:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات شوبيرت. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات شوبيرت. إظهار كافة الرسائل

الثلاثاء، يوليو 11، 2017

رحلة مع اللون والنغم


العلاقة المتبادلة بين الرسم والموسيقى معروفة منذ القدم. وهناك العديد من المؤلّفات الموسيقية المشهورة المستوحاة من لوحات تشكيلية. مثلا، استلهم الموسيقي الروسيّ موديست موسورسكي مُتواليته الموسيقية بعنوان صور في معرض من عشر لوحات للرسّام الفرنسيّ فيكتور هارتمان كان قد رآها في احد المعارض الفنّية في سان بطرسبورغ عام 1874.
كما استوحى سيرغي رحمانينوف موسيقاه بعنوان جزيرة الموتى من لوحة للرسّام السويسري ارنولد بوكلين بنفس الاسم . بوكلين في لوحته، ذات النسخ الخمس، يصوّر جزيرة صخرية مقفرة يحيط بها الماء من كلّ جانب. وأمام بوّابتها يتحرّك قارب صغير تقف في مقدّمته امرأة ترتدي ملابس بيضاء، وأمامها تابوت زوجها الملفوف بأردية بيضاء.
وفي وسط الجزيرة تظهر مجموعة من أشجار السرو التي تذكّر عادة بطقوس الحداد وأجواء المقابر. والانطباع الذي توصله الصورة هو الخراب واليأس والترقّب. وقد نقل رحمانينوف هذه المشاعر والأجواء في موسيقاه بعد أن رأى اللوحة.
وهناك أيضا الموسيقى المسمّاة ثلاثية بوتيتشيلليانو والتي ألّفها الموسيقيّ الايطاليّ اوتوريني ريسبيغي في مارس من عام 1927. وهي عبارة عن متوالية من ثلاثة حركات، تعتمد كل واحدة على لوحة من لوحات رسّام عصر النهضة الايطالي ساندرو بوتيتشيللي. وقد خصّص الحركة الأولى منها لتعبّر عن أجواء لوحة بوتيتشيللي المسمّاة الربيع ، بينما خصّص الحركة الثالثة لـ مولد فينوس .
كما استلهم الموسيقيّ الفرنسيّ كلود ديبوسي موسيقاه بعنوان البحر من اللوحة المشهورة الموجة الكبيرة قبالة شاطئ كاناغاوا للرسّام اليابانيّ كاتسوشيكا هوكوساي (1831 ).
وفي عام 1857، ألّف فرانز ليست معزوفة بعنوان معركة الهون بعد أن رأى لوحة الرسّام النمساويّ وليم فون كولباك بنفس الاسم.
لوحة كولباك تصوّر معركة وقعت عام 1451 بين جيوش الهون بقيادة اتيلا من جهة وبين التحالف الرومانيّ بقيادة الجنرال فلافيوس اييتيوس وملك القوط ثيودوريك من جهة أخرى. ويقال أن تلك المعركة كانت ضارية جدّا، لدرجة أن أسطورة تقول أن أرواح المحاربين استمرّت تتقاتل في السماء بينما كانت في طريقها إلى العالم الآخر.
بالمقابل، هناك رسّامون أنتجوا صورا استوحوها من أعمال موسيقية. مثلا، استلهم الرسّام موريتز فون شويند لوحته سيمفونية من موسيقى فانتازيا للبيانو لبيتهوفن . وقد تخيّل الرسّام لوحته كجدار لغرفة الموسيقى الخاصّة ببيتهوفن، ونسج في كلّ جزء من لوحته قصّة حبّ تتناغم مع جوّ كلّ حركة من حركات تلك الموسيقى.
ومن المثير للاهتمام أن فون شويند استلهم بعض لوحاته الأخرى من موسيقى شوبيرت. كان من عادة هذا الرسّام أن يسجّل في صوره مراحل معيّنة من حياته، وقد اسماها "صور سفر".
لوحته المشهورة الوداع عند الفجر صوّر فيها بطريقة شاعرية رحيله عن فيينا قبل ذلك التاريخ بثلاثين عاما. لكن في نفس الوقت كانت اللوحة ترجمة الرسّام لأحد مقاطع شوبيرت في موسيقاه رحلة الشتاء والذي يردّد فيه الشخص المتجوّل جملة تقول: أتيت غريبا .. وغريبا أرحل".
موسيقى شوبيرت هذه هي نوع من الميلودراما الغنائية. والصوت الشاعريّ هو مركز الثقل فيها، بينما تجسّد نغمات البيانو لاوعي المتجوّل الذي يقدّم تصويرا للعالم الخارجيّ.
ولوحة شويند تمسك بتلك اللحظة المصيرية والغامضة التي يلتفت فيها المتجوّل إلى الوراء، وربّما إلى الأمام في نفس الوقت. والمعروف أن الرسّام كان عاشقا للموسيقى وصديقا مقرّبا من شوبيرت. ومن الواضح أن تلك العلاقة أسهمت في صوغ تطوّره الروحيّ والإبداعيّ كرسّام.
وهناك أيضا لوحة لفريدريك ليتون اسمها أغان بلا كلمات . وقد رسمها بعد أن استمع إلى قطعة للموسيقي الألماني فيليكس ماندلسون بنفس العنوان.
كما رسم الفنّان الهولندي بيت موندريان لوحة اسماها برودواي جاز وملأها بالخطوط الصفراء والمربّعات الحمراء والزرقاء والبيضاء. وكان غرضه أن يخلق إيقاعا يشبه ديناميكية موسيقى الجاز التي سمعها لأوّل مرّة بعد أن وصل إلى نيويورك مهاجرا في سبتمبر من عام 1940م.

Credits
petermedhurst.com

الأربعاء، ديسمبر 18، 2013

عصر الكمان

طوال المائة عام الماضية، ظلّت مدرسة عازفي الكمان الروس تفرض سيطرتها على عالم الموسيقى. لكن منذ أوائل تسعينات القرن الماضي، ومع ظهور المزيد من عازفي الكمان الموهوبين والناضجين، تمّت تنحية الروس وإزاحتهم عن العرش. ومن يومها استولى عازفو الكمان الألمان من أمثال آنا زوفي موتار وفرانك بيتر زيمرمان وكريستيان تيتزلوف على عباءة الريادة واستمرّوا يحكمون مملكة الكمان في العالم طيلة ربع القرن الأخير.
مكسيم فينغيروف ، وهو عازف كمان روسيّ والمنافس الحقيقيّ الوحيد لكلّ من موتار وزيمرمان وتيتزلوف، لم يعد أبدا للعزف بتفرّغ تامّ منذ سبعة أعوام عندما صرّح بأنه يعاني من الإرهاق نتيجة إصابة لحقت به وأصبحت تهدّد حياته المهنية. (شاهد هنا عزف فينغيروف الاعجازي للحركة الثانية من كونشيرتو الكمان الرابع لموزارت).
موتار وزيمرمان وتيتزلوف هم جميعا عازفو كمان متمرّسون. والثلاثة بلا استثناء من بين أكثر الموسيقيين مكَنة وموهبة في هذا العصر. وهم على درجة من الإتقان والبراعة التي يفتقر إليها معظم عازفي الكمان الأحياء الآخرين.
تيتزلوف قد يكون الأكثر ثقافة من بين هؤلاء الثلاثة سواءً بالمعنى الجيّد أو الرديء. فهو عازف صارم جدّا ويحسب الأمور بعناية ولا شيء ممّا يفعله غير مقصود أو غير مخطّط له إلى أقصى درجة. ونادرا ما تعتريه نوبات إلهام مثل تلك التي كثيرا ما تميّز أداء زميليه موتار وزيمرمان.
وعندما يكون أداؤه دون المستوى، فإنه غالبا ما يُتّهم بالافتقار إلى العفوية والعاطفة. وفي السنوات القليلة الماضية، كانت هناك العديد من التحفّظات والانتقادات التي وُجّهت له بسبب طريقته في عزف بعض مقطوعات بيتهوفن. (تابع تيتزلوف هنا وهو يعزف إحدى مقطوعات يوهان برامز).
وبالنسبة لعازف كمان ذي شهرة عالمية، فإن تيتزلوف يفتقر أيضا للصوت الفريد. فصوته "أو على الأصح صوت كمانه" ينقصه اللون والثراء. وهو أمر يعزوه البعض إلى استخدامه نوعا من الكمان الحديث الذي يكلّف ثلاثين ألف دولار أمريكي فقط.
وتيتزلوف بالمناسبة هو عازف الكمان الوحيد على مستوى العالم الذي يعزف أمام الجمهور اليوم دون أن يستخدم آلة كمان مصنوعة في القرن السابع عشر أو الثامن عشر على يد صنّاع الكمان المشهورين في ذلك الوقت. وهو يدّعي أن الآلات الموسيقية التاريخية "أو القديمة" تؤدّي إلى نتائج عكسية عند استخدامها في الحفلات الموسيقية المعاصرة.
الجدير بالذكر أن معظم عازفي الكمان الكبار اليوم يستخدمون آلات تعود إلى العصر الذهبيّ لصناعة آلات الكمان، خصوصا تلك التي من صنع الايطالي انطونيو ستراديفاري (1644 - 1737). ويُعتقد أن ستراديفاري صنع أثناء حياته أكثر من ألف آلة كمان بقي منها حتى اليوم أكثر من ستمائة يعود أقدمها إلى العام 1664م. وقد بيع منذ سنوات في مزاد بلندن كمان من صنع ستراديفاري بمبلغ 16 مليون دولار أمريكي، وهو أعلى سعر بيعت به آلة موسيقية إلى اليوم.
قبل أسابيع، أقيم في إحدى صالات الموسيقى الفخمة حفل موسيقيّ دُعي له كريستيان تيتزلوف ليعزف بعض ألحان شوبيرت. وكان يرافقه على البيانو العازف الألماني لارس فوغت.
أداء تيتزلوف كان مذهلا. وكانت تلك ليلة من الليالي النادرة التي كان فيها تركيز الفنّان تامّا ومطلقا. وقد عزف تيتزلوف ثلاث سوناتات للكمان والبيانو: سوناتا موزارت الأخيرة للكمان رقم 32، وسوناتا بارتوك للكمان رقم 1، وسوناتا بيتهوفن للكمان رقم 7.
وفي كلّ واحدة من هذه المقطوعات كان تيتزلوف محلّقا في سماوات الإبداع. كما عزف خمسة مقتطفات من مؤلّفات الموسيقيّ الهنغاريّ جورج كورتاغ للكمان المنفرد.
كان عزف تيتزلوف لبارتوك استثنائيّا. وهذا لم يكن مفاجئا، لأنه كان وما يزال أرقى من يعزف لبارتوك من عازفي الكمان منذ أن كان في أوائل العشرينات من عمره. ومن الواضح انه يفهم جيّدا زوايا الكتابة عند بارتوك ويفهم كذلك وحشيّته وغنائيّته.
غير أن موزارت كان مفاجأة ذلك المساء. وقد جرت العادة أن لا ينظر الناس إلى تيتزلوف كعازف نموذجيّ لأعمال موزارت. فموتار وجوليا فيشر هما اللتان تتسيّدان حاليّا قائمة أفضل عازفي موزارت. لكن عزف تيتزلوف في تلك الليلة كان مقنعا جدّا. موزارت تيتزلوف كان تجريديّا، تماما مثل توماس بيتشام وهو يعزف لأماديوس.
هذا في ما يتعلق بالكمان. لكن ماذا عن حال البيانو اليوم؟ هل هناك الآن عازفو بيانو يستحقّون أن يُستمع إليهم؟ عازف البيانو الأمريكي من أصل كرواتي ستيفن كوفاتشيفيتش أصبح الآن متقاعدا وتفرّغ للتدريس. ومثله التشيكي ايفان مورافيتش . والعازف الايطالي موريزيو بولليني لم يعد يعمل كما في السابق. أما البولندي كريستيان زيمرمان فقد أصبح عزفه غريبا. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن الأرجنتينية مارتا ارغيريش وعن الأمريكي موراي بيرهيا الذي أضاع اتجاهه في الفترة الأخيرة.
الواقع أننا لا نعيش الآن في عصر البيانو. وليس هناك في الساحة اليوم من يمكن الاعتماد عليهم للحفاظ على الشعلة متّقدة، اللهم إلا استثنينا الروسيين يفغيني كيسين ودانييل تريفونوف . (إستمع إلى تريفونوف هنا وهو يعزف كونشيرتو البيانو رقم 23 لموزارت، أو إلى كيسين وهو يعزف مقطوعة "ليبيستروم" أو حلم الحبّ لفرانز ليست على هذا الرابط). "مترجم بتصرّف".

موضوع ذو صلة: مائدة، كرسي، طبق فاكهة وآلة كمَان

السبت، يوليو 07، 2012

القوّة الخفيّة للأحلام

ذات ليلة، حلم الاسكندر المقدوني أنه يراقص إله الغابات "ساتاير" الذي يأخذ شكل فرس جامح. وقد استدعى مفسّرا ليشرح له معنى الحلم. فقال له: هذه بشارة لك بأنك ستفتح مدينة صُوْر". وقد بنى المفسّر نبوءته على أساس أن المقطع الأخير من اسم إله الغابات يطابق اسم صُوْر باللاتينية. وفي نفس تلك السنة، فتح الاسكندر صُوْر بالفعل وضمّها إلى امبراطوريّته الواسعة.
الرئيس الأمريكي ابراهام لينكولن داهمه في إحدى الليالي حلم غريب. رأى نفسه جالسا ليلا داخل قاعة فسيحة ومضاءة. وفجأة تناهت إليه أصوات رصاص، وشعر بأنه يسقط على الأرض فاقدا الوعي. وهُرع باتجاهه أشخاص كان بعضهم يصيح والبعض الآخر يبكي. وبعد ذلك بأيّام، أي في الخامس عشر من ابريل عام 1865م، اغتيل لينكولن برصاصة في الرأس أطلقها عليه احد الأشخاص بينما كان يحضر عرضا في احد مسارح ولاية إلينوي.
الزعيم النازيّ ادولف هتلر رأى ذات مرّة حلما مزعجا جعله يقفز من سريره مرعوباً. وبعد لحظات، اخترقت قذيفة مدفع جناح المبنى الذي كان يستخدمه كمكتب وقتلت كلّ من كان فيه.
كارل يونغ، المفكّر وعالم النفس السويسريّ المشهور، حلم في إحدى الليالي أن طوفانا عظيما غمر كافّة أرجاء أوربّا ووصلت مياهه إلى قمم جبال سويسرا، ثمّ تحوّلت المياه إلى دماء. وبعد أشهر من ذلك الحلم الغريب، انطلقت شرارة الحرب العالمية الأولى.
الموسيقيّ الايطالي جيوسيبي تارتيني أمضى أشهرا عديدة وهو يبحث، دون جدوى، عن خاتمة مناسبة لتحفته المشهورة سوناتا الشيطان. وذات ليلة، حلم انه عثر على زجاجة على شاطئ البحر وبداخلها شيطان محبوس. وقد توسّل إليه الشيطان أن يطلق سراحه. وتوصّل الاثنان إلى صفقة. ناول تارتيني كمانه للشيطان، وذُهل لروعة وجمال عزفه. وعندما استيقظ من حلمه، حاول أن يستعيد ما سمعه في الحلم. وقد كتب تارتيني بعد ذلك يقول: سوناتا الشيطان هي أفضل ما كتبت. غير أنها اقلّ جمالا بكثير من الموسيقى التي سمعتها في الحلم".
هذه فقط بعض الأمثلة التي تدلّل على القوّة الخفيّة والغامضة للأحلام وعلى أهميّتها وحضورها الدائم في حياة الإنسان.
تخيّل، على سبيل المثال، دور الأحلام في الأدب والفنّ. العديد من الأعمال الأدبيّة المشهورة ظهرت بفضل حلم رآه الكاتب في منامه: فرانكنشتاين لـ ميري شيللي، والشفق لـ ستيفاني ماير، ودكتور جيكل ومستر هايد لـ روبيرت ستيفنسون.. والقائمة تطول.
وهناك الكثير من الروايات التي تستند حبكتها الرئيسية على عنصر حلم. في رواية المسخ لـ فرانز كافكا، مثلا، يستيقظ غريغور سامسا بطل الرواية من حلم ذات صباح ليجد نفسه وقد تحوّل إلى صرصار ضخم.
وهناك عدد لا يُحصى من الكتّاب الذين وظّفوا قصص الأحلام في رواياتهم: جوزيف كونراد، آرثر ميللر، جيمس جويس، شكسبير، لويس كارول، دستويفسكي، جورج اورويل، ايتالو كالفينو، ادغار الان بو وغابرييل غارسيا ماركيز.. وغيرهم.
الأحلام أيضا حاضرة بقوّة في الفنّ التشكيليّ. العديد من لوحات هنري روسّو وسلفادور دالي وجاسبر جونز وهنري فوزيلي وغيرهم كانت نتاج أحلام.
وفي السينما أيضا استخدم مخرجون كثر صور الأحلام في أفلامهم مثل انغمار بيرغمان، ارسون ويلز وفيدريكو فيلليني وسواهم. كما ألهمت الأحلام عددا من الموسيقيين من أمثال هاندل، شوبيرت وفاغنر وغيرهم.
أهميّة وقوّة الأحلام معروفة وراسخة. ومن معابد العصور القديمة، إلى مختبرات النوم في العصر الحاضر، حاول البشر أن يفهموا الأحلام وأن يفسّروها.
وأقدم الأحلام المسجّلة وجدت في وثائق يعود تاريخها إلى ما يقرب من 5000 عام، في بلاد ما بين النهرين أو الهلال الخصيب. السومريون، أوّل مجموعة ثقافية قطنت تلك المنطقة، تركوا سجلات للأحلام يعود تاريخها إلى عام 3100 قبل الميلاد. ووفقا لتلك الكتابات المبكّرة، كانت الآلهة والملوك، مثل الملك العالم آشور بنيبعل من القرن السابع، يبدون اهتماما كبيرا بالأحلام.
ومن ضمن أرشيف هذا الملك من الألواح الطينية، تمّ العثور على أجزاء من ملحمة الملك الأسطوريّ غلغامش. في هذه القصيدة الملحمية، وهي واحدة من أقدم القصص الكلاسيكية المعروفة، يسرد غلغامش أحلامه المتكرّرة على أمّه الإلهة نينسون التي قدّمت أوّل تفسير مسجّل لحلم. كما اتخذت أحلامه كنبوءات. المواقف المدوّنة في ملحمة غلغامش توفّر مصدرا قيّما للمعلومات حول المعتقدات المتعلقة بالأحلام في العصور القديمة.

العبرانيون القدماء كانوا يعتقدون أن الأحلام هي عملية اتصال مع الله. الشخصيّات التوراتية، مثل سليمان ويعقوب ونبوخذ نصّر ويوسف، كلّهم زارهم الربّ أو الأنبياء في أحلامهم وساعدوهم في توجيه قراراتهم. كان من المسلّم به والمقبول أن أحلام الملوك يمكن أن تؤثّر على أمم بأكملها وعلى مستقبل شعوب بأسرها. التلمود، المكتوب ما بين عامي 200 و 500م، يتضمّن أكثر من 200 إشارة لأحلام. وهو يشير إلى أن الأحلام غير المفهومة هي "مثل الرسائل التي لم يتمّ فتحها".
قدماء المصريين أيضا أولوا اهتماما خاصّا بأحلام قادتهم الملكيين، بالنظر إلى أن الآلهة كانوا أكثر عرضة للظهور فيها. سيرابيس، إله الأحلام المصريّ، كانت له معابد لحضانة الأحلام. وقبل الذهاب إلى هذه المعابد، يصوم الحالمون ويصلّون كي يضمنوا رؤية أحلام سعيدة.
الصينيون اعتبروا أن روح الحالم هي العامل المهمّ في توجيه الحلم. كانوا يعتقدون أن "الهون" أو الروح تغادر الجسد أثناء الحلم لتتواصل مع أرض الأموات.
كتاب الأوبنيشاد، ظهر ما بين 900 و 500 قبل الميلاد. وهو يتناول منظورين عن الأحلام: الأوّل يرى أنها مجرّد تعبير عن الرغبات الداخلية. والثاني يشبه الاعتقاد الصيني عن الروح التي تغادر الجسد أثناء النوم لتعود عندما يستيقظ الجسد ثانية.
القرن الخامس قبل الميلاد شهد ظهور أوّل كتاب يونانيّ معروف عن الأحلام. وقد كتبه انتيفون الذي كان رجل دولة من أثينا. في تلك الفترة، ساد بين الإغريق اعتقاد بأن الروح تغادر جسد الإنسان الحالم. اوسكولابيوس كان معالجا إغريقيا، وكان على اتصال بالطوائف التي بدأت في ممارسة حضانة الأحلام. كان يزور النائمين ويقدّم لهم المشورة والنصح.
أبقراط، والد الطبّ ومعاصر سقراط، ألّف كتابا اسماه "عن الأحلام". وكانت نظريّته بسيطة: في النهار تستقبل الروح الصور، وفي الليل تعيد إنتاجها. وهذا هو السبب في أننا نحلم".
أرسطو كان يعتقد بأن الأحلام ليست محصّلة وحي إلهي، وإنّما مؤشّرات عن أوضاع داخل الجسم. كما افترض بأن المؤثّرات الخارجية تكون غائبة أثناء النوم. ولهذا فإن الأحلام هي مظاهر وعي عميق بالأحاسيس الداخلية التي يُعبّر عنها على هيئة صور في الأحلام.
جالينوس ركّز على الحاجة لملاحظة الأحلام بعناية بحثا عن أيّ رسائل قد تتضمّنها. معاصره ارتيميدوراس وضع كتابا عن تفسير الأحلام يعتبره البعض أفضل مصدر عن الأحلام في العصور القديمة. وهو يصف نوعين من الأحلام: الأوّل يتنبّأ بالمستقبل، والثاني يتعامل مع مسائل الحاضر.
في أوربّا العصور الوسطى، كانت الأحلام كثيرا ما تُدرّس في سياق علاقتها بالله. والسؤالان النموذجيان اللذان كانا يُطرحان عادة في تلك الفترة هما: هل الأحلام مرسلة من الله للصالحين وأصحاب الكرامات؟ أم أنها مرسلة من الشياطين إلى الخاطئين والمذنبين؟!
في القرن العشرين، مُنحت الأحلام حياة جديدة على يد سيغموند فرويد الذي احدث تغييرا جذريّا في دراسة الأحلام مع ظهور كتابه المشهور "تفسير الأحلام".
فرويد رأى أن الأحلام عبارة عن رغبات لم تتحقّق، أو محاولات من اللاوعي لحسم صراع من نوع ما، وأن الرمز أو الصورة التي تظهر في حلم قد تنطوي على معان متعدّدة.
كان فرويد يركّز على الدوافع البيولوجية للفرد، الأمر الذي باعد بينه وبين العديد من زملائه مثل يونغ وأدلر. كما أن تعويله الكبير على دور الدافع الجنسيّ في الأحلام دفع معارضيه لوصفه بـ "عدوّ للبشر" لأنه تعامل مع البشر كما لو أنهم حيوانات برّية.
وفي حين أن نظريّاته ودراساته النفسية عن الأحلام شابتها بعض العيوب المنطقية والافتراضات المتحيّزة، إلا أن انجازات فرويد في هذا الميدان لا يمكن إغفالها أو التقليل من شأنها.

موضوع ذو صلة: المدن والذاكرة

Credits
plato.stanford.edu
simplypsychology.org

الجمعة، يوليو 02، 2010

رباعيّة السلمون

الأفكار والحالات والمواقف التي تصوّرها الموسيقى لا تعرف حدودا. هل يمكن مثلا أن يدور بخلد أحد أن تكون حركة سمكة صغيرة في مياه إحدى البحيرات موضوعا لقطعة موسيقية كُتب لها في ما بعد أن تصبح إحدى أشهر المعزوفات الكلاسيكية وأكثرها انتشارا؟
ألّف فرانز شوبيرت موسيقاه المسمّاة رباعية السلمون، أو رباعية البيانو كما تُسمّى أحيانا، في العام 1819 وهو لم يتجاوز بعد الثانية والعشرين من عمره.
وقد باشر تلك المهمّة بناءً على طلب احد أصدقائه الذي روى له قصّة سمكة سلمون صغيرة رآها ذات يوم في الماء وهي تحاول جاهدة الإفلات بخفّة وبراعة من شباك احد الصيّادين.
كان شوبيرت احد أشهر موسيقيّي العصر الرومانسي. وكان يُلقّب بالطفل المعجزة بعد أن ظهرت بوادر عبقريته وهو بعد في سنّ مبكرة. وقد قيل انه كان ما أن يلمس شيئا حتى يتحوّل إلى أغان وموسيقى.
وكان أوّل أعماله التي لاقت استحسانا كبيرا هو موسيقاه التي ألّفها لمسرحية فاوست لـ غوته. ولد فرانز شوبيرت لعائلة من الطبقة الوسطى. وقد عهد به والده إلى عدد من الأساتذة الذين علّموه العزف على البيانو والكمان. لكنه في النهاية استطاع منافستهم بل والتفوّق عليهم بفضل موهبته الاستثنائية والمتفرّدة.
كانت فيينا زمن شوبيرت عاصمة الفنّ والموسيقى في العالم. وقد عاش في عصر العائلات الارستقراطية التي حكمت العديد من البلدان في أوربّا. كما قُدّر له أن يشهد حرب نابليون واحتلاله لـ فيينا وهو في سنّ الثامنة. كانت فيينا آنذاك تحتضن أكثر الأسماء الموسيقية شهرة مثل بيتهوفن وبرامز وموزارت وهايدن وسواهم. وبسبب موقعها على مفترق طرق التجارة الأوربية، تحوّلت المدينة إلى مركز ثقافي وفنّي مهمّ وحاضنة للكثير من المسارح ودور الأوبرا وقاعات الموسيقى والغناء.
كان فرانز شوبيرت إنسانا بسيطا ومتواضعا. وكثيرا ما كان يردّد انه لم يُخلق ألا لكي يجلس في البيت ويؤلّف الموسيقى التي كانت حبّه الأول والأخير. وقد عُرف بحبّه للسهر وحياة الليل وارتياده للمقاهي. في ذلك الوقت كانت فيينا معروفة بكثرة مقاهيها. وقد تحقّق لها ذلك بعد أن انسحب منها الأتراك في نهاية القرن السابع عشر تاركين وراءهم أكياسا ضخمة من البنّ. واستمرّ شغف أهالي فيينا بالقهوة منذ ذلك الوقت وحتى اليوم.

كتب شوبيرت قطعا موسيقية كثيرة عن الحبّ والفقد والطبيعة والسعادة والبؤس والفرح والحزن والموت.
غير أن أشهر مؤلّفاته كانت سيمفونيّته الخامسة ورباعياته العديدة المكتوبة للآلات الوترية. وقد كان معروفا بغزارة إنتاجه وتنوّع أعماله. لكن بعد إصابته بمرض السيفلس وهو في ريعان الشباب قلّ إنتاجه تدريجيا وأصبحت موسيقاه يغلب عليها الحزن والتشاؤم. وبعد وفاته في سنّ الحادية والثلاثين تمّ دفنه بجوار بيتهوفن في مقبرة فيينا بناءً على وصيّته.
موسيقى شوبيرت عن سمكة السلمون تتألّف من خمس حركات أشهرها الحركتان الأولى والرابعة. ومن الواضح أنه كتب هذه الموسيقى بحماس وابتهاج منقطع النظير. والذي يستمع إلى أنغام البيانو السريعة والمتراقصة في هذه الرباعية، خاصّة في الحركة الرابعة، لا شكّ سيتخيّل السمكة وهي تتقلّب صعودا وهبوطا على سطح مياه البحيرة اللامعة والمتماوجة محاولة تجنّب الوقوع في براثن الصيّاد العنيد.
هذه القطعة كانت وما تزال تتمتّع بشعبية كبيرة جدّا بدليل انه لا تكاد تمضي سنة دون أن تُطرح في السوق تسجيلات جديدة لها وبترجمات ومعالجات موسيقية متباينة ومبتكرة.
ترى، لو انك استمعت إلى هذه الموسيقى دون أن تكون لديك أدنى فكرة عن قصّتها، هل كان سيخطر بذهنك أنها عن سمكة تحاول يائسة أن تتمسّك بحرّيتها في مواجهة صيّاد مثابر وعازم على اصطيادها؟
اغلب الظنّ أن الإجابة ستكون بلا. فجوّ الموسيقى هنا تأمّلي بامتياز. والذي يعمّق هذا الإحساس الطريقة الرائعة التي تمتزج بها أصوات الكمان والبيانو والتشيللو موصلة إحساسا بالتوق والتذكّر الحزين.

الأربعاء، مايو 12، 2010

أغنية لسيّدة البحيرة


عندما تستمع إلى بعض ألحان فرانز شوبيرت لا بدّ وأن تتذكّر بطريقة لاإرادية فصل الشتاء. وبعض معزوفاته يذكّرك بحفيف أوراق الأشجار في الليالي الباردة والبعض الآخر برائحة الأعشاب والنباتات التي تنمو عادة في الطبيعة الصخرية.
بعض قطع شوبيرت الموسيقية مملوءة بالتوق وأحيانا بالتذكّر الحزين. يقال، مثلا، إن غوته، الفيلسوف الألماني، كان يبكي بصمت عندما يستمع إلى إحدى مقطوعاته. وهناك شاعر ألماني يُدعى جان بول ريختر قيل إن آخر ما طلبه في لحظات احتضاره هو الاستماع إلى لحن معيّن لـ شوبيرت.
كان شوبيرت معجبا حدّ الهوس بـ بيتهوفن الذي كان يعتبره مثله الأعلى في التأليف الموسيقي. وهناك رواية تقول انه في يوم جنازة بيتهوفن أسرّ شوبيرت إلى بعض أصدقائه بأنه هو نفسه من سيتوفّى تالياً. وقد تحقّقت تلك النبوءة الغريبة عندما عاجل الموت شوبيرت قبل أن يكمل عامه الحادي والثلاثين.
تتميّز بعض الحان شوبيرت ببساطتها وتلقائيتها وبتنوّع الأمزجة والانفعالات التي تثيرها. ومن أشهر أعماله سيمفونيّته الناقصة والسوناتات العديدة المكتوبة للبيانو ومجموعته بعنوان رحلة الشتاء التي تستثير في النفس إحساسا باليأس وأحيانا بالحزن والكآبة.
لم يعش فرانز شوبيرت طويلا. ومع ذلك فقد أنتج خلال عمره القصير عددا من أشهر الألحان الكلاسيكية.
وإحدى أروع هداياه إلى العالم هي مقطوعته الجميلة المسمّاة ايفا ماريّا. وقد ألف شوبيرت هذه القطعة التي تغلب عليها المسحة الدينية والتأمّلية في العام 1825، أي قبل وفاته بثلاث سنوات. وهي مكتوبة أصلا للصوت والبيانو. وكان في ذهنه أن ترافق الموسيقى أبيات مترجمة إلى الألمانية من قصيدة مشهورة بعنوان سيّدة البحيرة للشاعر الانجليزي السير والتر سكوت.
وبعد ظهور المقطوعة والقصيدة سرعان ما انتشرت وذاع صيتها وأصبحت معروفة ومفضّلة في جميع أنحاء العالم. ويبدو أن شوبيرت ألّف المعزوفة في إحدى لحظات التجلّي والإبداع بالنظر إلى تأثيرها العميق في النفس والمشاعر.
تتحدّث القصيدة عن امرأة تدعى ايلين تسكن على ضفّة إحدى البحيرات. وقد اعتادت المرأة أن تؤدّي صلاة خاصّة كلّ يوم. المعروف أن هذه الموسيقى عُزفت لأوّل مرّة في قصر كونتيسة نمساوية في إحدى القرى القريبة من فيينا. ومن ثم اُهديت الموسيقى لها وأصبحت تلك السيّدة منذ ذلك الحين تُعرف باسم سيّدة البحيرة.
ولد فرانز شوبيرت لعائلة من الموسيقيين. ولم يحقّق شهرة كبيرة في حياته. وعاش فقيرا وكان يعتمد دائما على المساعدات التي كانت تأتيه من عائلته وأصدقائه.
لكن في ما بعد، أصبح شوبيرت احد ابرز الأسماء اللامعة في عالم الموسيقى الكلاسيكية. ويرجع الفضل في ذلك إلى كلّ من فرانز ليست وفيليكس ماندلسون وروبرت شومان الذين قاموا بجمع أعماله وترتيبها وتصنيفها في القرن التاسع عشر.
وقد ترك شوبيرت عند وفاته تسع سيمفونيات وأكثر من ألف اوبرا ومقطوعة للبيانو.

فرانز شوبيرت: ايفا ماريّا

الأربعاء، مارس 10، 2010

شاعر البيانو

في موسيقى شوبان شاعرية وأصالة. سيولة وانسيابية ألحانه على البيانو لا يمكن وصفها. وقد بلغ من خلالها أعلى درجات الإبداع. لذا يقال إن شوبان فعل للبيانو ما فعله شوبيرت للصوت. شوبان متفرّد كعازف للبيانو. ومن هذه الناحية بالذات لا يمكن مقارنته بأيّ موسيقي آخر.
وصفته رفيقته الأديبة الفرنسية جورج صاند مرّة بأنه "كان يغلق باب غرفته على نفسه لأيّام ويكسر أقلامه ويكتب ويمحو مئات المرّات. وقد كتب شوبان قطعتين من نوع المازوركا أو الرقصات البولندية وهما تعادلان أربعين رواية وتتفوّقان على سائر ما كُتب من أعمال أدبية طوال قرن كامل.
عندما حضرته الوفاة وهو في سنّ التاسعة والثلاثين قال لمن حوله: اشعر أن الأرض خانقة. وهذا السعال يكاد يمزّقني. أتوسّل إليكم أن تتفحصّوا جسدي جيّدا كي لا ادفن حيّا. ولا تنسوا أن تعزفوا موزارت في جنازتي".
المعروف أن شوبان ولد في بولندا لأب فرنسي وأمّ بولندية. لكنه انتقل في ما بعد ليعيش في فرنسا. وبعد وفاته دُفن جثمانه في باريس بينما وضع قلبه في آنية كريستال وأودع داخل عمود بإحدى كنائس وارسو.
في المقال التالي تتناول آن ميدغيت جوانب من حياة شوبان وموسيقاه لمناسبة الاحتفال بمرور مائتي عام على ولادته.

موسيقى شوبان ما تزال إلى اليوم عصيّة على الفهم. المعروف انه لم يكتب سيمفونيات ولا أوبرا. لكن جميع قطعه التي ألفها للبيانو شاعرية وجميلة. مع أن الكثير منها معقّد وصعب من الناحية الهارمونية.
مجموعة معزوفاته المسمّاة بـ الاتيودات Etudes ليست سهلة أبدا. بل ومن الصعب تعليمها لطلاب الموسيقى. وقد بلغ من صعوبتها أن عازف البيانو الكبير والمتخصّص في موسيقى شوبان آرثر روبنسون كان يتجنّب عزف بعضها نظرا لعمقها وتعقيدها، مع أنها توفّر للسامع متعة كبيرة.
أسلوب شوبان فريد من نوعه وخاصّ، وقد كان دائما موضوعا لنقاشات لا تنتهي. موسيقاه ذات لمسة خفيفة وصافية وتعطي انطباعا واهما بأن الموسيقيّ يخلق خطّا لا ينكسر من الصوت يشبه صوت الإنسان. وهذا واضح جدّا في مجموعة موسيقاه التأمّلية والحالمة المسمّاة النوكتيرن Nocturnes والتي يشبّهها البعض بموسيقى أوبرا صديقه فينسينزو بيليني.
ويقال إن شوبان لم يكن حرّا تماما كعازف بيانو، فهناك من الدلائل ما يشير إلى أن اهتزازات مطّردة كانت تنتاب يده اليسرى طوال الوقت.
أحيانا توصف موسيقى شوبان بأنها موسيقى صالونات. أي أنها ليست جادّة. كما أنها ليست ألمانية تماما لأنها لا تلتزم بالتقاليد الموسيقية لمدرسة فيينّا الكلاسيكية العظيمة.
النظرية التي تقول بهشاشة موسيقاه تبدو مرتبطة بالفكرة الرائجة عن شوبان. فهو كان نموذجا للعبقريّ الرومانسي. كان شاحبا ورقيق الحال، كما قُدّر له أن يموت بطريقة مأساوية وهو بعد في سنّ صغيرة نسبيا بعد إصابته بالسلّ. كان يحتاج لعناية امرأة تقوم مقام الأمّ وقد وجدها في شخص الأديبة جورج صاند.
كان شوبان يتلقّى ومضة الإلهام المقدّسة وهو جالس أمام البيانو. ورغم انه كان بارعا في الارتجال، إلا انه كان يبذل جهودا مضنية في تأليف موسيقاه.
كان شوبان مختلفا عن الكثير من معاصريه في انه لم يكن متأثرا بـ بيتهوفن. ولطالما عبّر عن امتعاضه من بداية الحركة الأخيرة من السيمفونية الخامسة. ويبدو أن تأثّره الحقيقيّ كان بـ باخ، خاصّة في مراحل حياته المبكّرة.
ومثل باخ، كان شوبان يكتب موسيقاه في مجموعات، من قبيل استهلالاته الأربع والعشرين Preludes، وموسيقاه التأمّلية أو مجموعة النوكتيرن الحافلة بالتعبيرات الرومانسية.
لكنّه كان رائدا في تأليف الرقصات البولندية "البولونيز والمازوركا" التي تعتمد على أفكار مستوحاة من الموسيقى البولندية والتي كانت تعتبر مثالا على تمسّكه بالمشاعر الوطنية. كان شوبان يتعامل مع مشاعره القومية بجدّية. لكنه أيضا استوحى بعض الألوان الفولكلورية المحليّة مثل الكونشيرتو التركي لـ موزارت والرقصات الهنغارية لـ برامز.
عندما ذهب شوبان إلى فيينّا وهو شابّ، قبل أن يستقرّ في باريس، كان يأنف من موسيقى الفالس الراقصة ويعتبرها ضربا من الموسيقى الشعبية التي تعبّر عن ذائقة رديئة. ومع ذلك، فقد بدأ يكتب موسيقى فالس خاصّة به. صحيح انه ليس من نوعية الفالس الذي يمكن أن يرقص له الإنسان، لكنه مع ذلك يستدعي أجواء ساحات الرقص والفساتين الفضفاضة والملتوية.
وقد ظهر حديثا تسجيلان لـ فالسات شوبان لكلّ من اليس سارا اوت alice-sara-ott.com وانغريد فليتر ingridfliter.com، وكلاهما عازفتا بيانو موهوبتان. لكنّ سماع كلّ فالسات شوبان دفعة واحدة يشبه التهام علبة من الشوكولاته، إذ تتركك وأنت تشعر باعتلال في الكبد والمعدة، مع أن كلا منها له مواطن قوّته الخاصّة به.
إن التعامل مع فالسات شوبان ينطوي على الكثير من الصعوبة. وعزفها يشبه عبور الخط الفاصل بين العاطفة والانفعال، بين الإحساس بشيء ما والنظر إلى الوراء بتوق في محاولة لفهم طبيعة ذلك الإحساس.
الرقصات التي استخدمها شوبان هي نوع من التعليق الاجتماعي. ويقال الآن أن النوستالجيا تهدّد بتزوير كلّ شيء هذه الأيام. وأحد الأسرار الكبيرة في عزف موسيقى شوبان قد تكون، ببساطة، أن نتذكّر أن الموسيقى ليست بالجمال الذي تُعزف به.

Credits
study.com

الأربعاء، أكتوبر 14، 2009

فنّ البورتريه: صورة المبدع


الهدف المشترك للكاتب والرسّام والموسيقي هو التقاط المَشاهد أو الحالات الانفعالية والمزاجية وتصويرها ومحاولة إبراز الرؤى المنفردة على الورق أو رقعة الرسم أو من خلال النغم.
الكتّاب يكتبون غالبا عن الفنّانين والموسيقيين في الروايات والمقالات والسير الذاتية. بينما الرسّامون يصوّرون الكتّاب والموسيقيين الذين عرفوهم وأولئك الذين يجدون في حياتهم ما يدفعهم الفضول لرسمه.
وكثيرا ما يرسم الرسّامون بوتريهات للكتّاب أو الموسيقيين لكي تراهم الأجيال القادمة. لكن أفضل اللوحات هي التي تأتي من تصوّر واضح أو علاقة خاصّة بالموضوع.
ومثلما أن للموسيقى والرسم علاقة مشتركة باللون والنغم والشكل والإيقاع، فإن تصوير الملحّنين والموسيقيين يتطلب مهارة محدّدة لإيصال الموسيقى داخل روح الموضوع.

غوته أديب وعالم وفيلسوف ألماني من زعماء حركة العاصفة والاندفاع الأدبية. تطوّر فنّه وزادت خبرته بعد زيارته لايطاليا وتأثّره بالثورة الفرنسية.
في العام 1786 سافر غوته إلى ايطاليا. ومن هناك كتب إلى أصدقائه في ألمانيا يخبرهم بانطباعاته ومشاهداته عمّا أصبح يُعرف في ما بعد بالرحلة الايطالية.
كان غوته مدفوعا بدراسة السمات الطبيعية لبيئة البحر المتوسّط وجيولوجيا مناطق جنوب أوربّا. وكان مهتمّا على وجه الخصوص ببقايا الآثار الكلاسيكية وبالفنّ المعاصر. وأثناء زيارته الايطالية زار المعابد القديمة واطلع على بعض جداريات الرسّام المشهور غيوتو، كما أبدى إعجابه بأسلوب حياة الايطاليين. وعندما وصل غوته إلى روما قادما من فينيسيا قابل عددا من الرسّامين الألمان الذين كانوا يقيمون في ايطاليا آنذاك. وكان من بين هؤلاء يوهان هاينريش تيشبين الذي اصطحب غوته إلى نابولي ورسم له احد أشهر بورتريهاته. واليوم لا يتذكّر احد هذا الرسّام إلا بسبب هذا البورتريه بالذات. وفيه يجلس غوته في منطقة أثرية في وسط ايطاليا محاطا بقلاع وأعمدة وبقايا من مبان قديمة. وعلى مقربة منه يقوم جدار اثري نُحتت عليه صور لرجال ونساء.
كتب غوته في الفلسفة والشعر كما تناول المفاهيم الكلاسيكية للجمال وملامح العمارة الجيّدة. والعديد من قصائده وجدت في ما بعد طريقها إلى موسيقى كبار المؤلفين الموسيقيين مثل فرانز شوبيرت وغيره. ومن مؤلفاته "مأساة فاوست" و"نظرية الألوان".


كان جيوسيبي فيردي احد أشهر من ألّفوا الموسيقى الاوبرالية. وقد كان فيردي صديقا لمواطنه الرسّام الايطالي جيوفاني بولديني. وتوطدت علاقتهما أكثر أثناء إقامة الاثنين في باريس. في ذلك الوقت، رسم بولديني لـ فيردي بورتريها كتذكار صداقة وإعجاب. وقد ذيّله بعبارة قال فيها: إلى المايسترو من صديقه المعجب بولديني". غير أن البورتريه لم يرق كثيرا لـ فيردي، الأمر الذي اضطرّ الفنان لرسم بورتريه آخر للموسيقي في العام 1886م.
هذا البورتريه هو الذي أصبح مشهورا في ما بعد. وفيه يظهر فيردي مرتديا سترة سوداء ووشاحا ابيض وواضعا على رأسه قبّعة سوداء اسطوانية الشكل. وقد ذهب فيردي إلى محترف بولديني على مضض وجلس أمام الفنان ساعتين لكي يرسمه.
فيردي كان سعيدا بالنتيجة هذه المرّة. وقد احتفظ بولديني بالبورتريه لسنوات وكان يطوف به على المعارض الفنية لكي يراه الناس. وقد رفض أن يبيعه حتى عندما عرض عليه أمير ويلز مبلغا مغريا نظير اقتنائه. في ما بعد أهدى بولديني البورتريه إلى متحف الفنّ الحديث في روما حيث ظلّ فيه إلى اليوم.
من أشهر أعمال فيردي التي يتذكّرها الناس أوبرا عايدة. لكنه اشتهر أكثر بلحن لا دونا موبيليه La Donna Mobile الذي وضعه لأوبرا ريغوليتو والذي أصبح رمزا لايطاليا وللثقافة الايطالية.


"سرّ الإنسان ليس في أن يحيا فقط، بل أن يكون هناك ما يحيا لأجله".
عُرف فيودور دستويفسكي برواياته السيكولوجية التي تناول فيها ما يطرأ على نفس الإنسان من حالات وانفعالات متناقضة وطرح فيها الكثير من الأسئلة الأخلاقية والفلسفية.
كما عالج في أعماله مسائل الخير والشرّ والإلحاد والحرّية والسعادة والشقاء والحبّ والكراهية.
وقد سبق برواياته أفكار الكثيرين ممّن جاءوا بعده مثل نيتشه وفرويد.
كان دستويفسكي يعوّل على التحوّلات الروحية للفرد كوسيلة لإحداث التغيير بأكثر مما يمكن أن تجلبه الثورات الاجتماعية. كان معاصرا لـ تولستوي ومعارضا لـ تورغينيف وكتاباته ذات الطابع التغريبي.
رسم فاسيلي بيروف هذا البورتريه لـ دستويفسكي بعد أن فرغ الأخير من كتابة روايته المشهورة "الجريمة والعقاب". وقد رسمه بتكليف من بافيل تريتيكوف الذي كان حريصا على أن يتضمّن متحفه صورا لأهم الشخصيّات الروسية.
في البورتريه يبدو دستويفسكي في حالة تأمّل عميق تعزّزه نظراته المفكّرة ولباسه ذو الألوان الداكنة وكذلك الخلفية السوداء. المعروف أن دستويفسكي كان يعاني طوال حياته من نوبات الصرع كما كان واقعا تحت هاجس ما أشيع من انه تسبّب في مقتل والده. من جهتهم، كان الروس يعتبرونه نبيّا ومصلحا فيما كان البعض الآخر يرون فيه ضمير الطبقات الفقيرة والمسحوقة.
من أشهر رواياته "الأبله" و"بيت الموتى" و"الإخوة كارامازوف".


من العبارات المشهورة المنسوبة إلى مارسيل بروست: السعادة مفيدة للجسد، لكن الحزن هو الذي يقوّي العقل".
بروست كان احد أعظم الروائيين الفرنسيين الذين ظهروا في أواخر القرن التاسع عشر. وقد رسم له جاك بلانش هذا البورتريه القوي والمعبّر عندما كان الروائي في الحادية والعشرين من عمره.
بلانش كان احد رسّامي البورتريه الفرنسيين المعروفين في نهاية القرن التاسع عشر.
لكنه لم يكن رسّاما فحسب، بل كان بنفس الوقت كاتبا وناقدا أدبيا وموسيقيا. غير أن موهبته في الرسم طغت على ما سواها. وقد رسم بروست بعد أن قرأ كتبه وغاص في حياته الخاصّة وقرأ مذكّراته وأفكاره.
بروست، الشابّ الوسيم، يظهر هنا بوجهه البيضاوي وعينيه الواسعتين وملابسه الأنيقة.
وقد ظلّ هذا البورتريه الأكثر دقّة في تمثيل وجه وملامح صاحب الرواية المشهورة "البحث عن الزمن الضائع" التي كتبها على امتداد خمس عشرة سنة وأصبحت في ما بعد إحدى أضخم الروايات التي ظهرت في القرن العشرين.
بروست احتفظ بالبورتريه حتى وفاته في أوائل عشرينات القرن الماضي.


"كلّ شيء يمضي. كلّ شيء عابر".
يعتبر الكسندر بوشكين أشهر شاعر روسي. ويُعزى إليه الفضل في تطوير الشعر الروسي واللغة الروسية. وممّا يميّز شعره مفرداته الثريّة وأسلوبه المعبّر وصوره المبتكرة. وكان يمزج في شعره الدراما بالرومانسية والسخرية.
هذا البورتريه يعتبر أشهر صورة لـ بوشكين وقد ظهر مرارا على غلاف مجموعته الشعرية الكاملة.
رسم اوريست كيبرينسكي البورتريه عام 1827م. وهو يعتبر احد اكبر رسّامي البورتريهات الروس في بداية القرن التاسع عشر.
كانت رسومات كيبرينسكي تعبّر عن فكرة فردانية الإنسان التي روّجت لها المدرسة الرومانسية.
عندما رأى بوشكين البورتريه لأوّل مرّة قال مازحا: اشكّ الآن في أن المرآة كانت تجاملني".
وفيه يبدو الشاعر مرتديا سترة سوداء وفوقها وشاح منسدل تعلوه مربّعات حمراء وخضراء.
في البورتريه يستوقف الناظر شكل اللحية وشعر الرأس الكثيف نوعا ما وملامح الوجه ونظرات العينين التي لا تخلو من تفكير وحزن.
وفي خلفية اللوحة إلى اليمين هناك طاولة عليها منحوتة على شكل امرأة تعزف آلة وترية.
في اللوحة أيضا مسحة بطولية تنسجم مع نظرة الوطنيين الروس لشاعرهم الأعظم الذي كانوا يلقبونه بـ شمس الشعر الروسي.
في العام 1837 جرت مبارزة بالأسلحة النارية بين بوشكين وأحد خصومه أدّت إلى إصابته بجرح نافذ في صدره توفي بعده بيومين. هذا الموت الملحمي أضاف بعدا أسطوريا لشخصية بوشكين الذي أصبح في ما بعد معبّرا عن الضمير الوطني لروسيا.
من أشهر قصائده "روسلان ولودميلا" و"سجين القوقاز" و"بوريس غودونوف".


ولد المؤلف الموسيقي الفرنسي اريك ساتي في عام 1866م. كانت مؤلفاته الموسيقية متفرّدة بإيقاعاتها وأسمائها الغريبة مثل "ثلاث قطع على شكل كمّثرى" و"السمكة الحالمة".
لكن أشهر مؤلفاته هي تلك المقطوعات المعروفة بـ جيمنوبيدي وهي عبارة عن مجموعة من المعزوفات ذات الإيقاع الحزين والبطيء والتي تستمدّ صورها من الشعر.
كان ساتي على علاقة عاطفية مع الرسّامة وعارضة الأزياء سوزان فالادون التي التقاها عام 1893 في حيّ مونمارتر الباريسي.
كان المؤلف الموسيقي مفتونا كثيرا بروح سوزان الحرّة وأفكارها المتمرّدة.
لكن لسوء الحظ، كانت تلك العلاقة تعني لـ ساتي أكثر مما كانت تعني لـ فالادون.
كان يعتبر أن سوزان حبّه الحقيقي حتى بعد أن دخلت في علاقات عاطفية مع رجال آخرين.
ومع ذلك، رسمت فالادون بورتريها مثيرا لـ اريك ساتي ظلّ هو يعتزّ به كثيرا واحتفظ به في محترفه الخاصّ إلى أن توفي.
الفنان بول سينياك رسم ساتي هو أيضا.
لكن بورتريه فالادون ذو لمسة شخصية خاصّة تعكس روح العلاقة الحميمة التي كانت تربطها بالموسيقي.


"لا تخافوا الله، بل أحبّوه"!
ولد جلال الدين الرومي في إحدى قرى شمال شرق فارس قبل أكثر من 800 عام.
وعندما كان عمره 12 سنة قابل المتصوّف والشاعر الفارسي المشهور "العطّار" الذي قال لوالده: إن الكلمات الحارّة والمحمومة التي تخرج من فم ابنك ستشعل أرواح وقلوب العشّاق في هذا العالم".
كان الرومي فقيها ومعلّما وشاعرا وعارفا. وقد درج الكثيرون في فارس وأفغانستان والهند ووسط آسيا على مناداته بـ مولانا.
كان لقاؤه بـ شمس التبريزي يمثل ولادته الثانية.
"ليست كل عين ترى وليس كلّ بحر يحتوي لآليء". شعر الرومي غيبي يفتن بجماله وبكشوفاته الروحية العميقة.
هذا البورتريه رسمه له فنان ظلّ اسمه مجهولا. وهو موجود، ضمن أشياء أخرى، في ضريحه في مدينة قونيه التركية التي عاش فيها معظم حياته.
في البورتريه يبدو الرومي شيخا بلحية وعمامة بيضاء وقبّعة طويلة صفراء. انه ينظر إلى الأرض في تأمّل عميق وعلى وجهه علامات الوقار والسكينة.
وبإمكان الإنسان أن يتخيّل أن البورتريه رُسم للرومي بينما كان يتلو إحدى قصائده.
يقال انه كان يميل برأسه يمينا وشمالا عندما كان يقرأ أشعاره. ومن هنا ولدت فكرة الطريقة المولوية التي اشتهرت برقصها الدائري الذي يقال بأنه يوفّر للراقص الصوفي منفذا للعبور من عالم الأرض إلى عالم السماء.
شعر الرومي واحة للروح إذ يمنح العزاء والراحة لأصحاب العقول القلقة والقلوب المتعبة.
والدخول إلى عالمه يقتضي من الشخص أن يتخلّى عن الكثير من أفكاره وقناعاته المسبقة.
في عالم الخفاء، يقول الرومي في إحدى قصائده، ثمّة خشب عود يحترق. وهذا الحبّ هو دخان ذلك العطر".
وهذا البورتريه يقدّم صورة لإنسان كان دائم التجوال بحثا عن الله.


كان اللورد بايرون ابرز الشعراء الانجليز الرومانسيين. كما كان أوّل شخصية مشهورة يركب موجة تقديس الجماهير التي حوّلته إلى إلهة شعرية.
كانت رسائل بايرون إلى زوجته وخليلاته وأصدقائه مثار اهتمام النقاد والمؤرّخين. وعلى عكس الاعتقاد الشائع، لم يكن بايرون ذلك الشخص المنعزل والذي لم يكن يأبه كثيرا بآراء الناس. إذ كان يحتفظ بالكثير من الرسائل التي كانت ترده من المعجبين، وخاصّة من النساء، برغم جرأتها ولغتها الفاضحة أحيانا. وكانت تلك الرسائل تظهر كم كان بايرون يستمتع بهالة التقديس التي كان الناس يحيطونه بها.
وبسبب صورة الشاعر كبطل رومانسي، كانت النساء مفتونات بمشاهدة صوره. ومن أشهرها هذا البورتريه الذي رسمه له توماس فيليبس عام 1835م والذي يظهر فيه بايرون مرتديا ملابس تقليدية البانية مطرّزة، تتكوّن من عمامة وعباءة وسترة بينما يمسك بخنجر مذهّب طويل.
ويُرجّح أن البورتريه رُسم له في أثينا حيث كان بايرون يحارب في صفوف الجيش اليوناني ضد الأتراك.
بايرون، برأي بعض المؤرّخين، كان أهمّ شخصية أوربية في النصف الأول من القرن التاسع عشر من حيث تأثيره على الفنون والأدب والموسيقى. وربّما لا يتفوّق عليه من هذه الناحية سوى نابليون.
وقد توفي بالحمّى عام 1824 أثناء مشاركته في حرب استقلال اليونان ولم يكن وقتها قد أكمل عامه السادس والثلاثين. وكان لموته المفاجئ تأثير الصدمة في أنحاء كثيرة من أوربا، كما تحوّل إلى رمز للشاعر الثائر والمقاتل في سبيل الحرّية.
من أشهر مؤلفاته "رحلة تشايلد هارولد" و"دون جوان".


ولد فريدريك شوبان في وارسو عام 1810م. كان نصف فرنسي ونصف بولندي. وقد اظهر موهبة ملحوظة في العزف على البيانو وهو صبيّ. وفي النهاية انتقل إلى باريس بعد الاضطرابات السياسية التي شهدتها بولندا آنذاك.
وبالإضافة إلى مقدرته الموسيقية العظيمة ومؤلفاته الرائعة على البيانو، كان لـ شوبان نصيبه من الرومانسية. كما كانت له متاعبه مع مرض السلّ الذي حصد حياة شقيقته وأبيه والذي سيقتل شوبان في ما بعد، أي في العام 1849م.
الرسّام اوجين ديلاكروا كان صديقا لـ شوبان ورسم له بورتريها عام 1838م. أسلوب ديلاكروا الرومانسي كان متناسبا تماما مع وجنتي شوبان الغائرتين ومظهره الأثيري. البورتريه أصبح تصويرا مشهورا للملحّن في قمّة نجاحه وشهرته. في البداية، رسم ديلاكروا بورتريها ثنائيا يجمع بين شوبان والروائية الفرنسية جورج صاند. كانت صاند امرأة متحرّرة ومغرمة بلبس بناطيل الرجال. كما كانت تدخّن علنا، وهي عادة كانت مستهجنة في ذلك الوقت.
ورغم أن علاقة الحبّ بين صاند وشوبان بدأت علاقة جسدية، فإن صاند ومع تدهور صحّة شوبان وجدت نفسها تقوم بدور الممرّضة أكثر من العشيقة.
البورتريه المشترك لـ صاند وشوبان يصوّرهما وهما جالسان جنبا إلى جنب. لكن اللوحة في النهاية قُسمت إلى نصفين. والقسم الذي يصوّر شوبان موجود اليوم في متحف اللوفر.
كان شوبان يعزو الفضل في صوغ أسلوبه الموسيقي إلى كلّ من موزارت وباخ. ومن أشهر مؤلفاته الموسيقية سلسلة البولونيز بالإضافة إلى معزوفتيه المسمّيتين فانتازي ونوكتيرن .


ليو تولستوي، مؤلف الروايات الملحمية الكبيرة مثل "الحرب والسلام" و"آنا كارينينا" و"موت ايفان ايليش"، كان موضوعا لعدد من الرسومات.
إيليا ريبين الرسّام الروسي المولود في اوكرانيا رسم للروائي الكبير عدّة بورتريهات.
كان ريبين رسّاما موهوبا ودقيق الملاحظة.
وبورتريهاته المشهورة تصوّر الشخصيات الروسية الكبيرة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
وقد رسم ريبين بورتريها رسميا لـ تولستوي.
غير انه أيضا رسم صورا أكثر حميمية للكاتب المشهور وهو يكتب فوق مكتبه، أو يستلقي على العشب وهو يقرأ، أو وهو يقف في الغابة.
لوحة ريبين التي رسمها في العام 1890 لـ تولستوي وهو حافي القدمين تلفت النظر بشكل خاص لأنها تمزج مكانة تولستوي الأدبية بارتباطه الفطري بالإنسانية وبالأرض.


الكاتبة الفرنسية كوليت اشتهرت بحياتها المتلوّنة وبمغامراتها العاطفية التي كانت تجري بموازاة أعمالها التي اتسمت بواقعيتها وحسّيتها. كانت كتاباتها تؤشّر على براعتها في تحليل مشاعر المرأة كما أبدعت في وصف الريف الذي نشأت فيه وأحبّته. ومن أشهر رواياتها "قمح وعشب" و"كلودين".
كوليت كانت أوّل امرأة أديبة تنال جائزة غونكور في زمانها. وقد رسمها الفنان جاك اومبيرت عام 1896 م. في البورتريه تبدو الأديبة في ذروة شبابها وحيويّتها. وقد رسمها الفنان وهي في سنّ الثالثة والعشرين. وتظهر في الصورة وهي تجلس بوضع جانبي بينما تزيّن شعرها بوردة حمراء. في تلك السنّ كانت كوليت متزوّجة من زوجها الأوّل هنري فيلار. كان اكبر منها سنّا وكان يحتفظ بعلاقات أدبية كثيرة. ويقال انه حبس كوليت في غرفة وأرغمها على تذييل رواياتها باسمه.
في ما بعد تمكّنت من تطليقه واستعادت حرّيتها وأصبحت اسما أدبيا معروفا وشخصية اجتماعية لامعة.


كان نيكولاي ريمسكي كورساكوف أحد أشهر الشخصيات الروسية التي رسمها الفنان ايليا ريبين قبل ثورة 1917م.
كورساكوف كان ينتمي إلى مجموعة من المؤلفين الموسيقيين الذين أثروا في المواهب الموسيقية التي ظهرت في ما بعد مثل ايغور سترافنسكي وسيرغي بروكوفييف.
أسلوب كورساكوف اللحني كان يمزج بين الفولكلور الروسي والتأثيرات الموسيقية الغربية. ومن أشهر أعماله وأكثرها رواجا موسيقى شهرزاد .
الفنان فالانتين سيروف رسم بورتريها لـ كورساكوف يظهر فيه بنظارات طبية ولحية طويلة وهو جالس إلى مكتبه بينما ينهمك في كتابة نوتة موسيقية لعمل جديد.
وعلى النقيض من هذا البورتريه الجادّ، يقدّم ايليا ريبين كورساكوف في بيئة أكثر استرخاءً.
في الصورة الأخيرة يجلس المؤلف الموسيقي على أريكة ويسند مرفقه على وسادة خضراء. ويبدو غارقا في التأمّل كأنّما يفكّر في تفاصيل معزوفة أو لحن موسيقي جديد بينما يحدّق في البعيد.


"أنا أفكر إذن أنا موجود". لا تُذكر هذه الجملة إلا ويُستدعى اسم ديكارت. اشتهر ديكارت بآرائه عن المعرفة واليقين والشكّ والعلاقة بين الجسد والعقل. وهناك إجماع على أنه مؤسّس الفلسفة الحديثة التي قادت إلى التنوير. كان عقلانيا يؤمن بأن العقل، لا التجريب، هو المصدر الأساسي للمعرفة. ومن أقواله أن الأحاسيس غامضة دائما وانه لا يمكن الوثوق بها.
في هولندا ألّف ديكارت كتابه "العالم". في تلك الأثناء كانت الكنيسة تحاكم غاليليو لتعليمه أفكار كوبرنيكوس.
رسم فرانز هولس هذا البورتريه لـ ديكارت، على الأرجح أثناء زيارة الأخير لهولندا عام 1618. وفيه يظهر الفيلسوف بشعره الطويل وقد ارتدى ملابس سوداء وياقة كبيرة بيضاء على خلفية داكنة. شارباه خفيفان وعيناه الكبيرتان تشعّان بالذكاء.
"عواطف الروح" كان آخر كتاب ألفه ديكارت وتناول فيه مسألة العلاقة بين الروح والجسد. وكان يردّ في الكتاب على تساؤلات اليزابيث أميرة بوهيميا التي كانت تحاوره في مسائل فلسفية وفكرية. والكتاب هو مزيج من علم النفس والأخلاق.
ذهب ديكارت بعد ذلك إلى السويد بناءً على دعوة من الملكة كريستينا. كان مطلوبا منه أن يصحو في الصباح الباكر لإعطاء الملكة دروسا في الفلسفة. وبسبب أجواء السويد الباردة أصيب بالالتهاب الرئوي ولم يلبث أن توفي هناك في الحادي عشر من فبراير عام 1650م.


كانت كلارا شومان طفلة عبقرية سحرت أوربّا بموهبتها الموسيقية في بداية القرن التاسع عشر. وقد امتدحها غوته وشوبان بينما أسَرَت عقل الملحّن وعازف البيانو روبرت شومان الذي تزوّجها عام 1840م.ورغم وجود الكثير من القواسم المشتركة بينهما، خاصّة شغفهما بالموسيقى، فإن روبرت كان يعاني من بعض المشاكل النفسية. فقد كانت تأتيه نوبات اكتئاب وحاول الانتحار مرارا إلى أن أودع في النهاية بإحدى دور الرعاية الطبية.
عدم استقرار حالته دفع كلارا إلى تحمّل مسئولية رعاية أطفالهما السبعة. لكنها استمرّت في تأليف الموسيقى والعزف على البيانو.
الرسّام يوهان شرام رسم كلارا شومان وهي شابّة في السنة التي تزوّجت فيها شومان.
وجهها وقور وهادئ وملامحها واثقة. البورتريه ينطوي على مفارقة من حيث أن الزواج غيّر طريقها الإبداعي وجعلها تقدّم احتياجات زوجها على احتياجاتها هي.
المعروف أن كلارا كانت تربطها علاقة عاطفية مع الموسيقي الألماني برامز. وبعد زواجها من شومان تحوّلت تلك العلاقة إلى حبّ أفلاطوني وأصبحت تقتصر على تبادل الرسائل.


جان كوكتو شاعر وروائي وفنان وكاتب مسرحي فرنسي.
كان صديقا للأديبة كوليت بالإضافة إلى شهرته كشخصية بوهيمية.
كوكتو النحيل وذو الملامح الهادئة واليدين الجميلتين والأصابع الطويلة كان موضوعا جذّابا للرسّامين في زمانه.
الرسّام اميديو موديلياني كان صديقا لـ كوكتو وقد رسم له في العام 1916 بورتريها أصبح مشهورا في ما بعد لأنه قدّم من خلاله رؤية فريدة لـ كوكتو، الكاتب المتعدّد المواهب والاهتمامات.
كان كوكتو على الدوام مثقفا ثوريا ومشاكسا.
وقد عُرف بعلاقته الحميمة بالمغنية الفرنسية المشهورة اديث بياف كما كان معاصرا لكلّ من مارسيل بروست واندريه جيد.
كان كوكتو متعلقا كثيرا بصديقته بياف.
وعندما توفيت نزل عليه الخبر نزول الصاعقة وغلبه الحزن والفجيعة وقال لمن حوله: هذا هو يومي الأخير على هذه الأرض".
والغريب انه توفي بعد ساعات فقط من موتها، أي في الحادي عشر من أكتوبر عام 1963م عن 74 عاما.
وكان قد أمر بأن يُكتب على شاهد قبره عبارة: سأظلّ بينكم".
ومن أشهر كتب كوكتو "دم الشاعر" و"رقصة سوفوكليس" و"صوت الإنسان".


ظهر هذا الرسم لـ شكسبير لأول مرّة على غلاف كتاب يتضمّن مجموعة من أعماله ونشر في العام 1623م. وهذه الصورة له هي الأقرب إلى الصحّة والأصالة.
الطريقة التي رُسم بها البورتريه دفعت بعض المؤرّخين للاعتقاد أن شكسبير كان ينتمي إلى جماعة فلسفية غامضة تمزج التعاليم المسيحية بالسحر والأفكار الافلاطونية. وتحليل بعض أعماله يوحي بأنه لم يكن جزءا من تلك الجماعة فحسب بل شخصية محورية فيها.
وقد رسم البورتريه مارتن دروشاوت، على الأرجح بعد وفاة شكسبير عام 1616 . وهناك العديد من الصور التي يعتقد أنها لـ شكسبير، لكن لا توجد أدلّة كافية تؤكّد نسبتها إليه.
وقد عُثر مؤخّرا على بورتريه قيل انه لـ شكسبير ويظهر فيه رجل يبدو ذا مكانة اجتماعية رفيعة ويرتدي ملابس ايطالية أنيقة وباهظة الثمن تعود للقرن السابع عشر.
وفي مارس من هذه السنة توصّل بعض الباحثين إلى أن اللوحة تخصّ شكسبير فعلا، ويُرجّح أنها رُسمت له أثناء حياته.


يعتبر أبو عليّ ابن سينا احد أشهر أطبّاء وفلاسفة الإسلام. عُرف بالشيخ الرئيس وقد ولد قرب بخارى في ما يُعرف اليوم بأوزبكستان وتوفي في همذان بإيران. تعمّق ابن سينا في دراسة فلسفة أرسطو وقال بفيض العالم عن الله. له ميول صوفية عميقة برزت في كتابه "الحكمة المشرقية"، وهو عبارة عن فلسفته الشخصية. من مؤلّفاته المطبوعة "القانون في الطبّ" و"كتاب الشفاء". وله قصيدة مشهورة يقول فيها: هبطتْ إليك من المحلّ الأرفع ورقاء ذات تعزّز وتمنّع". كتب ابن سينا سيرة ذاتية لنفسه غير انه فضّل أن يتجنّب الحديث فيها عن نفسه ليركّز على أفكاره عن الوصول إلى الحقيقة المطلقة.
هذا البورتريه رسمه لابن سينا فنان يُدعى علي قاري. وباستثناء اسمه، لا يُعرف عنه أو عن حياته شيء. في البورتريه يبدو ابن سينا بملابس فارسية تقليدية تعود للقرن الحادي عشر الميلادي. ملامحه جادّة على شيء من التفكير والتأمّل الذي يعمّقه الوضع الجانبي الذي رُسمت به الشخصية. ملامح الوجه تشي بقدر من الوسامة والوقار. هذا الملمح الهادئ في الصورة يتناقض مع طبيعة العصر الذي عاش فيه ابن سينا والذي اتسم بكثرة الصراعات السياسية بين الفرس السامانيين والأتراك على مناطق النفوذ في آسيا الوسطى.


كان نيتشه وما يزال احد أكثر الفلاسفة غموضا وإثارة للجدل.
قيل انه كان عدميا. وقد راعه أن يرى عالما لا يرمز إلى شيء وليس فيه معايير أو قواعد أخلاقية ثابتة.
وقد سبّبت أفكاره صدمة للكثيرين بينما استقبلها آخرون بالكثير من الثناء والاستحسان.
هذا البورتريه رسمه له هانز اولد الذي كان مديرا لمتحف الفنون في أكاديمية فيمر الألمانية.
كان اولد احد أصدقاء نيتشه المقرّبين. وقد نشر الرسم في إحدى المجلات الألمانية آنذاك.
البورتريه كاريكاتيري إلى حدّ ما. وفيه يبدو نيتشه بعينين غائرتين وحاجبين عريضين وشاربين كثيفين. نظراته الحادّة وملامحه المتمرّدة تذكّرنا بموت الإله وبإرادة القوّة وبالعداء للمسيح وبغيرها من أجزاء المنظومة الفكرية التي قامت عليها فلسفة نيتشه.
وربّما تشي ملامح نيتشه في هذا البورتريه الغريب بقرب إصابته بالخرف الدماغي الذي عانى منه وأسلمه للعزلة في نهايات حياته.


كانت هيباتيا أحد رموز الفكر والفلسفة من النساء في العالم القديم. والدها كان فيلسوفا وأديبا وعالم رياضيات. وهي عاشت زمن ازدهار مكتبة الاسكندرية التي كانت آخر من تولّى إدارتها. وقد تفوّقت على كثير من العلماء والفلاسفة في عصرها. كان أتباعها يأتون من أماكن بعيدة لسماع دروسها ومحاضراتها. وكان لـ هيباتيا حضور كبير في أوساط المفكّرين من الرجال الذين كانوا يحترمونها لسماحة أخلاقها ورصانة عقلها.
كانت تتنقّل ما بين الإسكندرية وأثينا وتعلّم فلسفة أرسطو وأفلاطون. وقد عُرف عنها أنها كانت ذات جمال باهر يزيّنه التواضع والحكمة. غير أنها كانت عصيّة دائما على خاطبي ودّها والطامعين بقلبها.
وتُروى قصص متضاربة عن الكيفية التي انتهت بها حياتها. تقول إحدى الروايات إن حشدا من المتعصّبين المسيحيين انتزعوها من عربتها ذات يوم وجرّدوها من ملابسها ثم مزّقوها إربا وجرجروها إلى الكنيسة قبل أن يضرموا في جثتها النار. كانت التهمة الترويج للوثنية على حساب المسيحية.
ومن بين من تطرّقوا لقصّة مقتلها بتلك الطريقة الهمجية والمأساوية كلّ من العالم كارل ساغان وفولتير وسواهما.
رُسم لـ هيباتيا العديد من البورتريهات المتخيّلة والتي تظهر في بعضها عارية.
لكن هذا البورتريه لها يجذب العين بأناقة خطوطه ورقّة تفاصيله. وقد ظهر لأوّل مرّة في بدايات القرن الماضي ونُشر في كتاب يضمّ رسوما إيضاحية باللونين الأبيض والأسود وضعها فنّان مجهول.
لا انفعالات محدّدة هنا عدا أن المرأة تبدو ساهمة وصامتة.
وإجمالا، فإن الملامح في البورتريه لا تبتعد كثيرا عن ملامح المرأة كما تبدو في الصور التي رُسمت لها في العصور المتقدّمة.


Credits
crystalinks.com
smithsonianmag.com

الأحد، مارس 23، 2008

كاندينسكي: العين تسمع والأذن ترى


"كلما كان العالم أكثر إثارة للخوف كلما أصبح الفنّ أكثر تجريدا".
"من بين كافة أشكال الفنون، فإن الرسم التجريدي هو أصعبها. انه يتطلّب منك أن ترسم جيّدا وأن تتمتّع بحساسية فائقة تجاه التكوين واللون وأن تكون، وهذا هو الأهم، شاعرا حقيقيا".
- كاندينسكي

كنت دائما أحاذر الاقتراب من كاندينسكي لصعوبته وتعذّر فهم أو استيعاب لوحاته. ومع ذلك كان هناك شعور يساورني دائما بأنه رغم غموضه فإنه فنّان جدير بأن نقرأه بعمق لمحاولة فهمه والنفاذ إلى عالمه بشكل أفضل ومن ثم تقدير فنّه وريادته. ولهذا الغرض قرأت عن كاندينسكي العديد من المقالات والتحليلات معظمها بالانجليزية. ورغم المحاولات الكثيرة، لم أتمكّن بعد من أن أتكيّف تماما مع لوحاته رغم انه ما يزال هناك الكثير مما يحفّزني لان أحاول ..
إن لوحات كاندينسكي ليست من ذلك النوع الذي يروق للعين أو يريح الأعصاب أو يبعث على التفاؤل. بل إن بعضها محيّر ومزعج ومشوّش للذهن. والمفارقة هي أن نسخا كثيرة من لوحات هذا الفنّان التي تستعصي على الفهم أو التفسير وجدت طريقها اليوم إلى كلّ مكان تقريبا؛ من ردهات المستشفيات إلى غرف الجلوس بالمنازل إلى المكاتب وحتى إلى جدران المقاهي والمطاعم الكبيرة. ومن السهل التعرّف على لوحات كاندينسكي وتمييزها عن لوحات سواه بدوائرها الملوّنة وزواياها وخطوطها المتعرّجة والمنحنية والمتقاطعة والمتوازية وبأصواتها وغيومها الأثيرية وذبذباتها وهالاتها المضيئة والمتوهّجة.
وقد قرأت أثناء تحضيري للموضوع كلاما لأحد النقاد قال فيه إن كاندينسكي خبّأ في أكثر من تكوين وجوها شبحية لهتلر ولينين. وحاولت واجتهدت كثيرا أن أتبيّن وجها أو أثرا لوجه من تلك الوجوه في أيّ من لوحات الفنان، لكن دون جدوى.
الموضوع التالي هو عبارة عن ترجمة لمقال متميّز كنت قد قرأته في وقت سابق في موقع جريدة الديلي تلغراف يحاول فيه كاتبه إلقاء بعض الضوء على حياة كاندينسكي وأسلوبه الفنّي وعلى ظاهرة الإحساس المتزامن التي يقال أن كاندينسكي كان متأثرا بها.

يعود الفضل لـ فاسيلي كاندينسكي في رسم أوّل لوحات تجريدية في تاريخ الفنّ ليصبح بعد ذلك رائد التجريدية في العالم بل ومنظّرها الأوّل بلا منازع . لكن طموح كاندينسكي الفنّي ذهب به إلى ابعد من ذلك، فقد أراد استدعاء الصوت من خلال حاسّة الإبصار ومن ثم إيجاد معادل فنّي لسيمفونية لا تثير فقط العين وإنما الأذن أيضا.
ويعتقد أن كاندينسكي كان يمرّ بظاهرة يسمّيها علماء النفس الإحساس المتزامن Synaesthesia، وهي كلمة يونانية الأصل تشير إلى حالة تسمح للشخص بأن يقدّر الأصوات والألوان والكلمات بحاسّتين أو أكثر في نفس الوقت.
وفي هذه الحالة، فإن الألوان والعلامات المرسومة تثير أصواتا خاصّة أو نغمات موسيقية. ويقال أن المقدرة اللاإرادية على "سماع" اللون و"رؤية" الموسيقى أو حتى "تذوّق" الكلمات هي ظاهرة ناتجة عن تداخل إشارات في الدماغ بشكل عرضي، وهي حالة لا تحدث إلا لشخص من بين كلّ 2000 إنسان كما أنها تحدث في النساء أكثر من الرجال.
وتعزى أول حالة موثّقة عن ظاهرة الإحساس المتزامن إلى الفيلسوف والمفكّر الانجليزي جون لوك John Locke الذي تحدّث في العام 1690 عن رجل كان يزعم انه كان يرى لونا قرمزيا كلما سمع عزفا على آلة البوق.
لكنّ فكرة ارتباط الموسيقى بالفنون البصرية تعود إلى اليونان القديمة، ويذكر أن أفلاطون كان أوّل من تحدّث عن الأنغام والموسيقى وعلاقتها بالرسم.
ومثلما هو الحال في لغة النوتات الموسيقية، ظلت الألوان الطيفية ولزمن طويل تنتظم في سلالم متدرّجة. ويشار في هذا الصدد إلى أن بيتهوفن كان يسمّي الـ B minor المفتاح الأسود، والـ D major المفتاح البرتقالي. كما كان شوبيرت يرى الـ E minor على هيئة فتاة عذراء ترتدي فستانا ابيض بياقة من الزهري والأحمر.
لكن ما يزال من غير الواضح ما إذا كان المؤلفان الموسيقيّان قد خبرا، فعلا، شيئا من حالة الإحساس المتزامن أم أنهما كانا فقط واقعين تحت تأثير ما كتبه كلّ من غوته وشوبنهاور ورودولف شتاينر عن نظريات الألوان وامتزاج الحواسّ.
غير أن المتشكّكين يرفضون نظرية الإحساس المتزامن على أساس أنها ليست أكثر من اختراع شخصي. لكن مؤخّرا تمكّنت مجموعة من أطبّاء الأعصاب من إثبات أن الأفراد الذين قالوا بأنهم مرّوا بهذه الحالة يمكن أن يروا الأصوات فعلا. فقد أظهرت سلسلة من عمليات المسح الدماغي أجريت على بعض الأشخاص، بعد أن ُعصبت عيونهم، حدوث "نشاط بصري" في أدمغتهم عند سماعهم بعض الأصوات. وتتّجه النيّة الآن إلى محاولة العثور على المورّث المسئول عن هذه الظاهرة.
ورغم نقص الأدلة عن حالة كاندينسكي، فإن المعروف أن هذا الفنان انشغل لفترة طويلة بدراسة العلاقة المتبادلة بين الصوت واللون. ويتذكّر كاندينسكي انه كان يسمع "هسيسا" غريبا عندما كان يقوم بمزج الألوان في طفولته. وعندما أصبح عازف تشيللو متمكّنا، في ما بعد، قال انه كان يرى اللون الأزرق الغامق أثناء عزفه.
يقول شين رينبيرد أمين متحف تيت البريطاني: اشعر أن كاندينسكي كان شخصا طبيعيا. لقد رسم أضخم لوحاته، أي التكوين رقم 7 ، خلال ثلاثة أيّام فقط وهذا يثبت أن هذه اللغة متجسّدة فيه.
اكتشف كاندينسكي تأثّره بحالة الإحساس المتزامن أثناء حضوره حفلا في موسكو عزفت خلاله موسيقى لـ ريتشارد فاغنر.
وقد قال معلقا على تلك الحادثة: لقد رأيت جميع الألوان منعكسة أمامي على مرآة الروح". وفي عام 1911، بعد أن درس واستقرّ في المانيا، تحرّكت مشاعره من جديد واعتراه نفس الإحساس القديم وهو يستمع إلى حفل للموسيقي ارنولد شونبيرغ. وبعد يومين من ذلك الحفل انتهى من رسم لوحته انطباع 3 . ومن يومها أصبح الرسام كاندينسكي والموسيقي شونبيرغ صديقين.
ولو افترضنا أن كاندينسكي كان يفضّل لونا محدّدا فلا بدّ وأن ذلك اللون كان الأزرق. يقول: كلما كان الأزرق داكنا كلما دعا الإنسان بقوّة لان يدخل في اللانهائي وكلما أيقظ فيه الرغبة في الصفاء ومن ثم الدخول إلى عالم ما فوق الطبيعة. وكلما كان الأزرق أكثر سطوعا كلما فقد "صوته" إلى أن يتحوّل إلى "سكون صامت" ثم يصبح ابيض".
كان كاندينسكي يؤمن بأن الكون واقع تحت تأثير ذبذبات صادرة عن قوى ما فوق الطبيعة وعن هالات الضوء والطاقة و"أشكال من الأفكار". وهي نفس آراء بعض الحركات الغامضة وشبه الدينية مثل الثيوصوفية التي تمارس طقوسا من التأمّل الروحي والفلسفي. ومع ذلك فإن قناعات كاندينسكي وإيمانه بالإمكانات الانفعالية للفن ما تزال مقنعة حتى اليوم.
أن استجابتنا للوحات كاندينسكي يفترض أنها تعكس تقديرنا للموسيقى وأنها تأتي من دواخلنا وليس من مضاهاتها بالعالم المنظور. يقول: إن اللون هو لوحة المفاتيح. والعين هي المطرقة. والروح هي البيانو بأوتاره المتعدّدة. والفنان هو اليد التي – بملامستها هذا المفتاح أو ذاك – تهزّ الروح وتبعث فيها الحركة والحيوية".
لقد أنجز كاندينسكي تجريدا صافيا عندما استبدل القلاع والأبراج العالية التي كانت تظهر في مناظره الطبيعية بكتل لونية أو بـ "أنغام وجمل موسيقية تؤلف معا أغنية "بصرية"، كما كان يراها.
وبهذه الطريقة نفسها رسم تكويناته الملتفّة مستخدما ضربات "متعدّدة الأصوات والنغمات" قوامها الأصفر الدافيء ذو التدرّجات الداكنة الذي تمّت موازنته برُقع من الأزرق "الرنّان" أو الأسود "الصامت".
ويصف رينبيرد كيف أن كاندينسكي كان يستخدم مفردات موسيقية "كي يهدم الجدران الخارجية لفنّه الخاص".
بعد العام 1900 قام الفنان بتجزئة أعماله إلى ثلاث فئات: انطباعات، أعمال مرتجلة، وتكوينات. وغالبا ما كان يضيف عناوين موسيقية لبعض اللوحات مثل Fugue و Opposing Chords و Funeral March .
كما وضع ثلاث مسرحيات زاوج فيها بين فنون الرسم والموسيقى والمسرح والرقص بطريقة توحّد بين جميع الحواسّ.
إن مما لا شكّ فيه أن اقتران كاندينسكي بظاهرة الإحساس المتزامن كان مثارا لنقاشات كثيرة وترك بصمة مميّزة على مسيرة الفن الأوربي المعاصر. لكن هناك أمثلة أخرى كثيرة عن تأثير الأصوات في الفنّ والشعر الحديث مثل لوحة الصرخة لـ مونك Munch’s The Scream ونوكتيرن لـ ويسلر Whistler’s Nocturnes وأناشيد إيزرا باوند Ezra Pound’s Cantos ورباعيات تي اس اليوت T. S. Eliot’s Quartets .
غير أن موهبة كاندينسكي الغريبة والخاصة في سماع الألوان وترجمتها على اللوحة في شكل موسيقى بصرية وتوظيفه للمصطلح الذي صاغه الناقد روجر فراي Roger Fry عام 1912، كلّ ذلك منح العالم أسلوبا آخر في تقدير الفن سيرثه في ما بعد العديد من الشعراء والفنانين التجريديين طوال ما تبقّى من سنوات القرن العشرين.
وأنت تقف أمام لوحات كاندينسكي حاول أن تعير أذنيك للموسيقى وأن تفتح عينيك على اللوحة وأن تتوقف عن التفكير للحظات..
ثم اسأل نفسك ما إذا كان العمل قد ساعدك على الدخول إلى عوالم لم تكن تعرفها من قبل.
فإذا كانت الإجابة بـ نعم، فما الذي تريده أكثر؟!


Credits
wassilykandinsky.net