:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات كولريدج. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات كولريدج. إظهار كافة الرسائل

الثلاثاء، أبريل 15، 2025

حديقة الإشراق


بالنسبة للأوروبيين، وعلى مدى قرون، كان يوانمينغيوان، أو مجمّع القصر الإمبراطوري الواقع شمال غرب بيجين، ملمحاً أساسيا في أحلامهم عن الشرق. كان القصر مكانا للكثير من الخيال والدهشة إلى أن تعرّض للتدمير عام ١٨٦٠ على يد جيش من الإنغليز والفرنسيين. ومن وقتها، أصبح القصر وملحقاته رمزا لاستعباد الصين على أيدي القوى الأجنبية في القرن التاسع عشر، ومن ثمّ محورا للقومية الصينية الحديثة.
ولم يكن من المستغرب أن يعود الزوّار الأوروبيون القلائل الذين رأوا المكان بالفعل قبل تدميره بروايات مليئة بالعجائب. وقد تفوّق الرهبان والرحّالة في العصور الوسطى على بعضهم البعض في سرد القصص التي تحكي عن جمال القصر والسلطة الهائلة التي كان يتمتّع بها "الخان العظيم".
بُني قصر يوانمينغيوان، ومعناه بالصينية حديقة الإشراق، على مراحل مختلفة بدءا من أوائل القرن الثامن عشر وحتى تدميره. وكان في البداية ملاذا خلّابا للأباطرة الذين رغبوا في الهرب من حرارة المدينة المحرّمة والالتزامات الرسمية في بيجين.
كانت الحديقة جنّة على الأرض لأباطرة تشينغ. كانت جميلة، فخمة، ومن صُنْعهم بالكامل وليست إرثا من السلالات السابقة. وقد صُمّمت المناظر الطبيعية لتشبه مشاهد من منطقة وادي اليانغتسي السفلي التي برز منها شعراء ورسّامون وأدباء صينيون مشهورون.
في القرن الثالث عشر تمكّن التجّار والمبشّرون الأوروبيون من السفر إلى الصين. وكان قصر "الخان العظيم" محطّ اهتمام رواياتهم عن ذلك البلد. والوصف الأكثر شهرة له جاء على لسان ماركو بولو الذي وصل إلى بيجين عام 1266 وقضى هناك حوالي 24 عاما.
وقد ذكر ماركو بولو أن قصر الإمبراطور ليس مجرّد مبنى واحد، بل مجمّع ضخم تبلغ مساحته حوالي أربعة أميال، ويضمّ بداخله العديد من القصور الرائعة الأخرى، وساحة مسيّجة يعيش فيها الخان مع عائلته. وهناك تلّ اصطناعي مزروع بالأشجار وبحيرة اصطناعية تعبرها جسور. ويمتلئ جزء كبير من المجمّع بالطيور والحيوانات البرّية، بحيث يتمكّن الإمبراطور من مطاردة الطرائد متى شاء دون مغادرة القصر أبدا. وفي وسط المبنى جرّة كبيرة يمكن للزوّار الشرب منها، وهناك مجموعة من تماثيل الطاووس بالإضافة الى أسد أليف يتجوّل بين الصالات.
كما يذكر ماركو بولو أن أعمدة القصر الأربعة والعشرين صُنعت من الذهب، بينما نُحتت جرّة الشرب من أحجار ثمينة تجاوزَ ثمنها قيمة أربع مدن عظيمة، وكان ثمن كلّ لؤلؤة تزيّن معاطف رجال الحاشية حوالي خمسة عشر ألف فلورين.
كانت الوفرة والجمال والثراء تعبيرات عن قوّة الإمبراطور الهائلة. وأمام عرشه، كان الزوّار يصمتون ثم يسجدون، مُؤدّين "الكوتو"، أي الركوع ثلاث مرّات والضرب مثلها على الرأس، كما ينصّ بروتوكول البلاط. كان عدد زوّار الخان من الأوروبيين قليلا، ولم يكن لديهم سوى سلوكهم الحسن لدعم مطالبهم المتواضعة بالتجارة والحقّ في التبشير بالإنجيل.
كان ماركو بولو يلقّب بـ"المليون" لميله الى المبالغة. ولكن سواءً كانت شهاداته صادقة أم لا، كانت هناك حاجة لسرد الكثير من العجائب إذا ما أُريد للقصص أن تجد جمهورا.
المبشّرون اليسوعيون في الصين اتّبعوا استراتيجية هرمية لتحويل أهل البلاد الى المسيحية. فبعد أن يُقنعوا البلاط الإمبراطوري باعتناق دينهم في البداية، كانوا يأملون لاحقا في تحويل البلاد كلّها الى الدين المسيحي. ولتحقيق هذا الهدف، قدّموا للإمبراطور نماذج متنوّعة من التكنولوجيا والفنون الأوروبية وعرضوا خدماتهم كرسّامين ورسّامي خرائط وعلماء فلك وصانعي ساعات وحتى صانعي مدافع.
وقد شكّلت رسائل البعثة اليسوعية العائدة إلى فرنسا والمنشورة في باريس في القرنين السابع عشر والثامن عشر، المصدر الأكثر موثوقيةً للمعلومات عن الصين. كانت تلك الرسائل تُقرأ على نطاق واسع، خاصّة من قِبل المدافعين عن الامتيازات الملكية في إنغلترا وفي فرنسا. وأصبحت الصين بالنسبة لفلاسفة مثل فولتير نموذجا للحكم الرشيد والنظام الاجتماعي.
وسمح تواجد بعض اليسوعيين في قصر الخان العظيم بوضع وصف شامل إلى حدّ ما للقصور والحدائق. وأشهر تلك الاوصاف يرد في رسالة كتبها الفرنسي جان دينيس أتيريه عام 1745 عندما كان يخدم كرسّام في بلاط الامبراطور.
وقد أوضح أتيريه أن الإمبراطور استلهم لتصميم الحديقة، ولكي تظهر بجمال خاص، معالم من جميع أنحاء الصين والعالم، منها معابد من منغوليا والتبت، وقرية ومشهد لنهر من هونان، وحدائق من سوتشو وهانغتشو، ومجموعة من الأبنية على الطراز الأوروبّي. بل إن القصر كان به نسخة طبق الأصل من شارع صيني عادي مليء بالمتاجر والأكشاك والباعة المتجوّلين والزبائن والمتسوّلين. وكان الإمبراطور يتجوّل في تلك الأرجاء كما يحلو له، وكانت نساؤه يعقدن صفقات مع الخصيان الذين يلعبون دور البائعين.
لكن أكثر ما كان يلفت الانتباه الفوضى الجميلة و"عدم التماثل" اللذان سيطرا على تصميم المكان. فلم تكن المسارات والجسور العابرة فوق البحيرات مستقيمة بل متعرّجة، ولم تكن الأبواب والنوافذ مربّعة الشكل بل دائرية أو بيضاوية أو على شكل أزهار أو طيور أو أسماك. ورغم أن هذا الوصف قد يبدو ساذجا، إلا أن أتيريه أقرّ بأنه "عندما تراه بنفسك، ستُفكّر بطريقة مختلفة وستبدأ بالإعجاب بالفنّ الذي صُمّم به هذا التباين".
كانت حديقة القصر، بتنوّعها وشمولها، تمثّل كلّ ما هو موجود: الماضي والمستقبل والمواقع الغريبة والنباتات والحيوانات المذهلة والجبال الشاهقة والمحيطات والريف والمدينة. وكان الإمبراطور هو الحاكم الأوحد لهذا الكون البديع والشخص الذي جُمعت له كلّ هذه التسلية. ولأن كلّ شيء كان مرتّبا بتناغم وسلام، كانت الحديقة دليلا واضحا على فضائل حكمه. ومن منظور التصنيفات الجمالية التي كانت شائعة في القرن الثامن عشر، كان كلّ هذا مثيرا للفضول.


في رسائل اليسوعيين، استُبدلت لغة الجمال والرهبة في العصور الوسطى بانطباعات التعدّدية المبهجة. وتحوّل يوانمينغيوان إلى قصر "روكوكو"؛ إلى خزانة ضخمة مليئة بالتحف الفنّية وبآلات ومؤثّرات وخِدع بصرية.
ويذكر أتيريه أن هناك خصوبة لا مثيل لها في روح الصينيين. في الواقع "أميل إلى الاعتقاد بأننا فقراء وعقيمون مقارنةً بهم". في حقبة سابقة، كانت هذه الخصوبة دليلاً على الفردوس. وكانت الفردوس أيضا حديقة يتجدّد فيها كلّ شيء باستمرار ودون عناء. وفي حقبة تالية، أصبحت هذه الخصوبة نفسها دليلاً على إنتاجية التربة الصينية وثروات الأسواق الصينية التي كانت تنتظر استغلالها من قبل التجّار الأوروبيين.
وتمشيّا مع موضة الطراز الصيني، ساهم أتيريه في إلهام إنشاء حدائق بنفس الطراز في جميع أنحاء القارّة. فبعد سنوات قليلة فقط من نشر مذكّراته، بنى فريدريك العظيم منزلا صينيّا في سان سوسيس وشيّدت كاترين العظيمة قصرا صينيا في أورانينباوم وبنى أدولف فريدريك ملك السويد قصرا صينيا في دروتنينغهولم. وفي عام 1761، شيّد المهندس المعماري ويليام تشيمبرز معبدا يبلغ ارتفاعه خمسين مترا في حدائق كيو، بالإضافة إلى "بيت كونفوشيوس".
كان تشيمبرز قد زار الصين من قبل. ففي شبابه، زار غوانتسو مرّتين في أربعينات القرن الثامن عشر على متن سفن تابعة لشركة الهند الشرقية السويدية. وقد درس هناك العمارة الصينية وفنون الحدائق. وفور عودته إلى أوروبّا، نشر عام ١٧٥٧ كتيّبا بعنوان "فنّ تصميم الحدائق عند الصينيين".
وأوضح تشيمبرز أن هناك ثلاثة أنواع مختلفة من المشاهد في الحدائق الصينية: المبهج، والمرعب، والساحر". وفي حين أن المبهج والساحر يتوافقان مع تصنيف اليسوعيين، إلا أن تركيزه على المرعب كان أمرا جديدا تماما. وقد أصرّ تشيمبرز على أن هذه المشاهد المروّعة كانت تتضمّن أشجارا مشوّهة مزّقتها العواصف وصخورا متداعية وشلالات جارفة ومبانٍ التهمت النيران نصفها. وصُمّمت هذه المشاهد لاستثارة المشاعر المتسامية.
وقد عاد تشيمبرز ثانية إلى حديقة الرعب تلك واستخدم قصر يوانمينغيوان كمثال توضيحي. وبعد وصفه للمتع التي تثيرها مسارات الحديقة المتعرّجة العديدة ومناظرها الساحرة، انتقل إلى "مشاهد الرعب": غابات كئيبة، ووديان عميقة لا تصلها الشمس، وصخور قاحلة، وكهوف مظلمة، وشلالات هادرة تتدفّق من الجبال في جميع الأرجاء".
وفي البساتين "كانت ترفرف الخفافيش والبوم وكلّ طائر جارح وتعوي الذئاب والنمور والضباع في الغابات وتتجوّل الحيوانات شبه الجائعة في السهول وتُرى المشانق والصلبان والعجلات وجميع أدوات التعذيب. وفي أكثر أركان الغابة كآبة، حيث الطرق وعرة ومليئة بالأعشاب، وحيث يحمل كلّ شيء علامات هجرة السكّان، توجد معابد مكرَّسة لملك الانتقام، وكهوف عميقة في الصخور، ومنحدرات تقود إلى مساكن تحت الأرض مُغطّاة بالأغصان والشجيرات العالقة".
بالطبع، كان وصف تشيمبرز الغريب لـ"حديقة الرعب" هدفا سهلا للسخرية. ومع ذلك، لم يكن من السهل كبح الحساسية التي كان وصف تشيمبرز تعبيرا عنها. فبالنسبة للكتّاب الرومانسيين في مطلع القرن التاسع عشر، كانت عجائب الشرق مصدرا لأحلام اليقظة الغريبة، وكان قصر الإمبراطور الصيني موضوعا مفضّلا.
في أكتوبر 1797، تناول الشاعر الإنغليزي سامويل تيلر كولريدج جرعة صغيرة من الأفيون ثم قرأ صفحات من حكايات الرحّالة الى الصين في العصور الوسطى، قبل ان يغالبه النعاس. وعندما استيقظ كتب قصيدة تصف جنّة صينية سامية ألهمته الشوق والرهبة:
"في زانادو أصدر قبلاي خان
قراراً ببناء قبّة ابتهاج فخمة
حيث جرى النهر المقدَّس "ألف"
عبر كهوف لا يستطيع إنسان إدراك مداها
أسفل إلى بحرٍ لا تطلع عليه شمس
لذا أُحيطت عشرةُ أميالٍ
من الأرض الخصبة بأسوار وأبراج
ووُجدت هناك حدائقُ زاهرة بجداولَ مُتعرِّجة
حيث أزهر كثير من شجر البخور
هنا كانت غابات قديمة كالتِّلال
تحتضن بقعاً خضراءَ مشمسة".
من الواضح أن كولريدج كان يتحرّك في نفس المجال الشعري الذي تحرّك فيه تشيمبرز. فكهوف كولريدج التي "لا يستطيع إنسان إدراك مداها" ليست بعيدة كثيرا عن "كهوف تشيمبرز العميقة في الصخور". كما لم يبتعد هذا كثيرا عن الرواية التي قدّمها ماركو بولو نفسه ذات مرّة. وما رآه كولريدج في حلمه هو قصر قبلاي خان الذي زاره بولو.
سياسيّا، يمكن قراءة قصيدة "قبلاي خان" على أنها تخلٍّ عمّا يُسمّى بـ "عبء الرجل الأبيض" ودعوة للمستعمرين والمستعمَرين لتبادل الأماكن. وعلى النقيض من ذلك، لم يكن تشيمبرز سريعا في التخلّي عن نفسه. فقد أشاد بالصينيين، ليس فقط لرعبهم، ولكن أيضا لبهجة حدائقهم.
في أغسطس 1793، وصل وفد ديبلوماسي بريطاني بقيادة جورج ماكارتني إلى بيجين بهدف فتح السوق الصينية الضخمة لتجارة السلع البريطانية الصنع. وعند وصولهم إلى القصر الإمبراطوري، متوقّعين بوضوح "تجربة سامية"، شعر الدبلوماسيون بخيبة أمل قويّة. وقال ماكارتني: ما رأيناه لا يرقى إلى مستوى الأوصاف الخيالية التي دسّها لنا الأب أتيريه والسير ويليام تشيمبرز على أنها حقائق".
وقال شخص آخر في الوفد ان القصور كانت صغيرة ومزخرفة بشكل مبالغ فيه، و"ليست مجرّدة من الأناقة، بل في حال يُرثى لها من الاهمال". وأضاف أن جزءا كبيرا من المباني يتكوّن من أكواخ متواضعة. كما أن مسكن الإمبراطور نفسه وقاعة المحاضرات الفخمة، بعد تجريدهما من التذهيب والألوان الصارخة التي طُليا بها، لا يتفوّقان إلا قليلاً على حظيرة مزارع إنجليزي!". لكنه أشاد بـ "المزهريات الرائعة المصنوعة من اليشب والعقيق و"أرقى أنواع الخزف الياباني"، وآلات القمار، والساعات، والآلات الموسيقية الرائعة".
في أربعينات القرن الثامن عشر في بريطانيا، بلغت موضة الطراز الصيني ذروتها. وبحلول التسعينات، غالبا ما كانت الأشياء الصينية تُعتبر مبتذلة، على الأقل بين الرجال ذوي الأذواق الكلاسيكية الجديدة. وكان الطراز الصيني، مثله مثل طراز الروكوكو الفرنسي أو العمارة القوطية الجديدة، يُعتبر متشاوفاً وزائفا.
لم يُظهِر الدبلوماسيون البريطانيون حماسا حقيقيا إلا لحدائق وأراضي القصر الإمبراطوري. وقال ماكارتني واصفا حدائق المنتجع الصيفي الإمبراطوري إنها "من أجمل مناظر الغابات في العالم" وأضاف: عند وصولنا إلى قمّة إحدى التلال، انفتح أمامنا فجأة مشهد يمتدّ لعشرين ميلاً، كان مشهدا غنيّا ومتنوّعا وجميلا وساميا لم ترَ عيناي مثله قط".
في صباح يوم 7 أكتوبر عام 1860، شقّت القوّات الفرنسية والبريطانية طريقها إلى قصر يوانمينغيوان. وعلى الرغم من أوامر القادة العسكريين، نهبَ الفرنسيون المجمّع، بينما سارع الإنغليز إلى عرض ما تبقى منه للبيع. وبعد عشرة أيّام، أحرقت القوات البريطانية المباني وما تبقّى من محتوياتها بالكامل. وكان لهذا التخريب سياق سياسي وعسكري تمثّل في انعدام انضباط الجيش الفرنسي ورغبة الانغليز في الانتقام من "المعاملة الوحشية" التي تلقّاها مجموعة من الرهائن على أيدي الصينيين.
كانت القوّات الفرنسية هي التي نفّذت معظم عمليات النهب. لكن القادة الفرنسيين نفوا رسميّا أيّ تورّط لهم، وألقوا باللوم في ذلك على عصابة من الصينيين الذين رافقوا الجيوش الأوروبية.
كان من بين من شهدوا تلك الأحداث اللورد إلجين الذي كان رجلا محافظا ومتشكّكا في الإمبريالية الجشعة، وكان أيضا من أتباع الشاعر كولريدج. وفي أكسفورد انجذب فكره إلى التكهّنات التجريدية الراقية، وقرأ أفلاطون وميلتون بالإضافة الى كولريدج. ومع ذلك، عندما واجه قصر يوانمينغيوان، أيقن أنه ليس القصر الذي وصفه كولريدج في قصيدته. فلم "يُغمض عينيه خوفا" ولم يشرب "حليب الجنّة". وبدلا من ذلك، شارك في إحراق المكان.
عندما تطوّرت الأمور إلى فكرة حرق القصر، رفض القادة الفرنسيون أيّ مشاركة. وقال البارون غروس: إننا نتحدّث باستمرار مع الصينيين عن "حضارتنا" وعن "الخيرية المسيحية"، وتدمير القصر سيكون عملاً همجيّاً ومنافقاً".
أما بالنسبة للجنود العاديين، سواءً البريطانيين أو الفرنسيين، فبمجرّد أن دخلوا بوّابات يوانمينغيوان، بدا وكأنهم في حلم. كانت تلك مملكة سحرية مليئة بكلّ الكنوز التي يمكن تخيّلها. ولم يكن الجنود قلقين مثل قادتهم من احتمال محاسبتهم، فاعترفوا بأفعالهم واستعانوا بخيالاتهم. قال أحدهم: لقد صُعقت وذُهلت ممّا رأيته، فجأة بدت لي ألف ليلة وليلة قابلة للتصديق تماما، كان كلّ شيء أشبه ما يكون بحكاية خرافية".
وقال آخر: شعرتُ كأنني علاء الدين ممتلئا بالدهشة في قصره المسحور المرصوف بالذهب والألماس. ولوصف ما رأيته سأحتاج إلى إذابة جميع الأحجار الثمينة المعروفة في ذهب سائل ورسم صورة بريشة من الماس تحتوي شعيراتها على جميع خيالات شاعر من الشرق".
وحدث الدمار النهائي في نوع من الهذيان. ركض الجنود من غرفة إلى أخرى باحثين عن الغنائم. كان هياجا ونهبا معربدا وكأن الجميع قد أصيبوا بجنون مؤقّت. وبدا الأمر كما لو أن الحرب التي تنبّأت بها "أصوات الأسلاف" في قصيدة كولريدج قد وصلت أخيرا، وأن الأوروبيين هم الشياطين الذين ينفّذونها.
كان الأوروبيون قد وعدوا بـ "بداية جديدة" للصين و"مستقبل مشرق من التقدّم والتجارة الحرّة". لكن كان لا بدّ أوّلا من تدمير العالم القديم، إذ لا سبيل لنشر "الحضارة" إلا من خلال أعمال همجية. وقال بعض الانغليز: كان تدمير قصر الإمبراطور أقوى دليل على قوّتنا المتفوّقة، فقد أسهم في دحض قناعة الصينيين السخيفة بسيادة مُلكهم على العالم. ومع هذا النصر، برز الأوروبيون أخيرا كحكّام للعالم بلا منازع".

Credits
worldhistory.org

الخميس، فبراير 16، 2017

مقاطع من حلم/2


بسبب قصيدة كولريدج وكتابات ماركوبولو، تحوّلت زانادو (أو شانغدو كما تُسمّى بالصينية)، ومعها قصر قبلاي خان العظيم، إلى مكان أسطوريّ واُضفي عليها طابع رومانسيّ. وأصبح اسم المدينة اليوم كناية عن مكان غرائبيّ وساحر ولا يمكن بلوغه يقع في أعماق الشرق الغامض، مثل شانغريلا.
صحيح أن قصيدة كولريدج هي عن شخص ومكان ما، لكنّها أيضا عن كيف تستطيع أن تخلق أشياءً وتبني قصورا بالكلمات وحدها.
في الجزء الأوّل من القصيدة، توقّفنا عند حديث الشاعر عن التلّ الأخضر وغابة الأرز والمرأة عاشقة الشيطان.
وفي هذا الجزء نتناول بقيّة القصيدة. وستلاحظ مع القراءة كيف أن الشاعر يلوّن المزاج في هذه الطبيعة ولا يقدّم شخصيّات جديدة. لذا لا تدع التفاصيل تصرفك بعيدا عن القصّة الأساسية. وتذكّر دائما أننا نسمع وصفا لحلم أو رؤيا.
هل حدث لك ذات مرّة وأنت على وشك النوم أن لمعت صورة ما في عقلك ثم اختفت فجأة؟ شيء مثل هذا الإحساس المكثّف لمع في ذهن الشاعر للحظات عندما رأى صورة هذه المرأة وشيطانها قبل أن يختفيا.

  • ومن هذه الفجوة، وباضطرابٍ عارم دون توقّف،
    وكما لو أن هذه الأرض كانت تتنفّس بلهاثٍ ثقيل متسارع،
    تفجَّرتْ بغتةً نافورة ضخمة
    بين فتراتِ تقطّعها السريع انفجرت
    قِطَع ضخمة قافزة كبَرَدٍ وثّاب
    أو كهشيم القمح المتناثر تحت ضربات الدرّاسة
    وبين هذه الصخور الراقصة انبثق
    النهر المقدّس فوراً وإلى الأبد
    تأمّل هذه الكلمات القويّة والدراماتيكية: فجوة، اضطراب، دون توقّف. هذا النهر ليس هادئا، لا يسير بتثاقل أو كسل كالكثير من الأنهار، بل هو أقرب ما يكون إلى نوع من الأنهار الفانتازية والمستحيلة.
    طبعا من عادة الأنهار ألا تتوقّف عن الجريان، لذا لم يكن كولريدج بحاجة ليخبرنا أن النهر يجري في كلّ حين. لكنه أراد أن يجعلنا نفكّر في النهر كشيء يتمّ خلقه كلّ ثانية. وهو يريد أيضا أن يصوّر اندفاع الماء وتكسّره وهيجانه.
    كان الشاعر وزملاؤه الشعراء الرومانسيّون يحبّون مناظر مثل هذه، حيث القوّة الهائلة للطبيعة تنطلق من عقالها وتشقّ طريقها بعنف، وعلينا بعد ذلك أن نراقبها.
    ويبدو أن هذا المشهد أخذ خيال الشاعر بعيدا فحوّل الأرض إلى ما يشبه حيوانا يتنفّس. وهو يريدنا أن نسمعه ونشعر بالقوّة الساحقة لهذا النهر. كما انه يحافظ على هذه الحدّة والكثافة سطرا بعد سطر جاذبا القارئ نحو النهر مرّة إثر أخرى.
    يمكننا أن نحفر في كلّ واحدة من هذه الصور وألا نتوقّف عن النظر والتأمّل في كلّ سطر من هذه السطور. هل تشعر باندفاع الماء وتتخيّل تكسّر الأمواج فوق الصخور؟ إن كان الجواب نعم، فقد أدّت القصيدة وظيفتها.
    هذه الأسطر أشبه ما تكون بأوركسترا سيمفونية: شعور مندفع، أصوات وحماس. واستحضار الشاعر لكل هذه القوّة الطاغية للطبيعة في القصيدة هو طريقة لجعلك تفكّر في الحبّ والموت والروح والخلود. والشاعر يريد من ورائها أن يشدّ انتباهك وأن يأخذك معه بعيدا.

  • خمسةَ أميالٍ متعرِّجة بحركة محيِّرة
    خلال غابة ووادٍ جرى النهر المقدَّس
    وبعدها وصل الكهوف التي لا يدرك إنسان مداها
    وغارَ في جلبةٍ في بحرٍ لا حياة فيه
    فجأة تهدأ الأشياء قليلا. والنهر يصل إلى سهل مستوٍ من الوادي حيث يقع زانادو، ثم يبدأ "متعرّجا بحركة محيّرة". الآن أصبحنا نعرف قصّة النهر بأكمله من منظور شخص ما في زانادو. النهر يجري والماء يتحرّك بسرعة وبثورة كما لو انه شلال، ثم لا يلبث أن يهدّئ من سيره ويمرّ عبر زانادو لخمسة أميال حتى يصل إلى الكهوف.
    لا أحد يعرف عمق تلك الكهوف، إنها ضخمة بحيث يستحيل قياسها. لكنّنا نعرف أنها تحتوي على محيط تحت الأرض يصبّ فيه النهر. هل تتذكّر عبارة "بحر بلا شمس"؟ إنها تعود مرّة أخرى هنا على صورة "بحر لا حياة فيه". وصفان مختلفان، لكنّهما يوصلان نفس المعنى الكئيب.

  • ووسط هذه الجلبة سمع قبلاي من بعيد أصوات
    أسلافِه متنبّئةً بحرب
    إلى ما قبل هذه الفقرة، يبدو أن كولريدج نسي تماما قبلاي خان. والآن يعود إليه من جديد. الخان يراقب كلّ هذه الضوضاء، ومن خلالها يسمع من بعيد أصوات أسلافه الموتى وهم يتنبّئون بالحرب.
    بعد كلّ شيء، علينا أن نتذكّر أن هذا الرجل هو حفيد جنكيز خان. وهو لم يكن معروفا بحبّه للسلام، بل بحروبه وغزواته الكثيرة. ومن المرجّح انه قضى وقتا طويلا يفكّر بالحرب، حتى وهو يصيخ سمعه إلى صوت المياه المتكسّرة للنهر. هذه الصورة تأخذنا إلى الجزء الأكثر عنفا من القصيدة.


  • في منتصف طريقه طفا ظلّ قُبّة الابتهاج على الأمواج
    حيث سُمع ما اختلط
    من النافورة ومن الكهوف
    ننظر الآن إلى الخارج، إلى القبّة والظلال التي تلقيها فوق المحيط. في أربعة اسطر فقط نحصل على الأمواج والكهوف والنافورة وقبّة الابتهاج.
    كلّ شيء مختلط هنا، بما في ذلك الأصوات المختلفة للنهر. في الواقع هناك أنواع من الموسيقى في هذه القصيدة، لكنّها موسيقى غريبة وغير منتظمة.

  • كان معجزة لاختراعٍ نادر
    قبّةُ ابتهاج مُشمسة بكهوف من ثلج
    هذان السطران السريعان يأخذانا إلى نفس التباينات التي رأيناها في القصر والنهر. في الأبيات الاستهلالية، لم يقل الشاعر شيئا عن برودة الكهوف أو سخونة القبّة. لكنه يوضّح هذه الأشياء هنا. ثمّة عالم من التباينات: العالم الطبيعيّ مقابل العالم الذي صنعه الإنسان، المُشمس والمُثلج، فوق الأرض وتحتها.

  • صبيّةً بسنطور
    رأيت ذات مرةٍ في الرؤيا
    فتاة حبشيّة
    وعلى سُنطورها نقرت
    مغنيّةً جبل أبورا
    الآن تأخذ القصيدة انعطافة كبيرة. ومن دون سابق إنذار، يغيّر الشاعر الموضوع ويبدأ في وصف رؤيا أخرى رآها من قبل. يرى فتاة يخبرنا عنها ثلاثة أشياء في ثلاثة اسطر: هي حبشية، وتعزف على سنطور، وتغنّي أغنية من مكان يُسمّى "جبل ابورا" وهو من اختراع كولريدج.
    لماذا هذه الصور الثلاث معا؟ نحتاج لأن نتمعّن قليلا لنرى إن كان هناك نوع من الشفرة أو الرمز. البعض يعتقد أن الشاعر يشير إلى مكان ما في إثيوبيا، والبعض الآخر يظنّ أنها إشارة مقتبسة من الإنجيل، والبعض الثالث يعتقد انه مكان ذكره جون ميلتون في روايته "البحث عن الفردوس المفقود".
    ربّما كان كولريدج يريد إضفاء بعض الغموض على هذا الجزء بالذات من القصيدة. وكان بإمكانه أن يوضّح أكثر فيما لو أراد. لكن كلّ هذه الأحلام والرؤى خاصّة ولا يمكن تفسيرها. وهذا الإحساس بالغموض هو احد الأسباب التي تجعل من هذه القصيدة قصيدة جميلة.

  • هل أستطيع أن أحيِي في داخلي
    سيمفونيّتها وأغنيتها
    بمثل هذا الابتهاج العميق قد تملكني
    بذاك، بموسيقى هادرة وطويلة
    أريد أن أبني تلك القبّةَ في الهواء
    تلك القبّة المشمسة! تلك الكهوف من الثلج!
    وكلّ من سمع يجب أن يراها هناك
    الآن ينظر الشاعر إلى الوراء متذكّرا الموسيقى التي سمعها في الرؤيا. يستطيع أن يصفها، لكن ليس بمقدوره أن يعود إلى الوراء لتجريب ذلك الشعور المكثّف. ومع ذلك هو يتطلّع لتلك التجربة، إلى الشعور بالدهشة الذي اختفى مع تلك الرؤيا.
    الشاعر يريد أن يبعث الموسيقى من جديد، أن يعيدها إلى الحياة. ولو استطاع إن يتواصل مع تلك الرؤيا، فإنه يتخيّل أنها يمكن أن تلهمه وتسمح له بخلق أشياء مدهشة هو نفسه.
    موسيقى المرأة ستملأ روحه، ومن خلالها يمكنه هو أيضا أن يجعل موسيقاه شجيّة وعالية. وهذه الموسيقى ستمكّنه من استعادة روح زانادو كي "يبني تلك القبّة في الهواء".
    كلّ هذا قد يبدو غريبا للوهلة الأولى عندما تتأمّله، رغم أن هذا وصف عظيم لما يمكن أن يفعله كلّ فنّان. فالمؤلّفون الموسيقيّون والشعراء جميعهم يبنون أشياءهم في الهواء، يستخدمون الكلمات والأحداث لجعل رؤاهم تتحقّق في واقع الحياة.
    والشاعر يقول انه يتمنّى أن يعيش التجربة الموسيقيّة مرّة أخرى، وهذا هو بالفعل ما يفعله في القصيدة. انه يستخدم الكلمات كي ينقلنا معه لنعيش ما رآه "وكلّ من سمع يجب أن يراها هناك".

  • والكلّ يجب أن يصرخ، حذارِ! حذارِ
    عيناه المتوّهّجتان، شعره المسترسِل!
    اِنسجْ دائرة حوله ثلاث مرّات
    واغمض عينيك برهبة مقَدَّسة
    لأنّه تغذّى على المنّ
    وشرب حليب الفردوس
    لكنّ هذه الرؤيا ليست فقط عن قبّة. فالشاعر عندما يناجي زانادو، فإنه أيضا يستحضر روحا غريبة. وهذا المخلوق الآخر أكثر إثارة للخوف من القصر ومن الكهوف والمحيط.
    في بعض أفلام الرعب، يحدث أحيانا أن يتفوّه مجموعة من الأطفال بكلمة سحرية ثلاث مرّات كي يستدعوا مخلوقا شرّيرا. تلك الفكرة تشبه هذه. والشاعر يتخيّل انه لو تحقّقت رؤياه، فإنها ستخيف البشر وتجعلهم يصرخون "حذارِ حذارِ".
    إنه يصف شخصا مخيفا بعينين متوقّدتين وشعر مسترسل. وهذا المخلوق مخيف جدّا، لدرجة أن عليك أن تقوم ببعض الطقوس السحرية لحماية نفسك من شيطانه "إنسج دائرة حوله ثلاث مرّات".
    ما هي هذه الروح الغريبة؟ الشاعر لا يقول عنها شيئا. ربّما كان يتحدّث عن نفسه. وربّما أصبحت أغنيته الخاصّة ورؤياه قويّة جدّا لدرجة أنها تحوّلت إلى نوع من الإله يأكل "المنّ ويشرب حليب الفردوس". وقد تكون هذه الصور إشارة إلى الأفيون الذي تعاطاه كولريدج قبل أن ينام تلك الليلة والذي جعل هذا الحلم ممكنا في المقام الأوّل.
    أو قد تكون هذه هي الرؤيا الأخيرة لقبلاي خان نفسه بتحوّله إلى نوع من المخلوقات الغريبة والجديدة. لكن الذي يبقى معنا هو الصورة المكثّفة التي أصبحت أكثر تشويقا بفضل وصفها الغامض.

  • Credits
    poemanalysis.com
    alchetron.com

    الاثنين، فبراير 13، 2017

    مقاطع من حلم/1


    من أشهر قصائد الشعر الرومانسيّ قصيدة "قبلاي خان" التي كتبها الشاعر الانجليزي سامويل تيلر كولريدج عام 1816م. وفيها يصف "زانادو" مقرّ إقامة الإمبراطور المغولي قبلاي خان (1215-1294)، حفيد جنكيز خان.
    تبدأ القصيدة بوصف قصر الإمبراطور الذي يسمّيه الشاعر "قصر الابتهاج". وهو يخبرنا عن نهر يجري عبر الأرض ثم يفيض من خلال بعض الكهوف إلى أن ينتهي به المطاف في البحر.
    كما يتحدّث الشاعر عن الأرض الخصبة التي تحيط بالقصر والتي تغطّيها الجداول والأشجار العطرية والغابات الساحرة.
    ثم ينتقل للحديث عن النهر ثانيةً وعن الوادي الجميل الذي يمرّ من خلاله. وهو يصوّر المكان بطريقة تبعث على الرهبة، حيث يمكنك أن تجد هناك امرأة تنتظر مقدم حبيبها الشيطان.
    ثم يصف كيف أن النهر يتكسّر عبر الوادي مُحدثا ما يشبه النافورة قبل أن يتسرّب ماؤه إلى الكهوف الأرضية ومنها إلى المحيط البعيد.
    ثم يتحدّث كولريدج عن قبلاي خان نفسه الذي يستمع إلى ضجيج النهر ويفكّر في الحرب.
    بعد ذلك ينتقل الشاعر بعيدا عن هذه الطبيعة ليخبرنا عن رؤيا رآها، هي عبارة عن امرأة تعزف آلة موسيقية وتغنّي أغنية تثير ذكرياته وتملؤه شوقا وشغفا. وهو يوظّف هذه الأغنية ليتخيّل نفسه وهو يغنّي أغنيته الخاصّة ولكي يرسم من خلالها رؤياه عن "زانادو".
    وقبل نهاية القصيدة، يرسم الشاعر صورة لشخص مرعب بعينين تقدحان الشرر. وهذا الشخص ليس سوى قبلاي خان نفسه الذي يصوّره كمخلوق قويّ جدّا وأقرب ما يكون لإله.
    وأنت تقرأ هذه القصيدة، لا بدّ وأن تتخيّل أن كولريدج كان يلقيها في حشد من الناس محاولا دغدغة مشاعرهم. وهو يخصّص سطورا كثيرة من قصيدته لوصف الطبيعة، النهر والكهوف والبحر.
    والقصيدة تبدو مثل سيمفونية تتضمّن جميع الأصوات والحركات والأنغام. مثلا عندما يتكسّر النهر عبر الكهوف الكامنة تحت الأرض فلا بدّ أن تتخيّل قوّة اندفاع وجيشان الماء.
    والشاعر يجد عددا من الأشياء المثيرة في الطبيعة والتي يوظّفها لخلق جوّ القصيدة. كما انه واقع بالكامل في اسر القوى التي يراها في عالم الطبيعة. وهذه سمة معروفة عن شعر كولريدج وشعر الرومانسيين عامّة.
    في هذه القصيدة لن تجد جنساً ولا أيّ نوع من الإثارة الحسّية، لكنها تتضمّن عددا من الصور المزعجة.
    في السطور التالية، سنتناول هذه القصيدة مقطعاً مقطعاً بالتحليل والتعليق كي نكتشف بعض صورها وجمالياتها. علما بأن الترجمة العربية المعتمدة هنا للقصيدة هي ترجمة الدكتور بهجت عبّاس، بحكم كونها الأقرب إلى روح وجوّ القصيدة.

  • في زانادو أصدر قبلاي خان
    قراراً ببناء قبّة ابتهاج فخمة
    هذا استهلال مشهور. ولا بدّ أن هذا المقطع لزمه عمل كثير. وهو يقدّم القارئ إلى شخصية العنوان، أي قبلاي خان. العنوان نفسه بسيط وسهل، اسم عظيم وجميل فعلا، كما انه يبدو قويّا وغامضا.
    ثم يبدأ الشاعر بوصف المكان المدهش الذي تجري فيه القصيدة، أي زانادو. "قبّة الابتهاج الفخمة" تعني أن الإمبراطور المغولي بنى قصرا رائعا وبديعا حقّا.
    لنتذكّر أن قبلاي خان كان يحكم امبراطورية شاسعة كانت حدودها تمتدّ من هنغاريا إلى كوريا. ولا بدّ وأنه كان بحاجة إلى مثل هذا القصر الصيفيّ الفخم في زانادو كي يوفّر له الراحة والحماية.
    في ما بعد، زاره في ذلك القصر الرحّالة الايطالي ماركوبولو الذي كان لكتاباته دور مهمّ جدّا في الشهرة الأسطورية لذلك القصر.
    طبعا وأنت تقرأ لا بدّ وأن تسأل نفسك: هل الشخص والمكان حقيقيّان أم أنهما يبدوان خياليّين تماما؟ ربّما الإجابة هي مزيج من نعم ولا، كما سنرى بعد قليل.

  • حيث جرى النهر المقدَّس "ألف"
    خلالَ كهوفٍ لا يستطيع إنسان إدراك مداها
    أسفل إلى بحرٍ لا تطلع عليه شمس
    يتحوّل الشاعر الآن إلى وصف جغرافية زانادو ويقدّمنا إلى نهر ألف. بالتأكيد لا يوجد نهر بهذا الاسم في منغوليا لا الآن ولا في زمن قبلاي خان.
    وبعض المؤرّخين يقولون إن هذه إشارة إلى نهر ألفيوس، وهو نهر في اليونان كان مشهورا في الأدب الكلاسيكيّ. لكن اسم "ألف" قد يدفعنا للتفكير في الحرف الإغريقيّ "ألفا" أوّل حروف الأبجدية الإغريقية ورمز البدايات.
    هذه الارتباطات، بل وحتى حقيقة أن النهر له اسم، يجعل "ألف" اسما بارزا في بداية القصيدة. لاحظ كيف أن كولريدج يتحرّك بعيدا عن التاريخ وهو يحوّل هذا المكان وهذا الشخص وهذه القصّة إلى شيء من ابتكاره هو.
    "قبلاي خان" هي بالتأكيد قصيدة بقدر ما هي رحلة خيالية، لأنها عن عالم حقيقيّ. وعندما يتحدّث الشاعر عن "كهوف لا يستطيع إنسان إدراك مداها"، يصبح لدينا شعور بأن هذه الطبيعة ضخمة وغير معروفة.
    وهذا الشعور يلازمنا عندما نصل إلى "البحر الذي لا تطلع عليه الشمس"، وهي صورة كئيبة فعلا. فأن تجد بحرا لا تطلع عليه الشمس، هذا ليس مدعاة للبهجة أو السرور أو غيرها من المشاعر التي يعكسها منظر البحر عادة.

  • لذا أُحيطت عشرةُ أميالٍ
    من الأرض الخصبة بحيطان وأبراجٍ
    ووُجدت هناك حدائقُ زاهرة بجداولَ مُتعرِّجة
    حيث أزهر كثير من شجر البخور
    وهنا كانت غابات قديمة كالتِّلال
    تحتضن بقعاً خضراءَ مشمسة
    الآن أصبحت الأمور أكثر مدعاةً للارتياح. الشاعر يأخذنا بعيدا عن تلك الكهوف التي لا نهاية لها ويخبرنا قليلا عن الحدائق التي تحيط بالقصر. وربّما تكون قد لاحظت أن اللغة أصبحت جميلة هنا. كولريدج كان غالبا يستخدم لغة جميلة ليصف مفاهيم بسيطة وأساسية.
    وهو هنا يقيم تباينا بين الكهوف المخيفة والغريبة والفراغ المريح والمألوف حول القصر. وهو يصف كيف أن القصر محاط بالأسوار والأبراج. وبينما الكهوف لا يمكن إدراكها، إلا أن هذا الفراغ يمكن إدراكه تماما وقياسه "عشرة أميال".
    كلّ شيء عن هذا المكان يُشعر الإنسان بالأمان والسعادة. فهو محميّ بالأسوار، وهو خصب، والحدائق "مزهرة"، وحتى الأشجار رائحتها شذيّة بسبب شجر البخور. ورغم أن الغابات "قديمة"، إلا أن الشاعر يتمكّن من جعلها تبدو مريحة أيضا، فهو يخبرنا أنها "تحتضن بقعاً خضراء مشمسة".
    والغابة تلتفّ حول تلك الأماكن المشمسة الصغيرة وتجعلها آمنة، مثلما أن الأسوار تلتفّ حول القصر وتجعله بمأمن. عالم الطبيعة في الخارج فطريّ وغريب. لكن داخل أسوار القصر تبدو الأشياء جميلة ومحميّة.
    ومن الواضح أن الشاعر لا يبدو منجذبا إلى الطبيعة المستبدّة لقبلاي خان، وهو ما كان يتوقّعه منه قرّاؤه. خان كولريدج اقرب ما يكون إلى الفنّان الذي يهوى المعمار وزراعة الحدائق المليئة بالروائح الشذيّة والجداول الرقراقة، المعزولة عن العالم الخارجيّ بأسوار وأبراج حصينة.

  • ولكنْ آه! تلك الفجوة الرومانسية التي انحدرت
    أسفل التلّ الأخضر عبر غابة من شجر الأرز!
    مكان موحش قاسٍ! تحت قمرٍ آخذٍ في المحاق، كمكان مقدَّس
    وفتّان دوماً، مسحور بامرأةٍ نادبةٍ حبيبها الشيطان!
    هنا يعيدنا الشاعر إلى العالم الفطريّ المخيف قليلا، من خلال العودة إلى نهر ألف الذي يبدو ذا شخصية وكيان مستقلّ بذاته في القصيدة. زانادو تقع في وادٍ محاط بالتلال، والنهر يتدفّق على أطراف أحد تلك التلال حافرا عبره واديا جبليّا عميقا.
    التلّ بأكمله مغطّى بأشجار الأرز. والنهر عنيف ولا يمكن التحكّم فيه، كما انه لا يشبه تلك الجداول الصغيرة التي مررنا بها في الأسطر القليلة السابقة. والشاعر يبدو منجذبا إلى هذا النهر كما لو انه مغناطيس.
    كان بمقدور كولريدج أن يتخيّل نفسه جالسا في تلك الحدائق مع شخص يقدّم له العنب. لكن هذه "الفجوة الرومانسية" تروق له وتمنح القصيدة حياتها. هل تشعر بمدى حماس الشاعر وهو يصف النهر؟ إحدى الطرق التي أراد من خلالها أن يلفت انتباهنا إلى وصفه المتحمّس هي علامات التعجّب التي ملأ بها هذا الجزء من القصيدة.
    انظر فقط إلى هذين المثالين: "غابة من شجر الأرز" و"مكان موحش وقاسٍ". علامات التعجّب التي تعقبهما تجعل تلك الصور تتقافز إلى الذهن مباشرة. لكن ماذا عن المرأة "عاشقة الشيطان"، وذلك "القمر الآخذ في المحاق"؟! الشاعر يستخدم هذه الصور ليجعلك تعرف كيف تبدو تلك الفجوة "أو الفراغ" رومانسية.
    وهو أيضا يريد منّا أن نتخيّل امرأة أو ربّما شبح امرأة تسكن روحها المكان. يمكن أن تكون هذه المرأة قد تعرّضت للعنة أو ألقيت عليها تعويذة أو وقعت في حبّ روح شرّيرة.
    ولو أرادت هذه المرأة أن تصرخ عن مصيرها الرهيب أو أن تُفصح عن حزنها وغضبها وأشواقها، فأين يمكنها أن تذهب؟ ستذهب إلى مكان مثل هذا بالضبط: وادٍ جبليّ منعزل ومهجور حيث لا احد يستطيع سماعها باستثناء القمر الآخذ في المحاق. هذه الصورة مكثّفة فعلا وهي تعطينا لمحة عن القصّة الجديدة التي ستتكّشف ملامحها في الجزء الثاني.
  • الثلاثاء، يونيو 10، 2014

    البحث عن الظلام/2

    في الولايات المتحدة اقترحت إحدى الشركات أن تصمّم للشوارع العامّة أنوارا "ذات رنين قمريّ" عبارة عن مصابيح تستجيب لضوء القمر المحيط. وستكون هذه المصابيح مزوّدة بأجهزة استشعار بحيث تسطع أضواؤها أو تصبح باهتة تبعا لمراحل القمر والغطاء السحابي والعوامل البيئية الأخرى. وتأمل تلك الشركة أن تغيّر الأضواء الجديدة مفهومنا عن المدن في الليل وتساعد على تشجيع "الأنشطة المرتكزة على ضوء القمر".
    وفي زيارته إلى منطقة لومبارديا في شمال إيطاليا، يلاحظ المؤلّف بوغارد أن أعمدة النور هناك صُمّمت لتمنع الأضواء من الهرب أفقيّا أو لأعلى. وطبقا لمنظّمة ايطالية تدافع عن السماء المظلمة، فإن أكثر من 30 في المائة من الإضاءة العامّة موجّهة نحو السماء. وهناك دعوات متزايدة لاستخدام أعمدة الإنارة المعدّلة التي تهدف إلى الحدّ من هذه الأضواء المهدرة وتوفير الطاقة والاكتفاء منها بالحدّ الأدنى الذي يوفّر إضاءة مشرقة ومعقولة.
    وفي جزء آخر من الكتاب يتحدّث المؤلّف عن مستوى الرؤية ليلا في فينيسيا؛ المدينة الايطالية التي يبلغ عدد سكّانها أكثر من 250 ألف شخص والتي يمكن أن ترى في سمائها مجرّة درب التبّانة بوضوح. وهو يعزو هذا الأمر إلى الأضواء الرومانتيكية الفريدة والمتقشّفة في هذه المدينة.
    وينقل الكاتب عن احد العلماء قوله بأن هناك في الواقع قياسا كمّيا لعدد النجوم التي يحتاج الإنسان لرؤيتها في سماء الليل. وبعض علماء الفلك يقولون إن عين الإنسان ينبغي أن ترى ما لا يقلّ عن 2500 نجم ليلا لاستحضار ذلك النوع من الشعور بالارتباط بالماضي وبالكون ككلّ.
    وقد ذهب المؤلّف أيضا إلى فلورنسا مترسّما خطى العالم العظيم غاليليو واكتشف أنهم ما يزالون يحتفظون باثنين من التلسكوبات الأربعة التي كان يستخدمها. وقد قال له عالم فلك هناك شيئا مدهشا. قال انه إلى ما قبل حوالي 400 عام في فلورنسا، كان بإمكان الجميع أن يروا النجوم، ولكن كان عند غاليليو لوحده تلسكوب. "والآن الجميع لديهم تلسكوبات، ولكن لا أحد يمكنه رؤية النجوم".

    ❉ ❉ ❉

    وفي أكثر من مكان من هذا الكتاب، يعبّر المؤلّف عن حزنه، ليس فقط لأنه فقد ضوء النجوم، وإنّما الظلام نفسه أيضا. وهو يجادل بأن فقدان الظلام لا يسبّب فقط آثارا صحّية وبيئية عديدة، ولكنه يمثّل خسارة عاطفية وجمالية بنفس الوقت.
    لقد عطّل التلوّث الضوئي العلاقة الأساسية التي تطوّرت بين البشر والعالم الطبيعيّ. وهناك في التراث الإنساني ما يشير إلى أن الظلام له تأثيره على الممارسات الثقافية والاجتماعية. وطوال التاريخ البشري ظلّت السماء الليلية تحتفظ بتساميها وجمالها اللذين يلهمان الرهبة.
    الليل كان دائما ارض الألفة والحميمية والخيال. أما الظلام فكان وما يزال جزءا من عملية الإبداع والخلق. وكل فنّان يعرف ذلك. وما يؤسَف له أننا أصبحنا بعيدين عن زمن أشخاص مثل فان غوخ وهنري ثورو وغيرهما عندما كانت سماء الليل تخبرنا قصصا عن حياتنا وعن أقدارنا.
    ويشير المؤلّف إلى نظرية الكاتب والفيلسوف الأمريكي هنري ديفيد ثورو التي ضمّنها كتابه "الحياة في الغابات" والتي يقول فيها إن الخوف الذي نشعر به في الليل أمر طبيعيّ، بل ومفيد أيضا لأنه يدفعنا للشعور المتزايد بالحياة والحيوية، كما انه يسمح لنا من خلال الظلام بمواجهة بعض إيحاءات موتنا الذي لا مفرّ منه في النهاية".

    ويورد الكاتب أيضا قصّة عن الشاعر الانجليزي سامويل تيلر كولريدج الذي كان من عادته أن يتمشّى مسافات طويلة في منتصف الليل وتحت ضوء النجوم مع احد أصدقائه حتى الثالثة صباحا وهما يتحدّثان. ثمّ يعبّر عن أسفه لأن مثل هذه الأنشطة الليلية المرتبطة بالظلام وبغياب الضوء أصبحت مفقودة من حياتنا اليوم.

    ❉ ❉ ❉

    بوغارد نفسه يتصرّف مثل مستحضر للأرواح الطيّبة يسعى وراء الظلام في أيّ مكان يتوقّع أن يعثر عليه فيه، ثم يجلس ليراقبه ويتأمّله ويسجّل بعضا من انطباعاته ومشاهداته.
    يقول مثلا: عندما أستلقي على ظهري وأغمض عينيّ، فإن هذا الطرف البعيد من الشاطئ بالقرب من نهاية المحيط يبدو أشبه ما يكون بكائن هائل يتنفّس. الذين يعيشون هنا لوحدهم ومن دون أضواء يصبحون بالفعل ذوي حساسية عالية تجاه المواسم والإيقاعات والطقس والأصوات وصولا إلى جوار البحر وما تحت السماء. الأمر يشبه أن تستلقي إلى جوار شخص تحبّه فتسمع حركة دمه وأنفاسه ودقّات قلبه".
    ويقول في مكان آخر: بعينيّ المجرّدتين، انظرُ إلى القمر في الليل وهو يصعد ببطء. أحيانا يبدو مغبّرا بالصدأ وبالألوان الزهريّة والبنّية والذهبيّة، لدرجة انه يكاد يقطر ألوانا أرضيّة ويُخيّل إليك كما لو أن ضفائره مربوطة بالأرض وأنه يشعر بكونه قريبا من هذا العالم وجزءا منه وأنه صديق. ولكن المفارقة أن القمر من خلال التلسكوب يبدو أكثر بُعدا. القمر الرماديّ والأبيض يظهر في بحر من السواد، سطحه أكثر إشراقا، ولا بدّ وأن تُذهل من الصمت المطلق للمشهد".
    وفي مكان ثالث يقول: في معظم الأيّام، أعيش مرعوبا من هذا العالم أكثر من حزني على العوالم التي فقدناها: الشمس المشرقة الصافية لظهيرة شتوية متجمّدة، أو صعود كوكبة الجبّار في أمسيات الليل الشرقية كلّ ليلة. يمكنك أن تشعر بالحزن إلى ما لا نهاية على الأطفال الجائعين وعلى ضحايا العنف المنزلي وعلى حروب لا نهاية لها بين بشر يُفترض أنهم ناضجون. لكن لا يجب أن تخاف إن رأيت الحزن منتصبا أمامك اكبر من أيّ شيء آخر رأيته من قبل، كما يقول الشاعر الألماني ريلكا. ومع ذلك، يجب أن تدرك أن الحياة لم تنسَك، وأنها تضمّك إليها ولا تسمح لك بأن تقع".

    ❉ ❉ ❉

    في نهاية الكتاب، يعيد إلينا المؤلّف الوعي بالسماء الليلية المظلمة والبدائية، وكيف أنها في التجربة الإنسانية كلّ شيء، من العلم إلى الفنّ إلى الشعر. "لقد جرّدنا أنفسنا وأطفالنا من متعة السماء الرائعة في الليل والتي ألهمت الفنّ والعلوم والدين والفلسفة منذ فجر التاريخ البشري. إننا نسرف في إضاءة الممرّات والشرفات ومواقف السيّارات وواجهات المحلات والطرق السريعة والأماكن العامّة. ولهذا أصبحت السماء الليلية الآن من الأنواع المهدّدة بالانقراض".
    ويضيف: هذا الكتاب ليس دعوة للتخلّص من الضوء والعودة إلى الظلام، لأن الضوء في الليل مدهش. انه معجزة، والناس لن يتحمّلوا عدم وجود ضوء على أيّ حال. ولكن هناك الكثير من الأشياء التي يمكن القيام بها للسيطرة عليه واحتوائه واستخدامه بذكاء ومسئولية. بإمكاننا مثلا أن نستخدم ضوءا أقلّ كثيرا من الضوء الذي نستخدمه الآن لمسائل السلامة والأمن وإنارة الشوارع. لقد تطوّرت الحياة على الأرض بنهارات مشرقة مع ليال مظلمة، ونحن بحاجة إلى كليهما".

    Credits
    patheos.com
    paul-bogard.com
    spiritualityandpractice.com

    السبت، مايو 18، 2013

    الأساطير واللغة 2 من 2

    وُجدت الأساطير مع الإنسان منذ آلاف السنين. وقراءتها تساعدنا على فهم الحياة والتجربة الإنسانية بشكل أفضل وتزيد معرفتنا بالماضي وبالكثير من الحضارات التي سادت ثم بادت. كما أنها تعلّمنا بأن هناك الكثير من الأديان والثقافات في هذا العالم، وبالتالي تجعلنا أكثر تسامحا وانفتاحا.
    بعض الأساطير أسهمت في صياغة الأديان وفي تشكيل تاريخ العديد من الأقوام والحضارات. وبعضها كان وما يزال مصدرا للكثير من الأعمال الشعرية والمسرحية والأدبية والموسيقية والفلسفية.
    الأساطير القديمة ما تزال تعيش معنا في ثقافتنا ونجد لها مرجعيات في العديد من المفردات والتعبيرات اللغوية المعاصرة.

  • أغاني السيرانات:
    في بعض الأحيان، نسمع أو نقرأ عبارة "أغاني السيرانات". والسيرانات هنّ حوريّات بحر بملامح فاتنة. كنّ يستلقين على الشواطئ للإيقاع بالبحّارة من خلال أغانيهنّ الساحرة التي تصيب عقل من يسمعها بالخبل والذهول. الإغريق المتأخّرون يصفونهنّ كنساء لهنّ أجنحة الطيور، وهي صورة مستعارة من قدامى المصريين.
    أغاني الحوريّات، لفرط جمالها، تصيب العقل بالتشوّش والذهول لأنها تعمل على شلّ قدرة الإنسان على التفكير والحكم العقلاني على الأمور. في الأوديسّا، تحذّر سيرسي اوديسيوس من الاستماع إلى السيرانات لأن أغانيهنّ قد تدفعه إلى الجنون. كما تحثّ بحّارته على ربطه بالسارية وسدّ أذنيه بالشمع كي تكونا منيعتين على الاستماع لتلك الأغاني الساحرة.
    أسطورة السيرانات يبدو أنها موجودة في العديد من ثقافات العالم. في الأسطورة هنّ مخلوقات خطيرة جدّا، ولكنهنّ أيضا يتمتّعن بجاذبية لا تقاوَم. كما يمكن اعتبار قصّتهن أمّاً لجميع الرموز الأسطورية الأنثوية، فهنّ مثيرات وفاتنات وقويّات.
    في جميع الحضارات القديمة تقريبا، كانت الأنثى تُعبد كآلهة، وفي نفس الوقت يُخشى جانبها كشيطان. والسيرانات يجسّدن جوهر السحر الذي تملكه المرأة وتزهو به على الرجل. لكن في الفنّ، فإن الأسطورة تتحدّث إلى الجنسين. وهي، بمعنى ما، تمثّل كلّ تلك الأشياء التي يقضي الإنسان حياته وهو يتجنّبها خوفا، لكنّه يندم على ذلك في النهاية.
    السيرانات نجدها اليوم في العديد من الأعمال الفنّية والأدبية وفي شعار شركة ستاربكس وفي رواية فرانز كافكا بعنوان صمت السيرانات .
    في وقتنا الحاضر، تكتسب أغاني السيرانات معنى مجازيّا. فالساسة الذين يبذلون للناس الوعود السخيّة والبرّاقة كي ينتخبوهم، إنما يعكسون بهذه الوعود معرفتهم بسيكولوجيا الإنسان وميله لتصديق الكلام المنمّق والمعسول. لذا فإن هؤلاء الساسة بارعون في غناء السيرانات، وبالنتيجة فإن الناس يميلون إلى الافتتان بـ "غنائهم" وتصديق وعودهم.

  • حصان طروادة:
    تتحدّث هذه الأسطورة عن إحدى أكثر الحيل شهرة في جميع العصور. الحرب بين الإغريق وأهل طروادة هي الآن في عامها العاشر. الطرواديّون شعروا بالابتهاج عندما استيقظوا في صباح احد الأيّام ليجدوا أن الجيش الإغريقي الذي كان يحاصر مدينتهم قد غادر أخيرا. غير أن الإغريق تركوا وراءهم هديّة غريبة هي عبارة عن حصان خشبيّ عملاق.
    تنفّس الطرواديّون الصعداء لأنهم اعتقدوا أنهم ارتاحوا أخيرا بعد أن خاضوا حربا ضارية وطويلة. وعندما رأوا الحصان الضخم أمام بوّابة مدينتهم ظنّوه رمزا للسلام وتحيّة للإلهة أثينا. لكنّ بعض الأهالي خمّنوا أن الحصان الخشبي قد يكون خدعة وأنه من الأسلم أن يتمّ إحراقه في مكانه.
    عرّاف المدينة، واسمه لوكون، حذّر الملك برايام حاكم المدينة من الحصان قائلا انه مكيدة وليس رمزا للسلام. غير أن بوسيدون، إله البحر، الذي كان يقف إلى جانب الإغريق، أرسل إحدى أفاعي البحر الضخمة كي تقتل لوكون وولديه. برايام ظنّ أن لوكون قُتل لأنه أدلى بنبوءة كاذبة. لذا أمر الملك بإحضار الحصان الخشبيّ إلى داخل أسوار المدينة.
    كان الإغريق قد وضعوا خطّة محكمة بعد عشر سنوات من الحصار الفاشل الذي فرضوه على طروادة. فقد تظاهروا بأنهم تخلّوا عن الحرب وقرّروا العودة إلى ديارهم. لكنهم تركوا ذلك الحصان الخشبيّ خارج الأسوار بعد أن ملئوه بالجند.
    وبعد يوم وليلة من الاحتفالات الصاخبة، انهار الطرواديون من الإنهاك الشديد بسبب إفراطهم في شرب النبيذ. الجنود الإغريق الذين كانوا مختبئين داخل الحصان استغلّوا الوضع وخرجوا من مخبئهم وفتحوا بوّابة المدينة. ثم دخل الجيش الغازي بأكمله إلى داخل المدينة وسوّوا أسوارها بالأرض ثم باشروا في قتل أو أسر جميع سكّانها.
    أسطورة حصان طروادة تحمل رمزيّة رائعة، وهي تعيدنا إلى ماض بعيد كان يخلو تقريبا من اللغة، وإلى مكان كانت فيه الرموز مرتبطة ارتباطا وثيقا بسعي الإنسان للبقاء على قيد الحياة. الحصان هو رمز للحرب، لكنه بنفس الوقت نموذج أصيل لقدرة الإنسان على الابتكار وعلى التدمير. كان حصان طروادة الوسيلة المثلى لحسم نزاع ملحميّ طويل أدّى في النهاية إلى القضاء على حضارة.
    وعلى الرغم من أن هذه القصّة منشؤها التاريخ القديم، إلا أننا ما نزال إلى اليوم نستخدمها في لغة الخطاب اليومي. وعندما نطلق على شيء ما "حصان طروادة"، فإننا نعني أنه حسن المظهر ولكنّه ينطوي على نيّة شريرة بداخله.
    وقد يكون حصان طروادة شخصا أو جماعة ما تحاول الإطاحة بشركة أو بلد أو حكومة من الداخل. كما يمكن أن يُطلق هذا الوصف على مجموعة مخرّبة أو جهاز يتمّ دسّه داخل صفوف العدو، أو على هديّة تُقدّم إلى شخص ما بنيّة الخداع وإيقاع الضرر. وتنويعا على هذا المعنى، تُستخدم هذه العبارة لوصف نوع من برامج الفيروسات التي تبدو قانونية وبريئة في الظاهر، لكنّ تأثيرها مدمّر على جهاز الحاسوب الذي تُنصب عليه.


  • سهم كيوبيد:
    لآلاف السنين، ظلّ الناس يتساءلون عن الكيفية التي يقع فيها البشر في الحبّ، أو كيف ينجذبون عاطفيّا إلى بعضهم البعض. وكانوا يعتقدون أن قوى خارجية تضرب ضربتها فجأة وتجرّد الإنسان من إرادته الواعية.
    الدراسات الحديثة تؤكّد أن هناك استجابات فسيولوجية يتمّ تحفيزها بأنواع مختلفة من الكيمياء الداخلية، بما في ذلك الغدد الصمّاء والأدرينالين والاندورفين والأوكسيتوسين.
    اليونانيون القدماء كان لهم تفسيرهم الخاصّ عن سرّ الوقوع في الحب، إذ كانوا يعزون ذلك إلى ما يُعرف بسهم إيروس إله الحبّ. سهم إيروس "أو كيوبيد عند الرومان" يشير ضمنا إلى وجود الفيرومونات وغيرها من الإشارات الفيزيائية والكيميائية.
    لكن ما هو مفقود في هذه الأسطورة في كثير من الأحيان هو حقيقة أن إيروس أو كيوبيد كان له سهمان: احدهما ذهبيّ يجلب الحبّ والجاذبية، والآخر رصاصيّ يُُحدث الكراهية والتنافر.
    أبوليوس يشير إلى هذه الثنائية في روايته الشهيرة عن كيوبيد وسايكي، بينما تتضمّن ترنيمة هوميروس إلى أفرودايت مقطعا يقول إن الحبّ لا يعرف حدودا وأن الإلهة وابنها يضربان جميع المخلوقات الحيّة برغبة غير عقلانية.
    في أوّل مرّة ظهر فيها كيوبيد، وكان ذلك في كتاب التحوّلات لـ اوفيد، استخدم سهمه بطريقة شرّيرة. أبوللو تعمّد إهانته عندما وصفه بأنه ولد سخيف لا عمل له سوى إطلاق السهام. وقد انتقم منه كيوبيد بأن أطلق عليه سهما ذهبيّا ليجعله يقع في الحبّ، كما أطلق سهما آخر، رصاصيّا هذه المرّة، باتجاه دافني الجميلة ليجعلها تخشى الحبّ وتكرهه. لذا فإن أبوللو في القصّة يطارد دافني إلى أن تتحوّل إلى شجرة غار كي تهرب منه، وكلّ هذا بسبب سهام كيوبيد التي لا ترحم.

  • نهر ستيكس المظلم وكعب أخيل:
    كثيرا ما يأتي الحديث عن نهر ستيكس المظلم مترافقا مع الحديث عن كعب أخيل. في الأساطير اليونانية، كان نهر ستيكس حدّا فاصلا بين العالم العلوي للأحياء وعالم الموتى السفلي. كان النهر أسود لدرجة انه يستحيل رؤية أيّ شيء تحت سطحه.
    الإغريق كانوا يعتقدون أن آلهتهم لا تختلف كثيرا عن البشر من حيث أنها، هي أيضا، عرضة للأفكار والمشاعر الشرّيرة. الفارق الوحيد هو أن الآلهة اكبر وأقوى من البشر، كما أنها مستثناة من الشعور بالخوف من الموت.
    كان الموت بالنسبة لليونانيين القدماء شيئا مرعبا. تصوّرهم المأساوي عن أرض الموت الكئيبة هو الذي كان يدفعهم للتعلّق الشديد بالأرض ومباهجها. كانوا يعتقدون أن أرواح البشر بعد موتهم تسكن في منطقة باردة ومظلمة تُدعى هيديز. هناك يقضي الأموات وقتهم في البكاء والتطلّع للعودة إلى الأرض التي تركوها وراءهم.
    عندما تصل أرواح الموتى إلى نهر ستيكس، يتمّ نقلهم في قارب يقوده بحّار عجوز وغامض يقال له كيرون. البحّار لا يتكلّم أبدا إلى أيّ من ركّابه، كما أن أحدا منهم لا يتحدّث معه. صمت الموت يلفّ الجميع منذ اللحظة التي يستقرّون فيها على القارب.
    ويتوجّب على كلّ راكب أن يدفع لـ كيرون أجرا نظير نقله في قاربه. لذا كان اليونانيون يضعون عملة نقدية في فم كلّ شخص يموت. كما أن البحّار لا يحمل سوى أولئك الذي تمّ دفنهم بعد موتهم. ومصير كلّ من لا يفي بهذين الشرطين هو أن يهيم على وجهه على شاطئ النهر بلا هدف لمئات السنين. فيرجيل ودانتي وصفا في وقت لاحق الأرواح وهي تتدافع بشكل محموم ويائس على شاطئ نهر ستيكس للحصول على مكان في القارب.
    عندما تصل الأرواح إلى الشاطئ الآخر، تدخل من بوّابة كبيرة يحرسها كلب له ثلاثة رؤوس. وخلف هذه البوّابة يتمّ إصدار الحكم النهائي، فالأخيار يذهبون إلى الفردوس أو الحدائق السماويّة. أما الأشرار فيُرسلون إلى تارتاروس أو الجحيم، وهو مكان غامض تسكنه الأشباح والظلال والكوابيس.
    بعض علماء النفس يشيرون إلى أن تارتاروس، أو الجحيم، ليست سوى رمز لهذا العالم الذي نتقبّل فيه كلّ شيء ظاهريّا ودون نقد أو تمحيص. أمّا "الأجر" الذي يتقاضاه كيرون من ركّاب قاربه فهو رمز لشرط تخلّي الإنسان عن أي رغبة متبقيّة له في الواقع الماديّ الذي كان يعيش ضمنه قبل موته.
    نهر ستيكس هو رمز للانتقال من حالة الحياة إلى الموت. غير أن مياه هذا النهر هي التي منحت القوّة التي كانت تسعى إليها والدة أخيل لحماية ابنها.
    تذكر الأسطورة أن أخيل كان ابنا لـ ثيتيس، وهي حورية بحر ونصف إلهة. وأبوه كان بيليوس، ملك منطقة في جبل بيليون. وقد سمعت أمّه ذات مرّة كلام ساحرة تتحدّث عن موت أخيل في حرب ستحدث مستقبلا في طروادة. لذا أخذت الأمّ رضيعها إلى أن بلغت به نهر ستيكس المظلم كي تغمره في الماء ليصبح خالدا. كانت تمسك به من كاحله وهي تغمره. لذا أصبح جسده غير معرّض للخطر باستثناء بقعة واحدة فيه هي كعبه.
    لكن في وقت لاحق، مات أخيل قرب نهاية حرب طروادة نتيجة سهم أصابه في كعبه بعد قتله للبطل هيكتور. الأسطورة تشير إلى أن الجرح الذي أصاب أخيل كان مميتا لأن كعبه كان الموضع الوحيد الذي اجتمعت فيه قابليّته للفناء من شتّى أنحاء جسده. أوفيد يشير في "التحوّلات" إلى أن أبوللو هو من حدّد لـ باريس نقطة ضعف أخيل وساعده في مهمّة قتله.
    ومثل العديد من الأساطير، فإن وجود النهر في هذه الأسطورة يحمل رمزيّة خاصّة. فالنهر دائم الجريان ومياهه تتغيّر باستمرار. لذا فإن الأنهار رمز مثاليّ للتحوّلات والانتقال من طور لآخر. بل إنها تمثّل اكبر التحوّلات جميعا: أي الانتقال من الحياة إلى الموت، كما يجسّده نهر ستيكس الذي يجب أن يعبره جميع البشر قبل أن يدخلوا هيديز أو عالم الأموات.
    ورغم أن أسطورة أخيل قديمة جدّا، إلا أنها لم تدخل التداول اللغوي إلا في القرن التاسع عشر. وهي تُستخدم ككناية عن الضعف القاتل أو المنطقة الهشّة والسريعة العطب. وأوّل من استخدمها كان الشاعر الانجليزي سامويل تيلر كولريدج عندما وصف ايرلندا بأنها "الكعب الضعيف لـ أخيل البريطانيّ". هذه الأيّام، لو سمعت مديرا أو مسئولا يتحدّث عن احد أقسام مؤسّسته واصفا إيّاه بأنه "كعب أخيل" المؤسّسة، فالمقصود أن ذلك القسم لا يحقّق مكاسب أو أرباحا وأن بقاءه على هذا الوضع قد يشكّل خطرا على مستقبل الشركة.

    موضوع ذو صلة: نساء الأوديسّا
  • الاثنين، فبراير 11، 2013

    بين الإبداع والجنون

    الإبداع يتناقض مع كلّ ما هو طبيعيّ ومألوف. البعض يراه ثورة، رحلة إلى أرض مجهولة، لذا يجب أن يكون نوعا من الانحراف والغرائبية، ولا يمكن أن يكون شيئا آخر.
    هل هذا يعني انك، لكي تكون مبدعا، يجب أن لا تعيش حياة طبيعية؟ هذا السؤال صعب وخطير. وربّما كانت أفضل إجابة عليه هي ما حدث للشاعر الرومانسي الانجليزي سامويل تيلر كولريدج الذي أنهى قصيدته المشهورة قُبلاي خان بطريقة مفاجئة بعد أن أغلق عينيه برهبة مقدّسة:
    أريد أن أبني تلك القبّةَ في الهواء
    تلك القبّة المُشمسة
    تلك الكهوف الثلجية
    وكلُّ من سمع يجب أنْ يراها هناك
    والكلّ يجب أن يصرخ: حذارِ من عينيه المتوهّجتين
    ومن شعره العائم في الهواء
    خُطّوا حوله ثلاث دوائر
    وأغمِضوا أعينكم برَهبة مُقَدَّسة
    فقد كان طعامه المَنّ
    وشرابه حليب الفردوس..
    كان كولريدج شاعرا مشهورا وعضوا في جماعة كانت تُعرف بالشعراء الرومانسيين. وقد كتب هذه القصيدة الغريبة عام 1797، بعد أن استيقظ من حلم. كان قد تناول قبل نومه جرعة من عقار مخدّر كان يُستخدم في القرن التاسع عشر كمخفّف للألم.
    رأى الشاعر في المنام قصرا عظيما بناه الإمبراطور المغولي قبلاي خان في زانادو التي أصبحت عاصمة للمغول بعد استيلائهم على شمال غرب الصين. ويصف في القصيدة ما رآه من أنهار وينابيع مقدّسة، وقباب فخمة، وأسوار وبروج عالية، وجوارٍ يعزفن على الآلات الوترية، وأشجار بخور، وغابات قديمة، ونوافير ضخمة، وكهوف ثلجية مظلمة لا يُدرك مداها.
    كولريدج كان يحلم انه كان يكتب قصيدة بالفعل أثناء النوم. وعندما استيقظ بعد ساعات قليلة، جلس كي يدوّنها. وقد تحوّلت تلك القصيدة، بقافيتها الفريدة وتفاوت أطوال أبياتها وتركيزها المكثّف على الطبيعة، إلى واحدة من أكثر القصائد شهرة وخلودا في تاريخ الأدب الانجليزي كلّه. والقصيدة مثال ممتاز على الشعر الرومانسي وبرهان على أن أحلامك، مهما بدت غريبة وشاطحة، يمكن أن تتحوّل إلى تُحف إبداعية.
    الإبداع ضرورة وحاجة. لكن عندما يخطو الإنسان إلى الخارج، إلى حيث تلك الطرق الجانبية غير المتوقّعة التي تتقاطع مع السائد والنمطيّ، فإنه يصبح منبوذا. التغيير تهديد للعالم من حولنا. إعمل بشكل خلاق لتكتشف أن محيطك المباشر بدأ يرسم حولك دائرة ثلاث مرّات.
    الانجليز استخدموا ذات مرّة عبارة رائعة لوصف الشخص المبدع، عندما تحدّثوا عن "الجنون الجميل". والحقيقة أن لا احد يعرف حقّا ما هو العقل وإلى أين ينتهي. لكن الشذوذ الذي نسمّيه الإبداع يمتدّ إلى ما وراء خطّ المقبول والمتعارف عليه.
    ريتشارد داد كان رسّاما انجليزيا، وكان مجنونا. صحيح أن هذه الكلمة أصبحت خارج التداول في وقتنا الحاضر، لكن داد كان شخصا مجنونا فعلا، حتى بأكثر المقاييس تسامحاً هذه الأيّام.
    ولد هذا الفنّان في عام 1817م. وعندما بلغ السادسة والعشرين، كان قد أصبح رسّاما معروفا. ثمّ شرع في رحلة طويلة أخذته إلى أوروبّا والشرق الأوسط. وعاد من رحلته تلك مضطربا مشوّشا. كانت لديه أوهام بأنه مضطهد، وكان يزعم تلقّيه رسائل من أوزيريس إلهة المصريين القدماء. فعرضته عائلته على طبيب متخصّص في الأمراض العقلية وآثارها القانونية. وقرّر الطبيب أن داد إنسان خطير وأنه لم يعد مسئولا عن تصرّفاته.
    وبعد بضعة أيّام، أقدم الرجل على قتل والده. ثم هرب إلى باريس، وهناك قام بقتل احد الغرباء، فقُبض عليه واُرسل إلى انجلترا ليقضي بقيّة حياته في المصحّات العقلية. وقد توفّي في إحدى تلك المصحّات وكان عمره 69 عاما.
    قبل أن يُقْدم ريتشارد داد على ارتكاب جريمتي القتل، كان قد شارك بلوحتين في منافسة لرسم جدارية تاريخية اُريد لها أن تزيّن مبنى البرلمان البريطاني. وكانت اللوحتان معلّقتين هناك عندما ارتكب الجريمة. إحداهما كانت تصويرا حالما لمنظر في الصحراء يتضمّن جِمالا وبدواًًً ملتحين. كان عنوان اللوحة قافلة متوقّفة عند شاطئ البحر . وقد سبقت هذه اللوحة فنّ الصالون الذي أصبح بعد فترة قصيرة يحظى بشعبية كبيرة في كلّ من انجلترا وفرنسا.
    وجاءت أعداد كبيرة من الزوّار لرؤية لوحتيه بعد الجريمة. وحاول الصحفيّون والكتّاب تشخيص جنونه اعتمادا على رسوماته. وطوال السنوات الأربع والثلاثين التالية، ظلّ ريتشارد داد يرسم بلا انقطاع. وبطبيعة الحال، كانت هناك علاقة ما بين بعض رسوماته وبين الجنون. والغريب أن الرسّام وضع دراسات تحليلية عن الجنون وأسماها "رسومات لتوضيح المشاعر".
    مصحّات القرن التاسع عشر كان الغرض منها الحفاظ على المرضى وإبعادهم عن حساسيّات المجتمع الفيكتوري. ولكن، بطريقة أو بأخرى، تسرّبت لوحات داد ووصلت إلى المعارض. واستمتع الناس آنذاك بما رأوه، بمثل ما استمتعوا بالجنون المفترض للشاعر والرسّام الرومانسي وليام بليك. وكتب أحد الصحفيين واصفاً حالة هذين الرسّامََين بقوله: يمكن أن نصنّفهما معا بأنهما مثالان لفنّانين ساعدهما خلل في الدماغ، بدل أن يعيق ذلك الخلل نشاط خيالهما الأصيل والخصب".
    ربّما لم يكن بليك يسمع أصوات الشياطين وهي تأمره بالقتل، مثلما حدث مع داد. لكنّ عقله الخصب، مثل عقل داد، ارتاد أرضا جديدة. والفيكتوريون، بالتأكيد، كانوا يرون أن الإبداع صنو للجنون.
    العمل الأكثر نجاحا لـ ريتشارد داد كان صورة ودودة رسمها للطبيب الكسندر موريسون الذي كان يرعاه ويعتني به في المصحّة ويحثّه على العودة إلى الرسم بعد ارتكابه للجريمة.
    في عام 1974، نظّم تيت غاليري معرضا هامّا لرسومات داد، ليس لأنه كان مجنونا، وإنما لأن أعماله كانت جيّدة. وإذا صحّ أن الرسّام كان مجنونا في الحياة، فإن ممّا لا شكّ فيه أن تركيزه الفنّي كان صافيا وأن مشاعره قادته إلى مهمّة واضحة، وهي مساعدتنا على أن نرى العالم من حولنا بشكل أوضح.
    بالمناسبة، نجا ريتشارد داد من حكم الإعدام لأن إنجلترا كانت قد سنّت قانونا للدفاع عن الجنون قبل وقت قصير من ارتكابه جريمتيه. كما مُنح الحرّية لأن يرسم، بسبب الإصلاحات التي استُحدثت في ذلك الوقت والتي تدعو إلى رعاية المجانين. ولو أن هذا حدث في وقت مبكّر من ذلك القرن، لكان مصيره أسوأ بكثير. لكنّ هذا حدث في عام 1843، أي في الوقت الذي كانت فيه الأفكار الرومانسية تمجّد الجنون وتخلع عليه رداءً من القداسة.
    قد يقول قائل إن ريتشارد داد يوفّر مثالا متطرّفا. وهذا صحيح. لكن يتعيّن في كلّ الأحوال أن نخاف ونحذر من شيطان الإبداع وأن نتعامل معه دائما بشيء من "الرهبة المقدّسة".

    Credits
    theguardian.com
    tate.org.uk

    الاثنين، أبريل 06، 2009

    حياة في الكُتُب

    بعد وفاة احد زملائنا المشتركين، جاء اتصال من ابنه يلحّ فيه بضرورة الإسراع في توظيب أمتعة والده وأشيائه الشخصية تمهيدا لشحنها إلى بلده.
    وقد ندبتُ أنا لهذه المهمّة على الرغم من أنني لم أكن اعرف الرجل بما فيه الكفاية بحكم فارق السنّ ونوعية التخصّص.
    بدأت بالمكتبة. كان الراحل معروفا بشغفه الكبير بالقراءة وحرصه على اقتناء الكتب بانتظام. وبدأتُ في جمع الكتب من فوق الأرفف ورصّها في كراتين.
    لحظتها خامرني إحساس بالحزن والضيق. كنت وأنا ألمس الكتب التي تركها وراءه كمن يباشر عملية تفريغ عالم صغير يخصّ شخصا آخر.
    كتب، عناوين وأسماء كثيرة تبدو بلا نهاية: جويس، اورويل، سارتر، ديورانت، لوركا، ديكارت، تولستوي، ووردزوورث، شتاينبك، بورخيس، مارلو، همنغواي، اليوت، طاغور، داروين، كونراد، برونتي، مونتسكيو، وولف، بروست، ارسطو، نيرودا، غوته، كولريدج..
    وبينما أنا مستغرق في النظر إلى تلك الأسماء، تذكّرت كلّ الكتب التي سبق لي وأن قرأتها. وتساءلتُ عن جدوى ونفع كل تلك القراءة. روايات، قصائد شعر، مذكّرات، سيَر شخصية، تاريخ، فلسفة.. إلى آخره.
    الغريب أنني كلما فكّرت في تلك الكتب، كلّما أصبحت اقلّ تذكّرا لمضامينها.
    كلّ ما أتذكّره مجرّد ِنتَف وأجزاء صغيرة. جملة من قصّة أو رواية هنا، وصف ما لشخصية هناك، بيت شعر، سطر من جمال خاصّ ما يزال يسكن زاوية قصيّة من الذاكرة.
    وخيّل إليّ أن هذا الذي بقي ليس بالشيء الكثير مقارنة مع كل تلك الملايين من الكلمات والعبارات والصور.
    مال كثير ووقت أكثر استثمرناه، وما زلنا، في الكتب.
    الآن ذهبت الكلمات وتلاشت المشاهد. لم يبقَ من متعة القراءة سوى انطباعات سريعة وصور عابرة.
    وأظنّ أن هذا يشبه، إلى حدّ كبير، الحياة نفسها. دقائق، ساعات، وأيّام لا تعدّ ولا تحصى من الوجود الثمين. التفاصيل تتوارى ويصبح أكثرها نسيا منسيّا.
    ولا يبقى في النهاية سوى الإحساس بها. هذا كلّ ما يبقى. مجردّ ظلّ لحياة كان لها وجود ثم تبدّدت، مثل الأزهار التي تذوي وتجفّ في الصيف ولا يبقى منها سوى بعض الشذى الذي لا يدوم طويلا. "مترجم"