتبع مصادر إلهامه. وكان الجمهور قد أصبح معتادا على تصوير حزن الإنسان وبؤسه بتلك الطريقة.
ولـ دي ريبيرا صورة أخرى مشهورة اسمها الشحّاذ العجوز الأعمى يظهر فيها رجل أعمى مسنّ مع مرشده الشابّ. وهذه اللوحة لها علاقة بفكرة التشرّد التي كانت رائجة في الأدب الإسباني آنذاك. لكن الرسّام أراد منها أساسا أن تكون موعظة عن الخيرية المسيحية.
وقد استلهم موضوع اللوحة من رواية بعنوان حياة لازاريللو دي تورميس نُشرت لأوّل مرّة عام 1554 من قبل كاتب مجهول. بطلا الرواية هما رجل أعمى متسوّل وقاسي الطبع وصبيّ مراوغ يضطرّ باستمرار لأن يخدع سيّده كي يحصل على حصّة أكبر من الطعام والصدقات.
وعلى الرغم من أن دي ريبيرا لم يعد أبدا إلى إسبانيا، إلا أن العديد من لوحاته أعيدت إلى هناك من قبل أعضاء الطبقة الحاكمة الإسبانية وعن طريق بعض التجّار. ويمكن رؤية تأثيره في فيلاسكيز وموريللو، بل وفي معظم الرسّامين الإسبان الآخرين من تلك الفترة.
بعد وفاته، دخلت أعمال دي ريبيرا حيّز التجاهل والنسيان، ربّما بسبب سمعته التي كان يخالطها عنف وقسوة. فقد رسم أهوال الواقع ومظاهر توحّش البشر وأظهر انه يقدّر الحقيقة أكثر من المثالية.
لكن بدأت إعادة تأهيل اسمه وفنّه من خلال معرضين أقيما لأعماله في لندن عام 1982 وفي نيويورك عام 1992. ومنذ ذلك الحين اكتسبت لوحاته المزيد من اهتمام النقّاد والدارسين.

Credits
archive.org
artble.com

الأربعاء، يونيو 20، 2012

صبيّ عضّته سحلية

قضى كارافاجيو معظم حياته هاربا في مدن جنوب ايطاليا وتاركا في إثره لوحات عظيمة وسمعة مخيفة لإنسان عنيف وغير مستقرّ نفسيّا.
كانت روما مدينة الثراء والسلطة التي صنعت كارافاجيو ثم لم تلبث أن أسقطته. وقد وصل إليها كفنّان واعد في العام 1592م. كان في روما العديد من رعاة الفنّ مثل الكاردينال فرانشيسكو ماريّا ديل مونتي الذي عاش كارافاجيو في قصره لبعض الوقت. وكان فيها كنائس بحاجة إلى تزيينها برسومات تشرح قصص الإنجيل لجمهور المؤمنين في عصر الإصلاح المضادّ. وكانت المدينة أيضا تضجّ بحياة الشوارع وبيوت الهوى وعمليات الثأر والانتقام التي كان كارافاجيو يتغذّى عليها.
في بداياته، حاول الفنّان رسم الفواكه والخضار بطريقة تجعلها تبدو واعية. ثمّ أصبحت الفواكه تأخذ هيئة ألعاب ايروتيكية ومثلية يظهر فيها الكرادلة لاعبين مشاركين.
لوحات كارافاجيو، بشكل عام، هي عن الألم والصراع والحزن الذي تنطق به الوجوه. لكنّها أيضا عن الناس العاديّين وعن العيون التي تحدّق خارج اللوحات بخوف وجزع. ويمكن القول أيضا أن فنّه يصوّر مواجهة بين طبقتين اجتماعيّتين ويحاول فرض الطبقات الدنيا على حياة النبلاء الذين كانوا يرعونه ويدعمونه.
من أشهر لوحات كارافاجيو وأكثرها انتشارا هذه اللوحة التي استعان فيها بموديل حقيقيّ يدعى ماريو مينيتي، وهو رفيق كارافاجيو والموديل الذي يظهر في العديد من لوحاته مثل صبيّ مع سلّة فاكهة وقارئ الحظّ . ومن الواضح أن الصبيّ في هاتين اللوحتين لا يبدو متأنّثا كثيرا كما يظهر في هذه اللوحة. فهو هنا يضع وردة في شعره ويرتدي ثوبا فضفاضا من النوع الذي يسهل خلعه.
في اللوحة، يتراجع الصبيّ إلى الخلف في انزعاج بينما ينحسر ثوبه عن كتفه فجأة وتهتزّ شفتاه الحمراوان ألماً بعد أن غرزت سحلية متخفيّة بين ثمار التوت أسنانها في إصبعه. بإمكانك سماع الصبيّ وهو يصرخ، على حدّ قول احد معاصري الرسّام واصفا هذا المشهد.
الزهرة خلف الأذن وثمار التوت والإصبع الأوسط والسحلية يُرجّح أن لها دلالات جنسية. ويمكن اعتبار اللوحة صورة مجازية لحاسّة اللمس. كما يمكن أن تكون ترجمة للمقولة المشهورة عن المتعة التي يعقبها ألم، أو تلك التي تصف الحبّ بأنه زهرة لها أشواك تؤذي وتُدمي.
والعديد من نقّاد الفنّ يذهبون إلى أن اللوحة تتضمّن استعارة دينية وتنطوي على تنفير مؤلم من الرذيلة. بينما رأى آخرون أنها في الأساس دراسة عن التعبير الانفعالي المتطرّف.
المشهد يمسك بلحظة من التوتّر الدرامي، كما هو واضح. ومن المرجّح أن كارافاجيو هو الذي اختار للصبيّ وضعية الجلوس هذه ونوعية الملابس التي يرتديها.
وقد قيل إن هذه اللوحة لو عُرضت للبيع في المزاد اليوم لكسرت حاجز الـ 150 مليون يورو بسهولة. ويمكن تبرير هذا الرقم الكبير بحقيقة أن اللوحة لا تغادر مكانها عادة إلا بعد أن يؤمّن عليها بـ 30 مليون يورو. وتوجد من اللوحة نسختان كلاهما أصليّتان: الأولى في مؤسسة روبيرتو لونغي في فلورنسا والثانية في الناشيونال غاليري في لندن.

كان كارافاجيو يدرك أن الكرادلة الذين يشترون أعماله يعرفون حيَل عصر النهضة في استبدال المناظر الكلاسيكية والرعوية بمناظر حسّية تذكّر المسيحيين بأهداب الفضيلة وتحذّرهم من مغبّة الوقوع في الذنوب. وكان يعرف أن زبائنه من رجال الكنيسة يستمتعون بإحكام اللوحات ونقائها، وفي نفس الوقت بقدرتها على إغراء الناظر.
إصرار كارافاجيو على أن يكون الصبيّ حقيقيا وأن تكون الصدمة حقيقية كذلك، يجعل من الصعب أن ننظر إلى هذه اللوحة بأمان. فهي مشحونة بالجنسانية، كما أنها تذكير خالد بذلك الفتى الروماني المجهول.
ترى، ما الذي يبقى في الذاكرة من هذه الصورة؟ بالتأكيد ليس السحلية التي ستتعب عيناك كثيرا قبل أن تراها وهي تطبق على إصبع الصبيّ الأوسط. ما يبقى، ربّما، هو الدورق الزجاجيّ المرسوم بنعومة والذي يحتوي على زهرة وحيدة في الماء مع تموّجاتها وانعكاساتها.
في عام 1606، انتهى زمن كارافاجيو في روما تماما عندما هرب منها بعد أن قتل رجلا بسبب صراع الاثنين على امرأة. وقد حُكم عليه بالموت بقطع الرأس. وأجاز القاضي أن يُنفّذ الحكم من قبل أيّ شخص يمكنه التعرّف على كارافاجيو في طرقات المدينة.
غير أن الرسّام استطاع الهرب من روما بفضل مساعدة الأمير فيليبو كولونا الذي كان كارافاجيو قد رسم له ولعائلته عدّة لوحات من قبل. وانتهى به المطاف في مدينة نابولي التي أنجز فيها رسم بعض أشهر أعماله مثل جوديث تقطع رأس هولوفيرنس وديفيد "داود" ورأس غولاياث "جالوت". ومن اللافت أن كارافاجيو منذ صدور الحكم عليه في روما أصبح يرسم رؤوسا مقطوعة تحمل ملامحه هو، في ما بدا وكأنه اعتراف منه بخطاياه وتعبير عن مخاوفه الشخصيّة.
وفي ما بعد، علم كارافاجيو أن البابا باولو الخامس ألغى الحكم الصادر بحقّه، فسافر على متن قارب صغير متوجّها إلى بلدة بالو القريبة من روما. وكانت تلك مغامرته الأخيرة. إذ سرعان ما أصيب بالحمّى التي لم تمهله طويلا، وتوفّي في يوليو من عام 1610 عن عمر لا يتجاوز التاسعة والثلاثين، ودُفن في قبر مجهول.
غير أن كارافاجيو لم يمت، بل بُعث مرارا خلال الأربعمائة عام التي تلت موته من خلال الكتب والدراسات الكثيرة التي كُتبت عن حياته وفنّه. وآخر مرّة ظهر فيها كانت قبل سنتين عندما أعلنت مجموعة من العلماء والمؤرّخين أنهم اكتشفوا بقايا عظام داخل إحدى المقابر القديمة في توسكاني. واعتمادا على تحليل الأنسجة وفحص الحامض النووي وغيرها من الفحوصات التي دامت عاما كاملا، توصّل الباحثون إلى أن الرفات تخصّ كارافاجيو نفسه كما رجّحوا أن يكون سبب وفاته إصابته بحمّى الملاريا أو مرض السيفيليس.

الأربعاء، ديسمبر 28، 2011

جينتيليسكي: صورة البطلة الأنثى


خلافا للطليعيات من النساء اللاتي برزن في الرسم مثل سوفونيزبا ويسولا ولافينيا فونتانا اللتين تنتميان لعائلتين موسرتين، فإن ارتيميشيا جينتيليسكي التي توفّيت والدتها عندما كانت في سنّ الثانية عشرة، أتت من خلفية اجتماعية أدنى ونشأت في بيت عنيف.
في العام 1612، وكان عمرها لا يتجاوز الثامنة عشرة، ظهرت جينتيليسكي في محاكمة اغتصاب مثيرة. كانت تلك الحادثة كافية لأن تعيش الرسّامة حياة نبذ وعزلة وأصبح من المستحيل بالنسبة لها أن تنال رضا الطبقة الارستقراطية التي كانت ترعى الفنون وتكلّف الفنّانين برسم أعمال فنية لأفرادها.
ولدت ارتيميشيا جينتيليسكي (أو جينتيلاشي كما يُنطق اسمها بالايطالية) في روما عام 1593م. وكان والدها الفنّان اوراتسيو جينتيليسكي ابنا لصائغ من توسكاني. وقد تعلّمت ارتيميشيا الرسم من والدها وأتقنت أسلوبه بسرعة، لدرجة انه كان من المستحيل أحيانا تمييز أعمالها عن أعمال والدها، خاصّة في سنوات مراهقتها.
في مايو من عام 1611 وجد اغوستينو تاسي، وهو رسّام كان والدها يتعاون معه في انجاز لوحات جدارية في القصر البابوي، وجد ارتيميشيا وحدها ترسم في منزل العائلة فقام باغتصابها، وفي ما بعد وعد بأن يتزوّجها.
كان لدى اوراتسيو عدد من الأصدقاء التافهين. والغريب انه اتخذ من تاسي صديقا له حتى مع علمه بالسجلّ المشين لهذا الأخير وبارتكابه جرائم عنف في العديد من المدن الإيطالية. وكان من بين التهم التي سبق أن وجّهت له زنا المحارم ومحاولته قتل زوجته العاهرة. وعندما اتضح أن زوجة تاسي كانت ما تزال حيّة وأنه لم يكن في موقف يسمح له بالزواج من ارتيميشيا لتصحيح خطئه، بادر والدها بتوجيه تهمة الاغتصاب له في المحكمة.
كان والد ارتيميشيا يحاول استعادة شرف ابنته. إلا أن إحالة القضية إلى المحكمة عرّض المرأة للعديد من الاتهامات الباطلة بالفجور. ولأنها فقدت عذريتها وهي ما تزال غير متزوّجة، فقد اعتبرتها المحكمة امرأة عديمة الشرف وبالتالي لا يمكن الاعتداد بشهادتها. لكنها تمسّكت بروايتها عن الحادثة. وفي النهاية أدين اغوستينو تاسي وحُكم عليه بالنفي. لكن الحكم لم يُنفّذ أبدا.
اوراتسيو الذي كان قد حاول أكثر من مرّة إجبار ارتيميشيا على أن تصبح راهبة، زوّجها على عجل من رجل عجوز يدعى بييترو ستياتيسي. وسرعان ما غادرت بمعيّته إلى فلورنسا.

في الفترة التي سبقت ذلك، كان والدها قد تعرّض لتأثير النجم الصاعد كارافاجيو. وهذا كان له تأثير ملحوظ على لوحات ارتيميشيا. لكن من غير المرجّح أن تكون قد رأت لوحة كارافاجيو جوديث تقطع رأس هولوفيرنس قبل أن ترسم ترجمتها الخاصّة للقصّة حوالي العام 1612م.
وعلى أيّ حال، فإن لوحة ارتيميشيا تختلف بشكل ملحوظ عن لوحة كارافاجيو في تصوير الصراع الدرامي الذي تلعب فيه خادمة جوديث دورا نشطا. في اللوحة تظهر الخادمة وهي تمسك الجنرال بشكل محموم بينما تحزّ البطلة عنقه بسيفها فيما يتدفّق دمه أسفل السرير.
وقد قيل إن العنف الشديد في هذا المشهد يعكس ردّ فعل ارتيميشيا على حادثة الاغتصاب التي تعرّضت لها.
ومن أشهر أعمالها الأخرى لوحتها المبهرة سوزانا والكَهْلان التي رسمتها عندما كانت في السابعة عشرة من عمرها. ومن الواضح أنها استخدمت نفسها كموديل في اللوحة العارية. وقد فعلت ذلك مرارا في لوحاتها. قصّة هذه اللوحة تتحدّث عن الاغتصاب أيضا. وملامح المرأة فيها هي نفسها ملامح ارتيميشيا. وربّما أرادت من خلالها التأكيد على براءتها، تماما مثلما ظهرت براءة سوزانا في القصّة.
الانتقال إلى فلورنسا شكّل بداية حياة جديدة لـ ارتيميشيا كفنّانة. موهبتها المثيرة للإعجاب تغلّبت على مكانتها الاجتماعية المتواضعة ومنحتها فرصة الاتصال بالشخصيات الفكرية التي كانت تجتمع في منزل بوناروتي. هناك تعرّفت ارتيميشيا إلى العالم الشهير غاليليو. لكنها أيضا تعرّفت إلى فرانشيسكو ماريا دي نيكولو مارينجي الذي أصبح عشيقها وداعمها المالي.
وفي عام 1614، وبفضل مساندة رعاتها الأقوياء وزملائها الفنّانين، أصبحت ارتيميشيا أوّل امرأة يتمّ قبولها في أكاديمية فلورنسا للفنون.
كانت ارتيميشيا تميل إلى رسم النساء العاريات بطريقة لا تخلو من إثارة. وكانت شخصيّاتها في الرسم تحمل شبها قريبا منها، كما هو الحال مع لوحتها داناي.
علامة ارتيميشيا الفارقة كانت المرأة البطلة: سوزانا، جوديث، لوكريتسيا، كليوباترا، مريم المجدلية. وهنّ يظهرن في لوحاتها عاريات غالبا.
كانت ارتيميشيا جينتيليسكي تواكب الموضة وتتبع أسلوب حياة باذخا، ما تسبّب في تراكم ديونها والتزاماتها المالية. وقد اضطرّت إلى الذهاب إلى روما عام 1520 حيث وجدت رعاة جددا واستغلّت الفرص الجديدة لتطوّر سمعتها كرسّامة بورتريه. وقد كُلّفت برسم لوحة كبيرة لتزيّن جدران كاتدرائية بوتزولي في نابولي. وكانت قائمة رعاتها في ذلك الوقت تتضمّن اسم الملك الاسباني فيليب الرابع.
وفي أواخر عام 1630 سافرت الرسّامة إلى لندن حيث كان والدها يعمل آنذاك رسّاما في بلاط الملكة هنرييتا منذ العام 1626م. وقيل إنها ذهبت إلى هناك لمساعدة والدها الذي كان قد أصبح عجوزا ولرسم بعض اللوحات في سقف قصر الملكة في غرينيتش.
كانت جينتيليسكي أوّل رسّامة امرأة تدير محترفا كبيرا مع مساعدين كثر. وقد قضت بقيّة حياتها في نابولي، المدينة التي لم تكن تحبّها كثيرا، طبقا لما توحي به رسائلها. وقد توفّيت هناك في عام 1654م.
ومؤخّرا، ظهر فيلم سينمائي عن حياة وفنّ ارتيميشيا جينتيليسكي. غير أن الفيلم تعرّض لانتقادات كثيرة بسبب افتقاره للدقّة التاريخية. وقد قدّم الفيلم المغتصب تاسي بصورة العاشق المتمنّع والإنسان النبيل الذي وقف إلى جانب الرسّامة وأشعل موهبتها الإبداعية في الرسم. .

Credits
britannica.com

الأربعاء، ديسمبر 22، 2010

ميغرين: مزوّر اللوحات الأشهر

وُلد هان فان ميغرين في هولندا عام 1889 وكان مفتونا بالرسم منذ طفولته. كان من عادته أن ينفق كلّ ما في جيبه من نقود على شراء مستلزمات وعدّة الرسم. وقد كوفيء وهو صبيّ على موهبته الفنّية بمنحه ميدالية ذهبية بعد انتهائه من رسم ديكور إحدى الكنائس.
وفي احد الأيّام رأته زوجته وهو يستنسخ لوحة كي يبيعها على أساس أنها أصلية. وقد ثنته الزوجة عن ذلك العمل. لكن تلك الحادثة كانت أوّل مؤشّر على اهتمام ميغرين الجدّي بالتزوير.
وانتقل ميغرين وزوجته بعد ذلك إلى لاهاي حيث درس فيها ونال درجة البكالوريوس في الفنّ عام 1914م. وخلال العشر سنوات التالية كان يرسم ويبيع لوحاته بأثمان معقولة. وكانت رسوماته وقتها عبارة عن مناظر داخلية ولوحات دينية وأحيانا بورتريهات.
وكان اتجاهه السياسي كاثوليكيا ومعاديا لليهود ومتحفّظا إلى درجة الفاشيّة. كما كان معارضا لكافّة الاتجاهات الحديثة في الفنّ. ورغم انه لم يكن غير ناجح كفنّان، إلا أن النقّاد كانوا سلبيين تجاه أعماله. لذا نفر منهم وأصبح يشعر بالمرارة تجاههم وتجاه مروّجي الرسم الحديث.
وبعد فترة أدرك ميغرين انه لن يحقّق كرسّام ما كان يصبو إليه من نجاح ومجد. لذا قرّر أن يحترف تزوير اللوحات الفنّية. والغريب أن مهنته الجديدة جلبت له قدرا كبيرا من الثروة والشهرة.
واليوم يقترن اسمه بشكل وثيق باسم يوهانس فيرمير الرسّام الهولندي الذي كان ميغرين يقلّد لوحاته.
لكن لماذا فيرمير بالذات؟ السبب هو انه لم يكن يُعرف الكثير عن حياة فيرمير. فتاريخ مولده ووفاته على وجه الدقّة ما يزال مجهولا. ثم إن فيرمير لم يحصل في زمانه على التقدير الذي كان يستحقّه. وهناك سبب آخر وهو أن الناس مختلفون حول عدد مجموعته الكاملة من اللوحات. وظلّ العدد يتغيّر باستمرار إلى أن استقرّ في مطلع القرن الماضي عند خمس وثلاثين لوحة.
كان ميغرين يدرك أن الناس في شوق لرؤية المزيد من لوحات فيرمير المجهولة. وكانت جميع لوحاته لا تحمل تواريخ. وهذا بالضبط هو حلم أيّ مزور. وصور فيرمير المشهورة والتي رسمها في ستّينات القرن السابع عشر، مثل الفتاة ذات القرط اللؤلؤي وصانعة الدانتيل وامرأة تمسك بميزان، كانت تتضمّن علامة فيرمير الفارقة وأسلوبه المميّز والذي يحمل بصمة معلّم قديم.
كانت مهمّة ميغرين فعّالة دون شك. وقد أخذ دروسا ساعدته على أن ينجح في أولى لوحاته المزوّرة والمنسوبة لـ فيرمير بعنوان سيّدة ورجل أمام ارغن. وتلقّى على اللوحة ثناءً فوريّا من مؤرّخ الفنّ البروفيسور ابراهام بريديوس الذي قال عن اللوحة أنها عمل أصيل من أعمال فيرمير.
في السنوات الأربع التالية، كان ميغرين يعيل نفسه من خلال رسم البورتريهات. لكنه كان أيضا يدرس تقنيّات الطلاء الذي كان مستخدما في فنّ القرن السابع عشر وأنماط التشقّقات التي عادة ما تظهر بشكل طبيعي على أسطح اللوحات التي تعود لتلك الفترة. وقد تمكّن من إتقان التكنيك الذي وظّفه في عمليات التزوير الكبرى التي أجراها على فيرمير.

Meegeren paints Christ

استراتيجية ميغرين من وراء تلك العملية كانت ذكيّة. فقد سمع بعض النقّاد آنذاك يتحدّثون عن احتمال أن يكون فيرمير رسم لوحات دينية في بدايات حياته وأنها قد تظهر في المستقبل وأن فيرمير قد يكون ذهب إلى ايطاليا لدراسة هذا النوع من اللوحات.
وقد انتهز ميغرين الفرصة وحقّق للنقاد أحلامهم عندما رسم لوحة "المسيح في ايموس" التي يظهر فيها واضحا تأثير كارافاجيو، ومن ثمّ نسبَها إلى فيرمير.
وزيادة في الإقناع، اخترع ميغرين قصّة عائلة ايطالية فقيرة كانت تحتفظ بتلك اللوحة لأجيال. وزعم أن العائلة رفضت الكشف عن هويّتها. ثم قدّم اللوحة إلى احد متعهدّي الفنّ الهولنديين. وعندما رآها الناقد ابراهام بريديوس سقط في حبّها على الفور ونشر خبرا عن "هذه اللحظة الرائعة في حياة محبّ للفنّ"، كما كتب في إحدى المجلات. وأضاف: إن أمامنا لوحة تقول لنا بوضوح إن كل إنش فيها ينطق باسم فيرمير. إننا لا يمكن أن نجد في أيّ لوحة من لوحات المعلّم العظيم مثل هذه العاطفة والفهم العميق لقصّة الإنجيل التي لا يمكن أن يعبّر عنها سوى الفنّ الرفيع".
لكن كانت هناك شكوك حول اللوحة في بعض الأوساط. فقد وصفها احد متعهدّي الفنّ في نيويورك بأنها "تزوير متعفّن". لكن بفضل شهادة بريديوس عن أصالة اللوحة فقد بيعت إلى متحف بـ روتردام لقاء مبلغ مذهل قدره مليونا دولار أمريكي.
في تلك المرحلة، بدأ ميغرين يشعر بمعنى الثراء، فانغمس في تناول الكحول والمخدّرات وأصبح مدمنا على المورفين. ورغم انه كان يتوق للاعتراف بعمليات التزوير كي يذلّ النقّاد الذين تجاهلوه، إلا انه قرّر أن يزوّر لوحتين أخريين لـ فيرمير أثناء سنوات الحرب.
لكن لسوء حظّه، تمّ القبض عليه بعد أيّام من نهاية الحرب العالمية الثانية، لا بسبب كونه مزوّرا وإنما بتهمة اخطر هي بيع الكنوز الوطنية الهولندية إلى العدوّ. فقد أخذت إحدى لوحاته المنسوبة كذبا إلى فيرمير طريقها إلى المجموعة الشخصية للزعيم النازي هيرمان غورنغ.
ولكي ينقذ ميغرين نفسه من احتمال الحكم عليه بالتعامل مع العدوّ النازي، فقد اعترف انه مذنب بالجريمة الأقلّ خطرا، أي التزوير. كما اقرّ بأنه زوّر أربع لوحات حقيقية لـ فيرمير. لكنّ اعترافاته تلك ووجهت بعدم التصديق.
وقد شُكّلت لجنة للنظر في الأمر. بينما اقترح ميغرين نفسه القيام برسم لوحة جديدة لـ فيرمير وهو ما يزال في السجن بانتظار المحاكمة. واتضح بعد ذلك أن اللوحة رُسمت بنفس اليد التي رسمت اللوحات الأخرى المزوّرة.
وقد اجتذبت محاكمته وقتها تغطية عالمية واسعة. وصوّر ميغرين نفسه أثناءها كرجل محبّ للرسم، كما وضع اللوم على "النقّاد الخبثاء" الذين أرادوا تدمير مستقبله.
وفي النهاية حُكم عليه بالسجن سنة واحدة في نوفمبر 1947م. لكن نتيجة لانغماسه في حياة الترف والمجون ومعاناته من مرض القلب، تعرّض ميغرين إلى نوبة قلبية أودت بحياته في ديسمبر من نفس السنة.
عندما نتمعّن اليوم في اللوحات التي زوّرها ميغرين، فإننا لا يمكن أن نقارنها بلوحات فيرمير، ربّما باستثناء لوحة أو اثنتين. فنوعية الوجوه في هذه اللوحات تذكّر بالصور الفوتوغرافية . كما أن التشريح الدقيق فيها يذكّر أكثر بالتعبيريين الألمان في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، وليس بعصر فيرمير.
إن قصّة ميغرين، بما تتضمّنه من عناصر الغرابة والجشع والتباهي والسذاجة والمهارة الفنّية والخبث وحتى الدعابة، تناولت بعض الإشكاليات التي ما تزال تؤرّق عالم الفنّ إلى اليوم.
ربّما لم يكن هان فان ميغرين رسّاما عظيما. لكنّه، من خلال ما فعل، جعل الناس يفكّرون بشكل أعمق في الأسئلة التي تتعلّق بماهيّة الفنّ والأسباب التي تدعو الناس إلى تقدير الأعمال الفنّية وتقييمها بشكل صحيح.

Credits
en.wikipedia.org

الثلاثاء، أكتوبر 12، 2010

عودة أمير الظلام

في الفنّ، هناك من الأشياء ما لا يقلّ إثارة عن إعادة اكتشاف رسّام كبير أو قديم. والأمر يشبه كثيرا العثور على مغلّف مملوء بشهادات الأسهم القديمة في بطانة الجزء الخلفي من أريكة جدّ العائلة. هذا الشيء لا يحدث كثيرا طبعا. لكنه يحدث على أيّ حال.
فيرمير كان غير معروف كليّاً طوال ثلاثة قرون قبل أن يعاد اكتشافه في منتصف القرن التاسع عشر. وكارافاجيو كان مجرّد اسم لا أكثر، إلى أن تمكّن مؤرّخ لامع يُدعى روبيرتو لونغي من إعادة اكتشافه في العام 1952م.
وأحدث مثال عن الاكتشاف المفاجئ لرسّام قديم يعود تاريخه إلى العام 1972، عندما أقيم في باريس معرض مخصّص لرسّام فرنسي كبير وغامض من القرن السابع عشر يُدعى جورج دي لا تور. وكان عالمان مثابران قد جمعا نماذج قليلة وثمينة من فنّه في باريس عام 1972م. كان جورج دي لا تور يرسم مشاهد الليل كما لم يرسمها فنّان آخر من قبل. شمعة تومض، وجه يضيء، شيء ما يحدث في الظلام، لكن ما هو؟ من الواضح أن لا تور كان تابعا من بعيد لـ كارافاجيو. لكن ألوانه أغرب ومزاجه أكثر رقّة.
ومنذ ذلك الاكتشاف الرائد ظهرت بعض الحقائق البسيطة عن الرسّام صاحب الاسم الغامض.
ولد جورج دي لا تور عام 1593 في بلدة صغيرة بمقاطعة اللورين خلال العصور الوسطى. لكنه انتقل عام 1620 إلى بلدة لونافيل التي أمضى فيها بقيّة سنوات حياته. وقد ظلّ هناك يرسم في عزلة حتّى وفاته في عام 1652م.
لكن لا أحد إلى اليوم يعرف تماما أين وكيف التقى كارافاجيو. إذ لم يكن هناك لوحات لـ كارافاجيو في لونافيل ولا في أيّ مكان قريب منها.
ومن المرجّح أن يكون دي لا تور قد تلقى دروسا في الرسم على يد احد أتباع كارافاجيو الهولنديين. ولكن لأن دي لا تور لم يكن على اتصال بالتيار الفنّي السائد آنذاك، فإن بعض النقّاد يذهبون إلى القول بأن هذا العامل بالذات هو ما جعل منه رسّاما خاصّا ومتفرّدا.
ومن الواضح انه استطاع بلورة أسلوبه الفنّي الذي لا تخطئه العين أثناء إقامته في لونافيل، عندما كان يحاول التغلّب على الكآبة بالانهماك في الرسم.
والواقع انك عندما تتذوّق دي لاتور، فإنك سرعان ما تتعرّف على نكهته الخاصّة. لوحاته المعروفة لا تتجاوز الأربعين. لذا فإن كلّ معرض لأعماله هو حدث قائم بذاته.
ملكة بريطانيا تملك إحدى لوحاته بعنوان "سينت جيروم يقرأ". وقد دخلت اللوحة المجموعة الملكية في العام 1660 عندما اشتراها تشارلز الثاني. واللوحة توفّر دليلا نادرا وغير عادي على ذكاء ملكة بريطانيا وذوقها الرفيع.
معظم اللوحات التي تصوّر سينت جيروم يظهر فيها واهنا وضعيفا وفي الثمانين من عمره . لكن هذه اللوحة تصوّره في الستّينات من عمره. وهو يبدو فيها أصلع وبأنف حمراء.
رسْم القدّيسين بمظهر إنساني كان احد المعايير الفنّية التي كانت سائدة في عصر الباروك. كما انه أحد أفضل الدروس المستمدّة من كارافاجيو. وهذه اللوحة لا تدع مجالا للشكّ بأنها لـ لا تور بألوانها وبأسلوب إضاءتها. جيروم معروف دائما برداء الكاردينالية الأحمر. لكن لم يحدث أبدا أن صُوّر لباسه بهذه الدرجة من التوهّج، كما لو انه مضاء من الداخل مثل فانوس صيني.
ضوء الشمعة يخترق الرسالة التي يقرؤها ويضفي عليها وهجا احمر. إنها لحظة ليلية مكثّفة. والمشهد ليس مجرّد وصف لحالة الضوء، بل استحضار لمزاج ليليّ مشحون بطريقة غريبة.
على الرغم من أن دي لا تور أصبح اليوم غامضا، إلا أن من الواضح أنه كان يحظى في زمانه بالكثير من الإعجاب، بدليل مرّات الاستنساخ الكثيرة التي أجريت للوحاته التي كُتب لها البقاء.
كان جورج دي لاتور رسّام البلاط في عهد الملك لويس الثالث عشر. وكان قد أمضى وقتا في كلّ من إيطاليا وهولندا، حيث كانت لوحات كارافاجيو تحظى هناك بالشعبية. وممّا لا شكّ فيه أنه رأى تلك اللوحات وتأثر بها. والشبه واضح كثيرا بين لوحات الاثنين. ومثل كارافاجيو، كانت كلّ لوحة من لوحات دي لا تور تتضمّن شخصية مركزية واحدة.
كان دي لا تور يرسم مصدر الضوء ضمن الإطار العام للوحة. والسطوع الشديد في اللوحة يصبح نقطة الارتكاز داخلها.
في لوحته المشهورة المسمّاة المجدلية التائبة، يرسم دي لا تور شمعة ينعكس وهجها على وجه المرأة الجالسة إلى طاولة. المرأة تجلس في الظلام تقريبا وتبدو كئيبة إلى حدّ ما، بينما تريح يدها اليمنى على جمجمة بشرية تستقرّ في حضنها.
إمالة المرأة لجسدها إلى الأمام قليلا يضفي على المنظر إحساسا بالحميمية. والفكرة التي تتناولها هذه اللوحة هي أن مريم المجدلية تخلّت طوعا عن حياة الترف والرفاهية وفرّغت نفسها للتأمّل في معنى الحياة ومصير الإنسان.
هذه اللوحة كانت خلال السنوات القليلة الماضية موضوعا لدراسات فنّية كثيرة ومستفيضة أجراها عدد من مؤرّخي الفنّ الأمريكيين والفرنسيين.
اليوم، هناك من يقول إن دي لا تور كان تلميذا لـ غويدو ريني، وأنه درس على يد الرسّام الايطالي أثناء إقامته في روما.
الغريب أن هناك شهادات من معاصري دي لا تور تصفه بأنه كان شخصا متغطرسا وسليط اللسان وبخيلا وعنيفا إلى درجة لا تطاق.
والأكثر غرابة أن هذه الأوصاف، عدا البخل، تناسب كارافاجيو تماما.
هذان الرسّامان كانا الأكثر تركيزا من بين جميع الرسّامين على تصوير المواضيع المقدّسة بكلّ بهائها وجمالها. غير أنهما مع ذلك كانا يتّسمان بالغلظة والدناءة.
كان كارافاجيو شخصا خسيساً كما يصفه بعض المؤرّخين. وربّما كان دي لا تور أكثر خسّة ووضاعة.
ومع ذلك أنتج الاثنان فنّا استثنائيا يتجاوز طبيعتهما الحقيقية.

هامش: لوحات دي لا تور


Credits
arthistory.net

الأربعاء، فبراير 10، 2010

جدلية العلاقة بين الرسم والموسيقى

الهارموني "أو التناغم" والريثم "أو الإيقاع" هما مصطلحان موسيقيّان في الأساس. لكننا نستخدمهما عادةً عند الحديث عن خصائص لوحة ما أو عمل تشكيلي معيّن. هذا الاستهلال قد يكون أفضل دليل يوضّح ما بين الرسم والموسيقى من أواصر وعلاقات قربى.
الناقد جيم لين يفصّل ذلك بقوله: العلاقة بين الرسم والموسيقى وثيقة بل وقديمة جدّا. إذ يمكن القول، مثلا، أن أيّ عمل نحتي ما هو في الواقع سوى لوحة ثلاثية الأبعاد. وهناك أمثلة كثيرة عن نحّاتين رسموا تماثيلهم ورسّامين نحتوا لوحاتهم.
الأدب، والشعر خاصّة، غالبا ما يقارن بالرسم من حيث أن اللوحة لها خصائص غنائية. واللوحات التي تصوّر الحياة اليومية غالبا ما يكون لها طبيعة سردية. وأحيانا يلجأ الكثير من كتّاب القصص إلى الاستعانة برسومات توضيحية من اجل تعزيز العنصر السردي في أعمالهم. الرقص والدراما، وحتى المعمار، لها نظيراتها في الرسم. وكثيرا ما يرتبط الرسم بذلك النوع من الملاحم والقصص التي تتحدّث عن الأبطال الشعبيّين.
لكن لا توجد علاقة أقوى من تلك التي تربط الرسم بالموسيقى. وهي علاقة تعود إلى عصور قديمة. زخرفة الخزف اليوناني، مثلا، كانت تستعين بصور الآلات الموسيقية.
والرسم والموسيقى يشتركان في نفس اللغة تقريبا. الألوان لها ظلال ونغمات، وكلا الفنّين يشار إليهما كتراكيب وتوليفات.
الرسّامون منذ القدم تنافسوا في رسم لوحات تتضمّن عناصر موسيقية. ومن هؤلاء كارافاجيو و اوراتزيو جينتيليسكي وكونراد كيسل و بيكاسو وجورج فريدريك واتس وجول لوفافْر.
لكنّ هناك من الرسّامين من خطوا خطوة ابعد مثل كاندينسكي الذي كان يرسم وهو يستمع إلى الموسيقى كي ينقل الإحساس الذي تثيره الأنغام في النفس.
جيمس ويسلر، الرسّام الأمريكي، اخذ خطوة مماثلة عندما أطلق على لوحاته مسمّيات موسيقية مثل "سيمفونية" و"نوكتيرن". وفي الجهة المقابلة، ألّف الموسيقي الأمريكي جورج غيرشوين مقطوعته الشهيرة "رابسودي إن بلو" التي حاول فيها المزج بين اللون والنغم.
وهناك رسّامون ترجموا أجواء بعض المقطوعات الموسيقية إلى لوحات، مثل غوستاف كليمت الذي رسم السيمفونية التاسعة لـ بيتهوفن ورافائيل لوبينسكي الذي رسم مقطوعة أخرى لـ بيتهوفن هي فيديليو.
اللوحات الدينية كانت غالبا تصوّر الملائكة وهم يعزفون الموسيقى. ومع تطوّر رسم الحياة اليومية، أضاف رسّامون مثل بيتر بريغل عناصر موسيقية إلى لوحاتهم التي تصوّر مظاهر من الحياة البسيطة للناس. فالمزارعون يظهرون وهم يعزفون الناي والفلوت احتفالا بمناسباتهم الخاصّة. في حين يُصوَّر أفراد الطبقات الأكثر ثراءً وهم يعزفون اللوت "أو العود".
وفي العام 1670 رسم فيرمير إحدى لوحاته التي تُظهِر امرأة تعزف على آلة موسيقية شبيهة بالهاربسيكورد وإلى يسارها آلة فيولا، ما يوحي بأن المرأة تتوقّع مجيء شخص آخر كي يشاركها في العزف.
الفنّان الفرنسي انطوان واتو رسم لوحة بعنوان مباهج الحفلة صوّر فيها مجموعة من الفرنسيين الباحثين عن المتعة وهم يرقصون على أنغام اوركسترا متوارية تحت ظلال ممرّ إحدى الحدائق. المزاج في اللوحة خفيف وعفوي وحيوي تبدو من خلاله أصوات الطبيعة في حالة تناغم مع أصوات الموسيقيين.
بعد حوالي قرن من ذلك أتى الانطباعيون الذين صوّروا في أعمالهم حياة الليل والموسيقى لمجتمع مقاهي باريس.
إدغار ديغا، مثلا، رسم أغنية الكلب عام 1876 ، بينما جلب رسّامون آخرون مثل تولوز لوتريك ورينوار وسورا الأصوات الصاخبة في قاعات الموسيقى إلى لوحاتهم.
في أعماله، يحاول ديغا الإمساك بالضجيج والدخان والإحساس المشوّش الذي تستثيره صالات الموسيقى عادة.
في ما بعد، أتى الفنّ التعبيري الذي استطاع تحقيق اندماج غير مسبوق بين الرسم والموسيقى. لوحة مارك شاغال بعنوان الزواج التي رسمها عام 1961 هي مثال واضح على هذا. فالعريس والعروس يندمجان في مشهد الزفاف اليهودي ليصبحا كيانا واحدا. والتشيللو يتوحّد مع عازفه كما لو أن الآلة تلاعب نفسها.
وخلافا لمشهد الموسيقيين المختبئين في لوحة واتو، فإن عازفي الموسيقى في لوحة شاغال يحتلّون على الأقلّ نصف اللوحة. والرسّام يوظّف الألوان الحمراء والبرتقالية في زخارف وتفاصيل الحفل كي يجذب الانتباه إلى الأصوات المسيطرة لدرجة انه يُخيّل للناظر انه يسمع نغمات الموسيقى وهي تتقافز من اللوحة.

الجمعة، مايو 01، 2009

جولة في الناشيونال غاليري


دخلت مع جموع الزائرين إلى مبنى الناشيونال غاليري صباحا. كان الجوّ ما يزال مشبعا برائحة المطر والسماء متّشحة بغلالة كثيفة من الغيوم الرمادية الداكنة.
وكنت قبل ذلك قد مررت بأحد المقاهي المنتشرة حول المكان لأسأل عن موقع "تيت غاليري" وكم يبعد عن ذلك المكان. فقال لي شخص انجليزي وقد علت وجهه ابتسامة مهذّبة كما هي عادة غالبية الانجليز: يلزمك نصف ساعة لكي تبلغه. لكني أنصحك بزيارة الناشيونال غاليري، فهو أولا أشهر، وثانيا لأنه قريب جدّا من هنا، وثالثا لأنه يضمّ اكبر مجموعة من الأعمال الفنية في العالم، ورابعا وأخيرا لأنني شخصيا أعمل هناك".
دخلنا المبنى الرخامي ذا التصميم الفخم والأنيق. كنا مجموعة كبيرة من السيّاح. رجال ونساء من بلدان وجنسيات شتّى. هنا لا تحتاج لأن تدفع شيئا مقابل مشاهدة الأعمال الفنية. فالدخول مجّاني. لكن بإمكانك التبرّع بما تجود به ممّا يذهب لدعم أنشطة المؤسّسة الراعية للغاليري.
والواقع أن الناشيونال غاليري عبارة عن متاهة كبيرة. ممرّات فسيحة وصالات واسعة كلّ واحدة تفتح على الأخرى. والأعمال الفنية التي تمتلئ بها الصالات لا تقدّر بثمن. بعضها يعود إلى ستّة قرون. والبعض الآخر ينتمي إلى مدارس الفنّ الحديثة والمعاصرة.
وكلّ شيء في الغاليري مرتّب له جيّدا. فدرجة الضوء والعتمة محسوبة بعناية زيادة في المحافظة على اللوحات وحمايتها من عوامل البلى والتلف. وهنا وهناك تنتشر مجموعات نقاش، كلّ واحدة تتناول لوحة أو عملا ما. وقد لمحت تلاميذ صغارا بصحبة معلماتهن وهم يطرحون الأسئلة والتعليقات عن هذه اللوحة أو تلك.
وفي الحقيقة، كان من النادر أن ترى زائرا لا يحمل في يده قلما وكرّاسا يدوّن فيه بعض الملاحظات من واقع ما يشاهده أو يقرأه أو يسمعه عن كلّ عمل.
اللوحات المعروضة تتفاوت من حيث كبرها. أكبر لوحة رأيتها هي إعدام الليدي جين غراي لـ بول دولاروش. وقد شدّ انتباهي كثرة الزوّار الذين تجمّعوا لمشاهدة هذه اللوحة والتمعّن في تفاصيلها رغم عنف ومأساوية مضمونها. وربّما لا يداني هذه اللوحة من حيث الضخامة سوى لوحة مستحمّون في انيير لـ جورج سورا.
والواقع أن الذي يرى اللوحات الأصلية سرعان ما يلحظ الفرق الكبير بينها وبين النسخ الموجودة على الانترنت من حيث التفاصيل والألوان والخطوط إلى ما غير ذلك.
وليس من قبيل المبالغة إن قلت انه يندر أن تكون قد سمعت باسم رسّام ما، سواءً في الماضي أو في الحاضر، دون أن ترى له لوحة واحدة على الأقل في هذا الغاليري. من رافائيل إلى دافنشي إلى بيسارو إلى ديغا إلى رينوار إلى بوتيشيللي إلى فراغونار إلى فيلارد إلى لوتريك إلى كليمت إلى فيلاسكيز إلى غوغان إلى بيكاسو إلى سيزان إلى كورو إلى بيرنيني إلى دوميير إلى همرشوي.. والقائمة تطول.
أهمّية الناشيونال غاليري تكمن، كما سبقت الإشارة، في ضخامته وكثرة الأعمال الفنية التي يضمّها. في هذا الغاليري فقط، يمكنك أن ترى لوحات مشهورة جدّا مثل دير في غابة السنديان لـ كاسبار ديفيد فريدريش، والأحزان لـ غيوتو، وأزهار عبّاد الشمس و أشجار السرو لـ فان غوخ "الأخيرة عادت إلى الغاليري مؤخّرا بعد إعارتها لمتحف الفنّ الحديث بنيويورك"، ولوحة الجواد ويسل جاكيت لـ جورج ستبس، والبارجة تيميرير لـ وليام تيرنر، وبورتريه شخصي لـ فيجيه لابران، وعشاء في ايموس لـ كارافاجيو، وبورتريه ايزابيل دي بورسيل لـ غويا، وعذراء الصخور لـ دافنشي، وارنولفيني وزوجته لـ فان ايك، وبورتريه شخصي لـ رمبراندت، إلى غير ذلك من اللوحات المعروفة والمألوفة.
وأثناء تجوالي في صالات الغاليري توقفت كثيرا عند لوحات الرسّام البريطاني جون كونستابل. أحسست إلى حدّ ما بأنني كنت أعيد اكتشاف كونستابل الذي تثير لوحاته إحساسا بفخامة الطبيعة وسحرها. ومن حسن الحظ أن الغاليري يضمّ أكثر من لوحة للفنان منها لوحته الأشهر عربة القشّ ولوحته الأخرى التي لا تقلّ شهرة كاثدرائية ساليزبوري . اللوحة الأخيرة تأخذ الأنفاس بجمال تفاصيلها وبألوانها الرائعة وتأثيرات الضوء والظلّ فيها، ما يوحي بمهارة كونستابل الاستثنائية وبشغفه الكبير بجمال الطبيعة وبهائها. والنسخ الكثيرة الموجودة على الانترنت لهذه اللوحة لا تشبه أبدا اللوحة الأصلية ولا تنقل سوى جزء يسير من رونقها وبهائها. هذه اللوحة، مثل بقيّة لوحات كونستابل، شديدة الواقعية، لكنها واقعية ممزوجة بفنتازيا من نوع خاصّ بحيث تشعر وأنت تراها أنها صورة عن عالم آخر يموج بعناصر الحلم والدهشة.
كان مسك ختام الجولة في الناشيونال غاليري رؤية رائعة فيلاسكيز فينوس في المرآة . وقد لاحظت أن معظم من توقفوا عند اللوحة كانوا من الأسبان واللاتينيين.
ومن بعيد ونحن في ذلك المكان كانت تنساب إلى أسماعنا، رقيقة ناعمة، نغمات موسيقى استورياس "أو لييندا" للموسيقي الاسباني إسحاق آلبينيث؛ ما أضفى على المكان لمسة شاعرية إضافية.

الأربعاء، نوفمبر 26، 2008

قراءة هادئة في مشهد عنيف


اصطدمت عيناي بهاتين اللوحتين أكثر من مرّة وفي أوقات مختلفة بينما كنت أبحث عن لوحات تصلح لأن تضاف إلى سلسلة اللوحات العالمية. وفي كلّ مرّة، كان ردّ الفعل مزيجا من الصدمة والاستغراب. الصدمة؛ لأن المنظر صادم ومستفزّ من حيث طبيعته وتفاصيله. فأنا لا أظنّ أن هناك منظرا يمكن أن يفوق في توحّشه وساديّته منظر قتل إنسان بقطع رأسه كائنا ما كانت الجريمة التي ارتكبها. أما الاستغراب فمردّه أن من يقوم بفعل الذبح في الصورة امرأة. ومن هنا قد يستكثر الإنسان على المرأة، بما يُفترض أنها جُبلت عليه من رقّة وعاطفة، أن ترتكب عملا يتسم بالعنف والوحشية، بصرف النظر عن مدى عدالة أو منطقية الأسباب وما يُساق لها أحيانا من مبرّرات ودوافع وطنية أو دينية.. إلى آخره.
وليس هناك حاجة للقول إن المنظر الذي تصوّره اللوحتان مزعج وغير مريح بالمرّة. فالعنف فيهما واضح والقسوة صارخة بما لا يحتمل. ويقال إن لوحة كارافاجيو هي اللوحة الأعنف في تاريخ الفن التشكيلي العالميّ.
كارافاجيو ايطالي وكذلك الرسّامة ارتيميشيا جينتيليسكي. ولوحتاهما هنا تعالجان موضوعا واحدا بطلته امرأة يهودية اسمها جوديث. وهي نموذج للمرأة التي تقتل العدوّ كي يحيا شعبها. وسلاحها في ذلك جمالها وجاذبيّتها الطاغية.
والقصّة تعود إلى حوالي منتصف القرن الثاني قبل الميلاد وقد ورد ذكرها في الإنجيل. وفي تفاصيلها أن الملك البابلي نبوخذ نصّر أرسل قائد جيشه هولوفيرنس على رأس كتيبة ضخمة لتأديب الشعوب المجاورة التي لم تساند حكمه. وقد فرض هولوفيرنس خلال تلك الحملة حصارا على أهالي مدينة تسمّى بيتوليا. ومن تلك المدينة خرجت جوديث التي ستقتل القائد البابلي وتنهي الحصار المفروض على قومها. وقد مثلت القصّة كثيرا في الفن، ورسمها ميكيل انجيلو في سقف كنيسة سيستين في ثلاثة مشاهد متسلسلة.
وجوديث نموذج آخر لنساء يهوديات كثيرات فعلن شيئا مثل هذا.
دليلة، مثلا، سلّمت شمشون الجبّار إلى أعدائه بعد أن سيطرت عليه بسحرها وغوايتها.
وسالومي، وهي بغيّ يهودية أخرى، اشترطت على الملك الروماني هيرودس أن يأتيها برأس يوحنّا المعمدان (أو يحيى بن زكريّا في الأدبيات الإسلامية) مقابل أن تهبه نفسها. وكان لها ما أرادت.
وقائمة النساء من هذا النوع طويلة. ومن الواضح أن ثمّة ثلاثة عناصر ثابتة في مثل هذه القصص: الجنس والتخفي والخمر.
لكن، لا يُعرف على وجه اليقين ما إذا كانت هذه القصص - باستثناء الأخيرة - حقيقية أو أنها مجرّد أساطير أو حكايات فولكلورية جرى تأليفها لإضفاء طابع البطولة والتضحية على شخصية المرأة اليهودية.
ومنذ فترة، اطلعت على دراسة جميلة كتبتها اندريا مارتن، أجرت فيها مقارنة بين رؤية كل من كارافاجيو وأرتيميشيا جينتيليسكي لقصّة جوديث من منظور الجندر، أو الفوارق الجنسانية بين الرجل والمرأة.
تبدأ الكاتبة كلامها بالحديث عن الأرملة اليهودية جوديث التي حاولت وقف هجوم العدوّ على شعبها، فدخلت مخيّم الجيش المهاجم مع وصيفتها لمواجهة قائده المسمّى هولوفيرنس.
وقد تمكّنت المرأة من دخول المخيّم بعد أن فتنت الحراس بجمالها. وهي ستفعل الشيء نفسه في ما بعد مع هولوفيرنس. واستطاعت في ما بعد إقناع القائد البابلي بأنها راغبة فعلا في مساعدة جيشه فقبل مشورتها له بتأجيل خطة الهجوم.
وفي إحدى الليالي وبعد أن تناول الجميع العشاء، سكر القائد حتى أغمي عليه وأصبح في حالة من الضعف مكّنت جوديث "بدعم من العناية الإلهية" من قطع رأسه.
وعادت هي ووصيفتها منتصرة إلى أرض قومها ومعها رأس القائد المقطوع. وبذا ضمنت سلامة شعبها، كما يقول الإنجيل.


الترجمات الفنية للقصّة مختلفة ومتباينة. بعضها يصوّر جوديث وهي تصلي من اجل العون الإلهي قبل وقت قصير من بدء مهمّتها. بينما تظهر في لوحات أخرى حاملة رأس هولوفيرنس وهي في طريق عودتها إلى قومها.
ولوحة ارتيميشيا جينتيليسكي عن القصّة هي عبارة عن تصوير عنيف ومبتكر للحظة التي تحزّ فيها المرأة رقبة الرجل. والمنظر يثير شعورا بقوّة الأنثى وسيطرتها.
ثم تجري الكاتبة مقارنة بين لوحتي كارافاجيو و جينتيليسكي عن الحادثة، في محاولة للوقوف على الاختلافات والفوارق بين أسلوبي الرسّامين في معالجتهما للموضوع، فتقول: إن الفحص المتأنّي للغة الجسد في هاتين اللوحتين سيكشف بوضوح عن اختلاف الفنانين في رؤيتهما للقصّة من منظور الجندر.
فـ كارافاجيو، من منظوره الذكوري، يرسم جوديث معتمدة على تدخّل الربّ باعتباره الوسيلة التي تمنحها القوّة.
بينما جينتيليسكي، من منظورها الأنثوي، تؤكّد على أن قوّة جوديث متأصّلة فيها ومتأتية من ذاتها. فهي تبدو قويّة، مصمّمة ومعتدّة بنفسها بينما تباشر قطع رأس قائد الجيش الغازي.
إنها تمسك بيدها اليسرى خصلة من شعره لمنعه من الحركة فيما ذراعها الأيمن يجري الخنجر بقوّة على رقبته. كما أنها تُميل جسدها إلى الخلف في محاولة لإبعاد الدم عن ملابسها، تماما مثلما يفعل من يذبح حيوانا.
إن المرأة تؤدّي مهمّتها بإحكام. وهي ترمق هولوفيرنس بنظرات باردة توحي بأنها منفصلة عن ضحيّتها، لكنها أيضا تعكس إصرارها وعزيمتها.
وتعبيرات وجهها، خاصّة ما حول الحاجبين، تنمّ عن تركيز وتصميم شديدين. وهي تبدو مستعدّة بل وراغبة في قتل الخصم بلا اكتراث أو ندم.
ورغم أن القصّة الإنجيلية توحي بأن تدخل الربّ كان ضروريا وحاسما في مساعدة المرأة على تنفيذ عملية القتل، فإن أسلوب جينتيليسكي في التعامل مع شكل وهيئة جوديث يكشف عن أن الرسّامة تعتقد انه حتى وإن كان الفعل قد نفّذ بمشيئة الله فإنها تعتبر جوديث قادرة تماما على أداء واجبها بفضل حيَلها الخاصّة وقوّتها الجسدية وبراعتها.
إن جوديث في لوحة جينتيليسكي تميل بجسدها إلى الوراء، لكن جوديث كارافاجيو تفعل ذلك كما يبدو نتيجة إحساسها بالصدمة النفسية من تصرّفها. إنها لا تسيطر على نفسها، بل ترتكب جريمة قتل لأن إرادة الله أوجبت ذلك.
وبينما تبدو جوديث جينتيليسكي وهي تنفذ المهمّة بوحي من شعورها الوطني وقوّتها الخاصّة والكامنة، فإن كارافاجيو يصوّرها وكأنها تطلب مساعدة الإله في ارتكاب ذلك العمل.
ومن الواضح أن جينتيليسكي تريد أن تقول إن النساء يمكنهن التحكّم في أيّ وضع يواجهنه. وفي المقابل، يُظهر كارافاجيو الأنثى في وضع من يطلب تدخّلا إلهيا لكي يتغلّب على مثل ذلك الظرف الهائل والعصيب.


والواقع أن تعامل الرسّامَين مع خادمة جوديث يكشف، هو أيضا، عن فارق جنساني آخر.
ورغم انه من غير الواضح في الإنجيل كم كان عمر الخادمة، فإنها تبدو في لوحة جينتيليسكي شابّة وقويّة، بل وأيضا مشاركة بفاعلية في جريمة قتل هولوفيرنس .
إن جينتيليسكي تشرك الخادمة في عملية القتل، وفي هذا مخالفة للرواية الدينية التي تذكر أن جوديث قهرت خصمها بفضل العناية الإلهية وحدها.
وفي هذا إشارة واضحة إلى أن موت القائد كان على يد المرأتين الشابتين. وهو تفسير قد لا يخطر ببال رجل بسهولة.
ذلك أن فكرة أن تقوم نساء بقتل رجل، بصرف النظر عمّا إذا كان عدوّا، يمكن أن تعتبر تهديدا وتحدّيا للسلطة الأبوية التي كان يتمتع بها الرجال زمن جينتيليسكي.
لكن الفنانة كانت ترى أن النساء قادرات على أن يتجاوزن دورهن الاجتماعي الهامشي والضيّق. وأكثر من هذا، فإن تفسيرها للقصّة يخوّل النساء أن يتصرّفن خارج إطار سيطرة الله.
وبالنتيجة، فإن تصويرها للخادمة وهي تشارك في قتل هولوفيرنس يبدو نابعا من منظور أنثوي واضح.
ولا بدّ وأن نلاحظ أن تمثيل كل من جينتيليسكي وكارافاجيو المتناقض للغة جسد هولوفيرنس في لحظات موته هي نتيجة لاختلاف منظوريهما. مثلا وكما ورد آنفا، فإن الخادمة في لوحة جينتيليسكي تمسك بالضحية وتثبّته أرضا بينما تطبق جوديث على رأسه في محاولة للسيطرة عليه وشلّ حركته.
وعلى النقيض من ذلك، فإن كارافاجيو - وكما هو متوقّع - يصوّر هولوفيرنس وكأنه يعرف أن الله قد هزمه. والدليل على هذا واضح على وجه الرجل. فهو ينظر إلى أعلى مدركا انه لن يكون بمقدوره أن يتجنّب غضب الربّ. ورغم أن جوديث تشدّ شعره بينما تقوم بفصل رأسه، فإنه لا جوديث ولا خادمتها مهتمّة بتثبيت جسده أرضا.
وهذه نقطة مهمّة تفترض أن هولوفيرنس كان قادرا على التصدّي للمرأتين ومقاومتهما لأنه غير مسيطَر عليه تماما.
وكارافاجيو يريد أن يقول ضمنا إن صراع هولوفيرنس كان مع الله فقط.
وفي حين أن لوحة جينتيليسكي تشير بوضوح إلى قوّة وسيطرة المرأتين على عدوّهما ومسئوليّتهما عن موته، يشدّد كارافاجيو من خلال أسلوبه في تصوير المرأتين على حاجتهما لمساعدة إلهية لكي ينفذا مؤامرتهما بنجاح.
وتضيف الكاتبة: إن جنس كلّ من الفنانَين يؤثّر في طبيعة نظرته إلى جوديث في مثل هذه الظروف. وكلّ منهما لديه استجابة جنسانية مختلفة تجاه موضوع وفكرة اللوحة.
فـ كارافاجيو في لوحته يؤكّد منظورا ذكوريا واضحا بتصويره جوديث حذرة ومتردّدة إلى حدّ ما. وهي تستخدم قوّتها "التي منحها إياها الربّ مؤقتا" كي تقتل عدوّها.
وفي لوحة كارافاجيو أيضا نرى هولوفيرنس وهو ينظر إلى السماء مدركا أن قدرة الله اكبر من قدرته. وكارافاجيو لا يرى أن موت هولوفيرنس تحقق فقط على يد امرأة شابّة متسلّحة بخنجر، لأنها في النهاية مجرّد امرأة ضعيفة ومحدودة القوى.
في حين أن لوحة جينتيليسكي تظهر جوديث بمظهر المرأة القويّة والشديدة البأس والحازمة. وهي ووصيفتها؛ المتساوية معها في حدود المسئولية، مسئولتان معا عن قتل غريمهما.
وهكذا يبدو جليا أن الاختلافات بين اللوحتين تعكس الفوارق الفردية بين جنسي الرسّامين.
فـ كارافاجيو يصوّر المشهد من منظور رجل، وجينتيليسكي تصوّره من منظور امرأة.

Credits
renaissancereframed.com

الخميس، نوفمبر 29، 2007

لوحات عالمية

عندما بدأت التفكير في تخصيص مدوّنة للحديث عن اللوحات التشكيلية العالمية كان في ذهني أن تتضمّن السلسلة مائة لوحة كحدّ أقصى.
لكنّي اكتشفت بعد ذلك أن من الصعب فعلا حصر اللوحات الجديرة بالتنويه والإشادة في رقم محدّد.
لذا رأيت في ما بعد أن أضيف خمسين لوحة أخرى إلى السلسلة كي تكتسب شيئا من الشمولية والتنوّع.
وقد سبق وأن ذكرت في حديث سابق انه روعي أن تكون التعليقات والشروحات المرافقة لكلّ لوحة سهلة وميّسرة وخالية من المفردات والصيغ الأكاديمية الجافّة والصعبة.
ولم يغب عن ذهني أن المدوّنة تخاطب في الأساس القارئ العادي الذي يرغب في معرفة شيء عن الفنّ التشكيلي بطريقة مختصرة ومبسّطة وبعيدا عن التفلسف غير الضروري والبلاغيات التي تهتمّ عادة بالشكل دون المضمون.
ومع بلوغ الحلقات العدد 150، يحسن إيضاح بعض الأمور التي رافقت الإعداد لحلقات المدوّنة والتي احسب أنها تنطوي على بعض الأهمية.
لا بدّ في البداية من إدراك حقيقة أظنّ أنها بدهيّة، وهي أن مجالات الإبداع ومظاهر التميّز التي يوفّرها الفن التشكيلي كثيرة ومتعدّدة بما لا يتأتّى حصره أو قياس أثره. وفي البال طبعا أن هناك العديد من الأعمال التشكيلية الرائعة التي لم تجد طريقها بعد الى المدوّنة، وأتمنّى ان يسعف الوقت في إدراجها نظرا لشهرتها الواسعة وأهمّيتها الكبيرة.
وأشير هنا وعلى وجه الخصوص إلى لوحتين: الأولى زهور عبّاد الشمس لـ فان غوخ والثانية سوسن الماء لـ كلود مونيه. هاتان اللوحتان بالذات لا أتصوّر أنهما يمكن أن تغيبا عن قوائم اللوحات العالمية المتميّزة والمشهورة وذلك لأسباب قد لا يكون هذا أوان استعراضها وشرحها.
وعلى نطاق أوسع قليلا، أتمنى أن تتضمّن السلسلة أعمالا أخرى لا تقلّ شهرة وأهمية. على سبيل المثال لا الحصر، يخطر بالبال لوحة فيلاسكيز بعنوان هيلانديراس، وجبال سييرا نيفادا للأمريكي البيرت بيرشتادت، ولوحة دافنشي المسمّاة الإنسان الفيتروفي، وخلق آدم لـ ميكيل انجيلو، والربيع لـ بوتشيللي، ولا سكابيلياتا أو رأس أنثى لـ دافنشي، وعروس الريح للنمساوي اوسكار كوكوشكا، وليلة مقمرة في نابولي للروسي شيدرين، ولوحة اوماي للبريطاني جوشوا رينولدز، ولوحة بورتريه الكونتيسة هوسونفيل للفرنسي آنغـر.
والقائمة تطول، لكن لا أتخيّل أنها يمكن أن تنتهي دون الإشارة إلى أسماء فنّية لا تقلّ أهميّة، مثل الأمريكي توماس ايكنز، والمكسيكي دييغو ريفيرا، صاحب اللوحة الشهيرة بائعة الزهور.
وقد اكتشفت أنني أغفلت ذكر بعض الأسماء الفنّية الكبيرة على ما لها من شهرة وتأثير كبيرين، الأمر الذي أعدّه احد أوجه القصور والنقص في السلسلة. على سبيل المثال، لم يسعفني الوقت ولا التركيز في أن أشير إلى شيء من لوحات فنّان عصر النهضة الايطالي الكبير كارافاجيو. وإذا توفّر الوقت الكافي سأختار لوحته الجميلة عشاء في ايموس أو لوحته الاخرى غشّاشو الورق ضمن اللوحات التي تستحقّ التنويه.
وفي الختام، اتقدّم بالشكر الجزيل الى كافة الزملاء والزميلات على تشجيعهم ودعمهم المتواصل. كما أثمّن رغبة العديد منهم ممّن أرسلوا إليّ عبر البريد الاليكتروني مطالبين بأن تستمرّ حلقات المدوّنة لبعض الوقت. وقد قرّرت في النهاية النزول عند رغبتهم راجيا أن يستمرّ تفاعلهم مع ما يُطرح سواءً بالنقد أو بالتقويم وحتى بالمشاركة في اختيار اللوحات التي يرون انها تستحق أن تُضمّن في السلسلة. مع خالص التحيّة للجميع.