:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات تيشيان. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات تيشيان. إظهار كافة الرسائل

الخميس، يوليو 06، 2017

روبنز: هوميروس الرَّسم


أينما نظرت في تاريخ الفنّ، لا بدّ أن ترى أثرا لبيتر بول روبنز؛ الفنّان الذي يقال انه أوّل من رسم البورتريه الفخم وأوّل من ابتكر قوس قزح في الرسم.
من دون رسومات روبنز، كيف كان يمكن، مثلا، أن يتطوّر موريللو وفان دايك؟ وهل كان استشراق القرن التاسع عشر سيأخذ شكله المعروف لولا لوحات روبنز المبكّرة والمثيرة التي تصوّر مناظر صيد التماسيح والقطط الكبيرة ؟ وهل كان بيكاسو سيرسم غورنيكا لو انه لم يرَ مثال روبنز عن ويلات الحروب في لوحته عواقب الحرب ؟
يمكن اعتبار روبنز شخصا مميّزا واستثنائيّا. شخصيّته الساحرة وسلوكه المتّزن وسرعة بديهته وإتقانه للعديد من اللغات جعل منه أيضا دبلوماسيّا ومبعوثا مرموقا. حياته الخاصّة كانت متميّزة أيضا. كان وسيما، لائقا صحّيّا، وكاريزماتيّا وبعيدا عن الحسد والضغينة والتنافس.
والناس اليوم يشيرون إلى روبنز على انه "الفنّان الذي رسم كلّ ذلك العدد الكبير من صور النساء ". وأثناء حياته ولثلاثة قرون بعد وفاته، كان يُنظر إليه كنموذج للانجازات الفنّية والاجتماعية. وعلى العكس من معاصره رمبراندت الذي عانى وتعثّر كثيرا في حياته وكان مثالا للرومانسيّ البائس، كانت حياة روبنز مليئة بالنجاح والشهرة والمال.
كان روبنز قادرا على فعل كلّ شيء ما عدا شيء واحد: أن يجد طريقه إلى قلوب الانجليز. في أوربّا، ظلّ دائما يُعامَل باحترام كبير. أحد النقّاد الفرنسيين من القرن التاسع عشر قال عنه إن الطبيعة البشرية بأسرها في متناول فنّه، باستثناء الأفكار المثالية والسامية".
وقد استطاع أن يؤثّر على الكثيرين من معاصريه، مثل فان دايك وفيلاسكيز ورمبراندت، وترك بصمته على الكثيرين ممّن أتوا بعده.
لم يكن روبنز مجرّد رسّام غزير الإنتاج، بل كان أيضا دبلوماسيّا وجامع آثار وشخصيّة أوربّية جامعة استطاعت أن تتنقّل بسهولة بين قصور ملوك القارّة، بما فيها بلاط تشارلز الأوّل ملك انجلترا.
لكن كلّ هذا لم يُكسِبه محبّة البريطانيين الذين لم يكن يعجبهم النمط الأوربّي الناعم الذي كانوا يرونه في فنّ روبنز. وبوصفه أعظم رسّامي الشمال، فقد ظلّ الكثيرون ولزمن طويل ينظرون إليه باعتباره مخلب قطّ للمؤسّسة الكاثوليكية وخبير دعاية بارعا لها.
وفي بعض الأحيان، اُتّهم بأنه كان يدير مصنعا للرسم أنتج عددا كبيرا من أعمال الاستديو التي لم تكن تحمل سوى القليل من بصمة المعلّم، أي روبنز. كان من عادته أن يضع نموذجا مصغّرا للوحة ويرسم الوجه والذراعين، ثم يكلّف احد مساعديه بإتمام باقي المهمّة.
والانجليز ليسوا الوحيدين الذين كانوا ينظرون إلى روبنز وفنّه بتحفّظ، بل لقد انتُقد كثيرا من معاصريه بسبب أشكاله المشوّهة ووجوهه النمطية. كما أن ألوانه الحسّية وتوليفاته الدينية كانت سببا آخر للتشكيك في فنّه.
في القرن التاسع عشر، قال عنه فان غوخ انه سطحيّ وأجوف ومنمّق. وحتى مؤيّديه، والكثيرون منهم رسّامون وخبراء رسم، كانوا يشعرون غالبا بأنه من الضروريّ أن يقرنوا ثناءهم عليه بملاحظات ناقدة.
مثلا، كان اوجين ديلاكروا يعتقد أن روبنز حصل على شهرة يندر أن حظي بها رسّام آخر. لكن كان يأخذ عليه ملء فراغات لوحاته بأعداد كبير من الأشخاص والجميع فيها يتحدّثون في وقت واحد".


وحتى جون راسكين الذي كتب مُشيدا بعقلية روبنز وأصالة فنّه وتفوّقه حتى على تيشيان ورافائيل، أخذ عليه افتقار أعماله للجدّية وخلوّها من العاطفة الحقيقية.
غير أن كلّ هذه الانتقادات تظلّ في النهاية مجرّد أحكام عامّة ولا تنطبق على مجموع أعمال روبنز الكاملة والتي يفوق عددها الألف وخمسمائة صورة.
روبنز، بكلّ تنوّعه، موضوع كبير وواسع. صحيح انه رسم قصصا دينية، لكنه أيضا رسَم بورتريهات لبعض أعظم الأشخاص في زمانه. كما رسم مشاهد من الميثولوجيا الكلاسيكية ومناظر طبيعة مثيرة للذكريات وصورا مجازية من التاريخ القديم والمعاصر.
ولا يمكن أيضا نسيان صوره المعبّرة لمعارك وعمليات صيد عنيفة، ولا صوره العائلية التي رسمها بأقصى درجات الرقّة والإتقان.
ورغم انه كان من الناحية الفنّية رسّاما فلمنكيّا، إلا انه كان في نفس الوقت شخصيّة أوربّية شاملة منذ البداية. والده كان كالفينيّا (نسبة إلى المصلح البروتستانتيّ كالفين)، وقد هرب الأب من انتورب إلى كولونيا عام 1568 عندما وصل دوق ألبا لإعادة الكاثوليكية بحدّ السيف إلى الأراضي المنخفضة الاسبانية، ردّا على النفوذ المتصاعد للبروتستانتية.
روبنز نفسه وُلد في وستفاليا. وبعد فترة قصيرة من موت والده في عام 1587، عاد هو ووالدته إلى انتورب وتحوّلا إلى الكاثوليكية. ورغم تحوّله، إلا انه تلقّى تعليما كلاسيكيّا وإنسانيّا وتلقّى تدريبا فنّيّا على أيدي ثلاثة من أشهر رسّامي انتورب وقتها.
لكن أسلوبه لم يتبلور تماما إلا بعد رحلته إلى ايطاليا التي سافر إليها ما بين عامي 1600 و 1608، وهناك استطاع بفضل مواهبه الرسميّة والشخصيّة الوصول إلى بلاط دوق غونزاغا. ثم بدأ من هناك رحلته الكبيرة إلى فينيسيا وفلورنسا وجنوا وروما لكي يستنسخ بعض اللوحات لمصلحة الدوق.
ذائقة روبنز الفنّية كانت عالية كما تعكسها لوحاته التي رسمها في ما بعد والتي تأثّر فيها بفنّ ميكيل انجيلو وتيشيان وكارافاجيو.
كان دوق غونزاغا أوّل من اعترف بقدرات روبنز الدبلوماسية، فبعثه إلى اسبانيا عام 1603 مع عدد من الهدايا للملك فيليب الثالث. وقد عيّنه الملك رسّاما للبلاط قبل أن يتّخذ منه سكرتيرا له ومبعوثا شخصيّا.
وفي عام 1608، عاد إلى انتورب مع سريان هدنة حرب الإثني عشر عاما بين اسبانيا وانفصاليي جنوب هولندا في عام 1609. وقد شكّلت تلك الفترة بداية عصر جديد من السلام والنموّ الاقتصاديّ الذي استفاد منه روبنز، خاصّة مع الطفرة الكبيرة في بناء دور العبادة وترميمها وتزيينها.
ثم عُيّن روبنز بعد ذلك رسّاما لبلاط الأمير البيرت والأميرة ايزابيللا، الوكيلين الاسبانيين لأسرة هابسبيرغ في حكم بلاد الفلاندرز، وهي وظيفة أعفته من دفع الضرائب وسمحت له بتأسيس مرسم خاصّ به.
وفي تلك الفترة أيضا، اقترن بزوجته الأولى ايزابيللا برانت التي أنجب منها ثلاثة أطفال وعاش معها بسعادة في بيت اشتراه وأعاد تصميمه على الطراز المعماريّ الايطاليّ.
كان روبنز يقدّر موهبته الفنّية جيّدا ويعرف أنه مُهيّأ بالفطرة لرسم الأعمال الضخمة أكثر من الصغيرة. وما عزّز هذا الشعور في نفسه هو اتّصافه بمستوى عالٍ من التجاوز والإقدام الفنّي.


وكان محسودا من الكثيرين، ليس بسبب مهارته كرسّام فحسب، وإنّما أيضا بسبب خصاله ومناقبه التي مكّنته من النفاذ إلى داخل دوائر السلطة.
في أواخر 1620، كلّفته الأميرة ايزابيللا، باعتباره مستشارها السرّيّ، بالقيام بعدّة مهامّ لاستعادة العلاقات بين بلده هولندا وانجلترا. وكانت زيارته اللاحقة للندن ناجحة دبلوماسيّا وفنّيّا.
وأثمرت جهوده تلك، مع آخرين، في وضع نهاية للحرب الاسبانية الانجليزية عام 1630. وقد أنعم عليه تشارلز بلقب فارس، ثم كلّفه بإنجاز بعض المهامّ الفنّية، ومن بينها رسم سقف دار الضيافة في الوايتهول.
في ذلك الوقت، تخلّى روبنز عن وظيفته الدبلوماسية وقرّر أن يعود إلى الرسم وإلى زوجته الثانية والجديدة هيلينا فورمنت التي عقد عليها بعد وفاة زوجته الأولى ايزابيللا عام 1626. وكانت صوره التي رسمها في ما بعد لهيلينا من بين أعظم لوحاته، وقد منحته خمسة أطفال أصغرهم وُلد بعد ثمانية أشهر من وفاته.
إنتاج روبنز في العقد الأخير من حياته اتسم بطابع شخصيّ، وقد اكتفى برسم مناظر للريف والحياة القروية حول ضيعته الجديدة خارج انتورب. وفي تلك اللوحات رسَم الفنّان عالما من السلام والتوازن يتناقض كليّةً مع واقع أوربّا آنذاك، حيث كانت حرب الثلاثين عاما في ذروة استعارِها.
وبسبب مكانته كرسّام بارز في عصره، فإن مجموعة أعماله الكاملة أعيد استنساخها وتوزيعها بمختلف وسائل الحفر والنقش.
ووصلت طبعات صوره الدينية إلى كلّ زاوية من زوايا العالم الناطق بالاسبانية، واستخدمها المبشّرون في المستعمرات. ويمكن العثور على آثار من روبنز في كنائس القرى المتناثرة في أرجاء بيرو والمكسيك والفلبّين وغيرها.
كما ظهرت نسخة من إحدى لوحاته منقوشةً على إناء من الخزف الصينيّ يعود تاريخه إلى بدايات القرن الثامن عشر.
وفي أوربّا نفسها، انجذب فنّانون كثر ومن جنسيات مختلفة إلى التنوّع الذي يميّز رسومات روبنز. فالانجليز أحبّوا لوحاته عن الطبيعة، والألمان أعجبوا بحيويّة صوره، والأسبان وجدوا في لوحاته الدينية مصدرا للإلهام، والفرنسيون ذُهلوا من مناظره الحسّية. واستمرّ هذا التأثير لزمن طويل.
أتباع روبنز الفرنسيّون كانوا كثيرين، من فاتو وبوشير وفراغونار إلى مانيه ورينوار وسيزان وغيرهم.
أما عندما يتعلّق الأمر برسم المناظر العنيفة، فإن روبنز كثيرا ما كان يُستخدم كموجّه ودليل. لوحته اصطياد نمر وفهد وأسد (فوق) تصوّر صراعا عنيفا حتى الموت بين بشر وحيوانات. وقد استلهمها رسّامون مثل رمبراندت وديلاكروا ولاندسير وبوكلين ورسموا مشاهد شبيهة.
ليس من الخطأ القول بأن لروبنز الفضل في ابتكار العديد من الأنماط الصُورية. لكن يجب أن نتذكّر أنه، هو نفسه، مدين لمن سبقوه من الرسّامين ممّن رأى أعمالهم في بداياته مثل ميكيل انجيلو ورافائيل وغيرهما.
وقد ظلّ يرسم حتى اللحظات الأخيرة من حياته، عندما مات بمرض النقرس عام 1640 عن ثلاثة وستّين عاما. غير أن وفاته كانت مجرّد محطّة عابرة في "الروبنزية"، فقد استمرّ تأثيره ومثاله في أوربّا وفي العالم حتى اليوم.

Credits
peterpaulrubens.net
theguardian.com

الاثنين، فبراير 20، 2017

عصر النهضة

ما يزال المؤرّخون مختلفين حول ما يعنيه عصر النهضة بالتحديد. لكن ممّا لا شكّ فيه أن شيئا ما غير عاديّ حدث في منتصف الألفية الماضية وغيّر وجه الحضارة الغربية. وممّا لا شكّ فيه أيضا أن عائلة ميدتشي الايطالية كانت راعية ومؤثّرة في إحداث ذلك التغيير الكبير.
بشكل عام، يمكن القول إن عصر النهضة يُقصد به الفترة الممتدّة من عام 1300 إلى عام 1600م والتي تلت القرون الوسطى مباشرةً في أوربّا وشهدت موجة من الابتكارات الفنّية والثقافية التي اكتسحت المجتمع القروسطي وأدخلت الثقافة الأوربّية في العصر الحديث.
في عصر النهضة استُبدل النظام الفلكيّ القديم لبطليموس بنظام كوبرنيكوس وانهار النظام الإقطاعيّ وازدهرت التجارة واختُرع الورق والطباعة والبوصلة والبارود.
وفيه أيضا عاشت أرجاء كثيرة من أوربّا استقرارا سياسيّا ورخاءً اقتصاديّا واكتُشفت قارّات جديدة وازدهرت الفلسفة والآداب والفنون.
وبدأ المبدعون في جميع الميادين، من رسّامين ونحّاتين ومهندسين وكتّاب وشعراء وموسيقيين، يهتمّون بتمجيد الإنسان وبالتصوير الواقعيّ للجسد الإنسانيّ وللطبيعة وبالنظر إلى الفنّان كفرد مستقلّ بذاته.
وفي ذلك العصر أيضا عاش أدباء مشهورون مثل بترارك وبوكاتشيو اللذين نظرا إلى الخلف؛ إلى روما واليونان وسعَيا إلى إنعاش اللغات والقيم والتقاليد الثقافية لتلك الحضارات بعد فترة طويلة من الركود تلت سقوط الإمبراطورية الرومانية في القرن السادس الميلادي.
وفي عصر النهضة لم يعد الناس يتقبّلون تعاليم وإملاءات الكنيسة كيفما اتّفق ولم يعودوا يتسامحون مع فساد وانحلال رجال الدين. وفيه أيضا أصبح الراهب الألمانيّ مارتن لوثر أوّل "زنديق" ينشر نظرياته علنا، فأبطل قرونا طويلة من تقديس الاكليروس ومهّد الطريق لثورة في الإيمان وقسّم العالم المسيحيّ إلى الأبد.
أيضا في عصر النهضة أصبح الناس توّاقين لدراسة عالم الطبيعة واكتشاف أنفسهم من خلال التعرّف إلى أسرار الكون. ثم فاجأ غاليليو المؤسّسة الكاثوليكية بإعلانه أن الأرض تدور حول الشمس وليس العكس.
أما في الرسم، فقد انفصل الفنّانون عن التقاليد الدينية لعالم القرون الوسطى، واكتشفوا لأوّل مرّة كيف يرسمون بأبعاد ثلاثة وابتكروا أساليب ثورية في الرسم مثل الرسم بالزيت وتقنيات المنظور، وتزعّم ليوناردو دافنشي علم دراسة التشريح البشريّ وتوظيفه في الرسم.
وفي السياسة، أعيد بعث ومناقشة النصوص القديمة التي لم تُقرأ طوال ألف عام. ومع اكتشاف الطباعة، اكتسحت الأفكار والنظريات أوربّا بسرعة وأشرك الكتّاب والمفكّرون الناس العاديّين في أفكارهم وتصوّراتهم.
وفي كلّ أرجاء ايطاليا ازدهرت الجمهوريات والدوقيات وحوّل الملوك والأمراء الأوربّيون أنظارهم إلى ايطاليا مأخوذين بوهج الانجازات والاختراقات المبدعة. وفي ذلك العصر كتب ميكيافيللي كتابه "الأمير" الذي ضمّنه تصوّراته عن عالم براغماتيّ فيه الغايات تبرّر الوسائل.

ترى هل كان الفنّانون الذين صنعوا فنّ عصر النهضة يعرفون أنهم كانوا يعيشون في "عصر نهضة" فعلا؟ وبعبارة أخرى، هل كانوا واعين بأنهم ينتمون إلى عصر اسمه "عصر النهضة" ويتماهون مع معاني ودلالات ذلك الوصف؟
هذا السؤال مهمّ ومثير للفضول. وبعض المؤرّخين يقولون: لا ونعم. فكما هو الحال دائما في التاريخ، تبدو العملية معقّدة بعض الشيء.
ولكي تتّضح لنا الصورة أكثر، يجب أن نحاول معرفة متى ظهر ذلك المصطلح بالتحديد ومن الذي استخدمه أوّل مرّة ولماذا.
كلمة "نهضة" فرنسية الأصل، تعني الانبعاث أو الولادة الجديدة. وقد دخلت إلى اللغة الانجليزية حوالي عام 1800 لتشير إلى الفترة المذكورة (1300-1600) كإعادة بعث لثقافة وفنّ الأزمنة القديمة في روما واليونان.
لكنّ أوّل ذكر للمصطلح الذي تشير إليه الفكرة أتى قبل ذلك بحوالي ثلاثمائة عام. ففي عام 1550، وفي كتابه "تاريخ الفنّانين"، استخدم المؤرّخ الايطالي جورجيو فاساري الكلمة الايطالية "النهضة" ليصف الأسلوب الفنّي الجديد الذي اتّبعه الفنّانون آنذاك، مثل ليوناردو دافنشي وميكيل انجيلو ورافائيل.
فاساري، الذي يُوصف عادةً بأنه أوّل من أرّخ للفنّ الأوربّي، قسّم فنّاني تلك الفترة إلى ثلاث مراحل: الأولى تتضمّن جيوتو، احد أوائل الرسّامين الايطاليين الذين تخلّوا عن الأساليب القديمة وتبنّوا نهجا أكثر واقعية في رسم البشر والطبيعة والمعمار.
كانت جهود جيوتو مبتكرة، لدرجة أن من جاءوا بعده في القرن الخامس عشر قضوا سنوات يبنون على ابتكاراته الفنّية. وقد امتدحه فاساري بقوله انه أعلن عن ولادة لحظة جديدة في الرسم.
المرحلة الثانية من رسّامي عصر النهضة تتضمّن ماساتشيو ودوناتيللو وغيرهما من الفنّانين الذين كانوا نشطين في القرن الخامس عشر. وهؤلاء كانوا يدفعون عن وعي باتجاه أعراف فنّية جديدة.
أما المرحلة الثالثة والأخيرة، بحسب فاساري، فكانت تغطّي معظم العصر الذي عاش فيه هو، أي النصف الأوّل من القرن السادس عشر. فنّانو تلك المرحلة عملوا بالطريقة الحديثة التي بدأها جيوتو وطوّرها الفنّانون الذين أصبحوا مشهورين أكثر من غيرهم بارتباطهم الوثيق بعصر النهضة، أي تيشيان وليوناردو دافنشي ورافائيل وميكيل انجيلو وكوريجيو.
وخلال تلك الفترة، ربّما كانت كلمة النهضة غير معروفة بعد ولم تَرِد على ألسنة الفنّانين آنذاك الذين أصبحوا يمزجون تحفهم الفنّية بالكثير من الدراما والانفعالات. لكنّهم بالتأكيد كانوا يعرفون أن شيئا ما جديدا كان يحدث.
وبينما كانوا متأثّرين بالفنّ الرومانيّ واليونانيّ الكلاسيكيّ ويعتبرونهما مصدرا للإلهام، إلا أنهم أيضا كانوا مدفوعين بالفكر التنافسيّ ليخلقوا شيئا جديدا ومختلفا عن الأجيال السابقة. وفي نفس الوقت كانوا يمهّدون الطريق للفنّانين الذين أتوا بعدهم لكي يناضلوا بوعي من اجل خلق وابتكار أشياء جديدة ومتجاوزة.

Credits
visual-arts-cork.com

الأحد، أبريل 19، 2015

خواطر في الأدب والفن

تيشيان: شمس بين الأقمار


ولد الرسّام الايطالي تيشيان في بلدة كادوري الايطالية لعائلة نبيلة. وعندما بلغ العاشرة أظهر ميلا للفنون والرسم، فأرسله والده إلى بيت احد أعمامه في فينيسيا. وقد استطاع الأخير أن يلمس محبّة الصبيّ للرسم، فعهد به إلى الرسّام البارع والمشهور جدّا وقتها جيوفاني بيلليني.
في ذلك الوقت، كانت فينيسيا أغنى مدينة في العالم، وكان الرسم فيها مزدهرا كثيرا. كانت صناعة الرسم في هذه المدينة تضمّ رسّامين وباعة أصباغ وصانعي زجاج وناشري كتب وخبراء ديكور وصانعي أدوات خزفية وما إلى ذلك.
عندما أصبح تيشيان رسّاما يُشار إليه بالبنان، كان من بين تلاميذه جورجيوني. لكن عندما صار عمل التلميذ غير مختلف عن عمل أستاذه، قرّر جورجيوني انه لم يعد راغبا في أن يكون تلميذا لتيشيان واختطّ لنفسه طريقا آخر مختلفا.
لكن تيشيان لم يلبث أن تفوّق على معاصريه في مدرسة فينيسيا للرسم مثل تنتوريتو وفيرونيزي ولوتو. بل لقد تجاوز حتى القيود الثقافية والفنّية لعصر النهضة وأصبح معروفا باعتباره مؤسّس الرسم الحديث الذي هيمن هو عليه خلال حياته الطويلة. وقد عُرف على وجه الخصوص بابتكاريّته واستخدامه البارع للألوان.
وأجمل لوحات تيشيان مستوحاة من الأساطير التي كان يشبّهها بالشعر البصري. ولوحاته تلك تصوّر ضعف وهشاشة الإنسان بأسلوب يتّسم بالرقّة والغنائية.
في إحدى المرّات، وبناءً على تكليف من ماري ملكة المجرّ، رسم تيشيان مجموعة من أربع لوحات تصوّر شخصيات ملعونة في الأساطير: تيتيوس وسيزيف وتانتالوس وليكسيون. وجميع هؤلاء محكوم عليهم باللعنة وبالعذاب الأبديّ لإثارتهم غضب الآلهة.
ومثل ما فعل أسلافه الذين كانوا يرسمون على أواني الزهور، رسم تيشيان في إحدى هذه اللوحات "فوق" البطل الأسطوري سيزيف ببنية قويّة ومفعمة بالحياة، كما أظهره عَزوماً ثابت الخطى.
في اللوحة، كلّ جسد سيزيف منشغل ووجهه مشدود بفعل الثقل الذي يحمله. وهو لا يدفع بالصخرة لأعلى التلّ، وإنما يحملها فوق كتفه بحسب ما ذكره أوفيد في كتاب التحوّلات، وهو عمل أدبيّ كان مألوفا كثيرا لتيشيان، بل وربّما كان نموذجه الصوريّ.
سيزيف يبدو أنه كان شخصا حكيما، وربّما كان نموذجا للإنسان الذي ينافس الآلهة. تقول القصّة أن سيزيف، عندما حضره ملك الموت، قام بخداعه ثم أحكم وثاقه. ونتيجة لذلك، ولفترة من تاريخ الإنسانية، لم يكن احد من البشر يموت، إلى أن تدخّل زيوس كبير الإلهة وأعاد الأمور إلى نصابها.
الروح المتمرّدة وحبّ الحياة هما سمتان إنسانيّتان ضروريتان، وسيزيف كان يجسّدهما. ورغم كلّ الظلام والعدمية في العالم، فقد تخيّل تيشيان سيزيف وهو يقوم بمهمّته تلك إلى قمّة الجبل بعزيمة وثبات.
البير كامو، الكاتب والفيلسوف الفرنسيّ، اختصر القصّة في أن الصراع لبلوغ الأعالي يكفي لأن يملأ قلب الإنسان بالأمل وأن على المرء أن يتخيّل سيزيف وهو سعيد في مهمّته برغم كلّ المشاقّ والمعاناة التي تحمّلها.
أعمال تيشيان الأخيرة، والتي وصفها المؤرّخ جورجيو فاساري بأنها جميلة ومدهشة، نُفّذت بضربات فرشاة جريئة وبخطوط عريضة بحيث لا يمكن رؤيتها إلا من مسافة. وقد قال بعض النقّاد إن قصائده البصريّة تجسيد لعظمة ميكيل انجيلو ورافائيل، كما أنها تعبير عن الألوان الحقيقية للطبيعة.
بمعنى ما، كان تيشيان شمسا وسط أقمار صغيرة. وقد حرّر الرسم من التخطيط الأوّلي وكرّس ضربات الفرشاة باعتبارها أداة تعبير بحدّ ذاتها.
توفّي تيشيان أثناء انتشار وباء الطاعون في فينيسيا، وتوفّي معه في نفس تلك السنة ابنه وذراعه الأيمن اوراتسيو. والحقيقة أنه لم يترك وراءه أيّة رسائل أو مفاتيح تدلّ على حياته الخاصّة أو رؤيته الفنّية. ولوحاته التي يربو عددها على الخمس مائة تشهد على وفائه الأسطوري لمهنته.
نموّ تيشيان الفنّي رافقه حتى مماته، وأصبحت فرشاته في آخر عمره أكثر حرّية وأقلّ وصفية وأكثر تجريدا. "ها أنا أتعلّم أخيرا كيف أرسم".

❉ ❉ ❉

بترارك ودي نوفيس


ألّف فرانشيسكو بترارك، شاعر عصر النهضة الايطالي، عدّة قصائد عبارة عن تأمّلات حول طبيعة الحبّ. وقد كتبها من وحي علاقته العاطفية مع ملهمته لاورا دي نوفيس التي كان لها تأثير كبير على حياته وأشعاره.
في إحدى تلك القصائد، يتأمّل الشاعر في الحالة المحيّرة التي وضعه فيها حبّه لتلك المرأة. فهو في حبّه لها يشعر بأنه مسجون وفي نفس الوقت حرّ، وبأنه محترق بالنار وفي الوقت نفسه مغمور بالثلج. وفي قصيدة أخرى يصف حالة الجمال والصفاء في حبّه وأثر ذلك على السماء والطبيعة.
الموسيقيّ "فرانز ليست" قد تكون سوناتات "أو رباعيّات" بترارك حرّكت مشاعره، لذا ترجم بعضها موسيقيّا على البيانو بطريقة جميلة أمسك من خلالها بجوّ ومشاعر كلمات الشاعر. ومن أشهر ما ألّفه من وحي ديوان بترارك الرباعيّة رقم 104 . المعروف أن "ليست" قضى سنوات في ايطاليا، ألّف خلالها أيضا مقطوعات موسيقية أخرى من وحي بعض الأعمال التشكيلية التي رآها هناك مثل زواج العذراء لرافائيل وتمثال لورينزو دي ميديتشي لميكيل انجيلو وغيرهما.
المرأة التي ألهمت بترارك، أي لاورا دي نوفيس، كانت زوجة للكونت هيوز دي ساد الذي يُعتبر من أسلاف الماركيز دي ساد. غير أن المعلومات التاريخية المتوفّرة عنها قليلة. لكن معروف أنها ولدت في افينيون بفرنسا عام 1310 وكانت تكبر بترارك بستّ سنوات.
وقد رآها الشاعر للمرّة الأولى في إحدى الكنائس وذلك بعد زواجها بعامين، فوقع في حبّها من النظرة الأولى وأصبح مهجوسا بجمالها بقيّة حياته. وقضى السنوات التالية في فرنسا يغنّي لها حبّه الأفلاطوني ويتبع خطاها إلى الكنيسة وفي مشاويرها اليومية.
ديوان بترارك المسمّى كتاب الأغاني ألّفه في مديحها واتّبع فيه أسلوب الشعراء المتجوّلين أو التروبادور. ولم يتوقّف عن الكتابة عن لاورا بعد وفاتها، بل كتب عنها قصيدة دينية في رثائها.
دي نوفيس توفّيت عام 1348، أي بعد واحد وعشرين عاما من رؤية بترارك لها. كان عمرها آنذاك لا يتجاوز الثامنة والثلاثين. ولا يُعرف سبب وفاتها. لكن ربّما كان السبب إصابتها بالطاعون أو السلّ، بعد أن وضعت احد عشر طفلا.
وبعد وفاتها بعدّة سنوات عُثر على قبرها واكتُشف بداخله صندوق من الرصاص يحتوي على ميدالية منقوش عليها صورة امرأة وتحتها إحدى قصائد بترارك التي نظمها فيها.

❉ ❉ ❉

بورودين: قصّة حبّ مغولية


من سمات موسيقى المؤلّف الروسي الكسندر بورودين أنها تمتلئ بالأنغام التي يسهل تذكّرها وتعلق بالذهن بسهولة. من بين مقطوعاته الموسيقية المفضّلة لديّ هذه القطعة بعنوان "في سهوب آسيا الوسطى".
مفردة "السهوب" في العنوان تحيل تلقائيا إلى منغوليا وجنكيزخان والقبيلة الذهبية. والكلمة توازيها في المعنى كلمة "براري" في اللغة العربية.
هذه الموسيقى هي جزء من مسرحية بعنوان الأمير إيغور تتحدّث عن قصّة حبّ بين أمير روسيّ وإحدى نساء المغول.
الانطباع السائد لدى الكثيرين عن المغول هو أنهم قوم قساة متوحّشون ومتعطّشون للحروب وسفك الدماء. لكن المسرحية تقدّمهم بشكل مغاير، فهم في العموم لا يختلفون عن غيرهم من حيث المشاعر والعواطف الإنسانية.
وكلّ ما في هذه القطعة، من بناء وتوليف وأنغام، شرقيّ الطابع، وبالتحديد روسي. وقد وظّف فيها المؤلّف عددا من الأنغام الروسية. وهي تبدأ بعزف رقيق لآلتي الكمان والكلارينيت المفرد، ثمّ يتطوّر النغم شيئا فشيئا مع دخول الآلات الوترية.
وأنت تستمع إلى هذه الموسيقى ستتخيّل انك تشاهد قافلة تجارية وهي تقترب شيئا فشيئا. والموسيقى تعطيك هذا الانطباع بمرور موكب من الناس والحيوانات. وربّما مع شيء من التركيز قد تشعر بإحساس بالمشي وبوقع أقدام.
وأكثر ما يثير الانتباه في النغم الأوّل الذي يعزفه الكلارينيت هو كيف أنه يتطوّر ويتداخل مع العناصر الموسيقية الشرقية، وفي النهاية ينتهي بالفلوت والبيانو، ثم يتلاشى النغم، ويُخيّل للسامع انه يرى القافلة وهي تبتعد شيئا فشيئا إلى أن تتحوّل إلى نقطة صغيرة في الأفق البعيد.
إن أعجبتك هذه المقطوعة وأردت سماع شيء مختلف لبورودين أكثر رومانتيكية وقدرة على مخاطبة العواطف، فأظن أن لا شيء أجمل من معزوفته الليلية المشهورة "نوكتورن". توجد توزيعات كثيرة لهذه المعزوفة، لكن التوزيع الذي اعتبره الأفضل هو الموجود هنا ..

❉ ❉ ❉

فيلاسكيز: بورتريه اوليفاريز


هذا هو أشهر بورتريه فروسي رسمه دييغو فيلاسكيز عام 1634، ويصوّر فيه كونت اوليفاريز الذي كان وقتها أقوى رجل في مملكة اسبانيا؛ أقوى حتى من الملك نفسه.
وقد أراد فيلاسكيز التعبير عن كبرياء الرجل فرسمه فوق صهوة حصان، وهو شرف لا يناله غالبا سوى الملوك وزعماء الدول.
كان اوليفاريز مشهورا بحبّه للخيل. وهو يظهر هنا بقبّعة وعصا ودرع مزيّن بالذهب، بينما يجلس فوق حصانه هابطا من مكان عال، وشخصه يملأ كامل مساحة اللوحة.
الجواد الرائع الكستنائي اللون يميل برأسه في الاتجاه الآخر وينظر إلى أسفل اللوحة حيث تدور معركة ويرتفع دخان نار وذخيرة فوق السهل تحت.
اللوحة لا تصوّر معركة بعينها، بل تشير إلى المهارة العسكرية للرجل الذي كان يقود جيوش الملك من نصر إلى نصر.
الزاوية اليسرى إلى أسفل تظهر فيها ورقة بيضاء مثبّتة في حجر. لم يكن من عادة فيلاسكيز أن يوقّع لوحاته أو يسجّل عليها تواريخ. ورغم ذلك ترك هذه الورقة البيضاء في الصورة ولم يكتب عليها شيئا.
شغل اوليفاريز منصب الوزير الأوّل في اسبانيا بدءا من عام 1623. وطوال أكثر من عشرين عاما كان هو الحاكم المطلق للبلاد.
وقد انتهز توسّع حرب الثلاثين عاما كفرصة، ليس فقط لاستئناف الأعمال العدائية ضدّ الهولنديين، ولكن أيضا من اجل محاولة استعادة السيطرة الاسبانية على أوربّا بالتعاون مع أسرة هابسبيرغ.
وفي مرحلة تالية حاول اوليفاريز أن يفرض على الدولة نمط إدارة مركزيّا. لكن تلك الخطوة تسبّبت في اندلاع ثورة ضدّه في كاتالونيا والبرتغال أدّت في النهاية إلى سقوطه.
وأخيرا، إن كان سبق لك أن رأيت لوحة الفرنسي جاك لوي دافيد التي يصوّر فيها نابليون على ظهر حصانه فلا بدّ وأن تلاحظ الشبه الكبير بين تلك اللوحة وبين لوحة فيلاسكيز هذه. وأغلب الظن أن دافيد رسم نابليون بتلك الكيفية وفي ذهنه هذه اللوحة التي يبدو انه كان معجبا بها كثيرا.

Credits
titian-tizianovecellio.org
petrarch.petersadlon.com
diego-velazquez.org

الأربعاء، مارس 11، 2015

ألوان إل غريكو


رغم اسمه المستعار الذي يعني "الإغريقي"، فإن إل غريكو لم يكن يسمّي نفسه "اليوناني"، بل كان يوقّع لوحاته باسم "الكريتي" نسبة إلى جزيرة كريت حيث وُلد.
لوحات هذا الرسّام عندما يعاد استنساخها تموت. ولا يوجد رسّام آخر يمكنه أن يعيد إنتاج ذلك اللون البنفسجي الفانتازي أو الأزرق السماوي بمثل تلك الروعة والدقّة.
وإذا كان هناك من لا يزال يفضّل نكهة لوحات إل غريكو، فإن أفضل مكان لتذوّق صوره هو طليطلة؛ المدينة التي وصلت فيها موهبته الفنّية إلى أوجها.
وخيال إل غريكو يمكن مضاهاته بالطابع الفخم لمباني هذه المدينة. وفقط في طليطلة بإمكاننا أن نرى كيف أن مناظره الغيمية في السماء وعلى الأرض استفادت من الدراما المتحوّلة التي كانت تحدث في الجوّ فوق رأسه.
ورغم ذلك، فإن الرجل الذي قضى النصف الأوّل من حياته على ارض جزيرة كريت مسقط رأسه لم يستطع أبدا محو ذكرى ألوان الجزر اليونانية المشبعة بأشعّة الشمس. وهذه الألوان تتردّد كثيرا في أعماله كاللون الفيروزي لمياه بحر ايجه، واللون الأصفر البرّاق لأزهار المارغيتا التي تفترش حقول كريت في بدايات الصيف، واللون البنفسجيّ الساحر والهشّ لشقائق النعمان الذي حوّله إلى شال يغطّي الرأس الأحمر لمريم المجدلية في إحدى لوحاته المبكّرة والفخمة "فوق".
في طليطلة عاش إل غريكو حياة بسيطة واستطاع التكيّف بسرعة مع أجواء هذه المدينة التي شُيّدت في الأساس من امتزاج الثقافات الإسلامية واليهودية والمسيحية.
الموقع الجغرافيّ الدراماتيكي لطليطلة مكّن الرسّام من ابتكار حيل لا نهاية لها للتلاعب بالسماء والغيوم والطبيعة.
من ناحية أخرى، كانت كريت، اكبر الجزر اليونانية منذ العصر البرونزيّ على الأقل، عالما منعزلا ثقافيّا وسياسيّا. وفي القرن السادس عشر، كان معظم البرّ الكريتي واقعا تحت سيطرة الحكم العثماني. وفي زمن إل غريكو كانت كريت تُحكم من قبل حامية عسكرية كانت تشكّل عُشر عدد سكّان الجزيرة.
الرسّام الايطالي تيشيان ربّما كان النموذج المفضّل عند إل غريكو. غير أن تعامل غريكو مع الألوان الزيتية يعكس أيضا دراسته عن قرب لأسلوب تنتوريتو، الرسّام الايطالي الآخر المشهور بقطعه اللامعة من الطلاء والتي تحاكي منظر تساقط المطر.
ولا بدّ وأن فينيسيا كانت المكان الذي بدأ فيه إل غريكو جمع الكتب، ومعظمها كان باليونانية والايطالية. كان يمتلك مكتبة تحتوي على العديد من الكتب. ولم يكن يشتري الكتب للزينة أو التباهي، بل كان يقرؤها بعناية ويسجّل أفكاره الخاصّة في هوامشها. وقد اشترى، من ضمن ما اشترى، نسخة من كتاب جورجيو فاساري "تاريخ الفنّانين" وملأ هوامشه بملاحظاته وتعليقاته بالايطالية.
ويبدو أن إحساسه بالأبوّة كان العلامة الأكثر عمقا في حياته. فقد أسره منذ البداية جمال نساء طليطلة. وبعد عام من وصوله إليها، كانت إحداهنّ، واسمها هيرونيما ، قد حملت منه بطفل. لكن إل غريكو والمرأة لم يتزوّجا أبدا. ويبدو أنها توفّيت بعد وقت قصير من ولادة طفلهما.
هذا الطفل هو جورج مانويل الذي سيظهر في ما بعد على هيئة صبيّ أنيق وجميل الملامح في تحفة إل غريكو المسمّاة دفن كونت اورغاس .


في الرسم الاسباني كان من النادر أن ترى منظرا طبيعيّا. وهذه الندرة يمكن عزوها للتاريخ الإسبانيّ نفسه. فحركة الإصلاح الكنسيّ المضادّ في اسبانيا القرن السادس عشر كانت تتّخذ موقفا معارضا بشدّة من الأفكار الكلاسيكية والانسانوية.
والعقيدة الكاثوليكية ذات التفسير المتشدّد للدين كانت تنظر إلى موضوع الطبيعة البشرية، والطبيعة إجمالا، على انه منحطّ وفاسد. وأن تتأمّل جمال الطبيعة، معناه أنك تشغل نفسك بفعل من أفعال الزندقة والوثنية. ونتيجة لذلك، ظهرت أنواع عدّة من رسم الطبيعة.
لكن خلال النصف الثاني من القرن السادس عشر، أي عندما أتى إل غريكو ليعيش في اسبانيا، اكتسح تيّار صوفي وغنائيّ اسبانيا. وبدلا من رسم الأرض خضراء ومضيافة، بدأ الرسّامون يستخدمون الطبيعة كمكان للأحداث المقدّسة.
وفي مناظر إل غريكو الطبيعية يمكن أن نرى هذه العاطفة المشبوبة. فأسلوبه العصبيّ والصوفيّ والرؤيويّ في الرسم لا يعبّر فحسب عن المناخ الفكريّ والثقافيّ لعصره، وإنّما أصبح بعد قرون نموذجا للجيل التالي من الرسّامين الاسبان، بمن فيهم دي غويا وثولواغا وبيكاسو ودالي وخوان ميرو وغيرهم.
اسبانيا بدأت رحلة أفولها الطويل كقوّة عالمية مهيمنة ابتداءً من النصف الثاني من القرن السابع عشر. وخلال تلك الفترة من العزلة النسبية، ظلّت البُنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية القديمة على حالها، الأمر الذي عطّل عمليات تحديث البلاد. ومقاومة التغيير هذه أنتجت عادات وثقافة وفنّا متفرّدا ومختلفا عمّا كان موجودا في بقيّة البلدان الأوربّية.
المناظر الطبيعية الاسبانية أصبحت تجسّد العمود الفقري لهويّة البلاد. والكتّاب والفنّانون في أواخر القرن التاسع عشر رفعوا ذلك النوع من الرسم إلى مستويات من التقشّف والقوّة وأصبح مزيجا من الصور الأسطورية والتاريخية المستمدّة من الأحداث العظيمة من الماضي. وصار الرسم الاسباني للطبيعة يعبّر عن التاريخ الوطني، وأيضا عن الروح الفردية والجماعية.
رؤية إل غريكو كانت متجذّرة في تجاربه الشخصية وفي المناخ الديني لحركة الإصلاح المضادّ، أي عندما كانت البروتستانتية تشكّل تهديدا للكنيسة الكاثوليكية.
ولوحاته تبدو عاطفية مع تشوّهات مستطيلة واستخدام بارع للضوء والعتمة وإحساس قويّ بالحركة. في لوحته عن القدّيس يوحنّا ، وهي إحدى آخر لوحاته وأكثرها غموضا، يرسم شخصية هذا الناسك وهو يرفع يديه بالدعاء إلى السماء. وفي الخلفية تظهر سماء مضطربة وقطع من الحرير الأصفر والأخضر المنسدل وراء الأشخاص.
هذه اللوحة تصوّر حادثة من الإنجيل. والرسّام ضمّن رؤيته عن القصّة تشويها للأشكال وتحوّلات لنقاط الرؤية وضوءا مسرحيّا وطاقة روحانية ومظهرا ديناميكيا. وقد عمل على اللوحة لستّ سنوات وحتى وفاته في العام 1614م.
كانت تلك أصعب سنوات حياة إل غريكو. كان وقتها يعاني من الإفلاس المالي ومن أفول نجمه قبل الأوان. ولأنه كان بلا دخل ثابت أو موارد، فقد واجه غائلة الفقر والحاجة. ولا بدّ وأن الأمر تطلّب منه إيمانا لا يُصدّق كي ينجز هذه اللوحة الرؤيوية المتميّزة.
المعروف أن هذا العمل تعرّض للإهمال، وأحيانا للتخريب. وما نراه اليوم ليس سوى جزء بسيط من اللوحة الأصلية التي ضاع الجزء العلوي منها مع تغيّر الظروف وتقادم الزمن.

Credits
guggenheim.org
nybooks.com

الخميس، أغسطس 22، 2013

رينوار: الأعوام الأخيرة

"لا تضع على صدري حجرا ثقيلا. أريد أن اذهب لأتنزّه في الريف لبعض الوقت". كان هذا آخر ما طلبه الرسّام بيير أوغست رينوار من ابنه جان قبيل وفاته.
وعندما توفّي الفنّان في الثالث من ديسمبر عام 1919 نتيجة إصابته بالتهاب رئوي، كانت آخر كلمات قالها وهو يحدّق في لوحة صغيرة تصوّر باقة من شقائق النعمان كان قد انتهى للتوّ من رسمها: الآن بدأت افهم شيئا ما".
قبر رينوار يُميّزه شاهد بسيط من الرخام في مقبرة ايسوا. في هذا المكان، يرقد الرسّام وإلى جواره كلّ من زوجته ألين وأبنائه الثلاثة. القبور بسيطة كبساطة الحياة التي عاشها رينوار وكرّسها كليّا لفنّه ولتصوير السعادة.
وما يزال بالإمكان زيارة ورشته المتواضعة في الجزء الخلفيّ من حديقة منزل العائلة الذي تشغله الآن صوفي رينوار، إحدى حفيداته. المحترف فارغ إلا من كرسيّ وحامل لوحة كان رينوار يستخدمهما عندما أصبح معاقا. ويتفرّع عن الورشة عدّة مسارات كان الفنّان يسلكها، إمّا مشيا على الأقدام أو بالدرّاجة الهوائية، عندما يبحث عن موضوعات ليرسمها.

مناظر رينوار لا تخلو من صور لأطفال وأزهار ونساء يتحمّمن في غابات مضيئة أو أنهار من الفضّة. موهبته المبكّرة أهّلته لحياة مهنية طويلة كانت تتخلّلها فترات مرض، إذ كان يعاني من الروماتيزم الذي منعه من تحقيق ما كان يصبو إليه في نهايات حياته.
تصويره اللذيذ والغنّي بالألوان للرقصات والنزهات والأطفال المبتسمين والوجوه الكاملة والأجساد الممتلئة للنساء كانت تعكس قيم وأفكار الانطباعية في أزهى صورها.

"وصلت إلى طريق مسدود". هكذا اعترف رينوار في عام 1880. "لقد توصّلت أخيرا إلى قناعة بأنني لم اعد استطيع الرسم".
الأعوام العشرة الأخيرة من حياة رينوار لم تكن بلا متاعب. وعلى مدى تلك الفترة، حاول إيجاد اتجاه جديد لفنّه، ووجده أخيرا في المتاحف. تحوّل تدريجيا عن الرسم في الهواء الطلق والملاحظة المباشرة للواقع إلى رسم الموضوعات التقليدية والزخرفية. وعلى خطى ديلاكروا، سافر رينوار إلى الجزائر، ثمّ إلى إيطاليا حيث اكتشف جداريّات رافاييل وعمل على صورة للمؤلّف الموسيقي ريتشارد فاغنر.
ومن خلال مراقبته الدقيقة لأعمال الرسّامين العظام الأوائل، نجح أخيرا في التغلّب على شكوكه. وابتداءً من عام 1890 فصاعدا، تمتّع الرسّام مرّة أخرى بقدر كبير من الاعتراف على الساحة الدولية. وإلى جانب صديقيه مونيه وسيزان، أصبح رينوار مصدرا لإلهام الرسّامين الشباب مثل بيكاسو وبونار وماتيس وموريس دونيه وغيرهم.

وقد وجد في الأساطير اليونانية والمناظر الطبيعية لمقاطعة بروفانس وفي أعمال كبار الرسّامين من القرون السابقة، بما في ذلك تيشيان وروبنز وبوشيه، مصدر إلهام لرسم الأنثى العارية ومشاهد السعادة المنزلية.
وعلى الرغم من أن شهرة رينوار ارتبطت أكثر بفترته الانطباعية، إلا أن هذه الفترة من النضج الفنّي اتسمت هي أيضا بالحرّية الكبيرة في استخدام اللون والموضوع والأسلوب وأنتجت أعمالا ناضجة وجديرة باكتشافها ثانية. صديقه الشاعر غيوم أبولينير كتب قائلا: رينوار ينمو باستمرار. لوحاته الأخيرة هي الأكثر جمالا، بل والأكثر ابتكارا".
لوحته المستحمّات والتي أنجزها عام 1919، أي نفس العام الذي توفّي فيه، اعتبرها تتويجا حقيقيّا لانجازاته. في مقدّمة اللوحة تظهر امرأتان مستلقيتان في الهواء الطلق، بينما تعرضان مفاتنهما على الناظر. الألوان الدافئة تتداخل مع بقع الضوء. وفي الخلفية تظهر ثلاث نساء أخريات وهنّ يمرحن عاريات في الماء. الأشكال الكاملة لأجسادهنّ الضخمة، والطريقة التي يذُبْنَ فيها بانسجام في المنظر الطبيعي يشهدان على براعة رينوار التصويرية. احد النقّاد وصف اللوحة بقوله: انظر إلى الضوء على أشجار الزيتون، انه يبرق مثل الماس. الأزرق والورديّ وانبثاق السماء، الجبال التي هناك والتي تتغيّر مع الغيوم، إنها تشبه إحدى خلفيّات انطوان فاتو".

كان رينوار محاطا بالنساء حتى نهاية حياته. وكان يجد الإشباع المادّي والروحي على حدّ سواء عندما يكون في صحبتهن.
في سنّ الشيخوخة، عندما بدأت الآم التهاب المفاصل تُثقِل عليه، اقترح عليه بعضهم أن يتّخذ خدما من الرجال. لكنه رفض بعناد قائلا: لا أستطيع أن أتسامح مع أيّ شخص باستثناء النساء". كان في منزل رينوار جيش غير تقليديّ من الفتيات الشابّات العاملات اللاتي لازمنه طوال أكثر من ثلاثين عاما.
هذا العدد الكبير من النساء الجميلات من مربّيات وممرّضات وطبّاخات واللاتي وُظفنّ في الأساس لأداء أعمال منزلية، جلسن أو وقفن أمامه كي يرسمهنّ، وبعضهنّ عاريات أحيانا. وكنّ يفعلن هذا عن طيب خاطر وبشكل طبيعي. وعندما تحدّق في صورهنّ، لن ترى أثرا لأيّة أحقاد أو أفكار مزعجة تعكّر صفو وجوههن. كان رينوار يرسمهنّ وكأنهنّ فاكهة أو أزهار من جنّات عدن.

وموديلات رينوار لا يفكّرن. إذ يبدو انه كان مهتمّا أكثر بمادّية الجسد أكثر من الأفكار الميتافيزيقية. وعلى الرغم من انه اعترف بحبّه المتهوّر لشكل الأنثى وكان يفضّله مشعّا وفي كمال نضجه، إلا أن رينوار لم يكن بأيّ حال زير نساء. قال مرّة: اشعر بالأسف على الرجال الذين لا يكفّون عن ملاحقة النساء. هناك رسّامون لا يكملون لوحة واحدة أبدا، لأنهم ينشغلون بمحاولة إغواء موديلاتهنّ بدل رسمهنّ".
لكن هذا لم يكن حال رينوار. لم يكن أبدا شخصا فاجرا أو إباحيّا، وكان يتعامل مع موديلاته بالكثير من الاحترام ويشجّعهنّ على أن يقفن بحرّية دون أن يصرّ على أن يبقين جامدات أو ساكنات.
كان رينوار في الأربعين من عمره عندما أصبح مهجوسا برسم العارية. لوحة فرانسوا بوشيه بعنوان دايانا تخرج من حمّامها كانت اللوحة العارية الأولى التي بهرته واستمرّ يحبّها ويتذكّرها طيلة حياته، تماما كما يتذكّر الإنسان حبّه الأوّل.
كان بوشيه واحدا من أفضل الرسّامين الذين فهموا جسد المرأة. وقد اعتاد على أن يملأ لوحاته بصور لشابّات جميلات ويخصّص الخلفية لمنظر طبيعي مختصر. كان يقول: على المرء أن يشكّ في أن جسد امرأة لا يحتوي على عظام".

كلّ الخادمات في منزل رينوار كنّ يجسّدن مجموعة من السمات الجمالية الواضحة والمحدّدة المعالم: أكتاف منحسرة برقّة، أجساد ثقيلة، نهود صغيرة وصلبة، رؤوس صغيرة ومستديرة، عيون مضيئة وشفاه ممتلئة. ووراء هذه الوجوه المجهولة، غالبا ما يختفي وجه موديل مفضّلة هي غابرييل رونار ابنة عمّ السيّدة ألين رينوار زوجة الرسّام.
نشأت غابرييل أيضا في إيسوا وبدأت خدمتها عند أسرة رينوار عام 1894 عندما كانت في الرابعة عشرة وظلّت مع العائلة حتى عام 1914. كانت مكلّفة بالاهتمام بابن رينوار الأوسط جان، وظهرت في ما بعد في العديد من اللوحات التي رسمها لأطفاله.
ابن الرسّام البكر، بيير، ولد عام 1885 من مصفّفة الشعر الشابّة ألين شاريغو. وقد تزوّجها رينوار بعد ذلك بخمس سنوات، أي في عام 1890، وأنجبا طفلين آخرين هما جان وكلود. زوجته وأطفاله الثلاثة أسهموا جميعا في سعادته وكانوا مصدر إلهام له.
وعلى الرغم من حبّ الفنان لأفراد أسرته، إلا أن أحدا منهم لم يكن مسئولا عن الاهتمام به. كان هذا الدور محفوظا لـ غابرييل. كانت الفتاة الشابّة تلعب بهدوء دور المربّية والموديل. وكان يرسمها إمّا بملابس أو عارية تماما. كما ألهمته رسم مجموعة من لوحات المحظيات المستلقيات.

كان رينوار يستمتع بجعل غابرييل تبدو جميلة، وذلك بتزيينها بالقلادات وبما خفّ وشفّ من الثياب، كما في لوحته غابرييل مع حُليّ (1910)، أو بوضع وردة في شعرها كما في لوحة غابرييل مع زهرة (1911).
وبالنسبة له، كانت هذه السمات والإضافات ترمز لحميمية ودفء شخصية الأنثى. كانت غابرييل مسئولة عن السهر على راحة الرسّام العجوز. وكانت تجهّز له عدّة الرسم قبل أن تضع الفرشاة بين يديه الملفوفتين بالضماد. وابتداءً من عام 1900 فصاعدا، أي عندما استنزف التهاب المفاصل قواه، أصبح رينوار يفضّل البقاء أكثر فأكثر في جنوب فرنسا لأن الشمس القويّة كانت تساعد حالته الصحّية.
في تلك الفترة، أصبح يركّز على رؤية عالم مثاليّ قوامه جذور ثقافة البحر المتوسّط. كان يرى في الإغريق جنسا يستحقّ الإعجاب. حياتهم كانت سعيدة جدّا لدرجة أنهم كانوا يتخيّلون أن الآلهة تأتي إلى الأرض باحثةً عن الجنّة والحبّ. "نعم، كانت الأرض جنّة الآلهة. وهذا ما أريد أن ارسمه".

رينوار، المهجوس بفنّه إلى ما لا نهاية، كان يسعى إلى تجاوز الواقع. وعلى الرغم من إعاقته، إلا انه احتفظ بالسيطرة الكاملة على فنّه وأراد أن يقدّم عالما ينبض بالحياة. وكلّما أصبحت موديلاته اكبر سنّا، كلّما أصبح هو اضعف.
كان يُنتقد على رفضه الأعراف الأكاديمية وعلى إدارته ظهره للبؤس الاجتماعي الذي كان سائدا في نهاية القرن التاسع عشر. أعماله في سنوات عمره المتأخّرة، أي المناظر الطبيعية للبحر المتوسط أو المستحمّات، تميّزت بتفاؤلها وببهرجتها اللونية. ويمكن اعتبارها تكريما لابتهاج الفرنسيين وحبّهم للحياة.

لم يكن رينوار رسّاما شعبويا دائما. صحيح انه كان رائدا للانطباعية، غير أن تجربته الحداثية لم تكن تُقابل دائما باستجابة دافئة. وفي القرن العشرين، أصبح مؤرّخو ونقّاد الفنّ منحازين للفنّ الحديث الذي أدّى إلى ظهور الرسم التجريدي. وقد اعتبر العديد من هؤلاء لوحات رينوار التي رسمها في أواخر حياته، وبالأخص نساءه العاريات، موضة قديمة ولا تمتّ للفنّ الحديث بصلة.
والعديد من هذه اللوحات التي أنجزها في أعوامه الأخيرة تمّ إنزالها إلى غرف التخزين في المتاحف التي كانت تعرضها. في عام 1989، طرح متحف الفنّ الحديث في نيويورك لوحته عارية مستلقية للبيع. وقال أمين المتحف وهو يشير ضمنا إلى أيّ مدى انخفضت شهرة رينوار: هناك أناس كثيرون يرغبون في هذه اللوحة. لكنّها ببساطة لا تنتمي إلى قصّة الفنّ الحديث التي نحاول أن نرويها للناس".
الرسّامة الأمريكية ميري كاسات قالت ذات مرّة عن رينوار انه يرسم صورا لنساء حمراوات ضخمات وبرؤوس صغيرة جدّا. وهذا أكثر الأشياء فظاعة التي يمكن تخيّلها".
لكن في وقت لاحق رأى هنري ماتيس الصور نفسها وقال واصفا إيّاها: هذه هي أجمل الصور التي رُسمت لعاريات". وأضاف: ليس هناك قصّة أكثر نبلا ولا انجازات أكثر روعة من تلك التي لرينوار".

وهناك من النقّاد من يعتبر أن الوقت قد حان لإعادة النظر في تلك الأعمال ومحاولة فهمها وفقا لشروطها وليس بحسب تصنيفات وإملاءات النقّاد الحداثيين.
احد أولئك النقّاد اقترح ذات مرّة على من لا تعجبه لوحات رينوار التي رسمها في أخريات حياته حلا بسيطا: حاول أن تنظر إلى اللوحات بعيون ماتيس الذي كان صديقا حميما لرينوار. لكي ترى رينوار من خلال عيني ماتيس يعني أن تحبّ رينوار العجوز.
أوّلا: تعلّم أن تحبّ أشكاله الناعمة وخطوطه الرفيعة وسيتبيّن لك أن عالم رينوار هو عالم من القطن.
ثانيا: لكي تحبّ ألوان رينوار يجب أن تقبل الأحمر والورديّ باعتبارهما اللونين الرئيسيين في العالم، والأخضر والأزرق الشاحب كلونين أصليين وأوليّين.
ثالثا: لكي تفهم مناظر رينوار الطبيعية يجب أن تدرك انه عاش حياته محاصرا بسبب المرض. في مناظره الطبيعية، أنت إمّا في الداخل، أي في مسرح من الستائر والأزياء والكراسي المنجّدة، أو في الخارج، أي في عالم من مسارات الحصى والجدران الحجرية القديمة وأكداس أوراق الشجر.
رابعا: لكي تحبّ نساء رينوار عليك أن تنسى الجسد كما تعرفه من وسائل الإعلام اليوم وتستشعر جسدا يعتمد على الإحساس والقرب والعلاقة الحميمة.

في أواخر حياته، أراد رينوار إحياء التقاليد الفنّية والحساسيّة العاطفية للعصر الذهبيّ للثقافة الفرنسية في أواخر القرن السابع عشر وأوائل الثامن عشر كما تجسّده أعمال انطوان فاتو وفرانسوا بوشيه. وقد حاول إعادة التأكيد على دور الكلاسيكية الأوروبّية في التعبير الشخصي عن الجمال. وبعد أن تصالح رينوار مع مسألة موته الوشيك، استدعى الموضوعات الكلاسيكية في الرسم والتي تؤكّد على الشباب والمسائل الحسّية وعلى خصوبة الطبيعة وتقديس الحياة العائلية.
وابتداءً من عام 1890 وحتى وفاته، كان رينوار يرسم بتفانٍ لا يعرف الكلل أو الملل. وفي واحدة من أشهر ملاحظاته، أعلن في عام 1913 قائلا: لقد بدأت اعرف أخيرا كيف ارسم. استغرق الأمر منّي عمل أكثر من خمسين عاما كي أصل إلى هنا ومع ذلك لم أنتهِ بعد".

احتضن رينوار المسنّ الحياة بتفانٍ ومثابرة. وفي عام 1898، بدأ يعاني من التهاب المفاصل الروماتويدي ثم لم يلبث أن تعرّض لجلطة دماغية اضطرّته في النهاية إلى استخدام كرسيّ متحرّك. وقد اتبع أوامر طبيبه واستقرّ في جنوب فرنسا. في عام 1907، اشترى مزرعة مساحتها مائة فدّان في الكوت دازور. وهناك خلق لنفسه ولزوجته ولأبنائه الثلاثة ولعدد من المربّيات والخادمات عالما مثاليّا.
وبعد ذلك بعام، زار إيطاليا، حيث أعجب بتقاليد الرسم والتصميم التي تكرّست في الفنّ الإيطالي منذ عصر النهضة. وقد ترك رينوار وراءه تجاربه مع الضوء وغيره من عناصر تحوّل الطبيعة التي ميّزت الكثير من أعماله خلال سنوات الانطباعية وسعى لطلب التوجيه والإلهام من الماضي. ومن الآن فصاعدا، سيركّز على مواضيع الفنّ الكلاسيكي وعلى الرسم بضربات فرشاة سائلة.
احد الأمثلة التي تكشف عن رينوار الكلاسيكي هي لوحته بعنوان امرأة تعزف الغيتار . في مشهد يستحقّ أن يرسمه فاتو، يصوّر رينوار امرأة شابّة مستغرقة في عزف الغيتار. المكان ليس احد عوالم فاتو الأسطورية، بل صالونا معاصرا وضع رينوار عازفته فيه. الصالون لا يميّزه شيء باستثناء وجود المرأة والغيتار المرسوم بمهارة. رينوار يصوّر مشهدا من الانسجام والنشوة الإبداعية في مكان يمكن أن يكون في الشقّة المقابلة بمنزل في نهاية الشارع. وقد وظّف الفنّان في المشهد لمسة شاعرية وفرشاة معلّم قديم.

في لوحة غابرييل وجان، يوازن رينوار بين سلسلة من العناصر بطريقة بارعة. شعر غابرييل الفاحم يتباين مع الشعر الأشقر المجعّد للصغير. إذا كانت غابرييل مسليّة لابنه الصغير، فإن علاقتها مع رينوار تثير بعض القضايا المحيّرة.
منزل رينوار كان سعيدا وشاعريّا تقريبا، في كثير من النواحي. ولكنه كان يتسم بالثبات. جان رينوار ابن الرسّام كتب في مذكّراته أن والده الذي كان يحبّه كثيرا كان يصرّ على أن لا يقصّ شعره إلى أن يذهب إلى المدرسة، ما جعل ابنه نموذجا مثاليا للوحات التي تصوّر فتيات صغيرات يلعبن ويلهين ويمارسن الخياطة.
كلّ أبناء رينوار الثلاثة كان عليهم أن يتحمّلوا كونهم نماذج لوالدهم الذي كان يحاول بعناد إطالة فترة طفولتهم بينما كان هو يتشبّث بالحياة وسط معاناته الشديدة مع المرض. وقد احتفظ بنفوذه العاطفي على غابرييل أيضا، وكانت تلك الخطوة لا تخلو من انعكاسات مزعجة.
في اثنتين من صور غابرييل، يرسمها رينوار من الجذع ومن الكتفين. وكلا اللوحتين تتوافقان مع التقاليد الكلاسيكية عن العارية في الفنّ الأوروبّي. يمكن للمرء أن يطلق بعض التكهّنات السيكولوجية حول علاقة رينوار مع زوجته ألين التي كانت موديله في عام 1880، ولا سيّما في لوحته العظيمة غداء في رحلة بالقارب (1881)، وكذلك حول علاقته مع غابرييل. ولكن ليس هناك أيّة علامة عن أي توتّر في الوضع الداخلي لمنزل رينوار قد يكون ناجما عن اختياره لموديله الجديدة أو طريقته في رسمها.

غير أن ما يبعث على القلق بشأن صور غابرييل هو أنها تبدو وكأن فردانيّتها قد استُنزفت على نحو متزايد. هناك تغيير ضئيل في وجهها وعلامات بسيطة عن آثار العمر أو النموّ الداخلي بعد عام 1894. حيوية وسمات الشخصية الفريدة كما تتضح في صورتها مع جان منعدمة في بورتريهاتها العارية وفي اللوحات الأخرى التي رسمها لها رينوار في وقت لاحق. وفي الواقع، فإن العنوان الذي اختاره للوحته الحسناء الصقلّية ، والتي تظهر فيها غابرييل أيضا، يوحي بأن رينوار كان يرسم امرأة قديمة من البحر المتوسّط وليس فردا من أفراد أسرته أو شخصا له عقل وروح وشخصيّة خاصّة.
لم يكن رينوار بالتأكيد لِيَدَع الأفكار العميقة في النفس البشرية تؤثّر على عمله. في عام 1908، شاطر بعض تأمّلاته في الفنّ مع رسّام أميركي. وهذه التأمّلات تستحقّ أن تُدرس وتُمحّص نظرا للرؤية الكاشفة التي تتضمّنها.
يقول رينوار: أرتّب موضوعي كما أريد، ثم اذهب وأرسمه مثل طفل. أريد أن يكون الأحمر رنّانا ليبدو وكأنّه جرس. وإذا لم يتحوّل بهذه الطريقة، أقوم بإضافة المزيد من الألوان الحمراء أو أيّة ألوان أخرى إلى أن أتمكّن من الحصول عليه. ليس لديّ قواعد وأساليب خاصّة. وأيّ شخص ينظر إلى موادّي أو يشاهد كيف ارسم سيرى أنني لا احتفظ بأيّة أسرار. أنظر إلى امرأة عارية، ويكون هناك عدد كبير من الصبغات الصغيرة. لكن لا بدّ لي من العثور على اللون الذي يجعل الجسد يحيا ويرتعش على قماش الرسم".
هذه المشاعر هي تعبير واضح عن حرص رينوار على حرفته. ومن الصعب رفض هذه الملاحظات ما دام أن الفنّان يتعامل مع موضوعه بإنصاف. لكن عندما يُجرّد الشخص المرسوم من أيّة شرارة فردية، عندها يصبح العمل الفنّي هامدا ومستنزفا وخاليا من أيّ معنى. وبعض النقّاد خلصوا إلى استنتاج مفاده أن موقف رينوار الأبوي تجاه النساء منعه من التعامل معهنّ بوصفهنّ أفرادا من لحم ودم.

من بين أعمال رينوار التي لا يعرفها الكثيرون وليست مشهورة تلك البورتريهات التي رسمها لعدّة نساء بارزات في المشهد الثقافي في بدايات القرن الماضي. ومن بين هؤلاء عازفة البيانو المشهورة ميسيا سيرت، والشاعرة أليس فاليري ميرزباك التي رسمها عام 1913. البورتريه الأخير يصوّر امرأة ذكيّة ومنعّمة مع لمسة من غرور الانتيليجنسيا الفرنسية. في البداية لم يكن رينوار مهتمّا برسم ميرزباك لأنه لم يكن يعرفها كما لم يكن بحاجة إلى المال. لكن فاليري عادت إليه بعد أن ارتدت فستانا جميلا من الساتان الأبيض. وعندما رآها رينوار في الفستان قرّر أن يرسمها. ومن الواضح انه كان مستغرقا في رسم جمال اللباس بينما اكتفى برسم وجه المرأة وملامحها على عجل. ميرزباك ليست بالضبط من تلك النوعية من الأشخاص الذين كان رينوار يبحث عنهم ليرسمهم، ومع ذلك فإنه أعطاها تقريبا المعاملة الفنّية التي تستحقّها.
لوحات رينوار لأمّه ولزوجته ألين ولبعض العاريات وكذلك للمناظر الطبيعية، توفّر جميعها نظرات قريبة من حياة الفنان الداخلية. وعلى الرغم من أنها ليست من بين أفضل أعماله، إلا أن هذه الرسومات تصوّر عالما عاطفيا مملوءا بسكّان أو أشخاص يتمتّعون بجاذبية عظيمة بالنسبة لرجل جاهد وناضل كثيرا لتحقيق النجاح.

أحلام رينوار قد تبدو مروّضة إلى حدّ كبير. بول غوغان واماديو موديلياني، اللذان لا يمكن وصف موقفيهما من المرأة بأنه متحرّر، خلقا هما أيضا عوالم شخصيّة من الجمال الحسّي. لكن الطبيعة "الأركادية" التي تقف فيها عاريات رينوار وتأمّلاتهن الحالمة تخلقان حالة مصطنعة من البراءة المنوّمة.
احد النقّاد كتب يقول: من خلال التعتيم على العلاقة الحقيقية بين الناس والطبقات والجنسين، أعطى رينوار شكلا فانتازيا لفترة نهاية القرن ما يزال رائجا إلى اليوم. كما أن هروب رينوار من الواقع أنتج رؤيا مثالية وأسطورية عن النساء صالحة لكل زمان ومكان".
كان رينوار يستمتع بالموسيقى وكان لديه صوت جميل عندما كان شابّا. وقد اجتذب غناؤه انتباه مدير جوقة الكنيسة شارل غونو ، الذي أصبح فيما بعد موسيقيا مشهورا بعد أن ألّف لحن أوبرا فاوست. وعندما أصبح الرسّام عجوزا ومقيّدا بكرسيّ متحرّك، اُخذ لرؤية الباليه الروسيّ الذي كان عنصرا مثيرا في باريس آنذاك. وقد سُرّ بتلك التجربة كثيرا.

الطبيعة السعيدة لأعمال رينوار المتأخّرة لا تُظهر العذاب الذي كان يعانيه بسبب التهاب المفاصل الذي تسبّب في شلّ يديه تماما في النهاية. في عام 1915، فقد الفنّان زوجته. وبعد ذلك بأربع سنوات، أي في ديسمبر عام 1919، توفّي هو. وخلال زيارته الأخيرة إلى باريس قبيل وفاته، دُعي إلى اللوفر كزائر منفرد، واُخذ من غرفة لأخرى وهو في كرسيّه. وقد شعر بالسرور عندما رأى لوحته الكبيرة مدام شاربونتييه وطفلاها معروضة هناك. وأحسّ بالرضا وهو يرى فنّه يُكرّم في حياته.
كان رينوار قد التقى جورج شاربونتييه في عام 1875، عندما اشترى الأخير واحدة من لوحاته. كان شاربونتييه يعمل في مجال النشر وكانت زوجته سيّدة مجتمع بارزة ولها صالون يزوره الكثير من مشاهير ذلك العصر مثل فيكتور هوغو وفلوبير وكليمنصو ومانيه وديغا وغيرهم.
اختيار مدام شاربونتييه رينوار كي يرسم لها هذه اللوحة الضخمة كان بمثابة نجاح له. وقد تلقّى إشادة كبيرة عندما انتهى من رسمها وكُلّف برسم بورتريه آخر مشابه.
كان رينوار احد أكثر الرسّامين إنتاجا، وخاصّة في العقدين الأخيرين من حياته. كما كان حتّى وفاته نجما عالميّا وربّ عائلة شغوفا بزوجته وأبنائه ورسّاما طليعيّا في حالة انسحاب من العالم الحديث. وربّما يكون هو الرسّام الفرنسيّ الأكثر شعبية بسبب موضوعاته. لوحاته الدافئة والحسّية تعطي انطباعا عن إنسان متفائل كان على علاقة طيّبة مع العالم، وهو عالم لم يكن يرى فيه سوى كلّ شيء خيّر وجميل.

الأربعاء، مايو 29، 2013

قابيل وهابيل

تُصوّر هذه اللوحة المصير البائس الذي انتهى إليه قابيل، الابن الأكبر لآدم وحوّاء، والذي بعد أن قتل شقيقه الأصغر هابيل، حُكم عليه بالتيه الدائم.
قابيل المنهك والسائر على غير هُدى يظهر في أقصى يمين الصورة وهو يقود قبيلته عبر الصحراء استباقا لغضب الربّ. وعلى محفّة خشبيّة يحملها أبناؤه، تجلس امرأة حائرة مع طفليها النائمين. بينما تظهر حيوانات وقطع من لحم نازف وهي معلقّة على طرف المحفّة.
الرجال الآخرون، وبينهم صيّادون، يمشون جنبا إلى جنب. الخوف من غضب الربّ مرتسم على الوجوه. أحد الأشخاص يحمل بين ذراعيه امرأة شابّة يبدو على ملامحها الإنهاك والمرض، بينما تظهر بعض الكلاب الضالّة في الخلف.
الرسّام الفرنسي فرناند كورمون جعل الظلال طويلة كما لو أن ضوء الحقيقة يلاحق المذنب في هذا السهل المجدب والكئيب. وقد استخدم الألوان الترابيّة وضربات الفرشاة القويّة كي يضيف توتّرا إلى الصورة. كما انه ركّز على دقّة التشريح بأن جلب إلى محترفه أشخاصا حقيقيين لتمثيل كلّ شخصيّة.
هذه اللوحة تمثل إعادة بناء انثروبولوجية للقصّة المشهورة التي وردت في العديد من الكتب السماوية. كما أنها تقدّم ميدانا جديدا، أي عصور ما قبل التاريخ، وبالتحديد الوقت الذي بدأ فيه الإنسان بالرسم على الصخور في العصر الحجريّ القديم.
وفي غياب أيّة وثائق أو أسانيد مؤكّدة، خمّن الرسّام طبيعة الحياة في تلك الأزمنة البعيدة، عندما كان البشر البدائيّون يكافحون من أجل البقاء ويتنقّلون بأقدام حافية وشعر مجعّد وجلد خشن. وقد اختار الرسّام عنوانا فرعيّا للوحة اقتبسه من استهلال قصيدة لـ فيكتور هوغو بعنوان "الضمير" يقول فيه: عندما فرّ قابيل من غضب ربّه أشعث الشعر مغبرّا كان يصحبه أبناؤه. كانوا يرتدون جلود الحيوانات وتتقاذفهم العواصف. وعندما تلاشى الضوء، وصل الرجل الكالح إلى سفح جبل في سهل واسع".
تقول القصّة إن قابيل، بعد ارتكابه جريمة قتل شقيقه، رحل وهو وزوجته عن منزل والديه ليعيشا في مكان بعيد. وقد أنجبا في ذلك المكان أطفالا. ثمّ أسّس أبناؤه في ما بعد مدينة أطلق عليها قابيل هانوك أو إدريس، على اسم طفله الأوّل.

❉ ❉ ❉

حملت حوّاء من آدم بطفلهما الأوّل وأسمياه قابيل. وبعد فترة أنجبت طفلا ثانيا أسمياه هابيل. وفي ما بعد أصبح هابيل راعيا للغنم، بينما كان قابيل يعكف على استزراع الأرض. تقول القصّة إن قابيل قدّم بعضا من نتاج الأرض التي كان يزرعها قربانا للربّ، بينما قدّم هابيل قربانا بعضا من أبكار غنمه. وقد تقبّل الربّ قربان هابيل، لكنّه لم يتقبّل قربان قابيل. لذا غضب الأخير وأحسّ بالنبذ. وذات يوم دعا قابيل شقيقه كي يذهبا معا إلى الحقل بعد أن أسرّ في نفسه أمرا. وهناك هاجم قابيل هابيل وقتله.
محور هذه القصّة هو الأنانيّة المتأصّلة عند قابيل وعدوانيّته وغيرته الشديدة. الرواية القرآنية عن القصّة تماثل تلك التي وردت في التوراة، وهي توحي بأن دافع قابيل لارتكاب الجريمة كان رفض الربّ أن يتقبّل منه قربانه.

❉ ❉ ❉

قصّة قابيل وهابيل تتضمّن طبقات متعدّدة من المعاني. فالقصّة تقول لنا أن الله يفضّل قرابين اللحم على قرابين الخبز والفاكهة. كما أنها توضّح تفوّق ثقافة الرعي والترحال على ثقافة الزراعة والاستقرار. وهذه الفكرة تتكرّر في قصص العهد القديم، حيث يثور الأنبياء ضدّ شرور أهل المدن، بينما يمتدحون الرعي والعيش في الأرياف. وهناك في العالم المعاصر اليوم من لا يزالون يفضّلون الحياة في البوادي والقرى باعتبارها أكثر طهرانية ونقاءً.
لكن القصّة تتضمّن مجموعة أخرى من الأفكار التي أسهمت في تغيير تاريخ البشر وفي تحوّل الوعي الإنساني. تذكر القصّة، مثلا، أن الله وضع وصمة على قابيل بعد ارتكابه للجريمة وذلك بأن جعل بشرته سوداء وشعره مجعّدا. والغريب أن انتشار الرقّ في القرنين الماضيين في أمريكا وفي غيرها من مناطق العالم كان يُبرّر دائما بأن الأفارقة ينحدرون من سلالة قابيل، ولذا حلّت عليهم تلك اللعنة وأصبح قدرهم أن يعيشوا مستعبدين في الحياة.
وليس البيض وحدهم هم من يؤمنون بهذا الشيء، بل إن رجال الدين السود يشاطرونهم هذا الرأي أيضا ويعتقدون بأن الحال ستظلّ هكذا إلى أن يعود المسيح إلى الأرض ثانية فيرفع عنهم تلك اللعنة بعد أن يتأكّد من أنهم أصبحوا أتقياء صالحين!

بعد طرد آدم وحوّاء من جنّات عدن، اشتغلت ذرّيتهما في الأعمال البدائيّة البسيطة. إبناهما، أي قابيل وهابيل، يوصفان كأوّل مزارع وراعٍ في سلالة البشر. غير أن الاثنين مارسا أيضا شيئا لم يعرفه أبواهما في الجنّة، أي الدين.
وعلى الرغم من أن القصّة لا توحي أبدا بأن الربّ طلب منهما هذا الأمر، إلا أن الاثنين قدّما إلى الله قرابين دينيّة على هيئة جزء من غلّتهما. وعلى ما يبدو، كان الله مستاءً من قابيل لأنه قدّم قربانا من الحبوب والفاكهة، في حين انه كان يفضّل أضحية من دم كتلك التي قدّمها هابيل. هذا على الأقل ما افترضه قابيل وهابيل. يمكننا فقط أن نخلص إلى أن هابيل أصاب ثروة أفضل من تلك التي جمعها قابيل، وهذا ما انتهى إليه فهمهما.
وأيّا ما كان الأمر، فقد شعر قابيل بالغيرة من هابيل وقام بقتله. وكانت تلك أوّل جريمة قتل تُرتكب في تاريخ البشرية وأوّل حادثة عنف دينيّ.
طوال فترة مكوثهما في الجنّة، لم يقدّم آدم وحوّاء أيّ قربان لله. لكن لم يمض وقت طويل حتى قرّر ابناهما أن تلك هي الطريقة المثلى لنيل رضا الخالق. وما أن بدءا هذه الممارسة حتى انكشف شرّها المتأصّل بطريقة مأساويّة.
يذهب بعض مؤرّخي الأديان إلى انه من الصعب أن نتصوّر أن الله يمكن أن يروّج لمثل هذه العادة المشكوك فيها. وحتى الآن، ما يزال جزء كبير من اللاهوت المسيحيّ الغربيّ يرتكز على فكرة أن الله يطلب الاضحيات والقرابين لكي يتمّ استرضاؤه وتجنّب غضبه. لكن هناك من الأنبياء من قالوا صراحة بخلاف ذلك، أي أن الله ليس مهتمّا بقرابين البشر، وأن كلّ ما يطلبه منهم هو أن يعملوا بعدل ومحبّة ورحمة.

❉ ❉ ❉

ترى كيف كانت طبيعة العالم الذي وجده آدم وحوّاء بعد طردهما من الجنّة؟ هل كان هناك بشر بدائيّون يعيشون خارج عدن؟ ومَن كان الطغاة العمالقة الذين تذكر بعض المصادر الدينية أنهم كانوا يعيشون على الأرض ويعيثون فيها الخراب إلى أن انقرضوا قبيل حادثة الطوفان؟ هل الله هو الذي خلقهم أم أنهم كانوا تمظهرات وتحوّلات للشيطان؟ ومن كانت زوجتا قابيل وهابيل؟
الكتب المقدّسة لا تتطرّق إلى مثل هذه الأمور. لكن يمكننا أن نفترض أن العالم خارج عدن لم يكن عالما مثاليّا. ومع ذلك كان هناك شكل من أشكال الحضارة الإنسانيّة، بل وربّما أنواع أخرى من البشر شبيهة بالإنسان. وكانت هناك مزروعات وقطعان من الحيوانات المفترسة والمستأنسة تتعايش مع الإنسان في أجواء من الصراع والخطر والموت.

❉ ❉ ❉

في الفنّ المسيحيّ الذي يعود إلى القرون الوسطى، ولا سيّما فنّ القرن السادس عشر، كان قابيل يُرسم بشكل نمطيّ على هيئة يهوديّ ملتحٍ وذي شعر أشعث. وهو يقتل هابيل الذي يظهر بملامح أوربّية وشعر أشقر ويرمز للمسيح.
وقد استمرّ هذا التصوير التقليدي لعدّة قرون. وأقرب مثال عليه هو لوحة جيمس تيسو بعنوان قابيل يقود هابيل إلى الموت والمرسومة في القرن التاسع عشر. لكن في ما بعد أصبح قابيل يُصوّر كأب للمجموعات السرّية وعصابات الجريمة المنظّمة.
وكثيرا ما شكلّت قصّة قابيل وهابيل موضوعا للأعمال الدرامية المأساوية. كان قابيل يُصوّر غالبا بشعر احمر ولحية ملوّنة، كما في مسرحيّة شكسبير "سيّدات وندسور المرحات". شكسبير أيضا يذكر قابيل وهابيل على لسان كلوديوس في مسرحيّة هاملت. كما يرد ذكر الاثنين في مسرحية "بانتظار غودو" لـ سامويل بيكيت.
وفي روايته شرقي عدن ، يستدعي جون شتاينبك قصّة قابيل وهابيل ليسقطها على وقائع هجرة الأوربّيين إلى كاليفورنيا في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
اللورد بايرون أعاد كتابة القصّة في قصيدة له بعنوان "قابيل". وهو ينظر إلى قابيل كرمز للمزاج الدمويّ الذي أثاره نفاق هابيل وتظاهره الزائف بالتقوى. وفي الكوميديا الإلهية، يواجه قابيل العقوبة التي فرضها الله عليه لارتكابه خطيئة الحسد بعبارته المشهورة: سأصبح مطاردا وهائما على وجهي في الأرض، ومن يجدني سيقتلني".
وفي أعمال أدبيّة أخرى، أصبح اسم قابيل مرادفا للعنة المتوارثة. فالوحش في قصّة بيوولف ينحدر من سلالة قابيل. غير أن بودلير كان الكاتب الأكثر تعاطفا مع قابيل في قصيدته "هابيل وقابيل" من مجموعة أزهار الشرّ ، حيث يصوّر قابيل كممثّل لكلّ الشعوب المضطهدة في العالم.
في الرسم، كانت قصّة قابيل وهابيل احد المواضيع المفضّلة للفنّانين منذ القدم. ومن أشهر من رسمها كلّ من تيشيان وغوستاف دوري وتينتوريتو وروبنز ووليام بليك وغيرهم.
بعض من كتبوا عن قابيل وهابيل في ما بعد حلّلوا قصّتهما من منظور معاصر مع بعد دياليكتيكيّ، فأشاروا إلى أن الموت العنيف لهابيل كان نتيجة لحالة من حالات الصراع الطبقيّ المبكّرة، وأن العنف هو نتيجة حتميّة طالما أن المجتمع يصنّف الناس على أساس الثروة والسلطة، بدلا من توحيدهم على أساس التعاطف المتبادل والأخوّة الإنسانيّة.

Credits
en.wikipedia.org

الاثنين، فبراير 13، 2012

دَفن كونت اورغاس

إسبانيا، طليطلة، والأطراف المستطيلة والألوان النابضة بالحياة. هذه هي الكلمات التي تقفز إلى الذهن عندما يُذكر اسم إل غريكو، احد أعظم الرسّامين في التاريخ.
أصله من جزيرة كريت باليونان. وقد بدأ مسيرته كرسّام باسمه الأصلي دومينيكو ثيوتوكوبولوس. عمل في البداية كرسّام للأيقونات. لكن الأيقونات مسطّحة ولا حياة فيها. كما أنها قديمة الطراز. لذا قرّر دومينيكو أن يتعلّم فنّ الرسم الواقعي. وبحكم كونه مواطنا من فينيسيا، التي كانت تحتلّ كريت في ذلك الوقت، فقد اختار أن يسافر إلى فينيسيا. وفيها تعلّم كل ما استطاع أن يتعلّمه من الرسّامين الكبار مثل تيشيان وتينتوريتو وغيرهما. كما أتقن الأسلوب الفنّي الجديد المسمّى الماناريزم أو الأناقة المتكلّفة.
وبعد قضائه بعض الوقت في فينيسيا وروما، ذهب دومينيكو إلى إسبانيا. وهناك منحه المعجبون به اسمه الذي سيشتهر به في ما بعد: إل غريكو، الذي يعني "الإغريقي". ومع ذلك، ظلّ طوال حياته يوقّع لوحاته باسمه الحقيقي مكتوبا بأحرف يونانية، ما يدلّ على أنه كان شخصا شديد الاعتزاز بتراثه.
تحفة إل غريكو الكبرى هي لوحته دفن كونت اورغاس. وهي ليست أفضل أعماله فحسب، وإنما يمكن اعتبارها أيضا أحد أفضل الأعمال الفنّية في العالم.
اللوحة تصوّر حادثة وفاة ودفن والي بلدة اورغاس الذي تذكر أسطورة من القرن الرابع عشر انه عندما مات حضر دفنه قدّيسان نزلا من السماء، تكريما له على عطاياه السخيّة للكنيسة. ويظهر القدّيسان في اللوحة وهما يرتديان الملابس المطرّزة بينما يعتمر احدهما تاج البابوية، وسط دهشة وانبهار المشيّعين.
رسم إل غريكو اللوحة عام 1586 بتكليف من احد الكرادلة كي تُعلّق على جدار كنيسة سانتو توم في طليطلة. الشكل غير المألوف للوحة "أي رأسها المستدير" يعود إلى حقيقة أنها رُسمت لتناسب جدارا بهذا الشكل في الكنيسة.
في اللوحة يرسم الفنّان روح كونت اورغاس على هيئة طفل وهي تصعد إلى السماء بمساعدة ملاك، بينما يتمّ إنزال جسده المادّي في نعش. وقد قسم الرسّام المنظر إلى جزأين: جزء علوي تظهر فيه العذراء وابنها وحشد من الملائكة، بينما ملأ الجزء السفلي بالنبلاء والوجهاء الذين يتابعون مراسم الدفن التي تجري أمامهم.
الطريقة التي وزّع فيها الرسّام الأشخاص في هذه اللوحة مثيرة للانتباه. في أسفل الزاوية اليسرى نرى صبيّا صغيرا يشير إلى كُمّ احد القدّيسين. هذا الطفل هو ابن إل غريكو، جورج مانويل. وفي جيب سترته يظهر منديل نُقش عليه توقيع الفنّان وتاريخ 1578، أي عام ولادة الصبي.
الشخص الوحيد في اللوحة الذي ينظر باتجاه المتلقّي "أي السابع من اليسار" هو إل غريكو نفسه. ووجهه يظهر مباشرة فوق اليد الممدودة التي تعلو رأس احد القدّيسين.

ليس من الواضح ما إذا كان إل غريكو قد شهد فعلا مثل هذه الجنازة، أو انه فقط رسم المشهد من الذاكرة. تقسيم اللوحة إلى جزأين، سماوي وأرضي، يبدو اقرب ما يكون إلى الفانتازيا. ومن الواضح أن الفنّان أضفى على ملامح شخوصه مسحة محلية تؤكّدها قسَمات الوجوه التي تبدو اسبانية جدّا. العنصر الوحيد الواضح الذي يربط جزأي اللوحة معا هو الشبه المادّي. فالقدّيسان والبشر يحملون نفس السمات تقريبا.
اللوحة أيضا تتضمّن بورتريها لـ فيليب الثاني ملك اسبانيا الذي يظهر بين القدّيسين. إمبراطورية فيليب في ذلك الوقت كانت أكبر امبراطورية في أوربّا. كانت تضمّ أراضي هولندا ونابولي وجنوب ايطاليا ومستعمرات في جنوب أمريكا. اسبانيا آنذاك ينطبق عليها وصف الامبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس.
كان فيليب يعيش حياته منفصلا عن رعيّته. تقاليد القصر التي ورثها عن أبيه كانت تفرض عليه أن يحتفظ بمسافة تفصله عن الشعب. فقط نخبة صغيرة كان مسموحا لها بأن تأتي إلى القصر وتقابل الملك. وأيّ شخص يأتي ليقابله أو يطلب منه شيئا كان عليه أن يفعل ذلك وهو جاثٍ على ركبتيه.
التغيير الوحيد الذي أحدثه فيليب ولم يكن معمولا به زمن والده هو أن الرهبان لم يعودوا ملزمين بالانحناء أمامه. لقد منح سفراء مملكة السماء الذين كان يعيّنهم بنفسه مكانة أعلى بكثير من المسئولين عن الشئون الدنيوية.
وكانت لدى الملك وتحت تصرّفه أداة قويّة تتمثّل بمحاكم التفتيش التي كانت تخدم مصلحة الدولة باضطهادها كلّ من لم يكن يعتنق الكاثوليكية.
لأكثر من سبعمائة عام، بسط العرب سيطرتهم على كامل جزيرة ايبيريا قبل أن يُهزموا عام 1492م. فقط العائلات التي تحوّلت من الإسلام إلى المسيحية سُمح لها بالبقاء في اسبانيا. ورغم أن مئات ألوف المسلمين واليهود كانوا قد غادروا البلاد، إلا أن فيليب كان ما يزال يرى أن اسبانيا الكاثوليكية تواجه تهديدين: الكفّار الذين كانوا يجاملون المسيح ظاهريا، والزنادقة الذين كانوا يخطّطون للتمرّد على حكمه.
محاكم التفتيش كانت عبارة عن شرطة سرّية تدافع عن الوضع القائم وتحوّل إلى الدولة ثروات وممتلكات أولئك الذين يعارضونها. الاضطهاد العرقي والديني كان احد العوامل الرئيسية التي أدّت إلى انهيار الإمبراطورية الاسبانية.
كان اليهود متخصّصين في المال والتجارة الخارجية. أفضل أطبّاء البلاد كانوا من اليهود. وكانوا يمثّلون نخبة أساتذة الجامعات.
من جهتهم، كان المسلمون قد زرعوا مناطق شاسعة من البلاد. ونجاح الزراعة كان يعتمد على نظم الريّ التي أتوا بها إلى اسبانيا. وبعد مغادرة هؤلاء أصبحت المزارع قاحلة وأفرغت القرى من سكّانها وانهارت مؤسّسات التجارة.
بالنسبة لـ فيليب ورجال الدين، فإن عظمة اسبانيا كانت اقلّ أهمّية بكثير من الدفاع عن الدين.
ويبدو أن التعصّب الديني وغير العقلاني للملك كان العامل الأساس الذي اكسبه مكانا بين قدّيسي السماء في لوحة إل غريكو.

شكل اللوحة الكبير وتأثيرها الصوري الأخّاذ يتناسبان مع دعاية الإصلاح الكاثوليكي المضادّ. البروتستانت كانوا يطمحون إلى تطهير جميع الكنائس من الزخارف والصور. والكاثوليك كانوا يرون خلاف ذلك. كانت حجّتهم هي أن الكنيسة بيت الربّ. وإذن لا بدّ من اللجوء إلى كلّ وسيلة لتزيينها إكراما له.
كان إل غريكو محاطا بالمشاكل المالية طوال حياته. لم يكن أميرا بين الرسّامين مثل تيشيان. ويقال بأن البابا بايوس الخامس "التقيّ" أزعجه عري الأشخاص الذين رسمهم ميكيل انجيلو في سقف كنيسة سيستينا. وقد عرض عليه إل غريكو أن يعيد رسم نفس الأشخاص، لكن بهيئة أكثر احتشاما.
ليس معروفا لماذا اختار إل غريكو أن يقيم في اسبانيا إقامة دائمة. قد يكون ضاق ذرعا بهوس فنّاني روما بالجمال المعماري. وربّما كان يساوره الأمل في أن يوفّر له احتفاؤه بالحياة الأخرى اعترافا أفضل في اسبانيا.
في العام 1579، كلّف الملك فيليب إل غريكو برسم لوحة له. ويبدو أن الملك لم يحبّ تلك اللوحة كثيرا. لكن كان هناك عامل أسهم في تقريب كلّ منهما للآخر. فبالنسبة لهما، فإن حياة الآخرة أكثر أهمّية من هذه الحياة الزائلة. كان فيليب يفضّل أن يحكم من قصر الاسكوريال بصحبة الرهبان. وكان أمرا باعثا على السرور أن يرى مذبح الكنيسة من فوق سريره في القصر. هذه الأمور كانت بالنسبة لـ فيليب أكثر أهمّية من امبراطوريّته.
في عام 1588، هُزمت الارمادا الاسبانية. وفي عام 1598، أي سنة وفاته، دفعت الضغوط المالية فيليب لأن يوقف حربه ضدّ فرنسا والمقاطعات الشمالية، بينما كانت هولندا قد خرجت تماما عن سيطرته.
كلّ أعمال إل غريكو، وخاصّة هذه اللوحة، تشهد على إيمان الرسّام بمملكة السماء التي كان يعتبرها أهمّ وأكثر واقعية من العالم الذي نعيش فيه.
فقط في الجزء العلوي من اللوحة تبدأ الحياة. هذا الجزء يبدو ديناميكيا بتأثير الضوء واستخدام العمق والخطوط التي تدفع العين للنظر إلى أعلى.
لكن لم يكن كلّ الأسبان يؤمنون بتجاهل الواقع والاستغراق في الغيبيات. الكاتب ميغيل دي ثيرفانتيس مثلا، والذي كان معاصرا لـ إل غريكو وفيليب الثاني، كان يتبنّى نظرة مختلفة. ورغم انه لم يهاجم أو ينتقد الحماسة الدينية المفرطة لمواطنيه، إلا أن شخصية دون كيشوت، رغم مثاليّتها، توضّح المخاطر التي يتعرّض لها شخص يعيش في عالم من الفانتازيا ويبحث عن المثاليات، غافلا عن رؤية الأرض التي تحت قدميه. .

Credits
en.wikipedia.org

الاثنين، يوليو 25، 2011

أمام المرآة


هذه اللوحة اسمها فينوس أمام المرآة لرسّام عصر الباروك بيتر بول روبنز. المرآة تلعب دورا أساسيّا في اللوحة. فهي التي تعطي المرأة إحساسا بالهويّة والذات. لاحظ كيف أن الرسّام حجب معظم ملامحها عن الناظر بحيث لا يظهر وجهها إلا في المرآة الصغيرة التي يمسك بها الطفل. ثم إنها لا تنظر إلى وجهها في المرآة، بل تحدّق مباشرة في الناظر وكأنها تكشف له من خلال تلك النظرة عن جانب من ذاتها الحقيقية.
من الناحية التقنية، تُظهر اللوحة براعة روبنز في تصوير العضلات وانثناءات الجسد وفي اختيار الألوان وقيم الضوء والظلّ المناسبة التي تعكس تفاصيل جسد الأنثى التي ترمز لـ فينوس إلهة الجمال القديمة.
واللوحة تذكّر بلوحتين أخريين مشهورتين تلعب فيهما المرآة أيضا دورا رئيسيا، الأولى لـ فيلاسكيز والثانية لـ تيشيان.
المرآة كانت وما تزال موضوعا مفضّلا في الرسم. وهناك العشرات، بل المئات من الأعمال الفنّية التي تشكّل المرآة عنصرا أساسيا فيها.
لكن لماذا كلّ هذا الاهتمام بالمرآة في الفنّ والأدب والفلسفة؟ السبب يتمثّل في حقيقة أن ابتكار المرآة كان نقطة تحوّل مهمّة في نظرة الإنسان إلى نفسه ووعيه بذاته لأنها جعلته في حالة مواجهة مباشرة مع نفسه. وقبل اكتشاف المرآة الأولى على أيدي المصريين القدماء قبل أكثر من خمسة آلاف عام، كانت وسيلة الإنسان الوحيدة للتعرّف على هويّته هي النظر في مياه البحيرات والغُدران الراكدة.
لكن لأن الماء لا يوفّر صورة ثابتة وواضحة دائما للوجه، فقد سعى الإنسان جاهدا لاكتشاف وسيلة أخرى يرى فيها وجهه في وضع ساكن وثابت.
والمرآة بشكلها المعروف اليوم لم تظهر إلا منذ خمسة قرون، وبالتحديد في مدينة فلورنسا الايطالية.
توق الإنسان لأن يرى صورته على حقيقتها كان هاجسا لازم البشرية منذ أقدم العصور. وكلّنا نتذكّر قصّة نرسيس في الميثولوجيا اليونانية القديمة. تقول الأسطورة إن نرسيس كان شابّا ذا جمال خارق لدرجة انه فُتن بصورته عندما رآها لأوّل مرّة منعكسةً على سطح مياه إحدى البحيرات. وأصبحت قصّته تقترن بالنرجسية وهي صفة أصبحت ترمز في علم النفس إلى الأنانية وحبّ الذات.
المرآة أصبحت منذ اكتشافها مرتبطة بوعي الإنسان بذاته وهوّيته الشخصيّة. إسأل أيّ شخص، سواءً كان رجلا أم امرأة، عن أوّل عمل يقوم به في الصباح عندما يستيقظ من النوم. سيقول لك انه ينظر إلى ملامحه في المرآة بينما يغسل وجهه أو يفرّش أسنانه. وقبل أن يغادر المنزل إلى العمل أو المدرسة لا بدّ أن يعرّج على المرآة كي يعدّل أمامها هندامه ويطمئنّ إلى أن هيئته على أفضل ما يرام.
أصبحت المرآة بمعنى من المعاني رمزا للحقيقة. لذا يقال في كثير من الأحيان أن المرآة لا تكذب.
لكن هل صحيح أن المرآة لا تكذب؟ الواقع أن المرآة تُصوّر أحيانا على أنها رمز للخداع وتزييف الحقيقة. بل إن اندريه ماغريت الرسّام البلجيكي ذهب إلى ابعد من هذا عندما رسم لوحة مشهورة شبّه فيها عين الإنسان نفسها بالمرآة المزيّفة.
والواقع انك بمجرّد أن تبتعد عن المرآة، ستكتشف أن صورتك سرعان ما تختفي وتصبح مجرّد ظلّ. المرآة تزيّف الواقع وأحيانا تشوّهه. وهي في النهاية مجرّد حيلة من حيل الفيزياء تُظهر صورنا معكوسة لدرجة انك لا تميّز أمامها يدك اليمنى من اليسرى ولا خدّك الأيسر من الأيمن.
عندما ظهرت المرآة لأوّل مرّة كانت أداة للتباهي والتأكيد على المنزلة الاجتماعية الرفيعة. وعندما راجت وانتشرت بين الناس صارت رمزا للمساواة وأداة لاكتساب احترام وتقدير المجتمع.
لا مشكلة في أن تقف أمام المرآة بضع دقائق في اليوم كي تصلح من مظهرك وتبدو بحال أفضل. لكن المشكلة مع المرآة هي أنها لا توفّر لك الوعي المنشود بالذات. فأنت في حقيقة الأمر لا تنظر إلى "نفسك" فيها، بل إن ما يشغلك في النهاية هو أن تعرف كيف سينظر إليك الآخرون.
الإنسان عندما ينظر إلى نفسه في المرآة لا يبحث عن احترامه لذاته، وإنما عن احترام الآخرين له. وما تعكسه المرآة في واقع الأمر ليست صورتك الحقيقية عن نفسك، وإنّما صورتك التي تبحث عنها في أعين الآخرين.
معرفة الإنسان لنفسه أصبحت هذه الأيّام لا تتحقّق من خلال تأثير الصورة والمظهر الخارجي، وإنّما من خلال طريقة الشخص في التعبير عن أفكاره وتصوّراته. بل إن هناك الآن من يقول أن فكرة معرفة الذات، كما تطرحها الكثير من الكتب الرائجة هذه الأيّام، هي نفسها فكرة مبهمة وغائمة. وانشغال الإنسان بهذه الفكرة والتعويل عليها أكثر مما ينبغي يمكن أن يصبح عقبة في طريق تحقيقه للنجاح والتجاوز في حياته.
ترى لو خلا هذا العالم من المرايا فجأة، ما الذي سيحدث؟
وكيف يمكن ملء الفراغ الذي كانت تملأه المرايا في حياتنا؟ هل سنصبح أكثر أم اقلّ وعياً ومعرفة بذواتنا؟ هل سنصبح أكثر أم اقلّ إحساسا بالوحدة؟ هل سيقبلنا الآخرون كما نحن دون أن نضطرّ إلى تغيير صورنا وتزييف طبيعتنا الحقيقية؟!

الجمعة، يوليو 08، 2011

فان دايك في انجلترا


لا بدّ وأن تتحرّك مشاعرك وأنت ترى لوحة الليدي ديغبي لـ انطوني فان دايك. تبدو المرأة نائمة، رأسها يستريح برفق فوق يدها. لكن بعد ذلك، ستلاحظ أن إحدى عينيها مفتوحة بطريقة غير طبيعية، وتدرك أنها ميّتة. فان دايك يستحضر في هذه اللوحة صورة خالدة من صور الصفاء والجمال ضمن فكرة الموت.
وهناك لوحات حزينة أخرى لهذا الرسّام. وهي تعكس أجواء القرن السابع عشر: الطاعون، الحرب والموت المبكّر. ومع ذلك، ثمّة لوحات أخرى لـ فان دايك تصوّر مواضيع دينية وأسطورية، بالإضافة إلى بورتريهات للعديد من الأشخاص بملابسهم الرائعة الألوان. وهذه الأخيرة هي التي اشتُهر بها أكثر من غيرها.
كان فان دايك في لوحاته يحتفظ بالحدّ الأدنى من الرمزية بحيث يمكنك تركيز الاهتمام على الفرد، لا سيّما تعابير وجهه وحركات يديه. لوحته التي رسمها لـ ماريا لويزا دي تاسيس لا بدّ وأن تغريك بابتسامتها التي تشبه كثيرا ابتسامة الموناليزا.
المؤرّخ كريستوفر هيل وصف ذات مرّة فان دايك بأنه كان يروّج للحكم المطلق بتزييفه لحقيقة المظهر في لوحاته". لكن الردّ على هذا الكلام قد يكون شديد التعقيد.
ولد انطوني فان دايك في انتويرب في بلجيكا عام 1599، وهي مدينة تقع على خطّ المعركة بين الإصلاح البروتستانتي والكاثوليكية المضادّة للإصلاح. وقد بُنيت المدينة كي تكون مركزا تجاريّا. وكان والد فان دايك تاجر أقمشة. والكثير من رعاته كانوا من التجّار أيضا.
في ذلك الزمان، شهدت الفنون والثقافة طفرة كبيرة، وبخاصّة في إيطاليا التي ازدهرت فيها دراسة الثقافة اليونانية والرومانية الكلاسيكية خلال عصر النهضة. الفنّ في تلك الفترة، بحسب ما يقوله الناقد الماركسي الروسي البارز بليخانوف، كان يمرّ بتحوّل مهم تمثّل في حقيقة أن الفكرة المسيحية المثالية عن الشكل البشري كانت في تراجع بفعل الأفكار الدنيوية التي كان ظهورها محتّما مع بداية النضال الحضري من أجل التحرّر.
صور المادونات، على سبيل المثال، أصبحت مشبعة بملامح الوجود الأرضي البحت، لدرجة أنه لم يعد يجمعها شيء مع العذراوات التقيّات في العصور الوسطى.
كان ذلك العصر عصر دافنشي ومايكل أنجيلو ورافائيل وتيشيان وعلم دراسة المنظور والتشريح البشري.
الأساليب الفنّية الجديدة كانت تغزو جميع أرجاء أوربّا. والتجارة والسفر والطباعة سهّلت التفاعل بين الأشكال والأساليب الفنّية المختلفة. ولوحات المناظر الطبيعية الضخمة التي نشأت في هولندا عادت إلى الظهور مجدّدا في لوحات عصر النهضة في فينيسيا، والتي استفاد منها فان دايك خلال إقامته في انجلترا.
الفنّان الألماني البريخت ديورر (1471-1528) زار فينيسيا في وقت لاحق، وساعد في إدخال أساليب عصر النهضة الإيطالي إلى بلده. و هولبين (1497-1543) قام بتزيين الكنائس الألمانية متأثّرا بأسلوب عصر النهضة. ثم هاجر بعد ذلك إلى انجلترا البروتستانتية.
ولد فان دايك في خضمّ هذه العاصفة السياسية والاجتماعية والثقافية. كانت عائلته كاثوليكية ملتزمة. فاثنتان من شقيقاته انضمّتا إلى احد الأديرة بينما أصبح شقيقه كاهنا. وهو نفسه، أي الرسّام، انضمّ إلى جماعة يسوعية.
تتلمذ أنطوني فان دايك على احد رسّامي انتويرب الكبار، وهو هندريك فان بيلين عندما كان عمره عشر سنوات. وبعد بضع سنوات أخرى، أصبح يدرس على يد بيتر بول روبنز.
كان روبنز الرسّام الأوّل في العالم الكاثوليكي. وكان يتبع التقاليد الفلمنكية التي بدأها رسّامون مثل بريغل الذي كان يحاكي الطبيعة ويرسم مشاهد ريفية. لكن بعد أسفاره في ايطاليا، أصبح فان دايك متأثّرا بجمال وبساطة أعمال انيبالي كاراتشي وكارافاجيو.
وعندما عاد إلى بلجيكا، أصبح أوّل فنّان يرسم الصور الكبيرة. وأعماله في ذلك الوقت مليئة بالحركة والناس، لكن ما يزال فيها إحساس بالضوء والمكان. ومقارنة مع صوره، كانت لوحات الرسّامين من مواطنيه صغيرة ورسمية ومتيبّسة.
استوعب فان دايك بسرعة أسلوب وتقنيات روبنز. وكان الأخير يعتبره أفضل تلاميذه. لكن على الرغم من تأثير روبنز الكبير عليه، إلا انه كان قد بدأ بالفعل أسلوبه الخاصّ به.
وكان أفراد الطبقة البرجوازية الصاعدة في انتويرب يرعونه ويقدّرونه. وفي لوحاته العديدة التي رسمها لهم، يظهر هؤلاء بملابسهم السوداء وياقاتهم البيضاء وعلى وجوههم علامات الفخر والزهو بوضعهم الجديد.



في ايطاليا، رسم فان دايك العديد من الصور الجميلة واللوحات الدينية. كما عمّق دراسته لفنّ عصر النهضة في فينيسيا، وخاصّة تيشيان. وقبيل وفاته، كان قد جمع سبع عشرة لوحة من أعمال هذا الأخير.
كان تيشيان الأكثر شهرة بين معاصريه بسبب بورتريهاته. وكان للوحاته نوعية حالمة، مقارنة بـ فان دايك الذي كان يضع البشر بقوّة على الأرض.
وقد أمضى فان دايك سنواته الأخيرة في لندن كرسّام للبلاط. وأقام هناك ورشة فنّية كانت تنتج لوحة كلّ أسبوع. ومثل روبنز، كان غالبا ما يترك العمل الأساسي لمساعديه ويكتفي فقط بإضافة اللمسات الأخيرة.
وجوده في لندن تزامن مع فترة حكم الملك تشارلز الأوّل الذي كان يمارس حكما فرديّا. فالبرلمان لم ينعقد من 1628 إلى 1640م. وتشارلز، البروتستانتي، كان يعتمد على الطبقة الأرستقراطية. وكان خصومه من التجّار ومُلاك الأراضي الذين كانوا يخشون عودة الكاثوليكية لأن ذلك كان يعني ضياع أراضيهم. وقد ركّز هؤلاء كراهيتهم على الملكة هنرييتا ماريّا التي كانت فرنسية وكاثوليكية. وكان فان دايك، بحكم وظيفته، مقرّبا من البلاط.
تصوير فان دايك للسلطة ربّما يغضب بعض الناس. ومع ذلك، فإن لوحاته تُعتبر سجلا رائعا لـ انجلترا التي كانت وقتها تتّجه إلى الحرب الأهلية. وقد وجد رعاته أنفسهم على كلا الجانبين في هذا الصراع.
كان ايرل سترافورد عضوا في مجلس العموم ونائبا في البرلمان. ثمّ عُيّن كبيرا لمستشاري الملك تشارلز. وقد حوكم من قبل البرلمان المنصّب حديثا في العام 1641 وأعدم بعد أن وقّع تشارلز نفسه على الحكم بقتله.
في اللوحة التي رسمها له فان دايك، يقف ايرل سترافورد بشعره القصير وبدلته السوداء اللامعة بينما يقف إلى جانبه كلب صيد ايرلندي. ملامح وجه الرجل كما يظهر في اللوحة تكتسي بتعابير هي مزيج من التوتّر والخوف.
بعد فترة وجيزة من وصوله إلى انجلترا في 1632، تلقّى فان دايك تكليفا من الملك بأن يرسم له لوحة بمعيّة الملكة.
وفي اللوحة قلّل فان دايك من أهمّية الجانب الاحتفالي ورسم الزوجين، الملك والملكة، بملابس زاهية فيما تشارلز ينظر بمحبّة نحو هنرييتا الجميلة.
هل زوّر فان دايك مظهر الحقيقة هنا؟ الزوجان الملكيان لم يكونا قد رأيا بعضهما لمدّة ثلاث سنوات بعد زواجهما المرتّب. ابنة أخت هنرييتا وصفتها آنذاك بأنها "امرأة صغيرة بذراعين نحيفتين طويلتين وكتفين ملتويين وأسنان بارزة من فمها مثل بنادق في حصن".
تشارلز كان ينظر إلى الفنّ كوسيلة للترويج لنفسه كملك لبريطانيا. لكن حتى هذه الصورة لها جانبها التخريبي. إذ لم يحدث من قبل أن ظهر ملك بهذا الشكل الإنساني والمتحرّر من جبروت السلطة.
وفي بعض لوحاته العائلية، حطّم فان دايك التقليد القديم الذي كان يقضي بأن يكون الرجل إلى اليمين والمرأة إلى اليسار.
كما كان يعامل الأطفال كأفراد لهم شخصيّاتهم الخاصّة، ما أضاف لمسة من الشقاوة والخفّة إلى لوحاته.
توفي فان دايك في السادس من ديسمبر 1641 عن اثنين وأربعين عاما. وخلال حياته القصيرة أنتج ما يقرب من ألف لوحة. وقد عاش كما يعيش الارستقراطيون وكان متعاطفا مع اليسوعيين والملكيين. غير أن هذا لا ينتقص من جاذبية فنّه.
ويبدو انه كان قادرا على المزج بين مختلف التيّارات في الفنّ الأوروبّي كي ينتج صورا جميلة وقويّة ومملوءة بالشعور بالألفة والفردانية والبعد عن الرسمية.
قبل وفاته بثمان سنوات، رسم فان دايك لنفسه بورتريها شخصيا يظهر فيه مرتديا قميصا من الحرير الأحمر اللامع وحول كتفه سلسلة ذهبية بينما ينظر إلى الوراء. يده اليمنى تشير إلى زهرة كبيرة ومتفتّحة من أزهار عبّاد الشمس، رمزا لولائه للملك، وخلفها زهرة أخرى ذوَت وذهبت نضارتها.
هذه اللوحة رسمها وهو في أوج شهرته وثرائه. والمعنى الكامن فيها ما يزال يثير إعجاب الناس إلى اليوم. كأن الرسّام يقول: أنا هنا مثل عبّاد الشمس. عشت هذه الحياة واكتشفت جوهرها. لقد جعلتْ منّي إنسانا ثريّا ومشهورا. ولكن، ما قيمة كلّ هذه الثروة والشهرة عندما يموت عبّاد الشمس"؟!

Credits
nationalgallery.org.uk
historytoday.com

الأحد، مايو 22، 2011

محطّات

أوهام ضائعة


عندما يتقدّم الإنسان في العمر ويحسّ بوطأة الشيخوخة ووهن الجسد، يبدأ في تذكّر الماضي والحنين إلى الأيّام الخوالي عندما كان شابّا يافعا تملأ نفسه الآمال والأحلام العريضة.
والشاعر والفنّان، بما جُبلا عليه من عاطفة جيّاشة ورهافة في الشعور، هما خير من يعبّر عن فداحة الإحساس بمرور الزمن وانصرام سنوات العمر.
على صعيد الرسم بوجه خاصّ، هناك لوحات كثيرة صوّر الفنّان فيها مراحل عبور الإنسان من مرحلة إلى مرحلة ومن طور إلى طور بطريقة رمزية وموحية.
ومن أشهر الرسّامين الذين تناولوا هذه الفكرة في أعمالهم كلود مونيه وادوار مانيه وكاسبار فريدريش ورمبراندت.
في هذه اللوحة المعبّرة بعنوان أوهام ضائعة، يرسم الفنّان الفرنسي شارل غلير حلم يقظة راوده وهو جالس ذات مساء على ضفاف نهر النيل خلال جولة قام بها في بعض حواضر الشرق حوالي منتصف القرن التاسع عشر.
كان غلير وقتها قد جاوز الستّين من عمره. وقد صوّر نفسه في اللوحة على هيئة شاعر عجوز يجلس على ضفّة النهر ويراقب قاربا غامضا يمرّ إلى جواره ويحمل مجموعة من الفتيات وهنّ يغنّينَ ويعزفن على آلاتهنّ الموسيقية.
الفتيات في اللوحة هنّ رمز لأحلام وأوهام الشباب الذي ولّى وانقضى بلمح البصر. والشاعر ينظر إلى القارب بحزن واضح وقد سقطت آلته الموسيقية على الأرض دون أن يشعر، كما يبدو.
المشهد مؤثر ولا شكّ. والغريب أن اللوحة كانت آخر ما رسمه الفنّان. فعندما عاد إلى باريس أغلق محترفه نهائيا مؤثرا حياة الاعتكاف والعزلة.
لكن على النقيض منه، عاش رسّامون آخرون، مثل تيشيان وبيكاسو وغويا وجورجيا اوكيف ومونيه، حتى الثمانين وأحيانا التسعين. وكان هؤلاء يرسمون ويبدعون حتى النهاية. بل إن بعضهم أنتجوا أفضل وأشهر أعمالهم في مراحل متأخّرة من حياتهم.
الشيخوخة ليست دائما مرحلة ضعف وانقطاع عن الحياة وعن العمل، بل يمكن أن تكون مرحلة ولادة جديدة وتجدّد روحي.

❉ ❉ ❉

بوكيريني: رقص بطيء

يعتبر لويجي بوكيريني (1743-1805) واحدا من أعظم عازفي التشيللو في جميع العصور. وإنجازاته كمؤلّف موسيقيّ تضعه تقريبا في مرتبة قريبة من هايدن وموزارت.
ومع ذلك أهمله المؤرّخون، ليس فقط لأنه كان ايطاليّا ويعيش في مدريد التي كانت فيها الموسيقى راكدة إلى حدّ ما في زمانه، وإنما أيضا لأن موسيقاه يطغى عليها الطابع الرومانسيّ ولا تناسب القوالب الكلاسيكية التقليدية.
كان بوكيريني مؤلّفا غزير الإنتاج، وخاصّة لموسيقى الغرفة. ويُعزى إليه الفضل في ابتكار الخماسية الوترية بآلتي كمان وفيولا وآلتي تشيللو.
ومثل هايدن، وخلافا لـ موزارت، كان بوكيريني يتفاعل باستمرار مع المثيرات الخارجية، سواءً كانت أصوات الغيتار الاسباني أو أغاني الطيور التي كان دائما يضمّنها في أعماله.
أشهر أعمال بوكيريني هو مجموعة الخماسيات الوترية التي كتبها عام 1771 بعد أن أصبح موسيقيّا في بلاط لويس شقيق الملك كارلوس الثالث ملك اسبانيا.
وأشهر جزء من هذه الخماسيّات هو المقطوعة الراقصة المعروفة بـ المينيويت Minuet، وهي عبارة عن حوار سلس وباذخ بين الآلات الوترية. هذه القطعة تتميّز بتجانسها وأناقتها وبطابعها الاحتفاليّ وتوازنها الإيقاعيّ. وقد اكتسبت مع مرور الوقت شعبية هائلة وأصبحت ترمز للسنوات الأخيرة من النظام القديم في أوروبّا.
لحن المينيويت لـ بوكيريني من الألحان التي لا تُنسى. وطوال أكثر من قرنين، اجتذب عشّاق الموسيقى من كلّ مكان. وما ضاعف من جاذبيّته هو مرونته وقابليّته للعزف سواءً على الآلات المنفردة كالبيانو والفيولا والكمان والفلوت أو بمصاحبة فرقة اوركسترالية كاملة.

❉ ❉ ❉

استراحة موسيقية


❉ ❉ ❉


قبل حوالي مائتي عام، كان يُنظر إلى الرسم باعتباره فنّا نخبويّاً. وكانت الارستقراطيات الأوربّية هي التي تحتكر الرسم وترعى الرسّامين لدواعي الوجاهة والتنافس.
احد ملوك بافاريا، واسمه لودفيغ الأوّل، كان يحبّ الرسم ويقدّر الفنّانين كثيرا. وكان رسّامه المفضّل هو كارل شتيلر الذي عيّنه رسّاما للقصر. وشتيلر، بالمناسبة، هو الذي رسم بورتريهين مشهورين لكلّ من بيتهوفن وغوته.
ويبدو أن هذا الملك كان لديه فائض من الوقت يصرفه على هواياته واهتماماته الأخرى. وأحد تلك الاهتمامات كان ولعه الشديد بالنساء، وبالجمال الأنثوي الكلاسيكي على وجه الخصوص. لذا قرّر أن يخصّص صالة في قصره في ميونيخ كي يملأها بصور نسائه المفضّلات.
ولهذه الغاية، اختار كارل شتيلر كي يقوم بمهمّة رسم النساء. كما عهد إلى زوجته الملكة، وكانت سيّدة طيّبة وساذجة على ما يبدو، بأن تساعده في مهمّة اختيار النساء اللاتي تنطبق عليهنّ الشروط ممّن يزرنَ القصر عادة لحضور الحفلات والمناسبات الاجتماعية التي تقام فيه.
وفي النهاية أنجز الرسّام للملك مجموعة خاصّة من اللوحات أطلق عليها غاليري الجميلات . وتضمّ المجموعة ستّاً وثلاثين لوحة تصوّر أجمل نساء أوربّا في ذلك الوقت.
الغريب أن إحدى تلك النساء، وكانت امرأة لعوبا تُدعى اليوم تغيّر حال الرسم كثيرا. أصبح فنّا جماهيريا وغادر صالات وأروقة القصور إلى فضاء الشوارع وجدران المتاحف التي يؤمّها الفقراء والأغنياء على حدّ سواء.

Credits
metmuseum.org

الجمعة، سبتمبر 03، 2010

الجِندر في فنّ عصر النهضة

خلال عصر النهضة الإيطالي، كان على المرأة التي تريد أن تصبح مبدعة أن تكون مولودة لعائلة غنيّة. والكثير من نساء ذلك العصر كنّ أمّيات أو لم يتح لهنّ سوى قدر يسير من التعليم. وبناءً عليه، كان الزواج وتأسيس عائلة هو الخيار الوحيد المتاح. وهذا كلّه يبدو متناقضا تماما مع الأسلوب التي تُصوّر به الحياة في عصر النهضة الذي اتّسم بتطوّر الفنون وكثرة الاكتشافات والانجازات التي أعقبت عصور الظلام.
القصّة الحقيقية هي أن الرجال وحدهم هم الذين كانوا يحتكرون الإبداع ويستمتعون بأوقاتهم بأساليب مبتكرة، في حين تُركت النساء في البيوت ليقمن بما يسمّى بالأعمال الوضيعة.
صِيغ مصطلح "رجل النهضة" خلال عصر النهضة الذي امتدّ ما بين عامي 1300 و1500 م. وما يزال هذا المصطلح، أي رجل النهضة، مستخدما إلى اليوم، حيث يُطلق على الشخص المبدع سواءً كان فنّانا أو موسيقيا أو أديبا.
لكن من المهمّ أن نلاحظ أن رجال النهضة، وليس نساء النهضة، هم الذين اعتُبروا فنّانين عظاما وعباقرة مبدعين. وقد قيل إن كبار شخصيات عصر النهضة مثل ليوناردو دافنشي ومايكل انجيلو وكارافاجيو جعلوا من الصعب على نساء ذلك العصر أن يظهرن أو يلمعن. ويبدو انه لم يكن هناك سوى عدد محدود من النساء اللاتي عُرفن جيّدا واشتُهرن في ذلك العصر.
الفنّانات النادرات في ذلك الوقت رسمن نساء عصر النهضة بأسلوب واقعي ومجامل واعتمدن في تصويرهنّ على شخصيّات نسائية قويّة من التاريخ.
لكن نظرة الفنّانين الرجال للنساء في ذلك العصر كانت مختلفة بعض الشيء. كان دور النساء أن يربّين الأطفال ويحافظن على البيوت ويخدمن كزوجات صالحات. كانت العائلة وحدة مهمّة في المجتمع الايطالي وكان نظام الطبقات العائلي صارما ومطبّقا بحذافيره.
وكان فنّانو عصر النهضة يصوّرون دور النساء بطريقة غريبة ومثيرة للاهتمام في لوحاتهم. ورغم انه كان يُنظر إلى النساء كربّات بيوت في المقام الأوّل، إلا انه كان من النادر أن يُرسمن في بيئات منزلية. في الغالب كنّ يُرسمن كشخصيات دينية في بورتريهات الطبقة الرفيعة، وكنساء عاريات وعلى شيء من الحسّية بالنسبة لعامّة الناس. هذه الصور كانت تقريبا النقيض الكامل لدورهنّ في الحياة اليومية. وهذه الجزئية يمكن أن تقول لنا شيئا عن سيكولوجيا فنّاني عصر النهضة من الرجال. ويُحتمل أن تمثيل النساء بتلك الطريقة كان إسقاطا لما كان الرجال يريدون عليه نساء النهضة. كما يمكن أن يكون ذلك تمرّدا غير واع ضدّ طبيعة المجتمع آنذاك.
وأيّا يكن السبب، فإن الرسومات التي تصوّر نساءً في عصر النهضة مهمّة لدراسة المرأة في الفنّ. فهي تكشف عن أسلوب حياة الناس في ذلك العصر وكيف كان يُنظر إلى النساء وقتها.
عندما كتب البيرتي احد رجالات عصر النهضة الأوائل عن الفنّ في عصر النهضة الايطالية، تحدّث عن الرسم بوصفه شكلا مثاليا. كان الرسم طريقة ثانية للنظر إلى العالم. وبالتالي فإننا كمتلقّين نرى العالم من خلال عين الرسّام. كانت لوحات عصر النهضة تركّز على الأشخاص. لذا فإن علينا الآن أن نرى كيف كان الرسّامون من الرجال ينظرون إلى المجتمع، وبطريقة أكثر تحديدا إلى النساء. وفي هذا الإطار، يحسن أن ننظر إلى ماريّات ومادونات دافنشي وعاريات تيشيان المسترخيات. هذان الاثنان كانا أشهر رسّامي عصر النهضة. وقد رسما المرأة بشكل متناقض. ولوحاتهما تشي بطبيعة نظرة كلّ منهما إلى النساء في عصرهما.
لوحات دافنشي هي عبارة عن سلسلة من البورتريهات والمشاهد الدينية. ورسوماته عن النساء مثيرة ومتفرّدة جدّا. في كرّاس ملاحظاته المشهور، بوسع الناظر أن يتخيّل التمارين المضنية والجهد الجبّار الذي كان يبذله دافنشي لإتقان رسم وجوه النساء ورؤوسهنّ وشعورهنّ. شخصيّات ليوناردو الدينية أنثوية جدّا وجميلة كثيرا، بينما لوحاته عن النساء الموسرات صلبة ومتكلّفة.
في لوحته البشارة يرسم ليوناردو العذراء بشعر طويل وأصابع رفيعة وصدر ضخم ووجه مغرٍ وجذّاب. ملابسها منسدلة بطريقة جميلة وملامحها بديعة وتروق للعين.
في لوحته الأخرى وجه العذراء "فوق"، نرى امرأة شابّة وجميلة بملامح ناعمة وشعر مجعّد وطويل وربطة رأس مزخرفة. عينا المرأة في اللوحة مسبلتان ورأسها محنيّ إلى أسفل. هذه لوحة رائعة ولا شكّ، كما أنها إحدى اللوحات التي تريد كثير من النساء أن يظهرن على منوالها. مادونات ليوناردو هنّ دائما بريئات، وجوههنّ تشبه وجوه الأطفال، وملامحهنّ بالغة الهشاشة والدقّة، وهنّ ولا شكّ يجذبن الناظر ببراءتهنّ وجمالهنّ.

غير أن بورتريهات دافنشي التي رسمها لنساء "دنيويات" تقول لنا شيئا مختلفا. هناك مثلا اثنان من أشهر بورتريهاته: الأوّل بورتريه جينيفرا دي بينشي والثاني بورتريه سيسيليا غاليراني. عند مقارنة المرأتين في هذين البورتريهين بالنساء في لوحاته الدينية، فإنهما تبدوان صارمتين ولا يتوفّران سوى على القليل من الملامح الأنثوية. ومن الواضح أن ملامحهما أكثر صرامة وقسوة، ونظراتهما متجهّمة إلى حدّ ما، وصدراهما منحنيان لأسفل، وشعرهما مربوط للوراء بطريقة غريبة وغير طبيعية.
وقد يظنّ البعض أن هذين البورتريهين رُسما بهذه الطريقة بناءً على رغبة من كلّفاه برسمهما. غير أنهما، بطريقة ما، يوفّران دليلا على الكيفية التي كان يُنظر بها إلى نساء الطبقات الاجتماعية الرفيعة. فهنّ غالبا صارمات وغير ودودات ويفتقرن لروح المرح.
المثال الأخير عن بورتريهات دافنشي هو تحفته الموناليزا. هذه المرأة تظهر في اللوحة وهي تحدّق إلى الناظر بينما ترتسم على وجهها تلك الابتسامة المشهورة والمحيّرة. هي أيضا تبدو صارمة، وإن بطريقة مختلفة. عيناها تدعوان الناظر للدخول إلى عالمها. ربّما تقدّم الموناليزا مثالا أكثر دقّة عن أسلوب تمثيل المرأة في عصر النهضة.
وبالنظر إلى أننا نعرف أن هؤلاء النساء كنّ موجودات وحقيقيات، فإن مقارنتهنّ بأسلوب رسم ليوناردو للعذراء تبدو مسألة مثيرة للاهتمام. إذ تظلّ الأخيرة شخصيّة لا يمكن لإنسان أن يزعم انه رآها في الواقع.
رسومات ليوناردو المختلفة والمتباينة للنساء توفّر صورة مشوّشة ومربكة عن طبيعة نظرة المجتمع للنساء في عصر النهضة. لكنّ تلك الرسومات تقدّم بعض الأدلة والاستنتاجات.
يقول ديفيد براون في مقال له بعنوان "الفضيلة والجمال: بورتريهات النساء في عصر النهضة": إن تلك اللوحات هي في الغالب انعكاس للمكانة الاجتماعية للمرأة ولطبيعة الأدوار المناطة بها كأمّ وزوجة. إن الكثير من فنّاني ذلك العصر رسموا النساء كفكرة اجتماعية عن المرأة المثالية. وكان من المهم إظهار المرأة بشخصية طيّبة وبما ينسجم مع الطبقة التي تنتمي إليها.
كان رجل النهضة سفيرا للجمال. وليس من المفاجئ أن هذا تحقّق من خلال رسم النساء، بصرف النظر عن درجة الواقع في ذلك.
وهذا يقودنا إلى الحديث عن لوحات تيشيان العارية والنقيضة للوحات ليوناردو.
في محاولته لتصوير نساء النهضة، ذهب تيشيان في طريق مختلف وركّز على المرأة كجسد عار. تقول رينا غوفين في مقال لها بعنوان "أحلام عصر النهضة" أن تيشيان كان يعرف قوّة الجنس والمرأة العارية. وقد استخدم هذه المعرفة لإغراء طبقة النبلاء التي كان أفرادها يستمتعون بالنظر إلى العاريات كي يكلّفوه برسم لوحات مماثلة. وكان يتمنّى أن ينظر المتفرّج إلى لوحاته كمناظر ايروتيكية. وهذا ليس بالأمر المفاجئ في ذلك العصر. ورغم ذلك فإن من الصعب تجاهل تأثير رسومات تيشيان.
في إحدى لوحاته الأخرى بعنوان داناي، يرسم تيشيان امرأة عارية ومستلقية بينما تكشف عن صدرها بالكامل. وهي لا تنظر إلى المتفرّج بل يظهر رأسها مرفوعا لأعلى وهي تحدّق بطريقة حالمة في الغيوم التي تراها من شرفة غرفتها. هذا مثال آخر للكيفية التي كان يرسم بها تيشيان النساء. كان بارعا في تصوير الجسد الأنثوي ولم يكن عنده تحفّظات ليرسمهنّ بالطريقة التي يريدها. هذا على الرغم من انه يصعب التأكّد ممّا إذا كانت تلك هي الطريقة التي كانت نساء النهضة يردن الظهور بها أمام الرجال.
وأخيرا لنلقِ نظرة على الفنّانات من النساء في ذلك العصر. أشهر هؤلاء هي الرسّامة سوفونيزبا ويسولا. كانت إحدى الرسّامات القليلات اللاتي كان آباؤهن يعتقدون بأن النساء ينبغي أن يتعلّمن. بل يقال انه أرسل إحدى لوحاتها إلى مايكل انجيلو. كانت معروفة ببورتريهاتها التي رسمتها لنفسها. وقد نجحت في ذلك لأنها كانت واعية بصورتها كنموذج لانجازات النساء.
في إحدى لوحاتها ترسم الفنّانة نفسها وهي تُرسم على يد رجل هو الرسّام برناردينو كامبي. كانت تلك فكرة غريبة لم تحدث من قبل. ويسولا أكثر حيوية وواقعية من كامبي الذي كان مدرّسها في الرسم. وهي أوّل رسّامة امرأة تتناول مسألة العلاقة بين فنّان رجل وفنّانة امرأة. وهناك بورتريه شخصي آخر لها تبدو فيه جالسة أمام ما يبدو وكأنه العذراء وابنها. ومع ذلك فـ ويسولا هي التي لا تستطيع أن تحوّل عينيك عنها. وجهها تعلوه تعابير حزينة وهي تحدّق مباشرة في الناظر، تماما مثل عاريات تيشيان. لكنها محتشمة بالكامل وكأنها تطلب من المتفرّج أن ينظر إلى العمل الفنّي الذي تنجزه وليس إلى جسدها العاري.
إن النظر إلى الطريقة التي رُسمت بها النساء في عصر النهضة يعطينا عدّة أدلّة مثيرة عن قصّة الحياة في ذلك العصر وكيف كان المجتمع ينظر إلى النساء وقتها. وسواءً كنّ ربّات بيوت أو شخصيات دينية أو نساءً عاريات، فإن كلّ تصوير يوفر أدلّة عن طبيعة الحياة آنذاك.
عصر النهضة شهد ظهور أشهر الرسّامين وأعظم التحف الفنّية التي لا نظير لها في جميع العصور. لذا فإن صور النساء في تلك الأعمال يمكن اعتبارها جزءاً لا يتجزّأ من تاريخ النساء إجمالا.

Credits
khanacademy.org