:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات تشيكوف. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات تشيكوف. إظهار كافة الرسائل

الأحد، أبريل 07، 2024

شاعر الطبيعة


نتوق أحيانا إلى ما لا نستطيع بلوغه؛ إلى ما هو جميل ومثالي وبعيد المنال. في الشتاء، مثلا، قد تتطلّع الى أن تجد المتعة في مشهد خريفي ليس هذا أوانه. ومع ذلك ربّما لا يأتي الخريف بأكثر مما تمنحنا إيّاه هذه اللوحة "الى فوق"، والتي يصوّر فيها الرسّام الروسي إيساك ليڤيتان نهرا تصطفّ على جانبيه بعض الأشجار في أعماق الريف الروسي.
كان ليڤيتان (1860 - 1900) يُضفي على رسوماته للطبيعة أمزجة متنوّعة مع مسحة روحانية تصبح انعكاسا للظرف الانساني. وبعض صوره الأخيرة التي رسمها قبيل وفاته كانت تنبض بالضوء، مع غيوم داكنة في السماء. كما كانت مشبعة بالتجارب والمشاعر الإنسانية الذاتية من حزن وسلام ومرح وابتهاج وما إلى ذلك.
وكان أيضا يصوّر الكثير من المشاعر في اعماله متبنّيا نوعا من الواقعية القاسية الممزوجة بشيء من روح الشعر الواهب للحياة. ولهذا يصبح وجود البشر في المنظر غير ضروريّ بل وحتى زائدا عن الحاجة.
التنظيم الذهني الجيّد والشكّ والضعف والمزاج الكئيب الذي تعكسه بعض صوره يعكس قدرة ليڤيتان الرائعة على النفاذ الى عمق الطبيعة الروسية السرّية والناعمة ممّا لم يستطع فعله رسّام آخر قبله أو بعده.
ومناظر القرى الفقيرة مع طبيعتها القاسية، لكن الجميلة، التي نراها كثيرا في لوحاته سبق أن تغنّى بها شاعر روسي عاش في القرن التاسع عشر ويُدعى تيوتشيف، الذي كان أحد الشعراء المفضّلين لدى ليڤيتان. ومما يُنقل عن هذا الشاعر قوله: المكان الذي ولدت فيه كان اللون الغالب فيه هو الرمادي، ودروبه المتعرّجة تذكّر بعواء العواصف الثلجية".
أحد معاصري ليڤيتان كان الرسّام ليونيد باسترناك الذي يقول: في روسيا لا يوجد منظر طبيعيّ لا يستحقّ أن تسجّله فرشاة رسّام". وكان يصف مناطق شمال روسيا "بالشمال العظيم الكئيب". لكن ليڤيتان نفسه لم يكن يعتبر الطبيعة الروسية متجهّمة ولا فقيرة.
وقد سافر إلى خارج روسيا ثلاث مرّات، حيث رأى طبيعة أكثر حيوية في فرنسا وإيطاليا، وأكثر وقارا في جبال سويسرا. لكن تلك المناظر لم تحرّك مشاعره، بل ظلّ غير مبالٍ ومرهقا وملولا. وكتب رسالة حزينة يقول فيها: أستطيع أن أتخيّل جمال روسيا الآن بعد أن فاضت الأنهار وعادت الحياة الى مجراها. لا يوجد بلد أفضل من روسيا! فقط هناك يمكن أن يوجد منظر طبيعيّ حقيقيّ".


كان من عادة الفنّانين الرمزيين أن يرسموا حالة الطبيعة في المساء أو الليل. وكانوا يعتقدون أنه عند الغسق أو في ضوء القمر يبدو العالم غامضا وشبحيّا ومبهما. وبدوره اكتشف ليڤيتان أن في حبّه القويّ للطبيعة الروسية الصاخبة والمتواضعة في آن شيئا ما روحانيّا أو مقدّسا وأن فيها الكثير من الشعر المتسامي.
في بعض مناظره المسائية، تبدو الألوان صامتة والخطوط العريضة مهزوزة وغير واضحة في ضوء القمر الناعم. أما السماء فتظهر بلون أزرق وردي، مع سحابة مزرقّة تحجب جزءا من ضوء القمر وضبابٍ خفيف منتشر على الأرض ومجسَّد بطريقة رائعة وبارعة.
في عام 1887، ذهب إيساك ليڤيتان إلى منطقة نهر الفولغا. رحلته الأولى الى هناك لم تُثر إعجابه كثيرا. وقد كتب إلى صديقه الكاتب المسرحيّ أنطون تشيكوف يقول: رأيت شجيرات وجبالا شديدة الانحدار. كنت أتوقّع أن يثير مرأى نهر الفولغا في نفسي انطباعات فنّية قويّة، ولكن كلّ ما رأيته كان سماءً رمادية ورياحا قويّة".
وسرعان ما عاد الرسّام إلى موسكو ليرسم لوحته "المساء على نهر الفولغا". وبعد مرور عام، عاد إلى منطقة الفولغا مرّة أخرى، ولكن هذه المرّة مع فنّانة تُدعى صوفيا. واستقرّا في بلدة صغيرة ذات جمال خلاب على ضفّة النهر. وهناك رسم العديد من اللوحات مثل "الفناء المتهدّم" و "الخريف" و"البنفسج الليلي" وغيرها.
قضى ليڤيتان العام الأخير من حياته في منزل الكاتب أنطون تشيكوف في شبه جزيرة القرم. وتوفّي في أغسطس من عام 1900 وهو في سنّ الأربعين بعد أن عانى من مرض عضال.
كانت أعماله الأخيرة تمتلئ بالضوء بشكل متزايد وتعكس هدوء وجمال الطبيعة في قرى روسيا النائية. وقد عُرف الرسّام بحبّه الشديد لأزهار الليلك. ويقال إنه عندما توفّي تفتّحت أزهار الليلك مرّتين في ذلك العام، وبدا الأمر اشبه ما يكون بالأعجوبة.

Credits
russianartgallery.org

الأحد، أغسطس 09، 2020

تشيكوف: نظرة مختلفة

لأكثر من مائة عام، يجلس رجلان ملتحيان وطاعنان في السنّ على أكتاف الروس الذين ينوءون تحت حملهما الثقيل: تولستوي وديستويفسكي. تولستوي يجلس على الكتف الأيمن وديستويفسكي على الكتف الأيسر، أو العكس.
العبء الثقافي الذي يمثّله هذان الرجلان ستشعر به بعد لحظات قليلة من لقائك مع أيّ شخص غريب يكون على دراية بسيطة بالأدب الروسيّ. فعندما يعرف انك روسيّ، سرعان ما يهتف: آه تولستوي وديستويفسكي"!
الميراث الأدبيّ الضخم للرجلين يثقل كواهلنا كـ "رُوس"، بل ويسحقنا بلا رحمة. والمشكلة انه يتوجّب علينا أن نحملهما معنا أينما ذهبنا أو ارتحلنا إلى أن نموت.
ما من شكّ في أن الرجلين عبقريّان. لكن المحزن أن حجم وعمق كتاباتهما حَجَب بريق كتّاب روس آخرين لا يقلّون أهميّة وموهبة. وأعرف على الأقل كاتبا واحدا ينافسهما، بل ويتفوّق عليهما أحيانا. هذا الكاتب اسمه انطون تشيكوف. وهناك عدد من الأسباب التي تجعل من تشيكوف ندّاً قويّا لتولستوي وديستويفسكي.
السبب الأوّل هو أن تشيكوف كان كاتبا موجزا. صحيح أن طول أو حجم كتاب ما ليس معيارا صالحا للحكم على جودته وقيمته. فهناك روايات كثيرة طويلة وضخمة، لكنها مملّة وثقيلة، لدرجة انه يتعذّر عليك قراءة بضع صفحات منها. لكن تشيكوف مختلف من هذه الناحية.
وعندما تقرأ المجلّدات الأربعة لرواية "الحرب والسلام" مثلا، فستقدّر عالياً ميزة الإيجاز والاختصار التي يفتقر إليها تولستوي، وبدرجة اقلّ ديستويفسكي.
تشيكوف هو ملك القصّة القصيرة. وهو عادةً لا يحتاج سوى لبضعة اسطر وتفاصيل صغيرة ليصوّر قصّة الحياة الكاملة لشخصية من شخصياته، وهي مهمّة تتطلّب من ديستويفسكي أو تولستوي عشر صفحات كاملة من الحشو والإطناب الذي لا لزوم له. وتشيكوف هو الذي قال ذات مرّة جملة مهمّة أصبح الروس يردّدونها كما لو أنها حكمة: الإيجاز هو توأم الموهبة".
والسبب الثاني هو أن أبطال تشيكوف هم من النوع الذي يسهل عليك أن تتعاطف معهم. والحقيقة أن الأدب الروسيّ حافل بالقصص التي تستثير الحزن وتكسر القلب. لكن الطريقة التي يتعامل بها تشيكوف مع المسألة مختلفة تماما.
في المقابل، فإن شخصيات تولستوي وديستويفسكي معقدّة جدّا وتعاني كثيرا، وهو أمر مألوف في أدب القرن التاسع عشر. كما أن كتاباتهما تتضمّن أفكارا كثيرة عن الله والحبّ وعن الروح الروسية. وكلّ هذا أصبح نوعا من الكلام المملّ والمزعج.
وعلى النقيض من شخصيات هذين الاثنين الذين يشبهون أبطال الكتب المقدّسة، فإن أبطال قصص تشيكوف أناس عاديّون، وأحيانا مضحكون ومثيرون للشفقة. لكنهم دائما يحلمون بحياة أفضل، على الرغم من أنهم غارقون في مشاكلهم اليومية.
وكلّ الطيف الواسع من المشاعر التي يعبّر عنها تشيكوف في قصصه يمكن اختزالها بقوله الساخر: هذا يوم جميل، ولا اعرف ما إذا كان يتعيّن عليّ أن اشرب كوبا من الشاي أو اشنق نفسي".


السبب الثالث هو أن تشيكوف لا يقدّم في كتبه مواعظ من أيّ نوع، في حين أن لدى تولستوي وديستويفسكي منظومتهما القيمية الصارمة: في حالة ديستويفسكي هناك نسخة متشدّدة من الأرثوذوكسية المُطعّمة بولاء لا يفتر للقيصرية المحافظة. وفي حالة تولستوي هناك الفوضوية السلمية المتطرّفة على طريقة غاندي.
صحيح أن تلك القيم والمفاهيم لا تهيمن على نثرهما دائما، لكنها تطلّ من كتاباتهما بشكل متواتر ومن حين لآخر. وإن كنت من النوع الذي يكره الخطب والمواعظ الفجّة، فستجد أن من الصعب عليك تقبّلها أو هضمها.
قال شخص ذات مرّة: عندما اقرأ تولستوي اشعر انه يعبس في وجهي. ورغم انه يقول كلاما صحيحا أحيانا، إلا أن الأمر يظلّ مزعجا".
لكن هذا لا يحدث مع تشيكوف. فهو لا يقدّم دروسا أو مواعظ أبدا، فقط يحفزّك على أن تظلّ إنسانا نبيلا وصبورا أمام تحدّيات الحياة. وهناك دائما في مسرحياته وقصصه القصيرة بصيص من الأمل، هذا الأمل بشيء ما أفضل يتخلّل جميع أعماله.
السبب الرابع هو أن تشيكوف كان إنسانا عظيما وصاحب مبدأ. كان يمزج بين الأدب وبين الطبّ مهنته الأولى والأساسية. وقد قال مرّة: الطبّ زوجتي الشرعية والأدب عشيقتي". ولم يكن يدخّر جهدا أبدا في مساعدة جميع الناس، وخاصّة الفلاحين والعمّال الفقراء الذين كان يعالجهم مجّانا.
في عام 1890، ذهب إلى جزيرة سخالين التي تبعد عن موسكو أكثر من 6400 كيلومتر. وأثناء تلك الرحلة ألّف كتابا عن المعاملة غير الإنسانية التي يتلقّاها السجناء الذين يُرسلون إلى هناك.
السبب الخامس هو أن تشيكوف معروف عالميّا بسبب إرثه المسرحيّ. وهو يُعتبر احد اكبر الكتّاب الذين تُمثّل أعمالهم بشكل دائم على خشبة المسرح، جنبا إلى جنب مع شكسبير وإبسن وسترندبيرغ. تحفه الأدبية الكبيرة مثل "طائر النورس" و"بستان الكرز" و"الأخوات الثلاث" لا تشيخ أبدا، لأن فيها عمقا ولأنها مفتوحة دوما على مختلف التأويلات.
كان وسيما، ذكيّا وعطوفا. وفي سنواته الأخيرة، افتتح عيادة لمعالجة ضحايا الكوليرا والمجاعة بالمجّان. كما بنى ثلاث مدارس لمساعدة أبناء المزارعين الفقراء ومدّهم بالتعليم بلا مقابل.
في عام 1901، تزوّج تشيكوف من ممثّلة كانت قد شاركت في بعض مسرحياته. وبعد 3 سنوات توفّي في ألمانيا وعمره لا يتعدّى الـ 44 بعد معاناة طويلة مع مرض السلّ. وحتى عندما علم بموته الوشيك ظلّ يتصرّف بكرامة، ولم يغادره حسّ الدعابة إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة، وضرب مثالا ممتازا للشخص الذي لا يشتكي لأحد ولا يتذمّر من الحياة.
إجمالا كانت كتابات تشيكوف أكثر إمتاعا وتشويقا وواقعية من كتابات كثيرين غيره. وفي النهاية ستجد انك بطل من أبطال تشيكوف ولا يمكن أن تكون بطلا من أبطال تولستوي أو ديستويفسكي ما لم تقتل سيّدة عجوزا بفأس أو تهزم نابليون!

Credits
lithub.com
rbth.com

الأربعاء، نوفمبر 15، 2017

حديقة تولستوي

توفّي تولستوي قبل زهاء المائة عام، أي في العشرين من نوفمبر عام 1910، وأصبح اسمه في العالم مرادفا لعظمة الأدب الروسيّ.
لكن في روسيا، ما تزال فلسفته ودعوته لنبذ العنف وترجماته المتحرّرة للإنجيل تثير نقاشا واسعا.
في عام 1910، قرّرت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية التبرّؤ من الكاتب. وفي الذكرى المئوية لوفاته، رفضت الكنيسة العديد من الالتماسات كي تعيد النظر في قرارها.
وفي الحقيقة لو كان تولستوي ما يزال حيّا لما انزعج كثيرا من هذا الموقف، فقوّة موهبته منحته فرصة فريدة كي يسلك طريقه الخاصّ ويحتفل بالحياة بكلّ تجلّياتها على طريقته.
قراءة تولستوي توفّر للمرء متعة عظيمة، وكلّما قرأت له تضاعفت تلك المتعة، فكلماته تولّد روائح وأصواتا واهتزازات في المشاعر والأمزجة. وكلماته أكثر اتّساعا من أيّ عقيدة فلسفية وأكثر أهمّية حتى من الكاتب نفسه.
في كلّ الأدب، ربّما، لا يوجد كاتب منح العالم أعمالا تثير الإعجاب بقوّتها وبالخوف من صدقها مثلما فعل تولستوي. مارسيل بروست اعتبره والده الروحيّ، وهو يهيمن على أفكاره وعلى أحداث رواياته.
تولستوي كاتب عظيم، لأنه يمنح الحرّيّة لأبطاله. وهم، إذ يدخلون ذاكرتنا، يصبحون أكثر حيويةً من الحياة نفسها: الحفلة الأولى لناتاشا في "الحرب والسّلام"، سباق الخيول في "آنّا كارينينا"، مرض وموت "إيفان ايليتش"؛ كلّ هذه الأحداث تملأ القارئ بالمتعة وأيضا بالخوف من مواجهة تبعات الوجود نفسه.
أحيانا يبدو كما لو أن تولستوي وُلد كي يقلب قواعد الأدب رأسا على عقب. وهو لم يكن يميل كثيرا إلى النقاشات الأدبية. ولم يكن يحبّ كتّاباً مثل دانتي وشكسبير وبوشكين، بل أنكر عظمتهم وتناولهم بأحكامه النقدية القاسية.
كان، مثلا، يرى أن شكسبير لم يكن كاتبا عبقريّا. بل لقد فعل كلّ ما بوسعه لتقويض مكانته في الأوساط الأدبيّة. ووصَف مسرحياته بأنها "رديئة وعديمة المتعة وغير أخلاقية وتفتقر إلى الجاذبية الفنّية". ورغم أن آراءه تلك عن شكسبير لم تكن تلقى تأييدا معتبرا، إلا انه ظلّ متمسّكا بها طوال حياته.
كما أن موقف تولستوي من بوشكين كان، هو أيضا، مثيرا للجدل. كان يرى أن شاعر روسيا الأشهر لا يستحقّ أن يعامَل ككنز أدبيّ وطنيّ، لأن أشعاره "عديمة القيمة والأهمّية". وما أدّى إلى توسيع الخلاف بينهما أكثر حقيقة أن بوشكين كان مفتونا بشكسبير الذي كان تولستوي يمقته بشدّة.
وهناك أيضا علاقة تولستوي الملتبسة بأنطون تشيكوف. كان الاثنان صديقين حميمين، وكان كلّ منهما معجبا بكتابات الآخر. لكن هذا لم يمنع تولستوي من انتقاد صديقه بعنف أحيانا.
يروي تشيكوف انه زار تولستوي في بيته ذات يوم ووجده منهكا بسبب المرض. "تحدّثنا في العديد من المواضيع، ثم أثنى على بعض أعمالي قائلا إنها تستحقّ أن تُقرأ مرارا. لكن بينما كنت أهمّ بالانصراف، أمسك بي من ذراعي ثم قبّلني مودّعا، وهمس لي بصوت خفيض قائلا: أنت تعلم أنّني اكره مسرحياتك. شكسبير كان كاتبا رديئا. وأنا اعتبر أن مسرحياتك أسوأ حتى من مسرحيّاته".

في رواياته، وصف تولستوي فظائع الحرب، لكن شخصيّته كانت ميّالة للخصام، بدليل علاقته المضطربة مع زوجته صوفيّا اندرييفنا. وأفكاره النباتية وميله لحياة الفلاحين أصبحت فيما بعد مادّة للدعابة.
ذات مرّة، كتبت اندريه جيد مقالا عن دستويفسكي وكيف أن تولستوي حجب عظمته، لكن مع مرور الوقت فإن النظرة السائدة بين المثقّفين هي أن جبل دستويفسكي كان أعلى من جبل تولستوي".
كان لدى دستويفسكي أهداف واضحة وأفعال محدّدة. تنفتح الستارة فنرى كيف أن عالَما بلا إله يقود إلى الخطيئة والشرّ، والجريمة تصبح عقابا. وبالمقابل يدفع تولستوي بـ آنّا كارينينا لأن تلقي بنفسها تحت قضبان القطار. ولا يشرح لأيّة غاية. عقوبة؟ مأساة كبيرة؟ مصير امرأة ساقطة؟ تيّار وعي هذيانيّ؟ لا توجد إجابة واضحة، لأن منطق تولستوي يقول: إذهب إلى الشرطة ولا تذهب إلى الكاتب.
في كتابات دستويفسكي، الحياة تفسد الأفكار مثلما تنفجر قنبلة وتحصد حياة الأمير اندريه بولكونسكي. وروايات تولستوي تخرج من التفاصيل الصغيرة في مفكّرته اليومية، وتتشكّل من النميمة الاجتماعية ومن انطباعات الطفولة وأساطير العائلة. انه يسقي حديقته، ثم تنمو فيها شجرة تطرح فاكهة سماويّة لذيذة وعطرة ولزجة ومتفرّدة.
الواقعية الاشتراكية حاولت أن تتودّد إلى تولستوي وتمنّت لو تقلّد أسلوبه لكي تقلب به العالم. لكنّه بالتحديد كان كاتبا لا يمكن تقليده. فلكي تكتب مثل تولستوي، يتعيّن أن تكون "كونت" صعب المذاق وفردانيّا.
في نهاية حياته، أصبح تولستوي ينتقد الثناء المفرط على "الحرب والسّلام" و "آنا كارينينا" قائلا "إن الأمر يشبه أن تثني على طبيب عظيم لأنه يرقص المازوركا".
هل أساء تولستوي فهم نفسه وطبيعته كمبدع؟
في النهاية، أصبح "تولستوي الواعظ" في حالة صراع مع "تولستوي الأديب الموهوب". نظريّته عن المقاومة غير العنيفة ألهمت غاندي وكشفت عن الجذور الشرقية للفكر الروسيّ.
لكن تولستوي الذي أُحبّه هو الإنسان المتشكّك، والمتعلّق بالمتع، والمتحوّل باستمرار. أحبّ وجهه المتغضّن ولحيته الكثّة وبحثه الطفوليّ عن عصا خضراء سحرية في الغابة التي تخبّئ مفتاح سعادة العالم.
رحيله السرّيّ الأخير من "ياسنايا بوليانا" اُعتبر ذروة الجنون وخلق انطباعا بأن الوقت قد حان كي يلقي الكاتب بنفسه أسفل القطار.
مؤخّرا زرت ضيعته التي تبعد عن جنوب موسكو مسافة مائة كيلومتر وتجوّلت في منزله متأمّلا أثاثه وبقيّة محتويات عشّه الارستقراطيّ. وفجأة فهمت من أين أتت "الحرب والسّلام". لقد كانت محصّلة للأيّام الطويلة والهادئة التي كان يقضيها في ضيعته الريفية مع طقوس سماور الشاي والمشي في الهواء الطلق.
عند بوّابة الضيعة كان هناك حارسان. سألتهما إن كانا قرآ "الحرب والسّلام" فأجابا: نعم، في المدرسة".
بدون تولستوي، كانت الحياة ستبدو أكثر فقرا وشحوبا. عباراته وملاحظاته الملتوية مثل جذور شجرة لم يكتبها لنفسه فقط، وإنّما أرادها أن تكون رسالة للأجيال القادمة أيضا.

Credits
online-literature.com

الخميس، يونيو 02، 2016

عصر تولستوي وتشايكوفسكي


يزخر الرسم الروسي بالعديد من بورتريهات الكتّاب والموسيقيين والممثّلين ورعاة الفنّ في روسيا. وبعض تلك البورتريهات يعود تاريخها إلى زمن آخر القياصرة، ثمّ الثورة والعهود التي تلتها.
أحد الكتّاب تأمّلَ في صور هذه الشخصيات الروسية واكتشف انه يندر أن ترى واحدا منها وهو يبتسم. ربّما كان هناك اعتقاد شائع بأن البورتريه مثل الحديث المتوتّر بين الرسّام وجليسه، يمكن أن يقرّبنا من الموضوع أكثر ممّا تفعله الصور الفوتوغرافية الحديثة. وهذا أحيانا صحيح.
في البورتريه الذي رسمه فاسيلي بيروف لدستويفسكي نقف وجها لوجه مع الروائيّ الكبير. وهو في الصورة يبدو في حالة انحناء ويرتدي جاكيتا بنّيّ اللون، نظراته منسحبة وبعيدة، بينما أصابعه متشابكة. الضوء يلمع على جبينه الفتيّ. وعلى شعره ولحيته ونظراته المتحفّظة ثمّة إحساس بالإنهاك وتركيز داخليّ مثير للاهتمام.
كان دستويفسكي في ذلك الوقت ما يزال يعيش ذكريات اعتقاله المريرة قبل ثلاثين عاما عندما كان في الثامنة والعشرين من عمره على خلفية انتسابه لجماعة بتراشيفسكي الراديكالية. وقد سيق إلى معسكرات العمل الشاقّ في سيبيريا واُجبر على الخدمة في الجيش، وهو ما أدّى إلى انهيار صحّته وجرح روحه.
لكنه مع ذلك استمرّ يكتب ولم تنكسر إرادته أبدا. في هذه الصورة لا يمكنك أن ترى شيئا من آثار المعاناة على وجه وعيني دستويفسكي لأن بيروف منحه خصوصية كاملة. لكن بإمكانك أن ترى وتلمس إحساسه بالأسى وبالمرارة الداخلية. في ذلك الوقت، لم يكن دستويفسكي قد كتب "الجريمة والعقاب". لكن البورتريه ينبئ عن ذلك المستقبل.
ومن أشهر الصور الروسية الأخرى ذلك البورتريه الذي رسمه نيكولاي جي لتولستوي عام 1884، ويبدو فيه الروائيّ المشهور منحنيا على طاولته ومنكبّا على الكتابة وكأنه لا يشعر بالرسّام الذي يجلس بالقرب منه.
وهناك أيضا لوحة ايليا ريبين التي رسمها لتورغينيف الذي يبدو في الصورة عجوزا بأنف متورّمة وشعر أشيب. كانت علاقة تورغينيف بريبين مفعمة بالثقة. نظراته القاسية تفاجئنا كما لو أننا مذنبون بنفس درجة ذنب الرسّام المتطفّل. وهذا يثبت كيف أننا يمكن أن نحكم على الصور مدفوعين بأفكارنا المسبقة عن أصحابها. كما أن هذا يطرح سؤالا عن مدى كون هذه الصورة حقيقية.
وهناك أيضا البورتريه الذي رسمه يوسف براس لأنطوان تشيكوف. وقد رسمه الفنّان عام 1898، أي عندما كان تشيكوف في ذروة عطائه ككاتب مسرحيّ. وفي السنة التالية مُثّلت مسرحيّته "العمّ فانيا" على المسرح لأوّل مرّة.
تشيكوف يرتدي هنا ملابس مرتّبة، مع ياقة بيضاء وبذلة رمادية. وهو يجلس كما لو انه يريد أن يحكم علينا محاولا استنطاق ما بدواخلنا، بينما يصرّ على أن لا يكشف لنا عن شيء من دخيلته.
تشيكوف هنا لا يبدو كاتبا بقدر ما يبدو طبيبا "وهي مهنته الأصلية" يصغي باهتمام إلى مرضاه ويشخّص عللهم ويصف لهم الدواء المناسب. كان وقتها في الثامنة والثلاثين، وأمامه فقط ستّ سنوات ليعيشها.


والحقيقة أن معظم هذه الشخصيات توفّيت في سنّ مبكّرة. ومعظمها ملامحها أوربّية أكثر منها آسيوية.
ومن أشهر البورتريهات الروسية الأخرى لوحة فالنتين سيروف للمؤلّف الموسيقيّ رمسكي كورساكوف. والموسيقيّ يبدو هنا جالسا وسط فوضى من عشرات الكتب.
وهناك أيضا واحدة من أقوى الصور، وهي لوحة ريبين التي رسمها للموسيقيّ المعروف موديست موسورسكي عام 1881، وقبل وقت قصير من وفاة الأخير. موسورسكي يبدو في الصورة بأنف حمراء وعينين صافيتين.
الرسّام ايليا ريبين، بمقاربته الحسّاسة والفائقة لكلّ جلسائه الذين رسمهم، هو بطل البورتريه الروسيّ بلا منازع. كان ريبين ابنا لجنديّ من اوكرانيا. وخلفيّته ليست ممّا يثير الاهتمام.
لكنه صنع لنفسه سمعة طيّبة في سانت بطرسبورغ التي رسم فيها أعمالا مشهورة مثل تلك اللوحة التي يظهر فيها أشخاص يجرّون قاربا. ورغم أن من كلّفه برسم اللوحة كان رجلا من عائلة الإمبراطور، إلا أنها فُسّرت على أنها هجوم على سوء معاملة العمّال وعلى الظلم الاجتماعيّ ككلّ.
وبعد ابتعاثه إلى فرنسا التي رسم فيها تورغينيف، عاد ريبين إلى روسيا واستمرّ يرسم بنفس الأسلوب الروسيّ المتميّز.
في لوحات ايليا ريبين مرح وتعاطف وتفهّم. كما أنها تحتوي على الكثير من الدفء، مثل لوحته التي رسم فيها عازفة البيانو الجميلة صوفي مينتر، تلميذة فرانز ليست اللامعة.
وبراعته أيضا تتجلّى في رسمه للبارونة فارفارا فون هيلدنباندت بخمارها وقبّعتها الغريبة. وقد رسمها باستمتاع يمكن أن تشعر به من طريقته في تصوير السلسلة المتدلّية حول ذراعها وفي طيّات بلوزتها القرمزية.
كلّ هذه البورتريهات وغيرها من صور العباقرة الروس ليست سوى جزء من المجموعة الفنّية التي راكمها تاجر الأقمشة بافيل تريتيكوف والتي أصبحت من مقتنيات المتحف الذي يحمل اليوم اسمه.
وهناك عنصر مهمّ يمكن إضافته إلى هذه القصّة، ويتمثّل في الصداقة التي ربطت تريتيكوف والرسّام ريبين الذي لم يكن يرسم له فحسب، وإنما كان ينصحه بالاستعانة بفنّانين آخرين.
وقد رسمه ريبين أمام مجموعته كي يتذكّره الناس بعد وفاته. وفي تلك الصورة يظهر تريتيكوف كشخص مختلف ومتحفّظ ومعروف بعاطفته العائلية ومحبّته للأدب والموسيقى والمسرح والرسم.
كان تريتيكوف حريصا على أن تضمّ الصور في متحفه كافّة نجوم روسيا. وقد بدا إصراره واضحا من خلال قصّته مع بورتريه الموسيقيّ موسورسكي.
كان هذا الأخير قد وصل إلى ذروة شهرته في العام 1874 عندما انتهى من تأليف أوبرا بوريس غودونوف ومتتابعة البيانو بعنوان صور في معرض . لكن بعد فراغه من كتابة هذين العملين، أدمن موسورسكي على الشراب لأيّام.
وفي عام 1881 اُدخل المشفى لعلاجه من الإدمان. وعندما سمع تريتيكوف بأن حالته خطيرة، أرسل إليه ريبين كي يرسمه. وكان على حقّ، فما أن انتهى الرسّام من آخر جلسة رسم حتى كان موسورسكي قد مات وهو في سنّ الثانية والأربعين.
كان ريبين يصف موسورسكي بأنه موهوب بالفطرة ومحارب قروسطيّ، مع مظهر بحّار من البحر الأسود . وهو، أي ريبين، لم يتقاضَ أجرا على تلك اللوحة، بل فضّل أن يتبرّع بأجره لإقامة نصب تذكاريّ للمؤلّف الموسيقيّ.
هناك أيضا بورتريهان آخران مهمّان في مجموعة تريتيكوف، الأوّل للشاعر نيكولاي غوميليف المقتول عام 1921 بسبب أنشطته الثورية، والثاني لزوجته الشاعرة المعروفة آنا أخماتوفا. وقد رسمت البورتريهين الفنّانة اولغا كاردوفسكايا بأسلوب رمزيّ يذكّر بأسلوب إدفارد مونك.
وبورتريه الشاعرة يبدو أفضل لأننا نعرف من هي. وتبدو جالسة بكبرياء، بينما تظهر خلفها سماء لامعة. وقد رُسمت أخماتوفا عام 1914 بعد حياة حافلة تعرّضت خلالها للمراقبة والمطاردة. لكن هذا لم يقتل شعرها ولم يُخرس معارضتها الشجاعة للفظاعات التي رأتها.

Credits
theguardian.com
ilyarepin.org

الأحد، سبتمبر 30، 2012

عن الصحّة والمرض

ذهبت إلى المستشفى وفي ذهني عبارة منسوبة إلى الأديب الروسيّ انطون تشيكوف، الذي كان طبيبا أيضا، يقول فيها: لا فرق كبيرا بين الأطبّاء والمحامين. الفارق الوحيد هو أن المحامين يسرقونك، بينما الأطبّاء يسرقونك ويقتلونك"!
وعندما دخلت على الطبيب، تمعّن قليلا في نتائج الفحوصات والتحاليل التي أمامه ثم قال: لقد تأخّرت كثيرا. هذا النزيف يثير الانزعاج فعلا. وأقدّر انك بحاجة إلى عمليّتين: الأولى لا بدّ من إجرائها دون إبطاء. ثمّ بعد شهرين على الأقلّ سنشرع في التفكير في الجراحة الثانية".
خلال السنوات العشر الأخيرة، وباستثناء مراجعتي المنتظمة لطبيب الأسنان، لا أتذكّر أنني زرت مستشفى أو رأيت طبيبا. ولطالما آمنت بأن الأطبّاء، أو معظمهم على الأصح، لا يحلّون مشاكل المرضى، وإنّما يضيفون إليها مشاكل جديدة.
كما أنني ممّن يؤمنون بأن الزمن أفضل معالج، وبأن كلّ إنسان هو، بمعنى ما، طبيب نفسه، وأنك كلما فكّرت اقلّ بصحّتك كلّما كان ذلك أفضل، لأن الانشغال أكثر مما ينبغي بأمور الصحّة والمرض قد يتطوّر إلى نوع من الهاجس أو الوسواس الذي يحرم الإنسان من الاستمتاع بمباهج الحياة.
قلت للطبيب: إذن أنت تقترح إجراء العملية الأولى الآن. وأنا موافق. لكن عليّ قبل ذلك أن انهي بعض الالتزامات على أن أعود إليك بعد أسبوع من اليوم. فقال مقاطعا: لا، الأمر لا يحتمل المزيد من التأخير. ولو كان الأمر بيدي لأمرت بتنويمك من هذه الساعة على أن اجري لك العملية غدا صباحا. والقرار في النهاية متروك لك. قلت: سآتيك بعد غد، أي بعد أن ابلغ عملي وأهيّئ نفسي للأمر. قال وهو يبتسم في محاولة لطمأنتي: لا تقلق، بعد الجراحة سيكون كلّ شيء على ما يرام، فاعقلها وتوكّل".
خرجت من العيادة وأنا اشعر بالارتياح، وبشيء من الخجل مبعثه أن انطباعاتي السابقة عن الأطبّاء لم تكن في محلّها بعد ما لمسته من إنسانية هذا الطبيب ولطفه. والحقيقة أنني لم اذهب إليه هو بالذات إلا بعد أن سمعت الكثيرين يثنون عليه ويمتدحون كفاءته.
عدت إلى المستشفى في الموعد المتّفق عليه. وأدخلت فجراً غرفة بسرير مفرد، وجاءت الممرّضة ومساعد الطبيب ومسئول التغذية لمعاينتي والسؤال عن بعض الأمور. وقيل لي: قرّر الدكتور أن تكون الأوّل في قائمة من سيجري لهم عمليات هذا اليوم. وموعد العملية سيكون الساعة التاسعة هذا الصباح.
بعد التاسعة بدقائق جاء ممرّض وممرّضة ليعلماني أنهما سيأخذاني إلى غرفة العمليات. وتذكّرت أن هذه هي أوّل مرّة اجري فيها عملية في حياتي تحت التخدير الكلّي. ولم أكن اشعر بأيّ انزعاج أو توتّر. كنت مرتاحا وهادئا ومستعدّا لخوض هذه التجربة الجديدة بالنسبة إليّ.
نزلنا إلى الدور السفلي وانتقلنا من ممرّ لآخر، وتخلّل ذلك بضع دقائق من الانتظار. وعندما وصلت إلى غرفة العمليات سمعت أصوات أشخاص يمازحون بعضهم ويضحكون وقرقعة أجهزة وآلات تُطوى ثم تُفتح. وبدّد هذا الجوّ ما كان علق بذهني من قبل من أن غرف العمليات تشبه في صمتها وبرودتها أجواء المقابر. ووسط ذلك الضجيج لمحت شخصا ضئيلا يضع على وجهه قناعا اخضر ويجلس في طرف الغرفة البعيد. وعندما مررت بالقرب منه قال لي بصوت خفيض: أهلا يا "..."، صباح الخير، أنا الدكتور "..."، هل أنت جاهز للعملية"؟ لوّحت بيدي ناحيته وقلت: صباح الخير يا دكتور، نعم أنا جاهز".
ولا أتذكّر شيئا ممّا حصل بعد ذلك. ولم أفق إلا على صوت الممرّض وهو يقول: انتهت العملية، ستعود الآن إلى غرفتك". في الغرفة كان هناك بعض الأشخاص الذين يروحون ويجيئون كالظلال. ونظرت إلى التلفزيون فبدت لي الصورة مشوّشة وغائمة من تأثير البنج. ونمت ساعتين تقريبا، وعندما صحوت كان كلّ شيء على ما يرام باستثناء بعض الألم الناتج عن جرح العملية.
بعد هذه التجربة لم تتغيّر الكثير من قناعاتي السابقة. صحيح أنّنا لا نعرف نعمة العافية إلا بعد أن نجرّب المرض، لكن إن كان المرض من النوع الخفيف الذي يجيء ويذهب فالأجدى في هذه الحالة ألا تتعب نفسك بمراجعة الأطبّاء. كما أن الشفاء لا يكمن في الأدوية بالضرورة، بل في تنظيم الحياة واختيار الغذاء السليم والمناسب.
وأختم بكلام قرأته لبعض الحكماء القدامى: أفضل الأطبّاء أشعّة الشمس والماء والراحة والهواء النظيف والتمارين والغذاء السليم. وأفضل وصفة للحفاظ على حياة متوازنة وخالية من العلل والمتاعب هي أن تداوم على الذهاب إلى البحر أو الصحراء عند الفجر وتأمّل الأزهار وقت شروق الشمس والمشي حافي القدمين على العشب. وإذا اضطرّتك الظروف للذهاب إلى طبيب، فحذارِ أن تذهب إلى طبيب توجد في مكتبه أشجار ميّتة!

السبت، يونيو 30، 2012

رمزية أزهار الكرَز

تحتلّ أشجار الكرز مكانة مهمّة في ثقافة العديد من شعوب العالم. فهي رمز للخصوبة والزواج والجمال والتواضع. الصينيون القدامى كانوا يعتبرون الكرز رمزا للخلود. وفي حديقة إحدى إلهات الصين، تُزهر شجرة الكرز مرّة كلّ ألف عام.
في الأساطير القديمة، ارتبط الكرز بطائر العنقاء الذي ينهض من بين الرّماد. وفي سويسرا، يسود اعتقاد بأن شجرة الكرز يمكن أن تحمل بوفرة إذا كان أوّل آكلي ثمارها امرأة وضعت لتوّها مولودا.
وفي رواية بستان الكرز لـ انطون تشيكوف، يرمز الكرز إلى ماضي روسيا الغابر. في نهاية الرواية، تبيع العائلة منزلها ليُهدم، ثم تبيع بستان الكرز الذي تملكه لتُقطع أشجاره وتباع كحطب. الدرس المستخلص من الرواية هو أن المجتمع يتغيّر ويتطوّر باستمرار، وأن التغيير أمر محتوم بصرف النظر عمّا يريده الفرد أو ما يتمسّك به من أفكار أو قيم.
لكن ليس هناك شعب ارتبطت أزهار الكرز بثقافته وفنّه بمثل ما ارتبطت باليابانيين. فهي عندهم الزهرة الوطنية. وهي كانت وما تزال تُعتبر إحدى الصور النمطية الغربية عن اليابان والتي تُستحضر عادة، جنبا إلى جنب، مع صور أخرى مثل السوشي وفتيات الغيشا ومحاربي الساموراي. كما أن هذه الأزهار ظلّت تمثّل حدثا ثقافيا مهمّا هناك طوال أكثر من ألف عام.
احتفالات اليابانيين السنوية بهذه الشجرة، والعديد من التفسيرات الثقافية الرمزية للأزهار، بالإضافة إلى الاستخدام الواسع النطاق لها في الفنّ بسبب جمالها الفطري ورمزيّتها، كلّ هذه العوامل أسهمت في أن تصبح أزهار الكرز جزءا لا يتجزّأ من هويّة اليابان الثقافية.
وطبقا للتقاليد البوذية، فإن هذه الأزهار التي يخطف جمالها الأنفاس ترمز إلى الطبيعة القصيرة للحياة. فهي لا تعيش لأكثر من بضعة أسابيع تمتلئ خلالها المدن والأرياف والجبال بأزهار هذه الأشجار، سواءً كانت برّية أو مستزرعة.
ويعتقد اليابانيون أن قيمهم التقليدية عن الطهر والبساطة تتجسّد في شكل ولون هذه الأزهار. كما ترتبط الأزهار بثقافة الساموراي، لأنها ترمز لقطرات الدم ولحياة المحاربين الذين لا يعيشون، عادة، طويلا.

لوحة الرسّام هيروشي يوشيدا بعنوان "شجرة كرز في كاواغوي" هي جزء من سلسلة بعنوان "ثمانية مناظر لأزهار الكرز". وهي تصوّر مشاهد متعدّدة لهذه الأزهار في أطوار نموّها المختلفة. في إحدى الصور بعنوان "يوزاكورا في المطر"، تظهر امرأتان ترتديان ملابس زاهية وتجلسان تحت المظلات بينما تحدّقان في الأشجار مع إحساس بالحزن.
وفي لوحة أخرى بعنوان "اراشياما"، نرى منظرا لقوارب تبحر فوق احد الأنهار، بينما تبدو أزهار الكرز وقد أخذت في التفتّح، مضفيةً على المكان إحساسا بالمتعة والفرح. واللوحات الأخرى في هذه السلسلة تصوّر مناظر مختلفة. لكن كلا منها يوصل معنى مختلفا من المعاني المرتبطة بأزهار الكرز.
وفي لوحة خشبية من عام 1884 بعنوان "المحارب تايرانو تادانوري على وشك النوم تحت شجرة كرز"، تظهر شجرة كرز تميل براعمها بكسل نحو الأرض، وفي الجانب الأيمن من المنظر يظهر احد محاربي الساموراي وهو يزيح درعه جانبا ويستعدّ للنوم. هذه اللوحة رُسمت في بدايات حكم سلالة الميجي لليابان، أي عندما كان الساموراي يفقدون سلطتهم ونفوذهم بسرعة.
مهرجان أزهار الكرز في اليابان هو وقت للاحتفال والبهجة. لذا ليس من المستغرب أن كثيرا من صور أزهار الكرز تُظهر مشاهد من هذا القبيل. في لوحة من فترة حكم الكاني، يرسم ايواسا ماتابي رجلين يرتديان لباسا أنيقا وهما يتنزّهان تحت أشجار كرز بصحبة امرأة شابّة. وفي لوحة أخرى من عصر الايدو، يرسم توري كيوناغا مجموعة من الرجال والنساء وهم يقضون وقتا ممتعا بينما تحيط بهم أشجار الكرز المزهرة.
وفي اليابان الحديثة يستمرّ الاحتفال بهذه الأزهار في مهرجان سنويّ يُدعي هانامي. وفي حين أن القصد الأساسيّ من هذا المهرجان هو رؤية الأزهار ومراقبة تحوّلات الطبيعة، إلا انه أصبح مصحوبا بطقوس الطعام والشراب والمرح.
صور أزهار الكرز وارتباطها الوثيق بالربيع أسهم في ظهورها على نطاق واسع في الإعلانات اليابانية عن الحلوى والأفلام والقطارات السريعة. وبفضل هذا الارتباط بالربيع وبالبراءة والرقّة والبساطة، أصبحت هذه الأزهار تدخل في صناعة المنتجات المتعلّقة بمناسبات الزواج وبدايات الدراسة وما إلى ذلك. "مترجم".

الأربعاء، مارس 14، 2012

آخر أيّام تولستوي

قبل حوالي مائة عام، توفّي ليو تولستوي عن عمر يناهز الثانية والثمانين بعد أن عانى من التهاب رئوي حادّ. وقد تابع العالم آنذاك أخبار مرضه ونقلتها الصحف في روسيا وخارجها يوما بيوم. ولم يكن تولستوي على علم بتلك الضجّة التي كانت تثور من حوله.
وقبل وفاته بتسعة أيّام، كان الكاتب المشهور قد ترك منزله في ياسنايا بوليانا سرّا عند الفجر بصحبة سكرتيره الخاصّ. كان واضحا أن تولستوي اتخذ قراره النهائي بأن ينفصل عن حياته العائلية ويرتاح من شجار زوجته الدائم مع سكرتيره. وفي الليلة التي غادر فيها منزله كتب يقول: لقد فعلت ما يفعله الناس في مثل سنّي. قرّرت أن اترك الحياة الدنيوية وأقضي أيّامي الأخيرة في هدوء وعزلة".
وفي طريقه إلى محطّة القطار، عرّج على دير شيماردينو لرؤية شقيقته، وقضى ليلة في فندق بجانب أحد الأديرة. ثم غادر مرّة أخرى في الرابعة فجرا باتجاه الجنوب.
هروب تولستوي من ياسنايا بوليانا أصاب معاصريه بالذهول. البعض رأى في تصرّفه "تحرّرا بطوليّا" من قيود الحياة وإزالة للحواجز الأخيرة بينه وبين الله. كما وصفت الصحافة الروسية قراره بأنه "انتصار روحي"، بينما وصف بعض الكتّاب ما حدث بالمأساة العائلية.
موت تولستوي، مثل حياته، كان حدثا تاريخيا، خاصّة في روسيا. فقد تقاطر الكتّاب والفنّانون والأتباع والفلاحون على ضيعته واكتظّت القطارات من موسكو إلى كراسنايا بالناس الذين قدموا لحضور جنازته. وحمل نعشه حشد من الفلاحين، وأنشدت اللحن الجنائزي جوقة من مائة مغنّ، ومشى في أثر النعش موكب من حوالي عشرة آلاف شخص.
ولم يكن هناك رجال دين في الجنازة، إذ كانت الكنيسة قد أصدرت قرارا بطرد تولستوي منها قبل ذلك بسنوات، بعد أن صرّح علناً بأن علاقته مع الله لا تحتاج لوسطاء.
وكانت الكنيسة قد أخذت على تولستوي أيضا بعض كتاباته التي رأت أنها أسهمت في تسريع صعود البلاشفة إلى الحكم في روسيا عام 1917م.
بعد الثورة، وصف لينين تولستوي بأنه "مرآة الثورة الروسيّة"، متجاهلا أفكاره السلمية وإيمانه بالله. ومن خلال تحويل البلاشفة تولستوي إلى رمز لهم، فإنهم في نهاية الأمر أفرغوه من أهميّته.
كان البلاشفة على علم بانتقادات تولستوي الجريئة لسلطة القيصر. وكانوا يدركون مكانته كأحد أعظم الكتّاب في العالم. كانت أفكاره وكتبه أثمن من أن يتركوها خارج قانونهم الفنّي. لذا كان يجب أن تُروّض وتُهذّب كي تنسجم مع قيودهم الأيديولوجية التي فصّلوها سلفاً.
قرار طرد تولستوي من الكنيسة ما يزال سارياً إلى اليوم. ومؤخّرا اتهم مجموعة من المثقفين الروس الكنيسة بالعناد لإصرارها على إبقاء الروائي الكبير على قائمتها السوداء وبالتحكّم في أمور السياسة والثقافة في البلاد.
وفي مواجهة مطالب عائلة تولستوي وأصدقائها بإلغاء قرار الطرد، أصدرت الكنيسة بيانا قالت فيه إن أعمال تولستوي جميلة ولا يمكن نسيانها، وأنها، أي الكنيسة، سمحت للناس بالصلاة على روحه والدعاء له بالرحمة". وأضاف البيان أن تولستوي شخصية مأساوية في تاريخ الأدب الروسي، وأنه استخدم موهبته لتدمير النظام الروحي والاجتماعي التقليدي للبلاد".
وكان "المجمّع المقدّس" قد اصدر قرارا عام 1899 بحظر كلّ صلاة لتذكّر الكاتب أو الترحّم عليه بعد وفاته باعتباره مرتدّا.
وكان أمرا محزنا، وإن لم يكن مفاجئا، أن تمرّ الذكرى المئوية لوفاة تولستوي قبل عامين دون أن يلحظها احد في روسيا. كان تولستوي يعارض العنف الذي تمارسه الدولة. وقد وصف الدولة بأنها سيطرة الأشرار المدعومين بالقوّة المتوحّشة. وكان يرى أن اللصوص اقلّ خطرا من الحكومة المنظّمة. كما دعا إلى فكرة المقاومة السلمية وشجب كافّة أشكال الحروب.
وكان تولستوي أيضا يعتبر تحالف الكنيسة مع الدولة ضربا من التجديف والكفر. كما كان يعتقد بأن الارستقراطية تشكّل عبئا كبيرا على الفقراء. وعارض الملكية الخاصّة وانتقد مؤسّسة الزواج. وكان يثمّن كثيرا فكرة العفّة والكفاف الجنسي.

ينتمي تولستوي إلى عائلة بالغة الثراء. لكنّه أصبح يؤمن بأنه لا يستحقّ الثروة التي ورثها عن عائلته. وقد عُرف في أوساط المزارعين والفقراء بسخائه. وكان يوزّع مبالغ كبيرة من المال على المتسوّلين والمستحقّين، وهو أمر كان يثير حنق زوجته في اغلب الأحيان. وقبيل موته أعلن عن تخلّيه عن عائلته وثروته مفضّلا أن يعيش بقيّة عمره كراهب متجوّل.
هذه المبادئ لم يعد لها مكان في روسيا اليوم التي ابتعدت كثيرا عن قيم وأفكار تولستوي.
وتجاهُل روسيا لواحد من أعظم الكتّاب في البلاد يبدو غريبا، خاصّة إذا ما تذكّرنا أن اثنتين من رواياته، الحرب والسلام وآنا كارينينا، احتلّتا مؤخّرا المرتبتين الأولى والثالثة، على التوالي، ضمن أفضل عشر روايات في العالم. بل إن بعض النقّاد يذهب إلى أن رواية الحرب والسلام تتفوّق في قيمتها الإبداعية حتى على إلياذة هوميروس.
فلاديمير تولستوي، احد أحفاد تولستوي، انتقد بمرارة إصرار البطريرك الذي يأتمر بأوامر فلاديمير بوتين على رفض الاستجابة لنداءات العائلة برفع قرار الطرد الكنسي الذي ما يزال مطبّقا منذ أكثر من مائة عام.
ليوبولد سولرجيتسكي، احد أصدقاء وأتباع تولستوي، كتب يقول إن لـ تولستوي شخصيّتين: تولستوي العظيم وتولستوي الحقيقي. تولستوي العظيم ما يزال حيّا وسيبقى معنا إلى ما لا نهاية. أما تولستوي الحقيقي، أي الإنسان الرحوم والرقيق والصبور والمملوء إنسانية وتواضعا فقد ذهب إلى الأبد".
وهذا التقييم يتوافق مع سيرة جديدة للروائيّ الكبير كتبتها روزاموند بارتليت بعنوان تولستوي: حياة روسية. وهو كتاب مليء بالمعلومات والحقائق التفصيلية عن حياة تولستوي وأفكاره.
تذكر بارتليت في كتابها أن انطون تشيكوف، وكان احد أصدقاء تولستوي المقرّبين، قال ذات مرّة: تخيفني فكرة أن يموت تولستوي. وإذا مات فإنه سيترك ولا شكّ فراغا كبيرا في حياتي. وطالما انه حيّ، فإن موجة الابتذال والرداءة والقبح في الأدب ستبقى بعيدا في الظلمة الخارجية".
تشيكوف لم يعش ليشهد موت تولستوي. فقد مات بمرض السلّ قبل ستّ سنوات من وفاة تولستوي وعن عمر لا يتجاوز الرابعة والأربعين. لكنه كان مصيبا في أن وجود تولستوي كان يفرض قيودا أخلاقية معيّنة على المجتمع الروسي.
في الثامن والعشرين من أكتوبر عام 1910، هرب تولستوي من بيته عند منتصف الليل برفقة سكرتيره وإحدى بناته. وعلى فراش الموت، استقبل عددا قليلا من أتباعه وبعض أبنائه. واتفقوا جميعا على انه لا يجب السماح لـ صوفيا، زوجة الكاتب، برؤيته. وفي النهاية، وبعد أن فقد وعيه رضخوا لطلبها. ودخلت وركعت عند سريره بينما كان يحتضر. وقد كتبت في مذكّراتها في ما بعد تقول: لم يُسمح لي أن أقول لزوجي وداعا. أولئك الناس القساة".
عاشت صوفيا اندرييفنا تسع سنوات بعد وفاة تولستوي. وبقيت في ياسنايا بوليانا حتى بعد أن أحكم البلاشفة سيطرتهم على روسيا. كانت تتمنّى أن تُدفن إلى جوار زوجها في الضيعة التي عاشا فيها لأكثر من 48 عاما. لكن لم تُحترم تلك الرغبة. وعندما توفّيت في نوفمبر من عام 1919، دُفن جثمانها في مقبرة في كوتشاكي على بعد ميلين من قبر تولستوي.
كان تولستوي شخصية ذات تأثير هائل، سواءً في أعماله أو في حياته.
وفي سيرته، كان من المحتّم أن تكثر التناقضات: الجنديّ الشابّ الذي أصبح فيما بعد واحدا من دعاة السلام الأكثر صخبا في زمانه. و زير النساء الذي تُسجّل يومياته الطويلة صراعه مع دوافعه الجنسية، والذي أصبح بعد ذلك احد أكثر الناس عفّة وصرامة في عصره. والارستقراطي الذي أصرّ في وقت لاحق على أن يهب حقوق مؤلّفاته وكتبه إلى العامّة مجّانا. والناشط الاجتماعي الذي سُجن رفاقه وزملاؤه من المفكّرين والكتّاب أو أرسلوا إلى المنافي، بينما تمتّع هو بالحماية من قبل أقاربه في البلاط الإمبراطوري.


المكان المناسب للبدء في التحقّق من هذه الشخصيّة المتناقضة هو ياسنايا بوليانا، الضيعة التي وُلد فيها تولستوي وقضى الشطر الأكبر من حياته.
هذا المكان يعكس، أكثر من أيّ مكان آخر، طبيعة الرجل. والحقيقة أن ياسنايا بوليانا لم تتغيّر كثيرا منذ أن تركها تولستوي قبل أكثر من قرن. وما يزال بالإمكان الوصول إليها عن طريق زقاق تصطفّ على جانبيه أشجار البتولا.
بعد وفاة تولستوي عام 1910، مُنحت بعض أراضي الضيعة للفلاحين الذين كانوا يخدمونه. بينما أعيد توزيع أجزاء من الأرض بعد قيام الثورة عام 1917. الإسطبلات ما تزال تؤوي بعض الخيول حتى اليوم. الغريب أن بيت تولستوي نجا من فوضى ثورة 1917، عندما تمّ نهب الكثير من الممتلكات والبيوت المجاورة.
ارتباط عائلة تولستوي بـ ياسنايا بوليانا ما يزال قويّا إلى اليوم. وبعد رحيله ، تولّت صوفيا، زوجته، المسئولية عن المنزل والعقارات الملحقة به. كانت، حتى وفاتها عام 1919، تصطحب الضيوف الكثيرين الذين كانوا يزورون الضيعة، في حين تولّت الكسندرا، الابنة الصغرى لـ تولستوي، هذه المسؤولية خلال العشرينات قبل أن تغادر الاتحاد السوفياتي نهائيا عام 1928م.
خلال العصر السوفياتي، احتفلت الدولة بالذكرى المئوية لميلاد تولستوي عام 1928 وبالذكرى الخمسين لوفاته في عام 1960م. وحظيت المناسبتان بتغطية واسعة في الصحافة. وكان ذلك أمرا مثيرا للاهتمام. فالعلاقة بين السلطات السوفياتية وأفكار تولستوي كانت متوتّرة. ومواقفه السلمية أصبحت غير مقبولة بشكل متزايد بالنسبة إلى النظام الجديد.
إذا نظرنا إلى الوراء وقارنّا بين أوضاع روسيا زمن تولستوي وحالة البلاد الآن سنجد بعض أوجه الشبه المذهلة. فهناك اليوم فجوة تتّسع باطّراد بين الأغنياء والفقراء. وثمّة تحالف ملحوظ بين الكنيسة والدولة. وهناك رقابة بشكل أو بآخر وإقصاء للأصوات المستقلّة. كما أن الدور السياسي للدولة يقع على حدود الاستبداد.
هنالك من يعزو صمت روسيا الرسمية وتجاهلها لإرث تولستوي لنقص الأموال وعدم القدرة على تسويق الكاتب تجاريّا في سوق ثقافية تهيمن عليها الأفلام المترجمة والواردات الأجنبية.
لكنّ هناك سببا كامنا وأكثر عمقا، وهو افتقار البلاد للوسائل اللازمة لمعالجة القضايا الأخلاقية الملحّة التي تواجه روسيا اليوم، وهي نفس القضايا التي كانت موجودة في نهاية حياة تولستوي.
ضمير تولستوي لم يكن يسمح له بالسكوت عن الظلم والعنف والفقر والخروج على القانون. وهي مشاكل كان يراها حوله في الحقبة المتأخّرة من روسيا القيصرية. وكان باستمرار يناشد مواطنيه بأن لا يصمتوا على الاستبداد والظلم والفساد وأن يتّخذوا موقفا.
والواقع أن هناك الآن من يجادل بأن الأوضاع في روسيا اليوم ليست بأفضل حالا ممّا كانت عليه في بدايات القرن الماضي. كان الملايين من الروس، زمن ما قبل الثورة، ينظرون إلى تولستوي باعتباره منارة للحقيقة. واليوم يفضّل الناس عدم تذكّر عظمة وإنسانية كتّابهم في القرن التاسع عشر، ربّما بسبب شعورهم بعدم الارتياح إزاء تفريطهم وتقصيرهم ولامبالاتهم.
جاذبية تولستوي في قلوب وعقول مواطنيه توارت كثيرا بدليل فشل الدولة المشين في تكريم ذكرى واحد من أعظم مواطنيها. وعلى المستوى الرسمي، يبدو أن لا مكان لأفكار فوضويّ ونباتيّ مسالم كان يبشّر بالأخوّة بين بني الإنسان في بلد لا يمجّد اليوم سوى أفكار الذكورة والعزّة القومية والحكومة القويّة.
ولا يمكن إغفال نفوذ الكنيسة الأرثوذكسية التي استعادت نشاطها في العقدين الأخيرين وتتمتّع الآن بعلاقة وثيقة مع الحكومة الروسية. هذه الكنيسة هي نفسها التي ما تزال تعتبر تولستوي زنديقا على الرغم من جهود سلالته وسخط الكثير من الروس.
في يوم وفاة تولستوي والأيّام التي تلته، أرسلت الدولة الجواسيس لتعقّب كلّ حركة وخطوة من أتباعه خوفا من أن يشجّع موته الملايين من مؤيّديه من الشباب والفلاحين والمثقّفين على القيام بتحرّك شعبي أو ثورة ما. أما ممثّلو الصحافة فقد حوّلوا موته إلى نوع من الإعلام المحموم.
واعتمادا على الروايات الصحفية والمراسلات الشخصية وتقارير الشرطة والتعاميم السرّية والبرقيات والرسائل والمذكّرات، فإن المشهد العام لأيّام تولستوي الأخيرة كان انعكاسا حيّا لامبراطورية هشّة تقف بقلق على حافّة الحرب والثورة.

Credits
linguadex.com
gutenberg.org

الثلاثاء، سبتمبر 07، 2010

تاركوفيسكي: نحت في الذاكرة

كتب المخرج السينمائي الروسي اندريه تاركوفيسكي مطوّلا عن رسّاميه المفضّلين في كتابه النحت في الزمن. ليوناردو دافنشي كان أكثر الرسّامين الذين أشار إليهم في كتابه وأفلامه، ويأتي بعده مباشرة بيتر بريغل الأب.
كان تاركوفيسكي مفتونا، على وجه الخصوص، بما يمكن أن يُسمّى "الخاصّية السينمائية" للوحات بريغل. في لوحات هذا الرسّام، تبدو الحركة المتباينة للأشياء كما لو أنها تسير باتجاه قدرها النهائي والمحتوم. وهو كان ميّالا لملء لوحاته بعشرات الناس المنهمكين في أعمالهم وأنشطتهم اليومية ويبدون كما لو أنهم لا يعرفون شيئا ولا يكترثون بشيء.
في فيلم سولاريس، يركّز تاركوفيسكي على مضمون المكتبة على متن المحطّة الفضائية المعلّقة فوق محيط لا متناه وزاخر بالمخلوقات الغريبة.
البشر الذين يكافحون كي يبقوا عقلاء، فيما بحر سولاريس يعبث بذكرياتهم وبوعيهم، ينظرون إلى لوحة بيتر بريغل "صيّادون على الثلج" المثبّتة على حائط مكتبتهم الخشبية. هذه الصورة الدافئة والمريحة تصوّر صيّادين يعودون خاليي الوفاض وهم يهبطون إحدى التلال مع كلابهم المتعبة، بينما يلهو الفلاحون على برك المياه المثلجة أسفل منهم.
مكتبة المحطّة الفضائية تحتوي أيضا على تمثال نصفي للحكيم الأثيني سقراط ونسخة قديمة من رواية دونكيشوت يقتبس منها البطل في مشهد معبّر بعض الحكم الأرضية لـ سانشوبانزا.
أي أن تاركوفيسكي يضع الصورة الأكثر ارتباطا بالأرض في الفنّ في أعماق الفضاء البعيد ويحتفل بالنوستالجيا وبمستقبل الأرض، وليس الفضاء، وبالإنسانية بكلّ غرابتها البريغلية.
فيلم سولاريس يُعتبر أعظم أفلام تاركوفيسكي وأفضل أفلام الخيال العلمي على الإطلاق. وهو يتحدّث عن اكتشاف أنفسنا في مرآة عقل مخلوقات غريبة. ويستند الفيلم إلى رواية للمؤلف ستانيسلاف ليم كتبها عام 1961م. إننا نتحدّث عن خيال علمي حقيقي من النوع الفلسفي والتأمّلي من منتصف القرن العشرين.
يبدأ فيلم سولاريس بمشهد لبطله "كريس كالفين" الذي يراوده حلم يقظة وهو واقف عند الفجر في طبيعة من المروج التي غمرها الضباب. هذه هي طبيعة الأرض التي تؤرّقك طوال الفيلم. المناظر من خارج المحطّة الفضائية تُظهِر سحبا في دوّامات وبحراً يغلي. لكن هناك أيضا اللوحة عن الصيّادين في المكتبة. إنها بالضبط اللوحة التي تريد أن تكون معك على متن سفينة فضائية تبعد عن الأرض عدّة سنوات ضوئية. و"صيّادون على الثلج" ليست اللوحة الوحيدة على متن المحطّة. هناك أيضا أيقونة للرسّام الروسي القروسطي اندريه روبليف. هذا واحد من ارتباطات عديدة يخلقها تاركوفيسكي بين رؤيته الخيالية العلمية وبين رؤيته التاريخية، بين فيلم سولاريس والفيلم الذي أخرجه قبل ذلك عن رسّام الايقونات الروسي الكبير.
وكلا الفيلمين يجعلانك ترى الأرض كما لو انك تراها للمرّة الأولى.
في بداية سولاريس تظهر صور مطبوعة من القرن الثامن عشر تصوّر بالونات، بينما نلمح اندريه روبليف وهو يقف مع رجل آخر يحاول أن يطير في بالون مصنوع من جلود الحيوانات. هذه هي روسيا قبل ستمائة عام: عالم من غزاة التتار والرهبان الحمقى المقدّسين. يهرع الناس لمشاهدة الآلة الطائرة وهي ترتفع إلى السماء بينما ينسحب منظر الأرض إلى أسفل شيئا فشيئا. لكن البالون ينخفض مثل ملاك متمرّد وساقط. وآخر ما نراه منه هو رئة متبخّرة تنهار على الأطراف القذرة لأحد الأنهار.
ليس هناك فيلم آخر متجذّر في الأرض مثل هذا. كما لا تظهر فيه أيّ لمحة عن السماء. وتاركوفيسكي يجد باستمرار مناظر تبدو الأرض فيها وهي ترتفع وتملأ الشاشة. الكشف البطيء للغاية عن هذا المكان الأرضي في بداية سولاريس هو الذي يجعل منه فيلما عظيما.
إن تاركوفيسكي يجد متعة كبيرة في خلق أرضه المستقبلية. وبينما يقف كالفين في المروج صباحا، يرى من بعيد سيّارة تصل إلى سكّة خرسانية وذات مسار واحد. الطبيعة التي يصوّرها تاركوفيسكي حقيقية. وقيمتها تكمن في ذاتها، وليس فقط في كونها خلفية. لذا عندما يذكّرك بأن هذه هي الأرض المستقبلية حيث يتكلّم الناس الروسية لكنهم يتَسَمّون بأسماء أمريكية، فستقبل هذا وتقتنع به كرؤيا عن المستقبل.


في فيلمه الآخر المتسلّل وهو آخر فيلم صوّره في بلده، ينفذ تاركوفيسكي بشكل أعمق إلى لا وعي العمارة السوفياتية. والمتسلّل صُوّر في محطّة كهرباء مهجورة تصبح هي "المنطقة". والمنطقة هي عبارة عن طبيعة متمنّعة يقود عبرها المتسلّل كاتبا وعالما في رحلة بحث عن حقيقة مخفيّة. الأنفاق الخرسانية المتحلّلة والبرك النتنة والجدران المقشّرة والمتداعية ومخابئ المجتمع الاشتراكي المحتضر توفّر صورة أيقونية عن مستقبل مروّع.
الصورة الأكثر إثارة هي الأخيرة. المتسلّل وعائلته يمشون على شاطئ موحل أمام محطّة لتوليد الطاقة النووية، في ما يبدو وكأنه إشارة غير مباشرة إلى كارثة تشيرنوبل التي ستحدث بعد ذلك بستّ سنوات.
مستقبل الغرباء هو هنا. لكنّ الناس ما يزالون هم الناس وما يزالون بحاجة لبعضهم البعض.
في سولاريس يلتقي كالفين العاقل والمتشكّك عشيقته أو زوجته هاري التي كانت قد قتلت نفسها منذ زمن طويل بعد أن اقتنعت بأن هذا العالِم المهنيّ والبارد لم يعد يحبّها. ردّ فعل كالفين يوحي بأنه لا يفقه كثيرا في العلاقات الإنسانية، فهو يضع هاري في صاروخ ويرسلها إلى الفضاء. غير أنها تتجسّد في غرفة نومه في تلك الليلة، فيمارسان الحبّ معا ويصبح هو جزءا لا ينفصل عن شريكه الخيالي.
وبينما تنظر هاري إلى لوحة بريغل، تتركّز الكاميرا على الصورة وتمرّ فوقها ببطء مظهرة تفاصيلها: طائر يطفو على غصن اسود يبدو الثلج عالقا بأطرافه، رجال بظهور منحنية يمشون إلى منازلهم، ومتزلّجون على الثلج.
لا يمكن أن يفعل مخرج آخر مثل هذا، أي يترك أحداث فيلمه كي يزور معرضا فنّيا كما لو أن هذا ليس فيلما خياليا وإنما برنامج وثائقي.
كان تاركوفيسكي يقدّر بحقّ صور بريغل لجلائها وواقعيّتها. لكنه مع ذلك يظلّ احد المخرجين القلائل الذين بقيت أعمالهم غامضة وحتى محيّرة في بعض معانيها.
شخصيّاته المغلقة تعكس الرموز والتجارب التي كانت تشكّل عالمه الخاصّ.
يمكن القول إن فنّ تاركوفيسكي يعمل على مستويات متعدّدة. فأعماله تربط السينما بفنون أخرى أقدم كالرسم والرواية والموسيقى. وهو يستخدم هذا الربط لتقديم تعليقات أخلاقية واجتماعية عن الماضي والحاضر.
كما أن في أفلامه إشارات كثيرة إلى الأدب، كما في فيلم المرآة الذي يتضمّن اقتباسات من تشيكوف وتولستوي وبوشكين ودانتي ودستويفكسي.
ومن الواضح أن تاركوفيسكي يتعامل مع اللوحات الفنّية بمثل ما كان يفعل دستويفسكي الذي كان يلمّح باستمرار إلى اللوحات في رواياته. سيستينا مادونا لـ رافائيل هي مثار حديث في الجريمة والعقاب. والمسيح الميّت لـ هولبين ترد في ثنايا احد الحوارات في روايته الأخرى الأبله. تاركوفيسكي يُظهر في أفلامه تماهياً مع دستويفسكي ومع نضاله ومصادر عذابه الروحي، ومع العذاب الجسدي الذي يحطّم أبطاله ويعصف بمصائرهم.
ومثل دستويفسكي، كان عند تاركوفيسكي قناعة عميقة بغموض الوعي البشري. وأبسط كشف عن هذه الرؤية هو مضمون فيلم سولاريس نفسه. فالبشر يصبحون موضع تساؤل وافتتان المخلوقات الغريبة، وليس العكس.
البشر هم الأعجوبة والمعجزة الحقيقية، وليس المخلوقات الغريبة.
ليس من قبيل المبالغة إذن أن يُطلق على تاركوفيسكي "دستويفسكي السينما" أو مخرج الأفلام الدستويفسكية.


Credits
andrei-tarkovsky.com
hcl.harvard.edu