:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، مايو 10، 2024

خواطر في الأدب والفن


  • يروي الكاتب الكولومبي الكبير غارسيا ماركيز أنه عندما كان يعمل مراسلا صحفيا، سمع ذات مرّة عن قصّة بحّار مشهور غرقت سفينته ونجا هو، فذهب للقائه. ولم تكن المقابلة على هيئة سؤال وجواب. كان البحّار يسرد على ماركيز مغامراته وهو يكتبها.
    وعندما نُشر هذا التحقيق على مدى اسبوعين في الجريدة كان بتوقيع البحّار نفسه ولم يذيّله الكاتب باسمه. وبعد ٢٠ عاما، اُعيد نشر التحقيق واكتشف الناس أن ماركيز هو الذي كتبه. ولم يعرف محرّرو الجريدة أن التحقيق جيّد إلا بعد أن كتب ماركيز روايته "مائة عام من العزلة".
    العبرة من هذه القصّة هي أن الناس غالبا ما تستهويهم الأسماء واللافتات والشهرة. ومهما كانت براعتك ككاتب، فإن الناس عادة لن يعرفوا قدرك أو مكانتك أو موهبتك إلا بعد أن يصبح لك اسم وكُتُب وتصير مشهورا وتنال جوائز وأوسمة الخ.
  • كان بيكاسو يعيش في باريس عندما قرّر النازيون تحطيم الحفلة واحتلال العاصمة الفرنسية خلال الحرب العالمية الثانية. وإذا كنت تعتقد انهم عاملوه معاملة الملوك فأنت مخطئ. لكنهم أيضا لم يتعرّضوا له أو يؤذوه بشيء.
    كان بيكاسو فنّانا "منحطّا" حسب تعريفهم وعضوا نشطا في الحزب الشيوعي الإسباني، وطوال الوقت كان الديكتاتور الاسباني فرانكو يلحّ على النازيين باعتقاله وترحيله حتى يتمكّن هو من إطلاق النار عليه بنفسه.
    ربّما لو كان شخصا آخر غير بيكاسو لأرسله النازيون إلى أقرب معسكر اعتقال. لكنهم لم يتخلّصوا منه بأيّ طريقة، بل سمحوا له بالاستمرار في عمله الى حدّ ما، ولكن على طريقة "نحن نراقبك يا صديق فانتبه".
    النازيّون لم يفهموا أجواء بيكاسو وفنّه. وقد وصفوا عمله بأنه "فنّ منحط" لأنهم كانوا يتمتعون بموهبة إغفال الأشياء المهمّة والمختلفة.
    بإمكانك تخيّل بيكاسو وهو يجلس في الاستوديو الخاص به في مونمارتر، محاطًا بلوحات يمكن بيع واحدة منها اليوم بأموال تفوق بكثير ما يمكن أن يجنيه انسان في أعوام طويلة. وهو يجلس هناك غير مكترث بشيء أبدا، بينما يخطو النازيّون جيئة وذهابا خارج محترفه.
    ويقال إنه عندما رأى ضابط ألماني لوحة بيكاسو المشهورة "غويرنيكا" التي تصوّر كوارث الحرب، سأل بيكاسو ما إذا كان هو الذي فعل ذلك "أي رسَم اللوحة". فأجاب بيكاسو بدهاء: لا، انت فعلت". وكان ردّا بليغا جدّا إن صحّت القصّة.
    باختصار، عومل بيكاسو من قبل النازيين كما يعامَل شخص غريب في حفل عائلي: تسامحوا معه وتجاهلوه في الغالب، لكنّهم لم يُسكتوه أبدا. واستمرّ بيكاسو في عمله وأثبث أن الفنّ الحقيقي لا يمكن سحقه أو مصادرته.


  • "ما تراه هو كلّ ما هنالك!"
    معنى هذه العبارة أن ما تنظر إليه في لحظة ما هو كلّ ما تراه، وليس هناك أشياء أخرى مخفيّة أو غير مرئية. لكن أذكى العلماء في العالم يقولون إن الأمر ليس كذلك في الواقع.
    تخيّل طيّارا يقود طائرة ليلاً في طقس سّيء. هو لا يستطيع إلقاء نظرة خاطفة على العالم خارج طائرته. وكلّ ما يملكه هو الأدوات الموجودة على لوحة القيادة الخاصّة بالطائرة، أي مؤشّرات السرعة وضغط الهواء وجميع أنواع المفاتيح التي تخبره عن عالم لا يستطيع رؤيته مباشرة.
    هذه المفاتيح موثوقة للغاية وتوفّر للطيّار ما يحتاجه للمناورة بأمان عبر بيئته. هل هي نفس البيئة؟ بالطبع لا. لمجرّد أن قائمة الطعام في مطعم يمكن أن تعطيك معلومات دقيقة عن الطعام، فهي ليست الطعام نفسه. القائمة ليست الوجبة. أو كما يقول رينيه ماغريت: هذا ليس غليونا بل صورته فحسب.
    ظاهريا، معظم الناس لا يمكنهم الخلط بين الاثنين. ومع ذلك هذا هو بالضبط ما يفعله البشر في كلّ وقت. ومن خلال النظر إلى عالمنا باعتباره ماديّا بشكل أساسي. كيف يتعامل الإنسان مع المادّة؟ اننا نفترض أنها حقيقة. لكن المادّة ليست سوى لوحة التحكّم لدينا، إنها الواجهة التي نستخدمها للتفاعل مع الواقع.
    وكلّ ما لدينا هو هذه "المؤشّرات او المفاتيح" التي نلمسها ونشمّها ونشعر بها. لذلك يخبرنا حدسنا أن هذه المؤشّرات هي كلّ ما هو موجود. وبهذا المعنى فإن طريقة تعامل الإنسان مع المادّة هي مثل الطيّارين الذين يطيرون بالآلات. بدون زجاج أمامي شفّاف، لا يمكننا أبدا رؤية الواقع الفعلي "في الخارج".
    كيف تمثّل الكائنات الحيّة بيئتها؟ اكتشف فريق من علماء الأعصاب أن الكائنات الحيّة لا بدّ أن تمثّل بيئتها بطريقة مشفّرة لكي تبقى على قيد الحياة. وكلّ الانواع، بما في ذلك الإنسان، لديها نظامها الخاصّ من الأقراص والمؤشّرات: الأشكال والألوان التي نراها، الأصوات التي نسمعها، والنكهات التي نتذوّقها. وما نراه هو "أفضل تخمين" تطوّري أنشأته بيولوجيّتنا. انه يرسم صورة جميلة، لكن الصورة ليست الحقيقة.
    هذا هو الاستنتاج المذهل الذي توصّل إليه فريق من جامعة كاليفورنيا. لقد أظهروا من خلال التحليل والتجريب أن حواسّنا مبنيّة تطوّريا لتكوين فكرة مفيدة، ولكنّها صورة غير حقيقية للواقع، بل واحدة تناسب بقاءنا.
    وكما يقول أحد العلماء: قد يبدو الأمر معقّدا للغاية، لكنه كلّه يتلخّص في السؤال الأهمّ على الإطلاق: ما هو الواقع؟ وإذا كان مختلفا تماما عن الألوان والأشكال والأصوات والأنسجة التي نسميها "المادّة"، فما هو إذن؟!

  • هذه حكاية قديمة جدّا عن رجل بخيل أخفى كيسا من العملات الذهبية تحت جذع شجرة في حديقته. وكان يذهب الى هناك كلّ أسبوع لينظر إلى الذهب لساعات ثم يغادر. وفي أحد الأيّام، وبطريقة ما، عرف لصّ بمكان الذهب فاستخرجه وسرقه. وعندما أتى البخيل بعد ذلك لينظر إلى كنزه، لم يجد سوى حفرة فارغة.
    فبدأ يصرخ ويلطم حزنا على ما حدث. وجاء إليه جيرانه مسرعين لاستطلاع الخبر. فلمّا علموا بالقصّة سأله أحدهم: هل استعملت شيئا من الذهب؟ فقال البخيل: لا. كنت فقط أنظر إليه كلّ أسبوع."
    فقال له الجار ساخرا: حسنا، مقابل النفع الذي قدّمه لك الذهب، من الأفضل أن تأتي الى هنا كلّ أسبوع كما كنت تفعل وتنظر إلى الحفرة وهذا يكفي."
    والعبرة من القصّة هي أن الثروة ليست مهمّة بحدّ ذاتها، إنما المهم أن نستفيد منها ونستمتع بها سواءً كنّا أغنياءَ أو فقراء.

  • Credits
    suite101.com
    pablopicasso.org

    الاثنين، مايو 06، 2024

    أطفال العصر الحجري


    هذا الكتاب عنوانه (الحافّة البرّية للحزن: طقوس التجدّد وآثار الحزن المقدّس)، ومهمّته، كما يقول مؤلّفه، هي إيقاظ علاقتنا الأزلية بالحيوانات والنباتات والأنهار والتلال والأشجار والغيوم. كما أنه صرخة احتجاج تدعونا للعودة إلى حياة التواصل والحميمية والشعور والدهشة. وهو أيضا دعوة لإشعال حيويتنا وإقناعنا بالعودة إلى الحياة من خلال الاهتمام بالحزن.
    مؤلّف الكتاب فرانسيس ويللر يقول إن كتابه يحفر في المشاعر التي يدفنها الكثيرون منّا. وهو يعتقد أن معظمنا يحمل قدرا كبيرا من الحزن، أكبر ممّا نسمح لأنفسنا بالاعتراف به. ويشير إلى أنه وضع الكتاب لعدّة أهداف، أهمّها "إعادة النفس إلى عمل الحزن وإعادة الحزن إلى عمل الروح".
    والمؤلّف يشعر أن الحزن "أصبح رهينة للعالَم الإكلينيكي والتشخيصات والنظم الصيدلانية". في حين أن الحزن، في معظم الأحيان، ليس مشكلة يجب حلّها أو حالة تحتاج إلى علاج، ولكنّه لقاء عميق مع تجربة أساسية تتعلّق بكوننا بشرا. ولا يصبح الحزن مشكلة إلا عندما تغيب الظروف اللازمة لمساعدتنا على التعامل معه، كأن نضطرّ إلى تحمّل حزننا في عزلة.
    والحزن، برأي المؤلّف، يرافقنا دائما بطريقة ما. وهناك أوقات يكون فيها حادّا، كأن يموت الشريك أو يتفكّك الزواج لنجد أنفسنا وحدنا. وهذه الفصول في حياتنا مكثّفة وتتطلّب وقتا طويلا لاستيعاب الحزن بشكل كامل. لكن لا ينبغي أن ننظر الى الحزن على أنه حقيقة محبطة، بل إن فيه نعمة مخفيّة، فهو ينبّهنا الى أننا ما نزال على قيد الحياة وأن كلّ خسارة تفتح الطريق لتجربة جديدة.
    ثم يتحدّث الكاتب عن "علم نفس الروح" الذي يستشعر الحيوية في كلّ عاطفة مهما كانت نوعية الحياة التي نعيشها في هذه اللحظة. إذ سيكون لدينا أوقات من السعادة، وهذا سبب للاحتفال، وقد نواجه أيضا أوقاتا من الحزن والشعور بالوحدة. وربّما تأتي علينا أحوال وتقع أحداث تثير فينا الأسى والألم.
    ويضيف: لقد نسي المجتمع التكنولوجي الحديث الشعور بالاندماج في ثقافة حيّة وغنيّة بالقصص والتقاليد والطقوس وأنماط التعليم التي تساعدنا على أن نصبح بشرا حقيقيين. إننا نعيش في مجتمع لا يهتمّ كثيراً بأمور الروح. ونتيجة لذلك، نحتاج إلى كتب وورش عمل حول الحزن والعلاقات والجنس واللعب والإبداع وما الى ذلك.
    ذات مرّة، كتب الفيلسوف النمساوي لودفيك فيتغنشتاين: ما لا نستطيع التحدّث عنه، نمرّ عليه بصمت". ويعلّق المؤلّف على ذلك بأننا نسينا لغة الحزن الأساسية. ونتيجة لذلك، أصبحت أرض الحزن غير مألوفة وغريبة، وعندما يقترب منّا الحزن نصبح خائفين وتائهين. والصمت المؤلم الذي يتحدّث عنه فيتغنشتاين لا يزال يخيّم على حياتنا كالضباب، ما يضع مجالات واسعة من الخبرة خارج متناول أيدينا.
    ويرى يللر أننا خُلقنا لمواجهة هذه الحياة بالدهشة والعجب، وليس بالاستسلام والمكابدة. إن حلم العيش الكريم المتأصّل فينا غالبا ما يُنسى ويُهمل ليحلّ مكانه خيال مجتمعيّ عن الإنتاجية والمكاسب الماديّة وما الى ذلك.
    هذا الكتاب يمكن أيضا اعتباره بمثابة صلاة وتوسّل من أجل كوكب الأرض. وبحسب الكاتب فإن أحد أسباب الإحساس العميق بالفقد هو ظهور علامات مستمرّة من التوتّر والتدهور على نظم الحياة في كوكبنا.
    ويوضّح ذلك بقوله: ليس من المفترض أن نعيش حياة ضحلة مليئة بالروتين الذي لا معنى له. فنحن ورثة سلالة مذهلة مليئة بذكريات الحياة التي عاشها أسلافنا بشكل وثيق ومتناغم مع الغزال والجاموس والغراب وسمك السلمون والعقاب والفراشات الملكية ومع سماء الليل.
    وبهذا المعنى فإن الكتاب يوقظ علاقتنا الأزلية بالحيوانات والنباتات والأنهار والتلال والأشجار والغيوم والطيور. كما أنه دعوة للعودة إلى حياة التواصل والحميمية والشعور بالدهشة. وكل هذا برأي المؤلّف لا يتأتّى إلا من خلال العناية بالحزن.


    والكتاب يقدّم خريطة لما يسمّيه أبواب الحزن الخمسة. وأوّل هذه الأبواب تختصره عبارة "كلّ ما نحبّه، سوف نخسره". والثاني هو الأماكن التي لم تعرف الحبّ، ويقصد بها تلك المشاعر والأجزاء في أنفسنا التي أغلقناها ودفعناها بعيدا، أي الأماكن المرتبطة بالعيب والصدمة أو ما يسمّيه الكاتب "فقدان الروح".
    والباب الثالث هو أحزان العالم. ويفسّر هذه الأحزان باقتباس منسوب الى طبيب نفساني وَصَف البشر بأنهم "أطفال العصر الحجريّ". ويشرح المؤلّف ذلك بالقول إن تركيبتنا النفسية والجسدية والعاطفية والروحية بأكملها قد تشكّلت أثناء التكوين التطوّري الطويل لجنسنا البشري. ومعنى هذا أن ميراثنا يشتمل على تبادل حميم وقويّ مع العالم الفطري، وهذا ما تتوقّعه عقولنا وأجسادنا".
    الباب الرابع للحزن هو كلّ شيء توقّعناه ولم يتحقّق. وهذا يتضمّن "توقنا للانتماء ورغبتنا في الشعور بالتوحّد مع الناس ومع كلّ أشكال الحياة". ويسرد الكاتب قصّة ذات دلالة عن قرية أفريقية يجتمع الناس فيها كلّ ليلة ليتشاركوا همومهم. أما الأطفال فينخرطون في أحاديث مع بعضهم ويلعبون حتى يستلقوا ويناموا. ويعلّق بقوله: تخيّل مدى عمق تأثير ذلك على كلّ فرد، إذا علم أنه مرحّب به في أيّ منزل يذهب اليه.
    أما الباب الخامس فهو حزن الأجداد، ويفسّره الكاتب بأن معظمنا يحمل أنواعا عديدة من الصدمات توارثناها من الأجيال التي سبقتنا، والتي نادرا ما كان لديها الوقت والمهارات اللازمة لحلّها. وهذا هو الوزن الزائد الذي يحمله الكثيرون منّا، والاعتراف به هو الخطوة الأولى للتخلّص منه.
    ويَعتبر ويللر الطقوس عنصرا حيويّا في معالجة الحزن، ويقدّم أمثلة جيّدة عن كيفية استخدامها بطرق مختلفة في المجتمعات القبلية، وكيف يمكننا استخدامها في عصرنا الحديث. ويرى أن الديناميكيات المهمّة في الطقوس هي توفير الاحتواء والتحرّر وجعل المكبوت مرئيّا.
    كتب أوسكار وايلد ذات مرّة يقول: حيث يوجد الحزن، توجد أرض مقدّسة". وهذا الكتاب هو دعوة للدخول إلى أرض الحزن المقدّسة وتجربة الطرق التي تمكنّنا من السير في هذا العالم، مع ما قد يصاحبه من حقائق قاسية عن الفقد والموت.
    ويشير المؤلّف الى أن الحزن يهزّنا ويفتحنا على أعماق روحية لم نكن نتخيّلها. كما أنه يُنضجنا ويستخرج من أعماق نفوسنا ما هو أكثر أصالة في كينونتنا. وفي الحقيقة، فإن القلب المنكسر، القلب الذي يعرف الحزن، هو القادر على الحبّ الحقيقي.
    لكن الاهتمام بحزننا في غياب المجتمع أمر صعب. فالحزن الذي يُحمل سرّا يظلّ باقيا في الروح ويسحبنا ببطء إلى ما تحت سطح الحياة وإلى تضاريس الموت.
    ويرى ويللر أن الحزن كان دائما جماعيّا ومشتركا. لكن في العصر الحديث، أصبح حزننا خاصّا ويحمل عباءة غير مرئيّة من العيب، ما يجبرنا على إخفائه عن العيون التي من شأنها أن تقدّم الشفاء.
    ويقول أيضا إن الحزن جزء من الدورات العظيمة للأرض، فهو يتدفّق في الليل مثل الهواء البارد الذي يغرق في مجرى النهر. ويضيف إن الكثير من الحزن الذي نحمله ليس شخصيّا، ولا ينشأ من تاريخنا أو تجاربنا، بل يدور حولنا قادما إلينا من فسحة أوسع، ويصل على متن تيّارات غير مرئيّة تمسّ نفوسنا.
    وبينما عانى الكثيرون منا بشدّة بسبب التربية غير الواعية، يجب أن نتذكّر أن آباءنا كانوا مشاركين في مجتمع فشل في تقديم ما يحتاجونه كي يصبحوا أفرادا أقوياء وأباءً وأمّهات جيّدين. لقد كان البشر، منذ آلاف السنين قبل ظهور الحضارة، يتلقّون الرعاية والدعم في قرية منذ ولادتهم، وليس في أسرة نووية. وكان هذا "تحوّلا كارثيّا ويدعو للحزن".
    إن ارتباطاتنا المتأصّلة ثقافيّا بالمقدّس تحيل عادةً إلى السماء والنور. ونحن نحبّ فكرة الصعود؛ صعود الأشياء وحركتها نحو النور، ونشعر بعدم الارتياح عندما ننزلق ونسقط لنجد أنفسنا ننحدر إلى الظلام. ولكن عندما نحصر المقدّس في شريط السماء الضيّق، فإنّنا نُنكر القداسة الساكنة في الظلام، في جذور الأرض، في الظلال الكامنة داخل أجسادنا التي هي رحم بداياتنا.

    Credits
    francisweller.net
    wisdombridge.net

    الخميس، مايو 02، 2024

    مدرسة أثينا ومفهوم الجمال


    تُعتبر لوحة رافائيل مدرسة أثينا (1511) أحد أفضل الأعمال الفنّية المعروفة من عصر النهضة الإيطالية. وهي واحدة من أربع لوحات جدارية موجودة في شقّة الفاتيكان المعروفة باسم غرفة سيغناتورا. وقد رُسمت هذه اللوحات بتكليف من البابا جوليوس الثاني لكي تلخّص المثل اللاهوتية والإنسانية.
    وتصوّر "مدرسة أثينا" أعظم فيلسوفين من العصور القديمة، أفلاطون وأرسطو، وهما يقفان وسط مساحة مقبّبة أسطوانية الشكل ومهيبة، بينما يحيط بهما فلاسفة وعلماء مشهورون آخرون مثل سقراط وفيثاغورس وبطليموس وغيرهم. ويبدو الحكماء منهمكين في نقاشات حيّة، بينما يشرف على المشهد تمثالا أبوللو ومينيرفا إلهتي الفنون والحكمة القديمة.
    وعلى الرغم من أنه لا يزال هناك بعض الجدل حول هويّة بعض الأشخاص الكثر الظاهرين في الصورة، إلا أنه يمكن التعرّف بسهولة على شخصيّتي أفلاطون وأرسطو. فانسجاماً مع تفكيره، يشير أفلاطون إلى السماء ليؤكّد ان الحكمة تكمن في عالم الروح، بينما يشير أرسطو باتّجاه الأرض كمصدر لملاحظاته.
    وأفلاطون يحمل كتابه "محاورات مع تيماوس"، الذي يصف فيه أصل وطبيعة الكون، بينما يحمل أرسطو كتابه "الأخلاق" الذي يؤكّد فيه على الطبيعة العقلانية للإنسانية والحاجة إلى السلوك الأخلاقي.
    وسيصبح مذهبا هذين الإثنين مؤثّرين كثيرا في الفكر الغربي. فقد تبنّى ليوناردو دافنشي، مثلا، أفكار أرسطو التي وجد فيها أساسا فلسفيا لدراسته للطبيعة. ومن المفارقات الغريبة أن رافائيل صوّر أفلاطون بملامح دافنشي!
    وعلى الرغم من أن أفلاطون وأرسطو لم يصوغا نظرية عن الفنّ، إلا أن هناك عناصر في تفكيرهما ترتبط ارتباطا مباشرا بالفنّ وبعلم الجمال. وفي الواقع، قدّم أفلاطون وأرسطو مفاهيم مهمّة مثل الشكل والمضمون لأوّل مرّة، وعلى الأخص في خطابهما حول التقليد او المحاكاة.
    لكن هناك العديد من الاختلافات الهامّة بين الرجلين. وأحدها هو أنه بالنسبة لأفلاطون، يجب أن يهتمّ التقليد في الغالب بالأشكال المثالية أو الأفكار التي تحكم الكون وتظهر في النظام والانسجام والتوازن في العالم الطبيعي.


    ومن المثير للاهتمام أن أفلاطون لم يعتقد أن الفنّانين لديهم القدرة على تفسير الأفكار الإلهية. ووفقا له، فإن مهمّة الفلسفة هي إيجاد المعنى. كما أنه رأى أن الأعمال الفنّية خادعة وتمنعنا من العثور على الحقيقة. ولذلك، كان لا بدّ من حظر الأعمال الفنّية في المجتمع المثالي الذي تَصوّره أفلاطون.
    والنظام في الكون، بحسب أفلاطون، يقوم على مبادئ رياضية، وبالتالي فهو مسألة تفكير عقلاني. ومع ذلك، ومن خلال التأكيد على أنه يجب على المرء فقط ان يقلّد، فان أفلاطون المثالي قدّم نموذجا مهمّا للخطاب في الفنّ، بالإضافة إلى أساس متين للفكرة الغربية عن وظيفة الفنّ المتمثّلة في تقليد الطبيعة.
    وعلى الطرف الاخر، كان أرسطو يعتقد أن التقليد ينطوي على تجربة إنسانية، وبهذا المعنى رأى دورا للفنون. ووفقا له، فإن للفنّان حرّية تقليد جوانب الطبيعة، لكنّه أصرّ على وحدة الشكل (أي الصفات الشكلية والبنيوية). ويشرح أرسطو الشكل من حيث "أسبابه" التي يقصد بها أيّ عامل خارجي غير المادّة يشرح سبب وجود شيء ما على ما هو عليه، وما هي الوظيفة التي يمكن أن يؤدّيها.
    وباختصار، فإن الشكل هو الذي يجعل الشيء على ما هو عليه. وفي حين أن الشكل حسب أفلاطون يتعلّق بالأشكال المثالية، فإن أرسطو يربط الشكل بشيء متأصّل في الشيء نفسه.
    وهناك اختلاف آخر بين أفلاطون وأرسطو، وهو الطريقة التي يناقشان بها التقليد فيما يتعلّق بالجمال. بالنسبة لأفلاطون، الجمال هو فكرة، شيء ما مجرّد يتمّ الكشف عنه في نظام العالم الطبيعي.
    ومن هنا جاءت الأهميّة التي أولاها للرياضيات باعتبارها المفتاح لفهم العالم الطبيعي. وبالنسبة لأرسطو، الجمال شيء حقيقي، وهو أيضا وظيفة للشكل وليس مجرّدا كما هو الحال عند أفلاطون ولكنه متجذّر في الشيء. وبعبارة أخرى، فإنه يرتبط بالسياق.
    لذلك، على الرغم من أن أفكار أفلاطون وأرسطو الفلسفية توفّر الأدلّة الأولى فيما يتعلّق بالعلاقة بين الشكل والمضمون، فإنها تُظهر أيضا العلامات الأولى لانقسام ما. فالجمال (أي المضمون)، وفقا لأفلاطون، هو الشكل الذي من خلاله تظهر المُثل السماوية وبدونه تظلّ تلك المثل مخفية عن البشر.
    ومن ناحية أخرى، يهتمّ أرسطو كثيرا بتشابه (شكل) المظاهر الحقيقية هنا على الأرض. وهذا الفصل بين الشكل والمضمون هو الذي سيؤثّر بشكل كبير على تطوّر الفنّ وعلم الجمال في العصر الحديث.

    Credits
    raphaelpaintings.org