:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الثلاثاء، أبريل 15، 2025

حديقة الإشراق


بالنسبة للأوروبيين، وعلى مدى قرون، كان يوانمينغيوان، أو مجمّع القصر الإمبراطوري الواقع شمال غرب بيجين، ملمحاً أساسيا في أحلامهم عن الشرق. كان القصر مكانا للكثير من الخيال والدهشة إلى أن تعرّض للتدمير عام ١٨٦٠ على يد جيش من الإنغليز والفرنسيين. ومن وقتها، أصبح القصر وملحقاته رمزا لاستعباد الصين على أيدي القوى الأجنبية في القرن التاسع عشر، ومن ثمّ محورا للقومية الصينية الحديثة.
ولم يكن من المستغرب أن يعود الزوّار الأوروبيون القلائل الذين رأوا المكان بالفعل قبل تدميره بروايات مليئة بالعجائب. وقد تفوّق الرهبان والرحّالة في العصور الوسطى على بعضهم البعض في سرد القصص التي تحكي عن جمال القصر والسلطة الهائلة التي كان يتمتّع بها "الخان العظيم".
بُني قصر يوانمينغيوان، ومعناه بالصينية حديقة الإشراق، على مراحل مختلفة بدءا من أوائل القرن الثامن عشر وحتى تدميره. وكان في البداية ملاذا خلّابا للأباطرة الذين رغبوا في الهرب من حرارة المدينة المحرّمة والالتزامات الرسمية في بيجين.
كانت الحديقة جنّة على الأرض لأباطرة تشينغ. كانت جميلة، فخمة، ومن صُنْعهم بالكامل وليست إرثا من السلالات السابقة. وقد صُمّمت المناظر الطبيعية لتشبه مشاهد من منطقة وادي اليانغتسي السفلي التي برز منها شعراء ورسّامون وأدباء صينيون مشهورون.
في القرن الثالث عشر تمكّن التجّار والمبشّرون الأوروبيون من السفر إلى الصين. وكان قصر "الخان العظيم" محطّ اهتمام رواياتهم عن ذلك البلد. والوصف الأكثر شهرة له جاء على لسان ماركو بولو الذي وصل إلى بيجين عام 1266 وقضى هناك حوالي 24 عاما.
وقد ذكر ماركو بولو أن قصر الإمبراطور ليس مجرّد مبنى واحد، بل مجمّع ضخم تبلغ مساحته حوالي أربعة أميال، ويضمّ بداخله العديد من القصور الرائعة الأخرى، وساحة مسيّجة يعيش فيها الخان مع عائلته. وهناك تلّ اصطناعي مزروع بالأشجار وبحيرة اصطناعية تعبرها جسور. ويمتلئ جزء كبير من المجمّع بالطيور والحيوانات البرّية، بحيث يتمكّن الإمبراطور من مطاردة الطرائد متى شاء دون مغادرة القصر أبدا. وفي وسط المبنى جرّة كبيرة يمكن للزوّار الشرب منها، وهناك مجموعة من تماثيل الطاووس بالإضافة الى أسد أليف يتجوّل بين الصالات.
كما يذكر ماركو بولو أن أعمدة القصر الأربعة والعشرين صُنعت من الذهب، بينما نُحتت جرّة الشرب من أحجار ثمينة تجاوزَ ثمنها قيمة أربع مدن عظيمة، وكان ثمن كلّ لؤلؤة تزيّن معاطف رجال الحاشية حوالي خمسة عشر ألف فلورين.
كانت الوفرة والجمال والثراء تعبيرات عن قوّة الإمبراطور الهائلة. وأمام عرشه، كان الزوّار يصمتون ثم يسجدون، مُؤدّين "الكوتو"، أي الركوع ثلاث مرّات والضرب مثلها على الرأس، كما ينصّ بروتوكول البلاط. كان عدد زوّار الخان من الأوروبيين قليلا، ولم يكن لديهم سوى سلوكهم الحسن لدعم مطالبهم المتواضعة بالتجارة والحقّ في التبشير بالإنجيل.
كان ماركو بولو يلقّب بـ"المليون" لميله الى المبالغة. ولكن سواءً كانت شهاداته صادقة أم لا، كانت هناك حاجة لسرد الكثير من العجائب إذا ما أُريد للقصص أن تجد جمهورا.
المبشّرون اليسوعيون في الصين اتّبعوا استراتيجية هرمية لتحويل أهل البلاد الى المسيحية. فبعد أن يُقنعوا البلاط الإمبراطوري باعتناق دينهم في البداية، كانوا يأملون لاحقا في تحويل البلاد كلّها الى الدين المسيحي. ولتحقيق هذا الهدف، قدّموا للإمبراطور نماذج متنوّعة من التكنولوجيا والفنون الأوروبية وعرضوا خدماتهم كرسّامين ورسّامي خرائط وعلماء فلك وصانعي ساعات وحتى صانعي مدافع.
وقد شكّلت رسائل البعثة اليسوعية العائدة إلى فرنسا والمنشورة في باريس في القرنين السابع عشر والثامن عشر، المصدر الأكثر موثوقيةً للمعلومات عن الصين. كانت تلك الرسائل تُقرأ على نطاق واسع، خاصّة من قِبل المدافعين عن الامتيازات الملكية في إنغلترا وفي فرنسا. وأصبحت الصين بالنسبة لفلاسفة مثل فولتير نموذجا للحكم الرشيد والنظام الاجتماعي.
وسمح تواجد بعض اليسوعيين في قصر الخان العظيم بوضع وصف شامل إلى حدّ ما للقصور والحدائق. وأشهر تلك الاوصاف يرد في رسالة كتبها الفرنسي جان دينيس أتيريه عام 1745 عندما كان يخدم كرسّام في بلاط الامبراطور.
وقد أوضح أتيريه أن الإمبراطور استلهم لتصميم الحديقة، ولكي تظهر بجمال خاص، معالم من جميع أنحاء الصين والعالم، منها معابد من منغوليا والتبت، وقرية ومشهد لنهر من هونان، وحدائق من سوتشو وهانغتشو، ومجموعة من الأبنية على الطراز الأوروبّي. بل إن القصر كان به نسخة طبق الأصل من شارع صيني عادي مليء بالمتاجر والأكشاك والباعة المتجوّلين والزبائن والمتسوّلين. وكان الإمبراطور يتجوّل في تلك الأرجاء كما يحلو له، وكانت نساؤه يعقدن صفقات مع الخصيان الذين يلعبون دور البائعين.
لكن أكثر ما كان يلفت الانتباه الفوضى الجميلة و"عدم التماثل" اللذان سيطرا على تصميم المكان. فلم تكن المسارات والجسور العابرة فوق البحيرات مستقيمة بل متعرّجة، ولم تكن الأبواب والنوافذ مربّعة الشكل بل دائرية أو بيضاوية أو على شكل أزهار أو طيور أو أسماك. ورغم أن هذا الوصف قد يبدو ساذجا، إلا أن أتيريه أقرّ بأنه "عندما تراه بنفسك، ستُفكّر بطريقة مختلفة وستبدأ بالإعجاب بالفنّ الذي صُمّم به هذا التباين".
كانت حديقة القصر، بتنوّعها وشمولها، تمثّل كلّ ما هو موجود: الماضي والمستقبل والمواقع الغريبة والنباتات والحيوانات المذهلة والجبال الشاهقة والمحيطات والريف والمدينة. وكان الإمبراطور هو الحاكم الأوحد لهذا الكون البديع والشخص الذي جُمعت له كلّ هذه التسلية. ولأن كلّ شيء كان مرتّبا بتناغم وسلام، كانت الحديقة دليلا واضحا على فضائل حكمه. ومن منظور التصنيفات الجمالية التي كانت شائعة في القرن الثامن عشر، كان كلّ هذا مثيرا للفضول.


في رسائل اليسوعيين، استُبدلت لغة الجمال والرهبة في العصور الوسطى بانطباعات التعدّدية المبهجة. وتحوّل يوانمينغيوان إلى قصر "روكوكو"؛ إلى خزانة ضخمة مليئة بالتحف الفنّية وبآلات ومؤثّرات وخِدع بصرية.
ويذكر أتيريه أن هناك خصوبة لا مثيل لها في روح الصينيين. في الواقع "أميل إلى الاعتقاد بأننا فقراء وعقيمون مقارنةً بهم". في حقبة سابقة، كانت هذه الخصوبة دليلاً على الفردوس. وكانت الفردوس أيضا حديقة يتجدّد فيها كلّ شيء باستمرار ودون عناء. وفي حقبة تالية، أصبحت هذه الخصوبة نفسها دليلاً على إنتاجية التربة الصينية وثروات الأسواق الصينية التي كانت تنتظر استغلالها من قبل التجّار الأوروبيين.
وتمشيّا مع موضة الطراز الصيني، ساهم أتيريه في إلهام إنشاء حدائق بنفس الطراز في جميع أنحاء القارّة. فبعد سنوات قليلة فقط من نشر مذكّراته، بنى فريدريك العظيم منزلا صينيّا في سان سوسيس وشيّدت كاترين العظيمة قصرا صينيا في أورانينباوم وبنى أدولف فريدريك ملك السويد قصرا صينيا في دروتنينغهولم. وفي عام 1761، شيّد المهندس المعماري ويليام تشيمبرز معبدا يبلغ ارتفاعه خمسين مترا في حدائق كيو، بالإضافة إلى "بيت كونفوشيوس".
كان تشيمبرز قد زار الصين من قبل. ففي شبابه، زار غوانتسو مرّتين في أربعينات القرن الثامن عشر على متن سفن تابعة لشركة الهند الشرقية السويدية. وقد درس هناك العمارة الصينية وفنون الحدائق. وفور عودته إلى أوروبّا، نشر عام ١٧٥٧ كتيّبا بعنوان "فنّ تصميم الحدائق عند الصينيين".
وأوضح تشيمبرز أن هناك ثلاثة أنواع مختلفة من المشاهد في الحدائق الصينية: المبهج، والمرعب، والساحر". وفي حين أن المبهج والمرعب يتوافقان مع تصنيف اليسوعيين، إلا أن تركيزه على المرعب كان أمرا جديدا تماما. وقد أصرّ تشيمبرز على أن هذه المشاهد المروّعة كانت تتضمّن أشجارا مشوّهة مزّقتها العواصف وصخورا متداعية وشلالات جارفة ومبانٍ التهمت النيران نصفها. وصُمّمت هذه المشاهد لاستثارة المشاعر المتسامية.
وقد عاد تشيمبرز ثانية إلى حديقة الرعب تلك واستخدم قصر يوانمينغيوان كمثال توضيحي. وبعد وصفه للمتع التي تثيرها مسارات الحديقة المتعرّجة العديدة ومناظرها الساحرة، انتقل إلى "مشاهد الرعب": غابات كئيبة، ووديان عميقة لا تصلها الشمس، وصخور قاحلة، وكهوف مظلمة، وشلالات هادرة تتدفّق من الجبال في جميع الأرجاء".
وفي البساتين "كانت ترفرف الخفافيش والبوم وكلّ طائر جارح وتعوي الذئاب والنمور والضباع في الغابات وتتجوّل الحيوانات شبه الجائعة في السهول وتُرى المشانق والصلبان والعجلات وجميع أدوات التعذيب. وفي أكثر أركان الغابة كآبة، حيث الطرق وعرة ومليئة بالأعشاب، وحيث يحمل كلّ شيء علامات هجرة السكّان، توجد معابد مكرَّسة لملك الانتقام، وكهوف عميقة في الصخور، ومنحدرات تقود إلى مساكن تحت الأرض مُغطّاة بالأغصان والشجيرات العالقة".
بالطبع، كان وصف تشيمبرز الغريب لـ"حديقة الرعب" هدفا سهلا للسخرية. ومع ذلك، لم يكن من السهل كبح الحساسية التي كان وصف تشيمبرز تعبيرا عنها. فبالنسبة للكتّاب الرومانسيين في مطلع القرن التاسع عشر، كانت عجائب الشرق مصدرا لأحلام اليقظة الغريبة، وكان قصر الإمبراطور الصيني موضوعا مفضّلا.
في أكتوبر 1797، تناول الشاعر الإنغليزي سامويل تيلر كولريدج جرعة صغيرة من الأفيون ثم قرأ صفحات من حكايات الرحّالة الى الصين في العصور الوسطى، قبل ان يغالبه النعاس. وعندما استيقظ كتب قصيدة تصف جنّة صينية سامية ألهمته الشوق والرهبة:
"في زانادو أصدر قبلاي خان
قراراً ببناء قبّة ابتهاج فخمة
حيث جرى النهر المقدَّس "ألف"
عبر كهوف لا يستطيع إنسان إدراك مداها
أسفل إلى بحرٍ لا تطلع عليه شمس
لذا أُحيطت عشرةُ أميالٍ
من الأرض الخصبة بأسوار وأبراج
ووُجدت هناك حدائقُ زاهرة بجداولَ مُتعرِّجة
حيث أزهر كثير من شجر البخور
هنا كانت غابات قديمة كالتِّلال
تحتضن بقعاً خضراءَ مشمسة".
من الواضح أن كولريدج كان يتحرّك في نفس المجال الشعري الذي تحرّك فيه تشيمبرز. فكهوف كولريدج التي "لا يستطيع إنسان إدراك مداها" ليست بعيدة كثيرا عن "كهوف تشيمبرز العميقة في الصخور". كما لم يبتعد هذا كثيرا عن الرواية التي قدّمها ماركو بولو نفسه ذات مرّة. وما رآه كولريدج في حلمه هو قصر قوبلاي خان الذي زاره بولو.
سياسيّا، يمكن قراءة قصيدة "قوبلاي خان" على أنها تخلٍّ عمّا يُسمّى بـ "عبء الرجل الأبيض" ودعوة للمستعمرين والمستعمَرين لتبادل الأماكن. وعلى النقيض من ذلك، لم يكن تشيمبرز سريعا في التخلّي عن نفسه. فقد أشاد بالصينيين، ليس فقط لرعبهم، ولكن أيضا لبهجة حدائقهم.
في أغسطس 1793، وصل وفد ديبلوماسي بريطاني بقيادة جورج ماكارتني إلى بيجين بهدف فتح السوق الصينية الضخمة لتجارة السلع البريطانية الصنع. وعند وصولهم إلى القصر الإمبراطوري، متوقّعين بوضوح "تجربة سامية"، شعر الدبلوماسيون بخيبة أمل قويّة. وقال ماكارتني: ما رأيناه لا يرقى إلى مستوى الأوصاف الخيالية التي دسّها لنا الأب أتيريه والسير ويليام تشيمبرز على أنها حقائق".
وقال شخص آخر في الوفد ان القصور كانت صغيرة ومزخرفة بشكل مبالغ فيه، و"ليست مجرّدة من الأناقة، بل في حال يُرثى لها من الاهمال". وأضاف أن جزءا كبيرا من المباني يتكوّن من أكواخ متواضعة. كما أن مسكن الإمبراطور نفسه وقاعة المحاضرات الفخمة، بعد تجريدهما من التذهيب والألوان الصارخة التي طُليا بها، لا يتفوّقان إلا قليلاً على حظيرة مزارع إنجليزي!". لكنه أشاد بـ "المزهريات الرائعة المصنوعة من اليشب والعقيق و"أرقى أنواع الخزف الياباني"، وآلات القمار، والساعات، والآلات الموسيقية الرائعة".
في أربعينات القرن الثامن عشر في بريطانيا، بلغت موضة الطراز الصيني ذروتها. وبحلول التسعينات، غالبا ما كانت الأشياء الصينية تُعتبر مبتذلة، على الأقل بين الرجال ذوي الأذواق الكلاسيكية الجديدة. وكان الطراز الصيني، مثله مثل طراز الروكوكو الفرنسي أو العمارة القوطية الجديدة، يُعتبر متشاوفاً وزائفا.
لم يُظهِر الدبلوماسيون البريطانيون حماسا حقيقيا إلا لحدائق وأراضي القصر الإمبراطوري. وقال ماكارتني واصفا حدائق المنتجع الصيفي الإمبراطوري إنها "من أجمل مناظر الغابات في العالم" وأضاف: عند وصولنا إلى قمّة إحدى التلال، انفتح أمامنا فجأة مشهد يمتدّ لعشرين ميلاً، كان مشهدا غنيّا ومتنوّعا وجميلا وساميا لم ترَ عيناي مثله قط".
في صباح يوم 7 أكتوبر عام 1860، شقّت القوّات الفرنسية والبريطانية طريقها إلى قصر يوانمينغيوان. وعلى الرغم من أوامر القادة العسكريين، نهبَ الفرنسيون المجمّع، بينما سارع الإنغليز إلى عرض ما تبقى منه للبيع. وبعد عشرة أيّام، أحرقت القوات البريطانية المباني وما تبقّى من محتوياتها بالكامل. وكان لهذا التخريب سياق سياسي وعسكري تمثّل في انعدام انضباط الجيش الفرنسي ورغبة الانغليز في الانتقام من "المعاملة الوحشية" التي تلقّاها مجموعة من الرهائن على أيدي الصينيين.
كانت القوّات الفرنسية هي التي نفّذت معظم عمليات النهب. لكن القادة الفرنسيين نفوا رسميّا أيّ تورّط لهم، وألقوا باللوم في ذلك على عصابة من الصينيين الذين رافقوا الجيوش الأوروبية.
كان من بين من شهدوا تلك الأحداث اللورد إلجين الذي كان رجلا محافظا ومتشكّكا في الإمبريالية الجشعة، وكان أيضا من أتباع الشاعر كولريدج. وفي أكسفورد انجذب فكره إلى التكهّنات التجريدية الراقية، وقرأ أفلاطون وميلتون بالإضافة الى كولريدج. ومع ذلك، عندما واجه قصر يوانمينغيوان، أيقن أنه ليس القصر الذي وصفه كولريدج في قصيدته. فلم "يُغمض عينيه خوفا" ولم يشرب "حليب الجنّة". وبدلا من ذلك، شارك في إحراق المكان.
عندما تطوّرت الأمور إلى فكرة حرق القصر، رفض القادة الفرنسيون أيّ مشاركة. وقال البارون غروس: إننا نتحدّث باستمرار مع الصينيين عن "حضارتنا" وعن "الخيرية المسيحية"، وتدمير القصر سيكون عملاً همجيّاً ومنافقاً".
أما بالنسبة للجنود العاديين، سواءً البريطانيين أو الفرنسيين، فبمجرّد أن دخلوا بوّابات يوانمينغيوان، بدا وكأنهم في حلم. كانت تلك مملكة سحرية مليئة بكلّ الكنوز التي يمكن تخيّلها. ولم يكن الجنود قلقين مثل قادتهم من احتمال محاسبتهم، فاعترفوا بأفعالهم واستعانوا بخيالاتهم. قال أحدهم: لقد صُعقت وذُهلت ممّا رأيته، فجأة بدت لي ألف ليلة وليلة قابلة للتصديق تماما، كان كلّ شيء أشبه ما يكون بحكاية خرافية".
وقال آخر: شعرتُ كأنني علاء الدين ممتلئا بالدهشة في قصره المسحور المرصوف بالذهب والألماس. ولوصف ما رأيته سأحتاج إلى إذابة جميع الأحجار الثمينة المعروفة في ذهب سائل ورسم صورة بريشة من الماس تحتوي شعيراتها على جميع خيالات شاعر من الشرق".
وحدث الدمار النهائي في نوع من الهذيان. ركض الجنود من غرفة إلى أخرى باحثين عن الغنائم. كان هياجا ونهبا معربدا وكأن الجميع قد أصيبوا بجنون مؤقّت. وبدا الأمر كما لو أن الحرب التي تنبّأت بها "أصوات الأسلاف" في قصيدة كولريدج قد وصلت أخيرا، وأن الأوروبيين هم الشياطين الذين ينفّذونها.
كان الأوروبيون قد وعدوا بـ "بداية جديدة" للصين و"مستقبل مشرق من التقدّم والتجارة الحرّة". لكن كان لا بدّ أوّلا من تدمير العالم القديم، إذ لا سبيل لنشر "الحضارة" إلا من خلال أعمال همجية. وقال بعض الانغليز: كان تدمير قصر الإمبراطور أقوى دليل على قوّتنا المتفوّقة، فقد أسهم في دحض قناعة الصينيين السخيفة بسيادة مُلكهم على العالم. ومع هذا النصر، برز الأوروبيون أخيرا كحكّام للعالم بلا منازع".

Credits
worldhistory.org

الأحد، أبريل 13، 2025

بونابرت في يافا


بعض المؤرّخين يشبّهون غزو نابليون بونابرت لفلسطين بمرور نيزك ضخم لم يلبث أن اختفى مُحدثاً دمارا هائلا. كان الجنرال الفرنسي قد انطلق من مصر، وعند وصوله إلى يافا، تغلّب على مقاومة الحامية العثمانية المحلية واجتاح المدينة بقوّة ونهبها وقتل الآلاف من أهلها.
وفي أعقاب تلك الفوضى، أصيب العشرات من الجنود الفرنسيين بالطاعون.
في لوحة الرسّام أنطوان جان غروس "فوق"، نرى نابليون البالغ من العمر وقتها 29 عاما وهو يزور برفقة مساعديه جناحا في مستشفى في يافا يتواجد فيه جنود فرنسيون مرضى بالطاعون وبحال من البؤس والمعاناة. ويظهر الجنرال وهو يحاول تهدئة ذعر الجنود ويمدّ يده العارية ليلمس، دون خوف، خُرّاجا ملتهبا لجنديّ مصاب. وخلفه يقف ضابط يضع منديلاً على أنفه لحجب الرائحة، أو ربّما لوقاية نفسه من العدوى.
أنهى غروس هذه اللوحة المليئة بالاستعارات والرموز في الأشهر التي سبقت تتويج نابليون إمبراطورا على فرنسا في كاتدرائية نوتردام. واليد الممدودة في اللوحة تمثّل يد يسوع التي تشفي من الجذام والعمى والصمم بمجرّد اللمس.
لكن تلك اللمسة لم تجلب الشفاء لأن الجند كانوا بحاجة إلى أطبّاء، بدليل الجثث المتناثرة. كانت غاية بونابرت إظهار قدرته على رعاية المرضى والسير جنبا إلى جنب مع زملائهم الجنود، وكأنه يقول: انظروا! أنا بشر، لكنّي لا أخشى انتقال العدوى إليّ ولا يجب أن تخافوا أنتم أيضا".
في المخيّلة الشعبية الاوربّية، يُعتقد أن الطاعون - واستطرادا "كوڤيد" في عصرنا - مرضان ألحقهما الشرق بالغرب. والسبب هو أنه في أوائل القرن الثامن عشر، اختفى الطاعون من أوروبّا الغربية. وبحلول منتصف ذلك القرن، أنشأت عائلة هابسبورغ الملكية حاجزا صحّيا منع الطاعون من الوصول إلى وسط القارّة أيضا.
لكن الوباء استمرّ في اجتياح الإمبراطورية العثمانية. وتشير موسوعة ديدرو الفرنسية الى أن الطاعون "يأتي إلينا من آسيا، وعلى مدى ألفي عام، انتقلت جميع الأوبئة التي ظهرت في أوروبّا من خلال تواصل المسلمين والعرب والمغاربة والأتراك معنا، ولم يكن لأيّ من أوبئتنا أيّ مصدر آخر".
واشتهرت إسطنبول، على وجه الخصوص، بأنها مركز للأمراض المعدية. وفي رواية ميري شيلي "الرجل الأخير"، يبدأ وباء مدمّر للعالم من هناك. وكانت لمصر العثمانية سمعةٌ مماثلة، ففي القاهرة تسبّبت جائحة للطاعون عام 1791 في مقتل ثلث عدد السكّان تقريبا.
ولهذا السبب اعتبر الأوروبيون في زمن نابليون الطاعون "مرضا شرقيّا" أو "تركيّا". وفي هذه الحالة، لم يكن الطاعون الذي أصاب قوّات نابليون مستوردا، بل كان مصدره الأتراك، كما توحي بذلك تفاصيل لوحة غروس. وعلى الرغم من أن جناح المشفى المصوّر في اللوحة كان يقع في دير أرمني، إلا أن الرسّام وضعه فيما يشبه مسجدا محاطا بأروقة على الطراز الإسلامي. وخلف المشهد يرفرف العلم الفرنسي ذو الألوان الثلاثة.


ومن هذا المنطلق، فإن الإشارة إلى وباء "كوڤيد" قبل سنوات باعتباره "الڤايروس الصيني" لم تكن سابقة. لكن كثيرا ما كانت أصابع الاتهام تُوجّه في الاتجاهين، ففي الإمبراطورية العثمانية كان يُطلق على مرض الزهري اسم "جُدريّ الفرنجة!".
لكن الرسّام غروس أدخل الى اللوحة عنصرا عقّد ربطه بين الطاعون والشرق. ففي مقدّمة الصورة الى اليمين، يظهر شخص تركي، أو لعلّه عربي، أنيق اللباس وهو يعالج مريضا فرنسيّا. وقد اعتبر الأكاديميون الفرنسيون الشكليون إدراج الفنّان لهذا الشخص عيبا في العمل، لأنه يشتّت انتباه الناظر عن نابليون والجنود العراة.
من يافا توجّه بونابرت بعد ذلك إلى عكّا وحاصرها، لكن دون جدوى. وفي انسحابه المتسرّع جنوبا، لقي عدد من الجنود الجرحى والمرضى حتفهم على طول الطريق. وعند عودته إلى يافا زار جناح الحجر الصحّي مرّة أخرى. ويقال إنه اقترح على كبير الأطبّاء إعطاء الجنود الفرنسيين المصابين بالطاعون جرعات قاتلة من الأفيون، إذ لا يمكن نقلهم إلى مصر، وإلا "سيقعون بأيدي الأتراك الساديّين". لكن الطبيب رفض ذلك قائلا: مهنتي هي شفاء الناس، لا قتلهم!".
ومهما كانت حقيقة قصّة الأفيون، فإنها تثير سؤالا يبدو ملحّا اليوم: ما هي التنازلات التي يجب تقديمها في خضمّ نقص الإمكانيات؟ عندما خطّط نابليون لانسحابه، كانت موارده محدودة وأراد حماية جيش ضعيف أصلا. فهل كان عليه أن يخاطر بحياة المرضى المصابين بأخذهم معه والتسبّب في إصابة الجند الأصحّاء؟
يُعتقد أن هذه اللوحة رسُمت بتكليف من نابليون تحديدا، وذلك لدحض التقارير التي تحدّثت عن الفظائع الفرنسية التي ارتكبت أثناء حصار يافا، وأيضا لنفي قصّة إعطاء مرضى الطاعون أفيوناً قاتلا. وكانت تلك التقارير قد انتشرت في فرنسا وتسبّبت في إثارة غضب الكثيرين.
في دراسة أوّلية للوحة، يظهر نابليون وهو يحمل جثّة! لكن على ما يبدو، رأى الرسّام أخيرا أنه من غير اللائق أن يبالغ في الدراما لاستدرار المشاعر، فاستبدلها بلمسة الجنرال الحازمة والواثقة للجنديّ المصاب.
في سبتمبر 1804، عُرضت اللوحة في صالون أكاديمية الفنون الجميلة في باريس، وكانت هي العمل الأبرز في المعرض. وفيما بعد، أُعيد إنتاجها في مطبوعات ونقوش مصغّرة وجدت طريقها إلى جميع أرجاء فرنسا. وفي تلك الأثناء، أصبح دير يافا محطّة نموذجية للسيّاح الفرنسيين.
كانت اللوحة دعايةً صارخة صوّرت حملة عسكرية كارثية وحوّلت نابليون إلى قائد مقدام لا يعرف الخوف أو التردّد. وكُلّف العديد من الفنّانين الآخرين بإنتاج أعمال مماثلة تمتدح انتصاراته. ولأن حملة فلسطين كانت ضعيفة في تحقيق أيّ نجاح في ساحة المعركة، فقد حلّت لوحة غروس، الذي لم يسافر قطّ إلى الشرق الأدنى، هذه المشكلة وسَدّت النقص.
كانت رسالة اللوحة واضحة: ربّما لم ينتصر نابليون على الأتراك في فلسطين، لكن ذلك لم يكن ذنبه. ألا ترى الجثث؟! لقد كان يكافح الطاعون"! وعلى الرغم من أن الطاعون كان "عدوّا لم تصله حراب الفرنسيين" بحسب أحد الصحفيين، إلا أن نابليون تغلّب على خوفه ومُنح لمسة إلهية!

Credits
napoleon.org
smarthistory.org

الجمعة، أبريل 11، 2025

خواطر في الأدب والفن


  • اسم اللوحة التي فوق "ڤيللا على شاطئ البحر" للفنّان السويسري أرنولد بوكلين من القرن التاسع عشر. وهي واحدة من سلسلة من اللوحات التي تتناول نفس الفكرة مع بعض التعديلات المعمارية البسيطة. وقد عاد بوكلين مرارا لرسم هذه الڤيللا كموضوع، ربّما لارتباطها في ذهنه بذكرى معيّنة أو حادثة ما.
    في الصورة، يظهر شاطئ وأشجار حُور طويلة ومبنى مهجور. وبين الأشجار رواق مظلّل تعلوه تماثيل تطلّ على الأمواج. وهناك امرأة وحيدة، يمكن أن تكون راهبة، ترتدي فستانا أبيض وشالاً أسود وتقف على الشاطئ بينما تتأمّل البحر. ونفس هذه المرأة المنعزلة تظهر في بقيّة لوحات السلسلة، لكن بمظهر مختلف نوعا ما.
    كان بوكلين يميل لرسم الڤيللات الرومانية وغيرها من المناظر الطبيعية في إيطاليا تمشيّا مع الذوق الفنّي السائد آنذاك. و"ڤيللا على شاطئ البحر" تتّسم بغموضها، إذ لا يوجد ما يدلّ على هويّة المرأة ولا سبب وجودها في هذا المكان. وقد تعمّد الرسّام استحضار دلالات مختلفة في هذا العمل الذي يوحي بالحزن والزوال والكآبة.
    ويقال إن هتلر، ولأسباب غير معروفة، استولى على إحدى هذه اللوحات كغنيمة حرب وأضافها لمجموعته الخاصّة. وظهرت اللوحة في صورة فوتوغرافية خلف الزعيم النازي في إحدى المناسبات.
    بعض النقّاد يرون بأن هذه اللوحات ربّما لم تكن قريبة إلى قلب الفنّان بمثل قرب أعماله الأكثر غموضا وقوّة والتي يُعرف بها بوكلين اليوم عن جدارة مثل سلسلة "جزيرة الموتى". وهذه الأخيرة تذكّر بمقبرة فلورنسا الإنغليزية القريبة من مرسمه، حيث دُفنت ابنته. ويقال إن امرأة أرملة هي التي كلّفته برسم أولى لوحات تلك السلسلة وأن تكون ذات أجواء غامضة وحالمة.
    السؤال: لماذا يعود الفنّان إلى رسم نفس الموضوع أكثر من مرّة؟ هناك أكثر من سبب، أحيانا لاستغلال إمكانات موضوع معيّن على أكمل وجه، أو ببساطة لأنه منجذب الى الموضوع. لكن على الأرجح فإن ڤيللا بوكلين هذه تعبّر عن مكان خاص جدّا وخيالي أكثر منه واقعي. وربّما يكون لرسمها مرارا سحر غامض جعل الڤيللا أكثر واقعيةً بالنسبة له.
    رسم أرنولد بوكلين خلال حياته مجموعة واسعة من الأعمال، بما في ذلك المناظر الطبيعية والبورتريهات والأعمال الرمزية. وتتّسم لوحاته عموما بطابعها الحالم والخيالي، وغالبا ما تتضمّن شخصيات ومشاهد غامضة من الأساطير اليونانية.
    تلقّى الفنّان تدريبا في الرسم في أكاديمية دوسلدورف، ثم ذهب الى أنتويرب وبروكسل، حيث نسخ أعمال المعلّمين الفلمنكيين والهولنديين. ثم قصد باريس وعمل في متحف اللوڤر ورسم العديد من المناظر الطبيعية. وفي مارس ١٨٥٠ ذهب إلى روما. كانت معالم العاصمة الإيطالية بمثابة حافز جديد لعقله، حيث أدخل تأثيرات جديدة وشخصيات رمزية وأسطورية في لوحاته. وفي عام ١٨٥٦، عاد إلى ميونيخ وأقام فيها أربع سنوات.
    تأثّر بوكلين بالرومانسية وكثيرا ما مزج صوره المستمدّة من الأساطير بجماليات ما قبل الرفائيلية. والعديد من أعماله تقدّم تفسيرات خيالية للعالم الكلاسيكي أو تصوّر مواضيع أسطورية في بيئات تتضمّن عمارة قديمة. وغالبا ما تستكشف تلك اللوحات الموت والفناء بشكل مجازيّ وفي سياق عالم خيالي وغريب. وأخيرا، ترك بوكلين تأثيرا كبيرا على الحركة الرمزية ولا تزال أعماله تحظى بشعبية كبيرة في أكثر من مكان.
  • ❉ ❉ ❉

  • في كتابه الموسوم "قبل أن تبرد القهوة"، يوصي توشيكازو كاواغوتشي قارئه بأن يحاول ما استطاع ان يهدأ قليلا وينتزع نفسه من زحمة الحياة وصخبها ويستمتع بجمال الطبيعة وحميمية القهوة، وبذا يخلق لنفسه لحظات من الصفاء تستحقّ أن يتذكّرها في قادم الايّام.
    والكتاب عبارة عن رواية عن مقهى في طوكيو يوفّر لزبائنه فرصة السفر عبر الزمن الى الوراء، شرط أن يفعلوا هذا قبل أن تبرد قهوتهم. وهذه العودة قد تكون لرؤية أناس رحلوا عنّا أو لتصحيح أخطاء أو لاستكمال أشياء لم تُنجز كما ينبغي أو بما فيه الكفاية.
    يتضمّن الكتاب أربعة فصول، يروي كلّ منها قصّة شخص سافر عبر الزمن لسبب مختلف. والغاية ليست تغيير الحاضر، بل لاستدعاء الذكريات. ويمكن اعتبار الكتاب تأمّلا معمّقا في قِصَر الحياة وأهميّة عيشها بعزيمة وهدوء. كما انه يدعو القارئ إلى التأمّل في نفسه والتفكير في تأثير تجارب الماضي على مساره كشخص وعلى سلامته النفسية. كما يحثّ القارئ على قبول التغيير وتنمية القدرة على التحمّل وبناء حياة ذات معنى.
    كتاب كاواغوتشي أصبح من أكثر الكتب مبيعا في اليابان والعالم. والدرس العميق الذي يقدّمه هو اننا لا نستطيع تغيير الماضي، لكن يمكننا الاستفادة من دروسه لإثراء الحاضر والمستقبل.
    من العبارات الجميلة في الكتاب: لا تؤجّل شيئا إلى وقت لاحق. لاحقا، تبرد القهوة وتفقد الاهتمام ويتحوّل النهار إلى ليل ويكبر الناس ويشيخون. لاحقا، تمضي الحياة وتندم على عدم فعل شيء عندما سنحت لك الفرصة لفعله.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • في عام 1971، ذهب ملك أفغانستان محمّد ظاهر شاه للصيد في منطقة غابات شمال شرق البلاد. وأثناء الصيد، عثر بشكل غير متوقّع على أنقاض مستوطنة قديمة. وبعد ثلاث سنوات، بدأت مجموعة من علماء الآثار الفرنسيين بالحفر في الموقع. وما وجدوه كان أحد أهم وأكبر الاكتشافات في التاريخ القديم: بقايا قصر ضخم بالإضافة إلى صالة ألعاب رياضية ومسرح كبير وترسانة ومعبدين. كما عُثر على العديد من النقوش والعملات المعدنية والتحف والأواني الخزفية.
    وقد سُمّي المكان "إي خانوم"، الذي يعني سيّدة القمر باللغة الأوزبكية. وهو يتمتّع بجميع سمات المدينة اليونانية الكلاسيكية. في البداية، كان يُعتقد أن الموقع هو بقايا مدينة الإسكندرية، إحدى المدن العشرين التي بناها الإسكندر الأكبر في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد. لكن أظهرت الحفريات اللاحقة أن المدينة بُنيت في الواقع عام 260 قبل الميلاد على يد أحد ملوك الإمبراطورية السلوقية. وقد أدّى نشوب الحرب السوفياتية الأفغانية في أواخر السبعينيات إلى توقّف عمليات الحفر. وخلال الصراعات التي أعقبت ذلك في أفغانستان تعرّض الموقع للنهب والتخريب عددا من المرّات.
  • ❉ ❉ ❉

  • من أقوال أحد زعماء الهنود الحمر:
    عندما نريد قتل نبات أو شجرة أو حيوان، يجب أوّلا أن تكون هناك حاجة ماسّة لذلك. ثم يجب أن نستأذن من المخلوق ونشكره. ويجب أن تقام الصلوات والرقصات وغيرها من الطقوس لمزيد من الشكر للكائنات التي قُتلت ولمساعدة الأحياء منها على النموّ والتكاثر. وعندما نحفر الجذور أو نبني المنازل، فإننا نصنع ثقوبا صغيرة. ونهزّ أشجار الجوز والصنوبر ولا نقطعها. ولا نستخدم سوى الخشب الميّت.
    نؤمن أنه عندما يموت إنسان، هناك جسر يتعيّن عليه عبوره ليدخل الجنّة. وعلى رأس الجسر ينتظر كلّ حيوان أو طائر قابله الإنسان في حياته. والحيوانات، بناءً على معرفتها بهذا الشخص، تقرّر أيّ البشر يُسمح لهم بعبور الجسر وأيّهم يُمنع.
    لكن المستعمرين يقتلون الحيوانات والطيور بلا رحمة ويدمّرون الأرض ويقتلعون الأشجار دون اهتمام. تقول لهم الشجرة: لا تفعلوا، أنا أتألّم، لا تؤذوني!". لكنهم يقطعونها. روح الأوربّي تكره الطبيعة. إنهم يفجّرون الأشجار أو يقطعونها، وهذا يؤلمها. الهنود لا يؤذون شيئا، لكن البيض يدمّرون كلّ شيء. كيف لروح الأرض أن تحبّ الأوربّي؟! أينما حلّ هؤلاء، هناك ألم".
  • ❉ ❉ ❉

  • تمكّن محارب ساموراي من الهرب على ظهر حصانه أثناء معركة مع رجال عشيرة أخرى. وأثناء فراره مع جنده، عبروا نهرا فسقط قوس الساموراي في الماء بفعل ركض الحصان القويّ. واستدار ليرى قوسه وهو يطفو، فأوقف حصانه. لكن جنوده صاحوا به أن يتركه، لأن لا وقت لديه للمخاطرة بحياته من أجل قوس. لكن الساموراي لم يكترث بنصحهم وترجّل عن حصانه وخاض في الماء باحثا عن قوسه.
    وفيما بعد قال لجنده: القوس ليس مجرّد خشب وخيوط، بل ثمرة لمئات الساعات من الجهد والعرق الذي بُذل لصنعه. وتركه خلفك سيكون بمثابة عمل لا يليق بمحارب وسيصبح ما فعلته عارا لا يُغتفر عليك وعلى عشيرتك.
    انتهت القصّة هنا. والسؤال: كم من الأشياء التي نتركها وراءنا دون تفكير لأننا لا نعرف قيمتها؟!

  • Credits
    arnoldbocklin.org
    smithsonianmag.com