:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأحد، يونيو 30، 2024

خارج السرب


يقال في الإنغليزية فلان خروف أسود (black sheep)، لوصف الأشخاص الذين لا يتآلفون ولا يتكيّفون بسهولة مع أفكار الأغلبية.
وقد جرت العادة في العديد من الثقافات على أن يُنظر إلى هؤلاء الأشخاص على أنهم منبوذون أو متمرّدون أو شاذّون أو غريبو الأطوار بسبب عدم تكيّفهم مع بقية المجتمع. وأصل مصطلح "الخروف الأسود" آتٍ من الأغنام التي يكون صوفها أسود بدلاً من اللون الأبيض الشائع أكثر. وهذه الأغنام تكون أكثر بروزا في القطيع، وقيمة صوفها أقلّ لأنه لا يمكن صبغه.
والأفراد من نوعية الخراف السوداء هم في العادة ميّالون إلى الوحدة ويبدون غير مكترثين ولا يتكلّمون إلا نادرا، وأحيانا يشعرون أنهم تائهون أو منسيّون. ومع ذلك، وعندما تعرفهم أكثر، تجد أن بعضهم لديهم، في شخصيّاتهم وفي أعماق نفوسهم، سحر خاصّ وجاذبية لا تخطئها العين.
عادة عندما يدرك شخص ما لأوّل مرّة أنه لا يتماشى مع ثقافته، يتشكّل لديه ميل للشعور بالغربة والخوف من وجود خطأ ما فيه. وكثيرا ما يُقال إن الأشخاص الذين لا يتناسبون مع أقرانهم مذنبون لكونهم "مُعادين للمجتمع"، وهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة في الكثير من الأحيان.
الأشخاص الذين لا يتوافقون مع الأعراف المجتمعية كثيرا ما يتمتّعون بحياة داخلية غنيّة، وهم في دواخلهم هادئون ومسالمون، وغالبا ما يميلون الى الفنون والشعر والآداب الإنسانية بعامّة. وتجاربهم ووجهات نظرهم كثيرا ما تتكوّن أثناء رحلاتهم المثيرة وغير العادية في معترك الحياة.
ولو تمعّنت أكثر في مسار حياة بعضهم، ستلاحظ أنهم قد واجهوا الكثير من التحديّات والصعاب وفكّروا في العالم من حولهم من منظور أوسع وعمق ورحابة أكبر. وهذا ما يؤدّي غالبا إلى عمق الشخصية والقدرة على التعاطف مع الآخرين، وهو أمر نادر وثمين للغاية في عالمنا اليوم.
مثل هذه الشخصيات الفريدة تعلّمنا أن نرى العالم بمنظور مختلف وبطرق جديدة. وهم يذكّروننا بأن هناك جمالا وقوّة في التنوّع والتعدّدية وأن المسار التقليدي والمألوف ليس هو المسار الوحيد ولا الأفضل بالضرورة.
إن شجاعة هؤلاء الأشخاص في أن يكونوا على طبيعتهم على الرغم من الضغوط التي يتعرّضون لها كي يخضعوا ويمتثلوا ويتكيّفوا مع ما هو سائد، تماما كالآخرين، لهو أمر مُلهِم، لأن احتضان نفسك الحقيقية والتعبير عنها في عالم يحاول غالبا وضع الجميع في صناديق أنيقة وقابلة للتنبّؤ لمّما يتطلّب الكثير من القوّة والإصرار والعزيمة.
والأفراد من "الخراف السوداء" غالبا ما يتمتّعون بإبداع وابتكار كبيرين. فطريقة تفكيرهم الفردانية والمختلفة يمكن أن تؤدّي إلى أفكار وحلول جديدة لا يفكّر فيها أبدا أولئك الذين يلتزمون بالوضع الراهن بشكل صارم. وهذه الشرارة من الإبداع هي شيء يجب أن نفتخر به ونشجّعه لأنه يدفع بعجلة التقدّم الى الأمام ويُثري ثقافة أيّ مجتمع ويعمّقها.
وأصالة وصدق هؤلاء يمكن أن يكونا أمرا حيويّا ومنعشا في عالم تشيع فيه التفاعلات السطحية والرتيبة. وهم غالبا ما يتمتّعون بروح الدعابة والنظرة الفريدة اللذين يجعلان الحديث معهم مفيدا ومُجزيا.


في المجتمعات التي تقدّر الامتثال والتكيّف، من المهم أن نتذكّر قيمة أولئك الذين يسيرون على إيقاع الطبول الخاصّة بهم أو الذين يغرّدون خارج السرب أو يصرخون في البرّية.
وباحتضان هؤلاء الأشخاص وتقديرهم، فإننا نفتح أنفسنا على عالم من التجارب والأفكار الجديدة. إنهم يُثبتون لنا أن الجمال غالبا ما يكمن فيما هو غير متوقّع وغير تقليدي وغير نمطي، وأن التنوّع في الفكر والوجود أمر يجب الاحتفاء به وليس تجنّبه.
هناك من يرى أن الامتثال يمثّل مشكلة سلوكية قويّة، سواءً كنّا نفعل ذلك خوفا من التعرّض للأذى لكوننا من الأقلية أو لأسباب نفسية أو اجتماعية أخرى. لكن الشيء المهم حقّا هو أن الأمر لا يتطلّب سوى صوت واحد على الأقل مختلف عن القاعدة للسماح للآخرين بالتحدّث بحرّية أكبر لدعم ما يعتقدون أنه صحيح، حتى لو لم يكن رأيهم هو نفس الرأي الأكثر شيوعا.
إن من الطبيعي تماما أن ينسجم البشر مع الجموع بطرق غير مدروسة. وما يحدث هو أننا نتدرّب منذ سنّ مبكّرة على التأقلم مع الآخرين وكسب موافقتهم وفعل الأشياء التي نعتقد أنها ستجعلهم يحبّوننا. لكن عندما تتوافق دائما مع الآخرين وتفعل ما يفعلونه لأنهم يفعلونه، يتسلّل الخمول إلى روحك وتصبح مجرّد مظهر خارجي وفراغ داخلي باهت وغير مبالٍ.
الملايين من الأشخاص في هذا العالم مشغولون بمحاكاة ما علّمته إيّاه ثقافتهم من قيم ومعتقدات وعادات وأحلام، وكلّ ذلك بغرض التكيّف والقبول. وهم لا يفعلون ذلك عن وعي، لكنه خيار اتخذوه دونما تفكير. وغالبا هم يحصلون على هذه القيم من التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي ومن مصادر أخرى.
الرسّام فان غوخ لم يكن متوافقا أو متماثلا مع المؤسّسة الفنّية في زمانه. ولم تتضمّن لوحاته أيّ نقد أو هجوم على الدين او الأخلاق. وقيل إنه لم يبع لوحة واحدة أثناء حياته، لكن بعد موته أصبح الفنّان الأغلى في العالم لأن هناك من اكتشف متأخّرا أنه كان فنّانا مختلفا وطليعيا، وأنه ارتاد أرضا جديدة لم يسلكها غيره من قبل.
الفيلسوف الفرنسي غوستاف لو بون له رأي في هذا الموضوع قد يبدو للبعض متطرّفا بعض الشيء. يقول في كتابه سايكولوجية الجماهير (The Crowd: A Study of the Popular Mind): بمجرّد انضمام المرء إلى جماعة، يهبط عدّة درجات في سلّم المدنية. ففي فرديته، يكون إنسانا مثقّف العقل مهذّب الأخلاق، ولكنه في الجماعة يصبح تابعا ساذجا للغريزة.
ففيه - بحسب لو بون - اندفاع الرجل الفطري وشدّته وعنفه وقسوته وحماسته وشجاعته، وفيه منه سهولة التأثّر بالألفاظ والصور ممّا لا يتأثّر به وهو خارج الجماعة. وفيه أيضا الانقياد إلى فعلِ كلّ ما يخالف منافعه البديهية ويناقض طباعه التي اشتهرت عنه. وبالجملة فإن الانسان في الجماعة اشبه بذرّة غبار تذروها الرياح في أيّ اتجاه".

Credits
gutenberg.org
vangoghexpo.com