:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات لوحة ورسّام. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات لوحة ورسّام. إظهار كافة الرسائل

السبت، أغسطس 01، 2020

غويا: إعلان ضدّ الحرب

كان في ذهن الرسّام الإسباني فرانسيسكو دي غويا وهو يرسم هذه اللوحة الأيقونية أن تكون تخليدا للعمل الأكثر بطولة في نضال الشعب الاسباني ضدّ "طاغية أوربّا"، أي نابليون، الذي كان قد احتلّ اسبانيا في بداية عام 1808 وأجبر الملك تشارلز الرابع على التنحّي.
في الثاني من مايو من ذلك العام، حاولت جماعة موالية للعرش الاسباني أن تستعيد السلطة في مدريد. لكن تلك الانتفاضة انتهت بفشل دمويّ كامل. وفي صباح اليوم التالي، ألقت القوّات الفرنسية القبض على المئات ممّن اشتبه في مشاركتهم في ذلك التمرّد، وجمعتهم في مكان خارج المدينة ثم أطلقت عليهم النار ليلا.
وبعد ستّ سنوات، وكانت إمبراطورية نابليون على وشك السقوط وابن تشارلز يجلس على العرش الاسبانيّ، أنهى غويا رسم لوحته الأكثر شهرةً وإثارةً للانزعاج.
كثيرا ما توصف لوحة "الثالث من مايو 1808" بأنها أعظم لوحة معادية للحرب وأوّل عمل من أعمال الفنّ الحديث، كما أنها تحفة غويا بلا منازع. والغريب أن هذه اللوحة قضت أوّل أربعين عاما من عمرها في المخازن. ثم حُوّلت بعد ذلك إلى متحف برادو في مدريد. ولم يهتمّ المتحف بإدراجها ضمن مقتنياته إلا في عام 1872. في ذلك الوقت، كانت الفظائع التي رسمها غويا في اللوحة قد أصبحت خارج الذاكرة الجمعية للناس.
طوال فترة انشغاله بالرسم، كان غويا بارعا في إقناع رعاته بعمل شيء ثم انجاز شيء آخر. والحقيقة أن "الثالث من مايو" حافظت على ذكرى التمرّد الإسباني حيّة في الأذهان. ومع ذلك فإن من المشكوك فيه ما إذا كان الرسّام أراد إظهار تلك المذبحة كحادث مقترن بالبطولة أو المجد. لكن المؤكّد أن غويا استطاع من خلال هذا العمل توسيع أعراف الرسم الأكاديمي كي يُبرز الوقائع المريرة والدامية للصراعات الحديثة.
في عام 1975، نشر الكاتب الفرنسي اندريه مالرو مقالا قال فيه إن الرسم الحديث بدأ باللوحات السوداء التي تناول فيها غويا فظائع الحرب. لكن غويا رسم في "الثالث من مايو" لوحة حداثية مروّعة كانت بلا وجه ولا مشاعر".
الجنود الفرنسيون الذين يظهرون في الجانب الأيمن من اللوحة لا يمكن مساومتهم أو مجادلتهم بالعقل. ولأننا لا نستطيع رؤية تعابير وجوههم وهم يطلقون النار، فإننا لا يمكن أن نعرف ما الذي كان يعتمل في رؤوسهم في تلك اللحظات.
وبدلا من ذلك فإن خوذاتهم السوداء التي تشبه الأقنعة ووقفتهم الموحّدة هي التي تلفت انتباه الناظر. ومن الواضح أن هؤلاء الجنود أتوا إلى هذا المكان ليلا لإنجاز مهمّة لا مكان فيها للتفكير أو المشاعر. كانوا فقط ينفّذون الأوامر التي أُعطيت لهم.
وإذا كان منفّذو إعدامات الثالث من مايو جنودا متبلّدي المشاعر وعديمي الرحمة، فإن غويا لا يُظهر منهم سوى القليل في اللوحة. لكن ضحاياهم لا يمكن نسيانهم، لأن مشاعرهم وردود فعلهم تُفصح عن نفسها.
مؤرّخو الحرب، من ناحيتهم، أراقوا حبرا كثيرا في تحليل شخصية الرجل الشهيد ذي القميص الأبيض والعينين المفتوحتين على اتساعهما.
في السيرة الرائعة التي كتبها الناقد روبيرت هيوز لغويا، يصف الكاتب هذا الشخص الظاهر في اللوحة بأنه واحد من أكثر الشخصيات حضورا في كل أعمال الفنّ، بينما شبّه آخرون وقفته بوقفة المسيح على الصليب. وإذا نظرت إلى الرجل عن قرب فستلاحظ أثر جرح على إحدى يديه، في إشارة إلى معاناة المسيح.
لكن غويا لا يسمح لتلك الإشارات الأيقونية الموحية بأن تُسقط لوحته في مأزق العاطفية الفجّة. فهذا الرجل ضحيّة، لكنه ليس شهيدا تماما. فهو لم يختر لنفسه أن يموت، ناهيك عن أن يموت في سبيل قضيّة. إن موته يثير الغضب ولا شكّ، لأنه غير مفهوم، كما لا يمكن تبرير قتله بدافع من دين أو وطنية. ولم تكن للقتل أهداف عليا، فقط الطغيان الذي يعلن عن نفسه في الليل.
يمكن أن تُكتب مئات الصفحات عن وقفة هذا الرجل المشهور وعن تعابير وجهه. وقد فعل هذا العديد من مؤرّخي الفنّ. لكن "الثالث من مايو" هي من اللوحات النادرة التي لا يخلو تفصيل فيها من فكرة أو إيحاء.

لاحظ، مثلا، انثناءة السيف اللامع لآخر جنديّ فرنسيّ إلى اليسار. إنه مجرّد تفصيل صغير في هذه اللوحة الضخمة والتي - بحسب هيوز - تتفوّق فعليّا على أيّ شيء في الرسم الأوربّي بعفويّتها وحيويّتها الملهمة. السيف المتقادم الذي يتدلّى من خصر صاحبه بلا فائدة هو رمز للرومانسية الباهتة للحرب.
مالرو لاحظ أيضا منظر المدينة البعيدة المتّصل بالمقدّمة بسلسلة من الأسرى الذين لا يكادون يبينون فوق رؤوس الجنود الفرنسيين، وهم يراقبون من ذلك المكان العالي عمليات القتل. إن غويا في هذا التفصيل يستثير أشباحا من المدن دون أن يضطرّ لرسم أطلال أو خرائب، وهو شيء لم يسبقه إليه احد من قبل، بحسب مالرو.
والحقيقة أن هذا الوصف يمكن أن ينطبق على أيّ من انجازات غويا الأخرى. لكن لا يمكن القول أن رسّامين آخرين لم يحاولوا أن ينجزوا ما فعله. فإدوار مانيه مثلا في لوحته "إعدام ماكسيميليان" لم يحاول إخفاء تأثّره بـ "الثالث من مايو"، في حين اعتُبرت "غورنيكا" بيكاسو عملا مناظرا للوحة غويا، ولكن في القرن العشرين. وهاتان مجرّد علامتين فقط على النجاح المبهر للوحة باعتبارها إعلانا ضدّ الحرب.
المسئولون الإسبان الذين كلّفوا غويا برسم اللوحة أرادوا لها أن تصبح عملا تذكّريا يحتفي بإسبانيا وبوطنية الإسبان. لكنهم في النهاية لم يحتفوا بشيء سوى شجب واستنكار الحرب. ولم يعد مهمّا معرفة من الذي خاضها ولماذا.
وعندما تلاشت حروب نابليون من كتب التاريخ، أصبحت عالمية "الثالث من مايو" أكثر وضوحا في القرن العشرين. إذ لا يبدو الأشخاص في اللوحة على أنهم فرنسيون أو إسبان تحديدا. ومن السهل أن تتخيّل حدوث هذا المنظر الرهيب والغارق في الدماء في ألمانيا عام 1942، أو في تشيلي عام 1973، أو في العراق عام 2006.
على الأرجح، لم يكن غويا شاهد عيان على ما حدث. ولم تكن اللوحة مجرّد تسجيل لحادث بعينه، بل كانت تأمّلا كئيبا عن طبيعة السلطة وشرور الحرب. ورغم انه اشتغل معظم حياته كرسّام للقصر، إلا انه ظلّ يتحلّى بالاستقامة الثورية.
كان غويا يكره كافّة أشكال السلطة: الكهنة، الجنود والمسئولين. وكان يعرف أن كلّ هؤلاء لو توفّرت لهم السلطة لنكّلوا بالضعفاء ولسحقوهم بلا رحمة. وشعوره هذا هو الذي منح قوّة ورمزية للرجل صاحب القميص الأبيض وللضحايا الآخرين المضرّجين بدمائهم.
لم تكن الدماء منظرا يحظى بالشعبية في الرسم التاريخيّ في القرن التاسع عشر. لكن المعركة هنا رهيبة وليس فيها أيّ قدر من النبل أو البطولة. لقد رسم غويا جنودا يقتلون بدم بارد أفرادا عُزلا، وأبقى وجوه القتلة بلا ملامح لكي لا يتماهى معهم الناظر. غير أن الضحايا أو معظمهم لهم وجوه، وهذا من أعظم خصائص اللوحة.
مع "الثالث من مايو" بدأ ظهور الصورة الحديثة للحرب، وللقتلة المجهولي الهويّة، بينما وصلت التقاليد الطويلة عن الحرب كمظهر من مظاهر الشجاعة والفروسية إلى نهايتها.
ليس بالمستغرب أن يلجأ الفنّانون من جميع أنحاء العالم إلى غويا عندما يريدون التعبير عن رؤاهم المضادّة للحرب. وبسبب عالمية وأيقونية "الثالث من مايو" وبوحي منها، ثابر العديد من الفنّانين، وعلى مدى قرنين، على تصوير فظائع الحروب، وبطريقة بليغة أحيانا. لكنهم لم يستطيعوا منع الحروب ولو مرّة.
بطبيعة الحال، ليس مطلوبا من الفنّانين أن يوقفوا الحروب وليست تلك مهمّتهم على أيّ حال. لكن من الصعب ألا تنظر إلى الوراء؛ إلى عشرات الصور المذهلة والمشحونة سياسيّا التي استُلهمت من "الثالث من مايو"، ثم تمنع نفسك من التساؤل: لماذا كانت تلك الحروب أصلا، وما الذي فعلته أو جلبته غير القتل والدمار.
ويمكنك أن تشعر بنفس القدر من الحزن والمرارة وأنت تتأمّل تفاصيل لوحة غويا. لقد كانت فكرته وهو يرسمها هي انه رأى كلّ شيء وخَبِر وعايش احد أكثر الأوقات عنفا وهمجية في التاريخ الأوربّي الحديث.
كانت موهبة غويا الغامضة تتمثّل في انه رأى في ذلك الوقت أكثر ممّا استطاع أيّ شخص آخر رؤيته. لقد رأى كلّ ما كان يحدث لبلده وتوصّل إلى انه لا يستطيع فعل أيّ شيء حياله، غير أن يرسمه.
وهذا بحدّ ذاته انجاز كبير.

Credits
smarthistory.org
khanacademy.org

الثلاثاء، يونيو 06، 2017

الصيد في غابة ليليّة

كلّ تفصيل في هذه اللوحة غير العاديّة يضجّ بالحركة والنشاط. فالكلاب تجري وتتقافز في كلّ اتجاه، والجياد تعدو متحفّزة ما بين إقبال وإدبار، والبشر يتدافعون ويتصايحون في صخب وفوضى. وكلّ هذا يحدث في غابة مظلمة.
الصيّادون الذين يعتلون ظهور خيولهم ويرتدون ملابس حمراء وسوداء يبدون في حالة تردّد أو تراجع، بينما يرقبون حركة الكلاب وهي تنطلق في الظلام خلف فرائسها من الغزلان إلى ابعد مسافة في أعماق غابة الليل هذه.
ومصدر الضوء في المشهد غير واضح، لكن يُفترض انه نور القمر الذي لا نراه أو الشموع. والسماء التي يظهر جزء منها فوق قمم أشجار السنديان تصطبغ بزرقة داكنة. والثراء العامّ للمنظر تعزّزه الألوان الساطعة والأنيقة، خاصّة ألوان معاطف الصيّادين الحمراء والبرتقالية.
هذه هي ايطاليا عصر النهضة. وهذه المجموعة من أثرياء فلورنسا يقوم على خدمتهم في هذه الغابة أشخاص مسلّحون برماح حادّة، ومهمّتهم على ما يبدو هي جمع وعزل حيوانات الغابة كي يسهل اصطيادها.
هذه اللوحة تمثّل نوعية نادرة وغير مألوفة في الرسم. ومن الواضح أن ما نراه هو مشهد متخيّل. وعدم واقعية الصورة يسهم أكثر في غموضها وسحرها، بالإضافة إلى ما يمكن أن يكون الرسّام قد أودعه فيها من معان وإشارات خفيّة.
كان باولو اوتشيللو احد أوائل رسّامي القرن الخامس عشر الذين استخدموا المنظور في لوحاتهم. ولتقريب فكرة ما الذي يعنيه المنظور في هذه اللوحة يكفي أن تنظر إلى وسطها، أي إلى المساحة التي يتحرّك فيها الأشخاص الراجلون والكلاب والغزلان، لتلاحظ أن الأشياء والأشخاص والأشجار تتضاءل شيئا فشيئا كلّما ابتعدَتْ باتجاه أعماق الغابة المظلمة.
الساحة المثلّثة في وسط المنظر تتراجع باتجاه نقطة متلاشية في عمق الظلام، ما يضفي على المشهد شيئا من الرهبة والغموض.
كان اوتشيللو مفتونا كثيرا بهذا الأسلوب الجديد في تصميم الصور. وفي هذه اللوحة، هو لا يُظهِر فقط التأثيرات البصرية، وإنما أيضا التأثيرات الشاعرية والانفعالية للمنظور الذي يمنح ليل الغابة هذا الجمال والروعة.
كان الصيد وما يزال هواية ارستقراطية لها طقوسها الخاصّة. وفكرة الصيد ليلا ليست بالفكرة الواقعية أو العملية، لكنها في اللوحة لا تخلو من روح دعابة ومن رمزية ما.
كان اوتشيللو رسّام طبيعة، وهو من أوائل الرسّامين الذين ابتكروا المنظور الرياضيّ. ومن الواضح انه صمّم اللوحة بعناية ووضع خطوطها الأفقية والعمودية من خلال رسومات أوليّة.
وقد استخدم طبقة مكثّفة من الطلاء الأسود ليغطّي به المناطق التي سيعود إليها لاحقا ليضيف إليها درجات متفاوتة من الألوان الخضراء.
أما جذوع الأشجار والأشخاص والحيوانات فقد تركها كظلال بيضاء مقابل الخلفية الداكنة، ما أنتج هذا الضوء الأخّاذ المنعكس على كلّ شيء وكأنه من عالم آخر.
وهناك أيضا آثار من اللون الذهبيّ التي وضعها الرسّام على النباتات والأشجار لجعلها تتوهّج بالضوء.
في الحقيقة، لا أحد يعرف لماذا رسم اوتشيللو هذه اللوحة وما إذا كانت بالفعل تعكس تجربة حقيقية أو أنها ترجمة لقصيدة أو حتى لقصّة ما.
لكن قيل أنها رُسمت كي تزيّن مكانا ما في اوربينو أو فلورنسا، قد يكون قاعة عامّة أو قصرا تابعا لأحد رعاة الرسّام.
وقيل أنها تمثّل احتفالا فروسيّا، أو صورة رمزية لعاشق يقتفي اثر حبّ لا يمكن بلوغه. وقد تكون اللوحة رُسمت كهديّة لعروسين ثريّين.
لكن أيّاً ما كان سبب رسمها، فإن هذه اللوحة تظلّ أصليّة ومتفرّدة جدّا، سواءً من حيث كونها تصويرا لطبيعة ليلية أو بوصفها توليفاً شُيّد بطريقة رائعة.

Credits
paolouccello.org
ashmolean.org

الخميس، يناير 12، 2017

فانتازيا هروبية؟

قد لا تحبّ هذه اللوحة، لكن هذا ليس مهمّا، لأن الذوق الشخصيّ لا علاقة له بما إذا كانت الصورة فنّا أم غير ذلك.
وما ينطبق على الرسم ينطبق على الأدب. من يهتمّ مثلا إذا كنت لا تحبّ "هاملت"، تلك المسرحية التي يتّفق معظم الناس على أنها أدب عظيم.
وهذا يجرّنا إلى السؤال: هل هذه اللوحة فنّ عظيم؟
الواقع أنها إحدى أشهر اللوحات الفنّية من العصر الفيكتوري، بل ربّما كانت أشهر من فريدريك ليتون، الفنّان الذي رسمها. وهي ما تزال مفضّلة في البوسترات وفي صالات الجلوس في البيوت وغرف الانتظار.
بل إن مجلّة فوغ النسائية المشهورة وضعت غلافا لها قبل فترة يحمل صورة عارضة أزياء اسمها جيسيكا تشاستين تأخذ وضعية المرأة في اللوحة وطريقة لباسها.
بإمكانك أن تقول إن اللوحة عمل مثير للجدل. لكن الآراء حولها منقسمة، بعض الناس يحبّها كثيرا والبعض الآخر يعتبرها فنّا مضحكا. لكن ينبغي أن نفهم جاذبيّتها.
الذين يحبّون اللوحة، ترى ما الذي يحبّونه فيها؟ شفافيّتها، طيّات الملابس، اللون الأرجوانيّ، أم المرأة النائمة التي تأخذ شكل زهرة، أم الوهج البرتقاليّ الذي يلفّها ويلقي بلمعانه على وجهها وذراعيها، أم هذا الشعور الحالم الذي لا يقاوَم ذات ليلة صيفية على شواطئ البحر المتوسّط القديمة، أم جمال الإطار الذي استلهمه الرسّام من عصر النهضة؟
بعض النقّاد يعتبرون اللوحة فانتازيا هروبية. هناك فيها بذخ وحسّية خفيفة في مناخ حارّ وفي مكان كلاسيكيّ، وكلّ هذه العناصر تُضفي عليها شيئا من الرومانسية.
إن الرسالة التي يتضمّنها عمل فنّي ما هي إلا مجرّد عنصر واحد فيه. لكن هل الرسالة مهمّة أصلا؟! يمكن أحيانا أن تحمل الصورة أفكارا شائكة وقد لا تحمل أيّ فكرة، ومع ذلك تظلّ جديرة بالنظر إليها. جسد نائم يمكن أن يكون موضوعا لقصّة شيّقة.
بعض منتقدي اللوحة يقولون إذا أردت أن تتعرّف إلى النسيج الشاشيّ أو الحريريّ وكيف ترسمه في لوحة، فلا تنظر الى هذه اللوحة، بل انظر إلى رسومات الفرنسيّ دومينيك انغر.
وإذا أردت أن تراه مرسوما بضربات فرشاة سريعة ومتوهّجة، فانظر إلى أعمال إدوار مانيه. غير أن نسيج ليتون في هذه اللوحة ليس مصنوعا من أيّة مادّة. والثوب لا يشبه أيّ لباس يمكن طيّه وجمعه.
ثم هل وضع المرأة في اللوحة ممكن، أو قابل للتصديق؟
على العكس ممّا كان يفعل كوربيه، تجنّب ليتون التجسيد التشريحيّ الواضح للجسد. كما لم يعد الغرض هو تصميم الجسد لكي يتناسب مع الأنماط والأشكال، على غرار ما كان يفعله غوستاف كليمت مثلا. فكرة ليتون وغرضه هو أن لا شيء في الجسد ينبغي أن يُرى بوضوح.
الموسيقيّ البريطانيّ اندرو لويد ويبر رأى ذات مرّة لوحة ليتون هذه وأعجب بها. لكنه لم يكن يملك المبلغ المطلوب لشرائها آنذاك وهو خمسون جنيها استرلينيّا فقط. كما لم يعبأ ويبر برأي النقّاد الذين كانوا يحطّون من شأن الفنّ الفيكتوري بشكل عام ويعتبرونه فنّا مبتذلا.
وقد ذهب ويبر إلى بعض أقاربه يطلب منهم إقراضه المبلغ، فرفضوا على أساس أن اللوحة فنّ رخيص. في ذلك الوقت كان الكثيرون يردّدون: إذا كنت تريد الناس أن يشرقوا بالماء فاذكر لهم الفنّ ما قبل الرافائيلي.
لكن على عكس النقّاد وأفراد النخبة الذين لم تعجبهم اللوحة، كان ويبر يشعر أنها جميلة وتتحدّث إليه.
وفي مرحلة تالية، اشترى حاكم بورتوريكو اللوحة مقابل ألفي جنيه استرليني فقط. لكن قيمتها اليوم تُقدّر بملايين الدولارات.
كان فريدريك ليتون احد أشهر الرسّامين في عصره. وكان ينتمي للحركة الجمالية ومتخصّصا في رسم المواضيع الأسطورية، حيث المزاج وجمال الجسد واللون مقدّمة على السرد أو الدروس والمواعظ. ويقال أن هذا الفنّان كان يفهم في الشعر الفنّي أكثر من منتقديه.
وقد أنهى رسم هذه اللوحة في الأشهر الأخيرة من حياته، وكان وقتها رئيسا للأكاديمية الملكية وحارسا للذوق الفيكتوري. وعند عرضها في الأكاديمية كان ليتون مريضا جدّا، لذا لم يتمكّن من الحضور، ثم لم يلبث أن مات بسبب مرض في القلب.
فنّ ليتون الكلاسيكي الصارم والدقيق جنى عليه الرسم الانطباعيّ الأكثر تحرّرا، ولهذا السبب عانت لوحاته من الإهمال البطيء كما توارى اسمه أو كاد في غياهب النسيان.

Credits
frick.org

السبت، مايو 28، 2016

لوحات الفانيتا

"فانيتا" كلمة لاتينية تعني الفراغ أو الخواء، لكنّها أيضا تشير إلى معنى التشاوف أو الخيلاء والتفاخر الأجوف بالمال أو السلطة أو الجمال والزينة.
ولو بحثنا عن كلمة بالعربية تعطي نفس الدلالة لما وجدنا أفضل من العبارة التي تقول: ما الدنيا إلا متاع الغرور". والفانيتا أيضا هي نوع من لوحات الطبيعة الساكنة يريد رسّاموها أن يذكّرونا من خلالها بقِصَر الحياة وبعبثية المتع الدنيوية وبحتمية الموت.
وفي هذا النوع من اللوحات، نجد غالبا جماجم ترمز للموت، بالإضافة إلى رموز أخرى مثل الفواكه المتعفّنة والأزهار الذاوية التي ترمز للتحلّل، والشموع المطفأة والدخان والساعات والأدوات الموسيقية والساعات الرملية وغيرها من أدوات قياس الزمن.
كما يمكن أن تتضمّن هذه اللوحات كتباً، سواءً كانت مكدّسة فوق بعضها البعض أو مفتوحة على صفحة بعينها، وموادّ من الكريستال والفضّة وتماثيل صغيرة وآنيات زهور وعملات معدنية وقلائد وخواتم من اللؤلؤ تنبثق من صناديق مزخرفة. وكلّ هذه الأشياء ترمز لقصَر الحياة وفجائية الموت.
وقد اعتاد الناس في أوربّا خاصّة، ومنذ زمن طويل، على أن يستحسنوا هذه اللوحات ويقتنوها لسكونيّتها ولرمزيّتها العميقة. وهذه الفكرة لا تقتصر على الرسم فحسب، وإنّما تمتدّ أيضا لتشمل الشعر والموسيقى والأدب.
وهناك جملة أخرى باللاتينية لها دلالة دينية وتتردّد كثيرا هي "ميمنتو موري"، وتعني حرفيا "تذكّر أنك مخلوق فانٍ"، وهي فكرة ظلّت تحظى بالرواج والشعبية في أوساط الكتّاب والفنّانين المسيحيين على مرّ قرون.
والفكرة تنطوي على نصيحة للناس بأن عليهم أن يستعدّوا للموت في أيّ وقت لأنه يأتي على حين غرّة وبلا سابق إنذار. والسبب هو أن أوربّا شهدت ابتداءً من القرن الرابع عشر مجاعات متكرّرة وحروبا كثيرة مدمّرة مات على إثرها الكثيرون، بالإضافة إلى تفشّي وباء الطاعون الذي اكتسح القارّة وحصد أرواح مئات الآلاف من البشر.
كان الموت وقتها يتربّص بالجميع. ومع ذلك كان الناس يجتهدون في البحث عن التسلية والمتعة متى ما كان ذلك ممكنا. لذا انتشرت آنذاك في بعض أرجاء ألمانيا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا أغاني تحمل حوارات متخيّلة بين الموت والبشر.
وإحدى أشهر تلك الأغاني كانت كلماتها تقول: إن كنت لا تستطيع أن تعود إلى الوراء لتصبح كالطفل وتغيّر حياتك للأفضل، فلن تستطيع أن تدخل ملكوت الربّ. إن الموت يسرع الخطى، فدعنا نمتنع عن ارتكاب الخطايا".
المعروف أن رسومات الفانيتا ازدهرت في هولندا على وجه الخصوص، وبالتحديد في ذروة ازدهار ما عُرف بالعصر الذهبيّ للرسم الهولنديّ. وأحد أشهر الرسّامين الهولنديين الذين برعوا في رسم الفانيتا هو إدفارت كولير الذي عاش في القرن السابع عشر.
في إحدى لوحاته المشهورة "إلى فوق"، يرسم كولير مجموعة من الأشياء مرتّبة فوق طاولة مغطّاة بالدانتيل البنّيّ اللون. من بين هذه الأشياء تاج ذهبيّ مزيّن بالحرير الأحمر ومرصّع باللآليء الحمراء والسوداء والبيضاء. وعلى الطاولة أيضا هناك صندوق اسود مُحلّى بالذهب تبرز منه مجوهرات وعقود ذهبيّة وفضّيّة.
وبين التاج والصندوق بورتريه لرجل وجيه موضوع داخل إطار مذهّب صغير وبيضاويّ الشكل. وفي خلفية الصورة، هناك مزهرية ذهبيّة ضخمة وإلى يمينها كتاب مفتوح على صفحة تحتوي على نصّ لاتينيّ.
في لوحات الفانيتا المعاصرة، نجد نفس الفكرة التي تعبّر عن قلق الإنسان وحالة عدم اليقين تجاه المستقبل. والرسّام المعاصر يعزّز هذه الفكرة بتوظيفه لأشياء معيّنة كالمرايا والمزهريات الزجاجية والشموع والعظام والجماجم والكتب، بالإضافة إلى منتجات التجميل الحديثة والعبوات البلاستيكية التي تُظهر ميل الإنسان وافتتانه بالسلع الاستهلاكية.
وعندما تتأمّل لوحات الفانيتا وتتمعّن في رمزيّتها، لا بدّ أن تتذكّر رسومات الفنّان الألمانيّ كاسبار فريدريش. كانت رؤية هذا الرسّام سابقة لعصره، لكن الناس في زمانه لم يقدّروا فنّه ولم يحتفوا به كما ينبغي.
مناظر فريدريش المتعدّدة عن الطبيعة الشتوية لم تكن عن الحياة في الشتاء، بل كانت عن الشتاء نفسه؛ عن وحشته وجبروته وعن الإحساس الذي يثيره بالخواء والقفر والعزلة.
أيضا تمتلئ لوحاته بصور الأشجار والجذوع العارية التي تسكنها الغربان والبوم بجانب المقابر والأديرة والأطلال.
في تلك اللوحات أيضا، كان فريدريش يعبّر، وبطريقته الخاصّة، عن مضيّ الزمن والطبيعة المؤقتة للحياة وعن حالته الذهنية الخاصّة.

Credits
arthistory.net

الأربعاء، سبتمبر 11، 2013

روح الإنسان

هل ما نراه في هذه اللوحة بورتريه شخصيّ؟ دراسة سيكولوجيّة؟ تصوير لحالة ذهنية عن الوحدة والخواء؟ أم محاولة من الرسّام للامساك بجمال الطبيعة؟
لو كان الرسّام يريد حقّا تصوير جمال الطبيعة لما حجب جانبا من المنظر بتضمين اللوحة رجلا يقف في منتصفها. الطبيعة في هذا المشهد صعبة ووعرة: منحدرات عميقة وخطرة، ضباب كثيف وسماء بيضاء باردة في الأفق. وهناك أيضا انطباع عن طقس عاصف جدّا. أي أننا أمام مكان غير مريح بالمرّة، بل وخطير جدّا على سلامة الإنسان. وبالتأكيد لا احد يرغب بالمجيء إلى هنا. مثل هذا المكان المخيف والمملوء بالخطر يمكن للإنسان بالكاد أن يبقى فيه للحظات على أقصى تقدير. لكنّ الرجل يبدو صامدا كما لو انه يستطيع الوقوف حيث هو والتأمّل في هذا المكان إلى الأبد.
لأن صور كاسبار ديفيد فريدريش تركّز على الطبيعة أكثر من البشر، فإن لها ملمحا متساميا وصالحا لكلّ زمان ومكان. عالما صوره، الداخليّ والخارجيّ، يبدوان متوحّدين. وهذا كان إنجازا عظيما للعصر الرومانسي الذي كان فريدريش، بصوره التأمّلية والمثيرة للذكريات، أحد أعلامه الكبار.
والغريب أن هذا الفنّان شقّ طريقه في الرسم بقوّة رغم ما يقال من انه لم يكن مولعا كثيرا أو موهوبا في رسم البشر. وقد وجد حلا بسيطا لهذه المشكلة بأن صار يرسمهم من الخلف أو جانبيّا.
لكن كان هناك جانب أكثر عمقا في فنّه. فالطبيعة والكون كانا أهمّ موضوعين بالنسبة له. لذا ركّز على أن يقيم حوارا مع المتلقّي من خلال مناظر الطبيعة التي كان يرسمها.
اللوحة فوق هي أشهر أعمال فريدريش على الإطلاق واسمها مسافر "أو متجوّل" فوق بحر الضباب. وهي عند بعض مؤرّخي الفنّ المثال الأشهر والأكثر وضوحا عن رومانسية القرن التاسع عشر. وفيها يقف رجل على طبيعة صخرية ويطلّ على منظر من الغيوم والضباب الكثيف.
هذا المنظر، وغيره من مناظر فريدريش الطبيعية والمعروفة، تمثّل ذروة الرسم الألماني خلال الحقبة الرومانسية. والكثيرون يرون في هذه اللوحة صورة مجازية عن التوق الوجودي واللامبالاة أو عدم اليقين، وأحيانا عن حالات التشوّش والفوضى. وقد اختيرت غلافا لأحد كتب نيتشه ولكتب ومجلات ودواوين شعر لا حصر لها.
كما لم تغب اللوحة عن صنّاع الأفلام السينمائية التي تتحدّث عن الكوارث البيئية وعن الحروب بين الكواكب أو عن المستقبل المجهول الذي ينتظر البشر. بإمكانك، مثلا، أن تحصي ما لا يقلّ عن أربعة من أفلام الخيال العلمي صُمّمت ملصقاتها بوحي من هذه اللوحة.
كانت الطبيعة الألمانية دائما مصدر إلهام كبير لـ فريدريش. وكان يحرّك مشاعره الجمال الذي كان يجده في وطنه. كما كان يستهويه تصوير الجبال والأشجار والضباب الكثيف فوق سطح البحر.
وكان من عادته أن يقصد منطقة الجبال الممتدّة على طول الحدود بين ولايتي بوهيميا وساكسونيا في جنوب شرقي ألمانيا وجمهورية التشيك، للتأمّل والرسم. وقد رسم العديد من الاسكتشات التمهيدية لهذه اللوحة في عين هذا المكان. ثم عاد إلى البيت بكومة كبيرة من هذه الرسومات، وبدأ رسم اللوحة الأصلية في محترفه.
وعلى الرغم من أن اللوحة مركّبة من عدّة مناظر طبيعية مختلفة من تلك المنطقة، إلا أن المنظر كلّه يبدو متناسقا ومقنعا. وبعض قمم الجبال التي تظهر غارقة في الضباب يمكن تحديد أماكنها اليوم على الطبيعة. لكنّها في حقيقة الأمر تقع في أماكن مختلفة من سلسلة الجبال تلك. وبالتالي فإن المنظر الرائع الذي تراه في هذه اللوحة لا وجود له في الواقع.
البشر هم جزء من الطبيعة. وهم بنفس الوقت منفصلون عنها. ومن خلال جلبهم إلى الصور، فإن فريدريش يخلق مستوى آخر من الوعي. والتائه المجهول في هذه اللوحة يجعل الصورة تتكلّم بينما يقف في وسط المشهد تماما مديرا ظهره للناظر.
لاحظ التباين الحادّ بين مقدّمة الصورة وخلفيّتها. هنا رجل، أو بالأصحّ صورة ظلّية داكنة لرجل، يقف وحيدا أمام طبيعة ضبابية. يمكنك الإحساس بوجود الأرض إلى أسفل رغم انك لا تراها بوضوح.
اللوحة بأكملها هي عن هذا الرجل. وأنت مدعوّ لتحديد من يكون. طبعا يمكن أن يكون أيّ شخص، مع أننا نعرف من لوحات أخرى أن فريدريش له نفس هيئة هذا الرجل. لكنّه هنا يحصر نفسه ورؤيته إلى الداخل، في حين أن الملابس الداكنة تدعم بقاءه مجهولا.
انه يقف في تأمّل، مفتونا بضباب البحر ومفكّرا في المستقبل الغامض، كما لو أننا إزاء تجربة دينية وروحية مثل تلك التي تحدّث عنها "إيمانويل كانت" في فلسفته المستنيرة. وفريدريش يضفي غموضا على الشخص برسمه من الخلف. والمتلقّي غير متأكّد فيمَ يفكّر الرجل وما هي طبيعة استجابته للطبيعة التي ينظر إليها. وبفصل الشخص عن الناظر، فإن الأخير يركّز أكثر على جمال البيئة المحيطة بدلا من التفكير في دور الرجل في الطبيعة.


هذه اللوحة تحتفظ بحضور قويّ جدّا من خلال حجمها الكبير. ولأنها رُسمت بمثل هذه العناية الكبيرة، فإنها تفتح نافذة على عالم آخر. عندما تتأمّلها قليلا، ستشعر بأنك تسقط فيها أو ترتفع إليها. وبإمكانك أيضا أن تترك العنان لعينيك لتتجوّلا فيها وأن تتنفس الهواء وتشعر بوخز الرياح الباردة التي بداخلها.
السماء تبدو بلا نهاية، على الرغم من أنها محجوبة بغيوم متناثرة هنا وهناك. الفنّان رسم غيوما بطبقات متعدّدة باستخدام طلاء غير شفّاف. كما استخدم طبقات شفّافة من الورنيش ليحصل على هذه الإنارة العظيمة والضوء الطبيعي.
عندما تقف أمام اللوحة الأصلية، ستشعر بتغيّرات اللون المثير للدهشة وبلمعان الغيوم والسماء الناتج عن مزج العديد من الأصباغ كالأزرق والأبيض ودرجات الرمادي والزهريّ والبنفسجيّ وحتى الأصفر.
من الواضح أن فريدريش كان يفكّر في تفاصيل صوره لفترات طويلة. أحيانا كانت عملية الخلق تستمرّ عدّة سنوات، ولهذا السبب لم تكن حياته ميسورة من الناحية المالية.
التوليف في اللوحة يبدو بسيطا. لكن هناك منطقا رياضيا وراءه. الصخرة التي في المقدّمة تشكّل مثلّثا يقف المسافر على قمّته، وهذا هو السبب في أن الشخص يقع في مركز الاهتمام. وبسبب الصورة الظلّية لمعطفه الذي يبدو داكنا مثل الأرض التي يقف عليها، فإن الرجل يصبح، من الناحية البصرية، امتدادا للأرض.
البعض فسّر هذه الصخرة كرمز للإيمان بالله أو بقوّة علوية متسامية. وهو معنى معقول ووارد. وأنت تتملّى في هذا المنظر، يمكنك أن تدرك عظمة وبهاء الطبيعة والخلق كما تتجلّى في روح إنسان. عقل الرجل ومشاعره ربّما تبلغ عنان السماء التي فوقه، ومع ذلك هو ما يزال مرتبطا بالصخرة حيث يقف. وبهذه الطريقة يصبح رمزا للإنسان في الكون. انه مشدود إلى الأرض ومنفصل عن نفسه. وهو لا يستطيع رؤية المظهر الكامل والحقيقيّ للعالم المحيط لأنه مغطّى بالضباب. كما انه يواجه المحن والأخطار، مثل المكان العاصف والشديد الانحدار الذي يقف في وسطه.
ولكن عندما يكون قلبه عامرا بالسلام والطمأنينة، فإنه يصبح قادرا على الاتصال بالخالق. وإذا كان هذا الرجل ينظر ويراقب بهدوء واهتمام، فإنه يستشعر وجود المقدّس في كلّ شيء يراه من حوله. وهذا هو ما كان يفعله كاسبار ديفيد فريدريش عندما يراقب عن كثب العالم الخارجيّ ويصوّر تفاصيله بدقّة.
البعض يرى أن المسافر في الصورة هو فريدريش نفسه. الرجل الذي يقف متأمّلا هذه الصخور الضبابية لديه نفس شعر فريدريش الأحمر. لكنّ هناك نظرية أخرى تقول إن الرجل هو حارس غابات من هذه المنطقة يُدعى فريدريش فون غوتهارد. وهو هنا يرتدي بزّة خضراء من تلك التي يرتديها عادة الحرّاس المتطوّعون في الغابات. ويُرجّح أن يكون هذا الرجل قد قُتل في حادث عام 1813م. وعليه قد تكون اللوحة بمثابة تحيّة له أو إحياء لذكراه.
في هذا التوليف، يستخدم فريدريش ألوانا أكثر إشراقا من المعتاد. وهو يرسم السماء بمزيج من الأزرق والورديّ، بينما تتردّد أصداء هذين اللونين أيضا في الجبل والصخور التي تتراءى عن بعد. كما انه يرسم الشخص في معطف أخضر داكن، وهو زيّ ألمانيّ بامتياز.
الضوء في اللوحة يبدو أنه آت من تحت الصخور ليضيء الضباب بطريقة أو بأخرى. والصخرة التي يقف عليها المسافر تحتفظ بصورتها الظلّية، مع أن تفاصيلها الأخرى، خاصّة عند القدمين، تبدو ملاحظة ومرئيّة.
ثمّة رأي يقول إن الرسّام تزوّج حوالي الوقت الذي رسم فيه اللوحة، وهو عامل ربّما ولّد في نفسه تقديرا متجدّدا للحياة البشرية وللعلاقات الإنسانية.
ومثل غالبية أعمال فريدريش، فإن اللوحة لم تنل التقدير الذي تستحقّه في زمانه. لكن بعد موته، اكتسبت اهتماما كبيرا. والسبب هو انه كثيرا ما أسيئ فهم الرسّام في عصره. كان فريدريش يناضل لكي يفهم النقّاد والجمهور فنّه. لكنه استمرّ يرسم وفقا لقناعاته الفنّية الخاصّة وليس لكي يحصل على استحسان أو ثناء من احد. وقد نال قدرا كبيرا من النجاح في أخريات حياته، بل لقد وجد زبائن جددا من أفراد العائلة الملكية في روسيا.
وعلى الرغم من أن العديد من النقّاد ما زالوا غير قادرين على فهم الاستعارات الرمزية التي كان فريدريش يودعها مناظره الطبيعية، إلا أن أعماله اليوم تحظى باحترام كبير. وخلافا لمعظم الفنّانين، لم يجد فريدريش الكثير من الإلهام في أعمال الفنّانين الكبار الذين سبقوه، واهتمّ أكثر بما علّمه إيّاه أساتذته في مراحل تعليمه النظامي.
وهذا هو السبب في أن فريدريش أصبح يتمتّع بأسلوب فريد من نوعه. صار بمقدوره أن يحوّل المناظر الطبيعية من مجرّد غابات إلى أرض للعجائب، حيث يرمز كلّ فرع من شجرة إلى شيء أكبر وأكثر عمقا. الأشجار لم تعد أشجارا فقط، وإنّما مخلوقات خشبية جميلة تمثّل الإيمان الذي لا يتزعزع بالله. وأشعّة الشمس لا تلقي ضوءها على الأرض فحسب، وإنّما تُظهر نور الخالق وهو يضيء على الخليقة.
كانت الرومانسية تتعامل مع مواضيع محدّدة من قبيل تمجيد الإنسان لنفسه ودوره في الطبيعة والألوهية الموجودة في الطبيعة وكذلك العاطفة. وهذه السمات كانت تناسب كثيرا أفكار فريدريش المثالية.
لكنّ المؤسف أن استقبال الجمهور لأعماله أصبح فاترا عندما تقدّمت به السنّ. حتى رعاته فقدوا الاهتمام بعمله في الوقت الذي كان يجري فيه استبدال الرومانسية بأفكار جديدة وأكثر حداثة.
وعندما توفّي لم يكن هناك احد يطلب أو يهتمّ بلوحاته. كان النقّاد يعتقدون أن رسوماته شخصيّة أكثر ممّا ينبغي، ومن هنا صعوبة فهمها. غير أنهم كانوا يتجاهلون حقيقة مهمّة، وهي أن هذا العامل بالذات هو ما يجعل من فريدريش فنّانا أصيلا ومتفرّدا.
ومع ذلك، لم تغب المعاني المجازية التي كان فريدريش يضمّنها لوحاته عن الفنّانين الرمزيين والسورياليين الذين أتوا في ما بعد، وأصبح هؤلاء يشيرون إليه كمصدر إلهام مهمّ لأعمالهم.

السبت، مارس 16، 2013

محاكمة رسّام

يقال إن اسمه الأصلي باولو كالاريو أو باولو غابرييلي. لكنّ الاسم الذي أصبح معروفا به هو باولو فيرونيزي "نسبة إلى مدينة فيرونا الايطالية" التي ولد فيها عام 1528م.
نحن الآن في ربيع عام 1573، وفيرونيزي يعكف على رسم صورة ضخمة لتزيّن دير سان باولو جيوفاني في فينيسيا. بالنسبة إلى البعض، كانت فينيسيا في ذلك الوقت مدينة التجارة البحرية والإصلاح الكنسيّ المضادّ، وبالنسبة للبعض الآخر كانت عبارة عن مأخور كبير.
المهمّة التي أسندت إلى فيرونيزي كانت محدّدة سلفاً: رسم لوحة تصوّر العشاء الأخير للمسيح. وقيل للرسّام إن اللوحة يجب أن تبهج النفس وتروق للعين، تماما مثل لوحته الأخرى زواج في قانا المعلّقة في دير سان جورجيو ماجيوري.
في ذلك الوقت، كان فيرونيزي قد أصبح مشهورا. وكان بالإضافة إلى كلّ من تيشيان وتينتوريتو يمثّلون روّاد ما عُرف بعصر النهضة الشمالية. وهؤلاء الثلاثة كان لهم تأثير واسع على الرسّامين الذين أتوا في ما بعد، مثل روبنز وفيلاسكيز وديلاكروا وسيزان.
كان فيرونيزي معروفا باستخدامه الفخم للألوان وبواقعية رسوماته. وبعض النقّاد وصفوا أعماله بأنها حلوى غنيّة بالدسم ومهرجانات من الحرير والساتان، في إشارة إلى أسطحها الرائعة وثراء ألوانها الحيّة والأنيقة. بعد أن استقرّ الرسّام في فينيسيا عام 1553، أصبح الطلب على أعماله في ازدياد. لكن على الرغم من شهرته ونجاحه، فإن أفكاره المنفتحة وتحرّره الفكري وضعاه في نهاية المطاف في مأزق لا يُحسد عليه.
العشاء الأخير، عندما اُنجزت، كانت وليمة فاخرة من الألوان الحمراء والذهبية، مع أعمدة وأقواس وديكورات فخمة. واللوحة لا تُظهر فقط السيّد المسيح وتلاميذه الإثني عشر، ولكن أيضا مجموعة من الشخصيات الأخرى، من بينهم خدم وأقزام ومهرّجون وجنود وإضافات أخرى لا تراها عادة في اللوحات التي تصوّر هذا الموضوع. تفاصيل اللوحة كانت غريبة على السياق الديني للقصّة، وموضوعها بدا ذا طابع وثنيّ وفيه تمجيد لحبّ الحياة في فينيسيا القرن السادس عشر.
ومن الواضح أن فيرونيزي تبنّى رؤية متحرّرة وهو يرسم هذه الفكرة التي سبق وأن طُرقت كثيرا من قبل. لكن يبدو أن السلطات لم تقدّر إبداع الرسّام. فما أن سلّم العمل إلى الدير حتى استُدعي للمثول أمام إحدى محاكم التفتيش للردّ على اتّهام وُجّه إليه بالهرطقة.
في ذلك الوقت من القرن السادس عشر، كانت محاكم التفتيش في ذروة نشاطها في وسط وغرب أوربّا. لكن سلطة تلك المحاكم في فينيسيا كانت محدودة بقرار من مجلس الشيوخ. ومع ذلك، كان لديها القدرة على مضايقة وتهديد، بل وحتى تعذيب الأشخاص الذين تعتبرهم مذنبين.
وفي يوليو من عام 1573، وقع فيرونيزي في مرمى نيران تلك المحاكم. وإحدى النقاط الإشكالية في القضيّة كانت الشخصيّات التي تظهر في اللوحة. وقد أقرّ الرسّام بأن مساحة اللوحة الواسعة اضطرّته لإضافة أكثر من ثلاثين شخصيّة لملء الفراغات وتزيين المشهد.
وقد سأل المحقّقون فيرونيزي ما إذا كان يشعر أن من المناسب أن تتضمّن العشاء الأخير "صوراً لمهرّجين وجنود ألمان في حالة سُكر وأقزام وغير ذلك من الأمور السخيفة". وأضافوا أن الفنّانين الألمان "الزنادقة" غالبا ما يضيفون مثل تلك الشخصيات إلى لوحاتهم الدينية على سبيل السخرية من الكنيسة الكاثوليكية. كما شعر المحقّقون بالإهانة الشديدة للغياب الملحوظ لشخصية مريم المجدلية عن اللوحة مقابل الحضور الواضح لكلب يجلس في مقدّمة الصورة مباشرة.
كان من حُسن حظّ فيرونيزي أن محاكم التفتيش في فينيسيا لم يكن لها نفس الأسنان الحادّة التي كانت لمثيلاتها في أجزاء أخرى من أوروبّا لأنه، وهو يستمع إلى قائمة التهم الموجّهة ضدّه، لم يقدّم سوى مبرّرات ضعيفة وغير مقنعة. فقد ادّعى انه أضاف الشخصيّات كـ "حِلية" لتعبئة الفراغ، وأن الخدم والمهرّجين يُفترض أنهم موجودون في غرفة منفصلة عن غرفة المسيح وحواريّيه.
وأخيرا دافع عن نفسه مشيرا إلى أن ميكيل أنجيلو رسم المسيح ومريم العذراء والقدّيس بطرس وغيرهم من الشخصيات الدينية الأخرى وهم عراة في الكنيسة البابوية في روما. ثمّ توسّل من المحقّقين الرأفة قائلا: نحن الرسّامين نستخدم نفس الرخصة تماما كالشعراء والمجانين، ولم أكن أظنّ أنني كنت ارتكب خطئاً".
بعد انتهاء استجوابه أمام المحكمة، اُمر فيرونيزي بأن يبادر إلى "تصحيح" اللوحة في غضون ثلاثة أشهر، وذلك بأن يرسم المجدلية مكان الكلب وأن يزيل صورة "الألمان المخمورين" عن اللوحة تماما. وبعد هذين الشرطين أطلق سراحه وتنفّس الصعداء.
أخبار محاكمة فيرونيزي جعلت اللوحة أكثر شعبيّة من أيّ وقت مضى. ورغم انه كان يجلس أمام المحقّقين وديعا ومرتعبا، إلا انه بعد الإفراج عنه اتخذ موقفا متحدّيا وحازما في التعامل مع حكمهم. فقد ترك الكلب والأقزام والألمان السكارى في أماكنهم في اللوحة، تماما مثلما كان قد رسمهم. التغيير الوحيد الذي أحدثه هو انه بدّل اسم اللوحة من العشاء الأخير إلى وليمة في بيت ليفي. وقد ظلّت اللوحة في غرفة الطعام بالدير إلى أن أمر نابليون بأن تُنقل إلى مكان آخر. واليوم يمكن رؤية اللوحة باسمها الأخير في متحف غاليريا ديل أكاديميا في فينيسيا.

Credits
en.wikipedia.org

الثلاثاء، أكتوبر 09، 2012

سارجنت وفنّ البورتريه

حتى لو كنت رسّاما متميّزا ومشهورا في نوعية معيّنة من الرسم وتكسب من وراء ذلك المال الوفير، قد يأتي يوم تشعر فيه بالملل على الرغم من أن شعبيتك كرسّام متخصّص في ذلك النوع تتطلّب منك الاستمرار في العمل.
هذا هو المأزق الذي وجد جون سينغر سارجنت نفسه فيه بعد وقت قصير من بداية القرن الماضي، عندما كانت الأرامل الأوربّيات الثريّات مع بناتهنّ يتقاطرن على منزله كي يرسمهنّ هذا الفنّان الذي يعتبره الكثيرون الرسّام الأكثر نجاحا في التاريخ.
لكن سارجنت كان قد بدأ يحتقر البورتريهات التي كان يرسمها ويجني من ورائها مبالغ طائلة من المال. ولم تكن هذه هي الصعوبة الوحيدة التي كانت تواجهه. فبالإضافة إلى حقيقة أنه لم يعد يرى في البورتريه فنّا عظيما، كانت قد بدأت تلوح في الأفق نذر العاصفة الكاسحة والقويّة التي اصطُلح على تسميتها في ما بعد بـ "الفنّ الحديث".
أسلوب سارجنت وموضوعاته أصبحت تبدو قديمة الطراز مقارنة بأعمال بيكاسو وماتيس، بل وحتى مقارنة برسّام من جيله هو، أي كلود مونيه.
بعض النقّاد كانوا يلمّحون إلى أن أعماله أصبحت عتيقة الطراز. وقال آخرون إنها تبدو كما لو أنها تنتمي إلى زمن آخر. ووجد سارجنت ملاذا له في الجداريات الضخمة. وعلى الرغم من أنه رسم معظمها في انغلترا، إلا انه يمكن العثور على أعماله الجدارية اليوم في عدد من المباني العامّة في الولايات المتحدة.
كان سارجنت في الكثير من الأحيان يسافر إلى بوسطن للإشراف على تركيب جدارياته بنفسه. وكانت شهرته كبيرة في هذا المجال. كما كان معروفا باشتراطه إجراء تغييرات في أسلوب المعمار يتناسب مع طبيعة رسوماته.
سارجنت توفّي فجأة عام 1925 وهو يستعدّ مرّة أخرى لمغادرة لندن إلى أمريكا، للإشراف على تركيب سلسلة من الجداريات في متحف بوسطن للفنون الجميلة. وأضيفت هذه السلسلة إلى 113 من لوحاته، من بينها صورته المشهورة لسيّدة المجتمع الباريسي الأمريكية المولد فيرجيني غوترو. وكانت هذه الصورة الجريئة لامرأة ترتدي ثوبا اسود أنيقا ورباطي كتف منسدلين هي التي دفعت سارجنت لمغادرة باريس نهائيا إلى لندن عام 1884م.
وقد باع سارجنت اللوحة في النهاية إلى متحف الفنّ الحديث في نيويورك، وأصرّ على أن يكون اسمها مدام إكس. ووُصفت السيّدة بأن لها بشرة من اللافندر أو الخزامى، وقيل إنها كانت تتناول بانتظام كمّيات صغيرة من الزرنيخ لكي تحافظ على ذلك المظهر.
وقد تردّد أن والدة المرأة قالت للرسّام بعد أن راجت اللوحة وانتشرت على نطاق واسع: لقد أصبحت ابنتي تائهة. الجميع في باريس يسخرون منها. وزوجها عازم على منازلتك في مبارزة". وقيل إن سارجنت ضحك ممّا سمعه وقال عبارة أصبحت أشبه ما تكون بالنكتة: في كلّ مرّة ارسم فيها بورتريها أصنع لنفسي عدوّا واحدا على الأقلّ". "مترجم".

الأربعاء، أكتوبر 03، 2012

ذات الخِمار

بعد سنوات طويلة من النسيان، تحاول السويد بعث الاهتمام بواحد من أشهر رسّاميها الذي عاش قبل أكثر من مائتي عام.
كان الكسندر روزلين رسّام الطبقة الأرستقراطية الأوروبّية في منتصف القرن الثامن عشر. وكان عمله مطلوبا من قبل أشهر العائلات الملكية في أوربّا. وما يزال هذا الرسّام شاهدا غير عادي على مجتمع كان فيه الارستقراطيون على علاقة حميمة بالفنّانين والمثقفين.
تعلّم روزلين الرسم على يد مواطنه الرسّام جورج إنغلهارد شرودر. لكن بمجرّد أن شعر أنه لم يعد قادرا على تعلّم المزيد من أستاذه، وضع عينه على أوروبّا، وبالتحديد على باريس. وبعد بضع سنوات قضاها في إيطاليا، وصل إلى باريس التي التحق بأكاديمية الفنون فيها.
عندما وصل روزلين إلى فرنسا عام 1752، عقد صداقة مع فرانسوا بوشيه الذي كان آنذاك أستاذا في أكاديمية الرسم الملكي. وقد أدّت تلك العلاقة إلى فتح الكثير من الأبواب أمامه، وحقّق نجاحا كبيرا في أوساط الفنّ الفرنسي. وعند وفاته عام 1793، كان أغنى فنّان في فرنسا.
أسلوب الكسندر روزلين في الرسم كان مذهلا. وعمله يثبت قدرته على تصوير العوالم الداخلية للشخصيات التي كان يرسمها، كما يظهر من بورتريهاته التي تتميّز بنغماتها الواضحة والجديدة وبتأثّره بأسلوب الروكوكو.
ومن أشهر أعماله، التي تربو على المائة، البورتريه المسمّى ذات الخِمار والذي اعتبره الناقد والفيلسوف دونيه ديدرو أفضل لوحة عرضها صالون باريس عام 1769م. المرأة ذات الابتسامة الغامضة في اللوحة لم تكن شخصية ملوكية ولا هي كانت عضوا في المجتمع الراقي أو الارستقراطي، بل كانت زوجة روزلين نفسه ماري سوزان غيروست.
تصوير روزلين الواقعي والرائع لزوجته مغرٍ ومستفزّ. كما انه يثير الإحساس بالغموض والأنوثة والإغواء، ويذكّر بعلاقة الحبّ الملتزم التي كانت تربط الفنّان بزوجته الجميلة.
لوحات روزلين، بشكل عام، تركّز على الثقافة المصطنعة والنخبوية للقرن الثامن عشر، بما كانت تتسم به من ميل إلى حياة البذخ والاستهلاك. كانت النخبة الأوروبية في ذلك الوقت ترغب في أن تنأى بنفسها عن بقيّة المجتمع. وكان أفرادها مهجوسين بالمثل الجمالية العالية وبتمثيل الأدوار واستهلاك السلع الكمالية.
وقد استخدم روزلين مهاراته الفنّية في رسم نمط الحياة الباذخة لرعاته وزبائنه ولم يتردّد في الامتثال لرغباتهم. وبفضل موهبته الفنّية وشبكة اتصالاته وصداقاته الواسعة، استطاع الرسّام وبطريقة منهجية أن يتقدّم إلى الأمام وأن يطوّر فنّه.
هناك سمة مميّزة في أعمال روزلين تتمثّل في قدرته على الاستنساخ، الفوتوغرافي تقريبا، للملابس والاكسسوارات والملامح الناعمة لشخصيّاته. كما أن الملابس وطبيعة الأماكن في اللوحات هي دليل لا يخطئ على مكانة ومهنة الأشخاص المرسومين.

الخميس، سبتمبر 13، 2012

رمبراندت: الفيلسوف المتأمّل

منذ فجر التاريخ، ظهر العديد من الأفراد الذين أتعبوا عقولهم في التفكير في أسباب الأشياء ومعنى الحياة وماهيّة الخلق والموت والقدَر وغير ذلك من الأسئلة الملغزة والمحيّرة. بعض هؤلاء كرّسوا حياتهم كلّها لدراسة هذه المسائل، وكانت تلك مهمّتهم الوحيدة. ومن بين هؤلاء اليونانيّون القدماء الذين كانوا أمّة مفكّرة أنجبت العديد ممّن كانوا يُدعون بالفلاسفة، أي محبّي الحكمة. وقد انتقل هذا المصطلح من جيل إلى جيل إلى أن وصل إلى عصرنا.
ومع توالي القرون، وجد الفلاسفة مواضيع أكثر وأكثر ممّا يصلح للدراسة والتفكير. بعضهم درسوا حركات النجوم وحاولوا اكتشاف ما إذا كان لها تأثير على حياة الإنسان. وظهر آخرون قاموا بفحص مختلف الموادّ التي تتألّف منها الأرض وجمعوها معا لخلق أشياء جديدة.
وفي القرن السابع عشر، أي العصر الذي عاش فيه الرسّام الهولندي رمبراندت، كانت هناك ضجّة كبيرة أثارتها الأفكار الفلكية الجديدة التي أتى بها غاليليو في إيطاليا والاكتشافات الجديدة في مجال الكيمياء التي كان فان هيلمونت البلجيكي احد روّادها.
كان رمبراندت معروفا بافتتنانه برسم لوحات تُظهر شخصيات غارقة في التفكير والتأمّل. وتلك كانت سمة من سمات فنّه. وهي تعكس انشغاله الطويل بالتجارب البصرية والانفعالية.
وإحدى لوحاته المشهورة من هذا النوع هي لوحته المسمّاة "فيلسوف في حالة تأمّل" الموجودة اليوم في متحف اللوفر. وقد رسمها في العام 1632، أي بعد وقت قصير من انتقاله من ليدن إلى أمستردام. وظهرت اللوحة في باريس في منتصف القرن الثامن عشر، واقتناها عدد من الشخصيّات الأرستقراطية، إلى أن ضُمّت أخيرا إلى المجموعة الملكيّة في قصر اللوفر.
موضوع اللوحة وتوليفها المعقّد وأسلوب الرسّام في التعامل المتدرّج بنعومة بين الصفاء والعتمة، كانت كلّها محلّ تقدير واسع في فرنسا. كما جاء ذكر اللوحة في كتابات العديد من الشخصيّات الأدبية في القرنين التاسع عشر والعشرين، مثل جورج صاند وثيوفيل غوتييه وجول ميشيل ومارسيل بروست وبول فاليري وغاستون باشلار وبول كلوديل وألدوس هكسلي وغيرهم.
ويمكن قياس شعبية اللوحة من خلال حضورها الواسع على شبكة الانترنت، حيث تُستخدم غالبا كشعار للفلسفة أو كتفسير للظواهر الباطنية والغامضة.
وفي حين أن العنوان التقليدي للوحة، أي "فيلسوف في حالة تأمل"، مسئول إلى حدّ كبير عن شعبيّة اللوحة، فإنها لا تُظهر أيّا من السمات اللافتة للفلسفة، أي الكتب والأدوات العلمية وما إلى ذلك. كما أن وجود شخص آخر في اللوحة مشارك في المهامّ المنزلية لا يتلاءم مع العزلة المرتبطة عادة بأجواء الدراسة والتأمّل.
وعلى الرغم من أن هناك كتابا كبيرا وريشة من بين الأشياء القليلة الموضوعة على الطاولة أمام الشخصية الرئيسية، إلا أن هذه الأشياء صُوّرت بطريقة موجزة ويستحيل تحديدها بطريقة أكثر دقّة.
الأشياء المرسومة في اللوحة تشير إلى بيئة محليّة. ولكن المعمار يتحدّث عن التاريخ أكثر من أيّ شيء آخر. مؤرّخ الفنّ الفرنسي جان ماري كلارك يشير إلى أن المنظر مستمدّ من توبيا أو توبياس، وهو واحد من مصادر رمبراندت المفضّلة من كتاب العهد القديم.


ولا يبدو مرجّحا أن رمبراندت كان في عقله أيّ فيلسوف عندما رسم هذه اللوحة. ومن الواضح أن فيلسوفه يبدو مهتمّا بالتفكير أكثر من القراءة، لأنه يجلس ويداه مضمومتان إلى حضنه ورأسه غارق على صدره. عيناه تحدّقان بعيدا عن الكتاب المفتوح الموضوع على الطاولة، وكأنه يغلقهما عن العالم الخارجي ويفتح كيانه كلّه على النور الداخلي. وهو يرتدي ملابس فضفاضة، ورأسه الأصلع محميّ بغطاء صغير. ومكانه الذي يجلس فيه يعتبر مكانا مثاليّا لفيلسوف في حالة تأمّل.
جدران الغرفة، حيث يجلس، سميكة جدّا بحيث تسدّ كلّ الضجيج المربك للعالم الخارجي. وهناك نافذة واحدة إلى يمينه تسمح بتسرّب قدر من الضوء بما يكفي للقراءة. إنها غرفة عارية صغيرة مع جدران غير منتظمة وأرضية مرصوفة بالحجارة.
الفيلسوف يجلس هنا في سكون. احتياجاته بسيطة ولا مكان فيها للترف والأشياء الكمالية. انه لا يطلب شيئا أكثر من الهدوء الذي يعينه على متابعة أفكاره وتأمّلاته.
وفي حين أن أفكاره هي عن الأشياء السامية والحقائق الأبدية، إلا أن هناك امرأة مسنّة مشغولة بمعالجة النار في زاوية الغرفة. ومن الواضح أنها تهتمّ بالأشياء المادّية والزمنية للحياة. وهي تبدو منكبّة على الموقد وتضع غلاية على النار. الضوء ينعكس على وجهها ويومض هنا وهناك على الأواني المعلّقة بالمدخنة إلى أعلى. جهد المرأة ومثابرتها يحملان وعدا بما سيأتي. فعندما يفرغ الفيلسوف من تأمّلاته، سيكون على موعد مع عشاء ساخن وشهيّ، على ما يبدو.
هناك شيئان غامضان في الغرفة ومثيران للفضول. في الحائط، خلف كرسيّ الفيلسوف، هناك باب منخفض ومقوّس. ترى هل يؤدّي الباب، مثلا، إلى كهف ما تحت الأرض؟ هل هناك سرّ ما وراء هذا الباب؟ مختبر مثلا؟ هل الفيلسوف يبحث في أسرار الكيمياء ويحاول العثور على "حجر الفلاسفة"؟ هل يكمن وراء هذا الباب كنز مخبّأ وثمين وصعب المنال، مثل الحقائق الخفيّة التي يتوق الفيلسوف لاكتشافها؟
في الجانب الأيمن من الغرفة، ثمّة درج عريض ومتعرّج يرتفع إلى فوق ويختفي في الظلمة الكئيبة إلى أعلى. السلّم الحلزوني قد يكون رمزا للطبيعة التصاعدية للتفكير التأمّلي. نتابع ذلك الدرج بعيوننا المتسائلة إذ تحاول اختراق الظلام ورؤية إلامَ يؤدّي. ربّما هناك غرفة علوية مع نوافذ مفتوحة على السماء، حيث يدرس الفيلسوف النجوم. ويُحتمل أن السلالم المتعرّجة تقود إلى مرصد أو برج صغير من النوع الذي يستخدمه عالم فلكيّ.
الفيلسوف في اللوحة رجل عجوز برأس أشيب. ووجهه مكسوّ بخطوط وتجاعيد، ربّما من كثرة التفكير. وحتى لو حُلّت جميع مشاكله، فإنه ما يزال يجد متعة كبيرة في التفكير الذي قد يجلب له في النهاية السلام والطمأنينة.
النهار يقترب من نهايته. والضوء المتراجع يسقط من خلال النافذة ويضيء وجه الرجل الجليل. هذا المكان هو في الواقع مسكن مثاليّ يليق بفيلسوف يخترق بأفكاره حجب الغيب وأسرار المجهول.
استدارة الدرج وسط الظلال، والضوء الذهبيّ المتدفّق من النافذة إلى حيث يجلس الفيلسوف في عزلة وتأمّل، يوحيان بالشعلة المتوهّجة من التأمّل الداخلي. الدرج نفسه يختفي في الأعلى حيث الظلام والعتمة. ومهمّة الفيلسوف هي أن يصعد إلى أعلى ويحضر الضوء الذي يبدّد الظلام.
موضوع رمبراندت الخالد عن الفيلسوف المتأمّل هو مساحة داخلية، من الناحيتين الجسدية والعقلية. ومن خلاله يقودنا رمبراندت كي نتواصل مع جوهر التأمّل الموصل إلى اليقين والاستنارة.

Credits
rembrandtonline.org
contemplationem.com

الجمعة، يوليو 20، 2012

.. فيتريانو

المكان يشبه شُطآن بعض الجزر البريطانية. الأفق منخفض والسماء محجوبة بالغيوم الداكنة والثقيلة. قدما المرأة حافيان، على الرغم من أن ذراعيها مغطّيان بالقفّازات. وهي تستدير لتكشف عن ظهر جميل وثوب حفلة احمر خفيف. وركها الأيمن يميل نحو شريكها الذكر الذي يرتدي ملابس سهرة. الزوجان المتأنّقان يبدوان كما لو أنهما هربا من حفلة وفضّلا أن يشكلا ثنائيّا راقصا على هذه البقعة البعيدة من شاطئ البحر.
الزوجان المبتهجان ليسا وحدهما هنا. هناك أيضا بمعيّتهما خادمة وساقٍ، وكلّ منهما يحمل مظلّة واقية من المطر. انعكاسات الملابس والأقدام تبدو ناعمة على الرمال المبلّلة. ومع ذلك فهذه اللوحة غامضة بشكل بارع. تنظر إليها فتشعر كما لو أن وراءها قصّة تتكشّف فصولها تباعاً.
"الساقي المغنّي" لوحة زيتية صغيرة نسبيّا رسمها جاك فيتريانو عام 1992، وأصبحت منذ ذلك الحين لوحة معلميّة في بريطانيا. شيء ما شبيه بهذا حدث في أمريكا من قبل، عندما أصبحت لوحة "القوط الأمريكيّون" لـ غرانت وود صورة أيقونية لا يكاد يخلو منها منزل أمريكيّ.
عندما أتمّ فيتريانو رسم هذه اللوحة، تلقّى عددا من النصوص لأعمال درامية متخيّلة كتبها أصحابها من وحي اللوحة. كما تلقّى عددا من الرسائل بعثها إليه جنود يحكون له فيها كيف أن الصورة ساعدتهم في الخروج من ذكريات أهوال الحرب على العراق. ثم وصلته رسائل أخرى من عائلات ثكلى تشرح فيها تأثير هذه الصورة وكيف أنها وفّرت لهم نوعا من المواساة والسلوى في لحظات حزنهم.
معظم الكتّاب والنقّاد مندهشون من الجاذبية الكبيرة لهذه اللوحة ومن انتشارها الغريب. "بصراحة، أنا لا أفهم الأمر"، يقول مؤرّخ الفنّ كينيث سيلفر. "لكن يبدو أن الصورة نجحت في استثارة الحنين إلى زمن ماضٍ، يقع على الأرجح ما بين ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، عندما كان الرجال والنساء يتصرّفون ويلبسون على نحو معيّن".
فيتريانو نفسه يقول انه رسم اللوحة، ببساطة، لسببين: أولّهما أن امرأة أخبرته ذات مرّة انه بارع في رسم الشواطئ. والثاني أن شاطئ البحر هو المكان الذي يقصده العشّاق عادة". ولو افترضنا أن الشاطئ في اللوحة حقيقيّ، فإنه ربّما يكون جزءا من شاطئ ليفين بـ اسكتلندا، والذي كان فيتريانو يتردّد عليه عندما كان صبيّاً.
صحف التابلويد البريطانية أعلنت فيتريانو "رسّاما للشعب"، ووصفته بأنه يسيطر تماما على تهويماته ولا يمانع في أن يُشرك معه العالم فيها".
يقول فيتريانو انه يحبّ نموذج ايفا غاردنر الأسمر والصارم والحسّي. كما انه لا يهتمّ كثيرا بالمعايير السائدة للجمال الأنثوي.
غير أن منتقدي الرسّام يتّهمونه بالانتحال ويأخذون عليه استنساخه لطريقة ووقوف شخوص لوحاته، بما فيها هذه اللوحة، من مجلات الموضة وكتب الدليل.
ويردّ فيتريانو بالقول انه لا يأبه كثيرا بما يقال، مذكّرا بعبارة بيكاسو المشهورة: الآخرون يقتبسون وأنا أسرق". ويضيف: نفس الكتب التي أستخدمها في رسم مناظري كانت موجودة في استديو فرانسيس بيكون عندما توفّي".
ومن الواضح أن "الساقي المغنّي" تمثّل خروجا على نسق لوحات جاك فيتريانو. فالرسّام، البالغ من العمر اليوم 60 عاما، لا يؤمن برومانسية الزوجة الواحدة. كما انه منجذب أكثر إلى تصوير أمزجة وحالات أشدّ قتامةً وشخصيّات أكثر إثارةً للشبهة. "مترجم".

موضوع ذو صلة: عندما تتحوّل الصورة إلى أيقونة

الجمعة، أكتوبر 07، 2011

دومينيكينو: عرّافة كيومي

كان دومينيكينو احد أشهر وأكثر الرسّامين الايطاليين نفوذا في القرن السابع عشر. وقد اشتهر بلوحاته الكبيرة، وخاصّة لوحته عرّافة كيومي التي رسمها في العام 1617 بناءً على تكليف من الكاردينال شيبيوني بورغيزي. كانت عرّافة كيومي شخصية شعبية جدّا. وكيومي هي اسم بلدة في جنوب غرب ايطاليا يُعتقد أنها أوّل مستوطنة للإغريق في ايطاليا.
الكاردينال نفسه كان احد جامعي التحف الفنّية الكبار. كما اشتهر برعايته للفنّانين، مثل برنيني وكارافاجيو وغويدو ريني وغيرهم.
وقد تأثّر دومينيكينو في رسمه لهذه اللوحة بلوحة رافائيل المشهورة سانتا سيسيليا. وعرّافة كيومي تقف في طليعة صفّ طويل من الشخصيّات الأنثوية التي رسمها دومينيكينو بعينيها الواسعتين الصافيتين ونظراتها البعيدة، وهما سمتان مألوفتان في أعمال هذا الرسّام.
العرّافة التي تصوّرها اللوحة كانت إحدى كاهنات ابوللو وكانت تعيش في مستعمرة يونانية قرب نابولي بـ ايطاليا. وهناك إشارات متعدّدة إلى هذه العرّافة في الأدب الكلاسيكي. فقد ذكرها كلّ من أوفيد في كتاب التحوّلات وفرجيل في ملحمة الانيادا.
كانت هناك عرّافات كثيرات. لكن يبدو أن هذه العرّافة كانت أكثرهنّ شعبية، وهذا يفسّر كثرة صورها في الرسم الايطالي.
وقد اشتهرت هذه المرأة بإحدى نبوءاتها التي أشارت فيها إلى أن رجلا ستحمل به امرأة عذراء في اصطبل في بيت لحم. المسيحيون احتفوا بهذه الإشارة واعتبروها بشارة بمولد المسيح. كما أصبحت العرّافة نفسها رمزا مهمّا في المسيحية.
ومن بين جميع اللوحات التي تصوّر المرأة، يبدو أن لوحة دومينيكينو كانت الأكثر تفضيلا واحتفاءً عند جامعي التحف الفنّية في القرن التاسع عشر.
وربّما لهذا السبب تنافس الرسّامون في استنساخ اللوحة والنسج على منوالها. وهناك الآن على الأقل سبع عشرة نسخة من لوحة دومينيكينو هذه موجودة في متاحف ومجموعات فنّية عديدة حول العالم.
دومينيكينو رسم ثلاث لوحات للعرّافة. وتظهر فيها جميعا وهي تعتمر وشاحا وترتدي فستانا من القماش النفيس.
اللوحة الأشهر من بين اللوحات الثلاث هي التي توجد اليوم في غاليري بورغيزي في روما. وقد رُسمت في العام 1617م. وتظهر فيها المرأة وهي تمسك بمخطوط يُفترض انه يحتوي على تلك النبوءة، بينما يبدو خلفها جزء من آلة كمان.
كرّس دومينيكينو كلّ حياته لرسم الجداريات الكبيرة، ونادرا ما كان يرسم لوحات صغيرة. كان هذا الرسّام يفضّل العمل في سرّية وعزلة تامّة. ولم يكن يملك مرسما خاصّا به. كما لم يكن مهتمّا بتوقيع اسمه على لوحاته، كما هي عادة الرسّامين في ذلك الوقت.
في العصور القديمة، طبقا لما تذكره الأساطير، كانت هذه العرّافة تسكن الأضرحة والكهوف وتنطق بأحكام ونبوءات غامضة. وأحيانا كانت تكتب نبوءاتها شعراً على أوراق الشجر ثم تضعها عند حافّة الكهف. وإذا لم يأت احد ليجمعها، فإن الريح تبعثرها ولا يعود ممكنا قراءتها بعد ذلك.
وفي القرون الوسطى، ركّز الكتّاب على النبوءات المسيحية للعرّافة، التي تنبّأت، حسب فرجيل، بـ "مخلّص أو قادم جديد من السماء". وقد فُسّر ذلك على انه نبوءة بميلاد المسيح أثناء حكم الإمبراطور اوغستوس. لكن بعض المصادر الأدبية تذكر أن فيرجيل إنما كان يشير على الأرجح إلى الشخص الذي كان يرعاه ويقدّر شعره.
دانتي، وكما هو الحال مع المسيحيين الأوائل، صدّق تلك النبوءة واعتبرها مؤشّرا على ميلاد المسيحية. ولهذا السبب، وكنوع من المكافأة، اختار فرجيل كي يكون مرشده في رحلته إلى العالم السفلي في الكوميديا الإلهية.
في العام 1932، قام بعض علماء الآثار بإجراء حفريات في الكهف الذي يقال بأن عرّافة كيومي كانت تسكنه. وقد وجدوا أن تضاريس وبُنية الكهف تتوافق مع ما ذكره فرجيل الذي وصفه بأنه كهف تقوم على تخومه مائة بوّابة يندفع عبرها صدى صوت العرّافة وهي تسرد نبوءاتها.
في عصر النهضة تجدّد الاهتمام بشخصية عرّافة كيومي. ومن أشهر من صوّروها ميكيل انجيلو الذي رسمها في سقف كنيسة سيستين بـ روما.
وعبر العصور المتعاقبة، ابتُكرت عرّافات أخر ونُسبن إلى أماكن مختلفة في اليونان وليبيا وبابل وإيران وآسيا وأفريقيا، للتدليل على الانتشار الجغرافي للمسيحية.

الأربعاء، يوليو 13، 2011

إيماءة يوحنّا


الصورة الشائعة عن يوحنّا المعمدان، كما تعكسها الأدبيات المسيحية، هي صورة رجل بسيط ومتقشّف قضى معظم حياته في الصحراء يسابق الحيوانات البرّية ويتغذّى على الجراد والعسل. لكن ليوناردو دافنشي يرسم الرجل بطريقة مدهشة وصادمة. كما أن صورته هنا مختلفة كليّا عن بقيّة الأعمال الفنية التي تناولت هذه الشخصية.
دافنشي يرسم يوحنّا المعمدان في الصحراء بشعر مجعّد وهو يرتدي جلود الحيوانات ويبتسم بطريقة غريبة تذكّر إلى حدّ ما بأشهر لوحات دافنشي "الموناليزا". وفي يد الرجل اليسرى ثمّة قضيب حديدي في نهايته صليب. بعض مؤرّخي الفنّ يعتقدون أن الصليب وجلد الحيوان أضيفا إلى اللوحة في مرحلة تالية من قبل رسّام آخر.
في اللوحة يظهر القدّيس وقد أضاءه نور من مصدر خارج اللوحة، بينما تخلع الظلال الرقيقة على بشرته مظهرا ناعما ورقيقا. وقد عمد ليوناردو إلى وضع الشخصية في الظلال لتكثيف الإحساس بعزلته عن العالم الحقيقي والتأكيد على ارتباطه بالسماء.
غير أن أهمّ ملمح في هذه اللوحة هو حركة إصبع القدّيس المشيرة إلى السماء. هذه الجزئية طالما أثارت جدلا واسعا بين أوساط المؤرّخين ونقاد الفنّ وأصبحت لكثرة الحديث عنها وغموض معناها تُسمّى "إيماءة يوحنّا". البعض قالوا أن ليس هناك من دلالة دينية للإصبع المرفوع. والبعض الآخر ذهبوا إلى أن الإصبع هي علامة على مجيء المسيح. بينما قال آخرون أن ليوناردو كان يشير إلى أن القوانين التي تحكم الأرض هي نفسها التي تحكم السماء.
وأيّا ما كان المعنى الكامن وراء الإصبع المرفوع في الصورة، فإن هذه الإيماءة استُنسخت عديدا من المرّات من قبل فنّانين كثر جاءوا بعد دافنشي.
بعض مؤرّخي الحركات السرّية يقولون إن ليوناردو كان ساحرا. كما تردّد في بعض الأوقات انه كان زعيما لإحدى الجمعيات السرّية بعد أن تسلّم هذا المنصب من سيّده السابق.
وهناك أيضا من يشير إلى تأثير نوعية التعليم الذي تلقاه الرسّام في فلورنسا خلال عصر النهضة الذي ترافق مع تجدّد الاهتمام بالأفكار الأفلاطونية وبالكيمياء القديمة التي تؤكّد على دور السحر وبعض الإشارات والحركات الطقوسية. طبعا مثل هذه المقولات تظلّ مجرّد تكهّنات في غياب أدلّة واضحة تؤكّدها أو تنفيها.
هناك احتمال بأن أحدا لم يكلّف دافنشي برسم هذه اللوحة، بل قد يكون رسمها لدواعي المتعة الشخصية فحسب. وهي كانت إحدى ثلاث لوحات احتفظ بها حتى نهايات حياته.
لوحة يوحنّا المعمدان كثيرا ما أثارت ردود فعل معادية بسبب طريقة تناولها للموضوع. وأحد الأشياء المزعجة فيها هو أن ملامح القدّيس تبدو اندروجينية أو خنثوية إلى حدّ ما. وقد عُرف عن ليوناردو رسم مثل هذه الأشكال في لوحاته. وقيل إن في هذا تماهياً مع بعض أفكار الكيمياء القديمة التي تقول بامتزاج الجنسين بحيث يسموان فوق نموذج ثنائية الذكر والأنثى.
وهناك من قال إن دافنشي أراد بلوحته الإيحاء بأن يوحنّا هو المسيح الحقيقي نفسه. وهو اعتقاد تؤمن به المندائية، وهي جماعة دينية أصلها من العراق. وقد تعرّض أتباع هذه الفرقة على مدى زمن طويل لكثير من الظلم والاضطهاد.
هذه اللوحة ليست أفضل لوحات دافنشي من الناحية الفنّية. كما أن تأثيره فيها لا يبدو واضحا كثيرا بسبب الشلل الذي أصاب ذراعه الأيمن وتقدّمه في السنّ آنذاك، فضلا عن آثار عمليات الترميم التي أجريت على اللوحة في فترات مختلفة.


الخميس، يونيو 30، 2011

طريق الامبراطورية


خلال الفترة من 1833 إلى 1836م، رسم الفنّان الأمريكي توماس كول سلسلة من اللوحات حاول من خلالها رصد مراحل نشوء وصعود الامبراطوريات ومن ثمّ انهيارها وأفولها.
وجانب من شهرة هذه اللوحات يتمثّل في أنها تعكس المشاعر الشعبية الأميركية في ذلك الوقت عندما كان الكثيرون ينظرون إلى الفكرة الرعوية على أنها المرحلة المثالية في تطوّر الحضارة البشرية. كان هؤلاء يخشون من أنّ تتَحَوّل الدولة في النهاية إلى امبراطورية، ما يؤدّي إلى استشراء الجشَع والشرَه ومن ثمّ الانهيار المحتّم.
وتتألّف السلسلة، التي تصوّر على التوالي مراحل نموّ وسقوط دولة وهمية تقع على شاطئ نهر، من خمس لوحات: المجتمع المتوحّش، المجتمع الأركادي أو الرعوي، اكتمال بناء الإمبراطورية، تدمير الامبراطورية، ثمّ خرابها. ويمكن اعتبار هذه اللوحات في نفس الوقت تصويرا للعلاقة ما بين الإنسان والطبيعة. أمّا مصدر الإلهام الأدبيّ الذي استند إليه الفنّان في رسمها فهو قصيدة للشاعر الانجليزي اللورد بايرون كتبها في العام 1818م.
توماس كول كان يعتقد أن الإمبراطوريات والحضارات الإنسانية لا تدوم طويلا. فعلى مرّ التاريخ، سادت امبراطوريات كثيرة ثم بادت. أما الرسالة التي أراد أن يبعثها من خلال لوحاته فهي أن الطبيعة تتمتّع بالسيطرة المطلقة على كلّ شيء. وبغضّ النظر عن مدى ما يمكن أن يفعله الإنسان، فإن تصرّفاته لا يمكن أن تُوقِف عمل الطبيعة. وبعبارة أخرى، فإن الإنسان يمكن أن يهيمن وأن ينشئ حضارة عظيمة. لكنّ كلّ شيء يمكن أن يفعله البشر مآله في النهاية إلى التلاشي والزوال.
وقد رسم كول جميع اللوحات الخمس في نفس الموقع. لكنه استخدم مواسم وأوقاتاً وظروف طقس مختلفة كي ينقل المزاج الذي يناسب كلّ لوحة.
كان توماس كول إنسانا حادّ الذكاء ورسّاما متميّزا وموهوبا. وكانت له آراء كثيرة حول الحياة والطبيعة البشرية والموت. كان يعتقد، مثلا، أن الإنسان يعيش ويموت، مثله مثل جميع الكائنات من نبات وحيوان وخلافه.
وكان يرسم الجبال المتآكلة والأنهار الجافّة كرمز لنهاية دورة الطبيعة التي تماثل دورة حياة الإنسان نفسه. فالإنسان يموت عندما تتقدّم به السنّ، وكذلك الطبيعة تفقد حيويّتها وتجدّدها مع مرور الزمن.



1) المجتمع المتوحّش:
جوّ هذه اللوحة يبدو مظلما وغير مروّض. من مسافة بعيدة يمكن للمرء أن يرى الدخان والنار وجمعاً من البشر المتوحّشين. كما يمكن أيضا رؤية جزء من شاطئ نهر يقوم خلفه جبل تغمره الغيوم في فجر يوم عاصف. وفي يسار المنظر، نلمح صيّادا يرتدي ملابس من جلد الحيوان وهو يجري مسرعا في البرّية في إثر أيل. هناك أيضا صيّادون آخرون على التلّة المجاورة ينطلقون للصيد. وفي النهر أسفل الصيّاد، هناك زورق صغير يبحر في النهر.
وعلى الربوة إلى اليسار، تلوح مجموعة من البيوت المبنيّة من القشّ حولها نار مشتعلة. هذه هي نواة المدينة التي ستنشأ في ما بعد. الرسّام اعتمد في رسم تفاصيل هذه اللوحة على حياة وأسلوب معيشة سكّان أمريكا الأصليين.
الجبل الظاهر في الخلفية يتكرّر في كلّ لوحة من لوحات مسار الإمبراطورية. هنا، يضعه كول في منتصف المشهد تقريبا بينما تحيط به الغيوم العاصفة. الجبل هائل ومهيب. انه شكل قويّ يوحي بالسيطرة المطلقة للطبيعة في المجتمع المتوحّش، وأيضا بحالة الإنسان المعرّض للخطر في علاقته بقوى الطبيعة.
تصوّر كول عن الإنسان المتوحّش هو انه صيّاد في حالة ترحال ويحمل القوس والسهم ليقتفي إثر أيل أو أيّ حيوان آخر يصلح للأكل.
الأيل المجروح يعدو فوق مياه النهر أسفل اللوحة محاولا الفرار بينما انغرس في ظهره سهم. وفي هذا إشارة إلى جهد الإنسان للسيطرة على الطبيعة. في مرحلة الصيد، يتجمّع البشر معا لتبادل ضرورات المعيشة والحماية والعبادة. الغيوم العاصفة ترمز إلى الطبيعة المتوحّشة. والزورق البدائي في أقصى يسار المنظر هو إشارة إلى بداية النقل والاستكشاف.



2) المجتمع الأركادي أو الرعوي:
في هذه اللوحة، أصبحت السماء صافية. ونحن الآن في مستهلّ يوم جديد من أيّام الربيع. اللوحة تنقل الناظر إلى نقطة اقرب، بحيث يمكن رؤية جانب اكبر من النهر بعد أن أصبح الجبل الآن في الجهة اليسرى. يمكننا أيضا أن نرى قمّة صخرية متشعّبة خلف الجبل. الكثير من الأرض القفر أفسحت المجال للأراضي المستوية. أصبح هناك مروج وحقول محروثة. الأنشطة المختلفة تجري في الخلفية: حراثة الأرض، بناء القوارب، رعي الأغنام، والرقص. وفي المقدّمة، على الجانب القريب من النهر، يقوم معبد صخريّ ينبعث منه الدخان. هذه الصور تعكس أجواء اليونان القديمة المثالية وما قبل الحضرية. الجبل الذي ظهر للمرّة الأولى في المجتمع المتوحّش أصبح الآن أكثر هدوءا. كما حلّ فلاح مكان الصيّاد، علامة على الاستقرار الدائم. في أقصى يسار اللوحة، نرى رجلا مسنّا يرسم بعصا أشكالا في التراب، في ما يبدو وكأنه إشارة إلى بداية العلم والمنطق.
إلى اليمين، يمكن رؤية صبيّ صغير وهو يرسم الشكل البدائي لامرأة تمسك بمغزل، في إشارة إلى الأصول الأولى للرسم والتصوير. ولو دقّقت أكثر في اللوحة، سترى الأحرف الأولى من اسم الرسّام منقوشة على الكتلة الحجرية المستطيلة التي يجلس عليها الصبيّ. خلف المرأة الواقفة، هناك جذع شجرة مقطوع. وواضح أن من قطعه إنسان. وهي علامة مزعجة ونذير شؤم لما سيأتي. كان كول كثيرا ما يستخدم جذوع الأشجار المقطوعة في لوحاته كي يدلّل على الآثار السلبية للحضارة.
إلى يمين اللوحة، نلمح رجالا ونساءً يرقصون، في إشارة إلى بدايات الموسيقى. الاستيطان الدائم يحلّ محلّ الخيام البدائية المصنوعة من الأشجار أو جلود الحيوانات في المجتمع المتوحّش. الدخان المتصاعد من البيوت يوحي بسيطرة الإنسان على الطبيعة للأغراض المنزلية.
في النهر، هناك سفينة. لقد تغيّرت القوارب التي كان يستخدمها الإنسان في المجتمع المتوحّش وأصبحت الآن سفناً متطوّرة، ما ينذر ببدايات التجارة البحرية والتوسّع الامبراطوري. في وسط المنظر، نرى صبيّا يرعى قطيعا من الأغنام. وجود الأغنام يؤشّر إلى بداية ظهور رسم المناظر الطبيعية المعروفة بالرعوية. إلى يسار الوسط، نرى شخصا يحمل درعاً، وهو أمر يوحي بقدوم الصراعات العسكرية.



3) اكتمال بناء الامبراطورية:
في هذه اللوحة، يحوّل الرّسام نظر المتلقّي إلى الشاطئ الآخر. الوقت: ظهيرة يوم رائع من أيّام الصيف. ضفتّا النهر أصبحتا مكانا تقوم عليه بنايات تزيّنها أعمدة رخامية وسلالم توصل إلى الماء.
المعبد الحجري في اللوحة السابقة تحوّل إلى بناء تعلوه قبّة ضخمة. والنهر أصبحت تحرسه منارتان تطلان من بعيد. وهناك سفن تبحر في النهر قاصدة البحر الذي وراءه. لكنّ أكثر ما يلفت الانتباه في المشهد هو هذا الحشد المبتهج من الناس الذين يتجمّعون في المدرّجات والشرفات. لو نظرت إلى الجهة اليسرى من اللوحة، سترى ملكا أو ربّما جنرالا يرتدي ملابس قرمزية ويعبر جسرا يصل ما بين طرفي النهر في ما يشبه موكب النصر. المظهر العام يذكّر بذروة صعود روما القديمة.
ما كان يوما جبلا، صار الآن مكانا تغطّيه بنايات من صنع الإنسان. أي أن الجبل أصبح يخضع تماما لسيطرة الإنسان.
المعبد الإغريقي الطراز يحتوي على تماثيل تصوّر مشهد صيد يذكّر بالصيّاد الذي يظهر في لوحة المجتمع المتوحّش. إلى يمين اللوحة، يظهر بناء عال يقف فوقه تمثال لامرأة يشبه تمثال دايانا إلهة الصيد الرومانية. الرماح والأزياء العسكرية توحي بالطابع العسكري للمجتمع. الأبواق النحاسية حلّت محلّ المزامير البسيطة للمجتمع الرعوي. وفي أقصى يمين اللوحة، هناك مؤرّخ يسجّل تاريخ اكتمال بناء الامبراطورية، في موازاة دور الرسّام الذي يخلق نوع آخر من التسجيل من خلال الصور.



4) تدمير الإمبراطورية:
في هذه اللوحة، يتراجع الرسّام قليلا إلى منتصف النهر تقريبا للسماح بمساحة فعل اكبر. هذا الفعل أو الحدث هو تدمير الامبراطورية أثناء عاصفة تلوح نذرها من بعيد. ويبدو أن أسطولا من المحاربين الأعداء قد أطاح بالدفاعات الأمامية بعد أن شقّ طريقه وسط مياه النهر. وهو الآن منشغل بإحراق وتدمير الامبراطورية وقتل واغتصاب سكّانها.
الجسر الذي عبر فوقه موكب النصر من قبل أصبح الآن مهدّما. وهناك بموازاته جسر مؤقّت ينوء تحت ثقل الجنود والسكّان المرعوبين. الأعمدة تحطّمت والنيران تشتعل من الطوابق العليا لقصر يقوم على الضفّة اليمنى للنهر. التمثال الضخم إلى يمين اللوحة يصوّر بطلا مقطوع الرأس ويحمل ترسا، لكنه ما يزال يخطو إلى الأمام باتجاه مستقبل غير واضح. هيئة التمثال تذكّرنا بالصيّاد في لوحة المجتمع المتوحّش. وربّما كان هذه المشهد مقتبسا من حادثة تخريب ونهب روما في العام 455م.
الجبل، مرّة أخرى، يصبح أكثر وضوحا. وهو الآن في نهاية اللوحة، ما يوحي بقرب عودة الطبيعة. الطبيعة نفسها أصبحت صدى للفوضى والدمار اللذين لحقا بالامبراطورية، على شكل غيوم عاصفة ورياح ونار. شرفة المعبد تحوّلت إلى قاعدة لإطلاق المنجنيق، في إشارة إلى أن عنف الحضارة أفسد الفنّ والدين. الجسر الذي عبر عليه ذات يوم الحاكم، إنهار الآن تحت ثقل جيوشه. والسفن التي كانت في يوم من الأيّام رافدا للتجارة هي الآن تحترق وتغرق في جحيم الحرب. وهناك أمّ تنعي موت ابنها. وغير بعيد عنها، امرأة أخرى تهرب من جندي لتلقي بنفسها في مياه النهر، ما يدلّ على انهيار الحضارة وتحوّلها إلى عنف جنسي. لا شيء هنا سوى المجازر والعنف والدمار. والقتال يدور في كلّ مكان، بينما الموتى والمحتضرون يملئون الطرقات والميادين.



5) الخراب:
هذه اللوحة تُظهِر نتائج ما حدث للامبراطورية بعد سنوات من انهيارها. ونحن نرى ما تبقّى منها في ضوء قمر شاحب. الليل هادئ والنهر يضيئه جوّ من الهدوء والسكينة. الضوء الباهت ينعكس في مياه النهر الراكدة. الحياة البرّية تعود إلى طبيعتها الأولى. لم يعد بالإمكان رؤية بشر. لكنّ أطلال بنيانهم تبرز من تحت عباءة مجموعة من أشجار اللبلاب. أقواس الجسر المدمّر وأعمدة المعبد ما تزال ظاهرة للعيان. وهناك بقايا عمود واحد ضخم في المقدّمة كان ذات يوم يدعم معبدا أو قصرا وأصبح الآن مكانا تعشعش فيه الطيور.
الطبيعة أخذت تستعيد مركز الصدارة شيئا فشيئا على أنقاض الإمبراطورية. وعلى الرغم من أن هذه علامة على نهاية الحضارة، إلا أن القطع المعمارية ما تزال تحتفظ بجمال حزين. الأيل الذي شوهد للمرّة الأولى في المجتمع المتوحّش وهو يحاول الفرار من الصيّاد، أصبح الآن يتجوّل بحرّية في الطبيعة.
بقايا المعبد والقصر والأبنية الأخرى تؤشّر إلى أن دورات الطبيعة أقوى من أيّ شيء شيّدته يد الإنسان مهما كان كاملا.
شروق الشمس في لوحة المجتمع المتوحّش يحلّ مكانه هنا ضوء القمر. لقد سقطت الحضارة وعاد الجبل إلى هيئته الأولى وهو الآن يعيد تأسيس نفسه كمعْلَم رئيسيّ في المشهد. وهكذا تكتمل الدورة التي بدأت بالمجتمع المتوحّش عند الفجر.
هامش:
مسار الامبراطورية: نظرة بانورامية

الجمعة، يونيو 24، 2011

الرحيل إلى سيثيرا


لم تحدث رحلة مثل هذه في الواقع. ولا الرسّام يحاول حملنا على الاعتقاد بأن الرحلة حدثت فعلا. التماثيل الكلاسيكية المطوّقة بالزهور، وكائنات كيوبيد الطائرة في منتصف الهواء، كلّها تبدو مثل عرض على خشبة مسرح. حركة العشّاق البطيئة، النسيم الذي يهفهف الأشجار، والضباب الذي يرحل فيه الرجال والنساء، تثير حالة شبيهة بالحزن الذي يعترينا عند الإحساس بانتهاء العطلة.
ورغم أن طبيعة الحياة اليوم أصبحت مختلفة نوعا ما، إلا أن لوحة جان انطوان واتو الرحيل إلى سيثيرا تثير صدى بعيداً آتياً من وراء القرون. فهذه الجزيرة، أي سيثيرا، تقع في اليونان، وبالتحديد في أقصى جنوب البحر الأيوني. وهي محاطة بالجبال وترتفع عن سطح البحر بأكثر من ألف وستمائة قدم. وفي العصور القديمة ساد اعتقاد بأن هذه الجزيرة كانت المكان الذي ولدت فيه فينوس أو افرودايت إلهة الجمال.
والرسّام يستلهم قصّة تلك الجزيرة ليصوّر الاحتفال الذي كان يحييه ارستقراطيّو فرنسا زمن الملك لويس الرابع عشر. كان أفراد النخبة يذهبون إلى الريف لينغمسوا في الملذّات والحفلات الماجنة في أجواء من البذخ والشهوة. و واتو هنا يخلق إحساسا بالامتداد الواسع بين الغابة البعيدة والضبابية وبين النباتات الخصبة والوفيرة. وهو تأثير يحرّض الناظر على أن يدخل في قلب المنظر.
في اللوحة نرى ريفا متحضّرا مشيّدا من عدّة طبقات فنّية. الرجال والنساء يبدون مستغرقين في أحاديث غزل بلا نهاية. وامرأة شابّة تنظر خلفها بحنين إلى المكان الذي قضت فيه للتوّ ساعات سعيدة. وامرأة أخرى تقبّل يد حبيبها الذي يساعدها على الوقوف. وعاشق آخر يضع يده حول خصر حبيبته كي يحرّضها على مرافقته. السفينة في أقصى يسار اللوحة مزيّنة بالحرير الأحمر بينما تتهادى بخفّة مثل حلم ذهبيّ فوق الأمواج.
الطبيعة الرعوية للمكان تحاول الإمساك بجوهر الجنّة. والجوّ فانتازي أكثر منه واقعيا. الألوان متناغمة. واستخدام فرشاة ناعمة يُنتج منظرا أشبه ما يكون بالحلم. ومن الصعب أن تعرف ما إذا كان الوقت ربيعا أو خريفا، فجرا أو غسَقا. الجانب المهيمن في اللوحة هو منظر الأشجار الرائعة والخضرة السامقة التي تحيط بالمكان والناس.
تماثيل فينوس والملائكة الصغار تولّد هالة ايروتيكية توحي بالجانب الحسّي للموضوع. أيّ مكانٍ يمكن أن يقترحه واتو كي يذهب إليه العشّاق أفضل من سيثيرا، جزيرة الحبّ؟! ومع ذلك، فتفاصيل اللوحة تشير إلى أن العشاّق يوشكون على مغادرة الجزيرة.
عُرف عن واتو ميله لاستخدام فرشاة خفيفة وناعمة كي يخلق جوّا حالما وضبابيّا. وهذا واضح في منظر الغيوم الخفيفة وأوراق الشجر الساكنة. ألوان الطبيعة متوافقة مع ملابس الأشخاص. والضوء في هذا المشهد الحالم ينعكس على ملابس الأشخاص باعثاً كرنفالا من الألوان الساطعة والمبهجة.
ربّما كان حبّ الرسّام للجغرافيا والأماكن الساحرة والفانتازية وعشقه للمسرح من بين الأسباب التي دعته لرسم هذه اللوحة الضخمة. وقد لزمه خمس سنوات كاملة كي ينجز رسمها. أما لماذا هذه الفترة الطويلة نسبيا، فلأنه كان يعمل في نفس الوقت على لوحات أخرى كُلّف برسمها.
وقد ثبت أن اللوحة هي إحدى تحفه الفنّية الكبيرة. كما أنها تمثل معلما مهمّا في تاريخ فنّ القرن الثامن عشر. ولطالما اُعجِب النقّاد بالبُنية المتناسقة للوحة والشعور الهادئ بالاستمرارية وحيوية ضربات الفرشاة والألوان الجميلة فيها. وبسبب النجاح الكبير الذي حقّقته، كُلّف واتو برسم نسخة ثانية منها بناءً على طلب صديق له يُدعى جان دي جوليان.
لوحة "الرحيل إلى سيثيرا" تثير إحساسا بالسعادة والمزاج المتفائل. فليس هناك أثر للحزن، ولا مكان هنا للقلوب الكسيرة. العشّاق يتجوّلون معا في المكان، بينما تظلّلهم آلهة الحبّ الصغيرة. واللوحة هي استعارة عن الغزل والوقوع في الحبّ. لكن بما أن المنظر يصوّر الرحيل عن موطن فينوس، فقد ذهب البعض إلى أن اللوحة ربّما ترمز إلى أن الحبّ إحساس عابر ولا يدوم طويلا.
وممّا لا شكّ فيه أن الطبيعة الضبابية الغامضة في خلفية المنظر هي احد الملامح المبتكرة في اللوحة. كما أنها تعكس تأثّر الرسّام بنوعية الطبيعة التي كان يرسمها كلّ من روبنز ودافنشي. "مترجم".

الاثنين، يونيو 20، 2011

أوليمبيا و مانيه

بلوحة واحدة وصادمة تصوّر مومساً في حالة استرخاء، دشّن إدوار مانيه العالم العاري والجريء للفنّ الحديث.
لم تكن مثل أيّ سيّدة متخففة تمّ رسمها من قبل. لم تكون حوّاء في الجنّة أو فينوس على سرير من الأمواج. ولم تكن إلهة أو ملاكا أو امرأة تغتسل بخجل وتراها العين على حين غرّة.
كانت امرأة معاصرة، لا تبدو خجولة أو مغطّاة، كما أنها ليست رمزا أو استعارة لشيء. كان اسمها فيكتورين موران. لكن إدوار مانيه كان يسمّيها اوليمبيا. وقد غيّرت كلّ شيء.
للوهلة الأولى، قد يتساءل المرء عن سبب كلّ هذه الضجّة. مانيه كان يعتبر نفسه رسّام طبيعة صامتة. وربّما هذا هو السبب في أن أوليمبيا تبدو بمثل هذا الغموض الصامت. هي تتمدّد بهدوء، بدون ثياب وبشكل صارخ، لكنّها ترتدي زينة كلاسيكية. فهناك وشاح أسود حول رقبتها وفردة نعال واحدة في قدمها اليسرى. الفردة الأخرى انزلقت بلا مبالاة. في أذنها زهرة قرنفل. يدها مثبّتة فوق حضنها. الزوايا الخارجية لفمها مرفوعة قليلا وكأنها على وشك الابتسام أو السخرية. عيناها ناعستان. لكنّ وضعية جلوسها متنبّهة بما لا يدع مجالا للشكّ. قارن بينها وبين أي أيّ حورية ساخنة ومبتذلة من عصر الباروك او الروكوكو. وسيتبيّن لك أنها رزينة بشكل ايجابي.
لكنّ هناك شيئا مختلفا في هذه الأنثى. فمن ناحية، هي لا تفعل شيئا. كما أنها تتجاهل باقة الورد التي تقدّمها لها خادمتها السمراء . وقطّتها الصغيرة، خاصّة ذيلها الموحي، تبرز من سفح سريرها. إنها لا تستحمّ ولا تحلم ولا تخلع ملابسها. ونحن في صحبتها، ندرك أنها امرأة متجردة وفي السرير، لنفس السبب الذي تجلس فيه أيّ امرأة متجردة في السرير. وهي تحيّي الناظر بنظرة نصفها دعوة ونصفها جرأة. إنها عشيقة، أو على الأرجح بغيّ. لكنّها يقيناً ليست شبحا اسمه الربيع.
ربّما كان مانيه أوّل فنّان صدم العالم. ونفوذه يتعدّى السمعة السيّئة التي ألصقت به. فهو كان مهذّبا وأنيقا ونبيلا. وقد روّعه ردّ الفعل القويّ على "أوليمبيا" بنفس القدر الذي روّعت فيه اللوحة النقّاد. كان مانيه رسّاما تدرّب على التقاليد الأكاديمية الرصينة. ولكن اندفاعه جعله غير متقيّد بها. كان يستلهم الواقعية الجريئة لـ غوستاف كوربيه والظلمة الأخروية للرسّامين الإسبان الكبار أمثال فيلاسكيز وغويا. وحتما، انجذب الشابّ مانيه إلى المواضيع الأقلّ تقليدية.
صحيح أن أسلوبه لم يكن يرتاح لرسم الملاك السمين. لكن هذا لا يعني أن مانيه كان ينظر إلى نفسه على انه لا منتمٍ. فقد كان يؤكّد على انه يرسم ببساطة ما كان يراه. وكان يعرض أعماله على الناس لأنه كان يبحث عن القبول. وما حصل عليه كان المزيد من النقد اللاذع، والمزيد من الشهرة والقوّة الدائمة التي ما كان ليحلم بها أبدا.
عندما عُرضت "أوليمبيا" في صالون باريس عام 1865 أشعلت فضيحة في أوساط الفنّ والأدب لم يسبق لها مثيل. انتزع النقّاد اللوحة من مكانها. والجمهور فعل تقريبا نفس الشيء.
انطوان بروست أشار في وقت لاحق إلى أنه "إن لم تكن اللوحة قد دُمرّت، فإن سبب ذلك كان الاحتياطات التي اتخذتها إدارة المعرض".
الأفكار الفيكتورية لم تكن مقتصرة على البريطانيين فقط. ولم يجرؤ فنّان جادّ على أن يرسم امرأة بمثل تلك السمعة السيّئة دون أن يلفّها على الأقلّ بذلك الرداء الغريب الذي يُلفّ به الحريم عادة. ومع ذلك كان هناك من نظر إلى اوليمبيا على أنها محاكاة ساخرة للوحة تيشيان "فينوس أوربينو". لكنها لم تكن كذلك. فـ مانيه لم يعرض فقط مجرّد بغيّ على أعين العالم. بل كانت لديه الجرأة لعبادتها أيضا. وكان هذا نوعا من التجديف. لكن من سوء حظّ منتقدي مانيه أن الصورة كانت أيضا رائعة.
القصّة تبدأ مع المرأة نفسها، مع الوجه الفتّان لـ فيكتورين موران. كانت موران موديل مانيه المفضّلة منذ وقت طويل. وكانت ملهمته ورفيقته وموضوعا للعديد من لوحاته. ولأكثر من عشر سنوات ابتكرها مانيه مرارا وتكرارا، مرّة كمصارعة ثيران ذات وجه صبياني، ومرّة كموسيقية شوارع، وثالثة كسيّدة كريمة ترتدي جلبابا ورديا.
في العام 1863، وهو العام نفسه الذي تزوّج فيه زوجته سوزان، رسم مانيه لوحتين عاريتين لـ موران، أشهرهما غداء على العشب، التي عرضها في الصالون، لكنّها رُفضت. فمنظر موران العارية في رحلة نزهة اعتُبر منظرا غريبا وغير لائق.


وربّما بسبب غضبه من ردود الفعل على اللوحة، انتظر مانيه سنتين كي يعرض العارية الأخرى. غير أن اوليمبيا تسبّبت في إحداث ضجّة اكبر .
ما الذي اغضب الناس في اللوحة؟ قد يكون السبب أنها بدت غير متأثّرة ولا مبالية. فهي تحدّق بهدوء في الناظر وتضعه في الدور غير السهل لزبون يقف على باب بغيّ مغرية.
مانيه كان يسكن عالما كان يفترض فيه العامّة أن وظيفة المرأة هي التغذية وإشاعة الراحة وأن تكون مصدر إلهام أو إثارة، أي كلّ ما يتعلّق بدورها ومكانتها في المجتمع والأسرة.
لكن أوليمبيا، لسهولة الوصول إليها، تبدو مكتفية ذاتيا بشكل صارخ. ولا يوجد فيها شيء متواضع. بالنسبة لهواة جمع الفنّ والنساء، الذين يعتبرون الصنفين ممتلكات لهم، فإن اوليمبيا جرّدتهم من أوهامهم. جسدها قد نضج وحان قطافه. لكنّ كلّ شيء آخر، بما في ذلك المعنى الكامن وراء تلك الابتسامة الغامضة، تحتفظ به لنفسها.
من بين الأعمال العظيمة في تاريخ الفنّ، لا يوجد سوى القليل من تلك اللوحات التي تظهر فيها امرأة وهي تصوّب نظراتها المتحدّية وغير المساوِمة بشكل مباشر. الموناليزا تنظر بخجل إلى يسارها. وكذلك فتاة فيرمير ذات العقد اللؤلؤي. وفينوس بوتيتشيللي تنظر بطريقة حالمة إلى منتصف المسافة بينما تغرق في أفكارها الخاصّة. في حين أن مدام إكس لـ سارجنت تشيح برأسها بعيدا تماما. وعشرات المادونات تنظرن إلى الملائكة فوقهن بطريقة مفعمة بالنشوة، أو إلى أطفالهن أسفل منهنّ بحنان.
عندما تكون المرأة في مواجهة الناظر مباشرة في لوحة، فيُحتمل أن تكون ملكة وليست محظيّة. أوليمبيا تواجهنا عيناً لِعَين. إنها طريقة مبتكرة ومربكة. وهي، إلى حدّ ما، انتقام من طرف الفنّان.
النقّاد الذين لم يعتادوا على قلب الطاولات في وجوههم سارعوا إلى الرفض. فقد كرهوا الموضوع، وكرهوا الأسلوب المسطّح والبدائي، وكرهوا كلّ شيء في اللوحة. كتب احدهم يقول: ما هذه الجارية ذات البطن الأصفر، هذه الموديل الخسيسة، من التقطها ومن تمثّل؟" وقال آخر: هذا ابتذال لا يُصدّق". وأعلن ثالث: الفنّ الوضيع لا يستحقّ حتى اللوم".
مانيه أحسّ بالدمار. اشتكى لصديقه الشاعر بودلير قائلا: الإهانات تنهال عليّ كالمطر". لكن بينما نظر الكثيرون إلى اوليمبيا كرمز للفساد والتفسّخ، رأى فيها آخرون رمزا للانتصار. اميل زولا اعتبرها تحفة مانيه والتعبير المتميّز عن موهبته القويّة".
وسأل مانيه نفسه: لماذا يتعيّن عليّ أن أكذب، لماذا لا أقول الحقيقة؟" لكن الحقيقة جاءت بكلفة عالية. ورغم أنه واصل الرسم وعرض لوحاته بقيّة حياته، إلا أنه ظلّ هدفا لهجوم وازدراء العامّة. لم يكن مانيه يسعى للإساءة. كان ببساطة يرسم بأفضل طريقة كان يعرفها. تقنياته المبتكرة واختياراته غير التقليدية لمواضيعه أنتجت في نهاية المطاف جيلا جديدا من الفنّانين.
وعلى الرغم من انه رفض أن يُصَوّر نفسه كمعلّم، إلا أن من أتوا بعده أشادوا به باعتباره الأب الروحي للانطباعية. وكان في طليعة الرسّامين الذين مجّدوا، ليس فقط الشخصيات الأسطورية، وإنما أيضا وهَج شاربي الابسنث والبغايا.
أثناء حياة الرسّام، لم تنل أوليمبيا أبدا الثناء الذي تستحقّه. لكنها ظلّت تكبر مع الأيّام. وبعد سنوات من وفاة مانيه، عرض كلود مونيه اللوحة على الحكومة الفرنسية، وأصبحت منذ ذلك الحين منظرا ثابتا في المتحف الباريسي. كان مانيه سيُسرّ لو علم بذلك. وكان يقول: الزمن نفسه يعمل على اللوحات بصورة تدريجية".
يحتاج المرء فقط لأن يتشمّس في الجمال المُسْكر لـ أوليمبيا، والظلال بين أصابعها، ومنحنيات بطنها، وتباينات الضوء والظلام، كي يفهم عمق موهبة مانيه. وعندما ننظر بشكل أعمق إلى تعقيدات وتناقضات وجمال ووحشية عمله، فإن عبقريته الحقيقية سرعان ما تظهر. لم يكن الفنّ بالنسبة لـ مانيه قصّة عن الآلهة أو القدّيسين أو الملوك. كان الفنّ عنده عن الحياة الحقيقية والعادية للناس.
لقد اظهر مانيه إلى الضوء العالم الخفيّ للحياة اليومية وجعله ملحوظا. وتعاطفه يبدو جليّا في كلّ ضربة فرشاة وفي كلّ خط في هذه اللوحة. اوليمبيا ربّما تحاول أن تحجب قلبها. لكننا، نحن الذين لا حيلة لنا، ما نزال واقعين تحت تأثير سحرها وغموضها. .

Credits
musee-orsay.fr
thecrimson.com

الثلاثاء، يونيو 14، 2011

مار جرجس والتّنين

في الماضي كان الفنّانون يتنافسون في رسم اللوحات التي تصوّر قصصا دينية مستوحاة من الكتب المقدّسة. اليوم لم يعد هناك من يهتمّ كثيرا برسم مثل هذه القصص. ومن أشهر، وربّما أطرف القصص الدينية التي فتنت الرسّامين في العصور المتقدّمة قصّة القدّيس جورج "أو مار جرجس كما يُعرف في بلاد المشرق" مع التنّين.
هذه القصّة يقال أنها حدثت في مكان ما في فلسطين. لكن هناك من ينسبها إلى ليبيا. وهي تحكي عن أهل إحدى القرى الذين كانوا يعتمدون في حياتهم على مياه احد الينابيع. وفي احد الأيّام، حلّ بأرضهم تنّين شرّير كان يترصّدهم ويحول بينهم وبين النبع. ولكي يبلغوا النبع، كان يتعيّن عليهم أن يضحّوا كلّ يوم بخروف يقدّمونه للتنّين إلى أن انقرضت جميع مواشيهم.
لكنهم كانوا ما يزالون بحاجة إلى الماء. لذا اضطرّوا للتضحية ببناتهم واحدة بعد الأخرى، إلى أن أتى الدور على آخر فتاة تبقّت في القرية وكانت أميرة جميلة وابنة لزعيم القرية.
في ذلك اليوم، تصادف أن كان مار جرجس مارّاً بالقرية. ولما رأى الفتاة وهي على وشك أن تُقدّم قربانا للتّنين، انقضّ على الوحش برمحه والتحم معه في قتال دام إلى أن تمكّن من قتله.
دائرة المعارف الكاثوليكية تقول انه لا مجال للتشكيك في وجود القدّيس جرجس نفسه. لكنّها ترجّح أن قصّة التّنين مجرّد خرافة وأن أصلها ربّما يعود إلى قصص مشابهة من النصوص القديمة حول العالم. وقد تكون هذه القصّة صدى لأسطورة اندروميدا وبيرسيوس الإغريقية.
غير أن القصّة تطرح قضيّة أخلاقية مهمّة. لماذا، مثلا، كانت الأميرة آخر فتاة تُقدّم قربانا للتّنين؟ ولماذا لم يظهر القدّيس المخلّص إلا عندما أصبحت حياتها، هي بالذات، معرّضة للخطر؟ وقد يقول قائل: والفقراء، أليس لهم ربّ؟!
هناك احتمال بأن يكون مؤلّف القصّة شخصا منحازا طبقيا. وقد يكون المغزى من جزئية الأميرة في الحكاية دغدغة مشاعر ملوك ونبلاء ذلك الزمان حتى يقبلوا على اعتناق المسيحية وينبذوا الأفكار الوثنية. الاحتمال الثاني يبدو أكثر إقناعا. وما يرجّح صحّته حقيقة أن معظم قصص التّنين تقترن في الغالب بأميرات. حتى في قصص الأطفال، هناك دائما إشارات متواترة إلى التّنين وعلاقته بالأميرات. لكن لماذا التنّين بالذات وليس أيّ حيوان كاسر آخر؟ لا يوجد جواب واضح على هذا السؤال.
ومثلما سبقت الإشارة، كانت هذه الأسطورة محطّ اهتمام الرسّامين منذ القدم. وقد رسمها كثيرون، من بينهم رافائيل وغوستاف مورو وروبنز وتينتوريتو وجيوفاني بيليني وغيرهم.
في اللوحة فوق، يرسم الايطالي جاكوبو تينتوريتو القدّيس معتليا صهوة جواده بينما يدفع بالرمح بين عيني التّنين محاولا الإجهاز عليه. وفي مقدّمة اللوحة تبدو الأميرة وهي تحاول الفرار من المكان وقد أخذتها المفاجأة على حين غرّة. وفي كلّ اللوحات التي تصوّر القصّة، يظهر القدّيس دائما راكبا حصانا، وأحيانا معتمرا خوذة. لكن هيئة الفتاة في المشهد تتغيّر من لوحة لأخرى. هي هنا تهمّ بالفرار. بينما تظهر في لوحات أخرى وهي جاثية تصلّي بخشوع شكرا لله على هذه المعجزة.
جيوفاني بيليني، من ناحيته، رسم القصّة بعد أن انتهت المبارزة. إذ تصوّر لوحته القدّيس وقد سقطت خوذته ورمحه على الأرض بعد أن طعن الوحش حتى الموت.
التّنين كما تروي الحكاية، مات مقتولا. في حين أن الراوي لو اختار سيناريو مختلفا، كأن يتمكّن القدّيس من ترويض الحيوان والسيطرة عليه بدلا من قتله، لكانت القصّة أبلغ وأكثر تأثيرا على مشاعر المؤمنين.
نهاية القصّة هي بيت القصيد كما يقال. إذ تذكر أن أهالي القرية اعتنقوا المسيحية في الحال تأثّرا بما رأوه. ومن يومها عاشوا في سلام وأمان بعد أن خلّصهم القدّيس من ذلك الوحش الكاسر الذي كان ينغّص حياتهم ويتهدّد وجودهم.
ومن الواضح أن الحكاية، مثل كثير من الحكايات المشابهة، تتضمّن معنى رمزيا. فهي تجسّد انتصار البطل أو المخلّص المسيحي على الشرّ، وربّما على الوثنية التي يمثلها التّنين.

الأحد، يونيو 05، 2011

أناقة متكلّفة


إذا صحّ أن لكلّ رسّام علامة أو سمة تميّزه عن سائر الفنّانين، فإن العلامة الفارقة للرسّام الايطالي انيولو برونزينو هي اهتمامه الكبير بإبراز جمال وأناقة أيدي الأشخاص الذين يرسمهم. جمال الأيدي ودقّة الأصابع في لوحات هذا الرسّام هي ممّا يسترعي الانتباه والملاحظة. هذا الملمح الجمالي الخاصّ لن تراه في أعمال فيرمير ولا رافائيل ولا حتى دافنشي، برغم معرفة هؤلاء الأكيدة بالتشريح وبراعتهم في تصوير تفاصيل الجسد الإنساني في لوحاتهم.
تأمّل مثلا لوحة برونزينو التي فوق. المرأة التي تصوّرها اللوحة هي شاعرة ايطالية مشهورة عاشت في ذلك العصر واسمها لورا باتيفيري. كانت شخصية عامّة ومحترمة بسبب تديّنها وثقافتها. كما كانت صديقة للرسّام وكان يجمعهما معا حبّ الأدب والشعر. برونزينو نفسه كان شاعرا وقد اشتهر بمزاوجته بين السوناتات التي يقتفي فيها آثار بترارك وبين القوافي الهزلية التي كانت سائدة في ذلك العصر.
تعابير المرأة في اللوحة تبدو باردة، وقد تعكس قدرا من اللامبالاة والانفصال عن ما حولها. لكنّ نظراتها تشي بالثقة والاعتداد بالنفس. ربّما كان السبب هو انتماؤها لواحدة من اعرق الأسر في فلورنسا. باتيفيري تبدو في اللوحة وهي تمسك بكتاب يضمّ أشعار بترارك، بينما تشيح بوجهها بعيدا عن الناظر. أنفها المدبّب وعنقها الطويل ونظراتها القويّة تذكّرنا بالهيئة التي يظهر عليها الشاعر دانتي في الرسم.
شخصيّة هذه المرأة أكثر غموضا ممّا يشي به مظهرها الخارجي. فقد كانت في زمانها تجسيدا للجمال النبيل والطهراني.
الكثير من التفاصيل في هذا البورتريه تجذب العين وتسترعي الاهتمام: الخمار الناعم المنسدل على رأس المرأة وصدرها، السلسلة الذهبية، الكتاب..
لكن ما يلفت الانتباه أكثر من غيره في الصورة هو الطريقة الأنيقة التي رسم بها برونزينو تقاطيع يدي المرأة وأصابعها التي تمسك بالكتاب.


الطابع التمثالي للوحة هو ملمح آخر يميّز معظم أعمال برونزينو الأخرى بالنظر إلى عشقه لفنّ النحت وإيمانه بوجود علاقة وثيقة وقديمة بين الشعر والنحت والرسم. ثم هناك أيضا حقيقة أن برونزينو كان معاصرا لأهمّ نحّاتَين في زمانه وهما ميكيل انجيلو ولوكا مارتيني.
هاجس برونزينو الدائم كان رسم الأيدي والأصابع بطريقة مفرطة في الأناقة والجمال. وكان يتعمّد اختيار ألوان داكنة للخلفية ويتحكّم في نسب الضوء والظل كي يبرز جمال الأطراف وأناقتها. وهو لم يشذّ عن طريقته هذه حتى وهو يرسم لوحة للشاعر دانتي ولعدد آخر من أصدقائه الشعراء والرسّامين والنحّاتين.
لكن لماذا كان برونزينو يفعل هذا؟ قد يكون السبب هو انه كان شاعرا. والشاعر أحيانا يميل إلى تأكيد جمال الأشياء ويرى ما لا يراه غيره. لكن هناك سببا آخر لا يقلّ أهمية. فـ برونزينو كان منتميا لمدرسة في الفنّ عُرفت باسم الماناريزم. وكان أتباعها من الرسّامين والنحّاتين يميلون إلى المبالغة في تطويل الأشكال وتصوير الأطراف بطريقة لا تخلو من الأناقة المتكلّفة والجمال المبالغ فيه. كان هؤلاء، وفي طليعتهم برونزينو، متأثّرين بالواقعية الصارمة وبالتفاصيل الدقيقة التي كانت تطبع أعمال ميكيل انجيلو ودافنشي ورافائيل.
وقد أصبحت أعمال برونزينو محطّ أنظار النخب الارستقراطية في فلورنسا. كما اختارته عائلة ميديتشي الحاكمة رسّاما للبلاط.
بعض النقّاد اليوم يعتبرون بورتريه لورا باتيفيري من بين أفضل البورتريهات النسائية التي رُسمت في كافّة العصور. وفيه يبرهن برونزينو على ميله للغموض وعلى تدريبه العالي وبراعته الفنّية التي يترجمها من خلال نسيج الملابس ولمعان الألوان.


السبت، نوفمبر 20، 2010

كرسيّ

"أريد أن ازرع فيك ولو جزءا بسيطا من إيماني الكبير بأننا سننجح في أن نبتكر شيئا يمكن له أن يدوم ويستمرّ".
كتب فان غوخ هذه الكلمات إلى صديقه غوغان قبل ثلاثة أسابيع من انتقال الاثنين للعيش معا في المنزل الأصفر في آرل.
في لوحتَي فان غوخ المشهورتين والتي رسم في كلّ منهما كرسيّا، نرى بوضوح رؤيته عن نفسه وعن صديقه غوغان كما تعكسها قطعة من القماش رسم عليها أثاثا ساكنا.
وقد رسم كرسيّه مواجها اليمين، بينما رسم كرسيّ غوغان مواجها اليسار. وبالتالي، عندما توضع هاتان اللوحتان معا فإنهما تُحدثان تأثيرا متناغما.
وبرؤية كلا الكرسيين معا، نستطيع أن نتبيّن بوضوح ما الذي كان يقصده فان غوخ عندما رسمهما.
صحيح أن الاثنين يُعتبران اليوم رسّامَين مشهورين. إلا أنهما اكتشفا فرقا هائلا في طريقة تعامل كلّ منهما مع الرسم.
النقاشات الساخنة التي كانت تجري بينهما ترسم صورة لشخصين يائسين لم يجدا أبدا أرضية للتفاهم والوئام. وكان ذلك يثير فيهما التعب والإحساس بالمرارة. ومع ذلك كانت خلافاتهما ومشاكلهما الصاخبة تتلاشى أحيانا لتظهر الرابطة الروحية الكامنة بينهما.
وفي احد الأوقات، بدا أن النار التي كانت تشتعل بالقرب منهما أصبحت تنذر بما هو أسوأ. لكن بدلا من أن يوجّه فان غوخ عنفه إلى صديقه، بادر في نوبة غضب محموم إلى بتر حلمة أذنه لينتهي به الأمر في المستشفى.
رسم فان غوخ هاتين اللوحتين في تلك الفترة. وكلّ منهما يصحّ اعتبارها بورتريها لكلّ منهما. ويبدو أن التوتّر الذي شاب علاقتهما وهما يحاولان أن يجدا طريقة للعيش بانسجام معا لم يؤثّر كثيرا على فان غوخ.
اللوحة التي رسمها فان غوخ لكرسّيه الأصفر مليئة بالضوء. وهو يصوّر كرسيّه متّبعا طريقته المعتادة في توظيف النسيج الثقيل والخطوط الواضحة. الكرسيّ الخشبي المرسوم في وسط اللوحة ملتفّ إلى الخارج لإبراز جماله البسيط، وتحته أرضيّة من البلاط الأحمر، وخلفه جدار من الألوان البحرية الخضراء. وعلى سترة الكرسي رسم غليونه وكيسا من التبغ. المعروف أن فان غوخ كان يدخّن الغليون لأن تشارلز ديكنز كان ينصح بتدخينه كعلاج للاكتئاب. وفي الخلفية رسم صندوق بصل وضع عليه توقيعه. وسنرى بعد قليل أن هذه الأشياء البسيطة والتافهة تتناقض تماما مع الأشياء الأنيقة والقيّمة التي اختار أن يمثّل بها صديقه.
كرسيّ فان غوخ بسيط ودافئ، وطفولي إلى حدّ ما. واللون الغالب عليه هو الأصفر الذي كان قد أصبح لونه الخاص.

لكن كيف رسم كرسيّ صديقه؟ كرسيّ غوغان يبدو رسميّا تماما. وهو دون شكّ يعتبر إحدى تحف فان جوخ بالنظر إلى الشعور الثقيل والصارم الذي يستثيره. الكرسيّ الخشبي ذو اللون البنّي يبدو جميلا بهيكله المقوّس وخطوطه الغامقة السوداء. البساط تحته مزخرف بأنماط حمراء وممتدّ على كامل المساحة حتى الجدار الأخضر الصارخ الذي يحتلّ أكثر من ثلث مساحة اللوحة.
كرسيّ غوغان هو أيضا مرسوم وسط اللوحة ويواجه الخارج. وعلى بطانته الخضراء وضع فان غوخ كتابين وشمعة محترقة.
من المستحيل أن ننظر إلى هذه الأشياء المرسومة بطريقة بسيطة دون أن نلاحظ رمزيّتها. المعرفة والإضاءة هما جزء لا يتجزّأ من روح وشخصيّة صديقه.
لكن هناك من فسّر اللوحتين بطريقة مختلفة. بعض النقّاد، مثلا، يقولون إن فان غوخ رسم كرسيّ غوغان كي يعبّر من خلاله عن انتقاده لصديقه ونفوره من أسلوب لوحاته وطريقة فهمه للفنّ. وقد وضع الكتب على الكرسيّ كي يشير ضمنا إلى أن غوغان كان يرسم لوحاته اعتمادا على أفكار غيره. وكان احد مآخذه الأخرى على غوغان هو انه كان يستخدم ضوء الشموع في لوحاته بدلا من الضوء الطبيعي. ولكي يكرّس هذا الانطباع، رسم فان غوخ كرسيّ غوغان بدعّامتين بينما اغفل هذه الجزئية في كرسيّه.
لكن وأيّا ما كان المعنى المقصود، فإن ممّا لا شكّ فيه أن فان غوخ كان يلقّب غوغان بالمعلّم وكان يعتبره فنّانا ومثقّفا كبيرا.
وعلى الرغم من أن العلاقة بينهما أصبحت عاصفة، إلا أن المفارقة تكمن في أن تلك الخلافات كانت حافزا للتغيير في حياة الاثنين المهنية. وفي وقت لاحق سينعكس ما حدث إيجابا على حركة وحيوية الفنّ الغربيّ الحديث.
هذا هو تراث فان غوخ الذي ظلّ باقيا إلى اليوم. كانت غايته منذ البداية أن "يخلق شيئا من شأنه أن يدوم وأن يستمرّ".
وقد تحقّق له ذلك، لكن ليس بالطريقة التي كان يتصوّرها. "مترجم".



السبت، أكتوبر 09، 2010

دراما منزلية

عُرف الرسّام الفرنسي إدوار فويار بمشاهده التي تحكي عن الحياة الخاصّة والحميمة داخل البيوت. عندما تنظر إلى بعض لوحاته، يمكنك أن تشعر كم أن الجدران فيها ضيّقة وخانقة وكيف أن الناظر يمكن أن يتحوّل دون وعي منه إلى متلصّص يتابع ما يجري داخل الغرف وخلف الأبواب الموصدة.
كان فويار جزءا من مجموعة فنّية تُدعى "نابي" وهي كلمة مشتقّة على الأرجح من مفردة "نبيّ" العربية. وبخلاف الانطباعيين الذين كانوا يركّزون على إظهار التأثيرات المتغيّرة للضوء والظلّ في الطبيعة خارج البيوت، كان فويار وزملاؤه يستخدمون الرسم لإيصال المشاعر والانفعالات داخل البيوت.
وقد رسم فويار لوحات يمكن أن توصف بأيّ شيء إلا أن تكون هادئة أو مريحة. كان يعيش في بيئة مُحبّة، ومع ذلك عمد إلى رسم أفراد عائلته بطريقة مزعجة.
ترى لماذا فعل ذلك؟ هل تشي تلك اللوحات بشيء من الكراهية في أوساط العائلة؟ هل كان تلاعبه بصورة شقيقته مزحة ثقيلة أو قاسية؟
هل تكشف هذه اللوحات عن شيء ما أعمق من قبيل إحساس الفنان بعدم الأمان؟
فويار رسم لوحات لا تخلو من التعقيد وروح الابتكار. وهو لم يكن فقط يرسم ما يراه أمامه، بل كان يخلق ما يرسمه. كان شخصا محبّا لعائلته، لكنه كان توّاقاً لخلق نوع من الدراما في مناظره المنزلية. وقد عُرف عنه تأثّره بقراءته لروايات ومسرحيات موريس ميترلنك وهنريك إبسن التي ادخل أجواءها في مواضيع لوحاته المنزلية.
كان المؤلّف المسرحيّ داخل فويار هو الذي يعمد إلى اخذ الخلافات البسيطة للعائلة إلى مستوى أعلى وأكثر قتامة. ولكي يفعل هذا كان يهيّئ الحلبة في لوحاته كي تجري عليها وقائع الدراما التي يتمثّلها. وعندما لا تكون هناك دراما فإنه يخترعها من خلال التلاعب بالأنماط والظلال على الجدران والملابس، تماما مثل ما يفعل مصمّم العروض على خشبة المسرح. فهو يضيء اللوحة بشكل دراماتيكي ويصنع بطلا للمسرحية ثم يصنع مقابله خصما، تبعا للكيفية التي يمثل بها كلّ منهما دوره.
والخلفيات التي يختارها الرسّام للوحاته تضفي إثارة وتوتّرا على المشهد. ومن المثير للاهتمام أن تفكّر في أن السبب الذي يدفع فويار لأن لا يرسم نفسه مع أمّه وشقيقته في اللوحة قد يكون محاولة إسقاط صورته هو من خلال شقيقته ميري.
لكن كيف يبدو الأمر عندما يقرّر فويار أن يرسم نفسه في إحدى لوحاته العائلية؟

Edouard Vuillard

اللوحة فوق اسمها "العشاء"، وهي إحدى اللوحات المثيرة وغير العاديّة التي توفّر اعترافا صريحا من فويار عن الطريقة التي كان ينظر بها إلى نفسه في سياق علاقته بعائلته.
ويمكن اعتبار هذه اللوحة محاولة من الرسّام لإثبات براعته في السيطرة على التأثيرات الدرامية التي تذكّر بمسرحية بيت روزمر لـ إبسن وبمسرحية الدخيل لـ ماترلينك. هذه التأثيرات ربّما تدفع المرء للاعتقاد بأن هذه هي فعلا المشاعر الحقيقية لفنّان مضطهد.
في هذا المشهد من بيت الرسّام تظهر ثلاث نساء يعترضن طريقه ويمنعنه من الوصول إلى مائدة العشاء. هنا تقف أمّه وجدّته وشقيقته بأجسادهنّ في طريقه. وجميع النساء الثلاث مختفيات في الظلمة بينما تبدو على ملامحهنّ تعبيرات شيطانية ومترصّدة.
نظرات فويار نفسه مرتعبة، وهو يبدو كما لو انه ينكمش في الخلفية من أثر إحساسه الشديد بالخوف.
في اللوحة تلميحات عن أفكار التضحية والإخصاء والشعور بالذنب. لكن فيها أيضا جانبا كوميديّا. فهذه اللوحة هي إحدى المحاولات الأولى الكبيرة لتصفية الحساب مع أفكار الأنوثة والأمومة والحياة العائلية.
كان فويار يميل لتصوير نفسه كضحيّة. وهذه اللوحة الكوميدية المروّعة يمكن اعتبارها إحدى تحف الرمزية السوداء.
لكن هل فويار هو الضحيّة في هذه اللوحة؟
الجواب هو لا. بل انه حتى لا يشارك في اللوحة. هو يلعب دورا هامشيا فحسب. وهذا يعطي مؤشّرا عن الحالة الحقيقية لعائلة الرسّام.
فـ فويار لم يكن يشارك في دعم العائلة ماليّا، بل كان يعتاش من عمل والدته.
فبعد وفاة والده خلت العائلة من وجود رجل. وبالرغم من موت والده وغياب أخيه الأكبر، لم يحاول فويار ممارسة أيّ سلطة ذكورية تاركا مهمّة تصريف أمور العائلة للنساء.
وهذا ما يفسّر حضوره الهامشي في العائلة كما تعكسه أجواء هذه اللوحة التي أراد من خلالها أن يعبّر عن قلقه ورعبه من حقيقة انه محاط بهؤلاء النساء القويّات والآمرات الناهيات.
أعمال فويار لا تقتصر على المناظر العائلية فحسب. فله لوحات يصوّر فيها الطبيعة بطريقة جميلة. وتستطيع وأنت تنظر إلى بعض هذه اللوحات أن تستمع إلى الأصوات الآتية من الشارع القريب لأطفال يلعبون وعربات تمضي وتجيء وأشخاص يتمشّون مع كلابهم وآخرين يجلسون أو يلعبون في الحدائق. "مترجم"

الاثنين، أغسطس 09، 2010

لعنة الصبيّ الباكي

ترى ما الذي يمكن أن يجذب الإنسان إلى هذه اللوحة؟ هل هو جمال الصبيّ؟ أم عيناه الدامعتان وملامحه الحزينة التي تستدرّ الرحمة والشفقة؟
هذه اللوحة تحوّلت مع مرور الأيّام إلى ما يشبه الأسطورة وأصبحت أكثر شهرة من الفنّان الذي رسمها والذي بقي اسمه إلى اليوم محلّ خلاف وجدل.
وجزء مهمّ من أسباب شهرة اللوحة يعود إلى حقيقة أنها أصبحت مرتبطة بقصص الفلكلور وبالثقافة الشعبية التي تميل إلى ربط بعض الصور بظواهر السحر والأشباح والحظ السيئ، إلى غير ذلك من الظواهر الميتافيزيقية والغامضة.
بداية القصّة تعود إلى العام 1985م الذي شهد اندلاع سلسلة من الحرائق المفاجئة والغامضة في بعض أرجاء بريطانيا. الأمر المحيّر هو انه بعد كلّ حادث حريق، يتبيّن أن الشيء الوحيد الذي لم تلتهمه النيران هو لوحة تصوّر صبيّا صغيرا دامع العينين.
هل يمكن أن تكون هذه مصادفة؟
في كلّ حالة من هذه الحالات، كانت النار تلتهم كلّ موجودات البيت باستثناء لوحة الصبيّ الباكي التي لم يظهر عليها أيّ علامة تدلّ على أنها تأثّرت بالحريق.
إحدى صحف التابلويد البريطانية بدأت تستقبل اتصالات هاتفية من العديد من الناس الذين كانوا ينقلون قصصا مماثلة. احد الأشخاص الذين اتصلوا بالجريدة كان سيّدة تدعى دورا مان وقد نُقل عنها قولها: بعد أن اشتريت اللوحة بستّة أشهر اندلعت النار في بيتنا ودمّرت كلّ شيء تماما عدا تلك اللوحة".
بعد أشهر من سماع كافّة الروايات، اقترحت الجريدة على قرّائها أن يأتوا إليها ويحضروا معهم لوحاتهم التي تحمل صورة الصبيّ. ثم وافقوا على إشعال حريق كبير يتخلّصون فيه من جميع تلك "اللوحات الملعونة" التي جلبت لهم الشؤم والنحس.
وبالفعل تمّ إحضار جميع اللوحات إلى الجريدة وأحرقت وسط ابتهاج وفرح الجميع. ومع ذلك، لم تنته القصّة عند هذا الحدّ. فقد ظهرت تقارير صحفية أخرى يعود آخرها إلى العام 1988 تشير إلى أن لوحة الصبيّ الباكي وُجدت في بيوت متفحّمة بينما اللوحة لم تُمسّ.
والى اليوم، لا احد يعرف على وجه التحديد من يكون الفنّان الذي رسم هذه اللوحات ولا من أين استقى فكرة رسم صبيّ يبكي. الشائعات كثيرة والقصّة ما تزال متداولة حتى الآن.
وقبل الإعلان في الصحافة عن ما اُسمي بلعنة الصبيّ الباكي، كانت اللوحة تتمتّع بشعبية كبيرة. وقد قيل انه بيع منها في بريطانيا وحدها حوالي ربع مليون نسخة كانت تحمل توقيع فنّان يُدعى جيوفاني براغولين.
بعض الصحف شعرت أن القصّة لها قدمان، أي أنها يمكن أن تصبح موضوعا لتغطية صحفية طويلة وجاذبة للقرّاء. لذا بعثت بعض مراسليها كي يبحثوا عن إجابة على السؤال الذي كان يشغل الجميع: ما سرّ هذه اللوحة وما حكاية الحرائق التي تثيرها؟
وأثناء ذلك تمّ الإبلاغ عن المزيد من ضحايا لعنة الصبيّ الباكي وتواترت روايات أخرى عن وجه ذلك الصبيّ الحزين الذي ظلّ يطلّ من بين أنقاض البيوت المتفحّمة دون أن يلحقه أيّ أذى.
وراجت نظريّة تقول إن الفنّان الذي رسم اللوحة الأصلية ربّما يكون أساء معاملة ذلك الصبيّ وأن اللعنة قد تكون انتقاما من الصبيّ ضدّ أولئك الذين جعلوا معلّمه، أي الرسّام، شخصا ثريّا.
لكن هذا بدوره أثار أسئلة أخرى تتعلّق بهويّة الصبيّ الباكي والرسّام جيوفاني براغولين.
احد الباحثين زعم أن محقّقا غامضا يدعى جورج مولروي اكتشف أن براغولين كان في الواقع رسّاما اسبانيا اسمه الحقيقي برونو اماديو وانه كان يستخدم أسماء مستعارة أخرى من بينها فرانكو سيفيل.
كما قيل إن مولروي استطاع أيضا جمع بعض الأجزاء المفقودة من القصّة..
في العام 1969م، وذات يوم مترب حارّ في مدريد، كان اماديو على وشك الانتهاء من رسم إحدى لوحاته عندما سمع في الشارع الواقع أسفل محترفه صوت نشيج متقطّع. وعندما نظر من الشرفة رأى صبيّا يرتدي أسمالا بالية وهو يجلس خارج حانة قريبة ويبكي. نادى الرسّام على الصبيّ وسأله عن المشكلة، فنظر إليه بصمت وكان ما يزال يبكي.
اماديو الذي أخذته الشفقة على الصبيّ اصطحبه إلى محترفه وأطعمه ثم رسم له بورتريها. وقد زاره الولد بعد ذلك مرارا ورسم له بورتريهات عديدة. وطوال تلك الزيارات لم يتوقّف الصبيّ عن البكاء كما لم يتفوّه بكلمة.
وبعد وقت قصير من لقائه الأوّل مع الصبيّ، زار الرسّام في بيته كاهن محلّي كان في حالة ارتباك واضح. كان الكاهن قد رأى الصورة التي رسمها الفنّان للصبيّ واخبره أن اسمه دون بونيللو وانه هرب ليهيم على وجهه في الشوارع بعد أن رأى والده يتفحّم حتى الموت عندما التهم حريق بيتهم. وقد نصح الكاهن الرسّام بأن لا يفعل المزيد من اجل الصبيّ لأنه أينما ذهب كانت النار تشبّ في إثره. ارتعب اماديو من حقيقة أن رجلا متديّنا ومن أهل الله ينصحه بأن يدير ظهره لصبيّ يتيم وضعيف. وفي النهاية تجاهل الرسّام نصيحة الكاهن وبادر إلى تبنّي الصبيّ بعد ذلك بوقت قصير.
وفي الأشهر التالية بيعت نسخ كثيرة من البورتريه على نطاق واسع في طول وعرض أوربّا وأصبح الرسّام ثريّا جدّا. ويقال إن الرسّام والصبيّ عاشا حياة مريحة بفضل نجاح اللوحة. واستمرّ كلّ شيء على ما يرام إلى أن عاد الرسّام إلى بيته ذات يوم ليفاجأ بأن بيته ومحترفه احترقا عن آخرهما وسُوّيا بالأرض. ونتيجة لذلك تدمّرت حياة الفنّان ثم لم تلبث أصابع الاتهام أن وُجّهت إلى الصبيّ بونيللو الذي اتّهمه الرسّام بإشعال حريق متعمّد في بيته. غير أن الصبيّ هرب من البيت ولم يره أحد بعد ذلك أبدا.
اماديو نفسه لم يسمع عن الصبيّ ثانية. لكن في احد الأيّام من عام 1976 تناقلت الأخبار نبأ حادث سيّارة رهيب وقع في احد ضواحي برشلونة. ويبدو أن السيّارة ارتطمت بجدار خرساني بينما كانت تسير بسرعة جنونية لتتحوّل إلى كرة من نار. وداخل الحطام احترقت جثّة السائق وتشوّهت لدرجة انه كان من الصعب التعرّف على هويّته.
غير انه أمكن استنقاذ جزء من رخصة قيادته التي كانت في حجرة القفّازات بالسيّارة. وتبيّن أن السائق كان شابّا يبلغ من العمر تسعة عشر عاما وكان اسمه دون بونيللو.
وبعد مرور فترة قصيرة على الحادث تواترت تقارير صحفية عديدة عن حوادث اشتعال نار غريبة في العديد من أنحاء أوربّا.
المفارقة الغريبة هي انه لم يُعثر على أيّ سجلات في برشلونة تشير إلى موت شابّ باسم دون بونيللو في حادث سيّارة. كما لم يُعثر على أيّ سجلات عن فنّان احترق بيته باسم برونو اماديو أو جيوفاني براغولين أو حتى فرانكو سيفيل.
وحتى على افتراض وجود شخص باسم دون بونيللو وانه هو الموديل الذي استُخدم في رسم لوحة الصبيّ الباكي، فإن هذا لوحده لا يكفي للإجابة على أيّ من الأسئلة المتعلّقة باللعنة التي ارتبطت باللوحة.
ولا بدّ وأن الكثيرين لاحظوا أن البورتريهات المنسوبة لـ اماديو والتي صوّر فيها أطفالا يبكون هي لأطفال مختلفي الأعمار والملامح. ويمكن أن يكون بونيللو احدهم وقد لا يكون أيّا منهم. ويقال إن هناك ثمانا وعشرين صورة مختلفة وكلّها تحمل نفس الاسم، أي الصبيّ الباكي.
لكن هذا كلّه لم يؤثّر في شعبيّة القصّة. بل لقد انتشرت كألسنة اللهب مع بدايات القرن الحادي والعشرين بفضل انتشار ورواج الانترنت. وبدأت قصص الصبيّ الباكي في الظهور في عدد آخر من مناطق العالم البعيدة كالبرازيل واليابان.
وفي عام 2006 أسسّت مجموعة من الطلاب الهولنديين ناديا للمعجبين بالصبيّ الباكي. وكانت غايتهم جمع نسخ اللوحات الثمان والعشرين المعروفة ووضعها في موقع اليكتروني أنشئوه لهذه الغاية. لكن المحزن أن الموقع سرعان ما اختفى ولا أحد يعرف ما الذي حلّ بأصحابه. وثمّة احتمال بأنهم سينضمّون الآن إلى أسطورة اللعنة بالرغم من أنهم قد يكونون كبروا وعرفوا أن هناك في الحياة أشياء أخرى أكثر نفعا وجدوى.
ويقال اليوم إن السبب في نجاة اللوحات من حوادث الحريق له علاقة بطبيعة الموادّ التي كانت تُستخدم في صنعها. فقد جرت العادة على استنساخ اللوحات التي تُنتج عادة بأعداد ضخمة وذلك بطباعتها على أسطح قويّة تلبية لمتطلّبات وشروط المصنع. وفي حالة الصبيّ الباكي، كانت اللوحات تُصنع من ألواح مضغوطة وهي مادّة يتفق معظم خبراء الحرائق على صعوبة اشتعالها، مع أن ذلك ليس بالأمر المستحيل تماما.
إذن، أمكن إثبات أن الصور يمكن أن تحترق، لكن بصعوبة. وبالنتيجة، أصبح ممكنا تفسير وجود بعض الصور سليمة في مسرح الحريق. الجزء الوحيد من قصّة دون بونيللو وبرونو اماديو الذي يمكن التحقّق منه بشكل قاطع هو أن في اسبانيا مدينة اسمها مدريد وأخرى تُسمّى برشلونة.
وبناءً عليه، فإن الأثر الوحيد المتبقّي من قصّة الصبيّ الباكي لا يعدو كونه مجرّد كومة من رماد.




Credits
drdavidclarke.co.uk