:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات شوبان. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات شوبان. إظهار كافة الرسائل

الأحد، يناير 22، 2012

ساتي: جيمنوبيدي رقم واحد


كان ايريك ساتي (1866-1925) احد الروّاد الذين أسهموا في تطوير الموسيقى الحديثة. ومجموعته من القطع الموسيقية ذات الأسماء الغريبة التي ألّفها للبيانو اعتُبرت طليعية. كما أنها أفسحت المجال لظهور الموسيقى الانطباعية والكلاسيكية الجديدة والتقليلية والمحيطية.
في حيّ مونمارتر، كان الناس يعرفونه بملابسه الرمادية وبنظّاراته الغريبة وقبّعته الطويلة السوداء.
حبّ ايريك ساتي الوحيد كان الموسيقى. لكنه كان يختنق بالتقاليد الموسيقية السائدة. وهو لم يكن يشير إلى نفسه كموسيقيّ، بل كخبير في قياس الأصوات. كما انه صاحب القول الساخر المشهور: كلّما عرفت البشر أكثر، كلّما ازداد إعجابي بالكلاب".
وقد قيل إن لموسيقى ساتي نكهة شمبانيا فريدريك شوبان ومرارة نبيذ يوهانس برامز. وقال آخرون إن من يستمع إلى موسيقاه لا بدّ وأن يتخيّل أن من ألّفها "إنسان متوحّش يتمتّع بذائقة سليمة". كان من بين أصدقائه كلود ديبوسي وجان كوكتو وبابلو بيكاسو وايغور سترافنسكي. وكان هؤلاء سببا في إلهامه بعض قطعه الموسيقية الخالدة.
أشهر مؤلّفات ساتي هي مقطوعته التي وضعها للبيانو والمسمّاة جيمنوبيدي رقم واحد. وجيمنوبيدي كلمة يونانية قديمة تشير إلى الأجواء الطقوسية التي يصاحبها رقص وموسيقى. ومنذ ظهورها، استُخدمت هذه المعزوفة كثيرا في البرامج الوثائقية ومسلسلات الدراما.
جانب من المتعة التي يوفّرها سماع هذه القطعة يتمثّل في أنها تثير في النفس مشاعر مختلفة ومتباينة: حزن، حيرة، شكّ، خواء، تعبير عن خطى متردّدة وكلمات متعثّرة على اللسان. لكن الموسيقى تظلّ جميلة. كما أن إيقاعها من ذلك النوع الذي تألفه الأذن بسرعة.
ولد ايريك ساتي عام 1866م في بلدة آركوي الواقعة على ميناء اونفلور. وقد ارتبط ذلك المكان ببواكير ظهور الحركة الانطباعية في الرسم.
وفي مطلع شبابه، ذهب إلى كونسيرفاتوار باريس ليتلقّى دروسا في نظرية الموسيقى. لكن لم يطل به المقام هناك. فقد تمّ طرده من المعهد بعد أن اعتُبر طالبا كسولا ومنعدم الموهبة.
وانتقل بعد ذلك إلى حيّ مونمارتر الذي كان ملتقى للفنّانين البوهيميين في باريس. وعمل هناك كملحّن رسمي لإحدى الطوائف الصوفية. ثم التحق بطائفة دينية أخرى وبدأ يؤلّف لها أناشيد وترانيم دينية.
وبعد فترة عاد للدراسة في الكونسيرفاتوار. وفي هذه المرّة حالفه النجاح وتخرّج من المعهد بشهادة.

الأفكار التي كان يعبّر عنها ايريك ساتي في موسيقاه كانت تتداخل مع أفكار بعض معاصريه من الفنّّانين من أمثال كلود دييوسي وبابلو بيكاسو وجورج بْراك ومارسيل دُوشان وجان كوكتو وتولوز لوتريك.
ويعود الفضل في اكتشافه إلى موريس رافيل وأتباعه الذين شجّعوه وأخرجوه من دائرة الفقر والنسيان. وقد وصفه رافيل بأنه مؤلّف موسيقي لا تنقصه الموهبة وروح الابتكار.
ألّف ساتي موسيقى جيمنوبيدي في باريس عام 1888م. وهي تتألّف من ثلاث قطع على البيانو، أشهرها الأولى. لكنها جميعا تشترك في نفس البناء والفكرة. كانت هذه الموسيقى تتحدّى التقاليد الموسيقية الكلاسيكية في زمانها. والكثيرون رأوا فيها مؤشّرا على ولادة الموسيقى الحديثة.
في مونمارتر، كان ساتي يتصرّف بطريقة عصرية. وكان يلقّب بالمخملي المحترم لأنه لم يكن يرتدي سوى ملابس من المخمل الرمادي. كان يكره الشمس. ودائما ما كان يحمل مظلّة أثناء رحلاته اليومية إلى باريس التي كان يقطعها مشيا.
الغموض الذي كان ساتي يحيط به شخصيته ما يزال إلى اليوم يلقي بظلاله على مساهماته وانجازاته الموسيقية. وقد ارتبط في شبابه بعلاقة عاطفية مع الموديل المشهورة سوزان فالادون التي كانت على وشك أن تتحوّل إلى رسّامة. كما عُرف عنه شغفه بالأفكار الاشتراكية وانخراطه في الحزب الشيوعي الفرنسي.
الجانب الفكاهي من شخصية ساتي كشف عنه في ما اسماه بـ "القطع الباردة". وهي مجموعة من المعزوفات الموسيقية التي اختار لها عناوين هزلية أراد من خلالها أن يسخر من الرومانسيين الذي كانوا يطلقون على أعمالهم عناوين فخمة.
توفّي ايريك ساتي بعد إصابته بتليّف الكبد عام 1925 عن تسعة وخمسين عاما. وعندما دخل مجموعة من أصدقائه غرفته التي عاش فيها وحيدا لمدّة سبعة وعشرين عاما، وجدوا سريرا وكرسيّا وطاولة وآلتي بيانو مكسورتين ومئات الرسومات الصغيرة وعشرات المظلات وأكوام متربة من الدفاتر والصحف القديمة، بالإضافة إلى البورتريه الذي رسمته له فالادون أثناء علاقتهما.
جيمنوبيدي رقم واحد موسيقى جميلة وناعمة، رغم غرابتها إلى حدّ ما. أنغامها تبدو متنافرة بشكل خفيف، ولكن متعمّد، كي تخلق تأثيرا لاذعا يوحي بقدر من السوداوية والحزن. والكثيرون يفضّلون الاستماع إليها في آخر الليل لأنها توفّر مزاجا أفضل للتفكير والتأمّل. وقد تمّ توظيفها في أكثر من فيلم سينمائي كان آخرها فيلم الخمار المرسوم.
ومن أشهر أعمال ساتي الأخرى غنوسيان رقم 1، وهي واحدة من سبع قطع تحمل نفس الاسم المشتقّ هو أيضا من اليونانية القديمة، والذي يرمز إلى الارتقاء الروحي عن طريق الشكّ والمعرفة الباطنية.

Credits
theguardian.com

الخميس، يونيو 16، 2011

قصْر الذكريات

صورة فوتوغرافية مبكّرة لـ ميرا بارتوك وهي طفلة بين ذراعي أمها تصوّر ما يمكن أن يكون مشهدا من مشاهد الطفولة الطبيعية.
لكنْ، تحت سطح هذه الصورة الهادئة، يكمن واقع أكثر قتامة وحزنا. تكتب بارتوك: إذا استطعت أن ترى الصورة كاملة، فستلاحظ أنّني، وأنا بين ذراعي أمّي، كنت انظر إليها وأنا أبتسم. غير أن ما لم تستطع هذه الصورة أن تقوله هو أنه لم يمض وقت طويل على التقاطها حتى حاولت أمّي الانتحار بإلقاء نفسها من النافذة".
من خلال تأريخها لفترة شبابها غير التقليدية في مذكّراتها الصادرة حديثا بعنوان قصر الذكريات، تروي ميرا بارتوك جوانب من قصّة حياتها الصعبة والمؤلمة تحت رعاية والدتها المطلّقة، نورما، وهي امرأة رائعة كانت تعاني من انفصام الشخصيّة.
بعد وقت قصير من انتهاء الحرب العالمية الثانية، مرّت نورما، والدة ميرا، بأوّل تجربة لها مع الانهيار العصبي وهي في سنّ التاسعة عشرة. وطوال خمسينات القرن الماضي، كانت حالتها تتراجع شيئا فشيئا. وبنهاية ذلك العقد، وبعد زواجها العابر وولادة ابنتيها في وقت لاحق، كان مرض نورما يزداد سوءا، وضعفت علاقتها بالواقع بشكل مطّرد، ثم انزلقت إلى أعماق عالم مظلم من العذابات والأوهام التي كان ينسجها عقلها المحطّم.
وعندما بدأت ميرا دراستها الابتدائية، بدأت أمّها تدخل المستشفيات بشكل دوري. وكان العلاج يتضمّن الصدمات الكهربائية والمهدّئات الثقيلة.
ثم ما لبث عالم نورما أن أصبح هدفا لـ "أعداء" غير مرئيين: خاطفون يذرعون الشوارع القريبة، جنود نازيّون يخطّطون للقضاء عليها، مخلوقات غريبة تحاول انتزاع رحمها، وأناس أشرار يحاولون حقنها بالغازات المشعّة.
وتشرح بارتوك كيف أن والدتها كانت، في شبابها، طالبة موهوبة وموسيقية استثنائية. "كانت طفلة عبقرية، وكانت على وشك أن تتحوّل إلى عازفة بيانو واعدة".
قبل مرضها، كانت نورما من أكثر الناس مرحا وإشاعة للبهجة. كانت دائما امرأة مشرقة ومحبّة للحياة والموسيقى. لكن مع تطوّر مرضها، أصبحت تتحدّث اقلّ عن شوبان، وأكثر عن خوفها على ابنتيها من الاختطاف أو القتل أو الاغتصاب.
تقول ميرا: كانت أمّي تعاني من الأسلاك المتشابكة ومن أصوات كثيرة في رأسها. وكنت اعرف دائما في أعماقي أن هناك حبّا كبيرا بداخلها، أي في أعماق نفسها الحقيقية التي كانت عليها ذات يوم. لكن الشيزوفرينيا كانت تلتهمها يوما بعد يوم".
لسوء الحظّ، نجح الفصام في طمس نورما الحقيقية على مدى عقود. أصبحت تتحكّم فيها الأوهام وجنون العظمة. ثم ما لبثت أن بدأت تتعامل بعدوانية مع أولئك الذين حولها.
ذات يوم، وبينما كانت نورما تحاول منع ابنتيها من مغادرة البيت، كسرت أمّهما زجاجة وطعنت بها ميرا في عنقها. واضطرّت الشقيقتان إلى الاختباء خلف باب غرفة نومهما لكي تمنعا والدتهما من مهاجمتهما. كانت نورما تسمع أصواتا غريبة. وكانت قد هدّدت قبل ذلك بالإقدام على الانتحار عدّة مرّات.
في أواخر الثمانينات، حاولت بارتوك وشقيقتها نقل والدتهما إلى مستشفى للصحّة العقلية. لكن محاولاتهما باءت بالفشل بناءً على منطق سخيف. فقد قال القاضي انه على الرغم من أنها تشكّل خطرا على نفسها وعلى من حولها، إلا أنها ما تزال امرأة عاقلة لأنه ما يزال باستطاعتها أن تشتري السجائر لنفسها وأن تستخدم قطع النقد بشكل صحيح.
وبينما كان عنف هجمات أمّهما يزداد، اضطرّت بارتوك وأختها للهرب بسبب قلقهما المشروع على سلامتهما. ولم يثن الفتاتين عن قرارهما تهديد والدتهما لهما بأنها ستقتل نفسها إن لم تعدلا عن قرار الرحيل عن البيت. ولم يكن لهما من خيار سوى أن يغيّرا اسميهما وعنوانهما وأن يقطعا كلّ علاقة لهما بوالدتهما كي تبقيا آمنتين.
ولأن نورما أصبحت بعيدة عن ابنتيها ولم يعد هناك من يقوم على رعايتها، فقد قضت السبعة عشر عاما التالية مشرّدة في الشوارع وبلا مأوى.
مذكّرات بارتوك الجميلة والحزينة، تلفت الانتباه لمرض لا يُناقش إلا نادرا وغالبا ما يُساء فهمه. وهي في الرواية لا تسخر أبدا من مرض والدتها، كما أنها لا تحاول استدرار الشفقة. كانت ميرا بارتوك تسعى لفهم عقل والدتها المحطّم الذي كانت تعبث به شياطين كثيرة وكائنات ضارّة لم يكن يراها احد غيرها، ما اضطرّها لأن تعيش في حالة رعب دائم حوّلها إلى امرأة مذعورة وموسوسة إلى الأبد.
ثم، وفي يوم واحد، تغيّرت حياة ميرا بارتوك إلى الأبد بعد أن وقع لها حادث سيّارة مروّع نجت منه بما يشبه المعجزة. حدث هذا في العام 1999 وكانت ميرا آنذاك تدخل عامها الأربعين. وبينما كانت تكافح للتعافي من إصابة شديدة في المخّ نتيجة الحادث، شعرت بالحاجة إلى ترتيب سياق حياتها السابقة. كان عليها أن تتعلّم من جديد كيف ترسم وتقرأ وتكتب وكيف تتفاعل مع العالم الخارجي.
غادرت ميرا المستشفى بذاكرة ضعيفة وبالكثير من الآثار الجسدية والنفسية. لكنها كانت عازمة على متابعة مسيرتها كفنّانة وكاتبة. فذهبت لاستكشاف الرومانسية القديمة في فلورنسا، والغموض الغريب لمناطق شمال النرويج وصحراء فلسطين النقيّة. كانت أسفارها من اجل النقاهة وإعادة اكتشاف الذات والنسيان. لكن ذكريات والدتها المؤرّقة لم تكن بعيدة عنها.
وأثناء بحثها عن طريق العودة إلى ذاتها الضائعة، أدركت ميرا أنها بحاجة لأن تعيد رابطتها مع أمّها كي تملأ بعض الفجوات الفارغة. لذا اتصلت بملجأ المشرّدين حيث كانت تعتقد أن أمّها تعيش. وعندما وصلت إلى هناك، اكتشفت أن نورما كانت في حالة احتضار. وقرّرت هي وشقيقتها أن تبقيا إلى جانبها في أيّامها الأخيرة. ووجدت ميرا عند والدتها عددا من المفاتيح. احدها يفتح صندوقا وجدتا بداخله يوميات والدتهما وألعابا من زمن الطفولة وصورا كانتا تعتقدان أنها فُقدت إلى الأبد.
هذه التذكارات هي التي قدحت ذاكرة ميرا المفقودة وسمحت لها بأن تتعلّم أشياء عن ماضيها، وهو أمر بدا لها من قبل انه مستحيل. واكتشفت ميرا أن يوميّات والدتها كانت تمتلئ بالبصيرة وبالعاطفة الصادقة. كانت يوميّات نورما رحلة في عقل امرأة محبّة للفنون ومتحرّقة شوقا لأطفالها، رغم كونها مصابة بالفصام.
"قصر الذكريات" هو عبارة عن سرد يحبس الأنفاس عن المعاني المعقّدة للحبّ والحقيقة والقدرة على الصفح بين أفراد العائلة والمرض الذي يمكن أن يفصل أو يجمع شمل الأسرة معا.
كان بإمكان ميرا أن تكتفي بالكتابة عن الطفولة المروّعة التي عاشتها هي وشقيقتها، وعن المصاعب التي اعترضت طريق والدتهما. لكنها فضّلت أن تأخذ اليوميات إلى مستوى أعلى من خلال إشراكها للقارئ في بعض ذكرياتها وقصصها عن زمن الطفولة وعن طبيعة العلاقات التي كانت تربط بين أفراد عائلتها.
مذكّرات ميرا بارتوك عمل إبداعي ثريّ بالتفاصيل ومشيّد بطريقة جميلة. وقد تطلّب تأليفه شجاعة كبيرة وقوّة جبّارة من قبل الكاتبة. وكلّ صفحة من صفحات هذه الرواية مليئة بشيء ما يستحقّ المشاركة والنقاش.
"يوما ما"، تكتب ميرا بارتوك ، "سأعيش في مكان اخضر وهادئ أمام طريق ريفيّ متعرّج. الغرف يغمرها الضوء والأرضيات ملوّنة بالأحمر".
و"قصر الذكريات" يشي بأن المؤلّفة كانت تشيّد ذلك المكان الأمن طوال حياتها، ولكن في خيالها فقط. "مترجم".

الخميس، أكتوبر 14، 2010

الانطباعية في موسيقى ديبوسي

تخيّل انك تقف على شاطئ البحر وتنظر إلى المياه الزرقاء والأمواج العملاقة التي تتكسّر متحوّلة إلى رذاذ ورغوة وأمواج صغيرة على الشاطئ. صورة مثل هذه هي مزيج من الهدوء والعنف والأناقة والقوّة الهائلة.
مثل هذه الصور تتناسب تماما مع روح موسيقى المؤلّف الفرنسي كلود ديبوسي. وبالإمكان رؤيتها في نظرته إلى الطبيعة التي هي عنده غامضة وحالمة ومشعّة.
وإذا كان الفنّانون الانطباعيون يُسمّون بـ "رسّامي الضوء"، فإن موسيقيين مثل ديبوسي كانوا يرسمون لوحات تعبّر عن مشاعر تفوق الوصف في عقل ونفس السامع. ديبوسي، بكلماته هو، كان يعبّر عمّا لا يمكن التعبير عنه.
كان ديبوسي واحدا من أعظم الموسيقيين أصالة. وهناك من نقّاد الموسيقى من يصفونه بأنه رائد الموسيقى الانطباعية في العالم بلا منازع.
وقد ألّف مجموعة كبيرة من القطع الموسيقية للبيانو تعبّر عن نظرته للطبيعة وتثير في ذهن السامع مشاهد متتالية من المناظر والصور الحيّة.
موسيقى ديبوسي تتميّز بسحرها ونضارتها. وبعض قطعه تشبه في خفّتها وأثيريّتها رائحة عطر نادر وحميم. وقد كنت حتى وقت قريب أؤمن أن لا شيء في الموسيقى يمكن أن يكون أكثر فتنة وإثارة للراحة والسكينة من موسيقى شوبان كما تكشف عنها معزوفاته الشهيرة مثل المازوركات والنوكتيرنز والأبولونيز.
غير أن الاستماع إلى أعمال ديبوسي الكاملة للبيانو غيّر نظرتي لموسيقى البيانو جذريا.
دعونا أوّلا نلقي نظرة خاطفة على التاريخ. خلال أربعينات القرن التاسع عشر كان الروائيون منشغلين بتأليف حكايات ذات مضامين سيكولوجية، وذلك من خلال توظيف النظريات الجديدة في علم النفس والتي تتحدّث عن اللاوعي وعالم الأحلام.
وفي تلك الأثناء ظهر أسلوب تيّار الوعي الذي جسّدته كتابات عدد من الأدباء مثل إدغار آلان بو وأندريه جِيد ومارسيل بروست وستيفن مالارميه وبول فيرلين. كانت كتابات هؤلاء ثورة ضدّ الطبيعة، وبالتالي ضدّ الأفكار الرومانسية. والكثيرون منهم كانوا أصدقاء لـ ديبوسي. لذا لم يكن مستغربا أن تأتي موسيقاه متماهية مع المشاعر التي كان الفنّانون والشعراء يعبّرون عنها خلال الفترة التي شهدت ازدهار المدرستين الانطباعية والرمزية.
ومثل لوحات كلود مونيه، كانت موسيقى ديبوسي تحاول هي أيضا الإمساك بتأثيرات الضوء واللون والجوّ وبلورتها في لحظة معيّنة.
كان ديبوسي يحاول أن يعيد خلق الفروق الدقيقة في اللون من خلال ظلال أصواته، وهذا ما جعل موسيقاه متفرّدة وطليعية في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية بأسرها. يقول الناقد كميل موكلير: إن المناظر الطبيعية في لوحات مونيه هي في الحقيقة سيمفونيات من الأمواج المضيئة. وموسيقى ديبوسي تحمل شبها ملحوظا مع تلك الصور اعتمادا على القيم النسبية للأصوات التي تتحوّل في موسيقاه إلى بقع وألوان ذات رنين وإيقاع".
وبإمكان المرء أن يكتشف أن موسيقى ديبوسي بلا شكل وأنها تعكس صورا غير واضحة المعالم، تماما مثل اللوحات الانطباعية. لا غرابة إذن في أن أنغامه الجديدة والثورية كانت تمثّل بداية الانطباعية الحقيقية في الموسيقى.

أعمال ديبوسي للبيانو هي شعر حقيقي لدرجة أنني الآن توقفت فعليا عن سماع شوبان. الفتنة في موسيقى ديبوسي أثيرية. هذا ما يمكن قوله على اقلّ تقدير.
والآن لنتحوّل إلى بعض موسيقى ديبوسي. حاول أن تستمع أوّلا إلى أشهر معزوفاته بعنوان ضوء القمر. أغمض عينيك واسمح لهذا النغم أن يغرق ببطء في أعماق روحك. وأنت تستمع إلى هذه القطعة، ربّما تتخيّل نهرا من الذكريات ينفتح أمامك، نزهة على طرف بحيرة في ضوء القمر، أو ليلة مرصّعة بالنجوم أثناء قضائك شهر العسل وأنت تمشي على شاطئ البحر ممسكا بذراع حبيبتك، أو قد تتخيّل فتاة تجلس على الأرجوحة وتحدّق في المياه الشفّافة التي يعكسها ضوء القمر.
"ضوء القمر" موسيقى متفرّدة وغامضة. لحنها المتسامي، نغماتها الملوّنة وجملها الديناميكية المثيرة قد تكون ترجمة ديبوسي الخاصّة لضوء القمر وهو يتسرّب عبر أوراق شجرة. الجُهُورية الطافية والإيقاعات القويّة تخلق جوّا لا يمكن وصفه. إنها تحفة فنّية في حدّ ذاتها.
والآن إلى قطعة أخرى هي الثلج المتراقص التي كتبها ديبوسي لطفلته الصغيرة إيما عندما كان عمرها ثلاث سنوات. هذه القطعة هي نوع من السحر المصفّى وهي كافية لأن تنقلنا لتعيدنا مرّة أخرى إلى زمن الطفولة. الأنغام هنا جميلة وفيها عفوية ومرح وانطلاق.
كان كلود ديبوسي يستمتع على ما يبدو بالمشاعر العميقة والرحبة. كما كان مأخوذا كثيرا بسحر القمر والنجوم وبأمجاد السماء الليلية.
الرسّامَان الانطباعيان الرائدان مونيه ورينوار بعض أجمل لوحاتهما تصوّر نساءً حالمات يتأمّلن الانعكاسات في الماء؛ في أعماق الماء، أو يحدّقن في السماء.
فكرة الانعكاسات مهمّة جدّا في الانطباعية. والانعكاس قد يكون أحيانا أكثر حقيقة من الواقع.
في لوحة القارب لـ رينوار، ومن خلال توظيف الأسلوب الانطباعي، نستطيع اكتشاف حالة من التأمّل الصامت. ولم يكن مصادفة أن إحدى أكثر مؤلفات ديبوسي شعبية هي مجموعته المسمّاة تأمّل صامت.
إحدى معزوفات هذه المجموعة اسمها الجزيرة السعيدة. عندما تستمع إلى هذه الموسيقى ذات التأثير المنوّم، ستكتشف القوة التذكّرية التي تثيرها موسيقى البيانو. التأمّل الصامت يتحرّك ببطء وبإيقاع متدرّج يثير في الذهن صورة مياه تتدفّق في نافورة. ومع استمرار الموسيقى تصبح أكثر شبها بالأمواج في حركتها. ثم تتحوّل ناعمة وهادئة بينما تتنقّل جيئة وذهابا قبل أن تخفّ وتتلاشى تدريجيا. وأنت تستمع إلى هذه القطعة، تتجوّل بعيدا مع أحلامك الدافئة وتطلق لأفكارك العنان كي تتحرّك مثل الغيوم المتثاقلة في السماء.
والآن إلى إحدى معزوفات ديبوسي المبكّرة بعنوان ارابيسك. ستجد في هذه القطعة سحرا يهبط عليك من فوق مثل حِزَم من ضوء الشمس الناعم. أرابيسك قطعة خفيفة وحالمة وتشيع المرح والبهجة مع قدر كبير من الشفافية التي نحسّ بها عادة في أيّام الربيع المشمسة.
ديبوسي يشار إليه غالبا باعتباره موسيقيا انطباعيا. ومع ذلك فالكثير من أعماله المكتوبة للبيانو تثير مشاعر عفوية وطفولية أكثر ممّا توحي به صفة الانطباعية.
وبعض النقّاد يقولون إن أكثر أعماله تعبيرية هي الصور والبرليودات والايتودات. في هذه الأعمال أيضا عالم من الأحلام والرؤى والتخيّلات نصفه من الأضواء والنصف الآخر من الظلال.
الإتقان، الأناقة الحسّية، الشفافية، الرقّة وثراء الألوان النغمية. هذه هي السمات الرئيسية التي تميّز موسيقى ديبوسي عن غيره.
من وقت لآخر، حاول أن تسمع شيئا من موسيقى ديبوسي، فهي تغسل عن النفس آثار الكآبة والملل وتملأ ساعات النهار بالألوان الرائعة والصور المبهجة.

Credits
prezi.com
favorite-classical-composers.com

الاثنين، يوليو 12، 2010

جماليّات الحزن


أحد الملامح القديمة في الفنّ الغربي هو تحويل الحزن والكآبة إلى فرح وطاقة للانطلاق والإبداع. والهيئة الأكثر شيوعا في الحالات التي تتناول موضوع الكآبة والحزن هي صورة إنسان، رجل أو امرأة، يضع يده على خدّه وهو مستغرق في التفكير والتأمّل الحزين.
الفلاسفة والأدباء منذ القدم ينظرون إلى الحزن على انه دعوة خلاقة للإنسان كي يرتفع فوق ذاته ويستغلّ إمكانياته. وهناك من يعتقد أن الحزن يجعل الشخص أكثر إنسانية وشفافية وأكثر إحساسا بإيقاعات الحياة المختلفة من فرح وترح ورجاء ويأس وحياة وموت.. إلى آخره. وهناك أيضا من يرى أن الإنسان لا يصبح مكتمل الإنسانية إلا من خلال المعاناة والحزن. الحزن يمكن أن يلهم الإنسان ويقوّي مخيّلته ويجعله أكثر ارتباطا بالعالم من حوله.
الشاعر البريطاني جون كيتس تحدّث كثيرا عن فائدة الألم. قال ذات مرّة: الحزن لا يمكن تجنّبه، وهو ليس ضعف إرادة ولا مرضا نفسيا بحاجة إلى علاج". كيتس اكتشف أيضا أن الحزن يلهم الأفكار العظيمة. "ما يجعلنا نحزن هو معرفتنا بأن كلّ شيء مصيره إلى زوال. لكن عندما نحسّ بدنوّ الموت فإننا ندرك كم هو جميل هذا العالم".
الموسيقي الألماني فريدريك هاندل كان يعاني في نهايات حياته من حالة من الحزن وذبول الصحة ووهن الجسد بعد أمجاده الموسيقية الكثيرة. وفجأة أحسّ بالنشاط والحيوية عندما كُلف بتأليف موسيقى المسيح التي أصبحت أعظم أعماله الموسيقية والتي ولدت من رحم الحزن والمعاناة.
الرسّامة الأمريكية جورجيا اوكيف كانت دائما تقاوم الإحساس بالكآبة والحزن. غير أن الحزن هو الذي أشعل روحها وجعلها ترسم أفضل لوحاتها عن الأشياء المظلمة في وهج الصحراء وتحت الغيوم الثقيلة والداكنة. تنظر إلى لوحاتها المشهورة فتحسّ بأن فيها شيئا غريبا يشبه صمت وقدسيّة العظام التي كانت ترسمها.
وهناك من يميّز بين الحزن والكآبة. الحزن قد يُشعِر الإنسان باليأس والإحباط. والكآبة نوع من الحزن لكنّه يخلو من التشاؤم واليأس. كما أن لا علاقة لها بالاكتئاب.
أرسطو ناقش الكآبة كثيرا عندما درس مشاكل الإبداع الفنّي. وفرويد قرنها بالنرجسية والهوَس. الكآبة فيها مساحة كبيرة للتأمّل. وهي تتعلق بالناس والأمكنة، من قبيل حبّ صديق أو الاشتياق لمكان ما قريب من نفوسنا أو مكان سبق وأن عشنا فيه وما زلنا نحتفظ له بذكريات عزيزة. الكآبة تتضمّن متعة وفيها حبّ وشوق وتطلّع. كما أن فيها نوستالجيا، لأنها تثير الحنين إلى الذكريات القديمة والأفكار والتخيّلات عن الفقد والغياب.
بعض مشاهد أفلام سكورسيزي وطبيعة الرسّام الألماني كاسبار ديفيد فريدريش وألحان شوبان فيها نوع من الحزن المتسامي الذي يخلو من اليأس أو الإحباط.
عندما تستمع إلى بعض مقطوعات شوبان تستطيع أن تلمس فيها حزنا ومعاناة. وغالبا ما تعبّر الموسيقى الحزينة عن نفسها من خلال الإيقاع البطيء الذي يثير حالة من التوق والاستبطان الحزين. وهو انفعال معقّد جدّا يستثير بدوره صراعا داخليا يستعصي على التوصيف البسيط.


مرأى الأطلال أو الآثار القديمة قد يستدعي، هو أيضا، في نفوسنا شعورا بالحزن والكآبة. ربّما يكون السبب هو حقيقة أن الأطلال تعبّر عن مرور الزمن وعدم ثبات وديمومة الحياة والإحساس بالعبور والتحوّل من مرحلة لأخرى وما يثيره ذلك في النفس من مخاوف وهواجس. وكلّ هذه الحالات تكون مصحوبة بإحساس قليل أو كثير بالكآبة. رؤية الآثار الدارسة والقديمة تستثير حالات من التفكير التأمّلي والوجداني ترافقها صور لأحداث وحيوات من العصور الماضية. الصروح المهدّمة والأبنية المهجورة كثيرا ما تثير خيالنا وتدفعنا لإعادة بناء قصص متخيّلة في أذهاننا عن شكل الحياة في الماضي وعن الارتباطات ما بين الآثار والأحداث التي ترويها. هنا أيضا نجد ظلالا من المشاعر السلبية والايجابية للنوستالجيا والحنين لأزمنة وأمكنة لم تعد موجودة سوى في الذهن بعد أن انتهى وزال وجودها الفيزيائي أو المادّي.
في لوحته بعنوان الحالم، يرسم كاسبار فريدريش شخصا جالسا في نافذة دير قوطي قديم، أو بالأصحّ في أطلال ما تبقّى من ذلك الدير. داخل الدير ألوان حمراء داكنة. لكن النور الذهبيّ الساطع يفيض من وسط الصورة ليملأ الفراغ. المشهد عبارة عن تأمّل صامت والتباين ما بين الضوء والعتمة يوحي بالوحدة. لكن بنفس الوقت ما يزال هناك ثمّة إحساس بالأمل وربّما التوق.
الكآبة التي يشعر بها الإنسان أثناء لقائه بالطبيعة ليست بالأمر الطارئ أو الجديد. تخيّل نفسك، مثلا، وأنت تمشي في طبيعة مقفرة. الأرض التي تمتدّ أمامك تبدو فارغة وفسيحة تلوّنها ظلال باهتة من الرمادي مقابل سماء بنّية. الهواء ساكن وخفيف. وإذ تجد نفسك متوحّدا مع إيقاعات الفراغ الهادئ الذي أمامك، قد ينتابك فجأة مزاج تأمّلي يستثير في نفسك ذكريات وأفكارا معيّنة من زمن بعيد. تشعر بشيء من المتعة عندما تتذكّر الأوقات الجميلة من الماضي. لكنها متعة يخالطها حزن وتوق غامض.
في منتصف القرن السادس عشر، كانت الكآبة ترتبط بالإنسان المتفوّق والناضج والقادر على المشاعر العميقة. الموسيقيّ البريطاني جون دولاند عاش في ذلك الوقت وكان معاصرا لـ شكسبير. وقد عُرف ببراعته في العزف على آلة العود "أو اللوت". تستمع إلى ألحانه اليوم فتحسّ فيها بقدر غير قليل من الحزن والحنين. ومثل شكسبير، فإن موسيقى دولاند ما تزال تتحدّث إلينا من وراء أربعمائة عام.
في ألمانيا، ارتبط الفنّ والأدب والفلسفة في العصر الرومانسي بالكآبة. وقد كتب عنها ايمانويل كانت قائلا: إن المشاعر المتسامية تثير المتعة والخوف معا".
البريخت ديورر، الفنّان الألماني، رسم لوحة بعنوان كآبة يظهر فيها رجل متعطّش للمعرفة وحريص على إثراء عقله. ثم لهذا السبب، يشعر بالغربة ويعيش معزولا ومنبوذا من بقيّة البشر. هذه اللوحة وجد فيها الكاتب الأمريكي دان براون ما أثار اهتمامه عندما أشار إليها في روايته الأخيرة الرمز المفقود.
الشاعر الألماني هاينريش هايني اخذ الفكرة واستخدمها في إحدى قصائده عندما كتب يقول: لا أعرف ما الذي يؤرّقني ويثقل على عقلي طوال اليوم".
العلماء يقولون إن الكآبة ليست شيئا سيّئا أو سلبيا وأن قوّتها الايجابية هي التي منحت القوّة والعبقرية للفنّانين والفلاسفة العظام.
الكآبة والحزن كانتا وما تزالان فكرتين رائجتين في الرسم. ومن أشهر من رسموهما في أعمالهم كلّ من لوسيان فرويد ورودان وفان غوخ وغويا ووليام بليك ودي تشيريكو وإدوارد هوبر وبيتر بريغل وإدفارد مونك وإدغار ديغا وغيرهم.

Credits
contempaesthetics.org
quod.lib.umich.edu

الأربعاء، يونيو 30، 2010

محطّات



(1)
"محامي الشيطان" من أجمل وأبلغ المصطلحات التي نستخدمها كثيرا في لغة الخطاب اليومي. لكنك قد تُدهش إذا عرفت أن أصل هذا المصطلح يُعزى للكنيسة الكاثوليكية. تقول القصّة انه كان من عادة الرهبان أنهم إذا أرادوا تنصيب، أو بالأصح تطويب، شخص ما قدّيسا فإنهم يعيّنون في نفس الوقت شخصا آخر تكون مهمّته إظهار عيوب المرشّح وأخطائه التي يمكن أن تكون مبرّرا لحرمانه من ذلك اللقب وما يرتبط به من مكانة وقداسة في أعين الناس. في ما بعد خرج هذا المصطلح عن سياقه اللاهوتي ليصبح من التعبيرات الشائعة التي تجري على ألسنة الناس وتتردّد في الأوساط الثقافية والصحافية والإعلامية. محامي الشيطان، بمعنى ما، هو شخص يحاول أن ينزع عن بعض البشر صفات القداسة المتوهّمة ويعيدهم إلى دائرة البشر العاديين حيث لا مظاهر حصانة ولا امتيازات أو عصمة.
السؤال: ترى كم محاميا للشيطان تحتاجه مجتمعاتنا المليئة بالقدّيسين والملائكة المزعومين؟!

(2)
ثمّة إحساس بأن اللغة العربية تفتقر إلى المرونة والتجدّد والحيوية التي تتمتّع بها اللغات الأخرى، ليس من حيث قدرتها على توليد الاشتقاقات والمترادفات والصيغ المختصرة فحسب، وإنما أيضا التعامل مع مهامّ أسهل من ذلك بكثير. تأمّل هذه الجملة مثلا: الثعلب البنّي السريع يقفز فوق كلب سريع". لو كتبت هذه العبارة بالانجليزية مستخدما كيبورد الكمبيوتر لاكتشفت أنك استخدمت في كتابتها كافّة أحرف الأبجدية اللاتينية الموجودة على لوحة المفاتيح. مثل هذه الحيل والألعاب الذكيّة، على بساطتها، لا نجد لها شبيها في لغتنا. هل العيب في اللغة نفسها، أم في قصور أصحابها وافتقارهم للبديهة وسعة وقوّة الخيال؟

(3)
في روسيا، لو قدت سيّارتك وهي متّسخة وملوّثة بروائح الدخان والعطن لانتهى بك الأمر إلى السجن، لأن ذلك يعتبر جريمة في عرف القانون. السؤال: لو طُبّق هذا القانون الحضاري على كلّ سائقي الليموزين عندنا، فكم سيتبقّى من هذه السيّارات في شوارعنا؟
.

(4)
اللغة كائن حيّ. والواقع أن أفضل تشبيه للغة هو ذلك الذي يقرنها بالشجرة. الشجرة تنمو إلى فروع وأغصان. وبعد فترة تكتسي الأغصان بالأوراق التي لا تلبث هي الأخرى أن تمتدّ وتتوسّع وتنتشر.
في اللغة الانجليزية هناك جملة دلالية تُكتب هكذا To get fired، وهي تقال لوصف الشخص المفصول من عمله أو وظيفته. وقد تندهش لو علمت أن هذا التعبير تعود جذوره إلى القبائل البدائية. كان من عادة بعض القبائل القديمة إذا أرادت أن تعاقب احد أفرادها لارتكابه جرما أو جناية أن تعمد إلى إحراق بيته بدلا من قتله. طبعا في العصور القديمة كانت البيوت عبارة عن أكواخ وعشش بسيطة مبنيّة من جذوع الشجر ومن السعف غالبا. لذا كان الحرق أسرع وأنجع طريقة لتدميرها.
ومن هنا أصبح فعل الحرق نفسه وصفا لحرمان الإنسان من رزقه بطرده من وظيفته. ولو تأمّلنا هذا المدلول جيّدا لأمكن أن نستنتج بسرعة كم هو بليغ ومعبّر. فحرمان الإنسان من عمله الذي يعتاش ويرتزق منه هو عمل من أعمال القتل المعنوي. وهو مساو في الواقع لهدم بيته وتخريب حياته وتدمير مستقبل أطفاله.

(5)
أسنان الإنسان أكثر صلابة من الصخور. هذا ما يقوله العلم. لكن الأغرب من ذلك أن تعلم أن من اخترع الكرسي الكهربائي الذي يُستخدم عادةً لإعدام المجرمين كان طبيب أسنان! وقد تذكّرت هذه المعلومة بينما كنت جالسا نهاية الأسبوع الماضي تحت رحمة أحد أطبّاء الأسنان الذي قصدته لخلع ضرس العقل.
كانت تجربة مؤلمة بحقّ ذكّرتني مجدّدا بكرسيّ الإعدام. وأدركت لأوّل مرّة ما معنى أن يكون عندك ضرس عقل. ولولا أن الطبيب كان على قدر من الخبرة والمهارة لكانت المعاناة مضاعفة. وقد اضطرّ لكسر السنّ الذي عانده كثيرا ثم قام بتجزئته إلى أربع قطع إلى أن أتمّ استئصاله بالكامل وبالتالي ارتحت نهائيا من آلام مزمنة لازمتني أشهرا طويلة.
ألام ضرس العقل لا ينفع معها المسكّنات والمهدّئات الموضعية، بل التدخّل الجراحي العاجل والحاسم. وأتصوّر أن هذا ينطبق على طريقة مقاربتنا لبعض مشاكلنا الاجتماعية المستعصية والتي أصبحت بحاجة ماسّة وعاجلة إلى إعادة نظر.



(6)
"الغرب يعرف أن الإسلام هو دين الحقّ. لذا فالغربيون يعملون ليل نهار على تقويض الإسلام وتدمير المسلمين".
سمعت وقرأت هذه العبارة كثيرا. وآخر مرّة سمعتها كانت منذ ثلاثة أيّام فقط على قناة الجزيرة القطرية. ومن الواضح أن الذين يردّدونها ويروّجون لها ليسوا فقط بعض رجال الدين وأتباعهم أو جنرالات ومنظّري الهزائم السابقين، وإنّما هناك أيضا رجال فكر ومثقّفون لا يتعبون من ترديدها في سياق أحاديثهم المستمرّة عن نظرية المؤامرة. ولو تمعّنت في هذه العبارة لما وجدت لها ما يسندها على ارض الواقع والمنطق. بل إنها تنطوي على تناقض صارخ. فلو افترضنا صحّة مقدّمتها، لكان المنطق يفترض بالغرب أن يتحوّل إلى الإسلام وبالتالي يصبح المسيحيون والمسلمون إخوة في الدين وبذا تنتفي دواعي ومبرّرات الصراع بالنتيجة. غير أن المقدّمات الخاطئة تفضي حتما إلى نتائج خاطئة. واقع الحال يقول انه إن كان هناك صراع بين الإسلام والغرب فهو على المصالح الدنيوية من ثروات وأراض ومواقع استراتيجية وموارد طبيعية إلى ما سوى ذلك. أي أن الصراع صراع سياسة ومصالح، وليس من مصلحة احد أن يُربط بالأديان والأيديولوجيات .

(7)
الإنسان العاديّ يمكن أن يرى في العام الواحد أكثر من 1400 حلم. أي أن عليه أن يتوقّع أن يرى حلما كلّ ليلتين. هل هذا يعني أن من يحلم مرّات اقلّ آو أكثر هو إنسان غير عادي أو غير سويّ؟
المشكلة أنني اكتشفت انه مضى عليّ الآن أكثر من ثلاثة أشهر لم أرَ خلالها حلما واحدا. وبناءً عليه ورغبة في كسر حالة الملل والرتابة، أصبحت متلهفا لرؤية ولو حتى كابوس صغير يمكن أن يضفي على النوم طعما ولونا جديدا.

(8)
أخيرا، خصية الإنسان تدخل التاريخ من بابه الواسع! الاكتشاف "الكبير" هو أن هتلر ونابليون كانا بخصية واحدة. ترى، هل من علاقة بين كون كلّ من هذين الرجلين بخصية واحدة وبين ميلهما لشنّ الحروب وخوض المعارك والاستيلاء على أراضي الآخرين والحلم ببناء إمبراطورية خاصّة؟
هل كان ما فعله هتلر ونابليون، وربّما غيرهما من مجانين العالم القديم والحديث، حيلة تعويضية عن فقدانهما لخصيتيهما وبالتالي لجزء من ذكورتهما؟
والسؤال الأهم: ترى لو كان لكلّ منهما خصيتان كاملتان، ماذا كانا سيفعلان أكثر ممّا فعلاه أو بخلاف ما فعلاه؟

(9)
في دراسة علمية نُشرت مؤخّرا، اكتشف الأطبّاء أن شمّ التفّاح الأخضر، وليس أكله، يمكن أن يساعد الإنسان في إنقاص وزنه. الواقع أن الكثيرين، وأنا منهم، لا يعوّلون كثيرا على مثل هذه الوصفات الطبّية الجاهزة والسريعة. لكن هل للتفّاح الأخضر رائحة أصلا؟ في السوق أكثر من صنف منه ومعظمها، بعكس التفّاح الأحمر، لا تكاد تشمّ لها رائحة.
أظنّ أن من يقدّمون مثل هذه النصائح "الصحّية" إنما يبيعون للناس الوهم. في النهاية ومن خلال التجربة، لاحظت أن لا شيء ينقص الوزن أفضل من ممارسة الرياضة بانتظام والاقتصاد في تناول الطعام.

(10)
"الزمن الماضي، الزمن الآتي، ما كان يمكن أن يكون، وما كان".
الارتباط الوثيق بين الموسيقى والشعر معروف منذ القدم. من أشهر المقطوعات الموسيقية التي ألهمت شعرا عظيما إحدى معزوفات بيتهوفن المعروفة بالرباعية الوترية. عندما سمع تي إس إليوت هذه الموسيقى لأوّل مرّة اعتبرها عصيّة على الفهم. ثم عاد إليها بعد فترة وتوصّل إلى احتمال أنها قد تكون تعبيرا عن مصالحة بين الفنّان ونفسه بعد معاناة وألم طويل. ثم تمنّى أن يكتب شعرا يحمل نفس الفكرة والإحساس الذي توصله الموسيقى.
ولم يطل انتظاره. فبعد فترة قصيرة ولد احد أشهر أعمال إليوت الشعرية بعنوان الرباعيّات الأربع والتي قيل انه تأثر فيها أيضا ببعض صور الخيّام في رباعياّته.
الشعر هنا، والموسيقى على هذا الرابط.

(11)
بعض موسيقى البيانو تسمعها فتستحضر في ذهنك موسيقى أخرى سبق وأن سمعتها من قبل. نفس هذا الانطباع قد يتكوّن لديك وأنت تستمع إلى بعض معزوفات ديفيد لانز الذي يذكّرك أسلوبه بـ شوبان وشوبيرت ورحمانينوف. لانز عازف بيانو بارع ومؤلفاته الموسيقية تثير أمزجة وحالات شتّى، من تأمّل وحزن وتذكّر وبهجة واسترخاء. لكنّها مستوحاة في الغالب من أصوات الطبيعة وصورها الجميلة.
من أشهر أعماله المقطوعة المسمّاة حلم كريستوفوري.
ربّما يحسن الاستماع إلى هذه الموسيقى على ضوء شمعة معطّرة في ساعة متأخّرة من الليل. الجمال المتدفّق من أصابع هذا العازف الماهر لا يدع مجالا للشكّ في أن الموسيقى تثبت مرّة أخرى قدرتها على إثارة المخيّلة وإشاعة جوّ من الرومانسية والدفء الحميم.


الأحد، يونيو 13، 2010

أغاني الشمال الحزينة

قد يمضي الشتاء وينصرم الربيع ويتلاشى بعدهما الصيف ثم العام بأكمله. لكنّي متأكّدة أنك ستعود ثانية. وكما وعدتك، ستجدني بانتظارك. وإذا كنت الآن في السماء، فسنجد هناك الحبّ معا ولن نفترق بعد ذلك أبدا. لن نفترق أبدا. "مقطع من أغنية سولفاي".
من المستحيل أن تسمع موسيقى إدفارد غريغ دون أن تشعر بالضوء والنسيم البارد والمياه الزرقاء، أو دون أن تتخيّل منحدرات الجبال والأنهار الجليدية المتموّجة التي تكثر في مناطق غرب النرويج حيث ولد الفنّان وعاش وألّف موسيقاه.
موسيقى غريغ تستمدّ أصولها من أعماق الريف النرويجي. فقد كان مفتونا بعزف الرعاة وبالأغاني الريفية والموسيقى الفولكلورية. كانت هناك دائما علاقة غريبة ووثيقة بين البيئة التي عاش فيها الفنّان والموسيقى التي أبدعها.
المقال المترجم التالي يتناول جوانب من حياة إدفارد غريغ بالإضافة إلى أشهر أعماله الموسيقية.

كان إدفارد غريغ (1843- 1907) يحبّ دائما التجوال في رحاب الطبيعة ويستمدّ منها الصور والأحاسيس التي كان يعبّر عنها من خلال موسيقاه. لكنّ هذه الصورة الرومانسية عنه هي فقط نصف الحقيقة. فقد كان نجاحه مفروشا بالصعاب والتحدّيات، وكانت حياته حافلة بالنضال المتواصل من اجل إثبات نفسه وتأكيد موهبته.
وهناك اليوم إجماع على أن غريغ هو أعظم وأشهر مؤلّف موسيقي نرويجي. ويستغرب المرء كيف لبلد لم يكن يتمتّع بحرّيته الوطنية ولم تكن لديه تقاليد موسيقية طويلة أن ينجب موسيقيّا بمثل هذا التميّز والعبقرية.
حتى العام 1814 كانت النرويج واقعة تحت احتلال الدنمارك. وابتداءً من عام 1814 وحتى 1905 أجبرت النرويج على الدخول في وحدة اندماجية مع السويد. وفي النصف الأوّل من القرن الثامن عشر، عاش النرويجيون أوقات فقر وعوز. ولم تكن بلدهم قد رسّخت وجودها بعد مع جاراتها الأخريات في اسكندينافيا.
لكن بالنسبة للأشخاص الموهوبين، كان ذلك هو الظرف المثالي الذي يوفّر لهم الدافع نحو النموّ واثبات الذات. وإدفارد غريغ كان احد هؤلاء. كان أسلوبه الموسيقيّ في البداية معتمدا على التقاليد الرومانسية الألمانية. لكنه مع مرور الوقت وضع موسيقى ذات ملامح نرويجية واضحة. تستمع إلى موسيقاه فينشأ لديك انطباع بأنها مرتبطة بقوّة بالطبيعة النرويجية وطريقة حياة الناس في تلك البلاد.
عاش غريغ فترة طويلة من حياته في منطقتي فيورد وأولنسفانغ وألّف فيهما العديد من أعماله الموسيقية المشهورة. كانت فيورد، على وجه الخصوص، مشهورة بجمال طبيعتها وبيئتها البحرية وأكواخها الخشبية وأنهارها الجليدية. وكان من عادته أن يتردّد على تلك المنطقة كلّ صيف. وكثيرا ما كان يذهب إليها في الشتاء. كان محاطا بأكثر مناطق الطبيعة جمالا وتساميا. ومثل اورفيوس، كان يجلس هناك في رحاب الجبال وبين الحيوانات البرّية وفوق الصخور وعلى ضفاف الجداول والأنهار باحثا عن السلام والهدوء الذي كان يحتاجه لموسيقاه.
في عام 1869 غادر غريغ إلى ايطاليا. هناك التقى فرانز ليست ومنحته الأوساط الفنية في روما إلهاما متجدّدا وثقة اكبر بالنفس. وقد أكسبته مهارته في العزف على البيانو لقب شوبان الشمال.

غير انه سرعان ما واجه اختبارا جديدا عندما طلب منه الشاعر والكاتب المسرحيّ هنريك ابسن أن يضع موسيقى مسرحيته بيرغنت. كانت تلك مهمّة سهلة بالنسبة إلى غريغ. لكنّ تجربته تلك أثمرت واحدا من الأعمال الموسيقية الكبرى في سبعينات القرن ما قبل الماضي. وأثناء حياته، سجّلت موسيقى بيرغنت نجاحا عالميا كبيرا. ويعود الفضل في ذلك إلى مقطع موسيقيّ مشهور في المسرحية هو ما أصبح يُعرف اليوم بأغنية سولفاي. وسولفاي هو اسم الفتاة التي تلعب في المسرحية دورا رئيسيا. مصدر الإلهام في أغنية سولفاي هو الموسيقى الفولكلورية وأساطير النرويج القديمة. وتتسم المقطوعة بأنغامها التي يمتزج فيها التوق بالذكريات الحزينة.
في تلك الفترة ألّف غريغ أيضا عددا من الرقصات النرويجية المكتوبة للبيانو، كما وضع سوناتا للكمان والبيانو. وفي بدايات القرن الماضي، أصبحت بيرغنت، وأغنية سولفاي تحديدا، تُعزف في جميع أنحاء العالم. لم تكن تُقدّم في الصالات الموسيقية الكبيرة فحسب، وإنما في المطاعم والمقاهي أيضا. وكان هذا النجاح مقترنا بالصورة التقليدية الشائعة عن الفنّان الذي يتحدّى ظروف الفقر والحاجة كي يهب للآخرين الإبداع والمتعة.
في العام 1957 الذي وافق ذكرى مرور خمسين عاما على وفاته، تنبّأ بعض النقاد بأن غريغ على وشك أن يفقد أهمّيته في أوساط الموسيقى الكلاسيكية. لكن كان للتاريخ رأي آخر. إذ سرعان ما انتعش الاهتمام مرّة أخرى بالموسيقى الرومانسية على أيدي الجيل الحالي من الموسيقيين الشباب الذين أعادوا اكتشاف موسيقى غريغ وقدّروا إسهاماته الموسيقية الكثيرة.
وهناك من الباحثين الموسيقيين من أشاروا إلى تأثير أعماله الأخيرة على الانطباعيين الفرنسيين الذين كانوا يبحثون عن تجارب صوتية جديدة. ومن بين من تأثروا به كلّ من رافيل وبارتوك.
كان هدف إدفارد غريغ هو خلق شكل وطني من الموسيقى يمكن أن يعطي الشعب النرويجي هويّة خاصّة به. ومن هذه الناحية، كانت موسيقاه مصدر إلهام للكثيرين. وعظمة أعماله لا تكمن في هذه الجزئية فحسب، وإنما في حقيقة انه نجح أيضا في التعبير عن الأفكار والانفعالات التي يمكن أن يتماهى معها الناس بسهولة وأن يتأثروا بها.
من الواضح أن إدفارد غريغ كان اكبر من مجرّد مؤلّف موسيقي نرويجي. فموسيقاه تتجاوز الحدود الوطنية وتعلو فوق الحواجز الثقافية.

الأربعاء، مارس 10، 2010

شاعر البيانو

في موسيقى شوبان شاعرية وأصالة. سيولة وانسيابية ألحانه على البيانو لا يمكن وصفها. وقد بلغ من خلالها أعلى درجات الإبداع. لذا يقال إن شوبان فعل للبيانو ما فعله شوبيرت للصوت. شوبان متفرّد كعازف للبيانو. ومن هذه الناحية بالذات لا يمكن مقارنته بأيّ موسيقي آخر.
وصفته رفيقته الأديبة الفرنسية جورج صاند مرّة بأنه "كان يغلق باب غرفته على نفسه لأيّام ويكسر أقلامه ويكتب ويمحو مئات المرّات. وقد كتب شوبان قطعتين من نوع المازوركا أو الرقصات البولندية وهما تعادلان أربعين رواية وتتفوّقان على سائر ما كُتب من أعمال أدبية طوال قرن كامل.
عندما حضرته الوفاة وهو في سنّ التاسعة والثلاثين قال لمن حوله: اشعر أن الأرض خانقة. وهذا السعال يكاد يمزّقني. أتوسّل إليكم أن تتفحصّوا جسدي جيّدا كي لا ادفن حيّا. ولا تنسوا أن تعزفوا موزارت في جنازتي".
المعروف أن شوبان ولد في بولندا لأب فرنسي وأمّ بولندية. لكنه انتقل في ما بعد ليعيش في فرنسا. وبعد وفاته دُفن جثمانه في باريس بينما وضع قلبه في آنية كريستال وأودع داخل عمود بإحدى كنائس وارسو.
في المقال التالي تتناول آن ميدغيت جوانب من حياة شوبان وموسيقاه لمناسبة الاحتفال بمرور مائتي عام على ولادته.

موسيقى شوبان ما تزال إلى اليوم عصيّة على الفهم. المعروف انه لم يكتب سيمفونيات ولا أوبرا. لكن جميع قطعه التي ألفها للبيانو شاعرية وجميلة. مع أن الكثير منها معقّد وصعب من الناحية الهارمونية.
مجموعة معزوفاته المسمّاة بـ الاتيودات Etudes ليست سهلة أبدا. بل ومن الصعب تعليمها لطلاب الموسيقى. وقد بلغ من صعوبتها أن عازف البيانو الكبير والمتخصّص في موسيقى شوبان آرثر روبنسون كان يتجنّب عزف بعضها نظرا لعمقها وتعقيدها، مع أنها توفّر للسامع متعة كبيرة.
أسلوب شوبان فريد من نوعه وخاصّ، وقد كان دائما موضوعا لنقاشات لا تنتهي. موسيقاه ذات لمسة خفيفة وصافية وتعطي انطباعا واهما بأن الموسيقيّ يخلق خطّا لا ينكسر من الصوت يشبه صوت الإنسان. وهذا واضح جدّا في مجموعة موسيقاه التأمّلية والحالمة المسمّاة النوكتيرن Nocturnes والتي يشبّهها البعض بموسيقى أوبرا صديقه فينسينزو بيليني.
ويقال إن شوبان لم يكن حرّا تماما كعازف بيانو، فهناك من الدلائل ما يشير إلى أن اهتزازات مطّردة كانت تنتاب يده اليسرى طوال الوقت.
أحيانا توصف موسيقى شوبان بأنها موسيقى صالونات. أي أنها ليست جادّة. كما أنها ليست ألمانية تماما لأنها لا تلتزم بالتقاليد الموسيقية لمدرسة فيينّا الكلاسيكية العظيمة.
النظرية التي تقول بهشاشة موسيقاه تبدو مرتبطة بالفكرة الرائجة عن شوبان. فهو كان نموذجا للعبقريّ الرومانسي. كان شاحبا ورقيق الحال، كما قُدّر له أن يموت بطريقة مأساوية وهو بعد في سنّ صغيرة نسبيا بعد إصابته بالسلّ. كان يحتاج لعناية امرأة تقوم مقام الأمّ وقد وجدها في شخص الأديبة جورج صاند.
كان شوبان يتلقّى ومضة الإلهام المقدّسة وهو جالس أمام البيانو. ورغم انه كان بارعا في الارتجال، إلا انه كان يبذل جهودا مضنية في تأليف موسيقاه.
كان شوبان مختلفا عن الكثير من معاصريه في انه لم يكن متأثرا بـ بيتهوفن. ولطالما عبّر عن امتعاضه من بداية الحركة الأخيرة من السيمفونية الخامسة. ويبدو أن تأثّره الحقيقيّ كان بـ باخ، خاصّة في مراحل حياته المبكّرة.
ومثل باخ، كان شوبان يكتب موسيقاه في مجموعات، من قبيل استهلالاته الأربع والعشرين Preludes، وموسيقاه التأمّلية أو مجموعة النوكتيرن الحافلة بالتعبيرات الرومانسية.
لكنّه كان رائدا في تأليف الرقصات البولندية "البولونيز والمازوركا" التي تعتمد على أفكار مستوحاة من الموسيقى البولندية والتي كانت تعتبر مثالا على تمسّكه بالمشاعر الوطنية. كان شوبان يتعامل مع مشاعره القومية بجدّية. لكنه أيضا استوحى بعض الألوان الفولكلورية المحليّة مثل الكونشيرتو التركي لـ موزارت والرقصات الهنغارية لـ برامز.
عندما ذهب شوبان إلى فيينّا وهو شابّ، قبل أن يستقرّ في باريس، كان يأنف من موسيقى الفالس الراقصة ويعتبرها ضربا من الموسيقى الشعبية التي تعبّر عن ذائقة رديئة. ومع ذلك، فقد بدأ يكتب موسيقى فالس خاصّة به. صحيح انه ليس من نوعية الفالس الذي يمكن أن يرقص له الإنسان، لكنه مع ذلك يستدعي أجواء ساحات الرقص والفساتين الفضفاضة والملتوية.
وقد ظهر حديثا تسجيلان لـ فالسات شوبان لكلّ من اليس سارا اوت alice-sara-ott.com وانغريد فليتر ingridfliter.com، وكلاهما عازفتا بيانو موهوبتان. لكنّ سماع كلّ فالسات شوبان دفعة واحدة يشبه التهام علبة من الشوكولاته، إذ تتركك وأنت تشعر باعتلال في الكبد والمعدة، مع أن كلا منها له مواطن قوّته الخاصّة به.
إن التعامل مع فالسات شوبان ينطوي على الكثير من الصعوبة. وعزفها يشبه عبور الخط الفاصل بين العاطفة والانفعال، بين الإحساس بشيء ما والنظر إلى الوراء بتوق في محاولة لفهم طبيعة ذلك الإحساس.
الرقصات التي استخدمها شوبان هي نوع من التعليق الاجتماعي. ويقال الآن أن النوستالجيا تهدّد بتزوير كلّ شيء هذه الأيام. وأحد الأسرار الكبيرة في عزف موسيقى شوبان قد تكون، ببساطة، أن نتذكّر أن الموسيقى ليست بالجمال الذي تُعزف به.

Credits
study.com

الأربعاء، أكتوبر 14، 2009

فنّ البورتريه: صورة المبدع


الهدف المشترك للكاتب والرسّام والموسيقي هو التقاط المَشاهد أو الحالات الانفعالية والمزاجية وتصويرها ومحاولة إبراز الرؤى المنفردة على الورق أو رقعة الرسم أو من خلال النغم.
الكتّاب يكتبون غالبا عن الفنّانين والموسيقيين في الروايات والمقالات والسير الذاتية. بينما الرسّامون يصوّرون الكتّاب والموسيقيين الذين عرفوهم وأولئك الذين يجدون في حياتهم ما يدفعهم الفضول لرسمه.
وكثيرا ما يرسم الرسّامون بوتريهات للكتّاب أو الموسيقيين لكي تراهم الأجيال القادمة. لكن أفضل اللوحات هي التي تأتي من تصوّر واضح أو علاقة خاصّة بالموضوع.
ومثلما أن للموسيقى والرسم علاقة مشتركة باللون والنغم والشكل والإيقاع، فإن تصوير الملحّنين والموسيقيين يتطلب مهارة محدّدة لإيصال الموسيقى داخل روح الموضوع.

غوته أديب وعالم وفيلسوف ألماني من زعماء حركة العاصفة والاندفاع الأدبية. تطوّر فنّه وزادت خبرته بعد زيارته لايطاليا وتأثّره بالثورة الفرنسية.
في العام 1786 سافر غوته إلى ايطاليا. ومن هناك كتب إلى أصدقائه في ألمانيا يخبرهم بانطباعاته ومشاهداته عمّا أصبح يُعرف في ما بعد بالرحلة الايطالية.
كان غوته مدفوعا بدراسة السمات الطبيعية لبيئة البحر المتوسّط وجيولوجيا مناطق جنوب أوربّا. وكان مهتمّا على وجه الخصوص ببقايا الآثار الكلاسيكية وبالفنّ المعاصر. وأثناء زيارته الايطالية زار المعابد القديمة واطلع على بعض جداريات الرسّام المشهور غيوتو، كما أبدى إعجابه بأسلوب حياة الايطاليين. وعندما وصل غوته إلى روما قادما من فينيسيا قابل عددا من الرسّامين الألمان الذين كانوا يقيمون في ايطاليا آنذاك. وكان من بين هؤلاء يوهان هاينريش تيشبين الذي اصطحب غوته إلى نابولي ورسم له احد أشهر بورتريهاته. واليوم لا يتذكّر احد هذا الرسّام إلا بسبب هذا البورتريه بالذات. وفيه يجلس غوته في منطقة أثرية في وسط ايطاليا محاطا بقلاع وأعمدة وبقايا من مبان قديمة. وعلى مقربة منه يقوم جدار اثري نُحتت عليه صور لرجال ونساء.
كتب غوته في الفلسفة والشعر كما تناول المفاهيم الكلاسيكية للجمال وملامح العمارة الجيّدة. والعديد من قصائده وجدت في ما بعد طريقها إلى موسيقى كبار المؤلفين الموسيقيين مثل فرانز شوبيرت وغيره. ومن مؤلفاته "مأساة فاوست" و"نظرية الألوان".


كان جيوسيبي فيردي احد أشهر من ألّفوا الموسيقى الاوبرالية. وقد كان فيردي صديقا لمواطنه الرسّام الايطالي جيوفاني بولديني. وتوطدت علاقتهما أكثر أثناء إقامة الاثنين في باريس. في ذلك الوقت، رسم بولديني لـ فيردي بورتريها كتذكار صداقة وإعجاب. وقد ذيّله بعبارة قال فيها: إلى المايسترو من صديقه المعجب بولديني". غير أن البورتريه لم يرق كثيرا لـ فيردي، الأمر الذي اضطرّ الفنان لرسم بورتريه آخر للموسيقي في العام 1886م.
هذا البورتريه هو الذي أصبح مشهورا في ما بعد. وفيه يظهر فيردي مرتديا سترة سوداء ووشاحا ابيض وواضعا على رأسه قبّعة سوداء اسطوانية الشكل. وقد ذهب فيردي إلى محترف بولديني على مضض وجلس أمام الفنان ساعتين لكي يرسمه.
فيردي كان سعيدا بالنتيجة هذه المرّة. وقد احتفظ بولديني بالبورتريه لسنوات وكان يطوف به على المعارض الفنية لكي يراه الناس. وقد رفض أن يبيعه حتى عندما عرض عليه أمير ويلز مبلغا مغريا نظير اقتنائه. في ما بعد أهدى بولديني البورتريه إلى متحف الفنّ الحديث في روما حيث ظلّ فيه إلى اليوم.
من أشهر أعمال فيردي التي يتذكّرها الناس أوبرا عايدة. لكنه اشتهر أكثر بلحن لا دونا موبيليه La Donna Mobile الذي وضعه لأوبرا ريغوليتو والذي أصبح رمزا لايطاليا وللثقافة الايطالية.


"سرّ الإنسان ليس في أن يحيا فقط، بل أن يكون هناك ما يحيا لأجله".
عُرف فيودور دستويفسكي برواياته السيكولوجية التي تناول فيها ما يطرأ على نفس الإنسان من حالات وانفعالات متناقضة وطرح فيها الكثير من الأسئلة الأخلاقية والفلسفية.
كما عالج في أعماله مسائل الخير والشرّ والإلحاد والحرّية والسعادة والشقاء والحبّ والكراهية.
وقد سبق برواياته أفكار الكثيرين ممّن جاءوا بعده مثل نيتشه وفرويد.
كان دستويفسكي يعوّل على التحوّلات الروحية للفرد كوسيلة لإحداث التغيير بأكثر مما يمكن أن تجلبه الثورات الاجتماعية. كان معاصرا لـ تولستوي ومعارضا لـ تورغينيف وكتاباته ذات الطابع التغريبي.
رسم فاسيلي بيروف هذا البورتريه لـ دستويفسكي بعد أن فرغ الأخير من كتابة روايته المشهورة "الجريمة والعقاب". وقد رسمه بتكليف من بافيل تريتيكوف الذي كان حريصا على أن يتضمّن متحفه صورا لأهم الشخصيّات الروسية.
في البورتريه يبدو دستويفسكي في حالة تأمّل عميق تعزّزه نظراته المفكّرة ولباسه ذو الألوان الداكنة وكذلك الخلفية السوداء. المعروف أن دستويفسكي كان يعاني طوال حياته من نوبات الصرع كما كان واقعا تحت هاجس ما أشيع من انه تسبّب في مقتل والده. من جهتهم، كان الروس يعتبرونه نبيّا ومصلحا فيما كان البعض الآخر يرون فيه ضمير الطبقات الفقيرة والمسحوقة.
من أشهر رواياته "الأبله" و"بيت الموتى" و"الإخوة كارامازوف".


من العبارات المشهورة المنسوبة إلى مارسيل بروست: السعادة مفيدة للجسد، لكن الحزن هو الذي يقوّي العقل".
بروست كان احد أعظم الروائيين الفرنسيين الذين ظهروا في أواخر القرن التاسع عشر. وقد رسم له جاك بلانش هذا البورتريه القوي والمعبّر عندما كان الروائي في الحادية والعشرين من عمره.
بلانش كان احد رسّامي البورتريه الفرنسيين المعروفين في نهاية القرن التاسع عشر.
لكنه لم يكن رسّاما فحسب، بل كان بنفس الوقت كاتبا وناقدا أدبيا وموسيقيا. غير أن موهبته في الرسم طغت على ما سواها. وقد رسم بروست بعد أن قرأ كتبه وغاص في حياته الخاصّة وقرأ مذكّراته وأفكاره.
بروست، الشابّ الوسيم، يظهر هنا بوجهه البيضاوي وعينيه الواسعتين وملابسه الأنيقة.
وقد ظلّ هذا البورتريه الأكثر دقّة في تمثيل وجه وملامح صاحب الرواية المشهورة "البحث عن الزمن الضائع" التي كتبها على امتداد خمس عشرة سنة وأصبحت في ما بعد إحدى أضخم الروايات التي ظهرت في القرن العشرين.
بروست احتفظ بالبورتريه حتى وفاته في أوائل عشرينات القرن الماضي.


"كلّ شيء يمضي. كلّ شيء عابر".
يعتبر الكسندر بوشكين أشهر شاعر روسي. ويُعزى إليه الفضل في تطوير الشعر الروسي واللغة الروسية. وممّا يميّز شعره مفرداته الثريّة وأسلوبه المعبّر وصوره المبتكرة. وكان يمزج في شعره الدراما بالرومانسية والسخرية.
هذا البورتريه يعتبر أشهر صورة لـ بوشكين وقد ظهر مرارا على غلاف مجموعته الشعرية الكاملة.
رسم اوريست كيبرينسكي البورتريه عام 1827م. وهو يعتبر احد اكبر رسّامي البورتريهات الروس في بداية القرن التاسع عشر.
كانت رسومات كيبرينسكي تعبّر عن فكرة فردانية الإنسان التي روّجت لها المدرسة الرومانسية.
عندما رأى بوشكين البورتريه لأوّل مرّة قال مازحا: اشكّ الآن في أن المرآة كانت تجاملني".
وفيه يبدو الشاعر مرتديا سترة سوداء وفوقها وشاح منسدل تعلوه مربّعات حمراء وخضراء.
في البورتريه يستوقف الناظر شكل اللحية وشعر الرأس الكثيف نوعا ما وملامح الوجه ونظرات العينين التي لا تخلو من تفكير وحزن.
وفي خلفية اللوحة إلى اليمين هناك طاولة عليها منحوتة على شكل امرأة تعزف آلة وترية.
في اللوحة أيضا مسحة بطولية تنسجم مع نظرة الوطنيين الروس لشاعرهم الأعظم الذي كانوا يلقبونه بـ شمس الشعر الروسي.
في العام 1837 جرت مبارزة بالأسلحة النارية بين بوشكين وأحد خصومه أدّت إلى إصابته بجرح نافذ في صدره توفي بعده بيومين. هذا الموت الملحمي أضاف بعدا أسطوريا لشخصية بوشكين الذي أصبح في ما بعد معبّرا عن الضمير الوطني لروسيا.
من أشهر قصائده "روسلان ولودميلا" و"سجين القوقاز" و"بوريس غودونوف".


ولد المؤلف الموسيقي الفرنسي اريك ساتي في عام 1866م. كانت مؤلفاته الموسيقية متفرّدة بإيقاعاتها وأسمائها الغريبة مثل "ثلاث قطع على شكل كمّثرى" و"السمكة الحالمة".
لكن أشهر مؤلفاته هي تلك المقطوعات المعروفة بـ جيمنوبيدي وهي عبارة عن مجموعة من المعزوفات ذات الإيقاع الحزين والبطيء والتي تستمدّ صورها من الشعر.
كان ساتي على علاقة عاطفية مع الرسّامة وعارضة الأزياء سوزان فالادون التي التقاها عام 1893 في حيّ مونمارتر الباريسي.
كان المؤلف الموسيقي مفتونا كثيرا بروح سوزان الحرّة وأفكارها المتمرّدة.
لكن لسوء الحظ، كانت تلك العلاقة تعني لـ ساتي أكثر مما كانت تعني لـ فالادون.
كان يعتبر أن سوزان حبّه الحقيقي حتى بعد أن دخلت في علاقات عاطفية مع رجال آخرين.
ومع ذلك، رسمت فالادون بورتريها مثيرا لـ اريك ساتي ظلّ هو يعتزّ به كثيرا واحتفظ به في محترفه الخاصّ إلى أن توفي.
الفنان بول سينياك رسم ساتي هو أيضا.
لكن بورتريه فالادون ذو لمسة شخصية خاصّة تعكس روح العلاقة الحميمة التي كانت تربطها بالموسيقي.


"لا تخافوا الله، بل أحبّوه"!
ولد جلال الدين الرومي في إحدى قرى شمال شرق فارس قبل أكثر من 800 عام.
وعندما كان عمره 12 سنة قابل المتصوّف والشاعر الفارسي المشهور "العطّار" الذي قال لوالده: إن الكلمات الحارّة والمحمومة التي تخرج من فم ابنك ستشعل أرواح وقلوب العشّاق في هذا العالم".
كان الرومي فقيها ومعلّما وشاعرا وعارفا. وقد درج الكثيرون في فارس وأفغانستان والهند ووسط آسيا على مناداته بـ مولانا.
كان لقاؤه بـ شمس التبريزي يمثل ولادته الثانية.
"ليست كل عين ترى وليس كلّ بحر يحتوي لآليء". شعر الرومي غيبي يفتن بجماله وبكشوفاته الروحية العميقة.
هذا البورتريه رسمه له فنان ظلّ اسمه مجهولا. وهو موجود، ضمن أشياء أخرى، في ضريحه في مدينة قونيه التركية التي عاش فيها معظم حياته.
في البورتريه يبدو الرومي شيخا بلحية وعمامة بيضاء وقبّعة طويلة صفراء. انه ينظر إلى الأرض في تأمّل عميق وعلى وجهه علامات الوقار والسكينة.
وبإمكان الإنسان أن يتخيّل أن البورتريه رُسم للرومي بينما كان يتلو إحدى قصائده.
يقال انه كان يميل برأسه يمينا وشمالا عندما كان يقرأ أشعاره. ومن هنا ولدت فكرة الطريقة المولوية التي اشتهرت برقصها الدائري الذي يقال بأنه يوفّر للراقص الصوفي منفذا للعبور من عالم الأرض إلى عالم السماء.
شعر الرومي واحة للروح إذ يمنح العزاء والراحة لأصحاب العقول القلقة والقلوب المتعبة.
والدخول إلى عالمه يقتضي من الشخص أن يتخلّى عن الكثير من أفكاره وقناعاته المسبقة.
في عالم الخفاء، يقول الرومي في إحدى قصائده، ثمّة خشب عود يحترق. وهذا الحبّ هو دخان ذلك العطر".
وهذا البورتريه يقدّم صورة لإنسان كان دائم التجوال بحثا عن الله.


كان اللورد بايرون ابرز الشعراء الانجليز الرومانسيين. كما كان أوّل شخصية مشهورة يركب موجة تقديس الجماهير التي حوّلته إلى إلهة شعرية.
كانت رسائل بايرون إلى زوجته وخليلاته وأصدقائه مثار اهتمام النقاد والمؤرّخين. وعلى عكس الاعتقاد الشائع، لم يكن بايرون ذلك الشخص المنعزل والذي لم يكن يأبه كثيرا بآراء الناس. إذ كان يحتفظ بالكثير من الرسائل التي كانت ترده من المعجبين، وخاصّة من النساء، برغم جرأتها ولغتها الفاضحة أحيانا. وكانت تلك الرسائل تظهر كم كان بايرون يستمتع بهالة التقديس التي كان الناس يحيطونه بها.
وبسبب صورة الشاعر كبطل رومانسي، كانت النساء مفتونات بمشاهدة صوره. ومن أشهرها هذا البورتريه الذي رسمه له توماس فيليبس عام 1835م والذي يظهر فيه بايرون مرتديا ملابس تقليدية البانية مطرّزة، تتكوّن من عمامة وعباءة وسترة بينما يمسك بخنجر مذهّب طويل.
ويُرجّح أن البورتريه رُسم له في أثينا حيث كان بايرون يحارب في صفوف الجيش اليوناني ضد الأتراك.
بايرون، برأي بعض المؤرّخين، كان أهمّ شخصية أوربية في النصف الأول من القرن التاسع عشر من حيث تأثيره على الفنون والأدب والموسيقى. وربّما لا يتفوّق عليه من هذه الناحية سوى نابليون.
وقد توفي بالحمّى عام 1824 أثناء مشاركته في حرب استقلال اليونان ولم يكن وقتها قد أكمل عامه السادس والثلاثين. وكان لموته المفاجئ تأثير الصدمة في أنحاء كثيرة من أوربا، كما تحوّل إلى رمز للشاعر الثائر والمقاتل في سبيل الحرّية.
من أشهر مؤلفاته "رحلة تشايلد هارولد" و"دون جوان".


ولد فريدريك شوبان في وارسو عام 1810م. كان نصف فرنسي ونصف بولندي. وقد اظهر موهبة ملحوظة في العزف على البيانو وهو صبيّ. وفي النهاية انتقل إلى باريس بعد الاضطرابات السياسية التي شهدتها بولندا آنذاك.
وبالإضافة إلى مقدرته الموسيقية العظيمة ومؤلفاته الرائعة على البيانو، كان لـ شوبان نصيبه من الرومانسية. كما كانت له متاعبه مع مرض السلّ الذي حصد حياة شقيقته وأبيه والذي سيقتل شوبان في ما بعد، أي في العام 1849م.
الرسّام اوجين ديلاكروا كان صديقا لـ شوبان ورسم له بورتريها عام 1838م. أسلوب ديلاكروا الرومانسي كان متناسبا تماما مع وجنتي شوبان الغائرتين ومظهره الأثيري. البورتريه أصبح تصويرا مشهورا للملحّن في قمّة نجاحه وشهرته. في البداية، رسم ديلاكروا بورتريها ثنائيا يجمع بين شوبان والروائية الفرنسية جورج صاند. كانت صاند امرأة متحرّرة ومغرمة بلبس بناطيل الرجال. كما كانت تدخّن علنا، وهي عادة كانت مستهجنة في ذلك الوقت.
ورغم أن علاقة الحبّ بين صاند وشوبان بدأت علاقة جسدية، فإن صاند ومع تدهور صحّة شوبان وجدت نفسها تقوم بدور الممرّضة أكثر من العشيقة.
البورتريه المشترك لـ صاند وشوبان يصوّرهما وهما جالسان جنبا إلى جنب. لكن اللوحة في النهاية قُسمت إلى نصفين. والقسم الذي يصوّر شوبان موجود اليوم في متحف اللوفر.
كان شوبان يعزو الفضل في صوغ أسلوبه الموسيقي إلى كلّ من موزارت وباخ. ومن أشهر مؤلفاته الموسيقية سلسلة البولونيز بالإضافة إلى معزوفتيه المسمّيتين فانتازي ونوكتيرن .


ليو تولستوي، مؤلف الروايات الملحمية الكبيرة مثل "الحرب والسلام" و"آنا كارينينا" و"موت ايفان ايليش"، كان موضوعا لعدد من الرسومات.
إيليا ريبين الرسّام الروسي المولود في اوكرانيا رسم للروائي الكبير عدّة بورتريهات.
كان ريبين رسّاما موهوبا ودقيق الملاحظة.
وبورتريهاته المشهورة تصوّر الشخصيات الروسية الكبيرة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
وقد رسم ريبين بورتريها رسميا لـ تولستوي.
غير انه أيضا رسم صورا أكثر حميمية للكاتب المشهور وهو يكتب فوق مكتبه، أو يستلقي على العشب وهو يقرأ، أو وهو يقف في الغابة.
لوحة ريبين التي رسمها في العام 1890 لـ تولستوي وهو حافي القدمين تلفت النظر بشكل خاص لأنها تمزج مكانة تولستوي الأدبية بارتباطه الفطري بالإنسانية وبالأرض.


الكاتبة الفرنسية كوليت اشتهرت بحياتها المتلوّنة وبمغامراتها العاطفية التي كانت تجري بموازاة أعمالها التي اتسمت بواقعيتها وحسّيتها. كانت كتاباتها تؤشّر على براعتها في تحليل مشاعر المرأة كما أبدعت في وصف الريف الذي نشأت فيه وأحبّته. ومن أشهر رواياتها "قمح وعشب" و"كلودين".
كوليت كانت أوّل امرأة أديبة تنال جائزة غونكور في زمانها. وقد رسمها الفنان جاك اومبيرت عام 1896 م. في البورتريه تبدو الأديبة في ذروة شبابها وحيويّتها. وقد رسمها الفنان وهي في سنّ الثالثة والعشرين. وتظهر في الصورة وهي تجلس بوضع جانبي بينما تزيّن شعرها بوردة حمراء. في تلك السنّ كانت كوليت متزوّجة من زوجها الأوّل هنري فيلار. كان اكبر منها سنّا وكان يحتفظ بعلاقات أدبية كثيرة. ويقال انه حبس كوليت في غرفة وأرغمها على تذييل رواياتها باسمه.
في ما بعد تمكّنت من تطليقه واستعادت حرّيتها وأصبحت اسما أدبيا معروفا وشخصية اجتماعية لامعة.


كان نيكولاي ريمسكي كورساكوف أحد أشهر الشخصيات الروسية التي رسمها الفنان ايليا ريبين قبل ثورة 1917م.
كورساكوف كان ينتمي إلى مجموعة من المؤلفين الموسيقيين الذين أثروا في المواهب الموسيقية التي ظهرت في ما بعد مثل ايغور سترافنسكي وسيرغي بروكوفييف.
أسلوب كورساكوف اللحني كان يمزج بين الفولكلور الروسي والتأثيرات الموسيقية الغربية. ومن أشهر أعماله وأكثرها رواجا موسيقى شهرزاد .
الفنان فالانتين سيروف رسم بورتريها لـ كورساكوف يظهر فيه بنظارات طبية ولحية طويلة وهو جالس إلى مكتبه بينما ينهمك في كتابة نوتة موسيقية لعمل جديد.
وعلى النقيض من هذا البورتريه الجادّ، يقدّم ايليا ريبين كورساكوف في بيئة أكثر استرخاءً.
في الصورة الأخيرة يجلس المؤلف الموسيقي على أريكة ويسند مرفقه على وسادة خضراء. ويبدو غارقا في التأمّل كأنّما يفكّر في تفاصيل معزوفة أو لحن موسيقي جديد بينما يحدّق في البعيد.


"أنا أفكر إذن أنا موجود". لا تُذكر هذه الجملة إلا ويُستدعى اسم ديكارت. اشتهر ديكارت بآرائه عن المعرفة واليقين والشكّ والعلاقة بين الجسد والعقل. وهناك إجماع على أنه مؤسّس الفلسفة الحديثة التي قادت إلى التنوير. كان عقلانيا يؤمن بأن العقل، لا التجريب، هو المصدر الأساسي للمعرفة. ومن أقواله أن الأحاسيس غامضة دائما وانه لا يمكن الوثوق بها.
في هولندا ألّف ديكارت كتابه "العالم". في تلك الأثناء كانت الكنيسة تحاكم غاليليو لتعليمه أفكار كوبرنيكوس.
رسم فرانز هولس هذا البورتريه لـ ديكارت، على الأرجح أثناء زيارة الأخير لهولندا عام 1618. وفيه يظهر الفيلسوف بشعره الطويل وقد ارتدى ملابس سوداء وياقة كبيرة بيضاء على خلفية داكنة. شارباه خفيفان وعيناه الكبيرتان تشعّان بالذكاء.
"عواطف الروح" كان آخر كتاب ألفه ديكارت وتناول فيه مسألة العلاقة بين الروح والجسد. وكان يردّ في الكتاب على تساؤلات اليزابيث أميرة بوهيميا التي كانت تحاوره في مسائل فلسفية وفكرية. والكتاب هو مزيج من علم النفس والأخلاق.
ذهب ديكارت بعد ذلك إلى السويد بناءً على دعوة من الملكة كريستينا. كان مطلوبا منه أن يصحو في الصباح الباكر لإعطاء الملكة دروسا في الفلسفة. وبسبب أجواء السويد الباردة أصيب بالالتهاب الرئوي ولم يلبث أن توفي هناك في الحادي عشر من فبراير عام 1650م.


كانت كلارا شومان طفلة عبقرية سحرت أوربّا بموهبتها الموسيقية في بداية القرن التاسع عشر. وقد امتدحها غوته وشوبان بينما أسَرَت عقل الملحّن وعازف البيانو روبرت شومان الذي تزوّجها عام 1840م.ورغم وجود الكثير من القواسم المشتركة بينهما، خاصّة شغفهما بالموسيقى، فإن روبرت كان يعاني من بعض المشاكل النفسية. فقد كانت تأتيه نوبات اكتئاب وحاول الانتحار مرارا إلى أن أودع في النهاية بإحدى دور الرعاية الطبية.
عدم استقرار حالته دفع كلارا إلى تحمّل مسئولية رعاية أطفالهما السبعة. لكنها استمرّت في تأليف الموسيقى والعزف على البيانو.
الرسّام يوهان شرام رسم كلارا شومان وهي شابّة في السنة التي تزوّجت فيها شومان.
وجهها وقور وهادئ وملامحها واثقة. البورتريه ينطوي على مفارقة من حيث أن الزواج غيّر طريقها الإبداعي وجعلها تقدّم احتياجات زوجها على احتياجاتها هي.
المعروف أن كلارا كانت تربطها علاقة عاطفية مع الموسيقي الألماني برامز. وبعد زواجها من شومان تحوّلت تلك العلاقة إلى حبّ أفلاطوني وأصبحت تقتصر على تبادل الرسائل.


جان كوكتو شاعر وروائي وفنان وكاتب مسرحي فرنسي.
كان صديقا للأديبة كوليت بالإضافة إلى شهرته كشخصية بوهيمية.
كوكتو النحيل وذو الملامح الهادئة واليدين الجميلتين والأصابع الطويلة كان موضوعا جذّابا للرسّامين في زمانه.
الرسّام اميديو موديلياني كان صديقا لـ كوكتو وقد رسم له في العام 1916 بورتريها أصبح مشهورا في ما بعد لأنه قدّم من خلاله رؤية فريدة لـ كوكتو، الكاتب المتعدّد المواهب والاهتمامات.
كان كوكتو على الدوام مثقفا ثوريا ومشاكسا.
وقد عُرف بعلاقته الحميمة بالمغنية الفرنسية المشهورة اديث بياف كما كان معاصرا لكلّ من مارسيل بروست واندريه جيد.
كان كوكتو متعلقا كثيرا بصديقته بياف.
وعندما توفيت نزل عليه الخبر نزول الصاعقة وغلبه الحزن والفجيعة وقال لمن حوله: هذا هو يومي الأخير على هذه الأرض".
والغريب انه توفي بعد ساعات فقط من موتها، أي في الحادي عشر من أكتوبر عام 1963م عن 74 عاما.
وكان قد أمر بأن يُكتب على شاهد قبره عبارة: سأظلّ بينكم".
ومن أشهر كتب كوكتو "دم الشاعر" و"رقصة سوفوكليس" و"صوت الإنسان".


ظهر هذا الرسم لـ شكسبير لأول مرّة على غلاف كتاب يتضمّن مجموعة من أعماله ونشر في العام 1623م. وهذه الصورة له هي الأقرب إلى الصحّة والأصالة.
الطريقة التي رُسم بها البورتريه دفعت بعض المؤرّخين للاعتقاد أن شكسبير كان ينتمي إلى جماعة فلسفية غامضة تمزج التعاليم المسيحية بالسحر والأفكار الافلاطونية. وتحليل بعض أعماله يوحي بأنه لم يكن جزءا من تلك الجماعة فحسب بل شخصية محورية فيها.
وقد رسم البورتريه مارتن دروشاوت، على الأرجح بعد وفاة شكسبير عام 1616 . وهناك العديد من الصور التي يعتقد أنها لـ شكسبير، لكن لا توجد أدلّة كافية تؤكّد نسبتها إليه.
وقد عُثر مؤخّرا على بورتريه قيل انه لـ شكسبير ويظهر فيه رجل يبدو ذا مكانة اجتماعية رفيعة ويرتدي ملابس ايطالية أنيقة وباهظة الثمن تعود للقرن السابع عشر.
وفي مارس من هذه السنة توصّل بعض الباحثين إلى أن اللوحة تخصّ شكسبير فعلا، ويُرجّح أنها رُسمت له أثناء حياته.


يعتبر أبو عليّ ابن سينا احد أشهر أطبّاء وفلاسفة الإسلام. عُرف بالشيخ الرئيس وقد ولد قرب بخارى في ما يُعرف اليوم بأوزبكستان وتوفي في همذان بإيران. تعمّق ابن سينا في دراسة فلسفة أرسطو وقال بفيض العالم عن الله. له ميول صوفية عميقة برزت في كتابه "الحكمة المشرقية"، وهو عبارة عن فلسفته الشخصية. من مؤلّفاته المطبوعة "القانون في الطبّ" و"كتاب الشفاء". وله قصيدة مشهورة يقول فيها: هبطتْ إليك من المحلّ الأرفع ورقاء ذات تعزّز وتمنّع". كتب ابن سينا سيرة ذاتية لنفسه غير انه فضّل أن يتجنّب الحديث فيها عن نفسه ليركّز على أفكاره عن الوصول إلى الحقيقة المطلقة.
هذا البورتريه رسمه لابن سينا فنان يُدعى علي قاري. وباستثناء اسمه، لا يُعرف عنه أو عن حياته شيء. في البورتريه يبدو ابن سينا بملابس فارسية تقليدية تعود للقرن الحادي عشر الميلادي. ملامحه جادّة على شيء من التفكير والتأمّل الذي يعمّقه الوضع الجانبي الذي رُسمت به الشخصية. ملامح الوجه تشي بقدر من الوسامة والوقار. هذا الملمح الهادئ في الصورة يتناقض مع طبيعة العصر الذي عاش فيه ابن سينا والذي اتسم بكثرة الصراعات السياسية بين الفرس السامانيين والأتراك على مناطق النفوذ في آسيا الوسطى.


كان نيتشه وما يزال احد أكثر الفلاسفة غموضا وإثارة للجدل.
قيل انه كان عدميا. وقد راعه أن يرى عالما لا يرمز إلى شيء وليس فيه معايير أو قواعد أخلاقية ثابتة.
وقد سبّبت أفكاره صدمة للكثيرين بينما استقبلها آخرون بالكثير من الثناء والاستحسان.
هذا البورتريه رسمه له هانز اولد الذي كان مديرا لمتحف الفنون في أكاديمية فيمر الألمانية.
كان اولد احد أصدقاء نيتشه المقرّبين. وقد نشر الرسم في إحدى المجلات الألمانية آنذاك.
البورتريه كاريكاتيري إلى حدّ ما. وفيه يبدو نيتشه بعينين غائرتين وحاجبين عريضين وشاربين كثيفين. نظراته الحادّة وملامحه المتمرّدة تذكّرنا بموت الإله وبإرادة القوّة وبالعداء للمسيح وبغيرها من أجزاء المنظومة الفكرية التي قامت عليها فلسفة نيتشه.
وربّما تشي ملامح نيتشه في هذا البورتريه الغريب بقرب إصابته بالخرف الدماغي الذي عانى منه وأسلمه للعزلة في نهايات حياته.


كانت هيباتيا أحد رموز الفكر والفلسفة من النساء في العالم القديم. والدها كان فيلسوفا وأديبا وعالم رياضيات. وهي عاشت زمن ازدهار مكتبة الاسكندرية التي كانت آخر من تولّى إدارتها. وقد تفوّقت على كثير من العلماء والفلاسفة في عصرها. كان أتباعها يأتون من أماكن بعيدة لسماع دروسها ومحاضراتها. وكان لـ هيباتيا حضور كبير في أوساط المفكّرين من الرجال الذين كانوا يحترمونها لسماحة أخلاقها ورصانة عقلها.
كانت تتنقّل ما بين الإسكندرية وأثينا وتعلّم فلسفة أرسطو وأفلاطون. وقد عُرف عنها أنها كانت ذات جمال باهر يزيّنه التواضع والحكمة. غير أنها كانت عصيّة دائما على خاطبي ودّها والطامعين بقلبها.
وتُروى قصص متضاربة عن الكيفية التي انتهت بها حياتها. تقول إحدى الروايات إن حشدا من المتعصّبين المسيحيين انتزعوها من عربتها ذات يوم وجرّدوها من ملابسها ثم مزّقوها إربا وجرجروها إلى الكنيسة قبل أن يضرموا في جثتها النار. كانت التهمة الترويج للوثنية على حساب المسيحية.
ومن بين من تطرّقوا لقصّة مقتلها بتلك الطريقة الهمجية والمأساوية كلّ من العالم كارل ساغان وفولتير وسواهما.
رُسم لـ هيباتيا العديد من البورتريهات المتخيّلة والتي تظهر في بعضها عارية.
لكن هذا البورتريه لها يجذب العين بأناقة خطوطه ورقّة تفاصيله. وقد ظهر لأوّل مرّة في بدايات القرن الماضي ونُشر في كتاب يضمّ رسوما إيضاحية باللونين الأبيض والأسود وضعها فنّان مجهول.
لا انفعالات محدّدة هنا عدا أن المرأة تبدو ساهمة وصامتة.
وإجمالا، فإن الملامح في البورتريه لا تبتعد كثيرا عن ملامح المرأة كما تبدو في الصور التي رُسمت لها في العصور المتقدّمة.


Credits
crystalinks.com
smithsonianmag.com