:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات الخيّام. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الخيّام. إظهار كافة الرسائل

الثلاثاء، فبراير 27، 2018

عُمَر العظيم

عندما غرقت سفينة التايتانيك، في ليلة الرابع عشر من ابريل عام 1912، في البحر قبالة ساحل العالم الجديد، كان أهمّ ضحايا تلك المأساة كتاب.
الروائيّ الفرنسيّ من أصل لبنانيّ أمين المعلوف قد يكون توسّع في هذه القصّة بعض الشيء عندما تناولها في روايته التاريخية سمرقند (1988). أما الكتاب المقصود فكان مخطوطا لديوان الرباعيّات للشاعر الفارسيّ عمر الخيّام من القرن الحادي عشر الميلاديّ.
وفي الحقيقة كانت توجد وقتها نسخ متعدّدة من ذلك الديوان. غير أن المخطوط الذي حملته التايتانيك في رحلتها المشئومة تلك كان الأكثر فرادة وتميّزا، ليس من حيث مضمونه ولكن بسبب مظهره الغريب. وهذا المخطوط الحقيقيّ هو الذي ألهم المعلوف كتابة روايته المشهورة والتي يستهلّها بهذا السطر: في قاع التايتانيك، كان هناك كتاب. وسأروي لكم تاريخه".
يقول مثل فارسيّ مشهور: من يبتغِ طاووسا عليه أن يذهب إلى الهند". والمثل يشير إلى ملك فارسيّ قديم يُدعى نادر شاه كان قد استولى في منتصف القرن الثامن عشر على الهند ونهب، من ضمن أشياء أخرى، عرش الطاووس المشهور فيها. وقد استُنسخت صورة ذلك الطاووس في لندن في وقت لاحق.
كان كلّ من جورج ساتكليف وفرانسيس سانغورسكي مشهورَين في انجلترا بتصميماتهما الباذخة في تجليد الكتب وترصيعها بالمجوهرات، مدفوعَين برغبتهما القويّة في إحياء تقاليد القرون الوسطى. وفي احد الأيّام، قصدهما صاحب مكتبة مشهورة في لندن يُدعى هنري سوثران كي يكلّفهما بتصميم وتجليد كتاب لا يشبه أيّ كتاب آخر.
حدث هذا في السنوات الأولى من القرن العشرين. وبدأ المصمّمان عملهما واستخدما في تصميم وتجليد الكتاب ألف حجر ثمين ما بين ياقوت وتوركواز وزمرّد وخمسة آلاف قطعة من العاج والجلد والذهب والفضّة.
ولم تكن تلك التكلفة الباهظة تمثّل أيّة مشكلة، فقد مُنح ساتكليف وسانغورسكي شيكا على بياض كي يطلقا مخيّلتهما لصنع أفخم وأغلى كتاب سيراه العالم.
وعندما أنجزا مهمّتهما في عام 1911، بعد عامين من الجهد المكثّف، صدر الكتاب العجيب حاملا عنوان "عُمَر العظيم". وكان يضمّ بين دفّتيه ترجمة ادوارد فيتزجيرالد لقصيدة الرباعيّات لعمر الخيّام مع رسوم توضيحية وضعها الفنّان ايلياهو فيدر. وكان يزيّن الغلاف الأماميّ للكتاب ثلاثة طواويس رُصّعت ذيولها بالمجوهرات وأحيطت بعناقيد كروم وبأنماط زهرية معقّدة مثل تلك التي تزيّن المنمنمات الفارسية من القرون الوسطى، بينما رُسم على غلافه الخلفيّ صورة لآلة بوزوكي يونانية.
كان سوثران ينوي شحن الكتاب إلى نيويورك. وعندما وصل إلى هناك، رفض باعة الكتب أن يدفعوا الضريبة الثقيلة التي فرضتها سلطة الجمارك الأمريكية على الكتاب. فأُعيد شحنه إلى انجلترا، حيث اشتراه غابرييل ويلز من احد مزادات سوثبي بمبلغ أربعمائة وخمسين جنيها إسترلينيّا. ومثل سوثران، كان ويلز يُزمع إرسال الكتاب-التحفة إلى الولايات المتّحدة.
لكن لسوء الحظ، لم يُقدَّر للكتاب أن يُشحن على السفينة الأصلية، فاختيرت السفينة التالية، وكانت التايتانيك، للقيام بالمهمّة. وما حدث بعد ذلك أصبح تاريخاً.


لكن القصّة لم تنتهِ بغرق التايتانيك، ولا حتى بالموت الغريب لسانغورسكي الذي قضى غرقا بعد ذلك ببضعة أسابيع.
فابن شقيق ساتكليف، واسمه ستانلي براي، قرّر أن يحيي ذكرى عُمَر الشاعر من خلال بعث الكتاب إلى الحياة مرّة أخرى. وباستخدامه الرسومات الأصلية التي كان قد وضعها سانغورسكي، تمكّن بعد ستّ سنوات من العمل المضني من استنساخ الكتاب ثم أودعه في سرداب احد البنوك.
ويبدو أن كتاب "عُمَر العظيم" وُلد وهو يحمل علامة شؤم. وربّما لأنه كان رمزا لهشاشة الإنسان، فقد أتى عليه حريق لندن الذي اندلع خلال الحرب العالمية الثانية وحوّله إلى رماد.
لكن براي لم ييأس ولم يستسلم، بل شمّر عن ساعديه وبدأ العمل من جديد على إنتاج نسخة أخرى من كتاب عمّه. لكن في هذه المرة لم يستغرق صنع الكتاب سنوات بل عقودا. وقد أُكمل بعد أربعين عاما من العمل المتقطّع. وقبيل موته، أوصى براي أن تؤول ملكية الكتاب إلى المكتبة البريطانية، حيث يمكن رؤيته اليوم. وكان قد قال قبل رحيله: لا أؤمن بالخرافات رغم أنهم يقولون إن الطاووس يرمز للكوارث".
ترى ما هي الرباعيات؟ ومن هي هذه الشخصية الغامضة التي فتنت سوثران والكثيرين غيره؟
ينتمي عمر الخيّام إلى بلدة في شرق إيران. وأثناء حياته، كان يحظى بالتقدير الكبير بسبب اكتشافاته المبتكرة في الفلك والرياضيات. وكما هو الحال مع غيره من الموسوعيين الفرس، مثل ابن سينا، كان الخيّام شاعرا أيضا. لكن قصائده لم تكن تشبه قصائد أيّ شاعر إيراني أتى قبله.
فَهِمَ الخيّام الطبيعة الموقّتة للحياة وحتمية الموت ودعا لأن يستمتع الإنسان بالوقت القصير الممنوح له على هذه الأرض. يقول في إحدى رباعياته:
لا تشغل البال بماضي الزمان : ولا بآتي العيش قبل الأوان
واغـنم مـن الـحاضر لـذّاته : فـليس في طبع الليالي الأمان
ولطالما عبّر الشاعر عن حيرته وعن تشكّكه في الكثير من الأفكار التي اعتاد الناس أن يتقبّلوها دون نقاش.
أطال أهل الأنفس الباصرة : تفكيرهم في ذاتك القادرة
ولـم تـزل يـا ربّ أفهامهم : حيرى كهذي الأنجم الحائرة
والمعروف أن الخيّام عاش في ظروف اتّسمت بالاضطراب السياسيّ، فإيران في زمانه كانت تحت احتلال الأتراك بعد أن فتحها العرب، وستأتي جيوش المغول بعد وقت قصير لتنشر فيها الموت والخراب.
كان غوته محبّا لحافظ، وفولتير معجبا بسعدي. أما فيتزجيرالد فوجد في "صانع الخِيَام العجوز" رفيقا لروحه. وكان قبل ذلك قد ترجم بعض نصوص الأدب الفارسيّ ومن ضمنها كتاب "منطق الطير" للشاعر فريد الدين العطّار. لكن الرباعيات أصبحت تحفته الكبيرة بلا منازع.
ورغم أن ترجمته لها كانت فضفاضة إلى حدّ ما، إلا انه نقل فيها روح الرباعيات ونَفَس شاعرها. في البداية، لم يلفت الكتاب انتباه الكثيرين، لكنه سرعان ما أصبح يتمتّع بشعبية جارفة لم يكن فيتزجيرالد نفسه يتخيّلها أبدا.

وفي أواخر القرن التاسع عشر، عمد صالون أدبيّ تؤمّه النخبة في لندن إلى تغيير اسمه إلى عمر الخيّام. وما يزال الصالون يحمل هذا الاسم إلى اليوم. كما كانت ترجمة فيتزجيرالد للخيّام مصدر إلهام للفنّانين ما قبل الرافائيليين، مثل وليام موريس وادوارد بيرن جونز.
وطُبعت من الرباعيات نسخ كثيرة مع صور توضيحية وضعها فنّانون آخرون مثل ادموند دولاك وادموند سوليفان وغيرهما. كما اقتبس مارتن لوثر كنغ بعض كلمات الخيّام في خطبته المناوئة للحرب عام 1967. وفي احد الأوقات، أنتجت هوليوود فيلما عن الشاعر، وظهرت العديد من عباراته ضمن كتاب اوكسفورد للاقتباسات.
وما من شكّ في أن شعر الخيّام صمد أمام امتحان الزمن. وفي بلده إيران، ما يزال يتمتّع بشعبية كبيرة، إذ لا يكاد يخلو بيت من نسخة من الرباعيات. وعلى الرغم من أن فيتزجيرالد عدّل كثيرا في ترجمته، إلا أن الرباعيات ما تزال أشهر نسخة انجليزية من الديوان حتى اليوم. وفي أنحاء أخرى متفرّقة من العالم، ما تزال هذه القصائد تُقرأ وبمختلف اللغات.
ربّما كان ساتكليف وزميله سانغورسكي قد تنبّئا مسبقا بالأهمية الكبيرة التي سيحظى بها كتاب الرباعيات عندما اختارا له ذلك التصميم العجيب. لكن كيف أمكن لكلمات كتبها شاعر قبل عشرة قرون أن يكون لها كلّ هذا الذيوع والانتشار المستمرّين، من العصر الفيكتوري إلى عصر القرن الحادي والعشرين؟
الإجابة تكمن في خلود الرباعيات نفسها وفي حديثها عن الحقائق الكونية العامّة التي لا تقتصر على ثقافة أو دين أو عقيدة بعينها.
وفي وقتنا الحاضر، حيث يعيش العالم حالة من التوتّر وعدم اليقين، قد تكون الرباعيات ذات صلة بعالمنا أكثر ممّا كانت خلال العصر المضطرب الذي كُتبت فيه أوّل مرّة.
تُرى ما الذي يمكن أن يقوله مؤلّف ديوان الشعر الأكثر بذخا عن عالمنا المجنون لو كان ما يزال حيّا إلى اليوم؟
ثمّة الكثير مما يمكن اقتباسه من شعر الخيّام ممّا يناسب واقع الحال اليوم كقوله مثلا:
لا توحش النفس بخوف الظنون : واغنم من الحاضر أمن اليقين
فـقد تـساوى فـي الـثرى راحـل غـدا : وماضٍ من ألوف السنين
أو قوله:
زخـارف الدنيا أساس الألم : وطالب الدنيا نديم الألم
فكن خليّ البال من أمرها : فكلّ ما فيها شقاء وهمّ
أو قوله:
عش راضيا واهجر دواعي الألم : واعدل مع الظالم مهما ظلم
نـهـايـة الـدنـيـا فــنـاء فــعـش : فـيـهـا طـلـيـقا واعـتـبـرها عــدم

Credits
bbc.com

الاثنين، مايو 22، 2017

الأصدقاء الثلاثة


هذه قصّة ثلاثة أصدقاء كان كلّ منهم يؤثر الآخر على شخصه ويرى فيه أكثر مما يرى في نفسه. وعندما أصبحوا أشخاصا مهمّين، تدخّلت الصراعات السياسية وتضارب المصالح لتفسد ما كان بينهم من مودّة وإيثار.
وعلى مدى ألف عام، سافرت قصّتهم آلاف الأميال وتناقلها الناس جيلا بعد جيل. وفي النهاية أصبحت جزءا من كتب التاريخ.
كان كلّ من نظام الملك وعمر الخيّام والحسن الصبّاح زملاء دراسة منذ الصغر. وكان كلّ واحد منهم يقدّر الآخر ويثمّن طموحه، وقد تعاهدوا وتواثقوا على انه متى أصاب أيّ منهم مغنما أو سلطة وجب عليه أن يتشاركها مع رفيقيه وألا يختصّ نفسه بشيء دونهما.
نظام الملك، المولود في طوس عام 1018، كان عالما ومثقّفا. ورغم فقره المبكّر، إلا انه حقّق نجاحا معتبرا بفضل عزيمته وقوّة شخصيّته. وقد أهّلته عبقريّته وخبرته في الإدارة لأن يصبح وزيرا ومستشارا للسلطان السلجوقيّ ألب ارسلان، ثمّ وزيرا أوّل لخلفه السلطان ملكشاه.
وعندما تولّى نظام الملك منصبه لم ينسَ وعده الذي قطعه لصديقيه الخيّام والصبّاح. كان الخيّام قد انتقل قبل ذلك الوقت، أي حوالي عام 1070، إلى سمرقند إحدى أقدم مدن آسيا الوسطى. وفيها كتب احد أهمّ كتبه الذي تناول فيه مسائل رياضية.
وأثناء إقامته في سمرقند، بعث إليه صديقه نظام الملك يدعوه للعودة إلى أصفهان كي يقلّده منصبا. وقد لبّى الخيّام الدعوة، لكنه أبدى عدم رغبته في أيّ منصب سياسيّ. فعرض عليه نظام الملك أن يقيم مرصدا مع غيره من الفلكيين البارزين آنذاك، فوافق.
ووفاءً من نظام الملك بوعده القديم، طلب من صديقه الآخر الحسن الصبّاح أن يتولّى منصب رئيس امن البلاط. لكن يبدو أن الصبّاح كان يضع عينه على منصب اكبر في الإمبراطورية. وكما هو متوقّع، نشأ خلاف بين الاثنين.
وقد انزعج نظام الملك من طموحات الصبّاح وأحسّ بالقلق أكثر عندما اتّهمه الأخير علنا بأنه مستبدّ ولا مبالٍ بسبب تفضيله السنّة على الشيعة.
وبدأ نظام الملك ينشر الشائعات عن الصبّاح في بلاط السلطان، ما دفع ملكشاه لأن يأمر باعتقاله، ثم ما لبث أن اصدر عليه حكما بالإعدام.
لكن بتدخّل من الخيّام، سمح السلطان للصبّاح بأن يذهب منفيّا إلى مدينة الريّ التي كان قد قضى فيها سنوات طفولته.
ولأن دائرة الصراع بدأت تتّسع شيئا فشيئا بينه وبين الدولة السلجوقية، شعر الصبّاح انه بحاجة إلى مقرّ حصين يحميه وأتباعه من هجمات خصومهم الكثيرين.
وفي عام 1090، اتّخذ له مقرّا في قلعة آلاموت، التي يعني اسمها بالفارسية عشّ النسر، وتقع على الطرف الجنوبيّ لجبال البورز في منتصف المسافة بين طهران وبحر قزوين. وقد بنى الصبّاح للقلعة دفاعات إضافية وشيّد بداخلها قنوات للريّ وأسّس مكتبة ضخمة ومركزا لتعليم الرياضيات والفلسفة والفلك.
في تلك الأثناء، ولسبب ما، أقيل نظام الملك من منصبه كوزير أعظم، ثم ما لبث أن قُتل غيلةً عام 1092م. وقيل إن الاغتيال ربّما كان سببه التنافس بين فرقتي الأحناف والشوافع. وقد يكون وراءه الحسن الصبّاح الذي أصبح خصما شخصيّا لصديقه القديم وفي حالة عداء مع الدولة.
وقيل أيضا أن نظام الملك قُتل على يد متصوّف أو درويش كان يحمل له هديّة خبّأ بداخلها خنجرا مسموما. وأشيع كذلك انه قُتل بإيعاز من ملكشاه نفسه أو زوجته ضمن لعبة صراع داخليّ على السلطة. وكانت آخر كلماته قبل أن يموت: أرجوكم لا تقتلوا قاتلي لأنني عفوت عنه".


كان نظام الملك واحدا من ألمع الوزراء الذين عرفتهم بلاد الشرق. وقد شجّع دراسة العلوم والفنون الإسلامية وصرف أموالا كثيرة على طلب العلم والمعرفة ووضع نظاما للجيش وبنى العديد من المكتبات.
في قلعة آلاموت، كان الانضباط والولاء والطاعة المطلقة اشدّ أسلحة الحسن الصبّاح قوّة ومضاءً. وقد أصبح هو وجماعته يُدعون بالأساسيّين، أي المتمسّكين بالأسس أو الأصول. لكن الكلمة تُرجمت خطئا إلى اللغات اللاتينية لتصبح الحشّاشين أو القتلة.
وبفضل بعض الرحّالة مثل ماركوبولو، انتشرت قصص خيالية وأقرب ما تكون إلى الخرافات عن جنّة الحليب والعسل والنساء والحشيش التي أقامها الصبّاح في قلعته.
ماركوبولو أشار إلى انه زار آلاموت عام 1273، وهذا أمر مستغرب لأن القلعة كانت قد دُمّرت قبل ذلك بأكثر من عشرين عاما، بعد أن استولى عليها المغول وقتلوا سكّانها ودمّروا مكتبتها.
كان الصبّاح ابن رجل فارسيّ من الشيعة. ومع مرور الوقت تبنّى هو وأتباعه مذهب الدولة الفاطمية في مصر. كان شخصا ذكيّا وذا دراية بالعلوم والرياضيات. كما وُصف بأنه تقيّ وعادل. ويقال انه عانى كثيرا بعد أن أمر بقتل ولديه، الأوّل لأنه تناول الخمر والثاني لضلوعه في جريمة قتل.
وقد سُمّي الصبّاح بشيخ الجبل لأنه لم يغادر قلعته طوال ثلاثين عاما إلى أن مات فيها في مايو من عام 1124 عن ثمانين عاما.
باغتيال نظام الملك، عمّت الثورات والقلاقل أرجاء الإمبراطورية السلجوقية. وتقاسم أبناء الحكّام إدارة الأقاليم، ونشأت بعد ذلك إمارات صغيرة متناثرة وغير مستقرّة.
وكانت تلك الأحداث إيذانا بزوال دولة السلاجقة الذين ينحدرون من قبيلة تركيّة قدمت من سهوب آسيا الصغرى. وكانوا قد أسّسوا لهم إمبراطورية واتّخذوا من بلاد فارس عاصمة لملكهم.
ويُنسب إلى السلاجقة الفضل في أنهم أعادوا الوحدة الإسلامية مرّة ثانية تحت حكم الخلافة السنّية. وبحلول عام 1060، كانت إمبراطوريّتهم تضمّ أراضي بلاد الرافدين وسوريا وفلسطين ومعظم إيران.
أثناء تولّيه وظيفته في المرصد، عاش عمر الخيّام فترة من السلام الداخليّ امتدّت لعشرين عاما، حقّق خلالها العديد من الانجازات الفلكية والعلمية.
لكن موت نظام الملك ثم ملكشاه أنهى سنوات السلام التي عاشها. فقد توقّف تمويل مرصده، كما تعرّض لهجوم وأذى الأصوليين المتشدّدين الذين لم تتوافق أفكارهم المتحجّرة مع عقليّته المتفتّحة والمتسائلة. وتوفّي في نفس المدينة التي ولد فيها، أي نيشابور، في الرابع من ديسمبر عام 1131م.
الخيّام، المولود في مايو من عام 1048م، أي بعد حوالي عشر سنوات من وفاة العالم العظيم ابن سينا، كان يتقن العربية إلى جانب الفارسية. ويقال أن أسلافه كانوا من العرب صُنّاع الخيام الذين هاجروا إلى بلاد فارس قبل قرون واستقرّوا فيها.
والغريب أن معاصريه لم يذكروا أشعاره ولم يعلّقوا عليها في زمانه، ربّما لأنه كان مشهورا أكثر بوصفه عالما وفيلسوفا وفلكيّا. ولم تظهر أوّل مجموعة من الرباعيّات التي تحمل اسمه إلا بعد وفاته بمائتي عام.
قصّة الخيّام ونظام الملك والحسن الصبّاح كُتبت مرارا وغُيّر فيها وبُدّل لتخدم مجموعة من الأغراض السياسية. وما تزال الروايات حول هذه القصّة مشوّشة ومتضاربة. ويبدو أن الأسطورة هي التي عاشت وترسّخت، بينما طُمرت الحقيقة تحت ركام الحروب وغبار الزمن.

Credits
researchgate.net

الجمعة، يناير 06، 2017

مدن في البال

طالما تمنّيت، مثل كثيرين، زيارة مدن معيّنة تشكّلت معالمها في الذهن وفي المخيّلة على مرّ السنين. والمدن التي طالما تطلّعت لأن أراها عيانا ولم استطع كثيرة. وقد سافرتُ إليها بعقلي من خلال ما قرأته عنها أو ما سمعته من الناس الذين زاروها.
هذه السلسلة من المقالات هي عن المدن التي عاشت في الذاكرة والخيال لزمن طويل. وأولى هذه المدن هي سمرقند، والأسباب كثيرة.
فسمرقند هي مدينة الأساطير، وهي من المدن القليلة التي تنتمي إلى الإنسان في كلّ مكان. وفي ذروة ازدهارها كانت تُسمّى مركز الكون.
وزيارة هذه المدينة تشبه الانتقال عبر الزمن إلى عالم آخر من السحر والدهشة، عالم القرن الرابع عشر الميلادي.
أيضا سمرقند مدينة رومانسية بكلّ معنى الكلمة، وربّما أكثر من أيّ مدينة أخرى. وليس من الصعب أن نعرف لماذا اختار مؤلّف أو مؤلّفو "ألف ليلة وليلة" لشهرزاد أن تنسج حكاياتها من قصر في سمرقند.
في عصرها الذهبيّ، كانت هذه المدينة محطّة رئيسية على طريق الحرير، وكانت القوافل الملوّنة تمرّ من وسطها، مانحةً طريق الحرير سمعته الغرائبية. وكان فيها أناس من أراض وأديان وأجناس مختلفة، كما كانت أعجوبة المعمار الإسلاميّ ومركزا عظيما للعلوم والمعرفة.
وفي سمرقند يقع الضريح الأسطوريّ لمؤسّس المدينة الملك التركيّ المغوليّ تيمورلنك. وقد زارها ابن بطّوطة وماركوبولو وغيرهما من الرحّالة الذين كتبوا عنها. وفيها أيضا قضى الشاعر عمر الخيّام سنوات من حياته المبكّرة وألّف العديد من قصائده هنا.
ويقال أيضا أن عبدالله ابن عبّاس، ابن عمّ الرسول الكريم (ص)، ذهب إلى سمرقند كي ينشر الإسلام هناك. لكنه قُتل على يد زارادشتي، وتحوّل قبره إلى مزار يحجّ إليه أهل آسيا الصغرى ممّن لا يستطيعون تحمّل مشقّة الذهاب إلى مكّة. (من الواضح أن هذه أسطورة، إذ المعلوم أن ابن عبّاس توفّي في مدينة الطائف). وفي سمرقند أيضا ولد السلطان بابَر مؤسّس الإمبراطورية المغولية في الهند.
الاسكندر المقدوني فتح المدينة في العام 329 قبل الميلاد إلى أن طرده منها جنكيز خان. وبعد ألف وخمسمائة عام، أي في القرن الرابع عشر، اتخذ منها تيمورلنك عاصمة لملكه بعد أن أعاد بناءها وجعلها مقصدا للشعراء والرحّالة.
كان من عادة تيمور أن يأمر بأن تُضاء الأنوار في حديقته الساحرة عند غروب الشمس. وكانت الحديقة تضمّ جسرا صغيرا ونهرا وأشجار رمّان. وفي قصر للحريم يتميّز بأعمدة زرقاء وبلاط رائع يعود تاريخه إلى منتصف القرن التاسع عشر، يمكنك أن تتخيّل السلطان مع زوجاته الأربع ومحظيّاته الكثيرات وهم يجلسون في الشرفات الواسعة.
وسمرقند ليست عاصمة الأوزبك، بل طاشكند التي شهدت عام 1966 زلزالا عنيفا دمّر معظم أجزائها القديمة. أوزبكستان نفسها أرض مجهولة، غرائبية وأسطورية. هي عبارة عن جزيرة، لكنها غير محاطة بالماء، بل بصحراء وجبال لا تستطيع الفكاك منها.
وعلى امتداد تاريخ سمرقند الطويل، حكمها الفرس والإغريق والترك والمغول والصينيون والروس. وكانت فيها ستّة أديان.
وعمر المدينة، مثل روما وأثينا، أكثر من ثلاثة آلاف عام. وفي معظم هذه الفترة، احتلّت سمرقند مركزا مهمّا في منتصف طريق الحرير الذي ربط أوربّا وآسيا وأسهم في رخاء المدينة وتنوّعها. لكنّ هذا أدّى أيضا إلى أن أصبحت هدفا مغريا للغزاة والرحّالة والكتّاب والمغامرين.
عندما زارها الكاتب الروسيّ تولستوي مع عدد من أصدقائه في نهاية القرن التاسع عشر، امتدح مرافقهم الروسيّ شجاعتهم في المجيء إلى سمرقند رغم مخاطر الطريق. وقد تطوّرت علاقة تولستوي مع "شامل" دليلهم الاوزبكي الوسيم ذي العينين الزرقاوين. لكن الأخير اضطرّ إلى مغادرة المجموعة عند الحدود الصينية. وربّما بسبب رحيله قلّ اهتمام تولستوي بالرحلة وفضّل العودة إلى روسيا.
المعمار في سمرقند يأخذك إلى الأزمنة القديمة، وهي معروفة بمناراتها الزرقاء وقباب مساجدها الرائعة. الموزاييك المذهّب مع ظلال سائلة من الأزرق، هذا جزء من تراث تيمورلنك في مدينته القديمة.
وبعد الاحتلال السوفياتي، تمّ ترميم معظم صروح اوزبكستان المعمارية في ما بدا وكأنه إعادة بناء لتاريخ المدينة نفسه.
وفي سمرقند حيّ اسمه افروسياب، ويُعرف بمدينة الموت. كان هذا الحيّ مركز سمرقند في الزمن القديم، وفيه ارتكب جنكيز خان أسوأ جرائمه. وقد اعتُبر المكان مشئوما لدرجة أن تيمورلنك قرّر ألا يبني فيه.

أما وسط المدينة فيُسمّى راجيستان، وهو عبارة عن ساحة يقال أنها اكبر ميدان عامّ في آسيا الوسطى. وتتضمّن ثلاث مدارس بُنيت على مدى قرنين، لكنّها اليوم تحوّلت إلى مزارات سياحية.
المعمار الرائع في ميدان راجيستان ترك بصمته في ما بعد على المعمار الصفويّ والباكستانيّ والهنديّ، وحتى على مسجد سانت بطرسبورغ الكبير. وإحدى خصائص المعمار الإسلامي في سمرقند هو غلبة بلاط السيراميك واللون التركوازي على العديد من صروحها، وهذا واضح خاصّة في مقبرة "شاهي زندا" التي يشاع أن ابن عمّ الرسول الكريم مدفون فيها.
وسمرقند أيضا تؤوي ضريح اوليغ بيك حفيد تيمورلنك. كان اوليغ فلكيّا وعالم رياضيات بارزا. وقد دعا العلماء كي يعملوا ويعلّموا في سمرقند وحولّها إلى عاصمة ثقافية للمنطقة. كما أسّس مرصدا فلكيا وأعدّ أضخم تصنيف للنجوم منذ بطليموس بعد أن رسم إحداثيات أكثر من ألف نجم. واشتهر عنه قوله "إن الدين يضمحل والممالك تأفل، لكن علم العلماء هو الذي يبقى خالدا إلى الأبد".
كان اوليغ بيك محاربا شجاعا وحاكما مستنيرا ورجل علم ومعرفة. وقد تحدّى بعض الأفكار الدينية السائدة في زمانه. وكما هو متوقّع، كان هذا سبب سقوطه. فقد أغضبت دراساته وآراؤه ابنه عبداللطيف الذي كان أصوليّا متعطّشا للسلطة، فاستولى على العرش قبل أن يأمر بقطع رأس والده وتدمير مرصده.
بعد أن دمّر جنكيز خان سمرقند في القرن الثالث عشر، أعاد بناءها تيمورلنك بعد قرن ثم حوّلها إلى مدينة لم يرَ الناس مثلها من قبل واتّخذها عاصمة لملكه. ثم بدأ عددا من الغزوات نتج عنها توسيع حدود امبراطوريته من تركيا والقوقاز إلى الهند. لكن ثمن ذلك كان إبادة أكثر من مليون إنسان، أي خمسة بالمائة من سكّان العالم آنذاك.
وقد عاد من حملاته في فارس ودمشق وبغداد والقوقاز بأفكار معمارية وغنائم أشبعت شهيّته للبناء. كما أعاد معه أشهر البنّائين والفنّانين من البلدان المفتوحة.
كان تيمور فاتحا كبيرا، وفي نفس الوقت مدمّرا متوّحشا ونهّابا في كلّ مكان حلّت فيه جيوشه. لكنه بنى مدينة جميلة وتحوّل إلى راع للفنون والآداب. وقد دامت امبراطوريته حوالي مائة وثلاثين عاما.
ويقال انه بكى ليومين متواصلين حفيده المسمّى محمّد سلطان الذي قُتل في معركة، ثم بنى له ضريحا رائعا تخليدا لذكراه. لكن في النهاية أصبح الضريح مدفنا لتيمور نفسه ولعدد من أفراد سلالته.
الغريب أن اكبر وأفخم قبر في هذا الضريح ليس قبر تيمورلنك، بل قبر معلّمه الروحي الشيخ مير سعيد بركة، وقد أوصى تيمور أن يُدفن عند قدم قبر معلّمه وفاءً له.
وفي بعض الأوقات، راجت أسطورة تقول إن كلّ من يجرؤ على فتح قبر تيمور سيُصاب بلعنة وسيحلّ الخراب بأرضه. لذا ظلّ القبر مغلقا لأكثر من خمسمائة عام. لكنّ عالم آثار روسيّا فتح القبر في أربعينات القرن الماضي. وبعد ثلاثة أيّام بدأ الغزو النازيّ لروسيا الذي نتج عنه مقتل ثلاثين مليون إنسان.
ومن اكبر معالم سمرقند المعمارية الأخرى جامع بيبي خانوم الذي يُعتبر احد اكبر المساجد في العالم، مع تفاصيل وألوان رائعة وأخّاذة. وعلى منارة المسجد كُتبت عبارة غريبة تقول إن البهلوان البارع الذي يتسلّق حبال الخيال لن يصل أبدا إلى قمّة المنارة الممنوعة. وقد بنى تيمور هذا المسجد تكريما لذكرى زوجته المفضّلة بيبي خان، وذلك بعد عودته من حملة بالهند.
وكان قد ذهب إلى الهند كي يؤدّب سلطانها بسبب تسامحه المفرط مع رعاياه من الهندوس. وأحضر معه من هناك خمسين ألف أسير ومائة فيل استخدمها في بناء المسجد الذي شيّده على الطراز المعماريّ الهندي.
حفيد تيمور الآخر، أي بابر، فتح الهند بعد ذلك بمائة وثلاثين عاما وأسّس هناك السلالة المغولية التي حكمت ذلك البلد لأكثر من ثلاثمائة عام.
لكن ماذا بقي من سمرقند القديمة؟ لقد تغيّرت المدينة كثيرا اليوم. وبالتأكيد لن تجد فيها شخصا مثل تيمور الذي يقال انه مات بالانفلونزا، وهي نهاية عبثية لرجل خارق واستثنائي. لكنّ تيمور موجود في كلّ مكان في المدينة بما تركه من صروح ومعالم خالدة.
أما طريق الحرير القديم فقد تغيّر الآن إلى طريق النفط، بعد أن تحوّلت اثنتان من دول آسيا الوسطى، هما اذربيجان وكازاخستان، إلى دولتين من اكبر منتجي النفط. كما استُبدلت قوافل الجمال بخطوط الأنابيب التي تحمل النفط والغاز إلى أوربّا وروسيا.
يبلغ عدد سكّان سمرقند اليوم حوالي ثلاثة ملايين نسمة، ولكنّها في بعض الأوقات - بحسب من زاروها مؤخّرا - تكاد تكون فارغة إلا من أسراب الطيور. وقد أدرجت اليونسكو المدينة قبل خمسة عشر عاما ضمن المدن ذات التراث التاريخيّ والإنساني.

Credits
lonelyplanet.com

السبت، مارس 14، 2015

خواطر في الأدب والفن

يوم في الجنّة


يقال أن كليوباترا كانت تعيش في غيمة من البخور وترى في مناماتها أحلاما أرجوانية. كانت ملكة مصر القديمة تتحمّم بالبخور والمرّ واللوتس وخشب الصندل وماء الورد قبل أن تسافر على ضفّة النيل على متن قارب، كما يقول شكسبير، لدرجة أن الرياح كانت تحبّ عطرها.
وفي اليابان، تُعرف رياح شهر مايو تقليديا بأنها أجمل رياح العام، لأن مايو هو الوقت الذي تهبّ فيه الرياح العطرية.
وأنا أغلق عينيّ بعد ظهيرة احد الأيّام، نقلني صوت الرياح على الفور إلى خارج النافذة. كنت دائما أتساءل عن السبب في أن غالبية الناس يفضّلون برزخ "دانتي" على جنّته التي يسمّيها باراديزو .
ترى هل أنا الوحيد الذي لا يستطيع تصوّر الجحيم تماما، بينما أجد نفسي في كثير من الأحيان ضائعا في أحلام الجنّة؟
الجنّة كانت وما تزال احد أقدس الدوافع والأفكار في تاريخ الإنسان. ودائما وفي كلّ وقت تقريبا، كان هناك من يتوق لنوع من الكمال على الأرض.
كولومبوس، ذلك البحّار الموسوس والفضولي، ظنّ أن أمريكا الجنوبية هي جنّات عدن بسبب طيور الببّغاء التي رآها تتكلّم هناك. كان كولومبوس يعتقد أن جميع الحيوانات والطيور كانت تتكلّم قبل السقوط أو الطرد من الجنّة.
هذا الأمل في وجود جنّة من نوع ما يدفع بالبشرية إلى الأمام ويحفّز على التغيير ويعد بالخلاص. لكنّه أيضا مرتبط بالمعتقدات النهائية مثل ارماغيدون والخطيئة الأصلية والشهادة وكلّ الأفكار التي تؤثّر على الحياة الحديثة، حتى عندما تكون مختفية تحت قشرة من العلمانية.
بالنسبة لي، الجنّة تشبه حديقة فارسية. أتصوّرها عامرة بعبير الورد والياسمين والغاردينيا. وفيها موسيقى ونسائم ربيعية معطّرة ونزهات لا تنتهي.
أتخيّل فيها أدونيس وهو يطلق طائراته الورقية، بينما يهيم الفلاسفة على وجوههم بالجوار وأرسطو يتناقش مع السنيور بورخيس. وبينما هما يتحدّثان، يبحثان عن اسم الله على بتلات الأزهار.
استطيع أيضا أن أتخيّل "سام هاميل" وهو يتلو قصائد من كتابه "الجنّة"، بينما يرسم "توليو" خرائط لعوالم خيالية بالحبر الأسود. ابن رشد وابن سينا هما أيضا هناك.
الفلاسفة في الجنّة يتحدّثون جميع اللغات التي يمكن للمرء أن يسمعها في عالم الدنيا. آنا كارينينا وحبيبها الكونت اليكسي فرونسكي يحتضنان بعضهما وهما يجلسان تحت شجرة لوز كبيرة.
النزهات التي لا تنتهي تتضمّن الشاي الصيني الأسود والشمبانيا المجلوبة من جبال فورموزا والشاي الأخضر الذي يُقدّم في أوان خاصّة مع حلويات لذيذة من متاجر مقاطعة الغيوم البعيدة.
وعلى البعد يلوح بناء ضخم تلامس قمّته السماء الزرقاء المتلألئة. هذه هي مكتبة الجنّة التي تحتوي على كلّ الكتب التي الّفت في جميع العصور. بورخيس يكتب ويؤلّف كتبه هنا في هذا المكان المهيب.
وتحت أشجار اللوز، يمكنك أن ترتاح قليلا وتستمتع بسماع صوت الرياح في الأشجار أو تقرأ شذرات من شعر حافظ أو عمر الخيّام.
الجميع في الجنّة لهم أجنحة مصنوعة من قوس قزح. وهناك أنفاق طويلة مغطّاة بالأزهار البيضاء والزرقاء والأرجوانية تشبه الممرّات المغطّاة في قصر الصيف خارج بيجين. ممرّات طويلة مظلّلة ومفروشة أرضها بالأزهار كانت الإمبراطورة الأرملة في حكم سلالة تشينغ تمشي فيها وهي تقرأ في كلّ مرّة كتابا.
أتذكّر تلك الرسومات التي تصوّر طيور الجنّة على جدران بعض الكهوف البوذية. من المعروف أن الطيور في الجنّة البوذية تبدأ في الغناء حتى قبل أن تفقس من بيضها. كما أن أغنياتها جميلة جدّا وتشبه شدو الملائكة.
الحدائق المشذّبة والملائكة، وكذلك الجبال التي تلوح في الأفق، والأنهار التي تتدفّق بالماء العذب، هي أفكار مشتركة عن الجنّة في معظم الثقافات القديمة.
في جنّة "دانتي" ليس هناك مفهوم للتنوير. الروح عند هذا الشاعر الايطالي ليست موردا ينبغي تحسينه أو الانتفاع به، والبشر لا يرومون انفصالا أو كمالا من أيّ نوع. كلّ ما هو مطلوب منهم هو الحبّ والأمل. هذا كلّ شيء. والإيمان والإخلاص ليسا سوى اسمين آخرين لهما.
مثل القبلة، ومثل الحبّ، ومثل كلّ شيء جدير بالاهتمام، فإن الجنّة هي أساسا عن الجمال والمرح. إنها الأرواح التي يقودها بحثها الميتافيزيقيّ عن إله إلى خلق واقع يحدّد نفسه بنفسه.
الجنّة تشبه صورة مثالية، تماما مثلما تصفها الليدي موراساكي بطلة إحدى الروايات اليابانية: مزهرية ملأى بالعطور.

❉ ❉ ❉

ليل تضيئه الشموع


الرسّام الهولندي بيتروس فان سكيندل كان متخصّصا في رسم المناظر الليلية التي تضيئها الشموع. ولم يكن احد من معاصريه ينافسه في هذا النوع من الرسم.
رسم مناظر الليل المضاءة بالشموع كان منتشرا في هولندا القرن السابع عشر. وأوّل من بدأه كان الرسّام الهولندي جيرارد دو.
في فرنسا كانوا يلقّبون فان سكيندل بـ "مسيو شانديل" أو "السيّد الشمعة" لكثرة ما تظهر الشموع في مناظره. كان بارعا خاصّة في تصوير مناظر الأسواق ليلا.
في بعض لوحاته يمكن أن ترى عدّة مصادر ضوء في وقت واحد، مثل ضوء القمر ووهج شمعة أو مصباح، وأحيانا مصادر ضوء أخرى لا تُرى.
كلّ التفاصيل في اللوحة إلى فوق تؤشّر إلى براعة فان سكيندل ومقدرته في التعامل، ليس مع الضوء فحسب، وإنما مع التوليف العام للوحة ومع التفاصيل ككلّ.


❉ ❉ ❉

اكتشاف النار


يبدو أن لا اكتشاف يمكن أن ينافس في الأهمّية اكتشاف الإنسان الأوّل للنار. أسلافنا استطاعوا أن ينتشروا في الأرض ويستكشفوا الطبيعة في جماعات صغيرة بفضل النار. والنار هي التي منحت الإنسان القوّة وسمحت له بتعديل الطبيعة التي عاش وتطوّر ضمنها.
وما عليك إلا أن تراقب وجه طفل رضيع يحدّق في النار لكي تدرك عمق افتتاننا بها وأنها متجذّرة في عقل الإنسان منذ الأزل.
أحيانا نتخيّل، نحن البشر، أننا بفضل ما وُهبنا من ذكاء وبراعة نعلو فوق غيرنا من المخلوقات والحيوانات. لكن هذا غير صحيح، إذ يجب أن نتذكّر أننا في نهاية الأمر من الثدييات، أي المخلوقات التي تمشي بجذع منتصب، ويقال أننا ننحدر من نوع قديم من القرود منشؤها أفريقيا.
ويُعتقد أيضا بأننا نحن البشر نصنع الأدوات منذ أكثر من مليونين ونصف المليون عام. لكن هذا لا يعطينا أفضلية على غيرنا من المخلوقات، فغيرنا من الحيوانات تستطيع صنع الأدوات أيضا، مثل ثعلب الماء مثلا الذي يستخدم الحجارة لكسر المحار.
ما يميّز الإنسان حقّا عن غيره من الخلق هو إتقان النار. وقبل افتراض أننا الوحيدون الذين يستخدمون النار في الطبيعة، يجب أن نفكّر في الأمر قليلا. فالصقور في استراليا تلتقط العيدان المحترقة في غابة ثم تسقطها لكي تنتشر النار أكثر فتضطرّ الحيوانات العالقة بين الأشجار إلى الخروج ومن ثمّ يسهل اصطيادها.
وبحسب علم الآثار، فإن أوّل إشارة لتحكّم الإنسان في النار تعود إلى العصور القديمة. ويبدو أن الإنسان حصل لأوّل مرّة على النار من مصادر الطبيعة كحرائق الغابات التي كانت تظلّ مشتعلة لأيّام أو أسابيع.
وحتى هذه الأيّام، ما يزال هناك بعض القبائل البدائية التي تحمل النار معها أينما ذهبت، وبذا لا تحتاج أبدا لإشعال نار لأنهم لا يتركون نارهم تنطفئ مطلقا. ويمكن القول أن هذه هي أقدم نار في العالم. وبعض القبائل كان من عادتها أن ترسل عدّائين ليذهبوا إلى قبائل أخرى لإحضار نار من عندهم إذا انطفأت نارهم.
اكتشاف الإنسان الأوّل للنار كان سلاحا قويّا لردع اعنف وأقسى الحيوانات الضارية. وباكتشاف النار تبدّد الخوف من أخطار الليل. وأصبحت النار مركز الحياة عندما بدأ أسلافنا يلتفّون حولها في الليل بسعادة.
وبفضل النار استطاع الأسلاف أيضا تعلُّم كيف يطبخون طعامهم بتحسين نكهته وتحييد السموم النباتية وتدمير البكتيريا الضارّة. ونتيجة لذلك تنوّعت أطعمتنا وتعدّدت. ويقال إن طعامنا الذي طوّرته النار أسهم في نموّ أدمغتنا بحيث أصبحت اكبر.
وإلى ما قبل تمكّن الإنسان من تسخير النار واستغلالها، كان طول النهار يحدّده ضوء الشمس. لكن مع ضوء النار أصبح اليوم أطول وأتاح ذلك المزيد من الوقت للاتصال وتبادل الأفكار بين البشر.
في لغة الإشارة عند الهنود الحمر، فإن المجيء إلى النار يتضمّن مفهوم اللقاء للحديث ومشاركة الأفكار. حتى الأضواء التي نراها هذه الأيّام في مقدّمة خشبة بعض المسارح تحاكي ذلك الضوء المنبعث من النار الذي كان ينعكس على وجه الحكواتي القديم من أسلافنا.
طبعا فكرة كيف تسنّى للإنسان القديم أن يقدح نارا لا بدّ وأنها شغلت وما تزال عقول الكثيرين. وربّما كنت أنت أيضا من بين أولئك الذين تساورهم الرغبة في السفر عبر الزمن إلى الماضي كي تشهد أوّل تجربة أجراها الأسلاف لإنجاز هذه المهمّة البارعة والعظيمة.

❉ ❉ ❉

رُودان والجحيم


أثناء حياته، كان اوغست رُودان يقارن بميكيل انجيلو وكان معترفا به كأعظم فنّان في عصره. أشهر أعماله هو تمثال "المفكّر" الذي كثيرا ما استُخدم خارج أوساط الفنّ التشكيلي كرمز للانفعالات وللشخصية الإنسانية.
قبل أن يبدأ رودان في نحت "المفكّر"، كان في ذهنه أن يرمز التمثال إلى الشاعر الايطالي دانتي. غير أن العمل تطوّر إلى ما هو ابعد من مرجعيّته المباشرة وأصبح يمثّل المثقّف ذا العضلات، أي الذي يمارس نفوذا وتأثيرا في مجتمعه.
وهناك نسخ كثيرة من تمثال "المفكّر"، حوالي اثنتي عشرة نسخة تحديدا، أكبرها تلك الموجودة في ستانفورد والتي تزن أكثر من طنّ. ومتحف رودان في باريس هو عادة من يمنح الحقّ لمن شاء لنحت نسخ مماثلة من هذا التمثال.
وأنت تدخل إلى هذا المتحف، سترحّب بك منحوتة أخرى عظيمة لرودان ولا تقلّ شهرة، وهي المسمّاة بوّابات الجحيم . هذه المنحوتة الرائعة قد لا تشبه أيّة منحوتة أخرى رأيتها من قبل. وقد استلهمها النحّات من جحيم دانتي.
رودان كان يعتقد أن الجحيم ليس فقط مكانا للأموات، وإنّما للأحياء أيضا. الكرب والمعاناة وإرادة البقاء والجمال والرعب، كلّ هذه الأشياء تراها في هذا العمل الفنّي المتميّز.

Credits
livescience.com
tangdynastytimes.com

الجمعة، أبريل 13، 2012

موسيقى بهويّات متعدّدة

في هذا الكونشيرتو بعنوان "عائلة بورجيا: الكنيسة والدولة في عصر النهضة"، يختار المؤلّف الموسيقي الاسباني جوردي سافال مجموعة رائعة من الأشعار والمقطوعات الموسيقية التي تعود إلى بدايات عصر النهضة، وبالتحديد إلى زمن أسرة بورجيا ذات الأصول الاسبانية والايطالية.
بعض الموسيقى جميلة ومحزنة. وقد حافظت على سحرها الخاص لمئات السنين. والكونشيرتو يتضمّن أساليب موسيقية إسلامية ومسيحية ويهودية ووثنية تعكس ثقافة اسبانيا آنذاك التي كانت تتسم بالتنوّع والتعدّدية.
سافال وظّف في عمله عددا من الآلات الموسيقية التي كانت شائعة في ذلك الوقت. كما استعان بعدد من أشهر العازفين والمؤدّين، منهم زوجة سافال السوبرانو والعازفة الاسبانية مونتسيرات فيغيراس، وعازف العود المغربي ادريس المالومي، وعازف الناي الروسي نيديالكوف، بالإضافة إلى سافال نفسه وآخرين.
كان صعود أسرة بورجيا إلى السلطة ومن ثمّ هيمنتها لاحقا على الفاتيكان نقطة تحوّل مهمّة في تاريخ أوربّا. كان ذلك العصر عصر دافنشي وميكيل أنجيلو والإنجازات الفكرية والفنّية الكثيرة. ولكنّه كان أيضا عصر مكيافيللي والحروب المستمرّة والفساد الذي لا يوصف.
رودريغو بورجيا كان الرجل الذي سعى وراء السلطة ونال في نهاية المطاف الجائزة الكبرى، وهي الجلوس على الكرسيّ الرسولي في روما. وقد أصبح اسمه مرادفا للقسوة، وعهده كـ بابا يمثّل احد أسوأ الفصول سوءا في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية. كان لـ رودريغو أربعة أبناء: خوان الكسول والمغترّ بنفسه والمتهتّك. وسيزار "أو تشيزاري"، الشابّ الممزّق بين إيمانه المدّعى وطبيعته العنيفة والمظلمة. ولوكريتسيا، الابنة التي تكتشف القوّة السرّية لجنسانية المرأة. وغوفريدو، الطفل الذي ينشأ وسط عائلة تعصف بها المؤامرات والصراعات.
رودريغو، على الرغم من تديّنه، كان عبدا لملذّات الجسد. ولم يكن يتعيّن عليه فقط أن يتعامل مع المؤامرات التي كان يحيكها ضدّه زملاؤه الكرادلة وممثّلو القوى العظمى في ذلك الحين، بل أن يعمل أيضا على احتواء المنافسات المريرة بين أبنائه والتي كانت تهدّد بتمزيق عائلته. كان عصر أسرة بورجيا الذي استمرّ لحوالي المائة عام مليئا بالدسائس والعنف والقتل والشهوة والسياسة والإيمان وزنا المحارم والخيانة.
لكن في خضمّ كلّ ذلك الفساد والاضطراب، كان ما يزال هناك العديد من الأشياء الجميلة. وسافال في هذا الكونشيرتو يجلب أفضل وأشهر ما أنتجه ذلك العصر من شعر وموسيقى وغناء.

❉ ❉ ❉

سمعت صوتا هاتفا في السحر، نادى من الغيب غُفاة البشر. هبّوا املئوا كأس المنى، قبل أن تملأ كأس العمر كفّ القدر.
كان من عادة الشاعر عمر الخيّام أن يودِع أشعاره التي يتحدّث فيها عن القدر والخمر والحبّ والموت عند بعض أقاربه وأصدقائه خوفا من أن يطّلع عليها بعض معاصريه الذين كانوا يعتبرونها ضربا من الزندقة.
ولزمن طويل، ظلّ الموسيقيّون يتجنّبون غناء شعر الخيّام لأنهم كانوا يعتبرونه شعرا مقدّسا.
لكن كان هناك سبب آخر. فعلى عكس شعراء الفارسية الآخرين، مثل جلال الدين الرومي وحافظ الشيرازي، فإن شعر الخيّام يفتقر إلى الموسيقى ويتطلّب قدرا من الإبداع لترجمته موسيقيّا.
في هذا الحوار الفريد بين الموسيقى العربية والفارسية، يؤدّي المغنّي الإيراني علي رضا قرباني والمغنّية التونسية دُرصاف الحمداني مقاطع مختارة من شعر الخيّام بمصاحبة عدد من الموسيقيين والعازفين.

السبت، يونيو 18، 2011

إلتقاء الأضداد


قراءة سِيَر بعض الشخصيات التاريخية، يستوي إن كانت الشخصية خيّرة أو شريرة، هي من الأشياء التي تجلب المتعة وتثير التفكير والتأمّل.
وسيزار بورجيا يوفّر نموذجا نادراً للصنف الثاني. كان هذا الأمير الايطالي شخصيّة اجتمعت فيها شتّى المتناقضات. يقال انه كان فيلسوفا وفنّانا على طريقته. كما كان أكثر الرجال وسامةً في ايطاليا في زمانه. لكنه أيضا، وهذا هو الجانب الطاغي في شخصيّته، كان مقاتلا اشتُهر بعنفه وقسوته. وكان من عادته إذا ظفر بأحد خصومه أن يُخضِعه لأشدّ صنوف التعذيب والتنكيل قبل أن يأمر بقتله بالسيف.
وجانب من أهمّية هذا الرجل يتمثّل في حقيقة انه عاصر شخصيّتين أخريين بارزتين، هما نيكولو ميكيافيللي وليوناردو دافنشي. لكن الأخيرَين كانا أكثر منه أهمّية وأعمق أثرا.
كان بورجيا يعمل على توحيد ايطاليا تحت قيادته. وكان ميكيافيللي ينظر إليه بمزيج من مشاعر الإعجاب والكراهية. كان يراقب بطش هذا الرجل وقسوته بحقّ معارضيه، وهو أمر أسهم في تعميق فهم ميكيافيللي لطبيعة ومنطق السلطة. ولم يكن مفاجئا أن بورجيا أصبح النموذج الذي بنى عليه ميكيافيللي مادّة كتابه المشهور "الأمير".
دافنشي هو الآخر أصبح من أصدقاء بورجيا المقرّبين. ولأنه كان يفهم في علوم الحرب، فقد عيّنه بورجيا مهندسا عسكريا في جيشه. كما استعان بمعرفته في رسم الخرائط وبناء الجسور التي كان جيشه يسلكها في المعارك.
لكن طبيعة الفنّان داخل دافنشي جعلته يكره بورجيا بعد أن تيقّن من طبيعته الشرّيرة ووحشيّته المتجاوزة. لذا قرّر أن يتكتّم على بقيّة اختراعاته ويحجبها عنه.
الغريب أن تأثير بورجيا على دافنشي كان واضحا في الموناليزا. فمنظر الطبيعة الفانتازية التي تظهر في خلفية اللوحة مقتطع من منظر لوادٍ كان دافنشي قد سلكه أثناء إحدى غزوات بورجيا في ايطاليا.
جهود بورجيا لتوحيد ايطاليا باءت بالفشل بعد مقتله في إحدى المعارك عن عمر لا يتجاوز الثلاثين عاما. وقبيل موته أمر بأن يُكتب على ضريحه عبارة تقول: تحت هذه البقعة الصغيرة، يرقد رجل كان يخشاه الجميع وكان يمسك بيديه مقادير الحرب والسلام".
لكن ضريحه لم يلبث أن هُدم، ونُقلت رفاته إلى ارض كانت تُستخدم كممشى للحيوانات والبهائم. وكان القساوسة قد حظروا دفن جثّته في إحدى الكنائس بعد أن رُوّعوا بكثرة جرائمه وخطاياه.
قصّة سيزار بورجيا وعلاقته بكلّ من ميكيافيللي ودافنشي ذكّرتني، مع الفارق طبعاً، بقصّة الوزير السلجوقي نظام المُلك وعلاقته بكلّ من عمر الخيّام والحسن الصبّاح.
التاريخ يعيد نفسه هنا أيضا، ولكنْ في زمان ومكان مختلفين.
القائد العسكري، خاصّة إن كان طاغية مستبدّا، قد ينجح في استمالة الفنّان أو الشاعر أو المفكّر إلى جانبه، ولكن لبعض الوقت. وهو يفعل ذلك، ليس لأنه يقدّر الفكر أو يتذوّق الشعر أو يعشق الفنّ، وإنما لكي يخطب ودّ الناس ويجمّل صورته في عيونهم ويُضفي على أعماله وتصرّفاته طابعا من الشرعية. لكن عند نقطة ما، سرعان ما يفترق الأضداد ويختار كلّ طريقه الذي ينسجم مع أفكاره وقناعاته.
الطاغية المستبدّ بطبيعته لا يأبه كثيرا بالمفاهيم الإنسانية والأخلاقية من قبيل الإيمان بالحبّ والخير والجمال، وهي القيم التي تشكّل الهمّ الرئيس للفنّان والشاعر والمفكّر. ولهذا السبب رأينا أن ميكيافيللي كان الوحيد الذي تمسّك بصداقة بورجيا حتى النهاية. وحتى ميكيافيللي نفسه، لم تكن دوافعه في القرب من الطاغية شخصية محضة. بل كان محكوما بالفضول المعرفي عندما رأى في أفكار بورجيا وممارساته حالة دراسية نموذجية تصلح لأن يُقيم عليها مشروع كتابه.
بالمناسبة، يقال أن ميكيافيللي لم يكن في نيّته أن ينشر كتابه على الملأ. وقد سمح لعدد محدود فقط من أصدقائه المقرّبين بالاطلاع على مضمونه. ولم يظهر الكتاب إلى العلن إلا بعد مرور سنوات على وفاته. ويبدو انه لم يكن يعرف أن "الأمير" سيصبح في ما بعد أهمّ كتاب في علم السياسة الحديث.
وما يلفت الاهتمام في هذا الكتاب، على وجه الخصوص، انه يتضمّن أجزاءً كثيرة يسخر فيها ميكيافيللي من الساسة الذين يستخدمون المناورة والتزييف من اجل خداع الخصوم، لدرجة أن جان جاك روسو اعتبر "الأمير" نوعا من الكتابة الهزلية والساخرة. أما انطونيو غرامشي، الكاتب والمنظّر السياسي الايطالي، فقد ذهب إلى أن الكتاب يتوجّه في الأساس إلى عامّة الناس وليس إلى الحكاّم الذين يعرفون، بحكم الدربة والممارسة، ما الذي ينبغي عليهم فعله للاحتفاظ بالسلطة.

الجمعة، مايو 20، 2011

أغاني الحبّ والحرب

غالبية الكتابات التي ظهرت عن أفغانستان خلال العقود الثلاثة الأخيرة هي إمّا عن تاريخ ذلك البلد أو عن حركة طالبان أو عن الإسلام كثقافة. غير أن هذا الكتاب مختلف من حيث انه يحاول رسم صورة عن حياة وواقع النساء في أفغانستان.
عنوان الكتاب "أغاني الحبّ والحرب: شعر النساء الأفغانيّات"، وفيه يورد مؤلّفه الشاعر والأكاديميّ الأفغاني سيّد بهاء الدين مجروح مجموعة من القصائد المسمّاة باللاندي، وهي أشعار ارتجلتها وغنّتها آلاف النساء الأفغانيات المجهولات على مرّ قرون. وهذه القصائد ذات بنية بسيطة وتستخدم لغة سهلة ومباشرة، كما أنها تتّبع قواعد محدّدة في نظم الشعر البشتوني الشفهي.
ويمكن القول إن هذه الأشعار عبارة عن أغنيات للأرض، فهي تحتفل بالطبيعة والجبال والأنهار والفجر والضياء. لكنها بنفس الوقت أغنيات عن الحرب والشرف والعار والحبّ والجمال والصراع والمنفى والموت. أشعار نساء البشتون ظلّت تقال وتتوارث عبر الأجيال. نساء القرى كنّ يرتجلن هذه القصائد وهنّ يردن ينابيع الماء أو يمارسن الرقص والغناء في حفلات الزفاف، وكأن هذه الأشعار صدى لذاكرتهنّ الجماعية.
وما فعله المؤلّف هو انه جمع هذه القصائد من أفواه النساء في وديان وجبال أفغانستان وفي مخيّمات اللجوء في باكستان وغيرها من الأماكن. وبنشره هذه القصائد في كتاب، يكون المؤلّف قد أعطى صوتا لآلاف النساء المجهولات وسمح للقارئ بالدخول إلى أعماق قلب وعقل المرأة الأفغانية.
ومن الواضح أن هذه الأشعار لا تمجّد الحبّ الصوفي. كما أنها لا تعبّر عن أيّ تطلّع من أي نوع إلى السماء أو التفاني في حبّ الإله أو الثناء على السيّد المطلق. لكنّ فيها براعة وعمقا ومأساوية وقسوة في بعض الأحيان. وربّما بسبب هذه القسوة الموجعة والنفَس الصادق، أصبحت هذه القصائد مفهومة ومعروفة عالميّا.
في الفصل الأوّل من الكتاب، يتحدّث المؤلّف عن التشكيل العشائري لمجتمع البشتون الذي يدار بالكامل وفقا للقيم الذكورية وما يُعرف بقانون الشرف. وبطبيعة الحال فإن هذا الواقع يفرض بيئة قاسية يصعب على النساء تحمّلها.
ويشير المؤلّف إلى أن الحبّ في مجتمع البشتون يُعتبر من التابوهات أو المحرّمات. فالشباب من الجنسين لا يمكن أن يروا ولا أن يحبّوا أو يختاروا بعضهم بعضا. والزواج في كلّ الأحوال تقرّره وترتّبه سلطة العشيرة. أحيانا يُختار للمرأة صبيّ صغير أو رجل عجوز كزوج. وإذا كانت الفتاة غير محظوظة فإنها قد تقع في حبّ رجل لا يحظى بموافقة العشيرة. وعندها يصبح هذا خطئا فادحا تعاقَب عليه بالقتل أحيانا.
قمع النساء الأفغانيات وقهرهنّ معنويا تسبّب في إحداث معاناة لا توصف. الرضّع من الإناث وأمهاتهنّ يُقابلن بالازدراء والعار ويعشن حياة من التبعية والذلّ. وتمردّهن ضدّ هذه الرموز القبلية وضد الظلم والتهميش وإساءة الكرامة لا يأتي إلا من خلال الانتحار أو نظم الأشعار والأغاني التي تجد فيها النساء متنفّسا للتعبير عن إحباطهنّ وسخطهنّ على مجتمع الرجال..
"انظر إلى هذا الطغيان الرهيب! انه يضربني ثم يحرّم عليّ البكاء".
"أيّها الناس القساة! تسمحون لرجل عجوز أن يقودني إلى سريره، ثمّ تسألونني لماذا أبكي وأمزّق شعري"!
"يا إلهي! مرّة أخرى تُجهِّز لي ليلة مظلمة. ومرّة أخرى ارتعش من الرأس إلى القدمين لأنه يتوجّب عليّ أن أنام على سرير أكرهه".
الشعر في هذه المجموعة ينقل غضب وألم النساء الأفغانيات وإحساسهنّ بالموت البطيء. فهنّ مقيّدات بقيم مجتمع أصوليّ ينظر إليهنّ كمواطنين من الدرجة الثانية. وهنّ منذ الولادة محكوم عليهنّ بالموت. لكن عقولهنّ ترفض القيود المفروضة من الذكور وقلوبهنّ تفيض بكلمات الحبّ والعاطفة بلا مقابل. وفي موضوع الحبّ الممنوع، لا تتردّد نساء البشتون في التعبير عن شغفهنّ بصراحة قد تبدو مرعبة أحيانا..
"فمي لك، إلتهمه ولا تخف. هو ليس مصنوعا من السكّر الذي قد يذوب".
"حبيبي يريد مني أن اقبّله بين الشجيرات الكثيفة. وأنا اقفز من فرع إلى فرع لأقدّم له فمي".
"تعال وقبّلني دون تفكير في الأخطار. ماذا يهمّ لو قتلوك! الرجال الحقيقيون يموتون دائما من اجل حبّ امرأة جميلة".
"أعطني يدك يا حبيبي ولنذهب إلى الحقول كي نتبادل الحبّ أو نسقط معا تحت ضربات الخناجر".
"إذا غفوتَ، لن تظفر سوى بالهباء. أنا منذورة للذين يسهرون عليّ الليل كلّه".
والكثير من هذه الأشعار بقدر ما هي نوع من الفاكهة المحرّمة التي أكلت منها نساء البشتون بوفرة وعن طيب خاطر، بقدر ما هي أيضا تعبير عن التحدّي والسخرية من هيمنة الذكور..
"أنا الجميلة المستلقية إلى جانبك. فمي جاهز، وذراعاي ممدودان لك، وأنت كالجبان تسمح للنوم بأن يستولي عليك".


"غداً سيشبع الجياع من عشّاقي عندما أعبر القرية بوجه حزين وبشَعْر مشرع للريح".
"في الليل، الشرفة معتمة والأسرّة كثيرة وخشخشة أساوري، يا حبيبي، تدلّك على الطريق إليّ".
"أصبحت مجنونة أكثر فأكثر. عندما أمرّ بالقرب من ضريح وليّ، أرجمه بالحجارة تكفيرا عن كلّ الأماني التي لم تتحقّق".
"أنا أحبّ. لا اخفي حبّي ولا أنكره، حتى لو اقتلعوا بالسكّين كلّ شاماتي".
وإذا كان قانون الشرف الذكوريّ يشترط طاعة وقبول الأنثى بصمت، فإن نساء البشتون في أوقات الحروب يَقلِبن بدهاء هذا الوضع لصالحهنّ من خلال التعبير عن الازدراء والمناورات الماكرة. فهنّ من يقرّرن كيف يجب أن يتصرّف الرجل وفقا لميثاق شرفه الخاص. فإذا عاد إلى البيت مضروبا في معركة أو مهانا بسبب نزاع، فإنه حتما سيقابَل بالاحتقار والسخرية المتغطرسة من قبل كلّ نساء القرية.
والمرأة هي التي تنصح الرجل بأن يتصرّف كبطل في الحرب. فإذا عاد من ميدان المعركة بجرح في ظهره وليس في صدره، فإن حياته عندئذ لن تكون جديرة بأن تُعاش..
"في المعركة اليوم، أدار حبيبي ظهره للعدوّ. أشعر الآن بالخجل بعد أن كنت قبّلته الليلة الماضية".
"يا حبيبي! إن أدرت ظهرك للعدوّ، فلا تأت إلى البيت مرّة أخرى! إذهب وابحث لك عن ملجأ في أرض بعيدة".
"إذهب أوّلا، يا حبيبي، لتنتقم لدماء الشهداء، وبعدها تستحقّ أن تأوي إلى نهدي".
"إن لم يكن هناك جرح في وسط صدرك فسأظلّ غير مكترثة، حتى لو كان ظهرك مليئا بالثقوب مثل منخل".
"إذا كنت ترتجف بين ذراعيّ هكذا، فماذا أنت فاعل غدا عندما تطلق قعقعة السيوف ألف ومضة"!
"أيّتها الأرض! إن ضريبتك باهظة جدّا. تلتهمين الشباب وتتركين الأسرّة فارغة".
إحدى السمات اللافتة في هذه القصائد هو انه لا يتعيّن عليك أن تكون على دراية بالتاريخ السياسيّ المضطرب لأفغانستان ولا بمعاناة الشعب الأفغاني لتقدّر جمال القصائد. كما لا يُفترض أن تكون على علم بكيفية معاملة النساء أو بمعنى فقدان البيت والوطن لتفهم الأشعار وتتعاطف مع الحزن الذي تختزنه.
ومن خلال مواضيع الحبّ والحرب والموت والشرف والتحدّي وحبّ الوطن، فإن ما يتردّد صداه في قصائد نساء البشتون هو قوّة الشخصية والقدرة على التحمّل وروح الكفاح من أجل البقاء.
بعد الغزو السوفياتي لأفغانستان عام 1979، ونتيجة للمذابح المروّعة والرعب والدمار الذي أعقب ذلك، اخذ شعر اللاندي منحى أكثر مأساوية. أصبحت التعبيرات موجعة أكثر ولا سيّما في موضوع المنفى والفقد وحبّ الوطن..
"العيش على أرض المنفى هذه يدمّر قلبي. أدعو الله أن يعيدني إلى سفح جبلي الشاهق".
"يا الله! لا تدَعْ أيّ امرأة تموت في المنفى! ستلفظ أنفاسها الأخيرة دون أن تتذكّر اسمك لأنها لا تفكّر سوى في وطنها".
كان سيّد بهاء الدين مجروح شاعرا مشى في طريق التصوّف والفلسفة وكان يعتبر نفسه وريثا للروميّ وعمر الخيّام. لكنه بنفس الوقت كان محاربا شجاعا قاتل من أجل استقلال أفغانستان وتأمين مستقبل لشعبها تُحترم فيه الحقوق والحرّيات.
وقد حصل المؤلّف على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة مونبلييه الفرنسية، ثم عمل معيدا في كليّة الآداب في جامعة كابول. وبعد الغزو السوفياتي لأفغانستان عام 1978، ذهب إلى المنفى في بيشاور حيث أسّس المركز الأفغاني للمعلومات. وقد اغتيل مجروح في منزله في بيشاور على يد إرهابيين تابعين لجماعة طالبان في 11 فبراير 1988م.

Credits
poetryfoundation.org
muftah.org

الأربعاء، يونيو 30، 2010

محطّات



(1)
"محامي الشيطان" من أجمل وأبلغ المصطلحات التي نستخدمها كثيرا في لغة الخطاب اليومي. لكنك قد تُدهش إذا عرفت أن أصل هذا المصطلح يُعزى للكنيسة الكاثوليكية. تقول القصّة انه كان من عادة الرهبان أنهم إذا أرادوا تنصيب، أو بالأصح تطويب، شخص ما قدّيسا فإنهم يعيّنون في نفس الوقت شخصا آخر تكون مهمّته إظهار عيوب المرشّح وأخطائه التي يمكن أن تكون مبرّرا لحرمانه من ذلك اللقب وما يرتبط به من مكانة وقداسة في أعين الناس. في ما بعد خرج هذا المصطلح عن سياقه اللاهوتي ليصبح من التعبيرات الشائعة التي تجري على ألسنة الناس وتتردّد في الأوساط الثقافية والصحافية والإعلامية. محامي الشيطان، بمعنى ما، هو شخص يحاول أن ينزع عن بعض البشر صفات القداسة المتوهّمة ويعيدهم إلى دائرة البشر العاديين حيث لا مظاهر حصانة ولا امتيازات أو عصمة.
السؤال: ترى كم محاميا للشيطان تحتاجه مجتمعاتنا المليئة بالقدّيسين والملائكة المزعومين؟!

(2)
ثمّة إحساس بأن اللغة العربية تفتقر إلى المرونة والتجدّد والحيوية التي تتمتّع بها اللغات الأخرى، ليس من حيث قدرتها على توليد الاشتقاقات والمترادفات والصيغ المختصرة فحسب، وإنما أيضا التعامل مع مهامّ أسهل من ذلك بكثير. تأمّل هذه الجملة مثلا: الثعلب البنّي السريع يقفز فوق كلب سريع". لو كتبت هذه العبارة بالانجليزية مستخدما كيبورد الكمبيوتر لاكتشفت أنك استخدمت في كتابتها كافّة أحرف الأبجدية اللاتينية الموجودة على لوحة المفاتيح. مثل هذه الحيل والألعاب الذكيّة، على بساطتها، لا نجد لها شبيها في لغتنا. هل العيب في اللغة نفسها، أم في قصور أصحابها وافتقارهم للبديهة وسعة وقوّة الخيال؟

(3)
في روسيا، لو قدت سيّارتك وهي متّسخة وملوّثة بروائح الدخان والعطن لانتهى بك الأمر إلى السجن، لأن ذلك يعتبر جريمة في عرف القانون. السؤال: لو طُبّق هذا القانون الحضاري على كلّ سائقي الليموزين عندنا، فكم سيتبقّى من هذه السيّارات في شوارعنا؟
.

(4)
اللغة كائن حيّ. والواقع أن أفضل تشبيه للغة هو ذلك الذي يقرنها بالشجرة. الشجرة تنمو إلى فروع وأغصان. وبعد فترة تكتسي الأغصان بالأوراق التي لا تلبث هي الأخرى أن تمتدّ وتتوسّع وتنتشر.
في اللغة الانجليزية هناك جملة دلالية تُكتب هكذا To get fired، وهي تقال لوصف الشخص المفصول من عمله أو وظيفته. وقد تندهش لو علمت أن هذا التعبير تعود جذوره إلى القبائل البدائية. كان من عادة بعض القبائل القديمة إذا أرادت أن تعاقب احد أفرادها لارتكابه جرما أو جناية أن تعمد إلى إحراق بيته بدلا من قتله. طبعا في العصور القديمة كانت البيوت عبارة عن أكواخ وعشش بسيطة مبنيّة من جذوع الشجر ومن السعف غالبا. لذا كان الحرق أسرع وأنجع طريقة لتدميرها.
ومن هنا أصبح فعل الحرق نفسه وصفا لحرمان الإنسان من رزقه بطرده من وظيفته. ولو تأمّلنا هذا المدلول جيّدا لأمكن أن نستنتج بسرعة كم هو بليغ ومعبّر. فحرمان الإنسان من عمله الذي يعتاش ويرتزق منه هو عمل من أعمال القتل المعنوي. وهو مساو في الواقع لهدم بيته وتخريب حياته وتدمير مستقبل أطفاله.

(5)
أسنان الإنسان أكثر صلابة من الصخور. هذا ما يقوله العلم. لكن الأغرب من ذلك أن تعلم أن من اخترع الكرسي الكهربائي الذي يُستخدم عادةً لإعدام المجرمين كان طبيب أسنان! وقد تذكّرت هذه المعلومة بينما كنت جالسا نهاية الأسبوع الماضي تحت رحمة أحد أطبّاء الأسنان الذي قصدته لخلع ضرس العقل.
كانت تجربة مؤلمة بحقّ ذكّرتني مجدّدا بكرسيّ الإعدام. وأدركت لأوّل مرّة ما معنى أن يكون عندك ضرس عقل. ولولا أن الطبيب كان على قدر من الخبرة والمهارة لكانت المعاناة مضاعفة. وقد اضطرّ لكسر السنّ الذي عانده كثيرا ثم قام بتجزئته إلى أربع قطع إلى أن أتمّ استئصاله بالكامل وبالتالي ارتحت نهائيا من آلام مزمنة لازمتني أشهرا طويلة.
ألام ضرس العقل لا ينفع معها المسكّنات والمهدّئات الموضعية، بل التدخّل الجراحي العاجل والحاسم. وأتصوّر أن هذا ينطبق على طريقة مقاربتنا لبعض مشاكلنا الاجتماعية المستعصية والتي أصبحت بحاجة ماسّة وعاجلة إلى إعادة نظر.



(6)
"الغرب يعرف أن الإسلام هو دين الحقّ. لذا فالغربيون يعملون ليل نهار على تقويض الإسلام وتدمير المسلمين".
سمعت وقرأت هذه العبارة كثيرا. وآخر مرّة سمعتها كانت منذ ثلاثة أيّام فقط على قناة الجزيرة القطرية. ومن الواضح أن الذين يردّدونها ويروّجون لها ليسوا فقط بعض رجال الدين وأتباعهم أو جنرالات ومنظّري الهزائم السابقين، وإنّما هناك أيضا رجال فكر ومثقّفون لا يتعبون من ترديدها في سياق أحاديثهم المستمرّة عن نظرية المؤامرة. ولو تمعّنت في هذه العبارة لما وجدت لها ما يسندها على ارض الواقع والمنطق. بل إنها تنطوي على تناقض صارخ. فلو افترضنا صحّة مقدّمتها، لكان المنطق يفترض بالغرب أن يتحوّل إلى الإسلام وبالتالي يصبح المسيحيون والمسلمون إخوة في الدين وبذا تنتفي دواعي ومبرّرات الصراع بالنتيجة. غير أن المقدّمات الخاطئة تفضي حتما إلى نتائج خاطئة. واقع الحال يقول انه إن كان هناك صراع بين الإسلام والغرب فهو على المصالح الدنيوية من ثروات وأراض ومواقع استراتيجية وموارد طبيعية إلى ما سوى ذلك. أي أن الصراع صراع سياسة ومصالح، وليس من مصلحة احد أن يُربط بالأديان والأيديولوجيات .

(7)
الإنسان العاديّ يمكن أن يرى في العام الواحد أكثر من 1400 حلم. أي أن عليه أن يتوقّع أن يرى حلما كلّ ليلتين. هل هذا يعني أن من يحلم مرّات اقلّ آو أكثر هو إنسان غير عادي أو غير سويّ؟
المشكلة أنني اكتشفت انه مضى عليّ الآن أكثر من ثلاثة أشهر لم أرَ خلالها حلما واحدا. وبناءً عليه ورغبة في كسر حالة الملل والرتابة، أصبحت متلهفا لرؤية ولو حتى كابوس صغير يمكن أن يضفي على النوم طعما ولونا جديدا.

(8)
أخيرا، خصية الإنسان تدخل التاريخ من بابه الواسع! الاكتشاف "الكبير" هو أن هتلر ونابليون كانا بخصية واحدة. ترى، هل من علاقة بين كون كلّ من هذين الرجلين بخصية واحدة وبين ميلهما لشنّ الحروب وخوض المعارك والاستيلاء على أراضي الآخرين والحلم ببناء إمبراطورية خاصّة؟
هل كان ما فعله هتلر ونابليون، وربّما غيرهما من مجانين العالم القديم والحديث، حيلة تعويضية عن فقدانهما لخصيتيهما وبالتالي لجزء من ذكورتهما؟
والسؤال الأهم: ترى لو كان لكلّ منهما خصيتان كاملتان، ماذا كانا سيفعلان أكثر ممّا فعلاه أو بخلاف ما فعلاه؟

(9)
في دراسة علمية نُشرت مؤخّرا، اكتشف الأطبّاء أن شمّ التفّاح الأخضر، وليس أكله، يمكن أن يساعد الإنسان في إنقاص وزنه. الواقع أن الكثيرين، وأنا منهم، لا يعوّلون كثيرا على مثل هذه الوصفات الطبّية الجاهزة والسريعة. لكن هل للتفّاح الأخضر رائحة أصلا؟ في السوق أكثر من صنف منه ومعظمها، بعكس التفّاح الأحمر، لا تكاد تشمّ لها رائحة.
أظنّ أن من يقدّمون مثل هذه النصائح "الصحّية" إنما يبيعون للناس الوهم. في النهاية ومن خلال التجربة، لاحظت أن لا شيء ينقص الوزن أفضل من ممارسة الرياضة بانتظام والاقتصاد في تناول الطعام.

(10)
"الزمن الماضي، الزمن الآتي، ما كان يمكن أن يكون، وما كان".
الارتباط الوثيق بين الموسيقى والشعر معروف منذ القدم. من أشهر المقطوعات الموسيقية التي ألهمت شعرا عظيما إحدى معزوفات بيتهوفن المعروفة بالرباعية الوترية. عندما سمع تي إس إليوت هذه الموسيقى لأوّل مرّة اعتبرها عصيّة على الفهم. ثم عاد إليها بعد فترة وتوصّل إلى احتمال أنها قد تكون تعبيرا عن مصالحة بين الفنّان ونفسه بعد معاناة وألم طويل. ثم تمنّى أن يكتب شعرا يحمل نفس الفكرة والإحساس الذي توصله الموسيقى.
ولم يطل انتظاره. فبعد فترة قصيرة ولد احد أشهر أعمال إليوت الشعرية بعنوان الرباعيّات الأربع والتي قيل انه تأثر فيها أيضا ببعض صور الخيّام في رباعياّته.
الشعر هنا، والموسيقى على هذا الرابط.

(11)
بعض موسيقى البيانو تسمعها فتستحضر في ذهنك موسيقى أخرى سبق وأن سمعتها من قبل. نفس هذا الانطباع قد يتكوّن لديك وأنت تستمع إلى بعض معزوفات ديفيد لانز الذي يذكّرك أسلوبه بـ شوبان وشوبيرت ورحمانينوف. لانز عازف بيانو بارع ومؤلفاته الموسيقية تثير أمزجة وحالات شتّى، من تأمّل وحزن وتذكّر وبهجة واسترخاء. لكنّها مستوحاة في الغالب من أصوات الطبيعة وصورها الجميلة.
من أشهر أعماله المقطوعة المسمّاة حلم كريستوفوري.
ربّما يحسن الاستماع إلى هذه الموسيقى على ضوء شمعة معطّرة في ساعة متأخّرة من الليل. الجمال المتدفّق من أصابع هذا العازف الماهر لا يدع مجالا للشكّ في أن الموسيقى تثبت مرّة أخرى قدرتها على إثارة المخيّلة وإشاعة جوّ من الرومانسية والدفء الحميم.


الخميس، يونيو 10، 2010

بوّابات الفجر

في إحدى اللوحات التي رُسمت لتزيّن ديوان الرباعيات، يظهر عمر الخيّام مرتقيا ربوة شاهقة وقت السحَر بينما يحدّق في السماء متأمّلا منظر النجوم المتلألئة من بعيد. الذي يتأمّل الصورة لا بدّ وان يتخيّل أن الخيّام من موضعه المرتفع ذاك، وهو الذي درس علم الفلك وبرع فيه، كان يحاول اكتشاف بوّابات أو ممرّات يمكن أن تشفّ عمّا وراء السماء القريبة من عوالم وأكوان. ذلك ما كان يشغله دائما. كان دائم البحث عن إجابات ترضي فضوله وتروّض جموح نفسه الحائرة.
كلّما رأيت هذه اللوحة تذكّرت مقاطع بعينها من الرباعيّات وبخاصّة تلك التي يقول فيها الخيّام:
أطال أهل الأنفس الباصرةْ، تفكيرهم في ذاتك القادرةْ. ولم تزل يا ربّ أفهامهم، حيرى كهذي الأنجم الحائرةْ.
أفنيت عمري في اكتناه القضاءْ، وكشف ما يحجبه في الخفاءْ. فلم أجد أسراره وانقضى، عمري وأحسست دبيب الفناءْ.
لكنّ الشاعر، في غمرة أفكاره وتساؤلاته الكثيرة، لا يلبث أن يقتنع باستحالة أن يعرف الإنسان شيئا ابعد من وجوده المباشر. وعليه فإن الحكمة تقتضي أن يفكّر الإنسان بيومه وأن يستمتع باللحظة التي هو فيها:
لا توحش النفس بخوف الظنونْ، واغنم من الحاضر أمن اليقينْ. فقد تساوى في الثرى راحل غداً وماض من ألوف السنينْ.
أولى بهذا القلب أن يخفقا، وفي ضرام الحبّ أن يُحرقا. ما أضيع اليوم الذي مرّ بي، من غير أن أهوى وأن أعشقا.
الخيّام شخصية نادرة وغريبة لا ينفع معها أنصاف المواقف أو الحلول. إما أن تحبّه كثيرا وتأنس له وإما أن تكرهه وتنفر منه وتمقت شعره. وأنا انتمي إلى الصنف الأوّل. حدث هذا منذ أن سمعت الرباعيات لأوّل مرّة بصوت أم كلثوم وترجمة احمد رامي. وإلى اليوم، ما زلت افضّل ترجمة الأخير للرباعيات على ترجمة الصافي النجفي. هذا الموقف عفوي ولا علاقة له بشروط وقواعد النقد الأدبي أو معايير المفاضلة بين ترجمة وأخرى. غاية ما في الأمر أنني ألفت الرباعيات بصوت أم كلثوم وترجمة رامي وتعوّدت على سماعها بل وحفظت معظم مقاطعها عن ظهر قلب بحكم التعوّد والتكرار.
رامي وأم كلثوم يعود إليهما الفضل الأوّل في تعريف الجمهور العربي بالخيّام وبالرباعيات. وأغلب الظنّ انه ما كان بوسع أكثر الناس أن يعرفوا عن الخيّام وشعره شيئا لولا أن غنّت أم كلثوم الرباعيات بموسيقى ملحّن عظيم مرهف الحسّ ومتذوّق للشعر مثل رياض السنباطي.
وجزء مهم من جمال الرباعيات، القصيدة والأغنية، يكمن في أبياتها الأوّلى التي تتسلّل إلى أعماق النفس برقّة وعذوبة:
سمعتُ صوتا هاتفا في السحَرْ، نادى من الغيب غُفاة البشرْ. هُبّوا املئوا كاس المنى، قبل أن تملأ كأسَ العمر كفّ القدَرْ.
أفق خفيف الظلّ هذا السَحَرْ، نادى دع النوم وناغي الوترْ. فما أطال النوم عمرا، ولا قصّر في الأعمار طول السَهَرْ.
لبست ثوب العيش لم اُستشرْ، وحرتُ فيه بين شتّى الفِكَرْ. وسوف أنضو الثوب عنّي، ولم أدرك لماذا جئت وأين المفرّ.
وكم توالى الليل بعد النهارْ، وطال بالأنجم هذا المدارْ. فامشِِ الهوينا إن هذا الثرى، من أعين ساحرة الاحورارْ.
أطفئ لظى القلب بشهد الرضابْ، فإنّما الأيّام مثل السحابْ. وعيشنا طيف خيال فَنَل حظّك منه قبل فوت الشبابْ.
وتلك التي يقول فيها:
لا تشغل النفس بماضي الزمانْ، ولا بآتي العيش قبل الأوانْ. واغنم من الحاضر لذّاته، فليس في طبع الليالي الأمانْ.
القلب قد أضناه عشق الجمالْ، والصدر قد ضاق بما لا يُقالْ. يا ربّي هل يرضيك هذا الظمأ، والماء ينساب من أمامي زُلالْ.
لكنّ في الرباعيات مقاطع أخرى لا تقلّ جمالا ممّا لم تغنّه أم كلثوم. وهي امتداد لفلسفة الخيام وحيرته وقلقه الوجودي الممضّ:
عش راضيا واهجر دواعي الألمْ، واعدل مع الظالم مهما ظلمْ. نهاية الدنيا فناء فعش، فيها طليقا واعتبرها عَدَمْ.
الخمر كالورد وكأس الشرابْ، شفّت فكانت مثل ورد مُذابْ. كأنّما البدر نثا ضوءه، فكان حول الشمس منه نقابْ.
كنّا فصرنا قطرة في عُبابْ، عشنا وعدنا ذرّة في الترابْ. جئنا إلى الأرض ورحنا كما، دبّ عليها النمل حينا وغابْ.
خلقتني يا ربّ ماءاً وطينْ، وصُغتني ما شئت عزّا وهَونْ. فما احتيالي والذي قد جرى، كتبته يا ربّي فوق الجبينْ.
قبل أسابيع شاهدت برنامجا وثائقيا رائعا أعدّته إحدى محطّات البي بي سي عن حياة وشعر الخيّام. معدّ ومقدّم البرنامج، وهو أديب إيراني يعمل في القسم الفارسي بالإذاعة البريطانية، ظهر في بداية البرنامج وهو يحتسي كأسا من النبيذ في إشارة إلى إحدى السمات الفارقة التي تميّز الخيام وشعره. ثم تحدّث المذيع عن أهمّية مدينة نيسابور، أو نيشابور كما ينطقها الإيرانيون، مسقط رأس الخيّام التي كانت زمن الشاعر تضاهي القسطنطينية في مكانتها السياسية والثقافية. بعد ذلك انتقلت الكاميرا إلى كيمبريدج وظهر في الصورة عدد من الأكاديميين الانجليز والإيرانيين الذين تحدّثوا عن أهميّة الخيّام وبراعته في تصوير الروح الإنسانية والتعبير عن هشاشة الحياة وحيرة الإنسان.


وعلى خلفية من موسيقى الملحّن الإيراني محمّد رضا شجريان الذي وضع موسيقى الرباعيات بالفارسية، ظهرت صورة ادوارد فيتزجيرالد أوّل من ترجم الرباعيات إلى الانجليزية والرجل الذي جعل اسم الخيّام مشهورا في الغرب. ثم تحدّث شاعر إيراني عن الملامح المميّزة للرباعيات مشيرا إلى أنها تتّسم بالبناء النغمي الأخّاذ وقوّة التعبير والجرس الموسيقي وبكثرة الصور الخيالية والبلاغية والروحية. وهناك فكرة تتكرّر باستمرار في شعر الخيّام وتتمثّل في شعور الإنسان باليأس أمام القوى الغيبية والخفيّة التي يصعب على الإنسان كبحها أو التحكّم بها مثل الزمن والمصير أو القدر. وأضاف أن إشارات الخيّام المتواترة عن الموت الذي يحصد الأرواح بلا تمييز تثير في النفس قدرا غير قليل من الأسى والحزن. ثم تحدّث عن ترجمة فيتزجيرالد للرباعيات مذكّرا بحقيقة أنها ظهرت في نفس السنة التي نشر فيها تشارلز داروين كتابه الشهير أصل الأنواع، وهو ما يعتبر مفارقة لافتة. ثم قال الشاعر مخاطبا المذيع: تأمّل هذه الأبيات من الرباعيات، وقرأ:
هات اسقني كأس الطِلا السلسلِ، وغنّني لحنا مع البلبلِ. فإنما الإبريق في صَبّهِ، يحكي خرير الماء في الجدولِ.
كان الذي صوّرني يعلمُ، في الغيب ما أجني وما آثمُ. فكيف يجزيني على أنني، أجرمت والجرم قضا مبرمُ.
لم يجنِ شيئا من حياتي الوجودْ، ولن يضير الكون أنّي أبيد. وا حَيرتي ما قال لي قائل، ماذا اشتعال الروح كيف الخمودْ.
لو أنّني خُيّرت أو كان لي، مفتاح باب القدَر المقفلِ. لاخترت عن دنيا الأسى أنني، لم أهبط الدنيا ولم أرحلِ.
يا طالب الدنيا وُقيتَ العثارْ، دع أمل الربح وخوف الخَسَارْ. واشرب عتيق الخمر فهي التي، تفكّ عن نفسك قيد الإسارْ.
وقال الشاعر معلّقا: الذي استطاع ترجمة هذه الأبيات بروحها ومضمونها الفلسفي والوجودي لا بدّ وأن يكون هو نفسه شاعرا مبدعا ومترجما متميّزا. ثم استمرّ يقرأ مقاطع أخرى من الرباعيات وهو يبتسم ويهزّ رأسه تأثّرا وطرباً:
حار الورى ما بين كفر ودينْ، وأمعنوا في الشكّ أو في اليقينْ. وسوف يدعوهم منادي الردى، يقول ليس الحقّ ما تسلكونْ.
الخمر توليك نعيم الخلودْ، ولذّة الدنيا وأنس الوجودْ. تحرق مثل النار لكنّها، تجعل نار الحزن ماءاً برودْ.
قالوا امتنع عن شرب بنت الكرومْ، فإنها تورث نار الجحيمْ. ولذّتي في شربها ساعة، تعدل في عيني جنان النعيمْ.
لو كان لي قدرة ربّ مجيدْ، خلقتُ هذا الكون خلقا جديدْ. يكون فيه غير دنيا الأسى، دنيا يعيش الحرّ فيها سعيدْ.
خير لي العشق وكأس المدامْ، من ادّعاء الزهد والاحتشامْ. لو كانت النار لمثلي خلتْ، جنّات عدن من جميع الأنامْ.
ثم استضاف البرنامج فيلسوفا إيرانيا قال إن ما حبّب الغرب في شعر الخيّام هو فهمه للروح الإنسانية والنفس الداخلية من قبيل حديثه عن الألم والموت والحبّ والسعادة والمصير والشكّ واللا يقين. وأضاف: الانجليز من جهتهم وجدوا في الرباعيات أشياء من شكسبير والإنجيل وكارلايل وتينيسون. وكانت الرباعيات تتحدّث إلى انجلترا الفيكتورية في العديد من أجزائها. وأضاف: إن من الخطأ أن نحصر الخيّام في الصور واللوحات التي تصوّره مع الخمر والنساء. فالنبيذ في الرباعيات يرمز للمتع الجمالية والفكرية وليس مقتصرا على المتعة الحسّية فحسب. وختم حديثه بالقول: انتشار الخيّام وشهرته المدويّة يصعب أحيانا تفسيرها أو فهمها. لقد غطّت شهرته على شعراء إيرانيين كبار ولا يقلّون أهمّية، مثل نظامي والرومي وسعدي وحافظ الشيرازي والعطّار وسواهم.
ثم استضاف البرنامج رسّاما تحدّث عن الرسوم التصويرية التي صاحبت الطبعات المختلفة من الرباعيات بدءاً من لوحات ادموند ديولاك الساحرة ومرورا برسومات ايليو فيدر واتش جي فورد وانتهاءا برسومات العديد من الفنانين الإيرانيين.
وظهر بعد ذلك أكاديمي بريطاني تحدّث عن بعض خصائص شخصية الخيّام فقال: الخيّام التاريخي لا يُعرف عنه الشيء الكثير، ومن الصعوبة بمكان إعادة بناء ملامح شخصيّته بدقّة. هو حينا شاعر وحينا آخر متصوّف، في حين يعتبره آخرون لا أدرياً أو لا دينياً. لكن الثابت انه كان شخصا متعدّد الاهتمامات، وكانت له إسهاماته البارزة في الرياضيات وعلم الفلك. وقد أطلق اسمه على احد الكواكب البعيدة تكريما له وتقديرا لاكتشافاته المهمّة في ميدان الفلك. وأضاف: كانت الرباعيات تُعطى دائما تفسيرات رمزية ومجازية تناسب الظروف السياسية والاجتماعية لكلّ عصر. وقد أحبّ الناس هذه القصائد لأنهم كانوا يرون فيها مصدرا من مصادر الحكمة القديمة، بالإضافة إلى تصويرها الساحر لبعض متع ومباهج الحياة مثل الإشارات المتكّررة فيها إلى الحدائق الغنّاء والنساء الغامضات، وهو ما أسهم في تشكيل نظرة الغربيين لطبيعة الثقافة الإسلامية عموما.
ثم انتقلت الكاميرا إلى مدينة نيسابور، وبالتحديد إلى المقبرة التي يقوم فيها ضريح عمر الخيّام. المناسبة كانت الاحتفال بإقامة تمثال لـ فيتزجيرالد إلى جوار ضريح الخيّام بمناسبة مرور 150 عاما على ترجمة الرباعيات إلى الانجليزية. الملفت للنظر أن أكثر من حضروا المناسبة كانوا من النساء. وقد صاح الجميع لحظة رفع الستار عن التمثال مردّدين: لا اله إلا الله.
المفارقة هي أن إيران الرسمية لم تتصالح بعد مع الخيّام، مع انه يمثل جزءا لا يتجزّأ من هويّة إيران التاريخية والأدبية والثقافية. غير أن نفوذ الشاعر في المجتمع الإيراني كبير بما لا يوصف. وقد ظهرت في البرنامج صور لفتيات محجّبات وهنّ يضعن الزهور على ضريحه ويحملن كراريس ملوّنة تضم أشعاره.
على موسيقى النهاية لاح لي طيف الخيّام مرّة أخرى. كان ما يزال يرنو ببصره نحو الأفق البعيد وقد أحاطته غلالة من نور بينما كانت النجوم ترسل بريقها الشاحب الأخير قبل أن تختفي خلف بوّابات الفجر. كان يردّد بصوت خاشع متبتّل آخر أبيات الرباعيات:
يا من يحار الفهم في قدرتكْ، وتطلب النفس حمى طاعتكْ. أسكرني الإثم ولكنّني، صحوت بالآمال في رحمتكْ.
إن لم أكن أخلصت في طاعتكْ، فإنّني اطمع في رحمتكْ. وإنّ ما يشفع لي أنني قد عشت لا أشرك في وحدتكْ.
يا عالِم الأسرار علم اليقينْ، يا كاشف الضرّ عن البائسينْ. يا قابل الأعذار عدنا إلى ظلّك، فاقبل توبة التائبينْ.

السبت، ديسمبر 05، 2009

ربّات الإلهام

لمئات السنين، كان وجود الملهمات ضروريا لخلق الفنّ والإبداع.
وجه هيلين أميرة طروادة أطلق ألف سفينة حربية وأشعل حربا دامت عشر سنوات.
ساسكيا فان اويلينبيرغ ألهمت رمبراندت رسم الكثير من تحفه الخالدة.
هوميروس استدعى ملهمة وهو يخطّ أولى كلمات الإلياذة.
اليوم تغيّر الحال كثيرا. توقّف الشعراء والرسّامون والموسيقيون عن استدعاء الملهمات وأصبحوا يكتفون بالخمر والكافيين والابسنث.
الموضوع التالي يتناول تاريخ ودور الملهمات والتغيّرات التي طرأت على هذه الظاهرة عبر العصور المختلفة..

في الأزمنة القديمة كانت الملهمات آلهة. كنّ بنات كبير الإلهة زيوس وزوجته منيموزين.
في البداية، كانت هناك ثلاث ملهمات فقط. الشاعر اليوناني هيسيود زاد عددهنّ إلى تسع.
كان الرومان البيروقراطيون هم الذين حدّدوا وظيفة وتخصّصا معيّنا لكلّ منهن. واحدة للرقص وأخرى للشعر وثالثة للكوميديا .. وهكذا.
في اليونان القديمة كانت الملهمات يقصدن كلّ شاعر واعد ويمنحنه ثلاث هدايا: غصن غار وصولجانا وصوتا جميلا يغنّي به قصائده.
غير أنهنّ كنّ قاسيات مع من يتحدّاهن. في إحدى المرّات طلب شاعر منافستهنّ فأصبنه بالعمى والبكم. وتقول أسطورة أخرى إن السيرانات، وهي مخلوقات خرافية تأخذ الواحدة منها شكل رأس امرأة وجسم طائر، حاولن أن يتنافسن مع الملهمات فهزمنهن. ونتيجة لذلك فقدن أجنحتهنّ وسقطن في البحر.
ملهمة بيكاسو، ماري تيريز والتر، كانت وراء فكرة لوحته الحلم وغيرها من اللوحات.
اوفيد في بداية كتاب "التحوّلات" استدعى جميع الملهمات التسع ثم هتف بأعلى صوته: ألهميني أيتها الآلهة"!
آريادني كانت ملهمة ودليلة في نفس الوقت عندما أعطت ثيسيوس الخيط الذهبي الذي يقود إلى داخل المتاهة حيث يفترض أن يقتل الوحش الأسطوري ثم يتبع اثر الخيط في رحلة عودته إلى النور.

دانتي في "الكوميديا الإلهية" تفوّق على الجميع ولم يكتف بالملهمات التسع بل استعان أيضا بـ مينيرفا إلهة الشعر والموسيقى ورئيسة الملهمات جميعا. لكن، في نهاية كتابه الضخم ضعُف حضور الملهمات بفعل أصوات موسيقى المجالات السماوية. الملهمات الوثنيات استُبدلن بالثالوث المقدّس. وهذا بدوره حرّر الإلهام الفنّي وسهّل البحث عن مصادر أكثر ارتباطا بالأرض.
مصدر الإلهام عند دانتي كان شخصا حقيقيا؛ فتاة اسمها بياتريس (أو بياتريتشا بالإيطالية) بورتيناري زعم الشاعر انه رآها لأوّل مرّة في شارع بـ فلورنسا عندما كان عمر الاثنين تسع سنوات. وقد وقع في حبّها، لكنها توفّيت في بداية العشرينات من عمرها. وألّف بعدها أشعارا تمجّد ذكراها. ثم أصبحت المرأة شخصية رئيسية في الكوميديا الإلهية. بياتريس كانت ترمز للحبّ الأرضي وللحقيقة السماوية. أي أن شهوة الشاعر تسامت وتحوّلت إلى شوق روحي.
معاصر دانتي وخليفته المباشر "بترارك" كتب 300 قصيدة إلى امرأة تسمّى لورا. لكنه تجاوز دانتي في مثاليّته عندما جعل ملهمته بعيدة المنال لسببين: الأوّل أنها كانت متزوّجة عندما قابلها. والثاني أنها توفّيت بعد ذلك بأحد عشر عاما. وبذا حرّر الشاعر نفسه من أعباء رغباته الجسدية.
الموت، مثل الأسطورة، يحمي الفنّان من المشاكل ومن هوسه بملهمته.

لكنّ هذا بدأ يتغيّر في عصر النهضة عندما ابتكر الرسّامون عادة تقديس الملهمة. وبينما كانت ملهمات القرن الرابع عشر يأخذن الطبيعة المقدّسة للمادونات اللاتي لا يمكن لمسهن، فإن ملهمات الرسّامين الايطاليين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر كنّ مخلوقات أرضية في الغالب، أي نساءً حقيقيات كنّ يجلسن أمام الرسّامين الذين كانوا بدورهم يصوّرونهنّ كنموذج للأنثى البعيدة المنال.
الموديل التي استخدمها رافائيل في رسم اثنتين من أشهر لوحاته كانت ابنة خبّاز تدعى مارغاريتا وكانت على الأرجح عشيقة للرسّام.
والرسّام فرا ليبي دخل في علاقة اشدّ خطورة مع ملهمة. فقد أغوى راهبة شابّة اسمها لوكريتسيا وذهب ليعيش معها واستخدمها كموديل في العديد من بورتريهاته الدينية.
ثم أتى اندريا ديل سارتو الذي عايش أوّل تجربة سيّئة مع ملهمة في تاريخ الفنّ الغربي. كانت ملهمة سارتو، وزوجته في نفس الوقت، تجسّد الصورة المثالية في عقله. لذا رسم كلّ بورتريهاته الأنثوية على هيئتها. ومع ذلك فقد ضاق ذرعا بمطالبها الكثيرة وغيرتها القاتلة ومغامراتها العاطفية مع تلاميذه. لكنّ كمالها الجسدي هو الذي جعله يسامحها ويغفر لها كلّ شيء.

إحدى الملهمات التسع في الميثولوجيا اليونانية كان تخصّصها الشعر الملحمي. وقد ألهمت هوميروس كتابة ملحمتيه الاوديسا والإلياذة.
ايلينا ايفانوفنا كانت ملهمة الشاعر الفرنسي بول ايلوار. وهي نفسها "غالا" التي أصبحت في ما بعد ملهمة سلفادور دالي وزوجته. كان دالي مجنونا بحبّ تلك المرأة التي عذّبته بغزواتها العاطفية الفاضحة بعد ما قيل عن ميوله الماسوشية ونفوره من الجنس.
البعض يرى أن الملهمة ما هي إلا امتداد أنثوي للفنّان الذكر. وهناك من يقول إنها ليست سوى استمرار لوظيفة محظيّة البلاط وأحيانا عشيقة الملك، وما يرتبط بذلك من مظاهر اللهو والإغراء والإثارة والغموض وكلّ تلك الأشياء اللذيذة والممنوعة.
وفي كلّ هذه الحالات، لا يمكن وصف الملهمة بالعاهرة. كما أنها لم تكن زوجة بالمعنى التقليدي للكلمة.

آلما شيندلر كانت ملهمة الموسيقي الألماني غوستاف ماهلر وزوجته في ما بعد. كانت آلما مؤلّفة موسيقية هي الأخرى. وقد طلب منها ماهلر في بداية زواجهما أن تنحّي طموحاتها الموسيقية جانبا لأن بيت الزوجية لا يتّسع لأكثر من مبدع واحد. لكن المرأة لم تلبث أن دخلت في علاقات عاطفية مع عدد من الرسّامين، أشهرهم غوستاف كليمت. وكان ماهلر قد أهداها قبل ذلك إحدى سيمفونياته. وعندما هجرته صنع لها دمية على هيئتها ومقاسها وكان يأخذ دميتها معه أينما ذهب.
قصّة حياة آلما شيندلر وعلاقتها الغريبة بـ ماهلر كانت موضوعا للعديد من الأفلام السينمائية والكتب، أشهرها كتاب "عروس الريح" للكاتبة سوزان كيغان.
ملهمات عصر النهضة كنّ خاضعات لرسّاميهنّ وملتزمات بتلبية احتياجاتهم الجمالية والجنسية، بينما كان الفنانون أحرارا في تسلية أنفسهم في كلّ مكان ومع أيّ كان.
أكثر ملهمات العصر الحديث هنّ نساء قويّات، وغالبا مبدعات. جورجيا اوكيف، مثلا، لم تكن فقط مصدر الهام للمصوّر الفريد ستيغليتز، وإنما أثّرت أيضا في اتجاهه الفنّي بعد أن تعلّق بها وتزوّجها.
سوزان فاريل، الراقصة المشهورة وملهمة الفنّان جورج بالانشاين، سمحت له بأن يقع في حبّها بينما رفضت إغراءاته المتكرّرة بأن تمنحه نفسها. لكنها تزوّجت شخصا آخر في نفس اليوم الذي حصل فيه على ورقة الطلاق من زوجته.

بيكاسو قابل ماري تيريز والتر عام 1927 في احد شوارع باريس عندما كان عمرها سبعة عشر عاما. وفي الحال اتّخذ منها عشيقة. وأحيانا كان يأمر سائقه بالانتظار خارج مدرستها الخاصّة ليأخذها إلى محترفه حيث كان يستعين بها كموديل للعديد من لوحاته. وعندما حملت منه بطفلة رفض أن يتزوّجها.
غير أن ثيودورا ماركوفيتش "أو دورا مار" كانت حبّ بيكاسو العظيم. كانت صديقته وملهمته الخالدة التي أوحت له برسم أجمل وأشهر لوحاته.
والواقع أن الإنسان لا بدّ وأن يتساءل كيف وجد بيكاسو وقتا كافيا للرسم في ظلّ وجود هذا العدد الضخم من الملهمات والعشيقات من حوله.
ماري والتر لم تكن تفهم في الرسم كثيرا كما لم يكن بينها وبين بيكاسو نقاط اتفاق كثيرة. لكنها كانت مستعدّة لتلبية جميع طلباته. كانت تعرف شغفه الكبير بالجنس. وهو كان يعتبر نفسه رجلا فحلا وهي الأنثى الراغبة. لكن في اللحظة التي حملت فيها بطفلته الأولى فقدت جاذبيتها عنده كأداة جنسية.
إحدى ملهماته الأخريات كانت الرسّامة فرانسواز جيلو. تزوّجها بعد قصّة حبّ وأنجبت له ابنه كلود وابنته بالوما. لكنها تخلّت عنه بعد سوء معاملته لها. وبفضل علاقاته المهنية الكثيرة، تمكّن من حرمانها من عرض لوحاتها في جميع معارض باريس. بيكاسو كان مدمّرا كبيرا، ليس فقط لمفاهيم وأسس الرسم التقليدي، وإنما لزوجاته وملهماته أيضا. ومن بين نسائه الكثيرات، شنقت ماري تيريز والتر نفسها بعد موته. وعانت دورا مار من انهيار عصبي كامل وتجربة رهيبة مع العلاج. بينما قتلت جاكلين روك نفسها برصاصة في الرأس.

اليزابيث سيدال كانت ملهمة وعشيقة للرسّام الانجليزي دانتي غابرييل روزيتي وظهرت في الكثير من لوحاته. كما استخدمها جون ميليه كموديل في لوحته المشهورة اوفيليا. وقد ماتت سيدال قبل الأوان. ويقال إن جزءا من مأساتها يتمثّل في أنها، هي أيضا، كانت تتوق لأن تصبح فنّانة.
بعد وفاة اليزابيث سيدال اتخذ روزيتي لنفسه ملهمة ورفيقة جديدة هي أليكسا ويلدينغ التي ستظهر في ما بعد في العديد من بورتريهاته ذات المزاج المتأمّل والمسحة الشاعرية.

لكن إذا كانت الملهمة تستطيع أن تنفخ نفحة من الهواء الإلهي في خيال الفنان، فإنها يمكن أيضا أن توقد في نفسه وروحه شعلة الاهتمام والعمل الجادّ.
الشاعر الانجليزي وليام بتلر ييتس ربطته بالثائرة الايرلندية مود غون علاقة الهام خالطها قدر كبير من التعاسة والخراب. كانت غون امرأة ذات جمال أخّاذ يميّزه شعر أحمر وملامح وجه دقيقة. وقد قابل ييتس المرأة عندما كان في الرابعة والعشرين من عمره. وعندما تعرّف عليها بدأت المشاكل تعرف طريقها إلى حياته.
رفضت غون جميع عروض الشاعر بالزواج منها على أساس انه لم يكن ثوريا حقيقيا ولا كاثوليكيا مخلصا. وبعد عشرين عاما، انتهى دورها كملهمة في اللحظة التي نامت في سريره لأوّل مرّة. وقد كتب ييتس بمرارة عن تلك العلاقة ووصف تأثيرها الفوضوي والمدمّر على حياته بعد أن مرّ وقت ليس بالقصير على لقاء الحبّ اليتيم بينهما.
الكاتبة الايرلندية الليدي كارولين بلاكوود تزوّجت على التوالي من رسّام وملحّن موسيقي وشاعر قبل أن تموت في سنّ السبعين. كانت بلاكوود نموذجا للأنثى القاتلة بجمالها النادر وعينيها الخضراوين الكبيرتين. لحظات صمتها الغامض كانت تثير الرجال وتدفعهم إلى ملء الفراغات التي كان يتركها هدوؤها الأنيق والمحيّر. اندرو هارفي الشاعر الذي تزوّجها في ما بعد وصفها بقوله: كانت تخلق أشياءها الخاصّة. كانت ملهمة ومحرّضة على الإبداع وكان قدرها أن تلعب ذلك الدور ببراعة".
سيرة حياة كارولين بلاكوود كانت موضوعا لكتاب الّفته نانسي شوبيرغر بعنوان "الملهمة الخطيرة".
يقول كارل يونغ العالم النفسي المشهور: الملهمة تمثّل توق الإنسان الذكر للخلود. وهي تتخفّى تحت الأسماء الكثيرة التي نعطيها للأفكار والدوافع الإبداعية.
فرجيل، من جهته، يرى أن الملهمات هنّ رمز للحقيقة واليقين. وهذا يوفّر للفنّان فرصة لأن يعرف نفسه أكثر ويوسّع وعيه وإدراكه.

الشاعر الفارسي عمر الخيّام كان معروفا بميله لحياة التأمّل والعزلة. ولم يكن يشغله سوى شيئين: ديوان شعره المسمّى بالرباعيّات وحبّه لـ جَهَان ملهمته وزوجته. في آخر الرباعيّات يخصّص الشاعر أبياتا حزينة يرثي فيها جَهَان التي تذكر بعض الروايات أنها ماتت مقتولة. ويقال إنها كانت هي الأخرى شاعرة.
الخيّام كان شاعرا عظيما، ولا بدّ وأن من ألهمته كتابة تلك القصائد الجميلة والخالدة كانت، هي أيضا، امرأة عظيمة.
لويز فون سالومي كانت امرأة روسية مثقّفة وكانت لها اهتماماتها بالأدب والفلسفة والتاريخ وعلم النفس. وقد اشتهرت بعلاقتها الحميمة مع الشاعر الألماني رينر فون ريلكا.
كانت صديقته وملهمته على الرغم من أنها كانت تكبره بخمس عشرة سنة. وقد علّمته اللغة الروسية كي يقرأ بها تولستوي ثم اصطحبته في ما بعد لزيارة روسيا.
وبحكم اهتماماتها الفكرية المتعدّدة، كانت ترتبط بعلاقات صداقة مع كلّ من نيتشه وفرويد والموسيقي ريتشارد فاغنر.

عالم الملهمات تقلّص اليوم كثيرا. ربّما لا يزال للعديد من الفنّانين ملهمات. لكن ذلك النوع من العلاقة الأسطورية لم يعد موجودا. قد يكون السبب شيوع الثقافة الفردية التي لا يقبل فيها احد بأن يكون زاداً أو صدى لمخيّلة إنسان آخر. وقد يكون لذلك علاقة برفض الحركات النسوية لأن تكون المرأة مجرّد سلعة أو متاع. ويمكن أن يكون هذا هو السبب في أن الملهمات العصريات اليوم يوجدن فقط كحضور عام.
دور الملهمة ربّما تلعبه اليوم، مع الفارق، المغنّيات والممثّلات وحتى عارضات الأزياء والمذيعات المشهورات اللاتي يظهرن على جماهير الناس ويستقطبن اهتمامهم وإعجابهم أحيانا. خذ، مثلا، انجيلينا جولي، نيكول كيدمان، بيونسي، اوبرا وينفري، جينيفر انيستون، باريس هيلتون، ايشواريا راي، بريتني سبيرز، جينيفر لوبيز .. إلى آخر القائمة.
ربّما يناسب هذا مزاج عصرنا الجديد الذي تتواضع فيه الأحلام وتتضاءل الطموحات.


Credits
theguardian.com
wsj.com

الأحد، أغسطس 07، 2005

ديوان حافظ الشيرازي

ألا يا أيَها الساقي
أدرْ كأسا وناولها
فإنّ الكأس للملدوغ
بالعشق هو الراقي
قد استسهلتُ أمرَ العشق
فانهالتْ على قلبي
مشاكلُ قيّدتْ عقلي
فلا ُيؤملُ إطلاقي
متى ما تلقَ من تهوى
دع الدنيا وأهملها
فيا حافظُ
جمع الشمل
بالذكرى
هو الباقي

ولد حافظ في شيراز عاصمة إقليم فارس بإيران حوالي العام 1320 م أي بعد حوالي خمسين سنة من وفاة جلال الدين الرومي أكثر شعراء إيران الصوفيين شهرة.
ترعرع حافظ في وقت كانت افضل الآداب الفارسية قد كتبت وفي ظلّ السمعة التي تمتّع بها مواطنه المتميّز الشاعر سعدي.
في تلك الأثناء كان الشعر الفارسي قد بلغ ذروته خلال المرحلة الرومانسية.
وقد وصلت شهرة حافظ أوجها وجذبت أشعاره المترجمين لقرون عديدة، وقد أسئ فهم حافظ وظنه الناس رجلا مجنونا ومتهوّرا لا يهتم بشيء قدر اهتمامه بالشراب.
كان أبوه التاجر قد هاجر من اصفهان إلى شيراز هربا من غزاة المغول ومات الأب فيما يبدو وحافظ ما يزال شابّا.
تلقى الشاعر تعليما تقليديا في اللغة العربية والقرآن الكريم والعلوم والأدب، ويشي شعره بمعرفة عميقة بالشعر الفارسي طيلة القرون الخمسة التي سبقته كما تكشف أيضا عن معرفة بالعلوم الإسلامية وعن تمكّنه من العربية.
ولا يتوفّر سوى النزر اليسير عن حياة أشهر شاعر غنائي فارسي في التاريخ، وكثير من الاستشهادات والاشارت والتفاصيل التي تحفل بها المعاجم وكتب التاريخ عن حياة حافظ الشيرازي ليست مؤكّدة تماما.
وبعد وفاته مباشرة نسجت الكثير من القصص والأساطير عن حياته.
تقول بعض الروايات إن حافظ عمل بعد وفاة أبيه صبيّا في أحد المخابز وكان مكلفا بإيصال الخبز للحيّ الموسر من المدينة عندما رأى امرأة شابّة راعه جمالها وحسن خلقتها. وكثير من أشعاره موجّهة إلى تلك المرأة بالذات.
وفي نهاية العقد الثاني وبداية الثالث من حياته أصبح حافظ شاعرا في بلاط أبي اسحاق وكسب المزيد من الشهرة والنفوذ في شيراز، وتلك كانت مرحلة الرومانسية الروحية في شعره.
في سنّ الثامنة والأربعين فرّ حافظ من شيراز خوفا على حياته بعد أن لاحظ أن الشاه شجاع لم يعد يستسيغه كثيرا.
وبعد ذلك بأربع سنوات وبناءً على دعوة من شجاع، أنهى حافظ فترة النفي وعاد إلى شيراز ليواصل عمله كمدرّس في كليتها.
في سنة 1356 استولى على شيراز الأمير مبرّز، وهو شخص متزمّت دينيا وقاسي القلب.
هذه الحادثة لم تجلب السعادة إلى قلوب الشعراء مثل حافظ وغيره وانما سهّلت على المتعصبّين تعزيز مراكزهم وسلطتهم فاضطهدوا الناس باسم الدين. وهناك العديد من قصائد حافظ تنتقد تملق ونفاق المتديّنين المتزمّتين واستبداد القضاة والحكّام.
وقد تسبّب طغيان الأمير مبرّز في انفضاض الناس من حوله واندلاع تمرّد ضده. فأطيح به وُسملت عيناه واصبح ابنه الشاه شجاع حاكما لشيراز. وأعاد الحاكم الجديد المكانة التفضيلية لحافظ في البلاط.
وفيما بعد تلقى حافظ دعوة من محمّد شاه لزيارة الهند. ويقال أن حافظ سافر برّا إلى منطقة مضيق هرمز ومن هناك صعد إلى ظهر سفينة أبحرت به إلى الهند، وكان البحر عاصفا فاضطر إلى مغادرة السفينة والعودة إلى شيراز لانه كما يقول كان يفضّل "جهنم اليابسة على جنان البحر الموعودة".
بعد ذلك بعدّة سنوات حلّ غضب الرب على شيراز واهلها، وتجسّد ذلك الغضب في تيمورلنك.
تقول الأسطورة انه حدث لقاء بين رجل السيف المغولي ورجل القلم حافظ، وأن تيمورلنك وبّخ حافظ بعنف لانه كتب في إحدى قصائده الغنائية: إذا أخذت تلك الشيرازية قلبي في يدها، فمن اجل تلك الشامة على وجنتها سأهبها بخارى وسمرقند". وسأل تيمورلنك الذي ينتمي إلى سمرقند حافظ كيف طاوعه طيشه لان يهب تلك المدينتين العظيمتين فقط من اجل شامة على خدّ امرأة شيرازية. ويقال أن حافظ ردّ عليه قائلا: يا جلالة الإمبراطور! كان ذلك بسبب الإسراف الذي أورثني حالة الفقر والعوز".
ومن اوجه السخرية أن شعبية الشاعر الكاسحة كانت السبب في المصاعب التي ارتبطت بشعره. ويذكر في هذا الصدد أن حافظ سئل ذات مرة: من هو الشاعر؟ فأجاب: الشاعر هو الذي يسكب الضوء في كأس، ثم يرفع الكأس ليسقي به ظمأ الشفاه المقدّسة".
وفي العقود الأخيرة لجأ بعض الشعراء إلى نشر شعرهم المثير للجدل ممهورا باسم حافظ لكي يتجنّبوا الاضطهاد والتضييق. والغريب أن حافظ ينظر إليه في البلدان الناطقة بالفارسية اليومية كإيران وافغانستان والجمهوريات الجنوبية من الاتحاد السوفياتي السابق ليس فقط باعتباره شاعرا عظيما بل متنبئ أيضا أو ما يطلقون عليه لسان الغيب وترجمان الأسرار، بمعنى أن لشعره نكهة لها طابع القداسة والإلهام.
ورغم أن شعر حافظ الذي يتضمنّه ديوانه يتحدّى التصنيف المألوف إلا انه يمكن تقسيمه إلى أربعة مواضيع:
قصائد تتعامل أساسا مع الحبّ الصوفي ومع النبيذ والأزهار والعشّاق كرموز.
وقصائد يعمد فيها الشاعر إلى الانتقال السريع من فكرة أو صورة لأخرى.
وقصائد شبيهة بالنوع الثاني غير أنها اكثر تكثيفا وعمقا من الناحية الفلسفية ويغلب عليها الغموض والأفكار البالغة التعقيد.
واخيرا قصائد تحتوي على جرعة كبيرة نسبيا من النبرات السياسية والاجتماعية ويمكن أن نعزو هذا الملمح إلى المراحل المتعدّدة في حياة الشاعر.
والحقيقة أن انتقادات حافظ كانت موجّهة في الغالب ضدّ رجال الدين والقضاة، وهذا يفسّر نقمة هذه الفئات عليه وتدنيس قبره بعد وفاته. وليس مستغربا أن يكون أعداء الشاعر بمثل هذه الشراسة والقسوة خاصة وقد قال فيهم ما لم يقله مالك في الخمرة.
ويتفق نقاد كثيرون على أن شعر حافظ الشيرازي يمثل أعلى ذرى الشعر في بلاد فارس، ويستخدم ديوانه كدليل يومي للإلهام والانعتاق الروحي. وهناك أشخاص عديدون كرّسوا حياتهم كلها لقراءة وفهم قصائد الشاعر.
تجدر الإشارة إلى أن الرحالة والكاتبة البريطانية غيرترود بيل قامت بترجمة ديوان حافظ من الفارسية إلى الانجليزية. كما ُترجم الديوان إلى معظم لغات العالم، وتحدّث عنه مفكّرون وفلاسفة كبار من أمثال غوته و ايمرسون و ادوارد فيتزجيرالد مترجم رباعيات الخيـام الذي وصف الشاعر بقوله: حافظ افضل عازف على الكلمات".
توفي حافظ الشيرازي سنة 1391م ودفن في حديقة ُسميت فيما بعد بالحافظية تكريما له.
وضريحه هو اليوم أحد مراكز الجذب الكبرى في شيراز حيث يؤمّه الكثير من المعجبين بالشاعر وبشعره.