:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات ميلتون. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ميلتون. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، يوليو 11، 2012

الشيطان في الرسم

أوّل إشارة إلى الشيطان وردت في كتاب العهد القديم. في البداية، لم يكن يُنظر إليه باعتباره تجسيدا للشرّ، وإنّما كعقبة في طريق صلاح الإنسان. وعبر القرون تحوّل الشيطان إلى رمز للشرّ والغواية. ثم أصبح أداة في يد الساسة ورجال الدين الذين عادة ما يصمون كلّ من لا ينتمي إلى جماعتهم أو يتبنّى معتقداتهم بالشيطان.
في العصور الوسطى، انتشرت الحكايات الشعبية عن الشياطين والساحرات على نطاق واسع. وفي العصر الحديث، ظهرت جماعات تعتقد أن الشيطان موجود فعلا وبأنه يجب أن يُعبد ضمن طقوس ما أصبح يُسمّى اليوم بعبادة الشيطان.
وعلى خلاف الأديان، فإن البهائيين لا ينظرون إلى الشيطان كقوّة شرّيرة مستقلّة بذاتها، بل هو جزء من الطبيعة الأساسية للبشر. وهو، بمعنى ما، الذات الشرّيرة في دواخلنا كبشر.
الفلاسفة والشعراء المعاصرون ينظرون إلى الشيطان باعتباره رمزا لإرادة الإنسان وتطلّعه نحو المثالية. والرسّامون الذين صوّروا الشيطان استلهموا صورته غالبا من الأعمال الأدبية.
الرسّام الفرنسيّ غوستاف دوري رسم الشيطان مرارا لرواية الفردوس المفقود لـ جون ميلتون ولكتاب الكوميديا الإلهية لـ دانتي أليغيري.
في إحدى رسومات دوري "فوق"، يظهر الشيطان وهو يمشي ذليلا منكسرا بعد أن طُرد من الجنّة. وفي لوحة أخرى يرسمه وهو يطير فوق الغيوم في طريقه لإسقاط آدم من الجنّة. وفي ثالثة وهو يشقّ طريقه صوب الأرض لإغواء البشر.
الرسّام الرمزي البلجيكي جان ديلفيل كان شخصا متديّنا ومتأثّرا بالأفكار الصوفية. وكان يؤكّد في أعماله على مخاطر المادّية والشهوات على الإنسان. في إحدى لوحاته بعنوان كنوز الشيطان ، يرسم ديلفيل الشيطان برأس مضطرب وناريّ، بينما يطوّق البشر الخاطئين والمثقلين بشهواتهم التي تأخذ هيئة الجواهر واللآليء والنساء. في اللوحة، لا يبدو البشر معاقَبين، بل عالقون في مستوى متدنّ من التطوّر الروحي.
الشيطان في لوحة ديلفيل يبدو على درجة من الوسامة وبأجنحة تشبه الزعانف. ذراعاه الشبيهان بأرجل الأخطبوط محاطان بموجات قرمزية، بينما يخطو فوق نهر من الرجال والنساء العراة والمنوّمين بفعل ما يُفترض انه سحر وفتنة الشيطان. الكنوز رمز لانجذاب الإنسان إلى المغانم الدنيوية. الكون في اللوحة غامض والنار متزاوجة مع الماء. لوحة ديلفيل صورة غير عاديّة عن الجمال الشرّير للشيطان. وربّما أراد الرسّام من خلالها تصوير مظاهر الانحلال التي كانت سائدة في عصره.
الرسّام الاسباني لويس ريكاردو فاليرو كان معروفا بلوحاته التي لم تكن تخلو من جمال ملحوظ وإيحاءات أثيرية، وهو أمر كان يروق للكثيرين في زمانه.
وقد رسم فاليرو الشيطان من وحي مسرحية يوهان غوته عن فاوست، العالم العجوز الذي قرّر أن يبيع روحه للشيطان مقابل الخلود والمعرفة الكاملة. واللوحة تصوّر جانبا من حلم رآه فاوست. في الحلم، يجرب فاوست مغامرة الدخول إلى عالم الشياطين والساحرات. وفاوست والشيطان "ميفستوفاليس" حاضران في اللوحة، تمشيّا مع السياق الديني للأسطورة. والجنّ والشياطين يظهرون وهم يطيرون في رحلتهم السنوية إلى مكان تجمّعهم فوق قمّة الجبل، على نحو ما تذكره القصّة القديمة. الرومانسيون كانوا ينظرون إلى الشيطان على انه الظلّ القاتم الذي لولا ظلمته العميقة لما تسنّى للبشر رؤية الضوء الإلهي وتقدير عظمة النور.
لقاء فاوست مع عالم الشياطين يحدث على هيئة حلم أكثر من كونه تجربة ماديّة أو حقيقية. وردّ فعله على هذه المخلوقات ذات العيون الصغيرة والأظافر الحادّة والأيدي الرفيعة هو مزيج من التشوّش والصدمة. وفاوست يتساءل ما إذا كان هؤلاء هم الذين أضاعوا أنفسهم وصدّقوا أكاذيب الشيطان.
في فاوست، يتحدّث غوته عن جانب من التجربة الإنسانية، يتمثّل في توق البشر إلى الخلاص من كافة أشكال السلطة وتعطّشهم للمعرفة ورغبة الإنسان في تطويع الطبيعة لإرادته.
بعض النقّاد يرون في فاوست إنسانا حديثا فقد ثقته بالدين والفلسفة والعلاقات الإنسانية. وقد انتشرت هذه الأسطورة كثيرا في الأدب والسينما والشعر والرسم. كما استلهمها العديد من المؤلّفين الموسيقيّين مثل شارل غونو وفرانز ليست وماندلسون وهيكتور بيرليوز وغيرهم.

الأحد، نوفمبر 27، 2011

نهاية النسخ الأدبي


كتب جون ميلتون ملحمته الشعرية الفردوس المفقود بعد أن كُفّ بصره في العام 1654 م. كان كلّ ليلة ينظم كمّية من الشعر في رأسه. وفي الصباح يقوم بإملائها على بناته الثلاث لكتابتها. وبعد أن تزوّج ثانية من امرأة تصغره سنّاً، أصبحت علاقته ببناته متوتّرة. إلا أنهنّ حافظن على علاقتهنّ به حتى النهاية. وبعض القصائد التي ألّفها في سنواته الأخيرة أهداها إلى إحداهن.
صورة ميلتون الأعمى وهو يُملي الفردوس المفقود على بناته فتنت مخيّلة الناس لزمن طويل، وكانت موضوعا للعديد من الأعمال الفنّية. ومن بين من رسمه من الفنّانين كلّ من اوجين ديلاكروا وميهالي مونكاتشي وجورج رومني وآخرين. كان ميلتون يزعم انه يتلقّى أوامر مباشرة من السماء. ولا بدّ وأن تدوين مثل ذلك العمل الأدبي الطويل جدّا كان مهمّة صعبة.
في هذه الأيّام، تغيّر الحال كثيرا. فبفضل التكنولوجيا المتطوّرة، أصبح العديد من الروائيين يميلون لاستخدام برامج التعرّف على الصوت لإملاء رواياتهم صوتياً بدلا من كتابتها. وهذه النوعية من البرامج تتحسّن باستمرار، بل وتبتكر تطبيقات لأجهزة الآيفون.
عملية إملاء الروايات عن طريق الصوت إلى قرص كمبيوتر هي في الحقيقة عودة إلى "الكتابة عن طريق الصوت" كما كان يمارسها المؤلّفون عبر التاريخ. جون ميلتون، دستويفكسي وهنري جيمس استخدموا أوّل نموذج من برامج التعرّف على الصوت، أي النساء.
الاختزال، ومن ثمّ الطباعة، وفّرا إمكانية دخول آلاف النساء إلى أماكن العمل. وقبل ذلك، كان إملاء العمل الأدبي أسلوبا للتبادل الحميم. كان من عادة المؤلّف أن يُملي روايته على احد أقاربه، من نساء العائلة غالبا.
الإملاء في حدّ ذاته ليس بالأمر الجديد. غير أن الإملاء على إنسان لا يشبه الإملاء على آلة. فالناسخ البشري يستجيب شعوريا إلى ما يُملى عليه، أحيانا بالضحك وأحيانا بالبكاء أو حتّى بالصراخ. أي أن الناسخ يتفاعل بجسده ومشاعره بالنيابة عن الكاتب.
دستويفكسي كان يصف المرأة التي كانت تنسخ له كتاباته، واسمها آنا غريغورييفنا، بـ "المتعاونة". وقد استعان بها كي يُنهي كتابة روايته المقامر قبل انتهاء عقد كان قد ابرمه مع ناشره ليتمكّن من دفع ديون شقيقه الميّت.
في مذكّراتها، تسرد آنا غريغورييفنا قصّة لقائها بـ دستويفكسي. ثم تصف عملها معه بقولها: في بعض الأوقات، كنت أذهل من جرأتي في التعبير عن آرائي عن الرواية. ولا زلت مذهولة أكثر من الاهتمام الذي كان الكاتب الرائع يبديه في الاستماع إلى تلك الملاحظات والآراء الصبيانية".
ورغم انه لا توجد طريقة لقياس مساهمة غريغورييفنا في تلك الرواية، إلا أن من الواضح أنها كانت تدرك أنها كانت تقدّم ما هو أكثر من مجرّد النسخ والكتابة.
وبفضل مساعدتها، انتهى دستويفكسي من كتابة "المقامر" في الموعد المحدّد. ثم لم يلبث أن تزوّجها، واستمرّ التعاون في ما بينهما. كان دستويفكسي يفهم أن عملهما كان جهدا مشتركا، رغم أن التاريخ قد يكون نسي تلك الأصابع الخفيّة.
برمجيات التعرّف على الصوت، الشائعة هذه الأيّام، لا يمكن لأحد وصفها بـ "المتعاونة". ولا احد يمكنه أن يقول إن الكمبيوتر يكتب بيد ويمسح الدموع باليد لأخرى، كما كانت آنا غريغورييفنا تفعل عندما كان دستويفكسي يُملي عليها مشهدا من الإخوة كارامازوف.
"بعد الانتهاء من الإملاء، كان دائما يسأل: حسنا، ماذا تقولين يا انيشكا؟ وكنت أردّ: رائع. كان زوجي يعلّق أهمّية كبيرة على ردود أفعالي التلقائية على ما يكتب".
كان الكتّاب يُملون قصصهم ومؤلّفاتهم منذ عصر سقراط. وميلتون ودستويفكسي وغيرهما استعانوا بمصادر خارجية لإنتاج فنّهم بسبب الضعف البشري وقيود الجسد.
اليوم، أصبحت العملية ميكانيكية. الكتّاب المعاصرون بإمكانهم أن يستغنوا عن آلات الطباعة وحتى عن لوحات المفاتيح ويؤلّفوا كتبهم من خلال الصوت. وبطبيعة الحال، فإن التكنولوجيا الحديثة لا تعلّق على ما تكتب ولا تذرف الدموع تأثّرا بجمال كلماتك كما كان يفعل الناسخون في الماضي.
الكتّاب الذين يستعينون بتقنيات التعرّف على الصوت هذه الأيّام، يفعلون ذلك لأسباب مختلفة. بعضهم يختارها بسبب الإجهاد المتكرّر. لكن البعض الآخر يفضّلونها لأنها سهلة ومريحة.
وهناك من الكتّاب من لا يرى فارقا بين أن يُملي على إنسان أو على آلة. ويبدو أن ما يحدث الآن يعكس حنين بعض الكتّاب لنموذج من التأليف السمعي ينتفي فيه دور الوسيط. .

Credits
tabletmag.com

الخميس، يوليو 08، 2010

ظاهرة العمى في فنّ بيكاسو


العمى عاهة خطيرة. فالعينان هما نافذة الإنسان على العالم. والإبصار مهمّ لبقاء الدماغ نفسه. وبدون الإبصار، يبدأ الدماغ في نسيان العالم ويفقد الإنسان إحساسه بالواقع.
الأدب والفنّ الغربيان اهتمّا بظاهرة العمى منذ القدم. الأديب الأرجنتيني جورجي بورخيس عانى من العمى التامّ لبضع سنوات. ووصف تجربته تلك في بعض كتاباته. وقد حرمه العمى من رؤية جميع الألوان، وفي طليعتها الأحمر والأسود. وكان يرى الليل على هيئة ضباب باهت من الأزرق والأخضر.
والروائي البرتغالي خوسيه ساراماغو كتب هو الآخر رواية عن مدينة يتعرّض سكّانها للعمى ولا يبقى منهم سوى شخص واحد مبصر.
والفيلسوف الفرنسي دينيس ديديرو ألّف كتابا مشهورا بعنوان "رسالة حول العميان" تطرّق فيه إلى العمى بمعناه الرمزي والمجازي.
في العصور الوسطى، كان الرسّامون يصوّرون العمى على انه مظهر من مظاهر ضعف الإنسان أمام جبروت الله أو عقوبة من الله على آثام وخطايا الإنسان. وبطبيعة الحال كان الهدف من ذلك تكريس الأفكار المسيحية وتذكير الإنسان بما يجب أن يكون عليه حال المؤمن.
في عصر النهضة اختفت الحمولة الدينية لمفهوم العمى وأصبح الإبصار رديفا للمعرفة، بدونه لا يستطيع الإنسان أن يبصر ومن ثمّ أن يعرف. رمبراندت رسم العميان استنادا إلى القصص الدينية، لكنه كان في لوحاته يتأمّل معنى ظاهرة العمى في زمانه.
وإحدى المشاكل التي واجهها الرسم في تصويره لهذه الظاهرة هي صعوبة تمثيل العمى صوريّا، لأنه شيء تجريدي صرف وليس له سمات جسدية كتلك التي تميّز أشكال الإعاقة الأخرى.
من أشهر الرسّامين الذين صوّروا العمى في لوحاتهم كلّ من آنغر ومونكاتشي ودافيد وبيتر بريغل وبُوسان. ومن الشخصيّات التاريخية التي ارتبطت بالعمى وتناولها الرسم كلّ من هوميروس وشمشون وبيليساريوس والشاعر جون ميلتون مؤلّف رواية الفردوس المفقود.
في القرن العشرين أصبح الرسّامون يستخدمون العمى كرمز للجهل أو العجز أو الضعف وفقدان الإنسان طريقه. وكثيرا ما كان يُصوّر الأعمى كشاعر أو موسيقيّ أو فيلسوف. الرسّام الاسباني بابلو بيكاسو اشتهر بأنه أكثر فنّان في القرن العشرين رسم العميان في لوحاته. وكان العمى موضوعا لعب دورا مهمّا في أسلوب بيكاسو المميّز خلال ما عُرف بالمرحلة الزرقاء.
جميس ريفين وجوناثان بيركنز يناقشان في المقال المترجم التالي ظاهرة العمى في لوحات بيكاسو من منظور سيكولوجي وطبّي وجمالي.

يُعتبر بابلو بيكاسو أهمّ رسّام ظهر في القرن العشرين. ومن المستحيل دراسة تطوّر الفنّ الحديث دون الإشارة إلى اسمه وإسهاماته. كان بيكاسو فنانا فريدا من نوعه. وقد عُرف عنه غزارة إنتاجه. فقد رسم أكثر من عشرين ألف لوحة خلال 75 عاما. كما انه أكثر رسّام تحدّث عنه النقاد وعن أعماله.
عندما كان بيكاسو ما يزال مراهقا، قام بعدّة زيارات إلى باريس عاصمة الفنّ في العالم آنذاك، حيث عرض فيها لوحاته ورسوماته. وخلال السنوات الأولى من حياته ظهرت ملامح شخصيّته القوية. كان بيكاسو ينظر إلى نفسه كفنان بطولي اقرب ما يكون إلى سوبرمان نيتشه. وفي وقت متأخّر من عام 1901 اخذ فنّه منعطفا مفاجئا عندما بدأ رسم لوحات مرحلته الزرقاء ذات اللون الأحادي. هذه الأعمال يسهل التعرّف عليها بألوانها الزرقاء وأشخاصها الحزانى.
وفي عدّة لوحات زيتية من هذه المرحلة يظهر العمى كفكرة. المزاج الحزين المكتئب في تلك الأعمال ربّما كان ردّ فعل على موت صديقه المقرّب وزميله الرسّام كارلوس كاساغيما الذي قضى إثر قصّة حبّ فاشلة.
صور العمى تعود في الأساس إلى اليونان القديمة. وقد اشتهر هوميروس نفسه بكونه شاعرا أعمى. في الفنّ والأدب الاسباني، كان الشاعر الأعمى يتطوّر إلى عازف غيتار أعمى. المتسوّلون العميان كان منظرهم مألوفا في شوارع اسبانيا طوال قرون. الفنان فرانشيسكو دي غويا رسم عدّة لوحات عن موضوع العمى. وبيكاسو رسم وحفر أعمالا ترتكز على نفس الفكرة. وقد تكرّر هذا في العديد من المرّات خلال المرحلة الزرقاء.
ومن حين لآخر كان يعود إلى صور العميان، مثل لوحته التي صوّر فيها كائن "مينوتور" أعمى.
الاستخدام الواسع النطاق للون الأزرق لم يكن احد اختراعات بيكاسو. فقد كان هناك قبله تاريخ طويل من توظيف هذا اللون في الرسم. أسلافه المباشرون في هذا الأسلوب كانوا الرسّامين الأسبان والفرنسيين الذين كانوا يستخدمون الأزرق للتأكيد على المشاعر الانفعالية التي تعبّر عن الحزن واليأس. كما ظهر اللون الأزرق في عدد من الأعمال الفنية في نهاية القرن التاسع عشر.
وأثناء حياته الفنّية، قام بيكاسو بدمج أساليب فنّانين آخرين في لوحاته. الآخرون كانوا يضعون الأزرق بطريقة حادّة. وهو كان يسرق من كلّ رسّام قديم أو معاصر ما يناسبه. تقول فرانسوا غيلو، إحدى عشيقاته، إن بيكاسو قال لها ذات يوم: عندما يكون هناك شيء ما يستحقّ السرقة، فإني اسرقه"!. لوحاته الزرقاء تدين أيضا ببعض الفضل إلى إل غريكو الذي يظهر تأثيره واضحا في الأيدي والوجوه الطويلة لشخوص بيكاسو.
كان بيكاسو يجد في الأزرق لونا يتوافق مع موضوعاته عن الفقراء والمعوّقين والمضطهدين. البعض قالوا إن شخصياته التي تعاني من الفقر إنما تعكس أسلوب حياته. في ذلك الوقت، لم يكن بيكاسو قد أصبح شخصا غنيّا. لكنه لم يكن مختلفا كثيرا عن بقيّة أقرانه في الوسط الفنّي والأدبي. فقد كان يتلقّى دعما ماليا من عائلته، كما استفاد ماليّا من معارضه الناجحة آنذاك.

كان بيكاسو وقتها ما يزال شابّا يجرّب أسلوبه الذي ثبت انه كان فعّالا. وهناك احتمال أنه كان يتماهى مع الأفراد التعساء الذين كان يرسمهم. تعليقاته المتناقضة عن باريس واضحة في رسالة كتبها إلى صديقه الفنان والشاعر ماكس جيكوب. وإذا كان بيكاسو قد اخبر أيّا من أصدقائه لماذا كان العمى مهمّا بالنسبة له، فإن ذلك ممّا لم يصل إلى علمنا. لكننا نعرف أن نظر والده في ذلك الوقت كان يتدهور باستمرار.
وقد حاول علماء النفس إخضاع حالة بيكاسو للدراسة والتحليل. كارل يونغ، مثلا، درس لوحاته عن قرب وتوصّل إلى انه كان يعاني من اضطراب نفسي وانفصام في الشخصية.
العمى مشكلة خطيرة بالنسبة إلى رسّام. وفي سيرته عن بيكاسو التي نُشرت مؤخّرا ولقيت اهتماما واسعا، لاحظ ريتشاردسون أن بيكاسو كان في بيته في برشلونة مع والديه عندما رسم بعض الأشخاص العميان في مرحلته الزرقاء. ورجّح المؤلّف أن اهتمام بيكاسو بتصوير الفكرة في لوحاته قد يكون مردّه انه كان يخشى العمى كثيرا في حياته وقد تكون تلك طريقته لحماية نفسه من تلك العاهة.
وأكثر مرّة اقترب فيها بيكاسو من مناقشة العمى كانت في إشارة غامضة منه تعود إلى منتصف الثلاثينات من القرن الماضي عندما قال: في الحقيقة، الحبّ هو ما يهمّ في النهاية. يجب أن يقتلعوا عيون الرسّامين كما يفعلون بعيون العصافير لجعلها تغنّي أفضل". رولاند بنروز الذي سجّل هذه الكلمات كتب يقول: لقد لازم رمز الرجل الأعمى بيكاسو طوال حياته وكأنه كان يتقرّب منه ليهديه رؤيته الفنّية الفريدة".
هذه الاقتباسات تصلح لأن تكون دليلا على أن بيكاسو كان يواجه ويسمّي مخاوفه. غير أنها لا تشرح معنى بورتريهاته عن العميان.
رسومات بيكاسو عن العميان غامضة ومن الصعوبة بمكان تشخيصها أو فهمها.
ورغم أن اسم الموديل في لوحته لا شليستينا معروف، إلا أننا لا نعرف ما الذي تسبّب في ابيضاض قرنيّتها التي يتباين لونها بشكل واضح مع الأزرق الذي يهيمن على بقيّة هذه اللوحة. هذه المرأة وحيدة العين هي نفسها بطلة رواية بنفس الاسم كتبها فرناندو دي روهاس وتعتبر الآن ثاني أهمّ عمل أدبي اسباني بعد دون كيخوت لـ ثيرڤانتِس .
سبب ضمور حدقة العين في لوحة بيكاسو الأخرى عازف الغيتار العجوز هو أيضا غير معروف. منطقة العين في هذه اللوحة تحيطها ظلال زرقاء قاتمة، وهي سمة ميّزت العديد من لوحات المرحلة الزرقاء.
وأيضا لا نستطيع تحديد سبب ضعف بصر الرجل الذي يظهر في لوحة بيكاسو بعنوان طعام الرجل الأعمى. بيكاسو وصف ما كان يرسمه في هذه اللوحة بطريقة موجزة عندما قال: إنني ارسم رجلا ضريرا يجلس إلى طاولة ويمسك ببعض الخبر بيمينه بينما يبحث بيساره عن آنية النبيذ".
لم يكن بيكاسو يرسم الأشخاص بتفاصيل كثيرة، لكنه كان ميّالا لجعلهم يبدون مثاليين. وقد اخذ عن إل غريكو الأيدي والجذوع والرؤوس الطويلة ووضعها في بيئة بدايات القرن العشرين.
وهناك من النقاد من تحدّثوا عن "رؤيا داخلية روحية" في مشاهد الأشخاص العميان المنعزلين الذين رسمهم بيكاسو بهذه الطريقة.
آخرون قالوا إن تلك اللوحات قد تكون انعكاسا لعزلة بيكاسو نفسه في تلك الفترة.

وخلال المائة عام الماضية كان هناك العديد من التعليقات النقدية التي تناولت لوحات بيكاسو تلك. لكن معناها الكامل ما يزال غير واضح إلى اليوم. الرسّام نفسه لم يقدّم أي مساعدة قد تعين على فكّ رموزها. لكنّنا نعتقد أن الشخصيات العمياء في المرحلة الزرقاء لم تُرسم لاستدرار عطف وشفقة الناظر فقط. ومن المرجّح أن بيكاسو كان يجد في حضور الحواسّ الأخرى بعض ما يعّوض شخوصه عن فقدان نعمة البصر. الأشكال الطويلة والأيدي الرفيعة في لوحتي العازف العجوز وطعام الرجل الأعمى قد تكونان وسيلتين فاعلتين في خلق الموسيقى وفي لمس الطعام.
في لوحة لا شليستينا، ربّما كان بيكاسو يستكشف قوّة العمى من خلال تصويره عينين جنبا إلى جنب، ترمز إحداهما للإبصار والأخرى للعمى. غير أن المفارقة هي أن العين العمياء هي التي تجذب انتباه الناظر أكثر من العين السليمة.
أسلوب بيكاسو في لوحات المرحلة الزرقاء يمكن اعتباره نوعا من التأمّل في ظاهرة العمى. وفي هذه الأعمال يحاول بيكاسو استكشاف الإمكانيات التعبيرية المتأتّية عن الاقتصاد في استخدام الألوان.
رؤية أعمال بيكاسو المبكّرة قد لا تمنح متعة مثل تلك التي تحسّ بها وأنت ترى أعمال الانطباعيين. غير أنها تستحقّ أن تُرى وأن تُحترم بالنظر إلى ما سيرمز إليه بيكاسو في ما بعد باعتباره المثال الأعلى لفنّ الحداثة.
إن الفنّ الأكثر أهميّة قد يصعب عليك فهمه ويمكن أن تنظر إليه بانزعاج. وبنفس الوقت، هناك فنّ قد تغريك جاذبيته السطحية، مع أنه قد يبدو بعد النظرة الأولى خاليا من أيّ معنى ولا ينطوي على أيّ أهمية على الإطلاق.
لقد جعل بيكاسو تقييم فنّه صعبا. فقد كان يحتقر محاولات تحليل أعماله وكان يقول انه يرسم ما يراه والأشياء التي كانت تحرّك مشاعره. "ارسم ما أجده، لا ما ابحث عنه. إن ما تفعله هو المهم وليس ما كنت تنوي فعله".
ألوان بيكاسو وموضوعاته أصبحت أكثر إشراقا مع نهاية عام 1904 عندما دخل مرحلته الزهرية. الألوان أصبحت أكثر دفئا والموضوعات أكثر إثارة للبهجة والسعادة.
لوحات المرحلتين الزرقاء والزهرية نالت قبول النقاد. لكن لو أن بيكاسو توقّف عن الرسم عند تلك النقطة لتذكّره التاريخ كرسّام من الدرجة الثانية أو الثالثة لم يبلغ مرحلة النضج الفنّي الكامل.
المرحلة التالية من حياته الفنية، خاصّة التكعيبية، هي التي حقّقت لـ بيكاسو الشهرة على مستوى العالم وجعلت منه أهمّ رسّام في القرن العشرين.

Credits
researchgate.net