:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، يوليو 04، 2024

خواطر في الأدب والفن


  • كان رينيه ماغريت شغوفا دائما بالتناقضات والمفارقات. في عام 1950، رسم سلسلة من اللوحات اسماها "صور من العصر الحجري" ورسم فيها أشياء عضوية تتحوّل إلى حجارة. كان يجرّب تحويل الطيور وأوراق الشجر إلى حجارة. وظهر هذا واضحا في لوحات مثل "أغنية البنفسج" و"الجرعة السحرية" و"ذاكرة رحلة" و"الخطوات الضائعة" وغيرها.
    لكن بعد ذلك بـ 15 سنة، حوّل الرسّام مَشاهد سلسلة لوحاته "تذكار من رحلة" الى حجارة بالكامل، باستثناء ضوء الشموع الذي بدا حقيقيا.
    فكرة تحوُّل المواد العضوية إلى حجارة هي فكرة موجودة في الطبيعة، فهناك بقايا أشجار في الغابات مرّت، ولأسباب طبيعية وفيزيائية، بتجربة التحجّر على مدى ملايين السنين. وهناك غابات متحجّرة عديدة في الصين والولايات المتحدة.
    وبحسب العلماء، لكي تتحوّل الأشجار المتساقطة في الغابات الى خشب متحجّر، يجب ان تستوفي بعض المتطلّبات، كأن تندفن في بيئة خالية من الاكسجين، ولا بدّ من وجود مياه غنيّة بالمعادن وملامِسة للأشجار واستبدال بنية النبات العضوي بمعادن غير عضوية مثل الكوارتز. ثم وعلى مدى دهور، ترتفع الأرض تدريجيا، وتحت الضغط الشديد تنكسر الأشجار مثل قضبان الزجاج، وبذا تتكوّن غابة حجرية.
    كان ماغريت منشغلا بهذه الظاهرة. ولطالما أثار الحضور الخامل والغامض للحجارة فضوله. وكان يقول: الحجر الذي لا يفكّر يفكّر في المطلق." وكان يتساءل ماذا لو تحوّلت الفاكهة، مثلا، إلى حجارة بدل أن تذوي وتتحلّل، وماذا لو تحوّلت الشموع والنسور والطاولات بل وحتى البشر إلى حجارة أيضا؟
    حالة التحجّر في بعض صور الرسّام لا يبدو أنها نتيجة لعملية طبيعية، بل قد تكون بحسب بعض النقّاد تعبيرا بصريّا عن الكارثة والموت، كما حدث مع مدينة بومبي الايطالية التي تحجّرت بفعل ثورة البركان.
    في إحدى لوحات ماغريت تظهر تفّاحة متحجّرة وسط صخور متهاوية. وقد رأى البعض فيها تعبيرا عن عنف زلزال يُفترض أن يكون قد حدث في بدايات الخليقة. وفي لوحة أخرى يرسم أكواما من الحجارة المكدّسة فوق بعضها مشكّلة أحرف كلمة "الحلم" بالفرنسية. وقيل إن اللوحة قد تكون تعبيرا عن إعجاب الفنّان بمَعلم "ستون هنج" الحجري القديم في إنغلترا.
    المعروف أن الشاعر الأمريكي إدغار آلان بو كان مهتمّا، هو أيضا، بظاهرة التحجّر. وقد أضاف ملاحظات طويلة حول هذا الموضوع في بعض أشعاره.

    ❉ ❉ ❉

  • كنت دائما أستغرب كيف أنجبت هولندا فيلسوفا، وأقصد سبينوزا، إذ المعروف أن الهولنديين أمّة فنّ ورسم وسفن واكتشافات. ثم علمت بأن عائلة سبينوزا من يهود البرتغال الذين هاجروا إلى هولندا هربا من محاكم التفتيش. والغريب أن الرجلّ ظل غير معروف خارج هولندا إلا بعد وفاته بسنوات طوال.
    كان سبينوزا يرى أن العالم مسيّر تماما وأن الوجود الإنساني خال من الإرادة الحرّة الحقيقية. وقال إن من شأن قبول البشر حقيقة أن العالم مسيّر سلفا أن يساعدهم على أن يصبحوا أقرب عقليّا إلى الواقع وأكثر استعدادا لصعوبات الحياة التي لا مناص منها.
    وقبل أشهر قليلة من وفاة سبينوزا عن عمر يناهز الـ 44 عاما، زاره الفيلسوف الشاب لايبنتز، وقضى الاثنان معا عدّة أيّام في مناقشات فلسفية مكثّفة. وأخبر سبينوزا لايبنتز عن غضبه لقيام مثيري شغب قبل أربع سنوات بتعذيب وإعدام جان دي فيت زعيم الجمهورية الهولندية الذي عزّز مناخا من التسامح الديني والانفتاح السياسي خلال العصر الذهبي للبلاد.
    ووقتها علّق سبينوزا لافتة في موقع المذبحة تحمل عبارة "أحقر البرابرة"، وهو أمر كان سيؤدّي بالتأكيد إلى مقتله، لولا أن تدارك الأمر صاحب البيت الذي كان يسكنه، فأزال اللافتة وحبس سبينوزا في منزله خوفا عليه من الموت ذبحاً على أيدي الغوغاء الغاضبين.
    وبسبب آراء سبينوزا التي اعتُبرت متطرّفة، كنَفيهِ صفة القداسة عن التوراة والإنجيل، طردته الجالية اليهودية في أمستردام. ثم هاجمه مجهول بسكّين خارج كنيس المدينة، لكنه نجا. اللوحة فوق تصوّر عددا من الحاخامات وهم يوجّهون نظرات حارقة إلى سبينوزا الذي يمرّ من أمامهم ويقرأ كتابا، بينما يلتقط أحدهم حجرا ليرجمه به.

    ❉ ❉ ❉

  • من أكثر الأزهار التي لها حضور ملحوظ في الأدب والفن زهرة شقائق النعمان التي تُسمّى بالإنغليزية (anemones). وهي زهرة برّية ذات ألوان بنفسجية وحمراء وبيضاء وأرجوانية. ويقال إنها ظهرت على الأرض لأوّل مرّة منذ 130 مليون سنة.
    واكتسبت هذه الأزهار اسمها العربي من اسم النعمان بن المنذر ملك الحيرة، إذ قيل إنها نبتت على قبره بعد مقتله في معركة مع الفرس. وللزهرة تاريخ طويل في الأدب العربي وذُكرت كثيرا في الأشعار القديمة.
    أما الإغريق فقد زعموا أن شقائق النعمان نبتت نتيجة امتزاج دموع أفرودايت بدم حبيبها أدونيس. ولهذا تُسمّى أيضا زهرة أدونيس. في الرسم ظهرت هذه الأزهار في بعض لوحات هنري ماتيس، وأيضا مونيه الذي ضمّنها إحدى لوحاته عن الطبيعة الصامتة.
    والزهرة الثانية التي لها مكانة خاصّة في الأدب والفنّ هي النرجس، أو الدافوديل كما تُسمّى أحيانا (Narcissus/Daffodil). وهي زهرة نرسيس؛ الشابّ الذي وقع في هوى صورته المنعكسة في الماء، بحسب الاسطورة الخالدة. كما أنها إحدى أكثر الأزهار شعبيةً في العالم.
    ألوان النرجس غالبا بيضاء وصفراء او برتقالية. وهي رمز للربيع والحظ الحسن، وأحيانا للموت. وفي بعض الحضارات الشرقية ترمز للنوروز أو السنة الجديدة. وقد ذكرها فرجيل وأوفيد وشكسبير وميلتون في كتاباتهم. كما ذكرها الشاعر وليام ووردزوورث في قصيدته المشهورة "أتجوّل وحيدا مثل غيمة."

    ❉ ❉ ❉

  • ❉ ❉ ❉


  • أثناء حرب استقلال اليونان عن العثمانيين، فرض الأتراك حصارا على مدينة ميسولونغي اليونانية. ومات الكثير من الناس داخل المدينة بسبب المجاعة والأمراض. وعندما حاول بعض المحاصرين الهرب إلى الخارج، فاجأهم الأتراك وقتلوا الكثيرين منهم.
    وكان الرسّام الفرنسي اوجين ديلاكروا، كغيره من المثقّفين الأوربيين، يدعم استقلال اليونان. وقد رسم اللوحة "فوق" كصرخة احتجاج على ذبح آلاف اليونانيين الأبرياء. وفيها يرمز لليونان بامرأة ترتدي الزيّ التقليدي وتقف فوق ركام مبانٍ مدمّرة، وأسفل منها تظهر يد ميّت من بين الأنقاض. وفي الخلفية يظهر رجل ذو بشرة داكنة يرتدي عمامة صفراء ترمز للعدوّ وهو يغرز العلم في الأرض.
    جدير بالذكر أن الشاعر الإنغليزي اللورد بايرون عُرف، هو أيضا، بمناصرته لقضايا التحرّر الوطني في العالم. وقد اعتبره اليونانيون بطلا قوميّا لهم بعد أن وصل إلى أرضهم عام 1809 ليشارك في حرب الاستقلال. وفي ابريل من عام 1824 توفّي هناك بعد إصابته بالملاريا وعمره لا يتجاوز السابعة والثلاثين.
    وقد انتزع اليونانيون قلب بايرون ودفنوه في مدينة ميسولونغي حيث عاش، بينما أرسلوا رفاته إلى انغلترا لتُدفن فيها. ثم أسّسوا متحفا يحمل اسمه ويضمّ أشياءه الشخصية، وشيّدوا له تمثالا يظهر فيه بين ذراعي ملاك، ونقشوا اسمه على مدخل معبد بوسيدون إكراما له. وفي ما بعد ظهر مصطلح (بايروني (Byronic) نسبة الى بايرون ليشير الى أيّ شخص يعتنق الأفكار الرومانسية وتتسم طبيعته بالغرور والسخرية والتشاؤم والغموض.
    المعروف أن اليونان نالت استقلالها بعد عامين من رسم ديلاكروا للوحته، منهيةً أربعة قرون من احتلال العثمانيين لها.

    ❉ ❉ ❉

  • من المصلحات الشائعة في الأدب (البروستيّة Proustian)، نسبة إلى الكاتب الفرنسي مارسيل بروست. وقد ظهر هذا المصطلح لأوّل مرّة عام 1925. ويشير إلى نوع من الكتابة ذات الجمل الطويلة والمعقّدة التي تتناول ذكريات من ماض بعيد عن الطفولة والطعام والنكهة والرائحة، وغالبا ما تصف حياة الطبقة الوسطى والارستقراطية.
    وهناك مصطلح (الكافكوية (Kafkaesque، نسبة إلى الكاتب التشيكي فرانز كافكا. وقد ظهر المصطلح حوالي عام 1946. وهو يشير إلى نوع من الكتابة التي تشبه أسلوب كافكا أو ما يوحي به من حالات تتسم بالكابوسية والغرائبية واللامنطقية وتنعدم فيها قدرة الفرد على فهم ما يحدث أو السيطرة عليه.
    وهناك مصطلح (تشيكوفي (Chekhovian الذي يُستخدم لوصف الأعمال الأدبية أو المسرحيات أو الأفلام التي تشترك في صفات أو موضوعات معيّنة تشبه تلك الموجودة في كتابات الأديب والمسرحي الروسي أنطون تشيكوف.
    وهناك مصطلح (Cartesian) ويعني ديكارتي، نسبة إلى الفيلسوف وعالم الرياضيات الفرنسي رينيه ديكارت (Descartes)، والذي يشار إلى اسمه أحيانا في المحافل العلمية والفلسفية بـ "ريناتوس كارتيسيوس". تُنسب إلى ديكارت أشياء كثيرة، كالمنطق الديكارتي Caresian logic)) والذات الديكارتية والشكّ الديكارتي ونظام الإحداثيات الديكارتي في الرياضيات. كما تُطلق صفة(Cartesian) على تلاميذ ديكارت وعلى أيّ شخص يتبنّى الأفكار التي قال بها.
    وأخيرا هناك الكيشوتية (Quixotism)، وهو مصطلح مشتقّ من اسم بطل رواية دون كيشوت لسرفانتس. ويشير هذا المصطلح إلى أفكار مثالية فيها نبل فروسي ورومانسي، كما أنها مثيرة للإعجاب ومتهوّرة غالبا وغير قابلة للتطبيق. ومن ذلك كيشوتي (Quixotic)، ومعناها شخص مثالي يتصرّف باستعجال ويتبع الأعراف والمعتقدات حتى لو كانت غبيّة أو غير قابلة للتنفيذ. وعكسه الإنسان الواقعي والحذر والحكيم والعملي وغير العاطفي.

  • Credits
    renemagritte.org
    thegreatthinkers.org

    الأحد، يونيو 30، 2024

    خارج السرب


    يقال في الإنغليزية فلان خروف أسود (black sheep)، لوصف الأشخاص الذين لا يتآلفون ولا يتكيّفون بسهولة مع أفكار الأغلبية.
    وقد جرت العادة في العديد من الثقافات على أن يُنظر إلى هؤلاء الأشخاص على أنهم منبوذون أو متمرّدون أو شاذّون أو غريبو الأطوار بسبب عدم تكيّفهم مع بقية المجتمع. وأصل مصطلح "الخروف الأسود" آتٍ من الأغنام التي يكون صوفها أسود بدلاً من اللون الأبيض الشائع أكثر. وهذه الأغنام تكون أكثر بروزا في القطيع، وقيمة صوفها أقلّ لأنه لا يمكن صبغه.
    والأفراد من نوعية الخراف السوداء هم في العادة ميّالون إلى الوحدة ويبدون غير مكترثين ولا يتكلّمون إلا نادرا، وأحيانا يشعرون أنهم تائهون أو منسيّون. ومع ذلك، وعندما تعرفهم أكثر، تجد أن بعضهم لديهم، في شخصيّاتهم وفي أعماق نفوسهم، سحر خاصّ وجاذبية لا تخطئها العين.
    عادة عندما يدرك شخص ما لأوّل مرّة أنه لا يتماشى مع ثقافته، يتشكّل لديه ميل للشعور بالغربة والخوف من وجود خطأ ما فيه. وكثيرا ما يُقال إن الأشخاص الذين لا يتناسبون مع أقرانهم مذنبون لكونهم "مُعادين للمجتمع"، وهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة في الكثير من الأحيان.
    الأشخاص الذين لا يتوافقون مع الأعراف المجتمعية كثيرا ما يتمتّعون بحياة داخلية غنيّة، وهم في دواخلهم هادئون ومسالمون، وغالبا ما يميلون الى الفنون والشعر والآداب الإنسانية بعامّة. وتجاربهم ووجهات نظرهم كثيرا ما تتكوّن أثناء رحلاتهم المثيرة وغير العادية في معترك الحياة.
    ولو تمعّنت أكثر في مسار حياة بعضهم، ستلاحظ أنهم قد واجهوا الكثير من التحديّات والصعاب وفكّروا في العالم من حولهم من منظور أوسع وعمق ورحابة أكبر. وهذا ما يؤدّي غالبا إلى عمق الشخصية والقدرة على التعاطف مع الآخرين، وهو أمر نادر وثمين للغاية في عالمنا اليوم.
    مثل هذه الشخصيات الفريدة تعلّمنا أن نرى العالم بمنظور مختلف وبطرق جديدة. وهم يذكّروننا بأن هناك جمالا وقوّة في التنوّع والتعدّدية وأن المسار التقليدي والمألوف ليس هو المسار الوحيد ولا الأفضل بالضرورة.
    إن شجاعة هؤلاء الأشخاص في أن يكونوا على طبيعتهم على الرغم من الضغوط التي يتعرّضون لها كي يخضعوا ويمتثلوا ويتكيّفوا مع ما هو سائد، تماما كالآخرين، لهو أمر مُلهِم، لأن احتضان نفسك الحقيقية والتعبير عنها في عالم يحاول غالبا وضع الجميع في صناديق أنيقة وقابلة للتنبّؤ لمّما يتطلّب الكثير من القوّة والإصرار والعزيمة.
    والأفراد من "الخراف السوداء" غالبا ما يتمتّعون بإبداع وابتكار كبيرين. فطريقة تفكيرهم الفردانية والمختلفة يمكن أن تؤدّي إلى أفكار وحلول جديدة لا يفكّر فيها أبدا أولئك الذين يلتزمون بالوضع الراهن بشكل صارم. وهذه الشرارة من الإبداع هي شيء يجب أن نفتخر به ونشجّعه لأنه يدفع بعجلة التقدّم الى الأمام ويُثري ثقافة أيّ مجتمع ويعمّقها.
    وأصالة وصدق هؤلاء يمكن أن يكونا أمرا حيويّا ومنعشا في عالم تشيع فيه التفاعلات السطحية والرتيبة. وهم غالبا ما يتمتّعون بروح الدعابة والنظرة الفريدة اللذين يجعلان الحديث معهم مفيدا ومُجزيا.


    في المجتمعات التي تقدّر الامتثال والتكيّف، من المهم أن نتذكّر قيمة أولئك الذين يسيرون على إيقاع الطبول الخاصّة بهم أو الذين يغرّدون خارج السرب أو يصرخون في البرّية.
    وباحتضان هؤلاء الأشخاص وتقديرهم، فإننا نفتح أنفسنا على عالم من التجارب والأفكار الجديدة. إنهم يُثبتون لنا أن الجمال غالبا ما يكمن فيما هو غير متوقّع وغير تقليدي وغير نمطي، وأن التنوّع في الفكر والوجود أمر يجب الاحتفاء به وليس تجنّبه.
    هناك من يرى أن الامتثال يمثّل مشكلة سلوكية قويّة، سواءً كنّا نفعل ذلك خوفا من التعرّض للأذى لكوننا من الأقلية أو لأسباب نفسية أو اجتماعية أخرى. لكن الشيء المهم حقّا هو أن الأمر لا يتطلّب سوى صوت واحد على الأقل مختلف عن القاعدة للسماح للآخرين بالتحدّث بحرّية أكبر لدعم ما يعتقدون أنه صحيح، حتى لو لم يكن رأيهم هو نفس الرأي الأكثر شيوعا.
    إن من الطبيعي تماما أن ينسجم البشر مع الجموع بطرق غير مدروسة. وما يحدث هو أننا نتدرّب منذ سنّ مبكّرة على التأقلم مع الآخرين وكسب موافقتهم وفعل الأشياء التي نعتقد أنها ستجعلهم يحبّوننا. لكن عندما تتوافق دائما مع الآخرين وتفعل ما يفعلونه لأنهم يفعلونه، يتسلّل الخمول إلى روحك وتصبح مجرّد مظهر خارجي وفراغ داخلي باهت وغير مبالٍ.
    الملايين من الأشخاص في هذا العالم مشغولون بمحاكاة ما علّمته إيّاه ثقافتهم من قيم ومعتقدات وعادات وأحلام، وكلّ ذلك بغرض التكيّف والقبول. وهم لا يفعلون ذلك عن وعي، لكنه خيار اتخذوه دونما تفكير. وغالبا هم يحصلون على هذه القيم من التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي ومن مصادر أخرى.
    الرسّام فان غوخ لم يكن متوافقا أو متماثلا مع المؤسّسة الفنّية في زمانه. ولم تتضمّن لوحاته أيّ نقد أو هجوم على الدين او الأخلاق. وقيل إنه لم يبع لوحة واحدة أثناء حياته، لكن بعد موته أصبح الفنّان الأغلى في العالم لأن هناك من اكتشف متأخّرا أنه كان فنّانا مختلفا وطليعيا، وأنه ارتاد أرضا جديدة لم يسلكها غيره من قبل.
    الفيلسوف الفرنسي غوستاف لو بون له رأي في هذا الموضوع قد يبدو للبعض متطرّفا بعض الشيء. يقول في كتابه سايكولوجية الجماهير (The Crowd: A Study of the Popular Mind): بمجرّد انضمام المرء إلى جماعة، يهبط عدّة درجات في سلّم المدنية. ففي فرديته، يكون إنسانا مثقّف العقل مهذّب الأخلاق، ولكنه في الجماعة يصبح تابعا ساذجا للغريزة.
    ففيه - بحسب لو بون - اندفاع الرجل الفطري وشدّته وعنفه وقسوته وحماسته وشجاعته، وفيه منه سهولة التأثّر بالألفاظ والصور ممّا لا يتأثّر به وهو خارج الجماعة. وفيه أيضا الانقياد إلى فعلِ كلّ ما يخالف منافعه البديهية ويناقض طباعه التي اشتهرت عنه. وبالجملة فإن الانسان في الجماعة اشبه بذرّة غبار تذروها الرياح في أيّ اتجاه".

    Credits
    gutenberg.org
    vangoghexpo.com