:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات موزارت. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات موزارت. إظهار كافة الرسائل

الثلاثاء، أغسطس 26، 2025

نصوص مترجمة


  • كان أحد أعمامي يأمل أن يصبح رسّاما كبيرا. في مراهقته، فاز بمِنَح دراسية وجوائز مهمّة، لكنه فقد بصره بسبب السكّري. كنت في العاشرة وهو في العشرينات من عمره، عندما كنّا نسير معا ذات يوم في شارع مزدحم بالمشاة في بوينس آيرس. وفجأة قال أحدهم: ها هو بورخيس"! نظرتُ ورأيتُ بورخيس، فقلتُ لعمّي: هذا بورخيس".
    كان قادما نحونا، وهو ممسك أيضا بذراع صديق أو معجب، ثم صرخ عمّي الكفيف والفكاهي: بورخيس! كيف حالك؟ تبدو رائعا". حوّل بورخيس نظره إلى المكان الذي أتى منه صوت عمّي الكفيف، وتبادلا النظرات دون أن يَريا بعضهما، وأنا واقف بينهما غير مصدّق لما أراه.
    في ذلك الوقت، لم أكن قد قرأتُ أعمال بورخيس، ولكن كنتُ أعرفه جيّدا. كان من السهل أن ألتقي به في الشارع، وكان حاضرا باستمرار على شاشات التلفزيون، حيث كان موضوعا للعديد من المقابلات المطوّلة، وحتى لعروض الكوميديا القصيرة. كان الكوميديون يقلّدونه. كان فريدا من نوعه، بصوته وأسلوبه في الكلام وتواضعه المتغطرس وسعة اطلاعه التي تكاد تكون مجنونة وأسلوبه المهذّب والصارم في تقويض محاوريه.
    بعد سنوات قليلة من ذلك اللقاء مع بورخيس، ومع عدم وجود فرصة لرؤيته مرّة أخرى ولفترة طويلة، قرأت أوّل كتاب له: "تاريخ عالمي للعار". وأعتقد أنني قرأت كتب بورخيس بعد ذلك بنفس الطريقة التي قرأ بها هو ألف ليلة وليلة وستيفنسون وتشيسترتون وآلان بو وويلز. قرأته كما لو كان مؤلّف كتب أطفال بالمعنى النبيل للكلمة، ككاتب تأسيسي، كصانع قصص مثالية، كواحد من أولئك الرواة الذين يفتحون الباب لنا للّعب في كتب أخرى.
    وفي أحد الأيّام، في إحدى صالات الألعاب الرياضية، حدث أن اصطدمتُ برجل عجوز خفيف الوزن. طار الرجل في الهواء، ممسكا بعصاه، وأخذ يصرخ صرخات مكتومة قبل أن يسقط على وجهه. ثم اكتشفتُ أن ذلك الرجل لم يكن سوى بورخيس نفسه، وأنني ربّما قتلتُه.
    كانت تلك أهمّ لحظة في حياتي! من كان يعلم أن ذلك الاصطدام بالأدب العظيم سيُشعل شرارة قصص أخرى، أو سيمثّل نهايتي ككاتب. فما جدوى كتابة أيّ شيء إن سُجِّلْتُ في التاريخ بصفتي قاتل بورخيس؟!
    لحسن حظّي، ظلّ بورخيس حيّا. رأيتُه مُستلقيا على ظهره وعصاه على صدره، يفتح فمه ويغلقه كأحد طيور الكناري بحثا عن أكسجين. كانت تلك تجربتي الكبرى مع الأدب، ويزعجني قليلا ألا أتمكّن من التذكّر، مهما حاولت، إن كنتُ قد ساعدته على النهوض أم لا. لا أظنّ أنني فعلت.
    لقد رويت تلك القصّة مرّات عديدة. وأصبحتْ مثل الورقة الرابحة في جعبتي أو في ياقة أحد الكوميديين. وهكذا حدث اصطدامي الحقيقي بالأدب.
    عندما جلستُ لأقرأ بورخيس، لم أفعل ذلك رغبة في تحليله وإعادة بنائه لاحقا أمام لجنة من الممتحنين، أو من أجل خطّة نظرية حتمية لكيفية المضيّ قدما في عملي، بل من أجل متعة الاستمتاع بشخصية عظيمة.
    وهنا أصل إلى سرّ علاقتي الشخصية جدّا مع بورخيس. أتذكّر الانفجار الشخصي الكبير الذي مررت به عندما قرأتُ ذات صباح استوائي، وربّما ممطر "من يتذكّر وهو يقرأ تحت المطر!"، تلك الصفحة القصيرة بعنوان "بورخيس وأنا"، والتي يعترف بورخيس فيها "لا أعرف أيّنا الاثنين يكتب هذه الصفحة"، وحيث يطمس بورخيس الخطّ الفاصل بين المؤلّف والشخصية ويشوّه هويّة القارئ.
    ما شعرتُ به وقتها هو أنه لا يمكن للمرء أن يكسب عيشه من الأدب فحسب، بل يمكن أن يعيش الأدب، والأدب يمكن أن يحيا في الكاتب ومن خلاله. كان بورخيس، بالنسبة لي، وسيظلّ الكاتب العظيم الذي يفهم الكُتّاب كشخصيات عظيمة وكقُرّاء عظماء.
    بورخيس كقارئ/كاتب، ابتدع بأسلوبه تقليدا أدبيّا أرجنتينيا افتراضيّا ومراوغا، لم يكن يحفر في التربة بل في الجدار الذي تُعلّق عليه الكتب. الجدار الذي يؤوي عبقرية أمين مكتبة أعمى ومتعدّد الأشكال ومنحرفا، يوصي بأشياء كثيرة دفعة واحدة، مقتنعا بأن الخلاص والجنّة يعيشان دائما داخل كتاب، كتاب يحتوي الكون بأسره. رودريغو فريسن
  • ❉ ❉ ❉


  • يمثّل موزارت لمعظمنا الأناقة والذكاء والرقّة والألفة، وما إلى ذلك. ولو كان هذا كلّ شيء، لظلّ مجرّد فنّان من عصره. لكنه يختلف عن غيره من المؤلّفين من أواخر القرن الثامن عشر الذين أنتجوا موسيقى سهلة وراقية وغنائية ومرِحة لطبقة النبلاء.
    وصل موزارت إلى هذا العالم كروح سامية، وظلّ فيه حوالي ثلاثين عاما، ثم تركه غنيّا ومبارَكاً بزيارته. كانت عبقريته عالمية مثل جميع الفنّانين العظام. لم يلتقط فقط إحساس وروح عصره، بل جسّد أيضا روح الإنسان، إنسان كلّ العصور، الإنسان بكلّ رغباته وتطلّعاته وتناقضاته.
    عندما كنّا في موسكو قبل فترة، سمعت الكاتب الكبير بوريس باسترناك يقول: رغم كلّ شيء، أنا مفعم بالبهجة، فنّي موجود كسجلّ لمأساة الوجود البشري، يتغذّى من الأحزان. وفنّي هو كلّ بهجتي". وهكذا هو حال أعظم الأرواح المبدعة، وهكذا كان حال موزارت.
    قد يفاجئ هذا الكلام بعض الناس ممّن اعتادوا وصف موسيقى موزارت بالأرستقراطية. وكم من الناس سمعتهم يصفونها بـ"الرنّانة". يقولون: لا داعي لكلّ هذه التعقيدات البسيطة في موسيقاه. أعطني جرأة في الموسيقى: بيتهوفن، برامز، التراجيديا، العظمة".
    لكن هذا النوع من الكلام لا يعني سوى شيء واحد: أنهم لا يعرفون موزارت. لا يمكن لأحد أن يستمع إلى موزارت وينصت إليه باهتمام، بكلتا أذنيه، دون أن يختبر ما أسماه باسترناك "مأساة الوجود البشري".
    هل تشعر في موسيقى موزارت بذلك الحزن، ذلك الجوهر الثمين، حتى وهي محاطة بإطار من القرن الثامن عشر؟ إن موسيقاه تهرب باستمرار من إطارها، لأنه لا يمكن احتواؤها في قالب. وهي في جوهرها خالدة. إنها موسيقى كلاسيكية لرومانسي عظيم، وموسيقى حديثة وخالدة لكلاسيكي عظيم. ليونارد بيرنشتاين
  • ❉ ❉ ❉

  • في القرن السادس عشر، كان مصطلح "بيرو" يُطلق على أمريكا الجنوبية بأكملها، وليس فقط على أراضي الدولة التي تحمل هذا الاسم اليوم. وكانت أراضي أتاوالبا، آخر إمبراطورية للإنكا في بيرو، غنيّة بالذهب والفضّة. وفي أبريل عام 1545، تسلّق نبيل هنديّ ضئيل يُدعى دييغو غوالبا تلّة بحثاً عن ضريح، فسقط أرضا بفعل رياح قويّة. ووجد نفسه ممسكاً بكتل ضخمة من الفضّة بيديه، فأبلغ بذلك بعض المغامرين الإسبان في المنطقة المجاورة.
    وبعد مزيد من البحث، اكتُشفت خمسة عروق غنيّة بالفضّة. وتبع ذلك اندفاع محموم للبحث عن المعدن الثمين. وقتها كانت الفضّة، وليس الذهب، هي التي أصبحت في نظر العالم رمزا للثروات التي تُجنى بسرعة. وبالنسبة للفرنسيين في القرن السادس عشر، أصبحت مفردة "بيرو" مرادفة للثروة الهائلة.
    آنذاك وُصفت رواسب بوتوسي في بيرو، "الواقعة اليوم في بوليفيا"، بأنها "جبل فضّي" يبلغ قطر قاعدته ستّة أميال ويقوم على هضبة نائية ومهجورة ترتفع 12 ألف قدم فوق مستوى سطح البحر.
    ومن عام 1503 إلى عام 1660، قُدِّر أن 16 ألف طن متري من الفضّة وصلت إلى إشبيلية بإسبانيا، أي ثلاثة اضعاف موارد الفضّة الموجودة في أوروبا في ذلك الوقت. بينما دخَلَ 185 طنّا متريّا من الذهب إلى إشبيلية من العالم الجديد خلال الفترة نفسها. كانت الفضّة العنصر الرئيسي في ثروة إسبانيا الخيالية. وكانت تلك الثروة خيالية فعلا، لأن آثارها على الحكم الإسباني كانت غير متوقّعة، وأدّت على المدى الطويل ولأسباب متعدّدة إلى الإفلاس وتراجع نفوذ إسبانيا في الشؤون العالمية. كاسي كورتنغ
  • ❉ ❉ ❉

  • أحببت الفراشات وكنت مفتونا بها منذ الصبا، عندما عرّفني والدي على هذه المخلوقات الساحرة. وعندما كبرت، ازداد شغفي بها وألّفت كتابا عنها تحدّثت فيه عن حضورها الدائم في أحلامنا وفي الأدب والموسيقى والفنّ والثقافة الشعبية. وأعرف أن الكثيرين بدأوا يصبحون من مراقبي الفراشات ويدركون كيف يمكن لهذا النشاط الممتع أن يفيدهم عقليا وجسديّا وروحيا.
    إن فوائد التواجد في الهواء الطلق في أحضان الطبيعة والمشي بوتيرة هادئة والوقوف ساكنا وتعلّم الرؤية والنظر باهتمام والانتباه الكامل لهي من الأمور المفيدة والمجزية كثيرا. الكاتب فلاديمير نابوكوف هو مثال على رجل الفراشات العظيم. ولم يكتب أحد آخر بمثل هذا الشعور أو الجمال عن الفراشات.
    وأعتقد أن هناك دروسا يمكن استخلاصها من مشاهدة الفراشات. فنحن قد نتعلّم شيئا من طيرانها الرقيق والرشيق وكيف أنها لا تستقرّ طويلا بل تمضي قدما. وهي تعلّمنا شيئا عن العيش بِخفّة، لا أن نغرق في وحل الركود، وأن نحافظ على مرونتنا وقابليّتنا للتكيّف، وأن نمشي رويداً على الأرض، لا أن نتخبّط في أمور مدمّرة، وأن نقدّر تعقيد وهشاشة ما حولنا. نايجل أندرو
  • ❉ ❉ ❉

  • تتعرّض الحيوانات البرّية في بيئاتها الطبيعية لمواقف عصيبة ومختلفة، مثل البحث عن مجموعات وأماكن آمنة للعيش، والحصول على الطعام وتجنّب التعرّض للافتراس، وتحمّل الأمراض والإصابات دون علاج.
    وبينما يُتوقّع أن تُوفَّر للحيوانات الأسيرة أماكن آمنة للعيش وغذاء كافٍ ورعاية بيطرية عند الحاجة، إلا أنها لا تحصل بالضرورة على هذه الحقوق البسيطة. وحتى لو حصلت عليها، فهذا لا يعني بالضرورة أنها تتمتّع بحياة أسعد أو أفضل من أقاربها في البرّية المفتوحة.
    ويمكن أن نتخيّل وجود حالات قد يستفيد فيها الحيوان من إبعاده عن البرّية. مثلا، إذا كان يتعرّض للضرب باستمرار ككبش فداء أو يتضوّر جوعا أو يعاني من مرض أو إصابة خطيرة.
    ومع ذلك قد يقول قائل: هذا شعور طبيعي عندما يكون فردا في جماعة، ويجب أن تُمنح له فرصة عيش حياته الطبيعية. ففي النهاية، هذا ما تطوّر ليصبح عليه. قبل سنوات، أدركت معنى أن تكون حيوانا برّيا وأن تكون حيوانا أسيرا.
    ففي عالم يشهد هيمنة بشرية متزايدة، في حقبة تُسمّى "عصر الأنثروبوسين" الذي تحوّل إلى " موجة من اللاإنسانية "، من الواضح أننا كثيرا ما نتدخّل في حياة أنواعٍ لا تُحصى. نسرق حياتها وبيئاتها ونسرق أطفالها ومستقبلها. ومن المحتمل جدّا أن تعاني الحيوانات البرّية من اضطرابات نفسية مختلفة، بما في ذلك اضطراب ما بعد الصدمة وأمراض سلوكية أخرى. مارك بتكوف

  • Credits
    borges.pitt.edu
    wolfgang-amadeus.at

    الثلاثاء، يونيو 17، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • إحدى قصصي المفضّلة من الأساطير اليونانية قصّة "كلايتي وهيليوس"، ربّما لأنها لا تتضمّن تحوّلا أو موتاً عنيفا أو انتقاماً دامياً. كما أنها تُعتبر مثالا لكيفية امتزاج المشاعر الإنسانية مع الطبيعة. فعندما تصبح عاطفة الحبّ عظيمة بحيث لا يعود احتواؤها ممكنا داخل الإنسان، فإنها تتّخذ لها شكلا جديدا في الطبيعة.
    كانت "كلايتي" واحدة من الحوريّات المولودات لإله البحر أوقيانوس وزوجته تيثيس. وقد وقعت في حبّ هيليوس إله الشمس ورمز النور، الذي كثيرا ما يظهر في الرسم بجمال مذهّب وهو يجرّ عربة الشمس عبر السماء.
    عاشت كلايتي طوال حياتها وهي معجبة بهيليوس وتنظر إليه من بعيد. لكنه لم يقبل حبّها، وبدلا من ذلك وقع في حبّ امرأة من البشر تُدعى ليوكوثيا بعد أن ذهب لرؤيتها متنكّرا.
    كلايتي الغيورة تكتشف علاقة ليوكوثيا وهيليوس وتخبر والدها، فيثور غضبا ممّا اعتبره انتهاكا لعفّة ابنته ويأمر بدفن ليوكوثيا حيّة. وعندما يعلم هيليوس بهذا، يتملّكه حزن شديد ويحرق شجرة مُرّ عطِرة على قبر ليوكوثيا تحيّة لذكراها. وبعد ذلك، يتجاهل كلايتي ويهجرها تماما.
    بعد هجران هيليوس لها، أصبحت كلايتي تتجنّب الناس والأمكنة. كانت فقط تجلس على الأرض وتحدّق في اتجاه واحد فقط؛ في المسار السماويّ الذي يتبعه هيليوس. طوال اليوم كانت تنظر إلى الشمس. وتدريجيّا أصبح جسدها متجذّرا في الأرض ووجهها متّجها نحو الشمس، وتحوّلَ شعرها إلى بتلات ذهبية وجسدها إلى جذع. وأخيرا، تحوّلت كلايتي إلى زهرة، وبدأ الناس يطلقون عليها اسم "الزهرة التي تنظر إلى الشمس" أو عبّاد الشمس.
    وكان هذا شكلا من أشكال التحوّل الذي يظهر كثيرا في الأساطير اليونانية القديمة، وكان بمثابة أداة لإصلاح حبّ كلايتي، ولتخليد ألمها وانتظارها اليائس على هيئة نبات أبدي. وهكذا ولدت زهرة عبّاد الشمس كرمز لجروح الحبّ والشوق الدائم.
    عبّاد الشمس هو أيضا رمز للانتظار. وما دام الزمن لا يتوقّف، فإن الشمس تشرق مرّة واحدة على الأقل في اليوم. وهذا الانتظار هو استعارة لحبّ لا يمكن بلوغه ورمز لشوق لا ينتهي. والفكرة تتكرّر كثيرا في الشعر الغنائي القديم وفي روايات الرومانسية الحديثة وتؤكّد على استمرار العاطفة وثبات الذاكرة.
    الإسم العلمي لعبّاد الشمس هو (Helianthus annuus). و"هيليوس" تعني الشمس و"أنوس" تعني النبات السنوي في الأساطير. وفي بعض أجزاء اليونان، تنتشر حدائق تحمل اسم كلايتي، وهناك أيضا مهرجانات يُعتبر عبّاد الشمس رمزها الرئيسي. كما تظهر هذه الأزهار كثيرا كمنحوتات ترمز إلى دورة الحياة.
    وفي الرسم، غالبا ما صُوّرت كلايتي من قبل رسّامي ما قبل الرافائيلية والرمزية في القرن التاسع عشر. كما وُظّف شعرها الطويل ووجهها المشمس كرموز للحزن الكلاسيكي. وبهذه الطريقة، تجاوزت قصّة كلايتي وعبّاد الشمس التقليد الأسطوريّ البسيط لتصبح إرثا عاطفيّا يربط بين المشاعر الإنسانية والطبيعة ومنظومات الرموز المتوارثة منذ آلاف السنين.
  • ❉ ❉ ❉


  • "الخمسة الكبار" كان اسما لمجموعة من خمسة ملحّنين روس بارزين عاشوا في سانت بطرسبورغ في القرن التاسع عشر وعملوا معا من عام ١٨٥٦ إلى عام ١٨٧٠ لتأليف نمط موسيقي كلاسيكي وطني مميّز. كانت المجموعة تتألّف من الموسيقيين بالاكرييف وسيزار كوي وموسورسكي وريمسكي كورساكوف وبورودين.
    وقد اتخذ هؤلاء الموسيقيون من أسلوب "فرانز ليست" أساسا لبُنية فضفاضة تشبه القصيدة السيمفونية، وبذا تمكّنوا من تجنّب القوانين الغربية الصارمة في شكل السوناتا، وركّزوا بدلا من ذلك على محتوى الموسيقى وليس على قوانين التناظر الشكلية.
    وكانت إحدى الملامح المميّزة للخمسة هي اعتمادهم على الاستشراق، فألّفوا العديد من الأعمال "الروسية" في جوهرها والشرقية في أسلوبها. والخيط الشرقي في الموسيقى الكلاسيكية الروسية يظهر كعلامة أو مجاز، أو كجغرافيا متخيّلة، أو فانتازيا تاريخية. وقد انجذب الموسيقيون الروس إلى الثقافات الشرقية لأن روسيا بلد مترامي الأطراف وذو ثقافات متعدّدة.
    ومن أمثلة الموسيقى الشرقية الروسية مقطوعة البيانو "إسلامي" لبالاكرييف و"الأمير ايغور" لبورودين و"شهرزاد" لكورساكوف و"صور في معرض" لموسورسكي. وقد استلهم بالاكرييف فكرة كتابة موسيقى "إسلامي" بعد رحلة له إلى القوقاز. ويقول في إحدى رسائله: الجمال المهيب للطبيعة الخلّابة هناك وجمال السكّان المتناغم معها تركت في نفسي انطباعا عميقا. وقد تعرّفت هناك على أمير شركسي مسلم كان يزورني باستمرار ويعزف ألحانا شعبية على آلته الموسيقية الشبيهة بالكمان. وأحد هذه الألحان يُدعى "إسلامي"، وهو لحن راقص أسعدني كثيرا فبدأت بتأليفه للبيانو".
    كان الاستشراق قد أصبح في الغرب، وعلى نطاق واسع، أحد أبرز ملامح الموسيقى الروسية وسمة من سمات الشخصية الوطنية الروسية. وبصفته زعيم "الخمسة"، شجّع بالاكرييف استخدام الموضوعات والتناغمات الشرقية لتمييز موسيقاهم "الروسية" عن السيمفونية الألمانية.
    وهناك عملان روسيان رئيسيان يهيمن عليهما الاستشراق بالكامل، هما المتوالية السيمفونية المسمّاة "عنتر" لريمسكي كورساكوف وقصيدة "تمارا" السيمفونية لبالاكرييف. وتدور أحداث "عنتر" في شبه الجزيرة العربية قديما وتمزج بين اسلوبين مختلفين من الموسيقى، الغربية "الروسية" والشرقية "العربية".
    في مذكّراته، يقدّم ريمسكي كورساكوف الصورة التالية لمجموعة الخمسة الكبار:
    كانت أذواق الجماعة تميل نحو غلينكا وشومان والرباعيات الأخيرة لبيتهوفن. ولم يكونوا يكنّون كبير احترام لماندلسون، بينما كانوا يعتبرون موزارت وهايدن عتيقين وساذجين، ويوهان سيباستيان باخ متحجّرا. وشبّه بالاكرييف شوبان بسيّدة مجتمع عصبية. وكان بيرليوز موضع تقدير كبير منهم، وقالوا القليل عن فاغنر. وكانوا يعترفون بسمعة روبنشتاين كعازف بيانو، ولكنهم كانوا يعتقدون أنه لا يمتلك موهبة ولا ذوقاً كملحّن.
    وقد أثّر أعضاء مجموعة الخمسة على العديد من كبار الملحّنين الروس الذين جاءوا بعدهم، مثل غلازونوف وبروكوفييف وسترافينسكي وشوستاكوفيتش. كما أثّروا أيضا على الملحّنين الرمزيين الفرنسيين مثل موريس رافيل وكلود ديبوسي من خلال لغتهم النغمية الجذرية.
  • ❉ ❉ ❉

  • بعض الاقتباسات...
    ◦ عادةً، أذهب إلى الغابة وحدي، بلا صديق، فجميعهم مبتسمون ومتحدّثون، وبالتالي غير مناسبين. لا أرغب حقّا في أن يشاهدني أحد وأنا أتحدّث إلى طائر أو أعانق شجرة سنديان عتيقة. لديّ طريقتي في الصلاة، ولديك طريقتك. علاوة على ذلك، عندما أكون وحدي يمكنني أن أختفي. يمكنني الجلوس على قمّة كثيب رملي ساكناً كشجرة حتى تمرّ الثعالب بلا اكتراث. أستطيع سماع الورود وهي تغنّي بصوت يشبه الهمس. إذا سبق لك أن ذهبت إلى الغابة معي، فلا بدّ أنني أحبّك كثيرا. ميري أوليفر

    ◦ ولدتُ عام 1939، ونُشرتْ رواية "مزرعة الحيوانات" عام 1945. وقرأتها في سنّ التاسعة. كانت ملقاة في المنزل، وظننتها كتابا عن الحيوانات الناطقة. والقول بأنني شعرت بالرعب من هذا الكتاب هو أقلّ من الحقيقة. كان مصير حيوانات المزرعة قاتما، والأغنام غبيّة للغاية. الأطفال يتمتّعون بإحساس قويّ بالظلم، وكان الشيء الذي أزعجني في الرواية أكثر من سواه هو عبارة: كانت الخنازير حقيرة وكاذبة وغادرة". مارغريت آتوود

    ◦ هل المعرفة مفيدة؟ وهل يجب أن تكون مفيدة أصلا؟! هناك اقتباس يتكرّر كثيرا من تشوانغ تزو فيلسوف القرن الرابع قبل الميلاد، يقول فيه: يعرف جميع الناس ميزة كونهم مفيدين، ولكن لا أحد يعرف ميزة كونه عديم الفائدة". كان تزو يعتقد أنه في عالمنا الفوضوي، يمكن لأصحاب السلطة أن يتلاعبوا بسهولة بمن يتمتّعون بالموهبة والطموح، بل قد يحولّونهم الى حملان جاهزة للتضحية. وفي المقابل، من المرجّح أن يكون أولئك الذين يفتقرون إلى الموهبة أو الطموح محميين من الأذى لأنه لا أحد يكترث بهم. ومع ذلك، عندما يقتبس الناس هذا القول اليوم، فإنهم غالبا ما يفعلون ذلك خارج السياق، ما يجعل دلالاته أوسع وأكثر غموضا. هو آنيان

    ◦ نزلنا من السيارة لنستنشق الهواء، وفجأة غمرتنا السعادة عندما أدركنا أن في الظلام من حولنا عشبا أخضر عطِرا ورائحة سماد طازج ومياها دافئة. نحن في الجنوب! لقد رحل الشتاء! أضاء فجر خافت براعم خضراء على جانب الطريق. أخذتُ نفَسا عميقا، عوى قطار مسرعاً عبر الظلام. خلعت قميصي وابتهجت. جاك كيرواك

    ◦ ويل لك يوم يُقال إنك انتهيت من لوحة! هل تنتهي اللوحة؟ يا له من هراء! إنهاؤها يعني التخلّص منها، قتلها، تخليصها من روحها، توجيه ضربة قاضية لها؛ أسوأ ضربة للرسّام وللوحة على حدّ سواء. بيكاسو

    ◦ يعتبرنا الآخرون متفوّقين بسبب ثقافتنا وميولنا الفكرية؛ فتقنياتنا تمكّننا من قيادة السيارات واستخدام برامج معالجة النصوص والسفر لمسافات طويلة جوّا. ويعيش بعضنا في منازل مكيّفة ونستمتع بوسائل الإعلام. نعتقد أننا أذكى من سكّان العصر الحجري، ولكن كم من البشر المعاصرين يستطيعون العيش بنجاح في الكهوف، أو يعرفون كيفية إشعال النار في الحطب للطهي، أو صنع الملابس والأحذية من جلود الحيوانات، أو صنع الأقواس والسهام التي تُطعم أسرَهم؟ جيمس لوفلوك

    ◦ صداقة مستحيلة مع شخص اندثر ولا وجود له إلا في حروف مصفرّة. نزهات طويلة بجانب جدول تخفي أعماقه أواني خزفية. أحاديث عن الفلسفة مع طالب خجول أو ساعي بريد. عابر سبيل بعيون فخورة لن تعرفه أبدا. صداقة مع هذا العالم تزداد كمالاً لولا رائحة الدم المالحة. ذلك الرجل العجوز الذي يرتشف قهوته في سان لازار والذي يذكّرك بشخص ما. وجوه عابرة في القطارات المحليّة. وجوه سعيدة لمسافرين متّجهين ربّما إلى حفلة راقصة رائعة أو إلى قطع رأس. وصداقة مع نفسك، فأنت في النهاية لا تعرف من أنت. آدم زاغايوسكي

  • Credits
    leadingmusicians.com
    paleothea.com

    السبت، ديسمبر 02، 2017

    موزارت: كونشيرتو البيانو رقم 23


    إن كنت من هواة سماع الموسيقى الكلاسيكية، فلا بدّ أن يعجبك هذا الكونشيرتو المكتوب لآلة البيانو. مدّته لا تتجاوز الثلاثين دقيقة، وهو بكامل حركاته ممتع، ومن السهل أن تستذكر بعض أنغامه بعد أن تسمعه مرّة أو مرّتين.
    ألّف موزارت كونشيرتو البيانو رقم 23، أو (المصنّف رقم 488 كما يُسمّى اختصارا)، في مارس من عام 1786 عندما كان يعكف على ترتيب العرض الأوّل لأوبرا "زواج فيغارو". وكان يأمل أن يفاجئ من خلاله جمهور مدينة سالزبورغ بالإتيان بشيء جديد ومبتكر.
    في ذلك الوقت أيضا، ألّف كونشيرتوهين آخرين للبيانو (رقم 22 ورقم 24). وقد أصبحت هذه الأعمال الثلاثة تُعزف بانتظام في حفلات الموسيقى الكلاسيكية. لكن الكونشيرتو رقم 23 أصبح أكثر هذه المؤلّفات رواجا وانتشارا. وابتداءً من الآن، سيعطي موزارت دورا أهمّ للآلات الهوائية التي باتت عنده مُعادِلة للآلات الوترية من حيث الأهمية.
    كونشيرتو البيانو رقم 23 مكتوب لأوركسترا مؤلّفة من فلوت وعدد من آلات الكلارينيت والباسون والأبواق مع بعض الآلات الوترية، بالإضافة طبعا إلى الآلة الرئيسية، أي البيانو.
    العزف المنفرد للأجزاء الاوركسترالية والمزاج العام الهادئ في الكونشيرتو يُنتجان موسيقى حميمية إلى حدّ كبير قد لا يلمسها السامع عادةً إلا في موسيقى الغرفة.
    هذا الكونشيرتو يعكس سمات معلّم قديم ويعطي انطباعا بأن مؤلّفه رأى وسمع كلّ شيء وليس نادما على شيء. وقتها كان موزارت "عجوزا" في الثلاثين من عمره وكان يحصل على دخله من الحفلات غالبا وليس من مؤلّفاته الجديدة.
    يتألّف كونشيرتو البيانو 23 من ثلاث حركات: الليغرو، وأداجيو، والليغرو اساي على شكل روندو.
    الحركة الأولى "الليغرو" مكتوبة على نسق السوناتا التقليدية. في البداية تدخل الاوركسترا ثم تفسح المجال للبيانو. مفتاح أو سلّم الـ مي الكبير أو الاي ميجور له مفعول مهدّيء في يد موزارت، وهذا واضح من الشاعرية الرائعة التي تثيرها بداية الحركة.
    أما الحركة الثانية، أي الأداجيو، فقد أصبحت تحتلّ مكانة خاصّة في مجموعة أعمال موزارت. وهذه هي القطعة الوحيدة تقريبا التي كتبها في مقام الـ فا الصغير، وهي ذات مزاج تأمّلي، والطبيعة التعبيرية للآلات الهوائية والتفاعل بين الاوركسترا وعازف البيانو يذكّران ببساطة موسيقى الغرفة أكثر مما يذكّران بفخامة الكونشيرتو الاوركسترالي.


    عندما يصل الإحساس التأمّلي إلى منتهاه، تبدأ الحركة الثالثة "الروندو"، والتي تتميّز بخفّتها ومرحها. والموسيقى تنتقل من العازف إلى الاوركسترا والعكس، وكلّ منهما "يطارد" الآخر من خلال التغييرات غير المتوقّعة للمفاتيح، إلى أن نعود مرّة أخرى إلى سلّم لا الصغير "أو الاي ماينور"، ثم يتسارع العمل شيئا فشيئا باتجاه خاتمة مرحة.
    وبمناسبة الحديث عن هذا الكونشيرتو، هناك قصّة ردّدتها الأوساط الموسيقية الروسية قبل أن يسجّلها الموسيقيّ ديمتري شوستاكوفتش في مذكّراته. إذ يروي أن جوزيف ستالين أصبح في أيّامه الأخيرة مدمناً على سماع الموسيقى من الإذاعة. وفي إحدى المناسبات عزفت البيانيست ماريّا يودينا هذا الكونشيرتو لموزارت والذي كان احد القطع المفضّلة عند ستالين.
    كانت يودينا مشهورة بآرائها السياسية المعارضة وبترجمتها لموسيقى شوستاكوفتش حيث كانا صديقين، بالإضافة إلى ترجمتها لموسيقى كلّ من باخ وموزارت.
    وقد دأبت هذه العازفة على قراءة قصائد للشعراء السوفيات الممنوعين وأقوال لرجال الكنيسة الأرثوذكسية أثناء حفلاتها. ولم تكن تخفي معتقداتها وأفكارها، بل كانت تجاهر بها على الملأ.
    وقد طلب ستالين من إذاعة موسكو أن يرسلوا له نسخة من عزف يودينا لكونشيرتو موزارت هذا. لكن المشكلة أنها كانت تعزف على الهواء ولم يتمّ تسجيل الأداء في حينه. فسارع مسئولو الإذاعة للاتصال بها كي تأتي إلى مقرّ الإذاعة وجمعوا اوركسترا بسرعة في نفس تلك الليلة.
    وفي صباح اليوم التالي، كان التسجيل في مكتب ستالين. وبعد أن سمعه، أرسل إلى يودينا ظرفا بداخله عشرين ألف روبل. وعندما استلمت المكافأة، كتبت إليه رسالة تقول فيها: أشكرك وسأصلّي من أجلك ليلا ونهارا كي يغفر الله خطاياك الفادحة".
    ويقال أنها تبرّعت بالمبلغ لإحدى الكنائس. والغريب أنها لم تُسجن أو تُحظر بسبب أنشطتها المعارضة، بل استمرّت في وظيفتها إلى أن توفّيت في عام 1970.
    وقيل إن الشريط الذي سجّلت عليه عزفها لهذا الكونشيرتو كان يشتغل في جهاز التسجيل في الغرفة التي وُجد ستالين فيها ميّتا في منزله عام 1953. ويبدو انه كان آخر شيء سمعه قبل موته. وما يزال ذلك التسجيل موجودا حتى اليوم ويمكن سماعه في موقع اليوتيوب على هذا الرابط .

    Credits
    classicfm.com

    الأربعاء، أكتوبر 18، 2017

    بابا هايدن

    من أهمّ الشخصيات التي تركت أثرا كبيرا في عالم الموسيقى الكلاسيكية المؤلّف الموسيقيّ النمساويّ جوزيف هايدن. ويُعزى إلى هايدن الفضل في ابتكار الرباعيات الوترية، وحتى السيمفونيات بالإضافة إلى عدد آخر غير قليل من الأشكال الموسيقية.
    كان هايدن معلّما وصديقا لموزارت. وهو أوّل من تنبّأ لوالده بأن ابنه سيكون له شأن في الموسيقى. كما علّم بيتهوفن، رغم أن علاقتهما تخلّلتها فترات من الخصومة والجفاء بسبب عصبية بيتهوفن وميله للشكّ في كلّ شيء. لكن بيتهوفن ظلّ على الدوام يعبّر عن تقديره واحترامه الكبيرين لمعلّمه.
    ترك هايدن تراثا موسيقيا عظيما. التسجيل الكامل لرباعياته الوترية وحدها يربو على العشرين ساعة من الموسيقى المتواصلة. والكثير من موسيقاه لا تخلو من روح الدعابة والمرح، لأنه ضمّنها قفلات طريفة و مفاجآت إيقاعية لا تخطر أحيانا على البال.
    الغريب انه بعد وفاة هايدن بفترة قصيرة، تسلّل إلى قبره مجموعة من الأشخاص الذين كانوا يبحثون في علاقة شكل جمجمة الإنسان بملكاته العقلية، فنبشوا قبره وقطعوا رأسه ثم أعادوا دفن جثّته من جديد. ولعدّة سنوات لم يلاحظ السرقة احد، وبعد مرور مائة وخمسين عاما على الحادثة أعيد الرأس ليُدفن مع الجثّة مرّة أخرى.
    ولد هايدن في مارس من عام 1732. في ذلك الوقت، كانت تهيمن على أوربّا مجموعة من السلالات الملكية: عائلة هانوفر في انجلترا، والبوربون في فرنسا، وهابسبيرغ في النمسا. وكانت أسرة هايدن تعيش في بلدة على الحدود بين النمسا والمجر.
    وقد تأثّر منذ طفولته بحبّ والده للموسيقى الشعبية. رئيس مدرسة الموسيقى في كاثدرائية البلدة لاحظ موهبة الصبيّ الموسيقية، فقرّر ضمّه إلى فرقته. ثم اشترى له والده "ارغن" مستعملا وبدأ يتعلّم عليه العزف. وفي تلك الأثناء تعرّف على موسيقيّ ايطاليّ يُدعى نيكولا بوربورا الذي علّمه التأليف الموسيقيّ.
    وفي عام 1759، استدعاه وجيه يُدعى الكونت مورزين كي يشرف على الاوركسترا الخاصّة بقصره. وهناك ألّف هايدن أولى سيمفونياته. وقد اجتذبت موسيقاه اهتمام الأمير بول ايسترهازي الذي عيّنه نائبا لمدير الفرقة الموسيقية لديه.
    ثم انتقل إلى بلاط آيزنستات التابع لهذه العائلة الهنغارية المشهورة بنفوذها وثرائها. الأمير نفسه كان يجيد العزف على التشيللو والكمان. وقد أراد أن يحسّن صورة البلاط بتشجيع الموسيقى الاوركسترالية والاوبرالية، لذا عهد إلى هايدن بتلك المهمّة.
    وبعد موت بول ايسترهازي خلفه أخوه نيكولاس الذي كان هو الآخر محبّا للموسيقى، فأمر هايدن بأن ينتج المزيد من الأعمال الموسيقية. وكان الأمير الجديد يجيد العزف على آلة الباريتون، وهي آلة موسيقية مقوّسة الشكل وذات ستّة أوتار. وقد أتقن هايدن نفسه العزف على هذه الآلة وألّف أكثر من مائة وخمسين لحنا قدّمها إلى الأمير كي يعزفها.


    في عام 1764، زار نيكولاس ايسترهازي قصر فرساي الفرنسيّ، وقد ألهمته تلك الزيارة أن يبني لعائلته قصرا مشابها. وبالفعل بنى ما أصبح يُسمّى بـ قصر ايسترهازي العظيم . كان القصر يحتوي عند إكماله على أكثر من مائة وعشرين غرفة للضيوف، مع حدائق فسيحة شُيّدت فوق منطقة من المروج الممتدّة على ضفاف بحيرة نوسيدلر. وأصبح القصر مقرّا لإقامة هايدن.
    المكانة المتعاظمة لأسرة ايسترهازي كانت تعني أن على هايدن أن ينتج المزيد من الأعمال الموسيقية، فألّف على مدى سنوات أكثر من أربعة عشر عملا مسرحيا.
    وفي عام 1768، بنى الأمير مسرحا يتّسع لأربعمائة شخص كي تقام عليه العروض المسرحية وغيرها من الفعاليات التي ما تزال تقام إلى اليوم.
    غير أن الذين يخدمون في القصر، ومن بينهم هايدن نفسه، أصبحوا يعانون من الإحساس المتزايد بالعزلة في تلك المساحة الشاسعة من المروج المملّة بعيدا عن عائلاتهم. وقد ألهمت تلك الأجواء هايدن تأليف مجموعة من الألحان الكئيبة والمظلمة من بينها رباعيته الوترية رقم عشرين .
    ومن خلال تلك الألحان، تكرّست شهرة هايدن كمؤلّف مبتكر للرباعيات الكلاسيكية. وإحدى تلك القطع، وهي الرباعية الوترية رقم 33 ، نالت إعجاب موزارت لدرجة أن الموسيقيّ الصغير ألّف، هو الآخر، مجموعة من الرباعيات المماثلة وأهدى ستّاً منها لهايدن.
    في عام 1784، كُلّف هايدن بتأليف سيمفونيات في فرنسا، وهي ما أصبحت تُسمّى بسيمفونيات باريس. وقد أدّى ذلك إلى انتقال شهرته إلى اسبانيا، فدعته إحدى الكاثدرائيات في قادش لتأليف مجموعة من الأعمال الدينية. وقد كوفيء على عمله بإهدائه كعكة شوكولاتا ضخمة مُلئت بالعملات الذهبية.
    في عام 1790، توفّي الأمير نيكولاس ايسترهازي. وبعد الثورة الفرنسية، قام ابنه الذي خلفه، ويُدعى انطون، بتسريح الاوركسترا، لكنه أمر بأن يُدفع لهايدن راتب تقاعديّ تقديرا منه لخدمته الطويلة والمتميّزة لعائلته.
    وفي عام 1791، ذهب هايدن إلى لندن، وهناك عُومل كضيف مهمّ، ومنحته جامعة اوكسفورد درجة شرفية. وردّ هايدن على التحيّة بتأليف سيمفونية اسماها سيمفونية اوكسفورد أو السيمفونية رقم 92.
    وأثناء إقامته في لندن التي دامت بضع سنوات، شعر هايدن بارتباط خاصّ بالمدينة. وقد أُعجب كثيرا بالنشيد الوطنيّ الانجليزيّ وبتأثير ذلك النشيد في توحيد الانجليز وتقوية مشاعرهم الوطنية. وكان يدرك حاجة بلده النمسا إلى نشيد وطنيّ يوحّدها في وجه تهديدات نابليون بغزو أراضيها. وقد ألف فعلا نشيدا أصبح في ما بعد هو النشيد الوطنيّ للنمسا وألمانيا.
    ويقال أن هايدن كسب في لندن في سنة واحدة ما كسبه في عشرين عاما من خدمته في قصر ايسترهازي. وقد بذل الانجليز محاولات عدّة لاستبقائه في انجلترا. لكن بعد موت الأمير انطون ايسترهازي وتولّي الأمير نيكولاس الثاني الحكم، أمر الأخير بأن يعود هايدن إلى النمسا وأن يُعيَّن مستشارا موسيقيّا له.


    في سنّ التاسعة والخمسين، عاد هايدن إلى بلاط آيزنستات وبدأ عملية إعادة ترتيب الحياة الموسيقية في البلاط الجديد. وفي عام 1796، كتب كونشيرتو الترومبيت المشهور. غير أن الأمير الجديد لم يكن مغرما بالموسيقى الآلاتية، فأمر هايدن بتأليف عدد من الأناشيد الدينية، وقد ضمّنها الأخير معرفته الواسعة بالأوبرا والسيمفونيات.
    من بين أعمال هايدن التي كتبها في تلك الفترة سيمفونيته السادسة والتسعين . وكان تقديمها للجمهور مناسبة عظيمة، ليس لأن السيمفونية كانت تحفة فنّية فحسب، وإنما لأن نجفة ضخمة سقطت من السقف أثناء الحفل. وقد اكتسبت السيمفونية اسمها الآخر، أي المعجزة، لأن أحدا من الحضور لم يُصب بأذى في تلك الحادثة.
    في تلك الأثناء، عزف هايدن وموزارت معا عددا من الرباعيات في فيينا. كان موزارت يحترم هايدن كثيرا ولطالما دعاه لحضور حفلاته. وكان هايدن يردّ بالتعبير عن إعجابه الشديد بالعبقريّ الصغير. وفي الحقيقة كانت الموسيقى التي عُزفت في جنازة هايدن في ما بعد هي القدّاس الجنائزيّ الذي كتبه موزارت قبيل وفاته.
    في عام 1804، غادر هايدن نهائيا أسرة ايسترهازي بعد خدمة دامت أربعين عاما. وأقيم على شرفه حفل حُمل إليه على أريكة خاصّة وعُزفت خلاله سيمفونيّته الخليقة .
    كان عمر هايدن آنذاك قد شارف على السادسة والسبعين. وقد حضر الحفل عدد من كبار الموسيقيين، كان من بينهم بيتهوفن وسالييري الذي قاد الاوركسترا. وقد دُهش هايدن من حرارة الاستقبال الذي حظي به، ثم أمر بأن يُنقل إلى بيته، ولم يظهر بعد ذلك على الملأ أبدا.
    وعندما بدأ نابليون غزو الأراضي النمساوية في عام 1809، كان هايدن يقضي أيّامه الأخيرة في منزله في إحدى ضواحي فيينا . كان وقتها قد أصبح شخصية محترمة ومعروفة في عموم أوربّا. وكبادرة احترام، أمر نابليون بوضع حارسين خارج منزله كي يقوما على خدمته في سنّه المتقدّمة تلك.
    كان هايدن معروفا بتواضعه وحسّه الأبويّ تجاه كلّ من عرفه، ولهذا كان يُكنّى "بابا هايدن". وكان من عادته أن يبدأ كلّ حفلة له بقوله "باسم الربّ". لكنه أيضا كان معروفا بحبّه للدعابة وقد نقل ذلك الإحساس إلى العديد من مؤلّفاته.
    المعروف أن هايدن عانى طوال حياته من التهاب الجيوب الأنفية، وكان هذا وضعا غير مريح له وأدّى إلى إصابته باعوجاج في عظمة أنفه.
    واعترافا بما تركه من إرث موسيقيّ عظيم، أُطلق اسمه على كويكب سيّار يقع بين المرّيخ والمشتري اكتشفه العلماء عام 1973.

    Credits
    classicfm.com

    الاثنين، سبتمبر 11، 2017

    موزارت: رباعيّة الناي


    الرباعية هي عبارة عن فرقة موسيقية تتألّف من أربعة مغنّين أو عازفين. وقد تكون أيضا قطعة موسيقية يؤدّيها أربعة أصوات أو أربع آلات موسيقية. وعادةً الرباعية الوترية هي الأكثر أهمّيّة وشيوعا في الموسيقى الكلاسيكية، وتتألّف في الغالب من آلتي كمان وفيولا وتشيللو.
    لم يكن اماديوس موزارت عاشقا للناي "أو الفلوت" كثيرا، بل كان تركيزه الأوّل منصبّا على التأليف للأوبرا. لكن كانت لديه الثقة بالنفس والذائقة العالية كي يجرّب كتابة شيء مختلف، للفلوت هذه المرّة. وقد قال لأحد أصدقائه ذات مرّة: أريد أن أؤلّف شيئا لا اشعر بالخجل من حمله لاسمي".
    في تلك الفترة، كان موزارت عاطلا عن العمل وعلى وشك التطواف مع والدته في أرجاء أوربّا بحثا عن وظيفة. وتصادف أن اتّصل به ثريّ هولنديّ وعازف فلوت هاوٍ يُدعى فرديناند دي جين. وتقابل الاثنان في مانهايم في شتاء عام 1777.
    كان الرجل قد سمع عن موزارت ذي العشرين عاما وقتها وعن موهبته الاستثنائية من صديق مشترك كان يعمل هو أيضا عازف فلوت في اوركسترا مانهايم.
    وقد كلّف دي جين موزارت بأن يؤلّف له رباعية للفلوت مع بضعة أعمال أخرى. وكان موزارت بأمسّ الحاجة إلى المال كي يحقّق رغبته في السفر إلى فرنسا وألمانيا بحثا عن وظيفة دائمة.
    وكتب موزارت إلى والده في ديسمبر من ذلك العام يخبره بأنه باشر للتوّ كتابة رباعية للفلوت لمصلحة دي جين الذي وصفه "بالصديق الإنسان".
    لكن ذلك التكليف كان مرهقا. وعندما غادر دي جين إلى باريس، اضطرّ موزارت لأن يوافق على نصف المبلغ الأصليّ الذي كانا قد اتفقا عليه في البداية.
    كان الإلهام النغميّ حاضرا عندما بدأ موزارت كتابة الرباعية، كما توحي بذلك البداية الرائعة للحركة الأولى منها.
    وعلى الأرجح، كتب موزارت هذه الرباعية ما بين عامي 1777 و 1778 لآلات الفلوت والكمان والفيولا والباسو. وهي تتألّف من ثلاث حركات: الليغرو وأداجيو وروندو. وقد اقتبس بيتهوفن أجزاءً من الحركة الأولى لثنائيّته للكلارينيت والباسون التي ألّفها عام 1792.
    في السيرة التي كتبها الفريد اينشتاين لموزارت، تحدّث المؤلّف عن حركة الاداجيو ووصفها بأنها ممزوجة بشيء من الحزن النبيل وأنها قد تكون أجمل معزوفة كُتبت لآلة الفلوت على الإطلاق.
    بُنية الرباعيّة تشبه كونشيرتو الغرفة. وهناك عدد من الطبقات المختلفة فيها. والنسيج شفّاف مع تباين قويّ للألوان. والموسيقى محكمة على ثلاث حركات خفيفة. الأولى عبارة عن سوناتا، والثانية لها طابع السيرينيد مع مزاج تأمّليّ.
    ويمكن القول أن هذه الحركة، أي الثانية، تشبه إلى حدّ كبير أغنية تروبادور من العصر الرومانسيّ. ويلاحَظ أن الحركتين الثانية والثالثة مترابطتان دونما توقّف. والحركة الأخيرة، أي الروندو، يمكن وصفها بأنها عبارة عن حوارية بديعة بين آلتي الكمان الأوّل والفلوت.
    رباعية الفلوت تحتلّ اليوم مكانة مهمّة للغاية في مجموعة أعمال موزارت التي كتبها لهذه الآلة. وبعض النقّاد يصفونها بأنها صورة مثالية عن روح ومشاعر عصر الروكوكو مع نكهة ألمانية ومع شيء من طابع موسيقى الباروك التي كانت في طريقها آنذاك إلى الأفول.

    Credits
    mozart.com

    الأحد، يوليو 23، 2017

    كلام في الموسيقى


    بعض محبّي الموسيقى الكلاسيكية كثيرا ما يثيرون في نقاشاتهم بعض الأسئلة والافتراضات والمقارنات التي تتناول حياة الموسيقيّين القدامى وأساليبهم وأثرهم في الأجيال التي أتت بعدهم.
  • وأحد الأسئلة المثارة عادةً هو التالي: أيّهما أعظم، موزارت أم بيتهوفن؟
    - أولا المقارنة بين الاثنين تبدو تبسيطية ومخلّة، لأنهما مختلفان تماما في أسلوبيهما. والمقارنة بينهما مثل أن تقارن بين زهرتين مختلفتين في اللون والرائحة. كما أن المسألة لها علاقة بالذوق والتفضيل الشخصيّ.
    لكن الإحصائيات قد توفّر أحيانا مؤشّرا عن أيّ من الاثنين يتمتّع بشعبيّة اكبر في مرحلة زمنيّة معيّنة.
    موسيقى موزارت فيها دفء متأصّل وشفافية وإحكام. وموسيقى بيتهوفن فيها عمق ومواجهة وتتطلّب من السامع أن يعيرها كلّ اهتمامه.
    ودفء موزارت واضح في العديد من مؤلّفاته الموسيقية. كما أن فيها إنسانية يمكن أن تلمسها خاصّة في أعماله الأوبرالية التي تكشف عن خبرة ومعرفة عميقة بالنفس الإنسانية.
    بيتهوفن أيضا جرّب كتابة الأوبرا مع انه لم يتميّز فيها، وهو كتب أوبرا واحدة فقط هي فيدليو التي لا يرى فيها الكثيرون دليلا على عظمة تأليفه للأوبرا. كما أنها لا ترقى لمعايير موزارت في التأليف الأوبرالي . لكنّها ما تزال تُؤدّى إلى اليوم لأن بيتهوفن هو من ألّفها، وسيستمرّ الناس في سماعها لهذا السبب بالذات.
    وموسيقى موزارت ناعمة ورقيقة في الغالب وليس فيها عصبيّة بيتهوفن ومزاجياته العنيفة.
    وبعض خبراء الموسيقى يذهبون إلى أن موزارت "بسيط" في مؤلّفاته السيمفونية، في مقابل بيتهوفن الذي كان يكتب سيمفونياته بشكل مضنٍ ويراجعها كثيرا إلى أن يحصل على المزاج المطلوب لكلّ لحظة.
    ويقال أن عبقرية موزارت اللحنية تكمن في ذكائه. كان مثلا يؤلّف موسيقاه في ذهنه ويرتّبها قبل أن يجلس ليدوّنها على الورق.
    عندما تسمع موزارت تتخيّل أن الأنغام تتدفّق من أعلى لأسفل ثم إلى قلمه فالورق. وعندما تسمع بيتهوفن تشعر بجهده الجسديّ والذهنيّ الضخم مرتفعا من أسفل لأعلى، وهذا ينطبق حتى على موسيقاه التي ألّفها للغرفة.
    الشيء الجيّد في موزارت هو أن موسيقاه تستحقّ أن تُسمع لا أن تُوصف. وهي لا تشبه الأشياء التي تبلى مع مرور الزمن. إنها تتجدّد مع كلّ أداء، وهي ممتعة دائما، كما أن مستوى نوعيّتها غير عاديّ.
    ومع ذلك هناك من يأخذ على موزارت كثرة التكرار في موسيقاه. قال ناقد ذات مرّة: إختر أيّ قطعة لموزارت لا تتجاوز مدّتها الخمس دقائق. لو سمعتها من عازفين مهرة فستدرك أن التجربة ممتعة بصرف النظر عن خلفيّتك أو مكانك. لكن لو استمعت إليها لمدّة أطول فستشعر بالملل بعد أن تلاحظ التكرار فيها، ومن ثمّ ستفقد اهتمامك.
    بيتهوفن كان جسرا بين الكلاسيكيّة والرومانسيّة. وقد اعتاد الناس على أن ينظروا إليه كإنسان معذّب ومناضل يضع روحه ومشاعره على الورق.
    ذات مرّة فقد شخص ابنه في حادث وقال انه استطاع تجاوز الألم والحزن بفضل موسيقى موزارت. وعلّق احد الحضور بقوله: تخيّل لو انك كنت تستمع إلى بيتهوفن في مثل هذا الظرف، ما الذي كان يمكن أن يحدث لك؟ وأضاف: موسيقى بيتهوفن لا تورّث سوى اليأس والمشاعر المظلمة، وربّما تدفعك لأن تقتل نفسك.
    وطبعا هذا رأي، لكن لا يُعتدّ به كثيرا لأن بيتهوفن كتب الكثير من الموسيقى الهادئة والجميلة والمتأمّلة .
    وموزارت وبيتهوفن، كلاهما، ما يزالان مهمّين بسبب المشاعر التي تعبّر عنها موسيقاهما، فهي تتحدّث إلى الناس مباشرة، وتعبّر عن طيف واسع ومتنوّع من العواطف الإنسانية بطريقة مبدعة.
  • ترى لو أن باخ عاش لفترة أطول وسمع موسيقى موزارت، ماذا سيكون رأيه فيها؟
    - ربّما لو عاش باخ وسمع موزارت لأدرك مدى تأثّر الأخير بموسيقى ابنه يوهان كريستيان باخ الذي كان موزارت يعرفه شخصيّا. وبلا شكّ كان باخ سيقدّر موهبة موزارت وأناقة وجمال أنغامه. ولو عاش أطول لأثّر في موسيقى موزارت بشكل أو بآخر.
    عندما كان موزارت حيّا، كان متأثّرا كثيرا بموسيقى يوهان كريستيان . وكان أسلوب باخ الابن مختلفا عن أسلوب والده، لأن الأب توفّي عندما كان عمر كريستيان خمسة عشر عاما. ولهذا أصبح الابن متحرّرا من نفوذ والده أكثر من إخوته الآخرين الأكبر سنّا.
  • ماذا لو لم يمت موزارت عام 1791؟
    - قال احد أساتذة الموسيقى: لو قُيّض لموزارت أن يعيش عشر سنوات أخرى لما كانت هناك حاجة لبيتهوفن. وطبعا هذا الكلام مبالغ فيه أيضا وبعيد عن الواقع.

  • لكن السؤال الأهمّ هو: لماذا ترك موزارت خلفه أعمالا موسيقية كثيرة ومشهورة رغم وفاته في سنّ الخامسة والثلاثين؟
    - أحد الأسباب المهمّة هو انه كان في زمن موزارت قواعد محدّدة وراسخة لكتابة الموسيقى. وكان موزارت يحترم تلك القواعد رغم انه أحيانا كان يغيّر ويعدّل فيها.
    ولو اخترنا مقطوعة من موسيقى القرن العشرين وأعطيناها إلى موزارت ليسمعها في زمانه فسيندهش كثيرا، لأنها لا تتّبع القواعد الموسيقية التي كانت سائدة في عصره والتي كانت تساعد المؤلّفين على كتابة الموسيقى بوتيرة سريعة.
    أيضا من أسباب غزارة إنتاج موزارت انه تعلّم مهارات التأليف في سنّ مبكرة، رغم انه لم يبلور أسلوبه الشخصيّ إلا خلال العشرية الثانية من عمره. وفي ذلك الوقت لم يكن هناك مُلهيات تصرفه عن التأليف الموسيقيّ كألعاب الفيديو والكمبيوتر وخلافه.
    وفي زمن موزارت لم يكن هناك أساليب موسيقية كثيرة كما هو الحال هذه الأيّام. ولهذا السبب كان من السهل عليه التركيز على أسلوب موسيقيّ واحد.
    كانت موسيقاه غزيرة جدّا رغم قصر عمره، كما أن نوعيّتها مذهلة . وكانت تجمع بين صفاء المفهوم وجمال التنفيذ بحيث لم يكن بمقدور احد من معاصريه أن ينافسه. وخلافا لما تزعمه هوليوود، لم تكن الموسيقى تأتي من رأسه مباشرة ودون جهد، بل كان يضع اسكتشات ويصحّح أعماله ويهتمّ بالتوليف كثيرا.
    ثم لا ينبغي أن ننسى أن موزارت، وعلى العكس من معظم مجايليه، تدرّب منذ سنّ مبكّرة جدّا كي تكون الموسيقى مهنته الأولى والوحيدة.
    من سمات موسيقى موزارت أيضا أن لا شيء فيها فائض أو زائد عن الحاجة. بمعنى انه كان يستخدم العدد الصحيح من النوتات والذي يحقّق اكبر تأثير. كان يجلس إلى مكتبه ويفكّر في أيّ النوتات يمكن الاستغناء عنها، في حين أن غالبية الموسيقيين يركّزون على النوتات التي يمكنهم إضافتها.
    وموسيقى موزارت، وأكثر من أيّ مؤلّف موسيقيّ آخر، مؤثّرة بعمق في الثقافة المعاصرة. إذ لا يمكن تخيّل عدد المرّات التي عُزفت فيها أعماله في عروض الأزياء وفي الأفلام والإعلانات.
  • ترى لو استمع الموسيقيّون الكلاسيكيّون، مثل موزارت وباخ وبيتهوفن، لموسيقى وأغاني هذه الأيّام، كيف سيكون ردّ فعلهم؟
    - اغلب الظن أنهم لن ينظروا إليها بارتياح لأن آذانهم لم تألفها، وقد يجدون في نشازها الهارموني وفي القواعد المكسورة والإيقاعات المتكرّرة والأصوات الالكترونية أشياء لا تنتمي إلى عالمهم. لكن قد يُظهِرون بعض الاهتمام ببعض نماذج موسيقى البوب والجاز التي ظهرت قبل ثلاثين أو أربعين عاما.
    باخ الذي كتب بعض أفضل موسيقى عصر الباروك ، كان ينظر بازدراء للأساليب الموسيقية المبسّطة التي كانت رائجة في زمانه. وقد اخبر احد أولاده مرّة بأنها موضة عابرة ولن تدوم طويلا.
    وموزارت أيضا كان دائم الانتقاد لبعض معاصريه من الموسيقيين، وكان يعتبر هايدن فقط مكافئا له. وعندما سمع بعض موسيقى باخ قال: أخيرا هذا شخص يمكنني أن أتعلّم منه".
  • لماذا الموسيقيّون الكلاسيكيون المعاصرون، ابتداءً من الثلث الأخير من القرن التاسع عشر وعلى امتداد القرن العشرين، والذين يتمثّلون خطى الكلاسيكيين الأوائل لم يحقّقوا نجاحا معتبرا ولم يُكتب لأعمالهم ما يكفي من الانتشار والذيوع؟
    - أوّلا لنتذكّر أن معظم الكلاسيكيين، بمن فيهم باخ وبيتهوفن وموزارت، لم يُعترف بهم أثناء حياتهم كمعلّمين عظام، ولم يعرفهم الناس إلا بعد موتهم بزمن طويل.
    وربّما بعد مائتي عام من الآن سيعرف الناس أعمال بعض الموسيقيين المعاصرين بعد أن تكون موسيقاهم قد صمدت أمام امتحان الزمن.
    ثم انه في أيّام موزارت، كانت معظم الموسيقى تُكتب كي تكون خلفية لحدث أو حفل. فالملوك والنبلاء الذين يدعون الناس للمآدب كانوا بحاجة لموسيقى ترافق الطعام. وباستثناء الأوبرا التي كانت الشكل الموسيقيّ المفضّل عند موزارت، كانت الموسيقى تعامَل مثل ورق الحيطان.
    وهذه الأيّام لا يكاد الناس يسمعون في قاعات الموسيقى أيّا من أعمال كوبلاند أو إلغار أو اينسكو أو فوريه أو غيرشوين أو غيرهم من الموسيقيين المعاصرين. وعادة إذا كانت قاعات الموسيقى الكبيرة تريد أن تبيع تذاكر كثيرة، فإنها تركّز على موسيقى موزارت أو باخ مثلا. وإذا كان احد لا يسمع شيئا من موسيقى هذه الأيّام ذات النفَس الكلاسيكيّ، فقد يكون السبب أن معظم ما يُكتب غير مبهج ولا يلفت انتباه احد.
    لكن الأكيد أن الفنّ يتغيّر باستمرار وكذلك أذواق الجمهور. ويبدو انه لم يعد هناك من يكتب للأوبرا، بل أصبح الموسيقيون هذه الأيّام يركّزون على تأليف موسيقى للأفلام. ومعظم موسيقى الأفلام اليوم رديئة، والقليل منها يستحقّ السماع مثل موسيقى جون وليامز وغابرييل ياريد وألان سيلفستري وجون باري وجيمس هورنر وغيرهم.

  • Credits
    classicalarchives.com

    الخميس، أبريل 06، 2017

    موسيقى ليليّة


    من أشهر مؤلّفات موزارت "الموسيقى الليليّة رقم 13 للوتريات في مقام الجي الكبير"، والتي أكملها في فيينا عندما كان يكتب أوبرا دون جيوفاني.
    وهذه الموسيقى تُعزف اليوم وتُسجّل على نطاق واسع ويُعجَب بها الناس بسبب نوعيّتها المرحة والمباشرة وأنغامها المألوفة والخفيفة.
    وقد أصبحت مع مرور الأيّام مثالا رائعا على جاذبيّة وجمال وتنوّع الموسيقى الكلاسيكية. يكفي أن تستمع إلى نغماتها الأولى الخالدة لتعرفها وتألفها. ولن تستغرب إذا ما داومت على سماعها مرّة بعد أخرى دون أن ينالك إحساس بالملل.
    ألّف موزارت هذه الموسيقى أساسا لفرقة الغرفة، وكان ذلك في العام 1787. كانت نيّته في البداية أن تُعزف بكمانين وفيولا وتشيللو، لكنها أصبحت في الغالب تُؤدّى بأوركسترا وترية.
    والحقيقة انه لا يُعرف لماذا ألّف هذه القطعة أو ما هي مناسبتها. لكن المؤرّخ هيلدشايمر يذكر أن معظم مؤلّفات موزارت الليليّة كُتبت بناءً على تكليف من أشخاص، وهذه القطعة لم تكن استثناءً.
    كما يذكر هيلدشايمر أنها أكثر أعمال موزارت شعبية، مشيرا إلى أنها أصبحت تُعزف في كلّ مكان بسبب نوعيّتها العالية وجوّها الذي يشيع المرح والسرور.
    في البداية لم يعطِ موزارت القطعة عنوانا، لكنه كتب في مفكّرته انه ألّفها كـ "موسيقى ليليّة صغيرة". وهي لم تُنشر إلا في عام 1827، أي بعد زمن طويل من وفاته.
    وقد باعتها أرملته كونستانزا إلى ناشر يُدعى يوهان اندريه عام 1799 كجزء من عدد أكبر من مؤلّفاته التي طُرحت في ذلك الوقت للبيع.
    وتتألّف الموسيقى، المكتوبة بأسلوب السوناتا، من أربع حركات: الأولى الليغرو، والثانية رومانزا أو اندانتي، والثالثة مينيوتو أو الليغريتو، والحركة الرابعة والأخيرة روندو.
    مصطلح الموسيقى الليليّة، أو السيرينيد كما تُسمّى عادة، ظهر لأوّل مرّة في نهاية القرن الثامن عشر واستُخدم لوصف عمل موسيقيّ تؤدّيه موسيقى الغرفة في مناسبة اجتماعية. وهذا النوع من الموسيقى كان يتمتّع بشعبية كبيرة في أوربّا، خاصّة في فيينا التي قضى فيها موزارت آخر عشر سنوات من حياته.
    في ذلك الوقت، كان من المألوف أن تعزف الفرق الموسيقية الألحان الليليّة في متنزّهات وحدائق فيينا، وأصبح تأليف مثل ذلك النوع من الموسيقى مصدر ربح كبير للمؤلّفين الموسيقيين.
    لكن الشعبية الكبيرة جدّا لموسيقى موزارت هذه لم تتحقّق إلا قبل نهاية القرن الماضي، وبالتحديد عندما ظهرت في فيلم "اماديوس" الذي تناول حياة وموسيقى موزارت.
    في الفيلم تظهر لقطة للموسيقيّ الايطالي سالييري، الذي يُفترض انه المنافس الكاره لموزارت، وهو يتمتم بالألحان الأولى من هذه المقطوعة ، مبدياً أسفه وحزنه على انه لم يؤلّف مثل هذه الموسيقى الرائعة لأنها أصبحت أكثر شهرةً من جميع أعماله.
    وطوال القرن العشرين، أصبحت المقطوعة أيقونة من ايقونات الموسيقى الكلاسيكية. وبسبب انتشارها الكبير والعناصر الموسيقية المتنوّعة التي تتضمّنها من أنغام ونسيج وهارموني، رأى بعض النقّاد أنها يمكن أن تكون بداية لاجتذاب الأجيال الجديدة إلى الموسيقى الكلاسيكية.
    في العصر الكلاسيكيّ، كانت المينيويت بالذات، أو المينيويتو، احد أكثر أشكال الرقص شعبية، كان فيها نبل وجمال وسحر. وكانت تُؤدّى في القصور وأحيانا كانت تُؤلّف للسخرية من الفلاحين.
    وأكثر مينيوهات هايدن، أستاذ موزارت، التي ألّفها لبلاط عائلة استراهازي كانت تتضمّن إيقاعات ريفية. موزارت نفسه كان يرى فيها بساطة وجمالا في الوقت نفسه.
    السيرينيد أو المعزوفة الليليّة سُمّيت بهذا الاسم لأنها في الأساس خفيفة وناعمة ومسلّية. وكثيرا ما كانت تُعزف لتسلية النبلاء وضيوف القصر أثناء تناولهم الطعام.
    موسيقى موزارت نفسها لا تبدو مكتملة من دون هذه المقطوعة. وما من شكّ في أن الحركة الأولى منها هي الأشهر. لكن عندما تألف سماع الرومانزا والمينيوتو والروندو فتستمتع بها كلّها، بقدر استمتاعك بالحركة الافتتاحية.

    Credits
    blog.mcdaniel.edu

    الثلاثاء، مارس 21، 2017

    موسيقى لودوفيكو اينودي


    المؤلّف الموسيقيّ الايطاليّ لودوفيكو اينودي يبدو منشغلا بتأمّل قطرات الندى على بتلات زهرة أو بمراقبة النجوم وحركة الغيم فوق جبل، أو هذا على الأقلّ ما توحي به أجواء بعض معزوفاته.
    اينودي، كما يقول احد النقّاد، يخلق موسيقى تذكّر بلوحات توماس كينكيد: فانتازيا بعيدة ومنفصلة عن الواقع وليس لها علاقة بالطريقة التي نعيش بها حياتنا".
    لكن نقّادا آخرين يرون بأن جمال موسيقى اينودي كامن فيها وأيضا في حقيقة أنها منفصلة عن الواقع ولا تعبّر عن مشاكل الحياة.
    في احد الفيديوهات على اليوتيوب، وبعدد مشاهدين يزيدون على الثلاثة ملايين، يظهر اينودي وهو يعزف على البيانو وسط ثلوج القارّة القطبية.
    الموسيقى التي يؤدّيها عنوانها "مرثيّة للقارّة القطبية"، وقد كلّفته بتصويرها جماعة السلام الأخضر، والغرض من التصوير في ذلك المكان هو جذب الاهتمام العالميّ إلى مشكلة الانبعاث الحراريّ.
    يقول اينودي واصفا تلك التجربة: كان الجوّ باردا جدّا، ورغم أنني كنت أرتدي طبقات متعدّدة من الملابس بالإضافة إلى سترة للنجاة، إلا أنني وأثناء التصوير كنت اضطرّ للتوقّف عن العزف كلّ بضع دقائق لأدفيء يديّ".
    ويضيف: استمتعت بالعزف هناك، مع أن الطقس المتجمّد لم يكن مثاليّا. كانت مفاتيح البيانو باردة جدّا. لكن من الرائع أن تكون هناك لوحدك بينما الثلوج تتساقط من حولك والأنهار الجليدية تذوب بالقرب منك. كان الأمر أشبه ما يكون بأن تعزف لحنا للسماء".
    وعمّا إذا كان يعتبر موسيقاه جسرا لنوع جديد من الموسيقى الكلاسيكية يقول اينودي: فكرة الجسر أو عبور الحدود مثيرة للاهتمام في الفنون. سترافنسكي تجاوز الحدود، كان يتبنّى الموسيقى الفولكلورية الروسية. وموزارت كان يعمل في مسرح ويكتب أغانيه لشركة تشبه السيرك تقريبا. وفي تلك الشركة كتب الناي السحري".
    ويضيف: موسيقاي تأتي من خلفيّتي الموسيقية. عندما أؤلّف ابحث عن نفسي، أستفيد من ذكرياتي ومن تجاربي ومن حياتي وعليّ أن أشعر بذلك. لا أفكّر في كسر الحواجز، لكن بطريقة ما وبعد أن أؤلّف قطعة، استطيع أن احلّلها وأتعرّف على الأشياء وأتحدّث عن شيء ما يأتي من داخلي".
    عمر اينودي اثنان وستّون عاما، وهو احد أكثر الموسيقيين شعبيةً في العالم اليوم. متابعوه على موقع سبوتيفاي أكثر من متابعي موزارت وبيتهوفن.
    وموسيقاه يمكن وصفها بأنها تقليلية، كما أن فيها حداثة وتسامياً. لكنه لا يحبّ تصنيف موسيقاه. "التصنيفات مقيّدة إلى حدّ ما. أنواع الموسيقى، الألوان التي تثيرها تختلف من شخص لآخر. ونفس الشيء ينطبق على بيتهوفن وموزارت. كانا يعبّران عن اتجاهين مختلفين تماما من الموسيقى. وإذا سألتني اليوم ما إذا كانت موسيقاي تقليلية أو كلاسيكية أو معاصرة، فإنني أجيب بنعم أو لا، لكن هذا في النهاية لا يفسّر عملي".
    والد اينودي، واسمه جيوليو، كان صاحب دار نشر مشهورة في ايطاليا وكان جزءا لا يتجزّأ من حلقات اليسار الايطالي، وكان على علاقة مع كتّاب مثل ايتالو كالفينو وبريمو ليفي. أما جدّه لويجي اينودي فقد كان رئيسا لإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية.
    ألبوم اينودي الموسوم "العناصر" احتلّ قائمة الموسيقى الأكثر مبيعا في عدّة بلدان من العالم. وكان محصّلة ساعات طويلة قضاها الموسيقيّ في مكتبات ايطاليا وقرأ خلالها الفلسفة اليونانية وكاندنسكي. كما قرأ عن لوحات بول كلي وغوستاف كليمت وعن هندسة اقليدس ومسألة الصوت واللون.
    و"العناصر" هو محاولة المؤلّف للعثور على خطوط متوازنة بين ما يبدو وكأنه مزيج مشوّش من الصور والأفكار والمشاعر، ثم البحث عن خيط مشترك يربط كلّ الأشياء في هذا العالم بحيث تتشارك وتتناغم وتتفاعل مع بعضها البعض. "كنت أحاول تبيّن حدود جديدة بين ما كنت اعرفه وبين عالم اعرفه ولطالما حاولت استكشافه أكثر، كقصص الخلق ونظريات الهندسة ونموّ العشب البريّ فوق مرج وأشكال الطبيعة المختلفة".
    ألبوم "العناصر" يأخذ إلهامه من عناصر الطبيعة، حيث تبدأ كلّ معزوفة من حركة أو موتيف بسيط لتستثير رحلة عبر أفكار ومشاعر متباينة. والمؤلّف يجمع بين كلّ عناصر الطبيعة والعلم والهندسة والموسيقى معا ليخرج بمفهوم واحد.
    المعزوفات تثير بعض الحزن أحيانا، لكن فيها مسارات تضجّ بالتفاؤل. وقد اختار اينودي لها عناوين شاعرية وموحية، مثل الليل ، قطرة، أربعة أبعاد، دوّامات هوائية، العناصر ، الجبل .
    يقول اينودي مفسّرا سرّ انجذاب الشباب لموسيقاه رغم طابعها الكلاسيكيّ: قد يكون السبب أنني ضمّنت أعمالي نفس مشاعر السرور والفقد والرغبة والإحباط التي يمكن أن تجدها في معظم الأغاني الشعبية. هذه هي الموسيقى التي تتواصل مع مشاعر الناس هذه الأيّام أكثر من الموسيقى الكلاسيكية. ثم لا تنسَ القيمة التأمّلية في موسيقاي والتي يمكن أن يتناغم معها الشباب.

    Credits
    ludovicoeinaudi.com

    الأربعاء، نوفمبر 04، 2015

    عش حياتك

    هذا كتاب جميل ورشيق ويتضمّن الكثير من المتعة والفائدة. وفيه تسرد الكاتبة سيندي هاينز جملة من النصائح والإرشادات عن كيف تعيش حياة أكثر سعادة واطمئنانا. بعض من هذه النصائح مثيرة للتأمّل والاهتمام فعلا. هنا بعضها..

  • لا تستمع أبدا إلى الذين يؤنّبونك قائلين: ألم اقل لك هذا؟
  • إقرأ أعمال وكتابات هنري ديفيد ثورو في الليالي التي تكون فيها وحيدا.
  • قابل من يسيئون إليك ويجرحون مشاعرك بالحبّ والإحسان.
  • إبحث عن نجمة لامعة في السماء، وتمنّ أمنية كلّ ليلة وأنت تنظر إليها قبل أن تذهب إلى النوم.
  • بين وقت وآخر، قم بزيارة المرضى في إحدى دور المسنّين أو الأطفال المعاقين. هذا سيجعلك تنسى أحزانك.
  • تجنّب مخالطة الأشخاص سيّئي النوايا أو الذين لا يتحلّون بأخلاق كريمة أو الذين ليسوا مثلك في الطباع. أنت تستحقّ معاملة أفضل.
  • تخيّل وكأنك ترى العالم لأوّل مرّة.
  • ضع قائمة تضمّ أسماء كلّ من تشكو منهم. والآن اصفح عنهم جميعا.
  • إذهب في زيارة إلى إحدى مناطق الطبيعة، واعلم انك ستجد الكثير من المرح في الحياة الريفية البسيطة، وربّما تحتاج لأن تجعل حياتك أكثر بساطة وانسيابية.
  • عندما تكون في مكان عملك، حاول أن تبتعد عن جلسات النميمة والغيبة التي تضرّ ولا تنفع.
  • من وقت لآخر، إقض ليلة في نزل ريفيّ هادئ كي تنعم ببعض الخصوصية وتستمتع فيه بوقتك.
  • عندما تشعر بالحزن، إجعل الإضاءة في غرفتك جيّدة حتى تجعل الأشياء المحيطة بك تبدو مبهجة.
  • إقضِ ليلة في البيت الذي ولدت فيه وقضيت فيه طفولتك واستمتع بمشاعر الدفء التي تهبّ عليك نسماتها من شذى الماضي.
  • نحن مجرّد بشر، فلا تتوقّع أن تكون شخصا كاملا أو أن تعيش حياة مثالية.
  • لا تحاول اقتناء أشياء كثيرة لا فائدة منها حتى تخلق لنفسك بيئة أكثر هدوءا.
  • سامح أيّ شخص اخطأ في حقّك مهما كان حجم هذا الخطأ. الواقع أنه كلّما كان الخطأ كبيرا، كلّما زاد احتياجك إلى العفو عنه.
  • إقض يوما وكأنك سائح في بلدك وشاهد كلّ معالمها بعين السائح الحريص.
  • إلتزم بالميزانية التي وضعتها لنفسك ولا تنفق أكثر منها لأن ذلك سيضعك في مشاكل مالية أنت في غنى عنها.
  • إذهب هذا المساء إلى المتنزّه وقم بإطعام الطيور. أنت لا تعرف كم تُشعرك مثل هذه الأشياء البسيطة بالراحة وتدخل على قلبك السرور.
  • تظاهر بأن كلّ شيء في حياتك على ما يُرام، فمع الوقت سيصبح ما تتظاهر به حقيقة.

  • الموسيقى علاج فعّال للإرهاق والاكتئاب والتوتّر. من وقت لآخر إستمع إلى قطعة موسيقية لأحد هؤلاء الموسيقيين العظام: موزارت، تشايكوفسكي، كوبلاند، سترافنسكي أو باخ.
  • قم بزيارة إحدى المقابر لتدرك أن هؤلاء الذين في القبور هم الوحيدون في هذا العالم الذين بلا مشاكل.
  • في الليالي شديدة البرودة التي تشعر فيها بالوحدة، قم بإضاءة بعض الشموع الفوّاحة وتدثّر بلحاف رائع التطريز والنقوش لتضيف لمسة دافئة إلى منزلك.
  • إذهب إلى المعارض الفنّية وإلى المتاحف فإن ذلك سيسرّ عينك وروحك معا. ولا تنسَ أن تشتري لوحة فنّية تحبّها ويلامس مرآها مشاعرك وضعها في المكان الذي تجلس فيه غالبا في البيت.
  • إعلم انه قد يأتينا من وراء الشعور بالألم أعظم ما في الحياة من نِعَم.
  • إن كنت لا تحبّ الحيوانات الأليفة ولا تتحمّل تربية قطّة أو كلب في بيتك، فاذهب إلى محلّ لبيع اسماك الزينة واشترِ منه بضع سمكات ذهبية وضعها في حوض لتكون أنيسك في المنزل.
  • امض خمس عشرة دقيقة يوميّا في تعلّم لغة أجنبية طالما تمنّيت أن تتقنها.
  • إبحث عن قوس قزح في كلّ مكان تذهب إليه بعد هدوء العاصفة.
  • قم بزيارة احد الأماكن الأثرية وحاول أن تتعلّم من أحداث الماضي.
  • جرّب يوما أن تؤلّف موسيقى بينك وبين نفسك، فمن يدري قد يأتي اليوم الذي تصبح فيه موسيقيّا عظيما.
  • تنزّه على شاطئ جميل وانسَ نفسك وتوحّد مع روعة المنظر.
  • إملأ إبريقا كبيرا بالأزهار الطبيعية وضعه بجوار فراشك. لا شيء أجمل من أن تستيقظ على عبيرها الفوّاح.
  • إقض على الأقل ثلاثين دقيقة يوميّا خارج المنزل في الهواء الطلق.
  • إجعل من نفسك شخصا لا يمكن الاستغناء عنه بالنسبة لشخص آخر في هذا العالم.
  • من وقت لآخر، إذهب إلى فندق أو منتجع مترف. نعم، بإمكانك أن تهرب من مشاكلك في بعض الأحيان بهذه الطريقة.
  • إن كان منزلك مليئا بالذكريات المؤلمة، فلتفكّر جدّيا في الرحيل عنه.
  • من وقت لآخر، تسلّق شجرة وستشعر حينها انك عدت إلى زمن الطفولة.
  • اكتب قائمة بكلّ صفاتك الحسنة. لا تكن متواضعا واكتب كلّ شيء تراه حسنا في نفسك، لأن ذلك سيزيد من تقديرك لنفسك ومن شعورك بالثقة.
  • كفّ عن محاولة قراءة أفكار الآخرين واسألهم مباشرة عمّا يفكّرون أو يشعرون به.
  • انظر إلى النجوم في الليل واعلم أن مشاكلك ضئيلة للغاية مقارنة بهذا الكون الفسيح.
  • هل تحتاج أحيانا إلى أنيس مختلف؟ إذن اذهب إلى اقرب متجر للعب الأطفال واشترِ منه دمية كبيرة على شكل دبّ ثم ضعها على فراشك أو اجعلها معك دائما.
  • إذا كانت نشرات الأخبار المسائية لا تنقل سوى الأخبار التي تصيبك بالإحباط والغمّ فأغلق التلفزيون.
  • إعلم أن هناك الملايين في هذا العالم ممّن يتمنّون أن يكونوا في مكانك وأن لهم نفس ظروفك.
  • واجه المشاكل على أنها تحدّيات، وانظر إلى الأزمات على أنها فرص.
  • هناك شعار عظيم ينبغي أن تتبنّاه في حياتك من الآن فصاعدا، وهو: إذا كنت سأعيش الحياة فسوف أعيشها كما يحلو لي، لا كما يريد منّي الآخرون.
  • عندما تشعر بأنك بحاجة لأن تختلي بنفسك، ضع لافتة على باب غرفتك تقول: ذهب للصيد!
  • وأخيرا توقّف عن قراءة هذه النصائح الآن واذهب للتخطيط لما ستفعله مساء الغد.
  • السبت، أغسطس 15، 2015

    موزارت: القدّاس الجنائزي


    من أكثر أعمال الموسيقى الكلاسيكية شهرة وإثارة وغرابة القدّاس الجنائزي لموزارت. وأحد أهمّ الأسباب في كون هذا العمل مثيرا ومشهورا هو طبيعة القصص التي نُسجت حوله والتي يشبه بعضها الأساطير.
    وأنت تسمع قدّاس موزارت، يُخيّل إليك انك تمشي باتّجاه حفرة كبيرة. والحفرة تقع على الجانب الآخر من هاوية لا يمكن أن تراها إلا عندما تصل إلى حافّتها.
    موتك ينتظرك في هذا الجُبّ. وأنت لا تعرف هيئته ولا صوته ولا رائحته. أيضا أنت لا تعرف ما إذا كان جيّدا أو سيّئا. فقط تمشي باتجاهه.
    إرادتك عبارة عن آلة كلارينيت وخطى قدميك مجموعة من آلات الكمان. وكلّما اقتربت من الحفرة، كلّما ساورك إحساس بأن أمرا ما مرعبا ينتظرك هناك.
    ومع ذلك فأنت تمرّ بهذا الرعب كنوع من النعمة أو المنحة. مشيك الطويل ما كان ليكون له معنى لولا وجود هذه الحفرة في نهايته.
    وأنت تحدّق في الهاوية، تسمع فجأة ضوضاء أثيرية تتهشّم فوقك. في الحفرة ثمّة جوقة كبيرة. هذه الجوقة هي المُضيف السماويّ، وفي الوقت نفسه جيش الشيطان. وهي أيضا كلّ شخص أحدث فيك تغييرا أثناء حياتك على هذه الأرض: الأفراد الكثيرون الذين أحبّوك، عائلتك، أعداؤك، والنساء البلا اسم أو ملامح اللاتي نمن في فراشك، والمرأة التي كنت تعتقد انك ستتزوّجها، والمرأة التي تزوّجتها فعلا.
    وظيفة هذه الجوقة هي إصدار الحكم. الرجال يغنّون أوّلا، وحكمهم شديد للغاية. وعندما تنضمّ إليهم النساء، لا تكون هناك فترة راحة، فقط يتنامى النقاش بصوت أعلى وأكثر صرامة. إذن هو نقاش، تدرك ذلك الآن. الحكم لم يتقرّر حتى الآن. ومن المدهش كيف يتحوّل هذا الجَيَشان إلى صراع مثير على روحك التافهة.
    هكذا تصف زادي سميث قدّاس موزارت. لكن ما هي قصّة هذا العمل وكيف ظهر إلى الوجود؟
    في الواقع، قصّة القداس أشبه ما تكون برواية بوليسية تمتلئ فصولها بكلّ عناصر الغموض والتشويق والإثارة. ولنبدأ القصّة من أوّلها..
    في احد أيّام شهر يوليو من عام 1791، وهي السنة التي توفّي موزارت في نهايتها، حدث شيء غريب. فقد زاره في بيته وهو على فراش المرض شخص مجهول قدّم نفسه على انه مبعوث من الكونت فون والسيغ. ولم يكن لموزارت سابق معرفة لا بالكونت ولا بالشخص الذي أرسله.
    وأبلغ المبعوث موزارت بأن سيّده يريد تكليفه بتأليف قدّاس جنائزي يحيي به ذكرى زوجته المتوفّاة. ثمّ دفع الرجل نصف المبلغ مقدّما، وأصرّ على أن يظلّ اسمه واسم سيّده مجهولا.
    كان الكونت فون والسيغ شخصا غريب الأطوار. وقد دخل التاريخ كمحتال ولصّ. كان عازف حجرة هاويا، وكان من عادته أن يكلّف المؤلّفين سرّا بتأليف أعمال موسيقية ثمّ يستلمها وينسبها لنفسه.
    وقد دأب الرجل على إقامة حفلات موسيقية لأصدقائه في منزله كان يعزف خلالها تلك الأعمال المسروقة زاعما انه هو من ألّفها. وفي حالة موزارت أيضا، من الواضح أن الكونت كان يبحث عن شهرة ومجد موسيقيّ لا يستحقّهما عن طريق الادعاء بأن القدّاس من تأليفه.
    موزارت، من ناحيته، قبل التكليف. لكن زيارة ذلك الغريب أنهكت عقله وهدّت جسده الذي كان منهكا أصلا بسبب كثرة العمل والكحول، وأيضا بسبب المرض الغامض الذي سيقتله بعد أشهر.


    بدأ موزارت العمل على القدّاس. وفي الأثناء كانت تساوره الظنون بأن الزائر الغريب لم يكن سوى رسول أتى إليه من وراء القبر وأن الله هو من بعثه وأن الموسيقى ستكون من أجل موته.
    ولهذا كرّس كلّ طاقته لإنجاز العمل. ومن فترة لأخرى، كان ينصرف عنه ليعود للعمل على مؤلّفاته الأخرى. وعندما عاد إلى القدّاس ثانية كان قد أصبح مريضا جدّا. وحينما حضرته الوفاة في فيينا في الخامس من ديسمبر من نفس تلك السنة عن 35 عاما، لم يكن قد انتهى تماما من تأليف القدّاس.
    لكن بعد أيّام من وفاته، كانت أرملته كونستانزا حريصة على أن تحصل على بقيّة الأجر. ولذا قرّرت أن تعهد بالعمل سرّاً إلى عازف آخر كي ينجزه، على أن تسلّمه إلى الكونت كما لو أن موزارت نفسه هو الذي ألّفه بالكامل.
    ومن أوائل من فاتحتهم بالأمر المؤلّف الموسيقيّ جوزيف ايبلر الذي كتب أجزاءً منه قبل أن يعيده إلى كونستانزا. ثمّ سلّمته إلى فرانز سوسماير تلميذ موزارت وصديقه المقرّب الذي أضاف إليه وعدّل فيه بما يناسب طبيعته كـ قدّاس.
    سوسماير كتب الحركات الأربع الأخيرة من القدّاس بما فيها القطعة المسمّاة لاكريموزا، أي الحِداد (الأولى فوق). لكن طريقته في إعادة بناء العمل كثيرا ما تعرّضت للانتقاد، وقيل انه لم يجوّد عمله ولم يكن "موزارتيّاً" بما فيه الكفاية.
    في القدّاس أجزاء مظلمة وتضجّ بالحزن، وأحيانا بالثورة. لكن فيه أيضا أجزاءً مليئة بالسموّ والجمال. خذ مثلا المقطع المسمّى ريكوردير ، أو "تذكّر". الموسيقى هنا حميمة، رقيقة وذات جمال فتّاك. ثمّ إن هذا المقطع يمثّل الرؤية الوحيدة في القدّاس عن عالم لم يفسده الألم والحزن؛ لحظات عابرة من الصفاء لا تدوم طويلا. والحقيقة أن هناك غموضا فاتنا في هذا الموسيقى التي تحرّك الوجدان وتهزّ المشاعر بعمق.
    بموازاة قصّة موزارت مع الكونت، راجت أسطورة أخرى لا تقلّ إثارة. وقد بدأت هذه الأسطورة بعد وفاة موزارت بأربعين عاما، أي عام 1830، عندما كتب الشاعر الروسيّ الكسندر بوشكين دراما قصيرة بعنوان "موزارت وسالييري"، زعم فيها أن الأخير قام بتسميم موزارت عند إتمامه القدّاس. ثم تعزّزت القصّة أكثر عندما ألّف الموسيقيّ الروسيّ ريمسكي كورساكوف قطعة تتحدّث عن تلك المؤامرة المزعومة.
    في فيلم "اماديوس" للمخرج ميلوش فورمان، يظهر سالييري وهو يأخذ القدّاس من موزارت وينسبه لنفسه. وسالييري يُصوّر في الفيلم كشخص نذل وحاقد وحسود يسعى لإبعاد موزارت عن الرعاة والجمهور قبل أن يقوم بقتله بالسمّ.
    أما موزارت فيظهر في الفيلم كشخص غير ناضج ومجنون ومهووس بالجنس والشراب. وهذه الأوصاف في الحقيقة ليست بلا أساس. فموزارت كان، من عدّة وجوه، يشبه الطفل في تصرّفاته، تماما كما هو الحال مع معظم العباقرة.
    طبعا اليوم ليس هناك سوى عدد قليل ممّن يؤمنون بنظرية المؤامرة والسم. صحيح أن ثمّة من يقول إن سالييري اعترف بالجريمة، لكن هذا حدث بعد أن أصبح شيخا هرِما وبعد أن أصابه الخرف بعد محاولة انتحار. غير أن المقرّبين منه ظلّوا ينكرون تماما انه صدر منه مثل ذلك الاعتراف.
    وعلى الأرجح فإن موزارت مات متأثّرا بإصابته بمرض مُعدٍ بعد أن أنهك جسده لأشهر بسبب إسرافه في الكحول ومعاناته من مرض السيفلس.

    Credits
    classicalnotes.net
    baroque.org

    الجمعة، أبريل 03، 2015

    محطّات

    قطار إلى لشبونة


    ترى هل ساورك يوما شعور مفاجئ بالحاجة لأن تتخلّى عن حياتك السابقة وراء ظهرك وتبدأ حياة جديدة ومختلفة؟
    ما يحدث في كثير من الأحيان هو أن حادثة واحدة وغير متوقّعة يمكنها أن تساعدنا على أن نقهر خوفنا الغريزي من المجهول ونبدأ حياة واعدة ومثمرة وتستحقّ أن تُعاش.
    هذه هي الفكرة التي تتمحور حولها رواية قطار ليلي إلى لشبونة للفيلسوف والكاتب السويسري باسكال ميرسييه التي أصبحت احد أكثر الكتب مبيعاً بعد ترجمتها من الألمانية للانجليزية، ثمّ بعد أن تحوّلت إلى فيلم سينمائي قبل حوالي سنتين.
    في الرواية يحكي المؤلّف عن رحلات مدرّس أدب كلاسيكي سويسري يُدعى ريمون غريغوريوس الذي يحاول استكشاف حياة طبيب برتغالي يدعى اماديو دي برادو أثناء حكم سالازار للبرتغال.
    برادو نفسه ليس طبيبا فحسب، بل يمكن أيضا اعتباره مفكّرا ومهتمّا بالأدب. كما انه دائم التأمّل في أحوال العالم وفي التجارب الإنسانية. والقارئ يلمس عقليّته المتوقدة من خلال سلسلة من الملاحظات المكتوبة التي يحاول فيها استكشاف مدى وعي وقدرة الإنسان على اكتشاف ذاته وقدرة اللغة على تشكيل وتفكيك تجارب البشر ورغباتهم وهويّاتهم.
    في ما يلي بعض ملاحظات برادو التي يجمعها ويقرؤها غريغوريوس في ثنايا هذه الرواية..
  • نترك شيئا من أنفسنا خلفنا عندما نغادر مكانا ما. إننا نمكث هناك حتى وان كنّا قد ذهبنا. وفي دواخلنا أشياء لا يمكن أن نجدها مرّة أخرى إلا عندما نعود إلى هناك؛ إلى نفس المكان.
  • أهرب عندما يبدأ شخص ما يفهمني. لا أريد لأحد أن يفهمني بالكامل. أريد أن أعيش حياتي غير معروف. عمى الآخرين هو بالنسبة إليّ سلامتي وحرّيتي.
  • عندما نتكلّم عن أنفسنا وعن الآخرين أو عن أيّ شيء، فإننا نكشف عن أنفسنا في كلماتنا. إننا نريد أن نُظهر ما نفكّر فيه وما نشعر به. وبذا نوفّر للآخرين فرصة لأن يُلقوا نظرة إلى داخل أرواحنا.
  • من الحكمة أن نبدأ في تحقيق الأمنيات الصغيرة التي طالما حلمنا بها، وأن نُصلح خطأ الاعتقاد بأنه سيتوفّر لدينا وقت في المستقبل لتحقيقها. قم بالرحلة التي طالما حلمت بالقيام بها، تعلّم لغة ما، إقرأ تلك الكتب، اشترِ هذه القطعة من المجوهرات، إقضِ ليلة في ذلك الفندق المشهور. لا تمنّ على نفسك بتحقيق هذه الأشياء الصغيرة. الأشياء الأكبر هي جزء من ذلك: تخلّ عن الوظيفة المملّة، اخرج من تلك البيئة الكريهة، إفعل شيئا يجعلك تبدو على حقيقتك أكثر ويجعلك اقرب إلى نفسك.
  • الخوف من الموت يمكن أن يوصف أحيانا بأنه خوف الإنسان من أن لا يكون قادرا على أن يكون الشخص الذي كان يخطّط لأن يكونه.
  • كيف سيكون عليه الحال بعد الجملة الأخيرة؟ كان دائما يخاف من آخر جملة. وابتداءً من منتصف أيّ كتاب، كان يتعذّب دائما من فكرة انه لا بدّ، ومن المحتّم، أن تكون هناك جملة أخيرة.
  • أشعر بالحزن على الأشخاص الذين لا يسافرون. عدم قدرة الإنسان على أن يتوسّع نحو الخارج يُفقده القدرة على أن يتوسّع إلى الداخل أيضا. والإنسان الذي لا يسافر محروم من إمكانية التنزّه داخل نفسه واكتشاف من هو وما الذي يمكن له أيضا أن يحقّقه.
  • حياتنا عبارة عن أنهار تتهادى منحدرة باتّجاه ذلك البحر اللانهائي الذي لا يمكن سبر غوره: القبر الصامت.
  • الشعور ليس هو نفس الشعور عندما يأتي في المرّة الثانية. إنه يموت أثناء وعينا بعودته. إننا نتعب ونملّ من مشاعرنا عندما تأتي بشكل متكرّر وتبقى معنا أطول ممّا ينبغي.
  • ❉ ❉ ❉

    بريولوف وملهمته


    كانت الكونتيسة يوليا سامويلوفا ملهمة الرسّام الروسي كارل بريولوف . كانا مرتبطين بقصّة حبّ، وقد رسم لها العديد من اللوحات من بينها هذه اللوحة التي تظهر فيها وهي تمتطي حصانا برفقة ابنتها.
    كانت سامويلوفا تنتمي إلى المجتمع البورجوازي، وكان والدها جنرالا يمتّ بصلة قرابة من بعيد لكاثرين العظيمة.
    وقد تزوّجت من احد الأمراء. لكن الزواج لم يستمرّ طويلا، وراجت العديد من التكهّنات عن أسباب الطلاق، منها أن يوليا كانت تتخذ لنفسها عشّاقا كثيرين.
    كان منزلها مقصدا لعشرات الزوّار والأشخاص المهمّين الذين كانت تقدّم لهم الأطعمة والمشروبات بسخاء. وربّما كان كرم الضيافة عندها يتجاوز أحيانا الحدود المتعارف عليها.
    انتقلت الكونتيسة يوليا سامويلوفا إلى ايطاليا بعد أن تركت عاصمة روسيا. وفي إثرها سار عدد من الشائعات وأحاديث النميمة. وفي ميلانو، أصبح الرسّام كارل بريولوف من بين من يتردّدون على قصرها.
    وقد لاحظ الناس التغيير الذي طرأ على سلوكها. فقد أصبحت تُعامل الرسّام كما لو انه قدّيس. وكان هو قريبا جدّا منها وكانت معجبة بفنّه. كتبت له ذات مرّة تقول: لا احد في هذا العالم معجب بك ويحبّك بمثل ما أنا معجبة بك ومحبّة لك. احبّك أكثر ممّا استطيع قوله. وسأظلّ احبّك إلى أن يواريني القبر".
    ولم تكن سامويلوفا وبريولوف يخفيان عن الناس علاقتهما الحميمة. لكن حبّهما كان غريبا، إذ لم تكن تخالطه غيرة. كانت تصله رسائلها حتى عندما يكون بعيدا عنها. "اخبرني أين أنت الآن، ومن تحبّ أكثر: يوليا أم الأخرى"؟ كتبت له ذات مرّة.
    ملامح الكونتيسة تظهر مثل الهاجس في العديد من لوحات بريولوف. في لوحته المشهورة آخر أيّام بومبي ، منح وجهها لامرأتين، ثم رسم نفسه كرجل وسيم وأشقر الشعر يحاول الاختباء من حمم النار المنهمرة بوضع كرّاس على رأسه. حتى رسوماته الأخرى تحتوي على وجوه تشبه وجه ملهمته الأسطورية يوليا.
    علاقة يوليا سامويلوفا وكارل بريولوف انتهت فجأة ولأسباب غير معروفة. وقد تزوّجت بعده أربع مرّات، كان آخرها عند بلوغها سنّ الستّين. ومع ذلك لم تذق في أيّ من زيجاتها الأربع طعم السعادة. كما لم تعد إلى روسيا بعد ذلك أبدا، واستمرّت تقيم في باريس إلى حين وفاتها في العام 1875م.

    ❉ ❉ ❉

    استراحة موسيقية


  • لم أكن اعرف هذه المقطوعة من قبل. لكن لأنني استمعت لها مرارا مؤخّرا واستمتعت بها، وجدت أنه قد يكون من المفيد أن أضعها هنا. سوناتا الكمان رقم 378 مقطوعة تأمّلية كتبها موزارت في عام 1779 وأهداها إلى تلميذته جوزيفا فون اورنهامر مجاملة لأبيها الثريّ.
    ومع أن هذه السوناتا ليست من بين أشهر ما كتبه موزارت، إلا أنها وُصفت في وقتها بأنها فريدة من نوعها وغنيّة بالأفكار الجادّة وبالشواهد التي تؤكّد العبقرية الموسيقية لصاحبها.


  • من أشهر مؤلّفات موزارت الأخرى كونشيرتو الكمان رقم 3 والمؤلّف من ثلاث حركات. وقد كتب هذا الكونشيرتو عام 1775 وعمره لم يكن قد تجاوز التاسعة عشرة.
    وكان موزارت يسمّيه كونشيرتو ستراسبورغ، لأنه استخدم في الحركة الثالثة منه جزءا من رقصة كانت تشتهر بها هذه المدينة.
    موزارت ألّف خلال حياته القصيرة خمسة كونشيرتوهات للكمان. ويقال، مع أن هذا ليس مؤكّدا، انه ألّفها جميعا في نفس تلك السنة. غير أن هذا الكونشيرتو ظلّ هو الأكثر شعبية من بين الكونشيرتوهات الخمسة بسبب جمال وبساطة أنغامه.
  • ❉ ❉ ❉

    دراما كونية


    من الحقائق العلمية التي باتت مؤكّدة اليوم أن الكون في حالة تمدّد دائم ومستمرّ. العالِم الفلكيّ ادوين هابل قاس تمدّد الكون ووجد أن المجرّات تندفع بعيدا عنّا بمعدّل 74 كيلومتر في الثانية كل ميغا بارسيك. والميغا بارسيك يساوي أكثر من ثلاثة ملايين سنة ضوئية.
    لكن إذا كان الكون يتمدّد فعلا، فلماذا تبدو مجرّتنا درب التبّانة على مسار تصادمي مع مجرّة اندروميدا؟ أليس من المنطقي أن تتراجع المجرّتان معا إلى الوراء بنفس تلك الوتيرة من السرعة الهائلة؟!
    من السهل تصوّر أن المجرّات تتحرّك بعيدا عن بعضها البعض. لكن الدلائل على الاصطدامات بين تلك العوالم الهائلة والعملاقة تملأ أرجاء الكون، ما يعني أن المجرّات تتحرّك بعيدا وترتطم ببعضها البعض، وهذا يحدث كثيرا وبوتيرة اكبر مما نظنّ.
    المجرّة التي تُعتبر جارتنا القريبة، أي اندروميدا، تتحرّك باتجاه مجرّتنا درب التبّانة بمعدّل حوالي 250 ألف ميل في الساعة، وهي سرعة تكفي لأن تنقلك إلى القمر في ظرف ساعة واحدة فقط.
    والفضل في ذلك هو لجاذبية المادّة المظلمة التي تحيط بالمجرّتين وتشدّهما إلى بعضهما بشكل وثيق، لدرجة أنهما يقاومان تمدّد الكون، وبدلا من ذلك تنجذبان إلى بعضهما البعض.
    وعندما يحدث الاصطدام الرهيب والمحتّم بينهما، وهو أمر لا يُحتمل أن يشهده البشر، فإنهما سيخلقان مجرّة واحدة بيضاوية الشكل، بينما سيتسبّب الاندماج بينهما في انفجار هائل يؤدّي إلى تشكّل نجوم وثقوب سوداء بالغة الضخامة تأخذ مكانها في قلب المجرّتين.
    واندماج المجرّتين لن ينتهي هنا. فتوأم اندروميدا أو مجرّتها الجارة المسمّاة ترايانغولوم "أو المثلّث"، والتي تتّصل مع المجرّتين بالمادّة المظلمة، سوف تنضمّ هي أيضا إلى الاصطدام، وسيتطلّب الأمر بليوني سنة أخرى لكي تندمج مع "ميلكوميدا" بشكل كامل.
    مجرّة درب التبّانة مساحتها مائة ألف سنة ضوئية. ومع ذلك يمكن أن تضع خمسين درب تبّانة داخل المجرّة المسمّاة IC 1101، وهي أكبر مجرّة اكتُشفت حتى الآن.
    أما اندروميدا، الأقرب إلى مجرّتنا، فتقع على بعد مليونين ونصف المليون سنة ضوئية فقط. في وسط هذه المجرّة، يوجد ثقب أسود ضخم يشبه مكنسة كهربائية هائلة. وهذا الثقب قويّ جدّا لدرجة أنه حتى الضوء لا يمكنه الإفلات منه.
    وفي عام 2005، اقترب تلسكوب الفضاء هابل من اندروميدا والتقط صورا مكبّرة لمركزها كشفت عن وجود قرص أزرق على شكل فطيرة يدور بالقرب من الثقب الأسود. وأظهر مزيد من التحليل أن هذا لم يكن مجرّد غبار ساخن، بل كان وهجا قادما من ملايين النجوم الزرقاء الفتيّة.
    وهذه النجوم تدور حول الثقب الأسود بسرعة تصل إلى أكثر من مليوني ميل في الساعة. وهي سرعة تكفي لإكمال الدوران حول الأرض في أربعين ثانية فقط.
    المجرّات عوالم رائعة وجميلة. لكنها أحيانا تتصرّف مثل أكلة اللحوم فيفترس بعضها بعضا بطريقة متوحّشة. والمجرّات الضخمة الحجم، مثل مجرّتنا، ما تزال تلتهم مجرّات اصغر حجما وتهضمها فتزداد ضخامة واتّساعا.

    ❉ ❉ ❉

    لوحة كاملة


    يمكن القول أن هذه اللوحة محكمة في كلّ شيء. وقد رُسمت ببراعة ولُوّنت بأفضل طريقة. إنها لوحة رائعة وبلا عيوب، من حيث نوعية الطلاء وعمل الفرشاة والتناغم الرائع بين الألوان والتفاصيل والتعبيرات على الوجوه.
    بعض النقّاد يقولون إن من الصعب الحكم على الرسّام من خلال قياس اللوحة أو حجمها. وهذه اللوحة ضخمة وتستحقّ أن يشاد بنجاح الرسّام في تنفيذها، إذ عندما يُرسم كلّ شيء بنجاح مذهل فإن ذلك يُعتبر انجازا في حدّ ذاته.
    صحيح أن لـ يواكين سورويا لوحات أخرى جميلة كثيرة، لكن لا يمكن مقارنة لوحته هذه بأيّ شيء آخر. وقد رسمها في سنواته المبكّرة عندما كان تأثير مواطنه فيلاسكيز عليه واضحا.
    اسم اللوحة إصلاح الشراع ، وقد رُسمت في حديقة منزل. وفيها يظهر جماعة من صيّادي السمك وهم يخيطون مع بضع نساء شراع سفينة في ضوء شمس البحر المتوسّط التي تتغلغل أشعّتها من بين أغصان الشجر.
    شارك سورويا بهذه اللوحة في عدّة معارض دولية، ففاز عليها بالميدالية الذهبية الأولى في معرضين، واحد أقيم في ميونيخ والثاني في فيينا.
    في بداياته، سافر سورويا في بعثة دراسية إلى ايطاليا، وقضى وقتا في روما حيث أتقن تدريبه الأكاديمي، كما عرّف نفسه بأعمال الرسّامين القدامى والمعاصرين.
    وقد سمحت له تلك البعثة أيضا بزيارة باريس، حيث تعرّف على الرسم الأكاديمي الواقعي الذي ألهمه رسم المواضيع الاجتماعية.
    لوحة إصلاح الشراع، جسّد فيها سورويا آثار ضوء الشمس الذي أصبح علامة فارقة على فنّه. وهناك لوحة أخرى له تشبه هذه اللوحة هي العودة من الصيد ، وهي لوحة عظيمة أيضا في تصويرها وفي تنفيذها.

    Credits
    bookforum.com
    britannica.com
    universetoday.com

    الأربعاء، مايو 07، 2014

    محطّات

    الرجل في البحر

    إذا كان الناس قد نسوا اليوم فيرجيني ديمونت بريتون، فلا شكّ أن هناك من المهتمّين بالرسم من يتذكّر لوحتها المسمّاة "الرجل في البحر". وربّما لولا استنساخ فان غوخ لهذه اللوحة لما عرفها الناس. وحتى عندما تكتب اسم اللوحة في محرّك غوغل الصوري دون ذكر اسم الرسّام، فإن نتيجة البحث ستحيلك في الغالب إلى نسخ من لوحة فان غوخ التي يقلّد فيها لوحة بريتون.
    ولدت الرسّامة فيرجيني بريتون في يوليو من عام 1859 وتتلمذت على يد والدها الرسّام الفرنسيّ المعروف جول بريتون (1827-1906). وقد عاشت الرسّامة طفولة ومراهقة ريفية وبسيطة. لكنها كانت منفتحة بشكل دائم على الفنّ والأدب.
    موهبتها الفنّية المبكّرة ازدهرت بتوجيهات والدها الذي كان يشجّعها على أن تركّز على دراسة الطبيعة وملاحظتها. وكانت ترسم مواضيع تاريخية ودينية ومشاهد من الحياة اليومية ومناظر للطبيعة. واشتهرت على وجه الخصوص برسوماتها عن حياة عائلات الصيّادين. كانت تتأمّل المآسي التي يسبّبها البحر، ورسمت معاناة الزوجات اللاتي ينتظرن عودة أزواجهنّ من البحر كما في هذا اللوحة.
    وقد نالت فيرجيني بريتون العديد من الجوائز والأوسمة على بعض أعمالها. وأصبحت في ما بعد رئيسة لاتحاد الرسّامات والنحّاتات في فرنسا.
    في الوقت الذي كان فيه فان غوخ يستنسخ لوحة بريتون هذه، كتب إلى أخيه ثيو يقول: أنا الآن أقوم باستنساخ صورة تلك المرأة مع طفلها وهما يجلسان إلى جوار مدفأة. السيّدة بريتون رسمتها بألوان بنفسجية بالكامل تقريبا. هذه اللوحة تصلح هديّة للأمّهات وللزوجات أو لأيّ شخص ينتظر بتوق عودة حبيب أو صديق. الهدوء الجميل والألوان الدافئة في هذه اللوحة تتناغم مع الألوان الباردة للملابس والخلفية. سأواصل النسخ بالتأكيد. وعندما تكتمل هذه المجموعة من اللوحات المستنسخة، سأقدّمها منحة لإحدى المدارس، وربّما أضمّ بعضها في النهاية إلى مجموعتي الخاصّة".

    ❉ ❉ ❉

    أرض بقمرين

    فكرة وجود قمرين للأرض فكرة قديمة ولطالما أسرت مخيّلة العلماء. وفي الآونة الأخيرة، عادت هذه الفكرة إلى الضوء من جديد.
    خصائص الجانب البعيد للقمر دفعت العديد من العلماء إلى الاعتقاد بأن قمرا آخر كان يدور حول الأرض لبضعة ملايين من السنين قبل ارتطامه بالقمر الحالي قبل 4 بلايين سنة ومن ثمّ تحوّله إلى جزء من كتلته.
    ويسوق هؤلاء دليلين يرون أنهما يدعمان هذه النظرية: الأوّل يتمثّل في المنظر الطبيعي الذي نراه على القمر والذي يُعتقد انه آثار أو بقايا القمر الأصغر التي نتجت عن ذلك الاصطدام. والثاني حقيقة أن جميع الكواكب، ما عدا الأرض، لها أكثر من قمر. وهذا الاستثناء يُعدّ، بنظر العلماء، أمرا غريبا ويحتاج إلى تفسير.
    ومنذ عام 2006، تتبّع علماء الفلك أقمارا ثانوية أصغر يجتذبها نظام القمر التابع لكوكبنا وتمكث لبضعة أشهر ثمّ ترحل.
    ولكن ماذا لو كان للأرض فعلا قمر ثان ودائم؟ كيف سيكون شكل الحياة على الأرض؟
    الفلكيّ والفيزيائيّ نيل كامنز يتعمّق في هذه الفكرة ويشير إلى بعض النتائج المثيرة للاهتمام.
    يقول كامنز إن نظامي الأرض والقمر عندنا فريدان من نوعهما في النظام الشمسي. فالقمر يشكّل نحو 1/81 من كتلة الأرض، في حين أن معظم الأقمار لا تشكّل سوى حوالي 3/10,000 من كتلة كواكبها.
    وحجم القمر عامل مساهم ورئيسيّ في الحياة المعقّدة على الأرض. فهو المسئول عن المدّ والجزر. كما انه السبب في أن طول اليوم على كوكبنا هو 24 ساعة. والقمر أيضا يمنح الضوء لمجموعة متنوّعة من أشكال الحياة التي تعيش وتصطاد أثناء الليل. وهو الذي يحافظ على ميلان محور كوكبنا بنفس الزاوية كي يعطينا دورة مستمرّة من الفصول.
    ويضيف: لو أن هناك قمرا ثانيا للأرض، ولنسمِّه "لُونا" مثلا "وهو اسم القمر باللاتينية"، ولنفترض أنه يقع في منتصف المسافة بين القمر الحالي والأرض، فإن القمر الثاني سيعيث في الأرض خرابا. جاذبيّته ستسحب الأرض بعنف، مما سيتسبّب في موجات سونامي ضخمة وزلازل عنيفة وزيادة كبيرة في النشاط البركاني. الرماد والموادّ الكيميائية ستمطر من السماء وستتسبّب في عملية انقراض جماعيّ على الأرض.
    ولكن بعد بضعة أسابيع، ستبدأ الأمور في الاستقرار. وبعد بعض الوقت سيصبح لـ "لونا" وجود ثابت وجميل في سماء الليل. وستتكيّف الأرض أيضا مع القمرين. لكن الحياة على الأرض بقمرين ستكون مختلفة. فمزيج ضوء الاثنين سيجعل الليل أكثر إشراقا. كما أن اختلاف فترتي مدارهما سيعني أن الأرض ستشهد عددا اقلّ من الليالي المظلمة.
    أيضا سيؤدّي هذا إلى ظهور أنواع مختلفة من الكائنات الليلية. فالحيوانات التي تصطاد بالليل سيكون من الأسهل عليها رؤية فرائسها المحتملة ليلا. لكن الفرائس ستطوّر آليات للتمويه بطرق أفضل. كما أن الحاجة إلى البقاء على قيد الحياة يمكن أن تؤدّي إلى ظهور سلالات من الحيوانات الليلية الأكثر دهاءً والأشدّ مكرا.
    وسيكون على البشر أن يتكيّفوا مع تحدّيات هذه الأرض التي أصبح لها قمران. فارتفاع المدّ الذي سيتسبّب به "لُونا" سيجعل العيش على الشواطئ يكاد يكون مستحيلا. وسيقاس الفرق بين المدّ والجزر العالي والمنخفض بآلاف الأقدام.
    ومع المدّ العالي والتآكل الأقوى، ستصبح المناطق الصالحة للسكنى على الأرض أصغر بكثير. بل إن قياس الوقت أيضا سيكون مختلفا. وسينتهي حساب الشهور الذي نعرفه ويظهر بدلا منه نظام جديد بأشهر كاملة وأشهر جزئية لاحتساب حركة كلّ من القمرين.
    لكن في نهاية المطاف، سيتراجع القمران عن الأرض ثمّ يصطدمان ببعضهما البعض. وسينهمر حطامهما كالمطر عبر الغلاف الجوّي للأرض، ما سيؤدّي إلى انقراض جماعي آخر.
    وفي نهاية الأمر، سيكون هناك قمر واحد يدور حول الأرض التي ستتهيّأ لحقبة جديدة من الحياة.
    وهذا هو نفس السيناريو الذي يتوقّع العلماء انه حدث فعلا على كوكب الأرض بعد الاصطدام الذي يُتخيّل انه حدث بين القمرين قبل بلايين السنين.

    ❉ ❉ ❉

    مسمار في السياج

    قرأت هذه الحكاية فأعجبتني وتوقّفت، بخاصّة، عند الدرس التربويّ والأخلاقيّ الرائع الذي تتضمّنه.
    القصّة تحكي عن صبيّ كان يعيش في إحدى القرى مع عائلته. وكان الصبيّ يتّصف بالنزق وسرعة الغضب. وذات يوم، أعطاه والده علبة مسامير وأخبره بأن عليه في كل مرّة يفقد فيها مزاجه أن يأخذ مطرقة ويدقّ بها مسمارا في الجزء الخلفي من سياج بيتهم.
    في اليوم الأوّل، ضرب الصبيّ 40 مسمارا في السياج. وطوال الأسابيع التالية، كان عدد المسامير التي يدقّها يتناقص باستمرار كلّ يوم. واكتشف الصبيّ أن من الأسهل له أن يسيطر على غضبه على أن يضرب المسامير في السياج.
    وأخيرا أتى اليوم الذي أصبح فيه مسيطرا تماما على غضبه. وأخبر والده بذلك، فسُرّ بالأمر كثيرا واقترح عليه أن يبدأ الآن بانتزاع المسامير من السياج واحدا واحدا عن كلّ يوم.
    ومرّت أيّام ثمّ اخبر الصبيّ والده في النهاية بأن المسامير أزيلت تماما. بعد ذلك اخذ الأب ابنه من يده وقاده إلى السياج. ثم قال له: لقد أنجزت عملا رائعا. لكن انظر إلى الفجوات التي خلّفتها المسامير على السياج. لن يعود السياج أبدا إلى حالته الأولى.
    وبالمثل، عندما تقول أشياء وأنت غاضب فإنها تترك آثارا وندوبا في نفوس الآخرين مثل هذه التي على السياج. يمكنك أن تُغمد سكّينا في جسد إنسان ثم تسحبها. ولكن لن يجدي أبدا أن تقول له "أنا متأسّف"، لأن الجرح سيظلّ هناك لفترة طويلة، وأحيانا إلى الأبد. وجرح اللسان في كثير من الأحيان أسوأ وأكثر فتكا من جرح الجسد.

    ❉ ❉ ❉

    ماندلسون

    هناك مؤلّفون موسيقيون قد لا ترتاح لسماع موسيقاهم كثيرا، وليس في أعمالهم عموما ما يسهل تذكّره. لكنّ هذا لا يمنع أحيانا من وجود مقطوعة واحدة على الأقلّ لهذا الموسيقيّ أو ذاك من النوع الذي يرسخ في الذهن بسهولة ويتذكّره الإنسان من وقت لآخر.
    من بين من ينطبق عليهم هذا الوصف، وهذه طبعا وجهة نظر شخصية، كلّ من بروكوفييف وسترافنسكي وماهلر وشوستاكوفيتش ورحمانينوف. معظم موسيقى هؤلاء جافّة ومملّة إلى حدّ ما وتكاد تخلو من العاطفة. على سبيل المثال، ما الذي يمكنك أن تتذكّره لماهلر غير هذه الحركة من سيمفونيته الخامسة، أو لرحمانينوف غير معزوفته المشهورة على البيانو بعنوان ارتجال على موضوع لـ باغانيني ، أو لشوستاكوفيتش غير مقطوعته القصيرة على الكمان بعنوان رومانس ، أو لسترافنسكي غير معزوفته طقوس الربيع . المعنى هو انك لن تعدم قطعة موسيقية أو اثنتين لكلّ واحد من هؤلاء تستحقّ أن تسمعها وتستمتع بها.
    ويمكن أن تضيف إلى هذه القائمة اسم فيلكس ماندلسون. كان ماندلسون موسيقيّا ألمانيّا. ولم يكن اهتمامه مقتصرا على التأليف الموسيقيّ، بل كان يمارس الرسم بالألوان المائية والزيتية. وبعض لوحاته المنشورة على الانترنت تعكس تمكّنا وخبرة واضحين في الرسم. وقد رسم أثناء حياته ما لا يقلّ عن 300 لوحة.
    في سيرة حياة هذا الموسيقيّ، نقرأ هذين السطرين: كان ماندلسون يُكنّى بموزارت القرن التاسع عشر وكانت رومانسيّته تتّسم بحبّه لباخ". لكن عندما تستمع لموسيقاه لا تجد فيها أيّ اثر لباخ أو موزارت. كما أنها تخلو من الجمل اللحنية السهلة التي تجد نفسك تردّدها في بعض الأوقات بطريقة عفوية ولا إرادية.
    لكن هذا لا ينطبق على احد ألحانه على وجه الخصوص، ولعلّه أشهر ما كتبه، وأعني بالتحديد كونشيرتو الكمان . موسيقى الحركة الأولى من هذا الكونشيرتو "الفيديو فوق" مألوفة جدّا، كما أنها جميلة ومبهجة ومن النوع الذي يصعب نسيانه. وربّما لهذا السبب اقتبسها الرحابنة ووظّفوها كلحن لإحدى أغاني المطربة هدى حدّاد .

    ❉ ❉ ❉

    المروحة في الفنّ

    هذه اللوحة الجميلة هي لرسّام ايطالي من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين يُدعى ادواردو توفانو . وفيها تظهر امرأة شابّة وهي تحمل بيدها مروحة. فكرة رسم امرأة مع مروحة كانت سائدة في تلك الفترة. وهناك عشرات اللوحات التي تناولت هذه الفكرة في ما بعد. ومن أشهر من رسموها كلّ من غوستاف كليمت وموديلياني وجيمس تيسو وبيرتا موريسو ومانيه والكسندر روزلين ورينوار وغيرهم.
    المعروف أن أوّل مروحة على هيئة ورقة نبات عثر عليها الاثاريون في الصين ويعود تاريخها إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد.
    وعبر العصور، كانت مراوح اليد تؤدّي وظيفة جمالية وفنّية، ثم أصبحت رمزا للطهارة أو القداسة. وهناك دليل على أن الإغريق والرومان استخدموا المراوح كأدوات لتلطيف الهواء. كما استخدموها في الاحتفالات الدينية وذلك لإبعاد الحشرات عن القرابين.
    ومن الأمم القديمة التي عرفت المراوح كجزء من الدين الفراعنة والآشوريون والفينيقيون. الرومان أيضا صنعوا مراوح من الخشب، والصينيون استخدموا في صنعها الريش. المراوح الصينية القابلة للطيّ احضرها إلى البرتغال ماركوبولو عبر طريق الحرير في القرن الرابع عشر، رغم أن شعبيّتها انخفضت خلال عصر النهضة.
    والمروحة يمكن أن تساوي الشيء الكثير. يقال مثلا أن مدام دي بومبادور كان عندها مروحة استغرق صنعها تسع سنوات وكلّفت حوالي ستّة آلاف جنيه استرليني. كانت مصنوعة من الورق المقطوع بطريقة فنّية كي يحاكي رباط الخصر. كما كان مرسوما عليها منمنمات.
    وتقول أسطورة انه في القرن السادس عشر كان عند دوقة مانتوا مروحة مزيّنة بالزمرّد النادر. وعندما كانت تحتاج إلى النقود كانت تقوم برهنها في احد البنوك.
    وفي ذلك الوقت راج نوع من المراوح لها أيد بجيب سرّي يخفي السمّ، وكان الطلب عليها كبيرا. وقد شهد القرن التاسع عشر زيادة في شعبية المراوح اليدوية. ولم تكن هناك طريقة لتُظهر المرأة ذوقها الفنّي أفضل من حمل مروحة رَسَمها ووقّع عليها فنّان مشهور.
    نساء القرن التاسع عشر استخدموا مراوحهنّ كوسيلة للتواصل مع المعجبين. وقد ظهرت مجموعة من الرموز أو الإشارات وكتاب دليل تمّ نشره ليترجم معاني حركات السيّدات اللاتي يحملن مراوح. فمثلا إذا ضربت امرأة نفسها بالمروحة بسرعة، فهذا يعني "أنا احبّك". أمّا إن ضربت نفسها ببطء فهذا يعني "أنا لا اهتمّ بك". أما إن وضعت المروحة على شفتيها، فالرسالة هي "أنا لا أثق بك". وإذا لوّحت بالمروحة بيدها اليسرى فهذا يعني "لا تغازلني".
    التغيّرات الاجتماعية في مطلع القرن العشرين عكست التغيّر في طريقة صنع واستخدام المراوح اليدوية. فقد أصبحت المراوح تصوّر الإعلانات بدلا من الأعمال الفنّية.
    وبينما كانت النساء يناضلن من اجل نيل حقوقهنّ، لم يعدن يرغبن في حمل أداة كان يرى فيها الكثيرون رمزا لضعف المرأة وسهولة انقيادها. كان المجتمع ينتقل بسرعة إلى عصر الحداثة. ثمّ وصلت المراوح الكهربائية. وشيئا فشيئا، اختفت من التداول، أو كادت، المراوح اليدوية التي كانت رمزا للفنّ والأناقة.

    Credits
    earthsky.org
    inspire21.com
    wikipedia.org

    الأربعاء، ديسمبر 18، 2013

    عصر الكمان

    طوال المائة عام الماضية، ظلّت مدرسة عازفي الكمان الروس تفرض سيطرتها على عالم الموسيقى. لكن منذ أوائل تسعينات القرن الماضي، ومع ظهور المزيد من عازفي الكمان الموهوبين والناضجين، تمّت تنحية الروس وإزاحتهم عن العرش. ومن يومها استولى عازفو الكمان الألمان من أمثال آنا زوفي موتار وفرانك بيتر زيمرمان وكريستيان تيتزلوف على عباءة الريادة واستمرّوا يحكمون مملكة الكمان في العالم طيلة ربع القرن الأخير.
    مكسيم فينغيروف ، وهو عازف كمان روسيّ والمنافس الحقيقيّ الوحيد لكلّ من موتار وزيمرمان وتيتزلوف، لم يعد أبدا للعزف بتفرّغ تامّ منذ سبعة أعوام عندما صرّح بأنه يعاني من الإرهاق نتيجة إصابة لحقت به وأصبحت تهدّد حياته المهنية. (شاهد هنا عزف فينغيروف الاعجازي للحركة الثانية من كونشيرتو الكمان الرابع لموزارت).
    موتار وزيمرمان وتيتزلوف هم جميعا عازفو كمان متمرّسون. والثلاثة بلا استثناء من بين أكثر الموسيقيين مكَنة وموهبة في هذا العصر. وهم على درجة من الإتقان والبراعة التي يفتقر إليها معظم عازفي الكمان الأحياء الآخرين.
    تيتزلوف قد يكون الأكثر ثقافة من بين هؤلاء الثلاثة سواءً بالمعنى الجيّد أو الرديء. فهو عازف صارم جدّا ويحسب الأمور بعناية ولا شيء ممّا يفعله غير مقصود أو غير مخطّط له إلى أقصى درجة. ونادرا ما تعتريه نوبات إلهام مثل تلك التي كثيرا ما تميّز أداء زميليه موتار وزيمرمان.
    وعندما يكون أداؤه دون المستوى، فإنه غالبا ما يُتّهم بالافتقار إلى العفوية والعاطفة. وفي السنوات القليلة الماضية، كانت هناك العديد من التحفّظات والانتقادات التي وُجّهت له بسبب طريقته في عزف بعض مقطوعات بيتهوفن. (تابع تيتزلوف هنا وهو يعزف إحدى مقطوعات يوهان برامز).
    وبالنسبة لعازف كمان ذي شهرة عالمية، فإن تيتزلوف يفتقر أيضا للصوت الفريد. فصوته "أو على الأصح صوت كمانه" ينقصه اللون والثراء. وهو أمر يعزوه البعض إلى استخدامه نوعا من الكمان الحديث الذي يكلّف ثلاثين ألف دولار أمريكي فقط.
    وتيتزلوف بالمناسبة هو عازف الكمان الوحيد على مستوى العالم الذي يعزف أمام الجمهور اليوم دون أن يستخدم آلة كمان مصنوعة في القرن السابع عشر أو الثامن عشر على يد صنّاع الكمان المشهورين في ذلك الوقت. وهو يدّعي أن الآلات الموسيقية التاريخية "أو القديمة" تؤدّي إلى نتائج عكسية عند استخدامها في الحفلات الموسيقية المعاصرة.
    الجدير بالذكر أن معظم عازفي الكمان الكبار اليوم يستخدمون آلات تعود إلى العصر الذهبيّ لصناعة آلات الكمان، خصوصا تلك التي من صنع الايطالي انطونيو ستراديفاري (1644 - 1737). ويُعتقد أن ستراديفاري صنع أثناء حياته أكثر من ألف آلة كمان بقي منها حتى اليوم أكثر من ستمائة يعود أقدمها إلى العام 1664م. وقد بيع منذ سنوات في مزاد بلندن كمان من صنع ستراديفاري بمبلغ 16 مليون دولار أمريكي، وهو أعلى سعر بيعت به آلة موسيقية إلى اليوم.
    قبل أسابيع، أقيم في إحدى صالات الموسيقى الفخمة حفل موسيقيّ دُعي له كريستيان تيتزلوف ليعزف بعض ألحان شوبيرت. وكان يرافقه على البيانو العازف الألماني لارس فوغت.
    أداء تيتزلوف كان مذهلا. وكانت تلك ليلة من الليالي النادرة التي كان فيها تركيز الفنّان تامّا ومطلقا. وقد عزف تيتزلوف ثلاث سوناتات للكمان والبيانو: سوناتا موزارت الأخيرة للكمان رقم 32، وسوناتا بارتوك للكمان رقم 1، وسوناتا بيتهوفن للكمان رقم 7.
    وفي كلّ واحدة من هذه المقطوعات كان تيتزلوف محلّقا في سماوات الإبداع. كما عزف خمسة مقتطفات من مؤلّفات الموسيقيّ الهنغاريّ جورج كورتاغ للكمان المنفرد.
    كان عزف تيتزلوف لبارتوك استثنائيّا. وهذا لم يكن مفاجئا، لأنه كان وما يزال أرقى من يعزف لبارتوك من عازفي الكمان منذ أن كان في أوائل العشرينات من عمره. ومن الواضح انه يفهم جيّدا زوايا الكتابة عند بارتوك ويفهم كذلك وحشيّته وغنائيّته.
    غير أن موزارت كان مفاجأة ذلك المساء. وقد جرت العادة أن لا ينظر الناس إلى تيتزلوف كعازف نموذجيّ لأعمال موزارت. فموتار وجوليا فيشر هما اللتان تتسيّدان حاليّا قائمة أفضل عازفي موزارت. لكن عزف تيتزلوف في تلك الليلة كان مقنعا جدّا. موزارت تيتزلوف كان تجريديّا، تماما مثل توماس بيتشام وهو يعزف لأماديوس.
    هذا في ما يتعلق بالكمان. لكن ماذا عن حال البيانو اليوم؟ هل هناك الآن عازفو بيانو يستحقّون أن يُستمع إليهم؟ عازف البيانو الأمريكي من أصل كرواتي ستيفن كوفاتشيفيتش أصبح الآن متقاعدا وتفرّغ للتدريس. ومثله التشيكي ايفان مورافيتش . والعازف الايطالي موريزيو بولليني لم يعد يعمل كما في السابق. أما البولندي كريستيان زيمرمان فقد أصبح عزفه غريبا. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن الأرجنتينية مارتا ارغيريش وعن الأمريكي موراي بيرهيا الذي أضاع اتجاهه في الفترة الأخيرة.
    الواقع أننا لا نعيش الآن في عصر البيانو. وليس هناك في الساحة اليوم من يمكن الاعتماد عليهم للحفاظ على الشعلة متّقدة، اللهم إلا استثنينا الروسيين يفغيني كيسين ودانييل تريفونوف . (إستمع إلى تريفونوف هنا وهو يعزف كونشيرتو البيانو رقم 23 لموزارت، أو إلى كيسين وهو يعزف مقطوعة "ليبيستروم" أو حلم الحبّ لفرانز ليست على هذا الرابط). "مترجم بتصرّف".

    موضوع ذو صلة: مائدة، كرسي، طبق فاكهة وآلة كمَان

    الاثنين، مايو 06، 2013

    !بُوسان المتعجرف والبارد

    أحيانا اُتّهم بأن أفكاري عن الفنّ تقليدية. وهذا اتّهام ظالم. فلو كنت تقليديّا بالفعل لأحببتُ الرسّام نيكولا بُوسان.
    عاش هذا الرسّام في القرن السابع عشر وقضى معظم حياته في ايطاليا. وهو فرنسيّ كان يستلهم موضوعات لوحاته من الأساطير والأدب. ولوحته رعاة أركاديا هي واحدة من أكثر الأعمال شهرة في متحف اللوفر في باريس.
    بالنسبة لعشّاق الفنّ الأصيلين، فإن حبّ هذا الرسّام هو المحكّ الحقيقيّ للذوق الرفيع. أن تفهم بُوسان وتُعجب به، فإن هذا هو طقس العبور كي تصبح عاشقا حقيقيّا للفنّ.
    مؤرّخ الفنّ تيموثي كلارك ألّف مؤخّرا كتابا عن لوحة بُوسان طبيعة مع رجل قتلته أفعى الموجودة في الناشيونال غاليري. وأنا أتساءل: كيف وبأيّ منطق يمكن لأيّ شخص أن يشعر بالانجذاب نحو هذا الرسّام المُملّ؟!
    ليست المسألة انه لم تُتح لي الفرصة لكي أصبح مفتونا بـ بُوسان. فقد قضيت ذات مرّة ليلة في فيللا ميديتشي في روما لرؤية معرض لأعمال بُوسان. وكان هناك في نفس الوقت معرض آخر في المدينة لأعمال بوتيتشيللي. وأتذكّر كيف أن الايطاليين نفروا من الانضباط البارد لـ بُوسان.
    هذه هي مشكلتي مع الرسّام. أجد أعماله بلا دم أو روح. بالطبع، أستطيع أن أرى جدّية ونطاق فنّه. وليس هناك مكان أفضل من الناشيونال غاليري حيث لوحته عن الرجل والأفعى التي درسها كلارك. لكن أين هي الحياة في لوحاته؟ أين الافتتان؟ أجد لوحاته مثل المعادلات الرياضية التي تشرح كيف ينبغي أن يكون الفنّ العظيم .
    سيزان كان معجبا بـ بُوسان. وأنا أحبّ سيزان. لكن بالنسبة لي، فإن الفرق بينهما واضح. في فنّ سيزان، هناك توتّرات عميقة، سكون صُوَره يُدمدم بالخطر. وأنا لا أجد توتّرات في بُوسان. غطرسته مطلقة وعالمه الفنّي مغلق.
    وعندما يتحمّس له الناس، فإنني لا أستطيع كتم شعوري بأنهم دجّالون ومحتالون على مستوى ما. أنا متأكّد من أنني مخطئ. ولكن عندما يتعلّق الأمر بـ بُوسان، فأنا شخص غير مثقّف ومعادٍ للقيم الفنّية السائدة وأخشى أن أظلّ هكذا دائما.

    ❉ ❉ ❉

    المقال أعلاه كتبه الناقد جوناثان جونز قبل أسابيع في جريدة الغارديان. والكاتب يطرح في مقاله سؤالا قديما - جديدا يتعلّق بماهيّة الفنّ الجيّد والفنّ الرديء، وهل هناك معايير محدّدة يمكن الاستناد إليها للتمييز بين النوعين؟
    في بعض الأحيان، يعبّر بعض الناس عن إحباطهم عندما يجدون شيئا يعتقدون انه فنّ جميل، بينما يعتبره آخرون فنّا رخيصا. ومسألة النسبية في تقييم الأعمال الفنّية موجودة حتى في أوساط النقّاد ومؤرّخي الفنّ. فما يعتبره شخص ما فنّا رخيصا قد ينظر إليه آخر باعتباره فنّا عظيما.
    غير أن الفكرة السائدة في أوساط بعض الفئات، وخاصّة من يُسمّون بالنخبة أو المثقّفين، هي أن الفنّ الراقي يمكن أن نجده في قصيدة لـ إليوت أو لوحة لـ بيكاسو أو سيمفونية لـ موزارت. في حين أن الفنّ الرخيص أو الرديء هو ذلك الذي يفضّله غالبية الناس والطبقات الشعبيّة خصوصا. واقرب مثال يرد إلى الذهن هو لوحات نورمان روكويل وموسيقى البوب وتلك اللوحات البرّاقة التي تزيّن التقاويم المكتبية والروايات الرومانسية الشعبية.
    في بدايات القرن الماضي، بدأ الناس يتداولون مصطلحا فنّيا جديدا هو الكيتش آرت، وهي كلمة ألمانية تشير إلى نوع من الفنّ الذي يعكس ذوقا رديئا بسبب بهرجته المفرطة وإغراقه في العاطفية. هذا النوع من الفنّ غالبا ما يروق للطبقات الشعبية من المجتمع. ومن سماته انه منفصل عن الحياة كما انه لا يهتمّ كثيرا بالعوامل الحرفية ولا بالاعتبارات الجمالية.
    الفنّ الرخيص أصبح هذه الأيّام يرتبط بالثقافة الشعبية وما ترمز له من انحلال وسلبية وتقليد وسطحية وابتذال بالإضافة إلى طابعها الاستهلاكي والميكانيكي، وفي المقابل يتسم الفنّ الرفيع بالتفرّد والتعقيد والفردانية والأصالة والعمق. لذا من غير المستغرب أن يذهب بعض النقاد إلى اعتبار فنّ اندي وارهول وروي ليكتنشتاين من قبيل الفنّ الرخيص بالنظر إلى شعبيته وتوظيف الآلة في إنتاجه وغلبة الطابع التجاري عليه.
    في فنّ الحداثة وما بعدها، بما في ذلك الأدب، لم يعد يُنظر إلى الكيتش آرت والفنّ الشعبيّ على انه فنّ رخيص أو عديم القيمة. بل جرى عليه ما جرى على كثير من الفنون التي كان يُنظر إليها بدونية، وأصبح مع مرور الأيّام جزءا لا يتجزّأ من البنية العامّة لمفهوم الجمال السائد. وقد راج هذا الفنّ وازدهر بسبب سخرية النقّاد منه واحتقارهم له. بل إن بعض الأعمال الفنّية المصنفة على أنها رخيصة بيعت بملايين الدولارات، مثل بورتريه فلاديمير تريتشيكوف عن الفتاة الصينية ذات الوجه الأزرق والبورتريه الغريب الذي رسمه سلفادور دالي لـ مونا فون بيسمارك.
    السؤال الذي يطرح نفسه اعتمادا على مضمون المقال أعلاه هو: هل من الضروري أن يكون كلّ شيء في الفنّ معذّبا وصادما وباعثا على الخوف والتوتّر والخطر كي يُعتبر فنّا أصيلا وجيّدا؟
    هناك عبارة مشهورة تقول إن الجمال يكمن في عين الناظر، أي أن المتلقّي هو الذي يقرّر لنفسه إن كانت هذه القطعة الفنّية جميلة أم غير ذلك. والواقع انه لا توجد معايير واضحة ومحدّدة للفنّ الجيّد أو الجميل، كما أن النقّاد والخبراء مختلفون كثيرا حول هذه النقطة. والأمر يتعلّق في النهاية بذائقة الفرد نفسه وطريقته في النظر إلى العمل الفنّي. لذا لا تدع أحدا يحدّد لك معنى الفنّ، ولا تهتمّ بما يقوله الآخرون أو بما يؤمنون به. فقط ركّّز على أن تُبقي عقلك مفتوحا وخذ وقتا كافيا في دراسة وتأمّل الأعمال الفنّية ودرّب نفسك على تبيّن محاسنها وسلبيّاتها.