:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات هيسيود. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات هيسيود. إظهار كافة الرسائل

الاثنين، مايو 26، 2014

عشاء مع أوفيد/2

"الآن أكملتُ عملا لن يقدر على هدمه غضب جوبيتر، ولا النار ولا الحديد ولا الزمن الذي لا يشبع. فليأتِ، متى شاء، اليوم المحتوم الذي لا حقوق له إلا على جسدي، وليضع حدّا لمسار حياتي الغامض. سيكون اسمي عصيّاً على الفناء. وأينما توغّلَت قوّة روما بعيدا في الأرض التي تسودها، فلسوف يقرؤني الناس".
  • أوفيد، خاتمة كتاب "التحوّلات".

    لا تتوفّر معلومات وافية أو مؤكّدة عن حياة أوفيد. وكلّ ما نعرفه عن حياته الخاصّة مصدره كتاباته. ولعلّ هذه فرصة لسؤال الشاعر عن بعض الأمور المتعلّقة بظروف نشأته الأولى وكيف أصبح شاعرا.
    نعرف، مثلا، أنه ولد عام 43 قبل الميلاد، أي بعد اغتيال يوليوس قيصر بعام واحد. وكانت ولادته في بلدة سالمونا الايطالية لعائلة موسرة. وقد أخذه والده إلى روما لدراسة السياسة والخطابة، لكنه اختار الشعر. وقد تزوّج ثلاث مرّات وطلّق مرّتين قبل بلوغه الثلاثين وأنجب ابنة واحدة. وفي شبابه، سافر إلى آسيا الصغرى ثمّ إلى أثينا.
    ألّف أوفيد العديد من دواوين الشعر، أحدها عنوانه "رسائل من نساء بطلات"، وهو عبارة عن سلسلة من الرسائل من نساء أسطوريّات إلى أزواجهنّ أو عشّاقهنّ الغائبين. وهناك ديوان ثان بعنوان "فنّ الحبّ"، ويحكي عن قصّة حبّ بطلتها امرأة من الطبقة الرفيعة في روما تُدعى كورينا.
  • ❉ ❉ ❉

    كان أوفيد شاعرا غزير الإنتاج. شخصيّته وكتبه ألهمت في ما بعد كتّابا لاتينيين خبروا، هم أيضا، تجربة النفي مثل سينيكا وبوتيوس. لكن من بين جميع مؤلّفات الشاعر، يُعتبر كتاب "التحوّلات" الأكثر شهرة واحتفاءً. وبراعة أوفيد في هذا الكتاب غير مسبوقة. وبالتأكيد لا يمكن أن أتخيّل لقاءً مع الشاعر دون أن اطرح عليه بعض الأسئلة والملاحظات عن الكتاب.
    عندما تقرأ "التحوّلات"، ستلاحظ أنه يتحدّث عن عالَم يتخلّله إحساس بالحركة وبالتشوّش وغياب النظام. وتسلسل الأحداث فيه محكوم بالصدفة ولا يسير وفق منطق السبب والنتيجة. كما ستلاحظ أن كلّ قصّة من قصص التحوّلات يصاحبها عادة عنف ومعاناة. وهذا يضفي على جميع قصص الكتاب طابعا دراماتيكيّا، بالنظر إلى أن العنف يتضمّن ضحيّة تصرخ وتحتجّ وتبدو بلا حول ولا قوّة.
    والضحايا هم غالبا إناث بريئات يتعقبّهن مغتصبون من الآلهة أو من البشر. والسرد يثير في نفس القارئ إحساسا بالشفقة على الضحيّة عندما تتحوّل إلى شيء آخر، كما لو أن ضغط معاناتها يفوق قدرة البشر على التحمّل.
    ولا بدّ وأن تتساءل وأنت تقرأ الكتاب: كيف يجب أن نتعامل مع هذه التحوّلات، وهي العنصر المحوريّ فيه. ولماذا هذا الإصرار على التحوّل من خلال عملية وحشية؟ وهل يضيف هذا إلى التجربة الإنسانية شيئا؟ ثمّ هل أوفيد يقول هنا شيئا عن طبيعة الإنسان كما يفعل كلّ من هوميروس وهيسيود مثلا في كتاباتهما؟ وهل التأثير المستمرّ لقصيدة التحوّلات يعتمد على فهمٍ ما للحياة أو على تجربةٍ ما وجدها الناس ذات قيمة مثلا؟
    مثل هذه التساؤلات قد تثير اهتمام أوفيد عند طرحها عليه. وقد يكون عنده من الإجابات والملاحظات ما يجلي بعض الغموض.
    وأيضا لا بأس من الاستئناس برأيه حول وجهة النظر الرائجة والتي تقول إن القصيدة لا تقدّم أيّة رؤية خاصّة عن الحياة، وأنها في الأساس عبارة عن احتفال بالعبقرية الأدبيّة للكاتب، وبرهان على المتعة النقيّة للقصص الخيالية التي لا يخالطها دروس أو مواعظ أخلاقية.

    ❉ ❉ ❉

    معظم قصيدة التحوّلات يتعلّق بأحداث في منتهى الوحشية. وإذا حاولنا اعتبارها، أي الحوادث، أحداثا حياتية، فإن الكتاب عندئذ يصبح عبارة عن صورة كئيبة ومظلمة عن تصرّفات وطبيعة البشر. أي انه يتضمّن رؤية لا تختلف عن الرؤية المتشائمة والأقدار المشئومة عن العالم في أدب كلّ من هيسيود وسوفوكليس.
    في أعمال هيسيود وهوميروس واسخيليوس وسوفوكليس، للأساطير معان خطيرة. فهي تضيء وترمز لجوانب مهمّة من طبيعة الحياة نفسها، مثل قدرة الآلهة على التدمير وأمزجتها الغاضبة وحبّها وكراهيّتها. والأحداث قد تبدو لاعقلانية ومضحكة وفجائية. لكنّها تُقدّم كرؤى جادّة عن طبيعة الأشياء التي تقع في مركز اهتمامنا، مثل رغبتنا في فهم القوى الأساسية خارج أنفسنا. والأساطير تُوظّف لتربط عالمنا المألوف مع الإحساس بالغموض الذي يساورنا عندما نتأمّل الأشياء التي هي خارج سيطرتنا والتي يستعصي علينا فهمها.
    غير أن أهمّ ملمح مثير للفضول في قصيدة التحوّلات، وهو سبب شهرتها على الأرجح، هو أنها لا تعرض مثل هذه الرؤية اليائسة عن الحياة ولا أثر لها فيها. وبرغم كلّ الوحشية فإن القصيدة توفّر قراءة سارّة وممتعة، بل ويمكن أن نصفها بأنها تحفة هزلية.
    هل سبق لك أن قرأت رواية الكونت دراكيولا؟ صحيح أن أجواءها مخيفة إلى حدّ ما، ولكن قراءتها جميلة وممتعة. وهذه الصفة تنطبق أيضا على "التحوّلات". وهي سمة تستحقّ الدراسة المتعمّقة، لأنها قد تكون أهمّ مؤشّر على الجاذبية القديمة والدائمة لهذا الكتاب.

    احد النقّاد قال إن من غير المجدي البحث عن معنى داخلي أعمق قد يكون أوفيد تركه للآخرين في "التحوّلات". فالكتاب يُبقينا دائما عند سطح التفاصيل، ولا يدعونا لنرى إن كانت سلسلة الكوارث هذه تقول أيّ شيء مهمّ عن العالم. انه كتاب يمكن أن نقرأه ونستمتع به دون أن يدفعنا أو يقودنا باتجاه أيّة منظومة من المعتقدات عن العالم أو عن فهمنا للكون.
    وهنا لا بدّ من إعادة طرح هذا السؤال على أوفيد: هل تتضمّن "التحوّلات" موقفا فلسفيّا، فكرة أو رؤية ما عن العالم، وهو ما لا يراه الكثيرون كما أشرنا آنفاً، أم أنها مجرّد قصص مسلّية وممتعة أراد الشاعر من خلالها أن يكشف عن مقدرته السردية ومهاراته الشعرية، بمعنى أن التجربة الجمالية فيها مقدّمة على الدروس أو المواعظ الأخلاقية؟
    من أشهر التحوّلات التي يحكي عنها أوفيد قصّة اوديب الذي تخبر ساحرة والديه بأن طفلهما، أي اوديب، سيكبر وسيقتل والده ويتزوّج أمّه. وعندما يكبر تتحقّق تلك النبوءة المشئومة. وهناك أيضا قصّة ديونيسيوس أو باخوس، وقصّة نرسيس وإيكو (أي الصدى).
    وفي مكان آخر من الكتاب، يتحدّث الشاعر عن قصّة ميداس. وميداس الحقيقيّ في هذا الكتاب هو المؤلّف نفسه. ولمسة الذهب التي لديه هي فنّه الذي يغيّر ويؤثّر. وإنجاز أوفيد يتمثّل في تحويل رؤية مظلمة ومحبطة عن الوجود إلى كوميديا كونية.

    ❉ ❉ ❉

    من جهة أخرى، يمكن اعتبار "التحوّلات" كتابا عن تنوّع وسيولة الكون. وقصصه تذيب التقاليد الأخلاقية وتستكشف الأشياء الغامضة وتلغي الحدود والفوارق بين الرجال والنساء والحيوانات والآلهة والنباتات.
    وهو يستكشف الجندر من نواح كثيرة ومتعدّدة. وكلّ أصحاب نظريات الجندر الحديثة سيجدون في هذا الكتاب مادّة للتنظير. ولابدّ أن تستوقفهم، مثلا، شخصيّة هيرمافرودايت التي هي عبارة عن جنس مختلط، وشخصيّة اتالانتا التي تحبّ الصيد والرياضة مع أنها أنثى، وشخصيّة اخيل الذي يتنكّر على هيئة امرأة مع انه لا يُخفي اهتماماته الذكورية بالأسلحة. نظريّة الشاعر عن المثلية الجنسية مثيرة للاهتمام. فالتحوّلات الجندرية برأيه سببها التغذية وأسلوب الحياة وليس الطبيعة.
    متعة أوفيد القاتمة في رواية هذه القصص تستدعي الكثير من الأسئلة. لكن قصص اللقاءات الجنسية في الكتاب ممزوجة بأسئلة عميقة. مثلا، ماذا يعني أن يكون لديك أفكار ومشاعر محبوسة داخل جسد قابل للتحوّل؟ وما هي النفس؟ وما حدودها؟ وإذا تغيّر شكلك الخارجي، فما الذي يدوم بعد ذلك؟

    ❉ ❉ ❉

    ربّما يتفاجأ أوفيد عندما يعلم انه في العصور الوسطى كان هناك اتجاه لإضفاء سمة أخلاقية على كتاب "التحوّلات". وقد فُرضت عليه تفسيرات وعظية تتوافق مع تعاليم الكنيسة الكاثوليكية في روما في تلك الفترة وأضيف للقصيدة ما ليس فيها. لكن تلك التعديلات لم تنتهك الجوّ العامّ والأفكار التي يتضمّنها الكتاب. أي أن الكنيسة لم تضطرّ لحظر الكتاب خوفا منه، بل احتاجت فقط لأن تكيّفه، وذلك بفرض البناء الذي يناسب رغبات رجال الدين مع الإبقاء على الأسلوب السرديّ.

    ❉ ❉ ❉

    بعض النقّاد يذهبون إلى أن "التحوّلات" يتضمّن رؤية أو فكرة ما ذكرها أوفيد في الخاتمة عندما تحدّث عن الزمن وقدرته التي لا تُقهر. يقول: هناك أمم تصعد إلى القوّة والعظمة، وأمم أخرى تفشل وتسقط. طروادة كانت ذات وقت عظيمة بثرواتها ورجالها، وأعطت عشر سنوات من دم حياتها، والآن انتهت ولم يبق منها سوى الأطلال القديمة ومقابر الأسلاف المهدّمة".
    والمعنى الواضح لهذه العبارة هو أن روما، برغم عظمتها الإمبراطورية، من المحتّم أن تفشل، هي أيضا، وتسقط في النهاية. وفي الخاتمة، يهدي أوفيد كتابه لكلّ من يوليوس قيصر وأوغستوس. لكن وراء هذا الإهداء مفارقة لافتة، إذ أنه يشير ضمنا إلى انه أيّا ما كانت انجازات هذين القائدين السياسيين العظيمين، فإن أعمالهما لن تدوم طويلا.
    وما سيدوم حقّاً هو قصيدة أوفيد نفسها. وخاتمة الكتاب توضّح انه إذا كان التحوّل هو القاعدة في هذه الحياة، فإن الشيء الوحيد الذي يمكن أن ينجو من التحوّل أو التغيير هو العمل الفنّي. في الحياة أو السياسة، ليس هناك ثبات أو دوام للحقيقة. والخلود الوحيد الممنوح لنا، نحن البشر، يأتي من الأدب العظيم، مثل قصيدة أوفيد.

    Credits
    ancient-literature.com
    public.wsu.edu
    poetryintranslation.com

    الأربعاء، مايو 15، 2013

    الأساطير واللغة 1 من 2

    وُجدت الأساطير مع الإنسان منذ آلاف السنين. وقراءتها تساعدنا على فهم الحياة والتجربة الإنسانية بشكل أفضل وتزيد معرفتنا بالماضي وبالكثير من الحضارات التي سادت ثم بادت. كما أنها تعلّمنا بأن هناك الكثير من الأديان والثقافات في هذا العالم، وبالتالي تجعلنا أكثر تسامحا وانفتاحا.
    بعض الأساطير أسهمت في صياغة الأديان وفي تشكيل تاريخ العديد من الأقوام والحضارات. وبعضها كان وما يزال مصدرا للكثير من الأعمال الشعرية والمسرحية والأدبية والموسيقية والفلسفية.
    الأساطير القديمة ما تزال تعيش معنا في ثقافتنا ونجد لها مرجعيات في العديد من المفردات والتعبيرات اللغوية المعاصرة.

  • موسيقى اورفيوس:
    أحيانا، تتردّد على الألسن عبارة "الموسيقى تروّض الوحوش"، في إشارة إلى ما للموسيقى من قوّة في إثارة مشاعر الإنسان بل وحتى الحيوان.
    العلم الحديث يشير إلى أن الموسيقى تعمل على مستوى أعمق في الدماغ، وهو أمر ما يزال تفسيره إلى اليوم لغزا. وهناك من العلماء من يتحدّث عن القوّة الغريبة للموسيقى في استحضار تجارب وحالات تقصر عنها غيرها من الفنون.
    عبارة "الموسيقى تروّض الوحوش" مستوحاة من الأسطورة اليونانية القديمة عن أورفيوس، الموسيقيّ الذي أحبّه أبوللو إله الموسيقى. هذه الأسطورة، مع العديد من الأساطير الأخرى، تشهد على أن موسيقى أورفيوس كانت قادرة على تهدئة أكثر الحيوانات عنفا وتوحّشا.
    الموزاييك الرومانيّ يصوّر أورفيوس وهو يعزف على القيثارة بينما يحيط به في جوّ من الوئام حشد من الحيوانات التي كثيرا ما يعادي بعضها بعضا في الأحوال الطبيعية. تشير الأسطورة إلى أن اورفيوس عندما يغنّي كان يستدرج البشر والحيوانات المتوحّشة والأنهار وحتى الصخور الصمّاء كي تتبعه وتقتفي أثره. ذات مرّة، عندما كان يعزف موسيقاه الشجيّة في الغابة، اقتلعت أشجار السنديان نفسها من جذورها وتبعته وهو يهبط إلى سفح الجبل ثم غرست نفسها على شاطئ البحر في المكان الذي أنهى اورفيوس أغنيته عنده. وعندما مات في نهاية الأسطورة بكت الطيور على أطراف التلال وأسقطت الأشجار أوراقها أسفاً وفاضت الأنهار بمياهها حزنا على رحيله.
    القيثارة في هذه الأسطورة ترمز إلى تقدير الموسيقى والفنون. والآلهة والبشر الذين يحملون هذه الآلة يتميّزون غالبا بإحساسهم العالي ورهافة مشاعرهم. وإذا رأيت صورة لشخص وسيم يحتضن هذه الآلة الوترية الصغيرة، فهناك احتمال كبير بأنه إمّا أبوللو أو اورفيوس، وهما أكثر الشخصيات في الأساطير الإغريقية ميلا إلى الموسيقى. أمّا إن سمعت ذات يوم موسيقى حزينة تتحدّث عن حبّ ضائع أو بلا أمل، فاعلم أن روح اورفيوس هي من ألهمت صاحبها ذلك اللحن.
    اورفيوس، كشخصية رمزية، يرتبط بالموسيقى والحزن وبعدم قدرته على نسيان حبّه لزوجته يوريديسي. وليس من المستغرب أن نرى حضوره في العديد من المعالجات الحديثة لهذه القصّة. فهو موجود، على سبيل المثال، في فيلم اورفيوس الأسود وفي لوحة كميل كورو وفي موسيقى جاك اوفنباخ وفي تمثال رودان ، بالإضافة إلى عشرات الأعمال الأدبية والفنّية والمسرحية.

  • لمسة ميداس:
    في الأسطورة، كان ميداس ملكا على فريجيا، وهي منطقة تقع اليوم في تركيا. كان هذا الملك معروفا بحماقته وجشعه. كان شخصا ثريّا جدّا وكان يعيش في قصر فخم مع ابنته الوحيدة. متعته الأولى كانت جمع الذهب وهاجسه الدائم كان تكديس المال. وقد اعتاد على أن يمضي أيّامه في إحصاء ثروته من النقود الذهبيّة.
    لكن ذات يوم، مرّ بمملكته دايونيسيس إله الخمر والمجون. فدعاه ميداس إلى قصره كي يقوم بواجب إكرامه. ومن باب ردّ الجميل، عرض عليه دايونيسيس أن يحقّق له أمنية، وحثّه على أن يفكّر جيّدا في نوعيّتها. فتمنّى ميداس أن تتوفّر له القدرة على تحويل كلّ شيء يلمسه إلى ذهب. ووعده دايونيسيس أن يحقّق له أمنيته تلك اعتبارا من اليوم التالي.
    وفي صباح ذلك اليوم، استيقظ ميداس من نومه مبكّرا كي يتأكّد أن أمنيته أصبحت حقيقة. ومدّ يده ليلمس طاولة فتحوّلت فورا إلى ذهب. وغمره شعور بالفرح والسعادة لما حدث. ثمّ لمس كرسيّا وسجّادة وباباً فتحوّلت جميعها إلى ذهب. ثمّ جلس إلى المائدة لتناول الإفطار ومدّ يده إلى وردة كي يشمّ عبيرها فتحوّلت في الحال إلى ذهب. وبعد قليل جاءت ابنته الحبيبة لتطوّقه بذراعيها فلم تلبث أن تحوّلت إلى تمثال من الذهب. عندها هبّ ميداس من مكانه مذعورا وسارع من ساعته إلى دايونيسيس ملتمسا منه أن يبطل مفعول تلك الأمنية.
    شعر دايونيسيس بالحزن لما حلّ بميداس وقال له: عليك أن تذهب الآن إلى نهر باكتولوس وتغسل يديك من مائه. وذهب الملك إلى النهر وفعل ما طُلب منه. وعندما عاد إلى قصره كان كلّ شيء قد عاد إلى طبيعته الأولى. ومن يومها تغيّر ميداس كثيرا وصار شخصا آخر. أصبح إنسانا كريما يعطف على الآخرين ويتحسّس همومهم ومشاكلهم. وعاش شعبه حياة مرفّهة بعد أن قرّر أن يقاسمهم ثروته الطائلة.
    أمنية ميداس لم تكن في الواقع نعمة وإنّما لعنة. وجشع الملك يدعونا لأن ندرك قيمة السعادة الحقيقية وأن نفكّر في العواقب التي قد تقودنا لأن نصبح عبيدا لرغباتنا الأنانية. الثراء قد لا يجلب السعادة بالضرورة وقد لا يحلّ كلّ المشاكل، لأن الثروة قد تخلق مشكلات من تلقاء نفسها.
    هذه الأيّام عندما نقول إن لشخص ما لمسة ميداس، فإننا نعني أنه يملك ثروة كبيرة، أو انه ناجح في جميع مشاريعه الماليّة وأن كلّ ما يفعله مضمون الربح. لكن يمكن أن يكون لهذه العبارة معنى ساخر، انطلاقا من حقيقة أن لمسة ميداس كانت في واقع الأمر نقمة أكثر ممّا هي نعمة.


  • صخرة سيزيف:
    من التعبيرات المتداولة والمستندة إلى أساطير عبارة "مهمّة سيزيفية" التي تشير إلى عمل مضنٍ ومستعصٍ وعبثيّ وليست له نهاية. في الأساطير اليونانية، كان سيزيف ملكا على كورينث وكان فخورا جدّا بذكائه وخداعه الذي لا ينتهي للآلهة وللبشر، وإغوائه لابنة أخيه وخرقه لقانون إكرام الغرباء بقتله الضيوف.
    كلّ هذه الانتهاكات الفادحة استوجبت عقابه وذلك بوضعه في تارتاروس، وهي أسفل درَك من الجحيم. مهمّة سيزيف الأبدية هناك كانت تلزمه بدحرجة صخرة إلى قمّة جبل. وعندما يصل إلى القمّة تتراجع الصخرة إلى أسفل الجبل، وبالتالي كان عليه دائما أن يبدأ من جديد في دفع الصخرة إلى قمّة الجبل في مهمّة لا تنتهي أبدا.
    هذه العقوبة كانت إحدى أكثر العقوبات ترويعا التي يمكن أن تواجه إنسانا. ولحسن الحظ، فإن أحفاد سيزيف لم تلاحقهم تلك اللعنة. فحفيده المسمّى بيلليروفون كان البطل الذي قتل وحش الشيميرا بمساعدة كلّ من أثينا وبيغاسوس الجواد المجنّح.
    سيزيف، ببعديه الوجودي والمأساوي، نجده اليوم في رواية يوم في حياة إيفان دينيسوفيتش للكاتب الروسي الكسندر سولجينِتسين وفي كتاب أسطورة سيزيف لـ البير كامو. كامو أضفى على سيزيف مسحة نبل ورأى أن حكايته تلخّص مصير الإنسان المعاصر الذي يصحو في الصباح ليذهب إلى عمله ثم يعود في المساء إلى بيته، وفي اليوم التالي يكرّر نفس ما فعله في اليوم السابق.. وهكذا.
    لكن سيزيف، حسب كامو أيضا، كان يمرّ بمرحلة من مراحل تطوّر الوعي، فقد تقبّل مهمّته على الرغم من عبثيّتها لأنها سمحت له بأن ينمو وأن يتعلّم. لقد عرف سيزيف مصيره وتقبّله، وبإمكان البشر أن يتعلّموا منه فيقبلوا أقدارهم.
    يقول البير كامو في كتابه: إن أسوا مصير يمكن أن يواجهه الإنسان هو أن يجد نفسه مسجونا في وجود عبثيّ، لكنه يجهل عبثيّته. لذا فإن سيزيف بعد أن أدرك عدمية مصيره كان يحقّق انتصارا صغيرا في كلّ مرّة يدفع فيها بالصخرة إلى قمّة الجبل. كان قد فهم عدم جدوى عمله ولم يعد منشغلا بمحاولة أن يجد معنى لما يقوم به.

  • صندوق باندورا:
    كثيرا ما نقول لشخص ما على سبيل التحذير: لا تفتح هذا، انه صندوق باندورا"، ما يعني أنه لو فعل هذا الشيء فستكون النتائج وخيمة بحيث لا يمكن تجنّبها أو إبطالها مفاعيلها.
    هيسيود، الشاعر الروماني، كان المصدر الأساسيّ لقصّة باندورا. وأصل الأسطورة أن زيوس كبير الإلهة أمر هيفيستوس زوج افرودايت بأن يصنع له، أي لـ زيوس، ابنة. وقد صنع له امرأة جميلة وأسماها باندورا. كانت باندورا عبارة عن هديّة جميلة شارك جميع الآلهة في تشكيل ملامحها. وكانت أوّل امرأة تُخلق على الأرض في عالم كان حتى ذلك الوقت مقتصرا على الآلهة والرجال فقط.
    وأرسل زيوس ابنته باندورا إلى الأرض لتتزوّج ابيميثيوس، وهو رجل مهذّب ووحيد. لكن كان لـ ابيميثيوس أخ اسمه بروميثيوس، وكان زيوس حانقا على الأخير لسرقته النار وإعطائها للبشر دون إذن من زيوس.
    وقبل أن يرسل زيوس باندورا إلى الأرض أعطاها صندوقا له قفل ثقيل وأخذ منها وعدا بألا تفتح ذلك الصندوق أبدا. غير أنها كانت امرأة فضولية وأرادت أن تعرف ما بداخل الصندوق.
    وفي إحدى الليالي، وبينما كان زوجها نائما، سرقت منه المفتاح وفتحت الصندوق. ومنه خرجت إلى العالم كافّة الشرور والآفات التي لم يخبرها البشر من قبل، كالأمراض والكراهية والحسد والجريمة والألم والموت والحزن.
    عندما فتحت باندورا الصندوق لم يكن ذلك الفعل يعبّر عن خبث أو سوء طويّة. كانت فقط تمارس فضولها، لأنها عندما رأت ما حدث سارعت إلى إغلاق الصندوق ولكن بعد فوات الأوان.
    باندورا هي النسخة اليونانية من حوّاء التي حُذّرت بألا تأكل التفّاحة. حوّاء أيضا كانت جميلة وفضولية ولم تستطع مقاومة أكل الفاكهة المحرّمة. ونتيجة لذلك طُردت هي وآدم من الجنّة التي أصبحت فردوسا مفقودا لأن ذرّية آدم وحوّاء، أي البشر، عانوا من الآثار السلبية لذلك الفعل، أي الألم والخطيئة والموت. لقد حُرم البشر وإلى الأبد من نعمة الخلود وأصبح يتعيّن عليهم أن يناضلوا وأن يعانوا من مشاكل ومشاقّ الحياة.
    ومن الواضح أن هاتين القصّتين توفّران مبرّرا جيّدا للرجال لأن يلوموا النساء ويحمّلوهنّ المسئولية عن كافّة الشرور والمصائب التي حلّت بالأرض.
    سيغموند فرويد ذهب إلى أن صندوق باندورا يرمز إلى أعضاء الأنثى التناسلية، وأحيانا إلى الأخطار والرغبات والمخاوف المكبوتة في اللاوعي. والأدباء والشعراء، مثل فولتير وغوته، رأوا في باندورا معنى مجازيّا يتمثّل في أن جمال الأنثى غالبا ما يخفي ميلها إلى الخداع والتدمير.
    أسطورة صندوق باندورا تنطوي في أصلها على تحذير للبشر بأن لا يحشروا أنوفهم في ما لا يخصّهم. وهذه الأيّام أصبحت العبارة تُستخدم للإشارة إلى أن عملا ما، مهما بدا صغيرا وبلا أهميّة، يمكن أن يؤدّي إلى نتائج قويّة ومؤلمة وذات آثار بعيدة المدى، وأن تَرْك وضع ما على حالته الراهنة قد يكون أفضل كثيرا من تغييره. من قبيل هذا، أن تسمع تصريحا لوزير أو مسئول في بلد ما يؤكّد فيه انه لن يناقش مسألة معيّنة لأنه لا يريد أن يفتح "صندوق باندورا"، ما يعني أن مناقشة تلك المسألة يمكن أن تؤدّي إلى نتائج وخيمة وغير متوقّعة.
  • السبت، ديسمبر 05، 2009

    ربّات الإلهام

    لمئات السنين، كان وجود الملهمات ضروريا لخلق الفنّ والإبداع.
    وجه هيلين أميرة طروادة أطلق ألف سفينة حربية وأشعل حربا دامت عشر سنوات.
    ساسكيا فان اويلينبيرغ ألهمت رمبراندت رسم الكثير من تحفه الخالدة.
    هوميروس استدعى ملهمة وهو يخطّ أولى كلمات الإلياذة.
    اليوم تغيّر الحال كثيرا. توقّف الشعراء والرسّامون والموسيقيون عن استدعاء الملهمات وأصبحوا يكتفون بالخمر والكافيين والابسنث.
    الموضوع التالي يتناول تاريخ ودور الملهمات والتغيّرات التي طرأت على هذه الظاهرة عبر العصور المختلفة..

    في الأزمنة القديمة كانت الملهمات آلهة. كنّ بنات كبير الإلهة زيوس وزوجته منيموزين.
    في البداية، كانت هناك ثلاث ملهمات فقط. الشاعر اليوناني هيسيود زاد عددهنّ إلى تسع.
    كان الرومان البيروقراطيون هم الذين حدّدوا وظيفة وتخصّصا معيّنا لكلّ منهن. واحدة للرقص وأخرى للشعر وثالثة للكوميديا .. وهكذا.
    في اليونان القديمة كانت الملهمات يقصدن كلّ شاعر واعد ويمنحنه ثلاث هدايا: غصن غار وصولجانا وصوتا جميلا يغنّي به قصائده.
    غير أنهنّ كنّ قاسيات مع من يتحدّاهن. في إحدى المرّات طلب شاعر منافستهنّ فأصبنه بالعمى والبكم. وتقول أسطورة أخرى إن السيرانات، وهي مخلوقات خرافية تأخذ الواحدة منها شكل رأس امرأة وجسم طائر، حاولن أن يتنافسن مع الملهمات فهزمنهن. ونتيجة لذلك فقدن أجنحتهنّ وسقطن في البحر.
    ملهمة بيكاسو، ماري تيريز والتر، كانت وراء فكرة لوحته الحلم وغيرها من اللوحات.
    اوفيد في بداية كتاب "التحوّلات" استدعى جميع الملهمات التسع ثم هتف بأعلى صوته: ألهميني أيتها الآلهة"!
    آريادني كانت ملهمة ودليلة في نفس الوقت عندما أعطت ثيسيوس الخيط الذهبي الذي يقود إلى داخل المتاهة حيث يفترض أن يقتل الوحش الأسطوري ثم يتبع اثر الخيط في رحلة عودته إلى النور.

    دانتي في "الكوميديا الإلهية" تفوّق على الجميع ولم يكتف بالملهمات التسع بل استعان أيضا بـ مينيرفا إلهة الشعر والموسيقى ورئيسة الملهمات جميعا. لكن، في نهاية كتابه الضخم ضعُف حضور الملهمات بفعل أصوات موسيقى المجالات السماوية. الملهمات الوثنيات استُبدلن بالثالوث المقدّس. وهذا بدوره حرّر الإلهام الفنّي وسهّل البحث عن مصادر أكثر ارتباطا بالأرض.
    مصدر الإلهام عند دانتي كان شخصا حقيقيا؛ فتاة اسمها بياتريس (أو بياتريتشا بالإيطالية) بورتيناري زعم الشاعر انه رآها لأوّل مرّة في شارع بـ فلورنسا عندما كان عمر الاثنين تسع سنوات. وقد وقع في حبّها، لكنها توفّيت في بداية العشرينات من عمرها. وألّف بعدها أشعارا تمجّد ذكراها. ثم أصبحت المرأة شخصية رئيسية في الكوميديا الإلهية. بياتريس كانت ترمز للحبّ الأرضي وللحقيقة السماوية. أي أن شهوة الشاعر تسامت وتحوّلت إلى شوق روحي.
    معاصر دانتي وخليفته المباشر "بترارك" كتب 300 قصيدة إلى امرأة تسمّى لورا. لكنه تجاوز دانتي في مثاليّته عندما جعل ملهمته بعيدة المنال لسببين: الأوّل أنها كانت متزوّجة عندما قابلها. والثاني أنها توفّيت بعد ذلك بأحد عشر عاما. وبذا حرّر الشاعر نفسه من أعباء رغباته الجسدية.
    الموت، مثل الأسطورة، يحمي الفنّان من المشاكل ومن هوسه بملهمته.

    لكنّ هذا بدأ يتغيّر في عصر النهضة عندما ابتكر الرسّامون عادة تقديس الملهمة. وبينما كانت ملهمات القرن الرابع عشر يأخذن الطبيعة المقدّسة للمادونات اللاتي لا يمكن لمسهن، فإن ملهمات الرسّامين الايطاليين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر كنّ مخلوقات أرضية في الغالب، أي نساءً حقيقيات كنّ يجلسن أمام الرسّامين الذين كانوا بدورهم يصوّرونهنّ كنموذج للأنثى البعيدة المنال.
    الموديل التي استخدمها رافائيل في رسم اثنتين من أشهر لوحاته كانت ابنة خبّاز تدعى مارغاريتا وكانت على الأرجح عشيقة للرسّام.
    والرسّام فرا ليبي دخل في علاقة اشدّ خطورة مع ملهمة. فقد أغوى راهبة شابّة اسمها لوكريتسيا وذهب ليعيش معها واستخدمها كموديل في العديد من بورتريهاته الدينية.
    ثم أتى اندريا ديل سارتو الذي عايش أوّل تجربة سيّئة مع ملهمة في تاريخ الفنّ الغربي. كانت ملهمة سارتو، وزوجته في نفس الوقت، تجسّد الصورة المثالية في عقله. لذا رسم كلّ بورتريهاته الأنثوية على هيئتها. ومع ذلك فقد ضاق ذرعا بمطالبها الكثيرة وغيرتها القاتلة ومغامراتها العاطفية مع تلاميذه. لكنّ كمالها الجسدي هو الذي جعله يسامحها ويغفر لها كلّ شيء.

    إحدى الملهمات التسع في الميثولوجيا اليونانية كان تخصّصها الشعر الملحمي. وقد ألهمت هوميروس كتابة ملحمتيه الاوديسا والإلياذة.
    ايلينا ايفانوفنا كانت ملهمة الشاعر الفرنسي بول ايلوار. وهي نفسها "غالا" التي أصبحت في ما بعد ملهمة سلفادور دالي وزوجته. كان دالي مجنونا بحبّ تلك المرأة التي عذّبته بغزواتها العاطفية الفاضحة بعد ما قيل عن ميوله الماسوشية ونفوره من الجنس.
    البعض يرى أن الملهمة ما هي إلا امتداد أنثوي للفنّان الذكر. وهناك من يقول إنها ليست سوى استمرار لوظيفة محظيّة البلاط وأحيانا عشيقة الملك، وما يرتبط بذلك من مظاهر اللهو والإغراء والإثارة والغموض وكلّ تلك الأشياء اللذيذة والممنوعة.
    وفي كلّ هذه الحالات، لا يمكن وصف الملهمة بالعاهرة. كما أنها لم تكن زوجة بالمعنى التقليدي للكلمة.

    آلما شيندلر كانت ملهمة الموسيقي الألماني غوستاف ماهلر وزوجته في ما بعد. كانت آلما مؤلّفة موسيقية هي الأخرى. وقد طلب منها ماهلر في بداية زواجهما أن تنحّي طموحاتها الموسيقية جانبا لأن بيت الزوجية لا يتّسع لأكثر من مبدع واحد. لكن المرأة لم تلبث أن دخلت في علاقات عاطفية مع عدد من الرسّامين، أشهرهم غوستاف كليمت. وكان ماهلر قد أهداها قبل ذلك إحدى سيمفونياته. وعندما هجرته صنع لها دمية على هيئتها ومقاسها وكان يأخذ دميتها معه أينما ذهب.
    قصّة حياة آلما شيندلر وعلاقتها الغريبة بـ ماهلر كانت موضوعا للعديد من الأفلام السينمائية والكتب، أشهرها كتاب "عروس الريح" للكاتبة سوزان كيغان.
    ملهمات عصر النهضة كنّ خاضعات لرسّاميهنّ وملتزمات بتلبية احتياجاتهم الجمالية والجنسية، بينما كان الفنانون أحرارا في تسلية أنفسهم في كلّ مكان ومع أيّ كان.
    أكثر ملهمات العصر الحديث هنّ نساء قويّات، وغالبا مبدعات. جورجيا اوكيف، مثلا، لم تكن فقط مصدر الهام للمصوّر الفريد ستيغليتز، وإنما أثّرت أيضا في اتجاهه الفنّي بعد أن تعلّق بها وتزوّجها.
    سوزان فاريل، الراقصة المشهورة وملهمة الفنّان جورج بالانشاين، سمحت له بأن يقع في حبّها بينما رفضت إغراءاته المتكرّرة بأن تمنحه نفسها. لكنها تزوّجت شخصا آخر في نفس اليوم الذي حصل فيه على ورقة الطلاق من زوجته.

    بيكاسو قابل ماري تيريز والتر عام 1927 في احد شوارع باريس عندما كان عمرها سبعة عشر عاما. وفي الحال اتّخذ منها عشيقة. وأحيانا كان يأمر سائقه بالانتظار خارج مدرستها الخاصّة ليأخذها إلى محترفه حيث كان يستعين بها كموديل للعديد من لوحاته. وعندما حملت منه بطفلة رفض أن يتزوّجها.
    غير أن ثيودورا ماركوفيتش "أو دورا مار" كانت حبّ بيكاسو العظيم. كانت صديقته وملهمته الخالدة التي أوحت له برسم أجمل وأشهر لوحاته.
    والواقع أن الإنسان لا بدّ وأن يتساءل كيف وجد بيكاسو وقتا كافيا للرسم في ظلّ وجود هذا العدد الضخم من الملهمات والعشيقات من حوله.
    ماري والتر لم تكن تفهم في الرسم كثيرا كما لم يكن بينها وبين بيكاسو نقاط اتفاق كثيرة. لكنها كانت مستعدّة لتلبية جميع طلباته. كانت تعرف شغفه الكبير بالجنس. وهو كان يعتبر نفسه رجلا فحلا وهي الأنثى الراغبة. لكن في اللحظة التي حملت فيها بطفلته الأولى فقدت جاذبيتها عنده كأداة جنسية.
    إحدى ملهماته الأخريات كانت الرسّامة فرانسواز جيلو. تزوّجها بعد قصّة حبّ وأنجبت له ابنه كلود وابنته بالوما. لكنها تخلّت عنه بعد سوء معاملته لها. وبفضل علاقاته المهنية الكثيرة، تمكّن من حرمانها من عرض لوحاتها في جميع معارض باريس. بيكاسو كان مدمّرا كبيرا، ليس فقط لمفاهيم وأسس الرسم التقليدي، وإنما لزوجاته وملهماته أيضا. ومن بين نسائه الكثيرات، شنقت ماري تيريز والتر نفسها بعد موته. وعانت دورا مار من انهيار عصبي كامل وتجربة رهيبة مع العلاج. بينما قتلت جاكلين روك نفسها برصاصة في الرأس.

    اليزابيث سيدال كانت ملهمة وعشيقة للرسّام الانجليزي دانتي غابرييل روزيتي وظهرت في الكثير من لوحاته. كما استخدمها جون ميليه كموديل في لوحته المشهورة اوفيليا. وقد ماتت سيدال قبل الأوان. ويقال إن جزءا من مأساتها يتمثّل في أنها، هي أيضا، كانت تتوق لأن تصبح فنّانة.
    بعد وفاة اليزابيث سيدال اتخذ روزيتي لنفسه ملهمة ورفيقة جديدة هي أليكسا ويلدينغ التي ستظهر في ما بعد في العديد من بورتريهاته ذات المزاج المتأمّل والمسحة الشاعرية.

    لكن إذا كانت الملهمة تستطيع أن تنفخ نفحة من الهواء الإلهي في خيال الفنان، فإنها يمكن أيضا أن توقد في نفسه وروحه شعلة الاهتمام والعمل الجادّ.
    الشاعر الانجليزي وليام بتلر ييتس ربطته بالثائرة الايرلندية مود غون علاقة الهام خالطها قدر كبير من التعاسة والخراب. كانت غون امرأة ذات جمال أخّاذ يميّزه شعر أحمر وملامح وجه دقيقة. وقد قابل ييتس المرأة عندما كان في الرابعة والعشرين من عمره. وعندما تعرّف عليها بدأت المشاكل تعرف طريقها إلى حياته.
    رفضت غون جميع عروض الشاعر بالزواج منها على أساس انه لم يكن ثوريا حقيقيا ولا كاثوليكيا مخلصا. وبعد عشرين عاما، انتهى دورها كملهمة في اللحظة التي نامت في سريره لأوّل مرّة. وقد كتب ييتس بمرارة عن تلك العلاقة ووصف تأثيرها الفوضوي والمدمّر على حياته بعد أن مرّ وقت ليس بالقصير على لقاء الحبّ اليتيم بينهما.
    الكاتبة الايرلندية الليدي كارولين بلاكوود تزوّجت على التوالي من رسّام وملحّن موسيقي وشاعر قبل أن تموت في سنّ السبعين. كانت بلاكوود نموذجا للأنثى القاتلة بجمالها النادر وعينيها الخضراوين الكبيرتين. لحظات صمتها الغامض كانت تثير الرجال وتدفعهم إلى ملء الفراغات التي كان يتركها هدوؤها الأنيق والمحيّر. اندرو هارفي الشاعر الذي تزوّجها في ما بعد وصفها بقوله: كانت تخلق أشياءها الخاصّة. كانت ملهمة ومحرّضة على الإبداع وكان قدرها أن تلعب ذلك الدور ببراعة".
    سيرة حياة كارولين بلاكوود كانت موضوعا لكتاب الّفته نانسي شوبيرغر بعنوان "الملهمة الخطيرة".
    يقول كارل يونغ العالم النفسي المشهور: الملهمة تمثّل توق الإنسان الذكر للخلود. وهي تتخفّى تحت الأسماء الكثيرة التي نعطيها للأفكار والدوافع الإبداعية.
    فرجيل، من جهته، يرى أن الملهمات هنّ رمز للحقيقة واليقين. وهذا يوفّر للفنّان فرصة لأن يعرف نفسه أكثر ويوسّع وعيه وإدراكه.

    الشاعر الفارسي عمر الخيّام كان معروفا بميله لحياة التأمّل والعزلة. ولم يكن يشغله سوى شيئين: ديوان شعره المسمّى بالرباعيّات وحبّه لـ جَهَان ملهمته وزوجته. في آخر الرباعيّات يخصّص الشاعر أبياتا حزينة يرثي فيها جَهَان التي تذكر بعض الروايات أنها ماتت مقتولة. ويقال إنها كانت هي الأخرى شاعرة.
    الخيّام كان شاعرا عظيما، ولا بدّ وأن من ألهمته كتابة تلك القصائد الجميلة والخالدة كانت، هي أيضا، امرأة عظيمة.
    لويز فون سالومي كانت امرأة روسية مثقّفة وكانت لها اهتماماتها بالأدب والفلسفة والتاريخ وعلم النفس. وقد اشتهرت بعلاقتها الحميمة مع الشاعر الألماني رينر فون ريلكا.
    كانت صديقته وملهمته على الرغم من أنها كانت تكبره بخمس عشرة سنة. وقد علّمته اللغة الروسية كي يقرأ بها تولستوي ثم اصطحبته في ما بعد لزيارة روسيا.
    وبحكم اهتماماتها الفكرية المتعدّدة، كانت ترتبط بعلاقات صداقة مع كلّ من نيتشه وفرويد والموسيقي ريتشارد فاغنر.

    عالم الملهمات تقلّص اليوم كثيرا. ربّما لا يزال للعديد من الفنّانين ملهمات. لكن ذلك النوع من العلاقة الأسطورية لم يعد موجودا. قد يكون السبب شيوع الثقافة الفردية التي لا يقبل فيها احد بأن يكون زاداً أو صدى لمخيّلة إنسان آخر. وقد يكون لذلك علاقة برفض الحركات النسوية لأن تكون المرأة مجرّد سلعة أو متاع. ويمكن أن يكون هذا هو السبب في أن الملهمات العصريات اليوم يوجدن فقط كحضور عام.
    دور الملهمة ربّما تلعبه اليوم، مع الفارق، المغنّيات والممثّلات وحتى عارضات الأزياء والمذيعات المشهورات اللاتي يظهرن على جماهير الناس ويستقطبن اهتمامهم وإعجابهم أحيانا. خذ، مثلا، انجيلينا جولي، نيكول كيدمان، بيونسي، اوبرا وينفري، جينيفر انيستون، باريس هيلتون، ايشواريا راي، بريتني سبيرز، جينيفر لوبيز .. إلى آخر القائمة.
    ربّما يناسب هذا مزاج عصرنا الجديد الذي تتواضع فيه الأحلام وتتضاءل الطموحات.


    Credits
    theguardian.com
    wsj.com